توکویل: مقدمه‌ای بسیار کوتاه

مصطفى محمد فؤاد d. 1450 AH
6

توکویل: مقدمه‌ای بسیار کوتاه

توكفيل: مقدمة قصيرة جدا

ژانرها

رفض توكفيل أن يحمل لقب «كونت»، لكنه لم يرفض كل المزايا التي منح إياها بسبب انتسابه إلى أسرة أرستقراطية، ولقد استغلها لخدمة غاية ديمقراطية فيما أطلق عليه «العالم الجديد» القائم على الديمقراطية. وبالرغم من أنه عاش حياته باعتباره أرستقراطيا، فقد اتخذ جانب الديمقراطية، وحتى يقوم بهذا، دخل في المعترك السياسي. في النظام الأرستقراطي الذي كان قائما في النظام القديم في فرنسا، كان السبيل لشغل أي منصب سياسي هو من خلال التوارث الإقطاعي؛ فدخول السياسة - في اعتقاد توكفيل - كان بطبيعته أرستقراطيا لسبب بسيط، وهو أن الحكم يستوجب تحمل مسئولية الآخرين، وهكذا يكون السياسي في مرتبة أعلى من الناس. كانت أول تجربة لتوكفيل في السياسة في ظل الملكية البوربونية يرجع الفضل فيها لمكانة والده إيرفيه، الذي كان مسئولا بالحكومة المحلية؛ ومن خلال نصحه ونفوذه، أصبح ألكسي في عام 1827 قاضيا تحت الاختبار لا يتقاضى راتبا. بعد ذلك، كان عليه الترشح لمنصب رسمي في انتخابات كانت ديمقراطية بعض الشيء. نرى هنا تطبيقا لمبدأين من مبادئه: إضفاء الصبغة الديمقراطية على نظام سياسي هو بالأساس وفي الأصل أرستقراطي، وتعلم السياسة بممارستها، وهي الفضيلة التي وجدها في الديمقراطية الأمريكية وكانت تتفرد بها. تلاقى المبدآن لأن النظام السياسي يمكن تحويله إلى النظام الديمقراطي، فقط إذا تنافس الديمقراطيون من خلال الانتخابات على المناصب التي كانت ستئول دون ذلك إلى نبلاء الطبقة الأرستقراطية دون أي مجهود. ومن أعظم رؤى توكفيل أن تلك الفضيلة الضرورية للديمقراطية لا يمكن أن تعتبر أمرا مسلما به في أي ديمقراطية، وأنها يمكن أن تكون مهددة بالفعل فيها.

كان دخول الحياة السياسية في عصر توكفيل مهمة صعبة؛ فبعد الثورة الفرنسية، عانى نظام الحكم في فرنسا من سلسلة من التقلبات الشديدة؛ بدءا من الملكية البوربونية قبل عام 1789، أو ما يسمى ب «النظام القديم»، إلى نظام جمهوري دستوري، ثم لنظام جمهوري يعقوبي في عهد سمي بعهد الإرهاب، ثم لأحداث ثيرميدور التي كانت ضد اليعقوبيين، ثم للإمبراطورية النابليونية، ثم لملكية بوربونية ثانية، ثم للنظام الملكي البرجوازي للويس-فيليب، ثم للجمهورية الثانية التي انقلب عليها وأطاح بها لويس نابليون الذي أسس إمبراطورية ثانية. إن تلك الاضطرابات جعلت رغبة أي شخص يطمح إلى الدخول في مجال السياسة مخاطرة، كما كانت مصدر قلق لأي مراقب للشأن الفرنسي. وبالنسبة إلى كاتب ومفكر مثل توكفيل، كانت تلك الأوضاع كفيلة بابتعاده عن السياسة من أجل الحصول على الراحة والسكينة في حياته الخاصة، لتتوافر له فرصة للتفكير وإطلاق العنان لموهبته الكبيرة في الكتابة. لكن توكفيل، الذي شعر بالقلق على حال فرنسا طوال حياته، شارك بكل قوة في العمل السياسي، حتى عندما كان يتعارض هذا مع رغبته في الكتابة. على سبيل المثال، في عام 1837 ترك توكفيل العمل في الجزء الثاني من كتابه «الديمقراطية في أمريكا» ورشح نفسه في مجلس النواب في نظام لويس-فيليب، ورغم خسارته في المرة الأولى، مع أنه كان نبيلا يترشح في منطقته، فقد أعاد الكرة في عام 1839 بشجاعة كبيرة وإصرار ديمقراطي، ونجح ثم أعيد انتخابه مرتين أخريين. وبعد سقوط نظام لويس-فيليب في عام 1848، انتخب توكفيل في المجلس التأسيسي الذي كان منوطا به التأسيس للجمهورية الثانية والمعاونة في وضع دستورها. ثم انتخب في المجلس الجديد بمقتضى هذا الدستور، وعمل وزيرا للشئون الخارجية لمدة خمسة أشهر، حتى أقال الرئيس الجديد لويس نابليون الوزارة التي كان توكفيل عضوا فيها. وفي ديسمبر من عام 1851، ألغى لويس نابليون النظام الجمهوري من خلال انقلاب، وحينها ترك توكفيل السياسة للأبد، بعد أن استمر في ممارستها بقدر ما سمحت له مبادئه وتطلبت ذلك. وكانت آخر تجربة سياسية له هي سجنه لمدة يومين على يد لويس نابليون لكونه نائبا معارضا.

ما الذي جعل توكفيل الكاتب بالفطرة يدخل معترك الحياة السياسية الديمقراطية التي كان يشك في أنه يمكن أن ينجح فيها؟ بالنسبة إلى توكفيل، حرية الكتابة والنشر لا تكتمل دون حرية سياسية، وقد أراد أن يشعر بنفسه بتلك الحرية، وذلك بأن يتولى مناصب سياسية بدلا من أن يراقب الأمور من الخارج فحسب. فلم يكن كافيا لفهم حقيقة الأمور تأملها من معتزل هادئ، كما يفعل المنظرون؛ فقد كان يرى أن رضا الروح وسكينتها، اللذين يقال في التقليد الفلسفي إنهما بمنزلة مكافأة للتأمل، لا يمكن الوصول إليهما، واعتقد أن الروح الإنسانية، وخاصة روحه، «مضطربة ونهمة». كان يحتقر «كل متع هذا العالم»، لكن حتى يتجنب «البلادة الخطيرة» التي تصيب الروح عندما تحاول تأمل ذاتها، كان يسعى وراء تلك المتع. إن المتعة الأساسية كانت بالطبع هي الإحساس بالفخر، ذلك «الميل الطبيعي» الذي لديه ل «القيام بأفعال عظيمة والتحلي بفضائل عظيمة»، وكل المتع الأخرى ثانوية؛ أي إنها مجرد وسائل للوصول لهذا الإحساس بالفخر. تطلع توكفيل وسعى على نحو واع ومقصود وموجه إلى تمييز نفسه في الحياة؛ فهو يزدري الإحساس بالفخر ويسعى إليه في الوقت نفسه.

يبدو أن توكفيل فهم الرغبة في التميز بالمعنى السياسي فقط - أي ممارسة النشاط السياسي - بدلا من المعنى العام المتمثل في إبراز الموهبة والذكاء من أجل تقدير الناس له. غير أنه كان يعتقد أن «فكره أهم من فعله»، ولقد كان محقا بالتأكيد في ذلك؛ فباعتباره سياسيا، كانت تعوزه القدرة على التواصل الفعال مع الناس العاديين، وقد كان مدركا لذلك؛ إذ اعترف (على نحو غير معلن، وذلك في عمله «ذكريات») أنه بالكاد يستطيع تذكر أسماء ووجوه زملائه العاديين في المجلس الوطني الذي كان عليه التعامل معهم، قائلا: «إنهم يشعرونني بملل شديد.» وقال أيضا إن الكتابة نوع من الفعل، ووسيلة مهمة للانخراط في السياسة. ويبدو أن الحرية السياسية بالنسبة إليه لها جانبان - النشاط السياسي والكتابة - وأنهما يلتقيان في العظمة.

في نظر أي فيلسوف، أو معظم الفلاسفة، العظمة الإنسانية شيء ضئيل؛ تضخيم ذاتي للإنسان من المفترض أن يفقد حجمه وقيمته مقارنة بالخلود، لكن توكفيل يرى عكس ذلك؛ فقد قال في أحد الخطابات: «خيالي يقفز بسهولة لقمة العظمة الإنسانية.» لم يكن الأمر أنه كان يظن نفسه إسكندرا آخر، لكنه لم يكن راضيا عن مصادر الفخر الدنيوية التي كان يسعى إليها في نفس الوقت، غير أنه كان يشك في أن الرب ضمن عظمة الإنسان. إن الاضطراب في روحه له جانبان: تكبر أرستقراطي في ازدرائه، وفي نفس الوقت مسئولية ديمقراطية للاضطلاع بالمهام السياسية التي لم يعد النظام الأرستقراطي الطبقي الآن - في ظل الديمقراطية - قادرا على القيام بها.

توكفيل الكاتب

إن الفشل النبيل كان أقصى ما كان يمكن أن يصل إليه توكفيل باعتباره سياسيا، وبقية حياته يجب النظر إليها باعتبارها أحداثا في مسيرة كاتب. في واقع الأمر، كانت تجربته السياسية الأكثر إثارة هي رصد وتسجيل الثورتين اللتين حدثتا في فرنسا في أعقاب الثورة الفرنسية، وذلك في عامي 1830 و1848. وبصفته قاضيا في عام 1830، كان عليه أن يقرر ما إن كان سيدين بالولاء للملك الأورلياني الجديد، متخليا عن الوريث الشرعي للملك من آل بوربون؛ وهو ما فعله بالفعل. وفي يناير من عام 1848، ألقى خطبة حذر فيها الحكومة من حدوث ثورة، لكن بالرغم من كونه عضوا في مجلس النواب، فإنه لم يكن بوسعه شيء غير هذا التحذير، وكان مرغما على مراقبة الجمهورية الثانية وهي تولد دون أن يستطيع إيقافها، وهو ما فعله بالرغم مما كان لديه من هواجس كثيرة حول مستقبلها الاجتماعي. في عام 1850، وبينما كان يعاني من مرض السل الذي كان السبب في موته في النهاية، ألف كتابه «ذكريات»، الذي كان محوره هو تلك الثورة، وكان نوعا من «أحلام اليقظة» - بحسب قوله - وكان موجها بالأساس لأصدقائه وربما للنشر اللاحق (وهو الأمر الذي لم يحدث حتى عام 1893 في واقع الأمر). هنا جاءت اللحظة التي اقترب فيها من مركز قيادة الثورة الديمقراطية التي طالما انشغل بدراستها، لكن كل ما كان يستطيع فعله هو المراقبة والكتابة، وقد فعل هذا بنجاح كبير.

تلقى توكفيل تعليمه المبكر على يد الأب ليسيور الذي كان معلم والده، وقد علمه ليسيور تعليما دينيا تقليديا، لكنه دلله وأصبح الاثنان صديقين مقربين. وعندما بلغ توكفيل السادسة عشرة، أرسله والده - الذي كان حينها حاكما على ميتز - إلى الجامعة لدراسة البلاغة والفلسفة. في ذلك الوقت، وكما حكى لاحقا توكفيل، ذهب إلى مكتبة والده ووجد هناك كتبا عن الفلسفة أحدثت «زلزالا» داخله، مما سمح ل «موجة شك عام» بأن تجتاح روحه التي كانت قبل ذلك عامرة بالإيمان، وهذا الشك الذي استمر معه وعانى منه لبقية حياته، لم يضعف إيمانه بالرب فحسب، وإنما أضعف أيضا إيمانه ب «العالم الفكري» الخاص ب «كل الحقائق» التي حددها لتكون أساسا لمعتقداته وأفعاله.

شكل 1-3: توكفيل، في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وهو يجلس إلى مكتب بجانب والده، إيرفيه دي توكفيل، في عام 1822.

تجاهل والد توكفيل الزلزال الذي حدث في روح ابنه وأرسله لدراسة القانون في باريس، وهو ما حدث من عام 1823 وحتى عام 1826. بعد ذلك بعامين، حضر محاضرات كان يلقيها فرانسوا جيزو، الذي أصبح بعد ذلك رئيس وزراء فرنسا، وكان يدون ملاحظات توضح أنه كان معجبا بأفكار جيزو عن تاريخ الإنسانية أو «الحضارة». وفي خطاب في ذلك الوقت، وصف أعمال جيزو بأنها غنية بالأفكار والألفاظ المدهشة؛ وكان جيزو وبنجامين كونستان أهم مفكرين ليبراليين فرنسيين في أوائل القرن التاسع عشر، وكان توكفيل عادة ما يقارن بهما، لكنهما كانا يعتقدان، بخلاف توكفيل تماما، أن الليبرالية يمكن أن تقيد الديمقراطية دون أن يتعين عليها التوافق معها. وأيا كان ما تعلمه توكفيل من هذين المفكرين، فإنه لم يقترب من تلك النقطة الجوهرية. لكن كانت تلك المحاضرات فرصة لأن يتقابل على نحو مباشر مع أشهر أقطاب الفكر الليبرالي في عصره.

صفحه نامشخص