فسأله الملك وقد نفد صبره: «وهل التقيا بالطبيب هناك؟»
فأجاب دي فو: «كلا يا سيدي، ولكن العربي حينما علم بمرض جلالتكم العضال، وعد بأن يبعث صلاح الدين بطبيبه الخاص إليك، مؤكدا لك أشد التأكيد براعته وحذقه. فجاء الطبيب إلى الغار بعد أن لبث الفارس الاسكتلندي يترقبه يوما وبعض يوم؛ جاء تحوطه الرعاية كأنه أمير تدق له الطبول ويتبعه الحشم راكبين وراجلين، ومعه خطابات الاعتماد من صلاح الدين.» «وهل فحصها جياكومو لورداني؟» «لقد عرضتها على الترجمان قبل أن آتي بها إلى هنا، وإليك ما اشتملت عليه.»
فتناول رتشارد قرطاسا دونت عليه هذه الكلمات: «سلام الله ورسوله محمد. تحية من صلاح الدين ملك الملوك، سلطان مصر وسوريا، نور الدنيا وملاذها، إلى رتشارد العظيم ملك إنجلترا. أما بعد، لقد نمى إلينا، يا أخانا في الملك، أن المرض قد مد إليكم يدا ثقيلة لا تحتمل ، وأن ليس لديكم من الأطباء غير النصارى واليهود، الذين يعملون بغير بركة الله ونبينا الكريم ولذا فإنا مرسلون إليكم بطبيبنا الخاص يقوم برعايتك، ويسهر على راحتك، وهو «أدنبك» الحكيم الذي إن رآه عزرائيل نشر جناحيه ورحل عن غرفة المريض، والذي يعلم مزايا الأعشاب والأحجار، ومسير الشمس والقمر والنجوم، وفي وسعه أن ينقذ الإنسان من كل ما لم يكتب على الجبين؛ وإنا لهذا فاعلون، متوسلين إليك من أعماق القلوب، أن تكرمه وتفيد من حذقه، وإنا لم نفعل ذلك خدمة لقدرك وشجاعتك فحسب - وهما فخر دول الفرنجة قاطبة - وإنما فعلناه كي نقضي على الخصومة القائمة بيننا الآن، إما باتفاق شريف وإما علنا بحد السيف في ساحة القتال، وذلك لأنا نرى أنه لا يليق بمكانتك وشجاعتك أن تموت ميتة العبد قد أنهكه سيده بالعمل، ولا يلائم اسمنا بين الناس أن ينتزع المرض من أسنة رماحنا خصما جريئا مثلك. إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ...»
فصاح رتشارد: «كفى، كفى. والله إنه ليضاعف من مرضي أن هذا السلطان الشجاع، صاحب المقام الرفيع، يعتقد في دين الإسلام؛ أجل سوف أرى طبيبه، وسوف أسلم نفسي لهذا الحكيم، وسوف أرد لهذا السلطان النبيل جوده ونواله، وسوف ألتقي بصلاح الدين في ميدان القتال وفقا لرأيه السديد؛ ولن نترك له مجالا كي يسم رتشارد ملك إنجلترا بالجحود ونكران الجميل، وسوف أدق عنقه وألقيه طريح الأرض بفأسي، وسوف أرده إلى حرم المسيحية بضربات لا أظنه عانى لها من قبل مثيلا، ولسوف ينبذ ضلاله أمام سيفي الكريم، ذي اليد الصليبية، ولسوف أعمده بالمسيحية في ساحة الوغى من خوذتي، حتى وإن امتزجت مياه الطهور بدمي ودمه؛ هيا يا دي فو، ولا تؤخر عني هذه النهاية الراضية البهيجة، هات الحكيم هنا.»
فقال البارون وقد رأى أثر الحمى في هذه الثقة بالنفس المتدفقة: «اعلم مولاي أن السلطان من المسلمين وأنت خصمه اللدود.» «ولهذا حق عليه أن يخدمني في هذا الشأن، كي لا تحسم هذه الحمى الطفيفة نزاعا بين ملكين مثلي ومثله؛ اعلم أنه يحبني كما أحبه - وكما يتحاب الخصوم النبلاء في كل حين - وشرفي إنه لمن الجرم أن أرتاب في حسن طويته!»
فقال لورد جلزلاند: «ومع ذلك فإني أرى من الحكمة يا مولاي أن تتريث حتى ترى أثر هذا الدواء في الخادم الاسكتلندي، إن هذا أمر تتعلق به حياتي، فإني لو اندفعت في هذه السبيل، وتحطمت سفينة العالم المسيحي على يدي، لحق علي أن أموت كما يموت الوغد الدنيء.»
فرد عليه ريتشارد وهو يؤنبه: «لم أعرفك قبل اليوم مترددا خشية الموت.»
فأجاب البارون ذو القلب الحديدي: «وما كنت لأتردد الآن يا مولاي لولا أن حياتك مع حياتي على كف عفريت.»
فقال رتشارد: «إذن فلتذهب عني ما دمت رجلا تداخله الريبة، وارقب سير هذا الدواء؛ والله إني لأود لو شفاني أو أودى بحياتي، فلقد كللت من رقدتي هنا كالثور يقضي عليه الطاعون في وقت تدق فيه خارج السرادق الطبول، وتدوس فيه الأرض الخيول، ويرن فيه رنين الأبواق.»
صفحه نامشخص