تحفة الأسماع والأبصار
تحفة الأسماع والأبصار
ثم كذلك أعجبه ذكر السهم الذي يصرف في سبيل المجاهدين، الذين يقاتلون عن الدين الحنيف ويجاهدون الخارجين عنه من الكافرين، وما برح هذا الرجل يعاودنا ويتأسف على ما مضى من الأيام التي لم يجتمع بنا فيها، ونحن كذلك أعجبنا منه ما رأيناه، ثم قال: لولا أنني رجل كبير يظهر للناس خبري ولا يتكتم عنهم أمري، لصحبتكم إلى بلادكم، واستأمنت منكم أن تتركوني على ديني، فقلنا: كم مثلك من اليهود والنصارى يستأمنون من المسلمين، ويدخلون ديارنا بأمان وجوار، فمنهم من يبق مع تسليم جزية معلومة عن رأسه، ومنهم من يقيم الأيام اليسيرة ثم يرجع إلى أرضه، ثم إني سألته عن الإنجيل، وهل يوجد عنده مكتوبا بالعربي؟ فقال: نعم هو عندي ثلاثة أسفار، فطلبت منه عارية السفر الأول، فجاء به إلينا وهو مكتوب في عنوانه مبادئ الإنجيل، فنظرت فيه قدر عشرة أيام وجميع أوائله مواعظ فقط لم أطلع[93/ب] على غيرها، وقال: إن الأحكام في السفرين الأخيرين، وكان بعد تلك الأيام ارتحالنا إلى هناك، وكان هذا الرجل يخبرنا عن أحوال الأبوان المتقدم ذكره، ويروي تلك الأمور المستنكرة، ويهجن عليه بها، وقد كان بلغ إلينا حبس الأبون إلى جانب الطريق قبل وصولنا إلى الملك، فتأكد معنا الظن الذي كنا نؤمله في الملك من الدخول في الإسلام، لا سيما مع انضمام قضية أخرى إلى هذه-قضية الأبون- وهي أن هذا الملك المذكور لما مات أبوه وله أولاد كثيرة على أمهات متفرقة، وليس لهذا الملك من أمه أخ واحد، فأوصى أبوه إليه وإلى وزرائه أنه إذا مات حبسوا جميع أولاده بالقيود في حصن معروف، ولا يتركوا من الحبس إلا هذا الأخ الذي هو شقيقه من أمه، ليكون عضدا لأخيه، ومظاهرا له في أمره وملكه، ففعلوا ذلك وحبسوا جميع إخوته في ذلك الحصن، وهم خمس عشرة رجلا، وأجرى عليهم الملك النفقات الفايضة، والإحسان التام من كل وجه، وإنما الغرض دفع منازعتهم الملك، فبقى هذا الأخ مؤازرا لأخيه في أموره، ويقوم بأمور جنده وأحوال غزوه وملاقاة عدوه، حتى أن الملك أدرك أن أخاه يريد قتله والوثوب على سرير ملكه، وهؤلاء الأمحرة معروفون بمتانة الكيد، وأكيد الحكمة في تدبير وجوه الحيل، فما زال الملك يدبر وجه الحيلة على أخيه، كيف يكون السبيل إلى الأخذ عليه، والإنتقام منه، ولم يتيسر ذلك للملك إلا بعد مدة مديدة، وزمان طويل، وشرح حديثه لا يكفي فيه القليل، فما برح في ذلك حتى استمكن من أخيه في جوف الليل وأمر به جماعة من أهل البأس والنجدة والهمة والشدة يخرجون به ليلا، وقد كانت أمه قد سألت الملك أن يبقي عليه من القتل، وأن يكتفي من ذلك بحبسه فأظهر لها الإمتثال، وأنه أمر به إلى جزيرة بحر النيل، ولما بعث به في جوف الليل، لم يظهر خبره لأحد من الناس، ولا ظهر من وجوده في أي محل من تلك السجون المعروفة، فلم يشك أنه قتله، وكانت هذه القضية مع قضية الأبوان السابقة موهمتين صدق ذلك الظن، وأن الملك إنما بطن بهذين الرجلين ليستقل بذلك الغرض ويتمكن، فلم يكن إلا كما قيل- في كل خيال لم يحصل من فايدة-رب صلف تحت الراعدة، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء:
صفحه ۴۰۵