تلك الرائحة: وقصص أخرى
تلك الرائحة: وقصص أخرى
ژانرها
فسرعان ما كنت في الحجرة المفروشة التي استأجرتها في حي «مصر الجديدة» بعد الإفراج عني، أقلب مسوداتها في ملالة وأنا أتساءل عن جدوى كتابة لا تتعرض للصراع الضاري مع الاستعمار، لمحاولات بناء الاشتراكية، وللتناقضات الملتبسة بكل ذلك؛ الرعب والتعذيب والسجن والموت والشجن الشخصي.
وذات ليلة لن أنساها، ألقيت نظرة على اليوميات التلغرافية التي كنت أسجلها كل ليلة بعد انصراف الشرطي، وكان قد تجمع منها عدد قليل - ربما ستة عشر يوما على ما أذكر - قرأتها كلها مرة واحدة، فإذا بي أرتجف من الانفعال.
كان ثمة تيار خفي في ذلك الأسلوب التلغرافي الذي لا يتوقف ليتمعن، ولا يعنى بانتقاء المترادفات أو سلامة اللغة أو مداراة القبح الذي يصدم النفوس الحساسة. كان ثمة «جمال» في جملة ركيكة مثل: «وقال الكاتب إن موباسان قال إن الفنان يجب أن يخلق عالما أكثر جمالا وبساطة من عالمنا.» وكان ثمة جمال في فعل قبيح من قبيل إطلاق غازات المعدة في صالون برجوازي.
ألا يتطلب الأمر قليلا من القبح للتعبير عن القبح المتمثل في سلوك فزيولوجي من قبيل ضرب شخص أعزل حتى الموت ووضع منفاخ في شرجه، وسلك كهربائي في فتحته التناسلية؟ وكل ذلك لأنه عبر عن رأي مخالف، أو دافع عن حريته أو هويته الوطنية؟
ولماذا يتعين علينا عندما نكتب ألا نتحدث إلا عن جمال الزهور وروعة عبقها، بينما الخراء يملأ الشوارع ومياه الصرف الملوثة تغطي الأرض، والجميع يشمون الرائحة النتنة ويشتكون منها؟
أو أن نصور على الورق كائنات أوشكت أن تختفي فتحاتها التناسلية، كي لا نخدش حياء كاذبا لدى قراء يعرفون عن أمور الجنس أكثر مما يعرف السيد الكاتب؟
شعرت وأنا أقرأ يومياتي الوجيزة بأني أمام مادة خام لعمل فني، لا يتطلب مني بعد غير جهد التشكيل والصقل. وشعرت أيضا أني قد وقعت أخيرا على صوتي الخاص.
كنت قد وجدت عملا في حانوت لبيع الكتب الأجنبية، «تخرج» منه فيما بعد كل من رءوف مسعد وعبد الحكيم قاسم. وكان عملي يحتم علي التواجد في الحانوت طول اليوم، وبهذا كانت الفرصة الوحيدة أمامي للكتابة الجادة هي يوم العطلة. ولا زلت أذكر يوم كتبت الصفحة الأولى من «تلك الرائحة» في مقهى بحديقة الأزبكية ذات صباح. ولم ألبث أن أدركت عبث هذا الوضع، فتركت العمل. وأتاح لي أحد الأصدقاء، وهو الطبيب جمال صابر جبرة، مكانا يأويني في مسكن مهجور له في مصر الجديدة امتلأ بالكتب القديمة. ووسط مؤلفات العلامة الأثري سامي جبرة، ومجلدات شهداء القديسين، انقطعت للعمل في روايتي الأولى، طوال ثلاثة شهور، شد من أزري خلالها التأييد المعنوي من الصديقين العتيدين رءوف مسعد وكمال القلش.
قررت أن أحافظ على النفس اللاهث الذي ميز اليوميات، بعد أن رتبت محتوياتها بطريقة خاصة، وأضأت بعض جوانبها بهوامش مستفيضة جمعتها في نهاية النص، وأطلقت على النص اسم «الرائحة النتنة في أنفي».
وكان الدكتور يوسف إدريس - الذي تربطني به علاقة قديمة منذ منتصف الخمسينيات - هو الذي اعترض على فكرة الهوامش، واعتبرها مغالاة في التجديد، وأقنعني بنقلها إلى داخل النص، كما اعترض على العنوان الذي اخترته للرواية. وفي العيادة التي افتتحها فجأة في ميدان الجيزة لممارسة العلاج النفسي، توصلنا معا إلى اسم «تلك الرائحة»، وكان كريما معي بالمقدمة.
صفحه نامشخص