تمهيد
المقدمة المنحولة1
1 - المرائي
2 - المتملق
3 - كثير الكلام
4 - الريفي
5 - المجامل
6 - الأحمق
7 - الثرثار
8 - مروج الإشاعات
صفحه نامشخص
9 - الوقح
10 - النتن
11 - الفظ
12 - عديم الذوق
13 - المفرط في حماسه
14 - البليد
15 - المتعالي
16 - المؤمن بالخرافات
17 - المتذمر
18 - سيئ الظن
صفحه نامشخص
19 - المقزز
20 - الجلف
21 - الطموح (أو المغرور)
22 - الوضيع
23 - الفشار
24 - المتعجرف
25 - الجبان
26 - الأوليجاركي (أو المتسلط)
27 - المتعلم على كبر
28 - النمام
صفحه نامشخص
29 - الفاسد
30 - البخيل
هوامش وتعليقات
تمهيد
المقدمة المنحولة1
1 - المرائي
2 - المتملق
3 - كثير الكلام
4 - الريفي
5 - المجامل
صفحه نامشخص
6 - الأحمق
7 - الثرثار
8 - مروج الإشاعات
9 - الوقح
10 - النتن
11 - الفظ
12 - عديم الذوق
13 - المفرط في حماسه
14 - البليد
15 - المتعالي
صفحه نامشخص
16 - المؤمن بالخرافات
17 - المتذمر
18 - سيئ الظن
19 - المقزز
20 - الجلف
21 - الطموح (أو المغرور)
22 - الوضيع
23 - الفشار
24 - المتعجرف
25 - الجبان
صفحه نامشخص
26 - الأوليجاركي (أو المتسلط)
27 - المتعلم على كبر
28 - النمام
29 - الفاسد
30 - البخيل
هوامش وتعليقات
كتاب الطباع
كتاب الطباع
تأليف
ثيوفراسط
صفحه نامشخص
ترجمة
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
(1)
هذا الكتيب الذهبي!
هكذا وصفه أحد الكتاب في بداية عصر النهضة الأوروبية. واستمتع القراء على مدى ثلاثة وعشرين قرنا أو يزيد بلوحاته الحية التي ترسم بخطوط دقيقة ومرهفة طباع ثلاثين نموذجا أو نمطا من البشر العاديين الذين عاشوا في أثينا في السنوات الأولى من العصر الهليني المبكر، ولم تساعدهم ظروف نشأتهم وتربيتهم واستعداداتهم الطبيعية الموروثة على التخلص من رذائلهم ونقائصهم أو تغييرها والارتفاع فوقها، بل إن القراء على مر العصور قد وجدوا في هذه النماذج والأنماط من الأخلاق والطباع، أو في بعضها على الأقل، نظائر مشابهة لأناس من المحيطين بهم أو المتعاملين معهم، وربما وجدوا فيها أنفسهم أيضا.
ولقد تصور بعض القراء الذين أعجبوا بهذا الكتاب أنه ينتمي إلى فلسفة الأخلاق وينفع الآباء والمربين والمعلمين والمتعلمين. وتحمس له بعض المؤلفين المجهولين فتدخلوا في نصه الأصلي، وأضافوا إليه مواعظ وعبارات خطابية أثبت العلماء المحققون بعد ذلك أنها منحولة عليه، كما استوحاه وقت أن كان الفيلسوف نفسه وأفاد منه الكثيرون من ذوي الحساسية الأدبية والموهبة الفنية في أعمالهم المسرحية والقصصية والروائية أو في حكمهم وحكاياتهم الأخلاقية المكثفة كما سنرى بعد قليل. وبقي كتاب الطباع مصدر المتعة والإلهام والحيرة أيضا بسبب المادة النفيسة المفعمة بالحياة والظرف والمعرفة التي يضمها منجمه الذهبي الصغير، فضلا عن قيمته العالية التي يقدرها كل من يهتم بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، ويتتبع تطور العادات والتقاليد والأفكار والصراعات، بجانب الأضواء الكاشفة التي يلقيها على حياة الإنسان العادي - الرجل الصغير أو رجل الشارع كما نقول اليوم! - وعلى تصرفاته في المواقف المختلفة وردود أفعاله على الأحداث والوقائع متلاطمة الأمواج أمام عينيه ومن حوله. وفي كل الأحوال يتجاوب القراء مع النص الطريف اللطيف بصور متفاوتة تدفعهم للابتسام أو النفور والاستهجان، وللرضا أو السخط أو التعجب من «الطبيعة البشرية» المشتركة التي توحي أحيانا بأنها ثابتة ولا تكاد تتغير إلا في القشرة والسطح دون الجوهر والنواة.
ولا بد قبل الخوض في البحر الزاخر الذي تجيش تياراته الظاهرة والباطنة من داخل هذا النبع الضئيل المحدود، أو بالأحرى من قلب هذه القطرات العذبة من النثر اليوناني القديم؛ لا بد قبل الاتجاه لمضمون الكتاب نفسه وشكله اللغوي والفني، من التعريف بمؤلفه ثيوفراسطوس؛ تلميذ المعلم الأول أرسطو وصديقه ومساعده وخليفته في رئاسة اللوقيون لفترة أربت على الخمسة والثلاثين عاما، ولا بد كذلك من توضيح علاقة الكتاب بفلسفة أرسطو وتلميذه في الأخلاق، ومن الإشارة باختصار إلى تأثيره الممتد على أجيال عديدة من الأدباء والعلماء والمفكرين والدارسين. (2)
ولد ثيوفراسط في مدينة إريزوس بجزيرة لسبوس (موطن سافو أول وأرق شاعرة غنائية في تاريخ الشعر الغربي)
1
صفحه نامشخص
لأسرة يبدو أنها كانت ميسورة الحال (عاش من حوالي 371- 372 قبل الميلاد إلى حوالي 287 - 288). ويروى أن اسمه الأصلي الذي كان يدعى به هو تيرتاموس، وأن أرسطو هو الذي سماه ثيوفراسطوس (أي المتحدث الإلهي) إعجابا بقدراته ومواهبه الفائقة في الفصاحة وحسن الكلام. وبعد أن أتم تعليمه في مسقط رأسه ذهب إلى أثينا، وحقق حلمه وحلم كل شاب طموح للثقافة الجادة في أيامه بالدخول في أكاديمية أفلاطون وقت أن كان الفيلسوف نفسه لا يزال حيا، كما كان أرسطو - الذي يكبر ثيوفراسط باثني عشر عاما - يعمل في الأكاديمية ويشغل ما يمكن أن نسميه اليوم مهمة المعيد أو المدرس المساعد. وبعد موت أفلاطون (حوالي سنة 347 / 348) توجه ثيوفراسط مع أستاذه - الذي توثقت علاقة المودة والصداقة بينهما - إلى مدينة آسوس
2
في ضيافة الطاغية
3
هيرمياس الأتارنوسي الذي يبدو أنه كان قد أبدى رغبته في افتتاح فرع للأكاديمية الأفلاطونية في بلده. واضطر الفيلسوفان أن يغادرا المدينة، أو إذا أردنا الدقة أن يهربا منها بعد موت هيرمياس ونهايته الفظيعة (قتل عام 345ق.م.)، وأن يذهبا معا إلى مدينة ميتيلينة بجزيرة لسبوس للإقامة فيها فترة قصيرة حسب مشورة ثيوفراسط أو في ضيافته، ولكنهما لم يطيلا المكث هنا أيضا؛ إذ سرعان ما رافق صاحبنا معلمه وصديقه إلى مقدونيا بدعوة من ملكها فيليب والد الإسكندر الأكبر، حيث دامت إقامتهما في البلاط المقدوني قرابة ستة أعوام (من 341 / 342، إلى حوالي 335ق.م.) رجعا بعدها إلى أثينا. ولما مات الإسكندر الأكبر (323ق.م.)، واضطر أرسطو للفرار إلى مدينة خالقيس عاصمة جزيرة أيوبيا - من اضطهاد الوطنيين الأثينيين الذين اتهموه بممالأة المقدونيين والتواطؤ معهم - ثم عاجله الموت (في عام 322)؛ تولى ثيوفراسط رئاسة المدرسة المشائية (اللوقيون) التي كانت تقوم حتى ذلك الحين على الروابط الشخصية، وتفتقر إلى القدر الكافي من التماسك والرسوخ. واستعان ثيوفراسط بتلميذه ديمتريوس الفاليروني
4
في الحصول على قطعة أرض مزودة ببعض المباني الصالحة لتدبير شئون المدرسة المشائية وإضفاء الصبغة القانونية عليها. ومع أنه كان متحفظا بطبعه تجاه الصراعات السياسية الدائرة بين المقدونيين والحزب الأثيني المعارض لهم، كما حافظ على العلاقات الطيبة مع الحكام المقدونيين حرصا على المدرسة وضمانا لاستمرارها في أداء مهمتها؛ فإن هذا لم ينجه ولا أنجاها من الهجمات التي شنها الحزب الأثيني عليهما. وجه إليه شخص مريب يدعى هاجنونيدس تهمة التجديف على الدين، ولكن المحكمة برأته منها بأغلبية ساحقة، كما حاول شخص آخر - يسمى لسوء حظ مؤلف أوديب وأنتيجونا وإليكترا وغيرها من المسرحيات الخالدة باسم سوفوكليس! - أن يخضع المدرسة المشائية لإشراف الدولة، فغادر ثيوفراسط أثينا ومعه بعض فلاسفة المدرسة احتجاجا على هذا الإجراء الخطر الذي لم يلبث أن سقط بمساعدة أحد تلاميذه الأوفياء.
والظاهر مما بقي لدينا من معلومات أن ثيوفراسط كان معلما كفئا جمع بين الذكاء والبراعة والجدية والطيبة والإخلاص، وغيرها من المواهب التي تجذب المتعلمين إلى المعلم كما ينجذب الفراش إلى النور؛ ولذلك لا نعجب من الأخبار التي تقول إن تلاميذه زاد عددهم على الألفين، ومنهم أعلام مشهورون مثل مجدد الكوميديا ميناندر،
5
والسياسي سابق الذكر ديمتريوس الفاليروني، والخطيب داينارخوس،
صفحه نامشخص
6
والطبيب إيراسستراتوس،
7
والفيلسوفان ستراتون
8
وأركيزيلاوس.
9
أما عن حياته الخاصة، فالمعروف أنه آثر أن يبقى عزبا حتى لا يعطله الزواج أو تعوقه تكاليف الأسرة عن التفرغ للنظر والتأمل الفلسفي. وقد امتد به العمر وعاجلته متاعب الشيخوخة، فكان لا يتحرك في أخريات أيامه إلا على نقالة، وأغلب الظن أنه ظل متشبثا بالقيام بواجبه نحو مدرسته وتلاميذه حتى جاءت النهاية المحتومة بعد الخامسة والثمانين (حوالي 286 أو 287ق.م.)، فشيعه جمهور كبير من المواطنين إلى مثواه الأخير في أثينا. (3)
كان ثيوفراسط في العشرين من عمره عندما دخل أكاديمية أفلاطون، واختار أن يأخذ العلم على أرسطو الذي يكبره باثني عشر عاما - كما سبق القول - وتوثقت العلاقة بينهما على مدى ثلاثين سنة، فأصبح مساعده وزميله في البحث والدراسة وأقرب أصدقائه إليه، ثم كان عليه وهو في الخمسين من عمره أن يخلف المعلم والصديق في رئاسة مدرسته لمدة تربو على الخمسة والثلاثين عاما. ولا شك أن السؤال الذي يخطر على البال هو إلى أي حد تأثر في أعماله - التي فقد أغلبها ولم يبق من معظمها سوى شذرات متناثرة - بمعلمه الكبير، وهل استطاع أن يستقل بفكره وفلسفته ويكون لنفسه نسقا خاصا به، هذا إذا ثبت وجود مثل هذا النسق على الإطلاق؟ والجواب على هذا السؤال المركب يحتاج للنظر في أعمال ثيوفراسط ومنهجه في البحث والآراء المختلفة حول هذا الموضوع.
الواقع أننا لن نستطيع أن نحدد عدد البحوث التي تركها ثيوفراسط تحديدا دقيقا. وعلى الرغم من وجود ثبت قديم لأعماله يحتوي على أكثر من مائتي عنوان، فبعض هذه العناوين مكرر، وبعضها الآخر لا يخرج عن كونه فصولا من كتب أكبر.
صفحه نامشخص
10
ومع ذلك فإن هذا الثبت يظهرنا على ضخامة حجم البحوث التي كتبها وتنوع الميادين التي استوعبتها تنوعا مذهلا؛ فهي تكاد تغطي كل مجالات المعرفة البشرية؛ من المنطق والميتافيزيقا والمسائل الأساسية في الفيزياء وسائر العلوم الطبيعية كالفلك والطقس والهيدرولوجيا (علم المياه) والتعدين والزلازل، إلى النبات والحيوان والطب وعلم النفس، ومن الأخلاق والسياسة والاقتصاد والطب والتشريح إلى الخطابة وفن الشعر والأدب وتاريخ الحضارة وتاريخ العلم. وقسا الزمان (أو خرونوس الذي تؤكد أساطير اليونان أنه يبتلع كل شيء!) عليه وعلينا، فلم يحفظ من أعماله الكبرى سوى كتابيه عن النبات والميتافيزيقا، إلى جانب عدد من البحوث الصغيرة - التي تبدو مجتزأة من بحوث أكبر وأشمل في العلوم الطبيعية والفسيولوجيا، فضلا عن شذرات عديدة وتلخيصات ومقتطفات مختلفة وردت عند بعض المؤلفين المتأخرين.
11
وأخيرا بقي لنا هذا الكتيب الذهبي عن «الطباع»، وإن كان بعض المتأخرين يرجحون - كما سنرى - أن ثيوفراسط لم يقتصر على الطباع السيئة التي قدمها في ثلاثين نمطا أو نموذجا سيطرت عليهم الرذائل بصور مختلفة، وإنما قدم نماذج أخرى طيبة أو خيرة لم يبق لها أثر.
وإذا كانت الأعمال الأدبية بالمعنى الدقيق قليلة إلى حد الندرة في التراث الذي خلفه ثيوفراسط، فإن معظم أعماله لا يزال يحمل الخاتم الذي انطبع عليه بحكم نشأته وسبب وجوده، وأعني به طابع التعليم والمحاضرة التي تبتعد في أسلوبها وطريقة تأليفها عن الزخارف الخطابية والملاحظات الجزئية والتبسيط الذي يقصد به عامة القراء. وربما أمكن تقسيم كتابات ثيوفراسط إلى خمسة أنواع متميزة:
مواد متفرقة من تجميع المؤلف (ولم يصلنا أي كتاب من هذا النوع)، وملاحظات نقدية عن آراء فلاسفة آخرين (ومن أمثلة ذلك كتابه عن الإدراكات الحسية)، وكتابات «إشكالية»، أي تطرح مشكلة معينة وتعرف بالصعوبات التي تنطوي عليها من اقتراح الطريق أو الطرق الممكنة لحلها (ومن هذا النوع كتابه عن الميتافيزيقا)، وبحوث وصفية أو تقريرية عن وقائع معينة (مثل كتابه عن تاريخ النبات)، وأخيرا تأتي كتاباته عن الأسباب أو العلل الممكنة للوقائع المختلفة (ومن أمثلة ذلك كتابه عن علل النباتات). وغني عن الذكر أن هذه الأنواع بمناهجها المختلفة يمكن أن تجتمع في كتاب أو بحث واحد؛ فكتابته عن النار تشرح عللها وأسبابها، كما تقدم أوصافا وآراء نقدية مختلفة في الفقرة التي يتكلم فيها عن شكل اللهب، حتى ليذهب إلى حد الشك في كون النار أحد العناصر الأربعة الأولية كما قال بذلك القدماء؛ ومن ثم إلى حد الشك في أسس الفيزياء القديمة بأكملها. وعلى العكس من ذلك نجد أن بحثه عن الأحجار والأراضي مجرد تجميع لوقائع كثيرة، وإن كان لا يخلو تماما من النظرة في العلل والأسباب، ولا من الآراء النقدية النافذة. والمهم أن أعماله تكشف في جملتها عن براعته في تحديد المشكلة، وبيان صعوباتها، وقدرته على توجيه النقد لغيره، ودقة ملاحظته، وقدرته على التصنيف والتقسيم التي تتجلى قبل كل شيء في كتاباته عن النباتات والمعادن، وكل ذلك إلى جانب «منهجيته» ونزعته التجريبية التي تجعله - بعد أرسطو - أحد رواد المنهج العلمي الذي لا تنفصل فيه قوة الملاحظة عن النقد العقلي، ولا تجميع المادة عن الشك والتساؤل المستمر ومناقشة آراء السابقين ونقدها. (4)
ونأتي إلى السؤال العويص عن علاقته بأستاذه وصديقه، ومدى تأثره به أو استقلاله عنه. وهو سؤال عويص؛ لأن الباحثين والمؤرخين منذ القرن الأول قبل الميلاد قد درجوا على وضع ثيوفراسط في موضع الظل من أرسطو؛ أي إنهم رجعوا لأعماله لاستكمال الأجزاء الناقصة من النسق الأرسطي أو على الأقل لشرحه وتفسيره، ونظروا إليه في الحالين كأحد أتباعه، أو على أحسن الفروض باعتباره أوفى المحافظين على فلسفته. صحيح أنهم اعترفوا له بتعديل شيء أو إضافة أو تصحيح شيء هنا أو هناك من فلسفة المعلم الأول (مثل نظريته عن الأقيسة الشرطية التي أضافها - قبل الرواقيين ثم المناطقة العرب - لنظرية القياس عند أرسطو، ومثل رده لأحكام «الجهة» إلى الترجيح والاعتقاد الذاتي، ومعارضته لفكرة أرسطو المشهورة عن غائية الطبيعة بالرغم من دفاعه عن فكرته عن قدم العالم، بجانب كونه أحد رواد التاريخ الفلسفي من خلال عرضه لآراء الفلاسفة الطبيعيين قبل إبداء انتقاداته لها، وإدخاله لمفاهيم ومصطلحات عديدة (مثل مصطلح التكيف للبيئة والظروف المحيطة؛ الأويكيوزيس) من العلوم الطبيعية والبيولوجية المختلفة في اللغة الفلسفية، إلى جانب اهتمامه بدراسة الحياة الشعبية والأمثال والطباع نتيجة اهتمامه بالبحوث النفسية حتى عند الحيوانات).
12
استطاعت البحوث الحديثة عن ثيوفراسط أن تخرجه إلى حد كبير من ظل أرسطو الذي خيم عليه ما يقرب من عشرين قرنا، وهي الآن - كما يقول الأستاذ بيتر شتاينمتز الباحث في أعماله وناشر ومحقق ومترجم النص الأصلي لكتابه عن الطباع - في الطريق إلى بلورة فلسفته المستقلة التي بدأت معالمها في الوضوح بعد رحيل معلمه وصديقه.
والحقيقة أن القول بوجود فلسفة مستقلة لثيوفراسط أو إنكار ذلك ونفيه إنما يتوقف على تتبع العلاقة بين التلميذ والمعلم تتبعا تاريخيا يكشف عن الاستقلال التدريجي مع البقاء على الإخلاص والوفاء وإعلاء البناء على الأسس التي وضعها الأستاذ والصديق، ولا بد لتوضيح هذا من الكلام باختصار عن تطور كتابات ثيوفراسط وما طرأ عليها من تطور وتغير. (5)
صفحه نامشخص
في تقديري المتواضع أن العلاقة التي ربطت بين ثيوفراسط وأستاذه هي النموذج الأسمى لعلاقة التلميذ بالمعلم؛ فهو يأخذ عنه ويتعاون معه ويعمل بوحيه ومشورته، ولكن هذا لا يمنعه من الاستقلال برأيه، على الأقل في دقائق التفصيل والشرح والتفسير. وهو حين يمتد به العمر لا يجاهر بمعارضته ولا يرميه بالسهام بعد أن اشتد ساعده، وإنما يعلي البناء - كما سبق القول - على الأسس التي وضعها المعلم، ولا يكترث بعد ذلك أن ينسب البناء له أو لأستاذه. وعسى ألا أكون مبالغا إذا قلت إن القليل الذي قرأته لثيوفراسط أو قرأته عنه يؤكد أنه كان يتحلى بفضيلة التواضع والعرفان الذي يحمله التلميذ الوفي لأستاذه، وإن لم تحل هذه الفضيلة بينه وبين توجيه النقد للأستاذ كلما احتاج الأمر في تقديره لتوجيه النقد، ثم الاستقلال بالرأي الخاص الذي يعد في الحقيقة من تمام الوفاء للأستاذ الذي لا يسعده أن يكون تلميذه نسخة منه ولا لسانا ناطقا عنه ومرددا لأقواله، كما لا يسعده أن يتحول تلميذه إلى كلب يعضه في حياته أو بعد موته، أو إلى شاهد زور عليه وكاتب للعرائض ضده.
كتب ثيوفراسط في سنوات الطلب بعض البحوث والدراسات تحت إشراف أرسطو وتوجيهه، ولكن لم يصلنا للأسف شيء منها. ولما اكتسب ثقة المعلم الأول الذي أتاح له أن يعاونه في البحث وتجميع المادة اللازمة لدراساته العلمية والطبيعية المختلفة على طريقته الاستقرائية المعروفة، كتب دراسات «دوكسوجرافية» تتبع فيها آراء الفلاسفة الطبيعيين السابقين وشرحها وقيمها في لغة «مشائية»، ومن ذلك دراساته عن النبات التي لا أشك في أن أرسطو نفسه قد أفاد منها - حتى إذا بلغنا المرحلة التي تولى فيها رئاسة اللوقيون لم نجد بأسا من أن نفترض أنه كتب بعض بحوثه وفي ذهنه توجيهات المعلم الراحل وإرشاده، دون أن نستبعد مع ذلك أنه بدأ في الاستقلال بالرأي والشروع في إرساء معالم «نسقه» الخاص به. وربما جاز القول بأن العلاقة بينه وبين أستاذه خلال العشرين سنة الأخيرة من تعاونهما المشترك كانت علاقة أخذ وعطاء، وأن أستاذية المعلم الأول لم تقتصر على التوجيه والإرشاد، بل تعدتهما إلى التلقي من التلميذ والصديق الحميم، عل الأقل من خلال الحوار وتبادل الآراء.
وغني عن الذكر أن مهمة الباحثين المحدثين والمعاصرين في الكشف عن تأثير ثيوفراسط على أعمال أرسطو المتأخرة لا بد أن تكون شاقة بقدر ما هي شديدة الأهمية. وإذا كانوا قد قطعوا خطوات ملموسة على هذه الطريقة، فلم تزل أمامهم خطوات أخرى ينتظر منهم إنجازها ليمكن الكلام عن نسق فلسفي متبلور وواضح المعالم لثيوفراسط، وهو الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن بصورة كافية.
والحق أن هذه الطريقة «التاريخية» في الاستدلال تجعلنا نستبعد على ثيوفراسط أن يكون قد انزلق بعد موت أرسطو إلى الوقوع في خطأين لا نظن أن وفاءه لأستاذه من ناحية، وتكوينه العقلي والعلمي من ناحية أخرى، كان من الممكن أن يستدرجاه إليهما؛ أولهما: هو اتخاذ موقف الهجوم على أستاذه، أو على الأقل موقف المعارضة أو المناقضة الصريحة لآرائه ومذاهبه. وثانيهما هو محاولة وضع أفكار صديقه وأستاذه في قالب اعتقادي متزمت أو نهائي، لا سيما أنه - أي ثيوفراسط - قد تعلم من صحبته الطويلة لأرسطو أن هذا الأخير لم يكن يتوقف عن فحص آرائه ومراجعتها وتعديلها وتغييرها إذا لزم الأمر، شأن كل فيلسوف أصيل.
13
أي طريق بقي له إذن أن يسلكه لكي يكون نفسه من جهة، ولكيلا يتهم نفسه أو يتهمه أحد من جهة أخرى بالتنكر أو الجحود؟
لم يتبق إلا مواصلة البناء على الأسس التي أرساها المعلم والصديق كما سبق القول، مع الاستمرار في فحص هذه الأسس ومراجعتها واقتراح بدائل أخرى كلما اقتضى الأمر.
هذا هو الذي فعله ثيوفراسط ولم يكف عن فعله؛ فهو يطرح المشكلة كما وضعها أرسطو، ثم يناقش هذا الوضع بطريقته الإشكالية «أو النقدية المتسائلة»؛ إما لكي يقترح وضعا أو حلا آخر للمشكلة، أو لكي يواصل البحث فيها أو يشير على غيره بمواصلته. ومن الأمثلة التي تدل على هذا المنهج الذي سار عليه نذكر بحوثه في كتابه عن «الميتافيزيقا» عن مفاهيم مختلفة كمفهوم المكان والحركة، ومناقشته لنظرية العناصر الأربعة الشهيرة في بداية بحثه الذي أشرنا إليه من قبل عن النار إلى حد التشكك في النظرية نفسها. أضف إلى هذا عددا من دراساته وبحوثه في موضوعات جزئية لا تكاد تحصى، وإن كان معظمها يدور حول موضوعات متصلة بالعلوم الطبيعية التي انصب عليها معظم اهتمامه وجهده. إنه يصل في هذه البحوث إلى نتائج جديدة، تطرح بدورها أسئلة جديدة، وتجعله أثناء ذلك ينصرف عن بناء نسقه الخاص أو على الأقل يؤجله إلى أن يفرغ من بحوثه «النوعية» التي لا تنتهي، ولكن هذا لا ينفي أنه كان بصدد تأسيس أو إعلاء بناء مختلف عن بناء المعلم الأول. وما زالت مهمة الكشف عن معالم هذا البناء أو تحديد هذا النسق المتميز في بدايتها، وتحتاج إلى مزيد من البحث والجهد لإتمامها.
14 (6)
استدل الباحثون من القراءة المتأنية ل «الطباع»، والنظر في التاريخ الاجتماعي والسياسي والحضاري الذي يحيط به ويتغلغل أحيانا فيه (لا سيما في اللوحة الثامنة عن مروج الإشاعات، وفي اللوحتين السابعة عن الثرثار والسادسة والعشرين عن الأوليجاركي أو المتسلط وغيرهما بدرجة أقل)؛ استدلوا على أن ثيوفراسط قد كتبه بعد سنة 319 قبل الميلاد؛ أي بعد أن ناهز الخمسين من عمره وقضى في رئاسة «اللوقيون» ما يربو على الثلاث سنوات. وهو يقدم فيه كما سوف يرى القارئ ثلاثين لوحة (أو رسما تخطيطيا حيا) جمعها إلى جوار بعضها بغير نظام يربط بينها، ولا مقدمة تمهد لها. ويبدو أن أحد المعجبين المجهولين ب «الكتيب الذهبي» قد عز عليه ذلك، فتطوع بأن يضيف إليه - في العصر البيزنطي على أرجح الأقوال - مقدمة من عنده ثبت بعد مراجعة نص البردية الأصلية أنها منحولة - ولم يكتف بهذا، بل مر بقلمه على بعض اللوحات فدس عليها بعض المواعظ الفجة التي لم يجد الباحثون مشقة كبيرة في التحقق من زيفها واستبعادها.
صفحه نامشخص
سيلاحظ القارئ أن ثيوفراسط يقدم في هذه اللوحات ألوانا مختلفة من الضعف البشري أو من الخطأ الذي يقع فيه الناس خلال حياتهم اليومية، وكأن هذا الضعف في تقديره رذيلة فاحشة، أو كأن الخطأ عيب أخلاقي خطير، بينما تؤكد النظرة البسيطة المباشرة أنها مجرد زلات عادية يمكن أن ينزلق إليها الإنسان العادي بحكم طبعه أو ظروفه أو نقص تربيته وخبرته إلى غير ذلك من الأسباب، دون أن يتورط بالضرورة في جريمة تجعله يصطدم بالقانون الجنائي (ربما باستثناء حالتين تقتربان من حدود المحظور بحكم القانون السائد في ذلك الحين، وهما حالتا الجبان في اللوحة الخامسة والعشرين، وحالة النمام أو المفتري على الناس ظلما وقذفا في أنسابهم وأعراضهم في اللوحة الثامنة والعشرين). واللافت للنظر أن هؤلاء العاديين أو الأوساط - الذين لا ينتمون للصفوة أو علية القوم، ولا يمكن القول أيضا بأنهم من المنبوذين أو طريدي المجتمع - هم من أولئك الذين تخطوا سن الشباب وبلغوا منتصف العمر، أو تجاوزوه أحيانا إلى ما بعد الكهولة حتى شارفوا على الشيخوخة. والغريب أيضا أن أخطاءهم التي يصورها لنا ثيوفراسط تكاد تتطابق مع الأخطاء والتصرفات السلوكية المعيبة التي تصدر في رأي أرسطو عن المتوسطين وكبار السن.
ولكن من أي نبع واقعي استقى ثيوفراسط نماذجه وأنماطه التي يقدمها لنا برؤية الفيلسوف الذي «أدركته» لعنة الفن أو بركته كما تشاء؟
والجواب الذي لا شك في أن القارئ قد توصل إليه هو أنه قد التقط هذه اللوحات والصور من أصول أثينية كانت ماثلة أمام عينيه في أثينا، في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ومع بدايات العصر الهليني المبكر وحكم خلفاء الإسكندر المقدوني لعاصمة الثقافة والفكر الفلسفي، بكل ما كان يضطرب فيها من صراعات وأوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية أثرت على «أخلاق» هذه النماذج وعاداتهم ومواقفهم وردود أفعالهم، بل ربما تذكر القارئ المطلع على التاريخ اليوناني والأثيني بوجه خاص في أواخر القرن الرابع العجيب أثناء متابعته لأخلاق وطباع بعض هذه النماذج شخصيات محددة وأحداثا ووقائع تاريخية معينة سبق أن عرفها وتراءت لخياله، وسوف يزداد لديه هذا الشعور عندما يتابع أصحاب الطباع المتميزين، مثل مروج الإشاعات (8) والمؤمن بالخرافات (16) والأوليجاركي المتسلط والمتزمت لطبقته الثرية المستغلة ضد الفقراء وعامة الناس (26).
لا شك أن القارئ سيشعر بالحزن عندما يكتشف أن التجريد الفلسفي قد أضر برسم ثيوفراسط لأصحاب هذه الطباع وأخلاقهم إلى الحد الذي كادت معه أن تصبح صورا لأنماط كاريكاتيرية تعاني من فقر الدم واللحم أيضا، ويندر أن تقدم لنا شخصيات حقيقية بكل ما يميز الشخصية من حيوية وتفرد وغنى وتركيب معقد في السمات والخصائص الباطنة والظاهرة. وقد يأخذ عليه القارئ أيضا أنه يقعر ملاحظاته عن تلك الشخصيات - أو الأخلاق والطباع كما يسميها - على ما يصدر عنها من أفعال وتصرفات سلوكية يسخرها لخدمة غرضه من إبراز العيب أو الخطأ أو الضعف الذي يريد تركيز أضوائه عليه وحده دون غيره (وهذا من آفات الغلو في التصنيف الذي برع فيه المصنف الأول على الأصالة!) تاركا وراء ظهره ما يستلزمه رسم الشخصية الحية من تصوير الظروف العائلية، والأطر المكانية والزمانية، والأوضاع الطبقية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تؤثر عليها. ولكن كاتب هذه السطور - الذي أدركته كذلك لعنة الفن أو بركته لا أدري، ولمسته بعصاها السحرية المؤلمة! - لا يمكنه أن يعمم هذا الحكم على إطلاقه، ولا يستطيع ضميره الأدبي ولا العلمي أن يحرم الرجل من الحاسة الأدبية والرؤية الفنية، وذلك على الأقل في اللوحات التي يتطرق فيها لتلك الظروف والأوضاع لخدمة غرضه الذي أشرنا إليه من ناحية، ولأنه يطوي في نفسه - رغم أنف التعليم الفلسفي الذي أنفق فيه عمره وجهده! - روح فنان لا شك فيه. لو لم يكن الأمر كذلك لما أثرت شخصيات هذا الكتاب أو بعضها إذا شئنا الدقة على العديد من كتاب المسرح، ابتداء من تلميذه الفذ ميناندر - كاتب الكوميديا الجديدة - إلى موليير في القرن السابع عشر وكثيرين غيرهما من القصاصين والروائيين حتى عصرنا الحاضر كما سنرى بعد قليل. (7)
لعل النزعة التي غلبت على ثيوفراسط وجعلته يميل إلى التنميط الكاريكاتيري أن تكون راجعة إلى النزعة الشكلية أو الصورية التي تسلطت عليه ودفعته إلى وضع نماذجه في قالب محدد لا تخرج عنه (هل نلقي الذنب مرة أخرى على صاحب النظرية المشهورة عن الصورة والمادة أو الشكل والمضمون كما نقول اليوم؟!) فهو يرسم جميع الطباع وفق تخطيط واحد لا يتغير؛ إذ يبدأ بتعريف مفهوم الرذيلة أو الخطأ أو وجه الضعف والنقص الذي سيتكلم عنه، ثم يشرع خطوة خطوة في وصف الأفعال وسرد المواقف التي تبين طبع المبتلى بتلك الرذيلة أو الضعف في صورة عيانية حية تكاد تجعلنا نسير معه في شوارع أثينا، أو ندخل معه في بيوتها ودكاكينها وقاعات مجالسها الشعبية، أو نعايشه في تصرفاته مع زوجته وأولاده وأصحابه، وحتى في ميدان الحرب التي تشنها بلده على أعدائها أو تضطر لخوضها دفاعا عن نفسها ...
هل نقول إن التعريفات التي تتصدر اللوحات هي نتاج عملية منطقية بحتة لكي نلقي التهمة في هذه المرة على المنطق، أم نقول إن تلك التعريفات مع ما يترتب عليها من «أمثلة توضيحية» قد استخلصت من نسق محدد في فلسفة الأخلاق، سواء كان هذا النسق لأرسطو أو لثيوفراسط نفسه؟ الواقع أن الأمرين مستبعدان؛ فنحن لا نلمس من الكتاب أن صاحبه قد حاول في عرضه للرذائل والعيوب أن يستفيد على أي وجه من الوجوه من نظرية أرسطو المشهورة عن الفضيلة، بحيث تكون الرذيلة أو العيب الذي يصوره مجرد طرف متطرف للسلوك الوسط المعتدل الذي نطلق عليه صفة الفضيلة. أما التعريف الذي يلجأ إليه ، فهو ضرب من التبسيط والتحديد أو التثبيت الذي يعبر عن روح المنطق الصوري، كما يعد عنصرا من عناصر التفكير القديم خصوصا منذ عهد أفلاطون وأرسطو حتى قيام المنطق الجدلي الحديث.
ومهمة التعريف الذي تبدأ به اللوحة هي تحديد مضمون المفهوم أو التصور والمعنى الذي تدل عليه الكلمة التي يراد تعريفها على النحو الذي ترد به في لغة الكلام العادي، لا في لغة المنطق أو لغة المصطلح الفلسفي الدقيق. من أمثلة ذلك أن كلمة «دايزيدايمونيا»
15 - ومعناها الحرفي هو خشية الله - تعرف بالمعنى الشعبي الشائع الذي ينطوي على «الوسوسة» والاعتقاد الساذج في الخرافات بأنها هي الجبن في مواجهة القوى الإلهية (أو القوى الفائقة للطبيعة. راجع اللوحة رقم 16)، كما أن كلمة «أيسخروكرديا»،
16
أي السعي المشين إلى الكسب، تعرف كذلك بالمعنى الشائع بين الناس عن البخل الفظيع والبخيل الجشع المنفر (راجع اللوحة رقم 30)؛ فكأن المقصود بالتعريف هو تنبيه القارئ لمعنى الكلمة المعرفة، وتبرير الدوافع الكامنة وراء التصرفات والمواقف التي يتم سردها واحدا بعد الآخر، كأنها «حيثيات» الحكم الذي صدر منذ البداية!
صفحه نامشخص
والملاحظة أن هذه «الحيثيات» التي تعرض علينا الألوان المختلفة من السلوك المعيب أو المضحك أو المقزز إلخ، تأتي من ناحية البنية أو التركيب اللغوي الأصلي على هيئة جملة واحدة (هو من النوع الذي، أو هو ذلك الذي) تتبعها سلسلة طويلة من الصيغ المصدرية المتلاحقة. ولا يغير ثيوفراسط هذا القالب إلا في حالات نادرة نجده فيها يستعيض عنه بتعبيرات مقاربة، كأن يقول مثلا «ومن عادته أن يفعل كذا وكذا، أو أن لديه القدرة على كذا وكذا»، بحيث يستطرد في الأوصاف التي تؤيد التعريف الذي بدأ به. هذه الأوصاف التي يسردها للتصرفات السلوكية تأتي عادة على شكل تقديرات وصفية لمجموعة من العادات التي يتبعها «الطبع» الذي يتحدث عنه، كما تستلزم مجموعة أخرى من اللوازم التعبيرية والمواقف السلوكية التي يتفاعل معها صاحب هذا الطبع ويسجلها المؤلف بصورة نمطية مطردة. وهذا الأسلوب النمطي المطرد يخلو في معظم الأحيان من أي تنويع أسلوبي، كما يستغني عن أي زخرف بلاغي، بحيث نجد أنفسنا - كما سبق القول - أمام تقريرات موضوعية محايدة عن ألوان متفرقة من سلوك البشر العاديين في حياتهم اليومية، وبحيث نتصور أننا أمام عالم نفسي سلوكي حديث يرصد الظواهر، ولا يعطي نفسه الوقت ولا الفرصة لتحليل معانيها الباطنة أو دلالتها على الحالة النفسية للشخصية التي يتحدث عنها. ومع ذلك فلا يصح مرة أخرى أن نعمم الحكم؛ لأننا نشعر في بعض اللوحات أن الفيلسوف والعالم قد فك قيوده وترك نفسه للفنان أو للقاص الكامن في داخله، بل إننا لنلمس هذا أحيانا في تشكيل «المشاهد والمواقف المختلفة واللغة الدقيقة الحية المعبرة عنها». ويكفي في هذا الصدد أن يراجع القارئ بعض اللوحات (مثل مروج الإشاعات والجبان في اللوحتين رقم 8 و25 على الترتيب) ليرى كيف تحول القلم فجأة إلى ريشة ترسم موقفا حيا بالغ الطرافة والروعة لا ينقصه إلا أن يدخل في بناء قصصي أو مسرحي أكثر تركيبا وأقدر على تضفير خيوط «الحبكة» والوصول بها إلى الذروة ثم الحل. ولو ألقينا على سبيل المثال نظرة خاطفة على لوحة المجامل (اللوحة الخامسة) لأدهشتنا قدرة ثيوفراسط على تصوير المواقف المضحكة لهذا الإنسان العجيب الذي يتسول رضا السادة بكل وسيلة، فيكسب تعاطفنا معه ورثاءنا له، وربما التمسنا له الأعذار وفكرنا في الأسباب الاجتماعية التي ألجأته لإهانة نفسه بهذه الصورة المضحكة المبكية. هل نستغرب بعد ذلك أن يكون هذا الكتاب منبع وحي لا ينضب لكوميديا الموقف، وللسخرية القاسية أو الرحيمة من تفاهة «البرجوازي»، وغباء الإنسان العادي أو سذاجته أو ضيق أفقه، وإثباته على مر التاريخ أنه لا يتعلم أبدا من التاريخ؟ (8)
ذكرت من قبل أن كتاب الطباع ليس عملا فلسفيا بالمعنى الدقيق، ولا يندرج تحت فلسفة الأخلاق كما يفهمها المشتغلون بها. ومع ذلك فهو عمل كتبه فيلسوف تتلمذ على المعلم الأول وكتبه في الأخلاق، وله هو نفسه فلسفته الأخلاقية المستقلة من بعض الوجوه. فإلى أي حد تأثر بأستاذه في شكل هذا الكتاب وفي مضمونه؟ وكيف انعكست فلسفته في الأخلاق - ولو بصورة غير مباشرة! - على فهمه للطباع ورسمه لأنماطها الطريفة أو المقززة؟
من المعروف أن أرسطو يتوسع خلال وصفه لإحدى الفضائل أو الرذائل توسعا شديدا في عرضه لألوان السلوك والتصرفات التي تميز الشخص الذي تنطبق عليه تلك الفضيلة أو الرذيلة التي عني بتحديد ماهيتها؛ أي إن الجانب العملي أو الحياتي المتعلق بالممارسة لم يغب عن بال صاحب الأخلاق إلى نيقوماخوس أو الأخلاق الأويديمية وغيرهما. بيد أن الإنصاف للحقيقة يقتضينا القول بأن «طباع» ثيوفراسط لا تفهم من جهة الأخلاق الأرسطية، بل على أساس فلسفته هو نفسه في الأخلاق.
إن عنوان الكتاب لا يخلو في حد ذاته من دلالة هامة؛ (فثيوفراسط هو أول من استخدم كلمة «الطباع» (خاركتير
17
للتعبير عن النفس الإنسانية ووصف دخيلتها. وأخذت عنه اللغات الأوروبية هذه الكلمة مع المعنيين اللذين تتضمنهما: معنى «الطابع» الذي يدل عليه تركيبها اللغوي بما في ذلك الأداة المستعملة في الطبع أو الختم، ثم معنى «المطبوع» أو الهيئة الحاصلة من الطبع أو الختم (أو الصك عندما تكون بصدد طبع العملة أو صكها). ومن هنا يمتد المعنيان إلى الإنسان وطبعه الذي تكشف عنه ملامح وجهه أو سمات تعبيره ونطقه التي يمكن أن تتطبع بلهجة أو لكنة معينة. وفي الحالين يفهم من الطبع أنه ثابت لا يمكن تغييره، وإن أمكن تربيته وصقله وتهذيبه بوسائل مختلفة. ولا بد أن تطبيق الكلمة مع المعنيين المقترنين بها على الإنسان هو الذي حمل ثيوفراسط على أن يضيف إليها صفة شارحة، بحيث أصبحت هي الطباع الأخلاقية التي «تنطبع» على ذلك الجزء من أجزاء النفس الذي تمتد فيه جذور الدوافع التي تجعل الفرد يقدم على هذا الفعل أو ذاك، والذي لا دور للعقل فيه إلا بقدر طاعته لأوامره وإرشاداته. والواقع أن البنية اللغوية والشكلية للنماذج أو الأنماط الثلاثين ترتبط بالمعاني التي استخلصناها من كلمتي العنوان؛ فلا يكاد المؤلف ينتهي من تقديم تعريفه لمفهوم الطبع وللشخص الذي يتصف به حتى تتوالى الصيغ المصدرية التي تسرد علينا أنواع السلوك المختلفة من حيث هي نتائج مترتبة على ذلك الطبع الذي «تطبع» به الإنسان وانتهى الأمر. (ربما تتجلى هنا أيضا الطبيعية «القدرية» للعقل والوجدان اليوناني، على الرغم من حديث بعض الفلاسفة - مثل أرسطو وثيوفراسط نفسه - عن الأسس المادية والبيولوجية للأخلاق والطباع الثابتة.)
ولكن ما هو الأصل في هذه الطباع - أو الماهيات الأخلاقية والنفسية - الثابتة؟
يرى أرسطو أن الفضيلة والرزيلة ينشآن بتأثير ثلاثة عوامل متداخلة؛ هي طبيعة الإنسان، والتعود أو المران والممارسة، ودور العقل في الإرشاد والتوجيه؛ مع العلم بأن دور العاملين الأولين ووزنهما أكبر وأهم. وإذا كان أرسطو يتصور الطبيعة على أنها مجرد استعداد أو قدرة على اكتساب الفضيلة عن طريق التعود والتعلم، فإن تلميذه ينطلق من هذه البداية ليقيم الفضيلة والرذيلة، ومن ثم الأخلاق بأكملها، على أساس بيولوجي؛ فالإنسان مفطور بطبيعته على استعدادات معينة للسلوك يسميها ثيوفراسط «بذور الفضيلة». وهي استعدادات يمكن تنميتها من خلال الرعاية والتوجيه والرقابة والتهذيب؛ أي باختصار من خلال التربية (وكلمة التربية بمعناها اللغوي الأصلي عند الإغريق تدل على الصوغ أو التكوين أو التشكيل؛ أي على الطبع كما شرحناها من قبل). ويترتب على هذا أن الإنسان بحكم طبيعته ومولده لا يمكن أن يكون كائنا كاملا، وإنما يمكنه بلوغ الكمال عن طريق التربية. وإذا انعدمت التربية أو أسيء استخدامها أو انحرفت عن وسائلها وغاياتها الصحيحة، فلا بد أن يؤدي به ذلك إلى الانحراف. وطبيعي أن تكون التربية أبسط وأيسر في السنوات المبكرة من حياة الإنسان؛ لأن «ماهيته» أو «جوهره» يكون أكثر مرونة وطواعية للتشكيل و«الطبع». ولو تصورنا إنسانا ينشأ بغير تربية فاسدة، فإن الدوافع الجامحة التي تتحكم في أفعاله هي التي ستحدد ماهيته وتشكل «نواته» الباطنة، ومع الزمن تتصلب هذه النواة أو تتدرع كالسلحفاة بقشرة سميكة يصبح من المتعذر إن لم يكن من المستحيل اختراقها أو تغييرها إلا بتدمير صاحبها؛ لأن هذا الإنسان قد انطبع بطابع ثابت هو الذي يحدد أفعاله بإرادته أو في الأغلب الأعم بغير إرادته.
والطباع التي يقدمها هذا الكتاب بصور عيانية حية هي من النوع الأخير. وقد حفظ لنا ستوبايوس
18
صفحه نامشخص
في موسوعته (242) نصا مطولا بعض الشيء لثيوفراسط يمكن أن يوضح لنا رأيه في التربية، ولا بأس من ذكره لتدعيم الأفكار السابقة:
من الواضح أن التربية، وهذا أمر يتفق عليه من الجميع، تهذب النفوس، وذلك من خلال ما تقوم به من تخليصها من الانحراف، وتجنبيها الآثار المترتبة على غياب المبادئ والأصول الأخلاقية؛ وبهذه الطريقة يتم كذلك ملاءمة ماهية الإنسان للحياة في الجماعة وتطويعها. هنا لا يصح قطعا أن نوجه اللوم إلى الأوساط (أو الناس العاديين)؛ إذ تنقصهم الحرية الكاملة التي تمكنهم من تشكيل حياتهم. وعلى العكس من ذلك يصح أن نلوم أولئك الذين ينشئون حقا كبشر أحرار حرية حقيقية، ويملكون الوسائل الكافية التي تتيح لهم أن يتوصلوا لأي شكل من أشكال الحياة يحبونه، ولكنهم بالرغم من ذلك يهملون القيمة العليا. إن سلوكهم في الواقع سلوك متناقض؛ فهم إذا تركت لهم حرية الاختيار انتقوا أعظم المدن ليسكنوها، وأفضل البشر ليكونوا أصدقاءهم وجيرانهم. أما إذا ترك لهم أن يختاروا الحياة كما تتجلى في أفضل أشكالها، فإنهم يقللون من شأنها، ويصرفون أخص شئونهم تبعا للصدفة المحضة بغير أن يتأنوا في فحصها أو ينظروا فيها نظرة نقدية. وإذا اضطروا للقيام برحلة راحوا يتسقطون الأخبار من الآخرين، ويبحثون عن دليل يمكن أن يقودهم ويجنبهم الأخطار. ولكنهم، كما يقال، يرمون الزهر على الحياة كلها، ويقعون - بلا وعي أو خبرة وحسبما تشاء الصدفة - في أسوأ أشكال الحياة التي يمكن تصورها. ومع ذلك فإن الأسوأ والأشد خطرا من هذا الاختيار الذي وقعوا فيه هو العدول عن الطريق الخاطئة التي ساروا فيها بالفعل. إن الضرر في هذه الحالة كبير، والتراجع عنه عسير، بل يكاد أن يكون في حكم المستحيل؛ فلا الزمن يتيح الفرصة لإعادة التفكير، ولا طبيعة الإنسان تقدر على أن تتعلم شيئا أفضل إذا كانت قد نشأت على الشر. صحيح أنها تواصل اتخاذ القرارات والحكم على بعض الأمور الأخرى حكما أفضل، ولكنها تستمر في الحياة التي تعودت عليها. (9)
هكذا يتيح لنا كتاب «الطباع»، دون أن يجاريه في ذلك أي كتاب آخر وصلنا من العصور القديمة، أن نطل على حياة الناس وأعمالهم وأوجه نشاطهم في مجتمع الطبقة الوسطى الأثينية في مطلع العصر الهليني؛ فنحن نتجول - كما سبق القول - في الأسواق، وندخل دكان صانع الأحذية مع المتملق الذي يقرظ قدم سيده ويقول إنها أبدع من الحذاء الذي يريد أن يشتريه (راجع اللوحة رقم 2)، ونستمع إلى كثير الكلام الذي يغرق رجلا لا يعرفه في سيل كاسح من الأقوال والأحلام والتأملات والحسرات على سوء الأحوال، فضلا عن الطموحات الشخصية والآمال (اللوحة رقم 3)، ونرى كيف يقف الوقح وقليل الحياء في دكان الجزار بالقرب من الميزان، ولا يستحي من وضع قطعة لحم أو عظم في كفته، أو يخطف على الأقل شيئا من العفشة (كما تسمى المصارين في العامية المصرية!) ثم ينصرف ضاحكا (اللوحة 9)، وكيف يتسكع الفظ بين الدكاكين، ويفرض ظله الثقيل على الباعة، ويخطف أثناء ثرثرته معهم جوزة من هنا وقطعة فاكهة من هناك (رقم 11)، وكيف يختال الطموح المغرور في السوق بثياب الفرسان حتى بعد انتهاء موكب الاحتفال لكي يلفت إليه الأنظار (رقم 21)، ويخفي الوضيع مشترياته من اللحم والخضر في طيات ثوبه أثناء رجوعه إلى بيته (22)، ويتنطع الفشار في سوق الخيول مدعيا أنه يريد أن يشتري خيولا أصيلة 23).
وإذا غادرنا السوق وما يجري فيه، ودخلنا أحد الحمامات العامة، شاهدنا وسمعنا الريفي وهو يغني (4)، والفظ الذي يضن على صاحب الحمام ب «البقشيش» الذي يستحقه (9)، والمقزز الذي يستعمل زيتا قذرا بحجة أنه يريد أن يرفع نبضه أو ينتعش (19)، والمتعلم على كبر وهو يتبختر ويهز عجيزته مقلدا اللاعبين في حلبة المصارعة، ويحاول أن يتدارك ما فاته من العلم والمعرفة ومباهج الشباب وألعابه (27)، والبخيل وكيف يتطيب بزيت مستعار، ويتجمل بثياب غيره من الناس، ويتفنن في الشح والدناءة (30). ثم نذهب إلى المسرح أيضا فنرى كيف يرتب المتملق وسائد المقعد للشخصية المهمة التي يتملقها بدلا من أن يترك ذلك للخادم أو العبد، كما يتعمد الجلوس في الصفوف الأولى مع الشخصيات المرموقة (5)، وكيف يطلق الفظ نكاته السخيفة (11)، وينعس البليد أثناء العرض المسرحي (14)، ويرفض البخيل دخول المسرح إلا إذا ضمن ألا يكلفه ذلك ثمن التذكرة (30). وأخيرا نجد أنفسنا في المجلس الشعبي، حيث نستمع إلى بعض الخطب، ونلاحظ تأفف الغني المتعالي من جلوس الفقير إلى جواره، كما نتابع تصرفات الناس، سواء كانوا ضيوفا أو مضيفين، وأصدقاء أو معارف، ومشاركين في تقديم الأضاحي أو عالة عليها. وتسقط الأضواء على الحياة السياسية والاقتصادية والدينية التي يضطرب فيها الناس فنعرف آراءهم، ونسمع تعليقاتهم وإشاعاتهم، ونفهم أوضاع السادة والعبيد، والأزواج والزوجات، والمواطنين والأجانب، ونلتقط مشاهد ومسامع من اللغة الجارية والعبارات والشعارات السائدة، ونخرج من الكتاب كما نخرج من دار السينما بعد مشاهدة عرض ممتع لحياة زاخرة متلاطمة بأمواج من البشر والأفكار والعادات والأخلاق والطرائف والغرائب التي يصعب نسيانها. (10)
ربما أكون قد أسرفت على القارئ في تصوير «الخلفية» الفلسفية لهذا الكتاب إعمالا للدقة والإحاطة على قدر الطاقة، لكن الكتاب نفسه يمكنه أن يغني القارئ عن أي تمهيد طال أو قصر عن مدى أهميته من الجوانب التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ فهو قادر بنفسه على مخاطبة القارئ مباشرة، والحديث الشيق معه بلا مقدمات فلسفية أو غير فلسفية. ولا يرجع هذا للشكل البسيط الذي صيغ به على هيئة «تقارير عن الأحوال» كما قد نقول اليوم، ولا إلى المواقف وردود الأفعال المضحكة التي تبعث فينا الرغبة في الابتسام، بل ولا ترجع للبراعة الفائقة في رسم «الطبع» بخطوط مرهفة سريعة وشديدة الدقة والإيحاء. إن تأثرنا به - ميلا أو نفورا - يرجع إلى المادة ذاتها؛ أعني إلى نماذج الشخصيات أو الطباع التي تتمثل أمام أعيننا وهي تفيض بالحيوية وتضطرب وتتعثر تحت ثقل الهموم والمشكلات، أو تختال وتتبختر مزهوة بنفسها وحظها وكأنها مخلدة، أو تمشي بطيئة محنية الظهور تحت وطأة الطبيعة الموروثة التي تقهرها قهر القدر «الإغريقي» المتهجم كأنها دمى عاجزة سلبت منها الإرادة والعقل بعدما حرمت من التربية والصقل.
وليس غريبا بعد هذا - كما سبق القول - أن يجد القارئ المعاصر في هذه النماذج والأنماط مرايا تعكس بعض معارفه وأصدقائه وأهله، وليس عجيبا أن يصل به الأمر إلى حد أن يجد فيه نفسه أو جزءا من أجزائها على الأقل (إذا أخذنا بالمفهوم السائد في ذلك الحين ومنذ أفلاطون عن أجزاء النفس وقواها، لا بالمفاهيم الحديثة عن النفوس المتصارعة في داخلنا. تذكر فاوست وفرويد والمواكب المتلاحقة لعلماء النفس والطب العقلي). ولا يستبعد أيضا أن يلاحظ التناظر الشديد بين بعض هذه الطباع - حتى في حركاتهم وإيماءاتهم وتعبيراتهم ولازماتهم اللغوية ... إلخ - وبين بعض المحيطين به إلى الحد الذي ينسيه الهاوية الزمنية التي تفصله عنها، وتبلغ كما أشرنا مرارا ما يزيد على الألفين وثلاثمائة عام (من حسابنا البشري للحاضر الأبدي الممتد الذي يتحدى حدودنا الهشة وتقسيماتنا العاجزة). ولا يتصور القارئ أنني أجره إلى أوهامي وأحلام يقظتي؛ لأنه لن يكون أول من مر بهذه التجربة ورأى نفسه وناس عصره في «الطباع»؛ يكفي القول بأن أحد الرهبان في العصر الوسيط قد تعرف - أثناء قيامه بنسخ الكتاب - على بعض زملائه الذين يعيشون معه في الدير من خلال عدد من أصحاب الطباع، وأنه قد استبدل - سهوا أو عمدا لا ندري! - بكلمة «الورش» أو «المصانع الصغيرة» التي وردت في بعض اللوحات كلمة «الأديرة».
19
وهذا شبيه بما صنعه مترجم الكتاب إلى الفرنسية (1688)، وهو لابرويير (1640-1696)، الذي لم يكتف بترجمة الأصل - ترجمة فقيرة وغير دقيقة! - وإنما أسقط شخصياته وطباعه على شخصيات عصره وبلده التي لم يرحمها قلمه الساخر سخرية مرة.
هل نستدل من هذا - كما سبق أن فعلنا - على الجانب «الثابت» من الطبيعة الإنسانية؟ وهل يوافقنا أحد اليوم على هذا التعميم عن طبيعة إنسانية أو عن «ثبات» التغير والتحول المستمر في كل شيء؟ الواقع أن الذي نقصده أبسط من ذلك بكثير؛ فالوحدة التي نتحدث عنها بين أبناء البشر لا تتجلى فحسب في اشتراكهم في الآمال والأحلام والمخاوف والآلام، وإنما تؤكد نفسها قبل ذلك في أخطائهم الصغيرة وجوانب ضعفهم الكثيرة، وتعثر خطواتهم على طرق طموحهم الذي يفلت عادة من كل الحدود. ذلك فيما أظن هو الجانب الذي يمكن القول بأنه مشترك بين البشر، أو أنه يوحد بينهم على الرغم من بعد الشقة بينهم في المكان والزمان واللغات والأديان والألوان. وهذا الجانب المشترك هو الذي عجزت أساليب التربية في أيام ثيوفراسط أن تغير منه شيئا. ولعل ذلك العجز كان أحد الأسباب التي حفزت فيلسوفنا الأديب على تقديم «شواهده» على سوء التربية والتعليم وفساد الطباع والأخلاق - ترى، ماذا كان يمكن أن يفعل لو عايش أو حتى سمع عن «مافيا» التعليم الفاسد عندنا، وقبح بعض «المعلمين» الذين حولوا العلم إلى سمسرة حقيرة وتجارة رخيصة وإرهاق وحشي للتلاميذ المساكين ولآبائهم المظاليم؟! - وهل يعزينا قليلا أن نعاين نفس الوجوه القبيحة قبل ثلاثة وعشرين قرنا، وإن كان قبح الوجوه المعاصرة أشد ضراوة وخبثا وبشاعة مما كانت عليه الطباع القديمة، التي تبدو بالقياس إليها كالأطفال السذج المساكين أمام عمالقة الشر والغدر ووحوش الجشع والأنانية والانتهازية المفترسين؟! (11)
ونصل إلى تأثير «الطباع» على العصور والكتاب والقراء، فنجد أنه يحقق المقولة التي يبدئ فيها النقد الحديث ويعيد من أن العمل الواحد تختلف تفسيراته باختلاف القراء الذين يتلقونه، و«يبدعه» كل واحد منهم على طريقته أو على الأقل يشارك في إبداعه؛ فقد تراوح «التلقي» للكتيب الذهبي بين التحمس له والإضافة إليه من فرط الإعجاب به، وبين إهماله والسكوت عنه طوال عصر أو قرن كامل.
صفحه نامشخص
وكما شعر كل عصر - وربما كل قارئ! - بأن «الطباع» يخاطبه من زاوية معينة، فكذلك وضع فيه كل عصر أو قرأ فيه مشاعره وأفكاره وهمومه.
بدأت رحلة التأثر من أيام ثيوفراسط نفسه التي ازدهرت فيها الكوميديا الجديدة على يد تلميذه النابغة «ميناندر» الذي استفاد أكبر الفائدة من فكرة «ثبات» الطبع واستحالة تغييره، وقد تأكد هذا بعد العثور على مسرحيته «الديسكولوس» التي ألقت الضوء على تغلغل هذه الفكرة وغيرها في مسرحه.
ومن الكوميديا الجديدة امتدت خيوط التأثير على كتاب الكوميديا الرومان، وبالأخص بلاوتوس وتيرينس اللذين «اقتبسا» (بالمعنى الشائع اليوم في حياتنا المصرية والعربية!) أعمال ميناندر إلى حد النقل الحرفي الذي سماه النقاد بعد ذلك «إعادة إبداع» أو محاكاة خلاقة.
وعندما بدأت الفلسفة تتحول منذ النصف الثاني من القرن الثالث قبل الميلاد - كما يقول برتراند راسل في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية - إلى عربة إسعاف، وأدركت أن واجبها ومهمتها الملحة (في زمن الكساد والبؤس والأوبئة والصراعات بين خلفاء الإسكندر وضياع استقلال المدن والأفراد ... إلخ) هي هداية النفوس إلى طريق الحياة السعيدة، وشفاؤها من الرذيلة والخطأ والضعف التي كان الناس يعتبرونها من أمراض النفس التي لا يشفيها إلا الفيلسوف! ازدهرت المدارس والأفكار والكتابات الأخلاقية، سواء من جانب الأبيتوريين والرواقيين أو من الأكاديميين (نسبة إلى أكاديمية أفلاطون التي غلبت عليها المذاهب الشكية منذ ذلك الحين) أو المشائين أنفسهم.
وأصبحت «الطباع» هي النموذج والمثل الأعلى من ناحية الشكل والمضمون لكل من يكتب عن الأخلاق السائدة، ويستعين بلوحاتها أو «بورتريهاتها» في تشخيص أمراض العصر. وعلى هذه الصورة فهمت «الطباع» في مدرسة ثيوفراسط نفسه، كما تدل على ذلك بعض كتابات تلميذيه ليكون
20
وأرستون الكيوسي.
21
ومن هذين اتصلت بعض خيوط التأثير المباشرة أو غير المباشرة إلى الفيلسوف الأبيقوري فيلوديم،
22
صفحه نامشخص
والفيلسوف والكاتب الرواقي سينيكا.
23
ومن هنا أيضا تسللت بعض الخيوط إلى أدب السخرية والهجاء عند الرومان (راجع، على سبيل المثال، الثرثار ضمن هجائيات هوراس التي تميزت ببراعة رسم الشخصيات والمواقف وقوة الملاحظة؛ الثرثرات 1-9). وفي أواخر العصر القديم اتجهت الأنظار إلى «الطباع» بوصفه كتابا في الأخلاق يمكن أن يشفي الناس من الرذائل ويجنبهم الوقوع في الزلل. وتدخلت فيه بعض الأقلام، فمهدت له بمقدمة وألحقت به بعض التعليقات الأخلاقية. ثم ضم الكتاب بعد ذلك بقليل إلى مجموعة الكتابات والشروح المدرسية في الخطابة والبلاغة، وتركز الاهتمام على المادة التي يحتويها، كما اعتبر نموذجا يحتذى في رسم الشخصيات.
وامتد هذا الاهتمام إلى أواخر العصر البيزنطي، فأقبل القراء على الاطلاع عليه في شغف شديد. يشهد على ذلك العديد من مخطوطاته التي وصلتنا من ذلك العصر، بالإضافة إلى «مقتطفات ميونخ» التي تحوي إحدى وعشرين لوحة من لوحاته (من المتملق إلى الطموح)، وإلى الجهود التي بذلها ماكسيموس بلانوديس لإصلاح النص الذي أصابه التشوه الشديد.
ولم يعرف كتاب الطباع في العرب إلا في أوائل عصر النهضة عندما ترجمه «لابودا كاستيليونكيو» (1430) إلى اللاتينية، وتمت مراجعة الترجمة بعد ذلك أكثر من مرة. وأخيرا طبع الكتاب (من اللوحة الأولى إلى الخامسة عشر) وظهر سنة 1527 في مدينة نورنبرج. وقد ارتبط ظهور هذه الطبعة بأسماء بعض أعلام عصر النهضة (مثل فيليبالد بيركهيمر 1470-1530 من رواد النزعة الإنسانية، وكان له الفضل في الحصول على مخطوطة الكتاب من بيكوديلا ميراندولا،
24
وفي إعداده للنشر وإهدائه إلى فنان عصر النهضة الكبير ألبرشت دور)، غير أن الكتاب لم يعرف على نطاق واسع إلا بفضل الشروح الدقيقة التي أضافها إسحق كازاوبونوس إلى طبعته التي صدرت في لندن سنة 1592 وأعيد نشرها بعد ذلك مرات عديدة.
والظاهر أن هذه الشروح ظهرت في وقتها المناسب؛ فقد تزايد الاهتمام في أوروبا بأخلاق البشر وطباعهم، وصحا الوعي صحوة جديدة على الخصائص التي يتفرد بها كل واحد منهم، وعلى جوانب الضعف والنقص التي تعتريهم، وأصبح النقد الاجتماعي مطلبا ملحا عند الجميع، ووصل الشغف بمعرفة طباع الناس وتحديد سماتهم الأخلاقية إلى الحد الذي غدا معه رسم اللوحات (أو البورتريهات) لعبة اجتماعية يشارك فيها العلماء وغير العلماء. ولقي «الكتيب الذهبي» في أوروبا القرنين السابع عشر والثامن عشر من الحماس والانتشار ما فاق كل تصور، وانعكس كذلك على بعض الأعمال المتميزة؛ ففي إنجلترا انهمرت الكتابات الأدبية المختلفة عن الطباع في القرن السابع عشر إلى الحد الذي يمكن معه القول بأن أصحابها استطاعوا أن يؤسسوا نوعا أدبيا خاصا بها. ويكفي أن نذكر أسماء بعض هؤلاء الكتاب الذين أوشك عددهم أن يفوق الحصر: جوزيف هال، وجون ستيفنز، وسير توماس أوفربري، ونيوكلاس بريتون، وبن جونسون، وجون إيرل، وتوماس فلر، وصمويل بتلر.
25
واستجابت بعض الصحف الأسبوعية في بداية القرن الثامن عشر لعطش القراء لهذا النوع المحبوب من الكتابة، فخصصت التاتلر والإسبيكتاتور والجارديان
صفحه نامشخص
26
صفحات منها لوصف الطباع ورسم الشخصيات (وربما بدأت من هنا رحلة هذا الفن البديع الذي نسميه فن الكاريكاتير).
27
وفي فرنسا تفوق جان دولا برويير (1645-1696) الذي سبق ذكر ترجمته للطباع في سنة 1688 وإضافاته إليها من واقع ملاحظاته الحادة لشخصيات عصره والمدينة التي كان يعمل بها (وهي كايين). ويكفي للتعبير عن الترحيب الذي لقيه هذا الكتاب أن تسعين كتابا آخر ظهر في فرنسا وحدها بين عامي 1688 و1917 تقليدا له ونسجا على منواله. واخترقت موجة التقليد حدود إنجلترا وألمانيا، فصدر كتاب ثيوفراسط الإنجليزي لمؤلفه «بوير» سنة 1692، كما قلدته في ألمانيا هجائيات مختلفة وضعها ج. و. رابينر (1716-1771) لينتقد فيها مظاهر الشطط والبذخ والادعاء لدى بعض شخصيات عصره، وكذلك بعض أعمال كرستيان جيللرت (1715-1769) التعليمية والوعظية التي اشتهر بها، كالمحاضرات الأخلاقية (1770)، والقصص والحكايات الخرافية على لسان الحيوان (1746). ويصعب متابعة جميع الأعمال التي حاكت كتاب ثيوفراسط في شكله ومادته محاكاة مباشرة أو غير مباشرة؛ لأن معظم هذه الأعمال مزيج من التقليد والأصالة، وفيها تنويعات وإضافات «وإسقاطات» من وحي العصر تجعلها خليطا غريبا من النقد الاجتماعي والوعظ والإرشاد الديني والأخلاقي والهجاء الكاريكاتيري، بحيث يمكن أن تعد مساهمة مبكرة فيما سمي بعد ذلك بعلم الطباع.
28
لكن الحظ لم يحالف الكتاب في رحلته الطويلة على الدوام؛ فقد بدأ اهتمام القارئ العام بالأصل والنسخ المقلدة أو الأصلية في التراجع الشديد منذ أوائل القرن التاسع عشر، وحل عالم اللغويات والمؤرخ والناقد الأدبي والاجتماعي ومحقق النصوص المخطوطة ... إلخ محل الأديب والقارئ العادي؛ وذلك لإضاءة النص وتحديد قيمته ومكانه من «نسق» ثيوفراسط الفلسفي الذي ما يزال العلماء عاكفين على بلورته والتغلب على صعوباته ومشكلاته. وزحفت موجات النقد الاجتماعي فأيقظت الاهتمام به عند بعض أدباء العصر الحاضر، مثل إلياس كانيتي على سبيل المثال في كتابه البديع الذي جمع فيه خمسين طبعا أو شخصية تحت هذا العنوان: «شاهد الأذنين». ولست أدري إن كان أديبنا العظيم نجيب محفوظ في «مراياه» قد استلهم هذا الكتاب العجيب أو لم يستلهمه؛ فالمهم أنه قدم فيه لوحات رائعة رصدها خياله الخصب وقلمه الفياض من واقع الحياة والناس من حوله، وأضافها إلى رصيد متحفه الرائع من الطباع والشخصيات شديدة التنوع والحيوية والتأثير. (12)
استبعدنا على الصفحات السابقة أن يكون «الطباع» كتابا أو جزءا من كتاب في الأخلاق. وإذا كنا قد توقفنا قليلا عند كتب ثيوفراسط الأخرى وفلسفته الأخلاقية وجهوده في كل ميادين «العلم» المعروفة في عصره، فقد حاولنا من وراء ذلك أن نضع الكتاب في السياق العام لتفكير صاحبه وحياته وظروف عصره المضطرب؛ لأن الكتاب في نهاية الأمر قد خطه قلم فيلسوف.
ونسأل أنفسنا الآن عن حقيقة هذا الكتاب وطبيعته بعد أن عرضنا باختصار لتأثيراته عبر العصور التي قرأته قراءات مختلفة.
يؤكد الأستاذ «فيلاكوت» مترجم الكتاب إلى الإنجليزية
29
صفحه نامشخص
أن الكتاب لم يقصد به على الإطلاق أن يكون عملا أدبيا مستقلا. ويعلل ذلك بجفاف لغته واطراد أسلوبه على نمط (متكرر) لا تنوع فيه، وخلوه من الرشاقة والجمال وروعة البيان التي اشتهرت عن صاحبه في العصور اليونانية والرومانية القديمة، وأشاد بها شيشرون على وجه الخصوص. وإذا كان قد أثر على الأدب الأوروبي الحديث، وساعد على خلق نوع أدبي بأكمله للكتابة عن الطباع، فلا يزال الغرض من تأليفه غير واضح، على الرغم من التسليم بأنه كتاب فريد ولا نظير له في العالم القديم.
ويرجح المترجم الإنجليزي أن الكتاب كان «ملحقا توضيحيا» لكتاب لم يصلنا عن فن كتابة الكوميديا.
30
وهو يوضح هذا بقوله إن كوميديا ميناندر (343-291ق.م.) - وهو لا يذكر ثيوفراسط إلا ويذكره معه في نفس واحد! - كانت تفصلها في ذلك الحين عن كوميديا أرسطوفان فجوة زمنية واسعة تقدر بثلاثة أجيال، وإن الناس في تلك الفترة المتأخرة كانوا مشغولين بالتفكير في طبيعة الكوميديا، ويحتمل أن تجاربهم في هذا الصدد لم تؤد بهم إلى شيء حتى بزغت الكوميديا «الواقعية» الجديدة على يد تلميذ ثيوفراسط الرائع. ولما كان كلاهما قد سجل بقلمه الكثير من ملامح الحياة اليومية وعادات الناس في أواخر القرن الرابع؛ بدليل أننا نجد أن بعض ما رصده ثيوفراسط من قسمات شخصياته وطباعها قد أخذه ميناندر بنصه تقريبا في عدد من مسرحياته وفي تصرفاته وعادات بعض شخصياته (مثل عادة «السلف» التي لا ترحم شيئا، من الملابس إلى الشعير والدقيق إلى أدوات الطبخ). وهذا كله يرجح عنده (أي عند المترجم الإنجليزي) وجود علاقة قوية بين طباع ثيوفراسط وكوميديا تلميذه الذي يستبعد تماما ألا يكون قد اطلع عليها وتأثر بها تأثره بأستاذه و«أحاديثه» الإلهية كما وصفها أرسطو على نحو ما عرفنا من قبل، بل إنه ليرجح أيضا وجود علاقة قوية بين «الطباع» وبين أرسطوفان (من حوالي 445 إلى حوالي 386ق.م.)، فهل يمكن القول إن ثيوفراسط قد تأثر بشكل من الأشكال بسيد الكوميديا القديمة أثناء رسمه ل «طباعه»؛ ومن ثم انتقل هذا التأثر إلى تلميذه الذي كان أكثر توازنا وواقعية من أرسطوفان، كما أن شخصيات ميناندر - على خلاف شخصيات ثيوفراسط النمطية التي يخيم على أغلبها الاطراد والملل والتزمت! - شخصيات فردية متفجرة بالحيوية والتنوع والتناقض أيضا؛ لأنها ببساطة أكثر إنسانية وأكثر فنية؟ ومما يقوي من علاقة الارتباط الوثيق بين «الطباع» وكوميديات ميناندر أن كليهما قد كتب أعماله إبان الفترة المضطربة التي جاءت بعد ضم المقدونيين - على عهد فيليب والد الإسكندر - لبلاد اليونان بأكملها، أي بعد سنة 338ق.م.؛ فقد انصرف الناس في الطباع وفي الكوميديات إلى حياتهم اليومية ومشاغلها ومشكلاتها الآنية من تسوق وبيع وشراء وثرثرة ورفع دعاوى قضائية وزواج وحب وشجار وترويج إشاعات (انظر على سبيل المثال اللوحة الثامنة عن مروج الإشاعات التي تعكس بعض أحداث العصر وصراعاته). وليس عجيبا بعد ذلك أن يصور الكاتبان أو يسجلا كل منهما على طريقته تلك الحياة العادية التافهة التي لا تخلو بطبيعة الحال من التنوع والحيوية. وهي حياة يعيشها أحفاد الأثينيين الذين عاصروا يوريبيدز وأرسطوفان، كما عاصروا المعارك الضاربة بين أثينا وإسبرطة خلال الحرب البيلوبينيزية الطويلة التي انتهت سنة 404ق.م. بهزيمة أثينا وإذلالها. ربما لم يكن الأحفاد أسوأ من أجدادهم، ولكن الصراع والتضحية في سبيل الحرية أو في سبيل مجد أثينا كان قد أصبح جزءا من الماضي ولم يبق لهم فرصة للبطولة، ولا بقيت فرصة للتراجيديا (المأساة) إلا بعرض المآسي القديمة على خشبة المسرح؛ ومن ثم شجع كل شيء على ازدهار الكوميديا الجديدة التي اهتمت بتصوير عواطفهم ومشاكلهم في البيت والشارع، وحياتهم مع زوجاتهم وعلاقتهم بأصدقائهم وجيرانهم وعبيدهم وعشيقاتهم، وأحلامهم في الثراء والسلطة، وتطلعاتهم وهمومهم وصغائرهم. وهذا على وجه الدقة هو الذي فعله ثيوفراسط وتلميذه ميناندر - كل على طريقته كما سبق القول - أولهما في «طباعه» وفي فلسفته الأخلاقية التي ورث الكثير منها بغير شك عن المعلم الأول، والثاني بالأسلوب المتفجر بالحيوية والحوار الشيق الممتع والشخصيات العادية والمتفردة في آن واحد. ولا شك أيضا أن البحث الطويل منذ سقراط وأفلاطون على الأقل وحتى أرسطو وثيوفراسط - عن ماهية القيم المختلفة ومعايير السلوك الصحيح والتمييز بين الأنماط المختلفة للعدالة والخير والشر والصواب والخطأ ... إلخ في الكتابات الفلسفية قد انعكست بصورة حية على كوميديات ميناندر، وهو ما يحتاج إلى بحوث مستقلة لتوضيحه بشيء من التفصيل (يكفي أن نذكر هنا قول الشاب كاريزيوس في مسرحية التحكيم أنه تلميذ درس الأخلاق، أو خواطر أونيزيموس - العبد الذي يعمل في خدمته - عن نظريته في الأخلاق).
31
وليت هذا وغيره يعلمنا الاهتمام بالأساس الفلسفي الظاهر أو الكامن للأعمال الأدبية التي تستحق هذه التسمية. (13)
ويتشكك المترجم الإنجليزي أيضا في أصالة التعريفات التي يبدأ بها مؤلف الطباع وصف سمات كل صاحب طبع يقدمه، ومن رأيه - الذي ينقله عن الأستاذ ج. أوشر في كتابه عن طباع ثيوفراسط، 1960،
32
ويناقش في مقدمته مختلف الاحتمالات عن أصل الكتاب - أن مجهولا قد أضافها من عنده لظنه أن الطباع كتاب في الأخلاق، ولم يخطر على باله أن أمثال هذه التعريفات ليس لها مكان في كتاب عن فن الكوميديا (إذا صح الفرض الذي ذكرناه قبل قليل)، وأنها لا تضيف شيئا إلى الأوصاف التي يوردها الكتاب عن كل طبع على حدة.
ولم يقتصر الأمر على دس هذه التعريفات على الكتاب، فالمقدمة المنحولة التي نقلناها عن الترجمة الإنجليزية تجعلنا نتحسر على ضياع نصف الكتاب الذي تطفلت عليه أياد وأقلام كثيرة من العصر القديم والعصر البيزنطي كما رأينا من قبل. لقد كان الكتاب الأصلي - إذا صدقنا كاتب المقدمة المنحولة - يحتوي بجانب الطباع السيئة على مجموعة مساوية من الطباع الخيرة. وهذا احتمال وارد لا أريد ولا أستطيع أن أنفيه؛ إذ لا يعقل أن يكون الفيلسوف العاقل الطيب قد اكتفى بعرض الشخصيات الشاذة والطباع السيئة على قارئه العام الذي أراد أن يمتعه ويسليه، وأن يكون قد أغفل أضدادها الذين لا شك في وجودهم في كل عصر على الرغم من طغيان الأشرار والمجرمين على الأخيار والطيبين. وهل كان الناس في زمنه المضطرب المنغص بالصراعات الدموية والمجاعات والأوبئة - كما ذكرنا آنفا - ينقصهم المزيد من الهم والنكد فوق ما هم فيه؟
صفحه نامشخص
إن الحسرة على ضياع هذا القسم المفقود من الكتاب لا تقل في تقديري عن الحسرة التي لا تنقضي على ضياع الجزء الخاص بالكوميديا من كتاب الشعر لأرسطو. هل تستحق الابتسامة والضحكة والفرحة أن تعلن عليها كل هذه الحروب الشعواء على مر العصور؟! (14)
وأخيرا فقد اعتمدت على الترجمة الألمانية للنص، واستعنت بالترجمة الإنجليزية التي لم تخل من التصرف، ورجعت بقدر ما وسعتني الطاقة إلى الأصل اليوناني للتثبت من الفروق بين الترجمتين المذكورتين في الهوامش السابقة. وقد حاولت أن أقدم للقارئ العربي نصا مقروءا وممتعا بقدر الإمكان، وزودته بالهوامش والشروح التي استفدت فيها فائدة لا تقدر من شروح المترجم الألماني وتعليقاته، ومن التعقيب الشامل والعميق للأستاذ بيتر شتاينمتز، وكذلك في المقدمة القيمة والمكثفة للمترجم الإنجليزي الذي نشر الطباع مع الشذرات الباقية من مسرحيات ميناندر في كتاب واحد. وأملي أن يستمتع القارئ العربي بهذا النص الفريد، ويتعاطف مع شخصياته الحية، ويعايش تجاربها وأحزانها وأفراحها ومشكلاتها وجوانب ضعفها وعجزها أو غرورها وطموحها، بحيث يبتسم ويتعجب ويتلفت حوله أيضا. ومن يدري؟ ربما استطاع الكتاب أن يلهم كاتب الكوميديا عندنا فيقرأ بالإضافة إليه كوميديات ميناندر، ويبذل جهده لإبداع كوميديا راقية وصافية وعميقة الإنسانية، بدلا من سيول الفجاجة والبذاءة التي تغرقنا بها المسارح التجارية وأجهزة الإعلام البشع كما أغرق الطوفان قوم نوح.
أشكره سبحانه على توفيقه، وأسأله المغفرة والصفح عن الخطأ والسهو والتقصير، إليه وحده ألجأ، وإليه المصير.
القاهرة، يوليو، 1998
عبد الغفار مكاوي
المقدمة المنحولة1
عزيزي بوليكليس!
لقد طالما تعجبت، كلما تفكرت في هذا الأمر - ولعلي لن أكف أبدا عن التعجب - لماذا لا يكون لنا نحن الإغريق نفس الطبع، مع أننا نعيش في بلد ذات مناخ واحد، ونتلقى جميعا نفس التعليم؟ لقد عكفت على دراسة الطبيعة البشرية زمنا طويلا، وبلغت الآن من العمر تسعة وتسعين عاما، وفضلا عن ذلك فقد اختلطت بكثير من الناس من جميع الجنسيات، وقارنت مقارنة دقيقة بين الطباع الخيرة والطباع السيئة؛ ولهذا السبب شعرت أن من واجبي أن أسجل العادات المختلفة للحياة كما يعرضها أصحاب هذين النوعين من الطباع. وسوف أضع أمامك، واحدا بعد الآخر، جميع الأنماط المتنوعة التي ينقسم إليها الرجال، وأبين كيف يدبرون شئونهم؛ ذلك لأني أعتقد، يا عزيز بوليكليس، أن أبناءنا سيكونون رجالا أفضل لأننا تركنا لهم مثل هذه الدروس العينية التي يمكنهم أن يتدارسوها كنماذج، والتي ستعلمهم أن يختاروا صحبة ذوي المبادئ السامية والتحدث معهم، كما تعلمهم ألا يهبطوا عن مستواهم. سأرجع الآن إلى موضوعي، وعليك أن تتابع حجتي وتحكم بنفسك إن كنت محقا في رأيي. سوف أستغني عن التقديم والتمهيد، وسوف أبدأ بالرياء، وبأولئك الذين يجعلون من الرياء هدفهم وغايتهم، وسوف أقدم تعريفا له، ثم أصف المرائي، مبينا نوع شخصيته ونوع الحياة التي تفرضها عليه طبيعته، وفي النهاية سأحاول أن أوضح ظروف الأنماط الأخرى واحدا واحدا، وذلك على نحو ما فعلت في البداية.
الفصل الأول
المرائي
صفحه نامشخص