216

فأجابه أحد الخدم قائلا: «لقد أشرقت الشمس معتمة.»

فقال كنراد: «ها أنت ذا ترى أيها الرئيس الأعظم أن لا شيء يبسم لي.»

فأجابه صاحب المعبد وقال: «لسوف يكونن قتالك أكثر جرأة يا بني، واحمد الله الذي خفف من حدة شمس فلسطين كي توائم ما أنت مقبل عليه.»

وهكذا كان يمزح الرئيس الأعظم، ولكن نكاته فقدت تأثيرها على عقل المركيز المضطرب، ورغم أنه حاول أن يظهر بالابتهاج، إلا أن صاحب المعبد قد أدرك كآبته.

ففكر في نفسه: «إن هذا النذل سوف يخسر المعركة لمحض وهنه، وخور قلبه الذي يسميه رقة الضمير. كان ينبغي لي أنا - وأنا لا يهزني خيال ولا طيرة، ثابت في مرماي ثبوت الصخر - أن أقاتل في المعركة بنفسي. وددت والله لو أن الاسكتلندي ضربه الضربة القاضية وقضى عليه في حينه؛ فما بعد فوزه بالنصر ما هو خير من هذا، ولكن مهما يكن من شيء، فينبغي ألا يكون له قس غيري يعترف له، فإن إثمي شديد الاشتباك بإثمه، وقد يقر بذنبي في إثر ذنبه.»

وبينا هذه الخواطر تلعب برأسه، كان يواصل معونة المركيز على التسليح وهو صامت.

وأخيرا حانت الساعة ونفخ في الأبواق، ونزل الفارسان في ساحة النزال راكبين مسلحين إلى الأطراف، وكانا على ظهري جواديهما أشبه برجلين أوشكا أن يشتبكا في معركة في سبيل شرف أمة بأسرها، ورفعا خوذتيهما وطوفا بالميدان ثلاثا عرضا للناظرين، وكان كلاهما جميل المحيا، ولكن الاسكتلندي كانت على جبينه مسحة من ثقة الرجولة؛ أمل مشرق تكاد تبتهج له النفس. بينما كانت تخيم على جبين كنراد سحابة من اليأس المشئوم، رغم أن كبرياءه وتكلفه قد أعادا إليه كثيرا من شجاعته الطبيعية، وحتى جواده كان يسير على صوت البوق وهو أقل نشوة وسرورا من الحصان العربي النبيل الذي كان يمتطي صهوته السير كنث. وهز المحدث برأسه حينما رأى أن المدعي يطوف بميدان النزال مع مسير الشمس - أي من اليمين إلى اليسار - بينما كان المتهم يدور الدورة نفسها ولكن من اليسار إلى اليمين؛ وهو مسير مشئوم في عقيدة كثير من البلدان.

وأقيم تحت الرواق الذي تشغله الملكة مباشرة محراب مؤقت، وقف الناسك إلى جانبه في زي طائفته كقس من كرمل، وكان بين الحاضرين كذلك غيره من رجال الكنيسة؛ وإلى هذا المحراب سيق المدعي والمتهم كلاهما، متتابعين، يتقدم كل منهما كفيله. ولما بلغا المحراب ترجلا، وأقر كل منهما بعدالة قضيته، وأقسم بأصحاب الإنجيل يمينا مغلظة، ودعا ربه أن يصيب من النجاح بمقدار ما في قسمه من حق أو باطل، وأقسما كذلك أنهما أتيا للقتال في لباس الفروسية وبالأسلحة المعتادة، وأنكر كل منهما استخدام الرقى والتمائم والحيل السحرية لاستمالة النصر إلى جانبه، ونطق المدعي اليمين بصوت ثابت مسترجل، وطلعته عليها سيماء الجرأة والبهجة. ولما فرغا من هذه الطقوس، تطلع الفارس الاسكتلندي إلى الرواق، وطأطأ رأسه نحو الأرض إجلالا لذلك الجمال المستتر الذي كان محتجبا في الداخل، ثم وثب وهو مثقل بالسلاح على ظهر جواده دون أن يستخدم الركاب، واستحث الحصان على أن يسير به تارة عن يمين وطورا عن شمال، حتى يبلغ به موقفه في الطرف الشرقي من الميدان, وتقدم كنراد كذلك نحو المحراب وفيه من الإقدام الكفاية، ولكن صوته وهو يقسم اليمين كان أجوف كأنه يسيخ في خوذته، ودعا الله أن يحكم بالنصر للقضية العادلة بشفتين أخذتا تشحبان وهما تلفظان بهذه السخرية الكافرة. ولما أن عطف على جواده يركبه، دنا منه الرئيس الأعظم واقترب كأنه يريد أن يصلح شيئا في وضع درعه وهمس في أذنه: «ما أنذلك وما أغفلك! استجمع حواسك وأد لي هذه المبارزة بشجاعة، وإلا فوالله لو نجوت منه لما نجوت مني!»

وربما كان في النغمة القاسية التي همس بها الرئيس في أذن المركيز تتمة اضطراب أعصابه، إذ إنه زل وهو يمتطي الحصان. وحقا لقد أعاد قدميه إلى الثبوت، ووثب على ظهر الجواد برشاقته المعهودة، وأبدى حذقه في ركوب الخيل وهو يتخذ مكانه أمام المدعي، إلا أن الزلة لم تغب عن أعين أولئك الذين وقفوا يترقبون الطيرة التي قد تتكهن بقضاء ذلك اليوم.

ودعا القساوسة ربهم خاشعين أن يحصحص الحق في النزاع، ثم فصلوا عن الميدان. ونفخ في بوق المهاجم عاليا، ونادى مناد مدجج بالسلاح في الطرف الشرقي من الحلبة وقال: «هنا يقف فارس كريم، هو السير كنث الاسكتلندي، بطل نائب عن الملك العظيم رتشارد ملك إنجلترا، الذي يتهم كنراد مركيز منتسرا بالخيانة الشنعاء وبجرح عزته.»

صفحه نامشخص