تحفة الأسماع والأبصار
تحفة الأسماع والأبصار
إحداهن ظاهرها الأمان من القالة، والثانية: تجوز المخافة منهم، والثالثة: مقطوع بخوفها وخطرها؛ لكونها في جانب القالة وبين مراعيهم ومخاليفهم، فأختلف رأي أهل الحبشة في الطريق، فرسول الملك الواصل بكتابه إلى الإمام -عليه السلام- يريد سلوك هذه الطريق المأمونة، وإن كانت بعيدة المسافة، وساير أهل الحبشة يريدون سلوك الطريق الوسطي مع تجويز بعض الخوف، وكلهم لا يريدون سلوك الطريق الثالثة، فقال السلطان شحيم: نجعل لكل فريق منكم دليلا يدله على طريقه التي يريدها، فطلب لنا رجلا جمع بيننا وبينه، وأخذنا عليه عهدا أنه لا خاننا ولا غدرنا، ولا سعى لنا في ما فيه ضررنا؛ ولأهل الحبشة رجل آخر كذلك، ثم قال: أما بعد ذلك يكون مسيركم أنتم وأهل الحبشة مرحلتين مجتمعين، ثم تفترقون بعد ذلك، فدليلكم يدلكم على هذه الطريق المتوطأ عليها، وأهل الحبشة في طريقهم كذلك، فقلنا له وللدليل: هل بقي بعد ذلك المحل أحد من البدو نخاف اعتراضه لنا في الطريق ونطلب منه الصحبة أم لا؟ فقال السلطان شحيم وهذا الدليل المذكور: ليس بعد هذا إلا أرض مقفرة حتى تصلوا أرض الحبشة، فودعنا السلطان شحيم وأصحابه في ذلك المحل، وعزمنا على سيرنا في ذلك الدليل، وكنا جميعا نحن وأهل الحبشة بناء منا أنا لا نفترق عليهم إلا بعد يومين كما ذكره السلطان شحيم، فاستمر بنا السير ثلاث مراحل متوسطة ليست بالكبار ولا بالصغار، وانتهينا إلى جنب جبل عظيم أبلغ ما يكون من العظم في الإنبساط والإرتفاع[84/أ] ووجدنا هنالك بحيرة يتصل ماؤها بذلك الجبل، وبجبال أخر من أطرافها، ماؤها مالح زعاق، وطولها وعرضها مستويان، وقياسها بالمساحة نحو بريد كامل أو يزيد عليه قليلا في ما يغلب به الظن، فلما وصلنا ذلك المحل رأينا من الدليلين مسارره في القول، وأدركنا منهما دلائل الخيانة، فطلبنا دليلنا ولاطفناه في العبارة، ومهدنا له في القول، لعلمنا أنه قد صار المتصرف بنا كيف شاء، فلم يجب علينا بجواب تطيب به نفوسنا، وإنما هو يغالطنا ويماطلنا فتحيرنا في ذلك المحل ثلاث ليال، على مافيه من عظم الوحشة، وكثرة السباع في الليل، وخوف القالة، في ذلك المحل -وما بعده- كنا إذا أردنا إيقاد النار تخلينا في سترها عن جانب القالة، إما بمكان مطمئن أو بأن نجعلها جنب صخرة أو نحوها؛ لأنهم يرون النار فيغزون عليها، ويترصدون المسالك، فلم نشعر ونحن في خلال هذه الإقامة جنب ذلك الجبل، إلا وقد انصب علينا من أعلاه ثمانية أنفار، فوصلوا إلينا واجتمعوا مع الدليلين في جانب منا يتشاورون في الحديث يضمرونه من السر الخبيث، وأظهروا لنا أن هذه البلاد بلاد هؤلاء القوم، والتصرف لهم فيها مثل غيرهم من البدو الذين مررتم عليهم، وهم يحتاجون إلى صحبة، ويعزمون مع القافلة، فقلنا لهم: أليس قلتم لنا: إنه لم يبق أحد في هذه الطريق ممن نخاف اعتراضه وتحكمه فينا. فكيف ظهر لنا خلاف قولكم؟ فقالوا: ما شعرنا نحن بهم إلا حين وصلوا، فكان حدوث ذلك علينا وعلى أهل القافلة أعظم الخوف، خشية أن يفضي بنا الحال إلى غير ذلك بعد أن ظهر لنا خيانة الدليلين، وأنهما لا أمانة لهما، فصرنا في حيرة عظيمة، لا يطلب في تفريجها إلا الله عز وجل، ولا نرجو غيره لذلك الحادث الذي نزل، ولم نجد بدا من تسليم ما تيسر من المال لأولئك الجماعة. ثم ارتحلنا نحن نسألهم عن الطريق التي نريد سلوكها، فما رأيناهم سلكوا بنا طريقا واحدة، فتركنا سؤالهم عن ذلك، وشغلنا عن التفكير في ما ينتهي إليه حالنا مع هذين الرجلين الخاينين الناكثين، فإنما نحن نظن إنما نساق إلى الموت، وكنا في سيرنا نتوجه إلى ما بين القبلة وجهة الغرب، فرأينا لجهة التي مالت بنا جهة الغرب مقابلة، ثم بعد ذلك مالوا عن المغرب قليلا، فعلمنا أنهما قد تاها بنا في غير الطريق المقصودة، وأنهما قد عزما على الخيانة ونكث العهد، وقد كانا قدما إلينا من القول، أن نحمل الماء لمسافة يومين، فلما انتهينا[84/ب] في هذه المرحلة إلى المحل الذي فيه النزول، وكنا نحن في أعقاب القافلة والدليلان في أولها، فوصلنا، وأهل الحبشة قد توثبوا على هذين الدليلين، وأولئك الجماعة الذين معهم وقالوا لهم: قد غدرتمونا وهذه الطريق التي نحن نفر منها، وهذه محال القالة ومراعيهم، فلم يجيبوا عليهم، إلا أن قالوا: أما غير هذه الطريق فليس فيها شيء من الماء، فلم نرجع بعد ذلك إلا إلى الله عز وجل والتوسل إليه ببركة إمامنا -عليه السلام- فهو ما به نتوسل، واختلف الرأي بيننا وبين أهل القافلة بما لا تسعة هذه الكراسة، وقطعنا بحصول الهلاك، إما بالعطش، أو الجوع لنفاد الزاد، أو بأيدي القالة ونحوهم، فأصبحنا ذلك اليوم نسير في تلك الطريق، وقد كان أمير الملك الذي سبق إليه كتاب السلطان شحيم قد أرسل رسولا يقف في أعلى جبل عال يستطلع أخبارنا، وهل يرى ما يدل على ظهورنا من أي جهة، إما بظهورنا أو غيرها، وقد أعد ذلك الرسول زاده معه وصار ينتقل في جبال تلك الأماكن، وقد أدرك ظهور النار في شاطي تلك البحيرة التي قدمنا ذكرها من رأس جبل عال على قدر مرحلتين للبريد، ومعم جماعة قد استصحبهم ممن يخالط القالة، وهذا الرجل خبير بتلك القفار معاود في التسيار، يستحق أن يقال في المثل الساير (أهدى من دعيميص الرمل) فأصبحنا ذلك اليوم إلى واد فيه ماء جار، وهذا الوادي ترعى فيه القالة في أكثر أحوالهم، إلا أنهم كانوا في ذلك الوقت في جانب بعيد عنه، بسبب أنهم في العادة يتنقلون في مواشيهم لطلب المرعى، ولما أراد الله عز وجل لنا من السلامة، فلما رآنا هذا الرجل دخلنا الوادي انحدر إلينا من الجبل بمن معه، ولما أبصرنا به منصبا إلينا فزعنا منه، واعتقدناه عدوا يريدنا فتأهبنا للقافلة، وأمرنا أهل البنادق بإحضار أنفسهم فرأينا أحدهم قد انفرد قبلهم يشتد إلينا، ويتكلم بلسان الحبشة، فعرف قوله من كان من أهل الحبشة، وعلموا أنه رسول ذلك الأمير، فقالوا لنا: البشارة هؤلاء أصحابنا، فكان ذلك لنا من بعد الفرج الشدة، ثم إنا ما شعرنا بهؤلاء الجماعة الذين خانونا إلا وقد انسل بعضهم هاربا، ولم يبق منهم إلا رجل فأسره أهل الحبشة، وربطوه، وقالوا: تأخذوا منه الذي قبضه، فلم نستحسن منه ذلك، وأبقينا عليه لأجل ما نخشاه من العودة في هذه الطريق، وأن تكون عاقبة المضرة عايدة علينا.
صفحه ۳۷۳