ومن زعماء هذه الحركة في الأدب الإنجليزي «السير والتر سكوت
Sir Walter Scott » صاحب هذه الرواية التي نحن بصدد نقلها إلى قراء العربية. بدأ حياته الأدبية بكتابة الأغاني الشعبية، التي سرعان ما ترددت على كل لسان، وذاعت بين الناس جميعا؛ وكان يسوق في هذه الأغاني طرفا من القصص التاريخي القديم، مشيدا بذكر الأبطال الأقدمين، وما وقع في سالف الأيام؛ ولكنه لم يلتزم الصدق والدقة في رواية التاريخ، بل كثيرا ما كان يطلق لخياله العنان، فيخلق شخوصا من العدم، ويذكر أحداثا لم تقع؛ وكانت أحب فترات التاريخ إلى نفسه العصور الوسطى. كان يستهويه منها روح الفروسية، وميولها العسكرية وحروبها التي لم تنقطع.
وظل «سكوت» في أعين الجمهور زعيم الشعراء، حتى ظهر اللورد بيرن، وبزه، واجتذب منه كثيرا من المعجبين بأناشيده الشعبية، فانصرف سكوت من الشعر إلى النثر، وهجر الأغاني إلى الرواية؛ وكان في قصصه الروائي - كما كان في شعره - يعمد إلى إحياء التاريخ الأوسط، ويرى فيه مجالا واسعا لإرسال الخيال وابتداع القصص. ومن بين القصص التاريخية العديدة التي كتب، قصة «الطلسم» التي نقدمها اليوم إلى القراء الناطقين بالضاد، وقد وقع اختيارنا عليها دون غيرها؛ لأن موضوعها يتصل بالقارئ الشرقي، ويتناول موقفا من المواقف المشهورة في الحروب الصليبية بين رتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا وصلاح الدين الأيوبي. والقصة تبسط لنا كثيرا من مميزات العصور الوسطى، وتبين كيف كان أبناء الغرب من المسيحيين ينظرون إلى أهل الشرق من المسلمين، كما تبين الروح العسكري السائد في تلك العصور، والاستماتة في الدفاع عن الدين، والاعتقاد في الخرافة والسحر، وطرفا من حياة الرهبان المسيحيين وقسوتهم على أنفسهم في أسلوب توبتهم إلى الله وتكفيرهم عن ذنوبهم.
وترى في الرواية كذلك لونين متباينين من الحب؛ لونا شهوانيا مجردا يعزوه «سكوت» إلى أهل الشرق عامة، وآخر أفلاطونيا عذريا، ويعزوه إلى الغربيين في ذلك الزمان، وهو حب لا يمس العاشق فيه معشوقته، ويكاد يسجد لها من دون الله.
ولعل أدق ما ترويه لنا الرواية تحليل مفصل لشخص رتشارد وصلاح الدين. يعرض لنا «سكوت» «رتشارد» رجلا قوي البنية، غليظ الطبع، شديد النفوذ على أتباع الصليب جميعا، سريع الغضب، سليم الطوية، صريح العبارة، لا يعرف إلى المداراة أو التواء المقصد سبيلا. أما صلاح الدين فيمثل المكر والدهاء، والصبر وطول الأناة؛ يعرضه لنا المؤلف في مستهل القصة متخفيا في شخص مقاتل من المقاتلين المسلمين، مقداما شجاعا، لا يتهيب ولا يخاف، ثم يخلع عنه زي المحارب، ويأتي لنا به ثانية متنكرا في لباس الطبيب أو «الحكيم»، كما يحب «سكوت» أن يسميه عامدا، لأنه يريد أن يومئ إلى أن العرب كانت تخلط بين «حكمة» الطب و«حكمة» الفلسفة ورواية الحكم والأمثال؛ وفي مختتم القصة ينزع صلاح الدين كل معالم التنكر ويبرز لنا في شخصه الحر الكريم، جوادا، سياسيا محنكا، وحكما عدلا بين الصليبيين.
وكما أن «سكوت» يعتذر لنا في مقدمة الرواية عن مسخه لحقائق التاريخ وتغييره وتبديله فيها، ويقول إن في ذلك الفارق بين القصص التاريخي وعلم التاريخ؛ فنحن نعتذر إلى القارئ المسلم عما قد يجد في القصة مما يسيئه ونلتمس ل «سكوت» المعذرة في ذلك، لأنه يكتب عن حرب دينية بين الصليب والهلال وعن عصر كان التعصب الديني فيه على أشده، فمن الطبيعي أن يسخر المسيحي من دين المسلم وأن يهزأ المسلم بعقيدة المسيحي.
والآن أنتقل بالقارئ إلى ما كتب «سكوت»، آملا أن يجد في القصة لذة ومتعة؛ وأن يتسامح في شرود المؤلف وهفوات المعرب.
المعرب
نوفمبر سنة 1937م
مقدمة المؤلف
صفحه نامشخص