عندما كنت أبحث في الكتابات الخاصة بالثنائية اللغوية لمعرفة المزيد عن الثنائية اللغوية للعملاء السريين، أدركت عدم وجود كثير من الأمور عن مهاراتهم اللغوية. ومع زيادة بحثي، فهمت ببطء أن وجهة النظر التقليدية الموجودة لدينا جميعا ليست واضحة المعالم كما تبدو؛ فعلى سبيل المثال: ليس كل العملاء يحتاجون إلى معرفة لغة أخرى جيدا، ما داموا على اتصال مع شخص ثنائي اللغة. ومن ثم، فإن الجاسوس الذي يعطي أسرار الحكومة إلى أحد العاملين في سفارة أجنبية، يمكنه فعل هذا بلغته الأصلية إذا كان هذا الشخص (ربما يكون ملحقا سياسيا بالسفارة) يتصرف كوسيط ثنائي اللغة. ينطبق هذا أيضا على العملاء الذين يوافقون على العمل لصالح إحدى القوى الأجنبية، بينما يظلون مقيمين في دولتهم ويترقون بالتدريج داخل الكيانات الحكومية المختلفة. حدث هذا في حالة شبكة جواسيس كامبريدج الخمسة في إنجلترا، خاصة كيم فيلبي وجاي برجيس، التي تجسس أعضاؤها لصالح الاتحاد السوفييتي في منتصف القرن الماضي، بينما كانوا يتقلدون مناصب مهمة في المؤسسات البريطانية.
تضع الدولة المتجسسة عملاء «كامنين» أو متخفين داخل الدولة المستهدفة، ويكونون عادة من أهل هذه الدولة (أو يحملون جنسيتي الدولتين). حصل مؤخرا أحد الأمثلة على العملاء الكامنين على اهتمام شديد من الصحافة. ولد جورج كوفال في عام 1913 في مدينة سيوكس سيتي في ولاية آيوا، ونشأ فيها كشاب أمريكي عادي؛ فكان يمارس بالطبع رياضة البيسبول ويتحدث بالإنجليزية الأمريكية بطلاقة. في أثناء فترة الكساد الكبير، هاجر مع والديه إلى مدينة سيبيرية في منطقة اقترح ستالين أن تصبح موطنا لليهود. كان والداه مؤمنين بشدة بالشيوعية، وقد تأثر كوفال بهما تأثرا بالغا. درس في معهد التكنولوجيا الكيميائية في موسكو، وجندته جي آر يو (أكبر وكالة استخبارات روسية). أرسل كوفال بعد ذلك مرة أخرى إلى الولايات المتحدة، وظل بها لعدة سنوات دون تأدية أي نشاط (وكان اسمه الحركي دلمار). تطوع في الجيش الأمريكي، وبالتدريج جعلته مهامه العسكرية يحتك بمشروع القنبلة الذرية (خاصة الجوانب المتعلقة بالوقود المستخدم). كانت للمعلومات التي عرفها قيمة بالغة في صنع القنبلة الروسية، التي جرى أول تفجير لها في عام 1949. كان كوفال عميلا ناجحا للغاية، ليس فقط بسبب ذكائه وتدريبه الجيد (وهو ما جعله يصل إلى قلب مشروع القنبلة)، وإنما أيضا لأنه كان مواطنا أمريكيا «أصيلا»؛ فقد كان يتحدث بالإنجليزية بطلاقة، ويحب البيسبول، وكان مجرد شخص عادي. هرب عائدا إلى الاتحاد السوفييتي بعد الحرب، عندما أدرك أن المخابرات الأمريكية أخذت تضيق الخناق عليه.
مع ذلك، فإن العملاء مثل كوفال، الذين ينطبق عليهم إلى حد ما تصورنا عنهم - أي كونهم أشخاصا ثنائيي اللغة والثقافة تماما - لا يمثلون الغالبية العظمى من العملاء. سأنهي حديثي عن هذا الأمر بمثال من عملاء إدارة العمليات الخاصة البريطانية، الذين عملوا في أثناء الحرب العالمية الثانية. كانت مهمة هذه الإدارة هي دس عملاء في دول أوروبا المحتلة، حتى يعملوا على تنظيم مجموعات المقاومة المحلية التي تحارب الوجود النازي وتحفيزها ومساعدتها؛ لقد تدربوا على استخدام الأسلحة والمتفجرات، وعلى إرسال الرسائل، وتنفيذ الأعمال التخريبية، والدفاع عن أنفسهم، إلى آخره، وكانوا إما يهبطون بالمظلات في المنطقة التي سيعملون فيها وإما يذهبون إليها باستخدام الطائرات الخفيفة. كان الذين يجندون إما أحد مواطني الدولة المعنية وإما شخصا يعرفها جيدا. ويكون على الأقل أحد والدي كثير من المنتمين إلى الفئة الأخيرة من الدولة المستهدفة، أو يكون هؤلاء العملاء قد عملوا في هذه الدولة أو التحقوا بالمدرسة فيها قبل الحرب؛ على سبيل المثال: إن عميل إدارة العمليات الخاصة في فرنسا، جيلبرت نورمان، كان والده إنجليزيا ووالدته فرنسية، وتعلم في كلتا الدولتين. وثمة عميل آخر، وهو جاك آجازاريان، كان والده أرمينيا ووالدته فرنسية، والتحق بالمدرسة في كل من فرنسا وإنجلترا.
مع ذلك، يوجد عملاء آخرون تابعون لإدارة العمليات الخاصة البريطانية كانوا أبعد ما يكون عن الأشخاص الثنائيي اللغة البارعين؛ على سبيل المثال: كان العميل الناجح للغاية في منطقة بيزانسون في فرنسا، جورج ميلار (كان اسمه الحركي إميل)، يجيد التحدث بالفرنسية، لكن مع لكنة اسكتلندية واضحة! وقد كتب في مذكراته أنه كان بإمكانه إقناع أي شخص ألماني أنه مواطن فرنسي حقيقي، لكنه كان يعلم أن المواطن الفرنسي الحقيقي سيدرك على الفور أنه ليس فرنسيا. ونظرا لأن شرطة فيشي الفرنسية كانت عادة ما تساعد الألمان في مطاردة عناصر المقاومة، فإن هذا كان يمثل مشكلة محتملة. في الواقع، أوقف ميلار ذات يوم ضابطان من الشرطة الفرنسية، وسألاه عن هويته الحقيقية؛ كان لزاما عليه الاعتراف بأنه بريطاني، ويا لدهشته حين تركوه يذهب حيث كانوا متواطئين مع المقاومة.
3
للأسف، لم يحالف الحظ عملاء آخرين تابعين لإدارة العمليات الخاصة البريطانية مثلما حدث مع ميلار؛ فكانت لدى فرانسيس سوتيل، زعيم «عصبة» (شبكة مقاومة) في منطقة باريس، لكنة سيئة للغاية في اللغة الفرنسية، على الرغم من كون والدته فرنسية. وحتى يضمن أن كلامه يفهم، كان يجب عليه الاعتماد على مساعدة عميل شاب فرنسي تابع للإدارة نفسها كان اسمه أندريه بوريل. بالإضافة إلى مشكلة سوتيل في لكنته القوية، يبدو أن بعض عملاء سوتيل كانوا يجتمعون في مطاعم غير قانونية ويتحدثون معا بالإنجليزية.
4
وصل الألمان إلى عصبة سوتيل (التي كانت تسمى بروسبر)، وقبض على كثير من عملائها وسجنوا. أرسلوا بعد استجوابهم إلى معسكرات الاعتقال النازية في ألمانيا؛ وللأسف، لم يستطع إلا عدد قليل منهم النجاة من هذه التجربة العصيبة. توجد أسباب عديدة لكارثة عصبة بروسبر (أحدها وجود خائن ضمنهم)، وعلى الأرجح لا يمكن اعتبار الافتقار إلى المهارات اللغوية أحدها. لكن لو كانت الثنائية اللغوية والثقافية لدى هؤلاء العملاء البريطانيين مكتملة - وهو أمر لا يمكن توقع وجوده لدى الأشخاص الثنائيي اللغة العاديين - ولو كان بعضهم أكثر حرصا في سلوكه اللغوي العلني؛ لكان من الممكن أن تتحسن فرصهم في عدم إلقاء القبض عليهم. وعلى الرغم من ذلك، كان هؤلاء العملاء مخلصين للغاية ويتسمون بشجاعة كبيرة، ولا يسعنا إلا الشعور بالامتنان تجاه ما تعرضوا له في مواقف بالغة الصعوبة؛ فقد ضحوا بحياتهم حتى يمكن تحرير فرنسا وأوروبا من الاحتلال الألماني. (4) الأشخاص الثنائيو اللغة المشهورون
سأنهي حديثي بذكر بعض الأشخاص الثنائيي اللغة أو المتعددي اللغات المميزين الذين ذاع صيتهم. تضم الفئة الأولى الأفراد المميزين في مجال تعلم العديد من اللغات والتحدث بها، ويطلق عليهم عادة المتعددو اللغات أو حتى اللغويون (بمعنى أنهم يتقنون عدة لغات). يتحدث الأشخاص الأحاديو اللغة، الذين يعيشون حياتهم باستخدام لغة واحدة فقط، بإعجاب شديد عن هؤلاء الناس، وكذا الثنائيو اللغة العاديون الذين يعرفون «فقط» ثلاث أو أربع لغات بدرجات متفاوتة، كما هو الحال بالنسبة إلي. يذكر دوما من هؤلاء الناس الكاردينال جوزيبي ميزوفانتي، الذي كانت له مكانة مرموقة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ويقال إنه كان يتحدث بطلاقة ما يتراوح بين خمسين وستين لغة. كذلك من الأشخاص المتعددي اللغات المستكشف الذي يذكر كثيرا وعالم الأعراق البشرية والدبلوماسي البريطاني السير ريتشارد فرانسيس برتون، الذي عاش في القرن التاسع عشر؛ يقال إنه اكتسب أربع لغات في شبابه، ثم اكتسب ما يقرب من 25 لغة أخرى عندما صار بالغا، من بينها الجوجراتية والمراتية والهندوستانية والفارسية والعربية، فضلا عن العديد من اللهجات. عاش برتون في الهند، من بين العديد من الأماكن الأخرى، وسافر من أجل استكشاف شبه الجزيرة العربية ومنطقة أعالي النيل، ومن ثم استفاد كثيرا من اللغات التي اكتسبها.
عادة ما يكون علماء اللغة، الذين يدرسون اللغات وتركيبها وطرق معالجتها، على دراية بعدد قليل من اللغات، لكن بعضهم يكونون فعليا متعددي اللغات؛ على سبيل المثال: يقال عن ماريو باي عالم اللغة الأمريكي من أصل إيطالي الذي ظهر في القرن الماضي، وأحد المؤلفين الذين حققت أعمالهم أعلى مبيعات في هذا المجال، إنه كان قادرا على التحدث بنحو أربعين لغة، ويعرف اللغويات الخاصة بنحو مائة لغة. يوجد عالم لغة آخر، وهو الراحل كين هيل، الذي كان يدرس بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، المتخصص في اللغات الأصلية المهددة بالانقراض، التي تعلمها هو نفسه بسهولة بالغة. ومن بين هذه اللغات نجد: نافاجو، وجميز، وهوبي، وتوهونو، وأودهام، ووارلبيري، وأولوا.
صفحه نامشخص