قد يبدو للوهلة الأولى اختيار لغة التواصل في الوضع الأحادي اللغة عملية بسيطة؛ فنحن نوقف عمل لغتنا أو لغاتنا الأخرى ونتحدث بلغة واحدة فقط. ففي النهاية، إذا بدأنا بتحدث لغة لا يعرفها الطرف الآخر، فإننا لن نصل إلى أي شيء. وكما قال أحد هنود الياكي المذكور آنفا: «أنا أستطيع التحدث معك بالياكية؛ لكنك لن تفهميني.»
1
لقد انبهرت على مر السنين بمدى براعة ثنائيي اللغة في اختيار اللغة المناسبة، ومدى كفاءتهم في عدم تفعيل لغاتهم الأخرى؛ ففجأة يمكن أن يصبح الأشخاص الثنائيو اللغة أو المتعددو اللغات، الذين توجد لغتان أو أكثر تحت تصرفهم، متحدثي لغة واحدة. أنا أتذكر دوما بطل التنس روجر فيدرير الذي يجري مقابلات بأربع لغات (الألمانية السويسرية والألمانية والإنجليزية والفرنسية)، ويفعل هذا عادة دون أن يدع لغاته الأخرى تتدخل. فهو يكون عادة، في مثل هذه المواقف، في وضع أحادي اللغة؛ إذ لا يمكنه توقع أن يعرف الذين يجرون معه المقابلة، ولا سيما الجمهور الذي يتحدث إليه، لغاته الأخرى.
إن الأشخاص الثنائيي اللغة، الذين يتمكنون من البقاء داخل وضع أحادي اللغة، وبالإضافة إلى ذلك يتحدثون هذه اللغة بطلاقة ودون لكنة، يمكن وصفهم في الغالب بأنهم أحاديو اللغة. فوجئت بشدة في أحد الأيام، منذ عدة سنوات، عندما سمعت زوجة الخباز، التي يوجد متجرها في نهاية الشارع الذي أعيش فيه، تجيب على الهاتف بطلاقة باللغة الألمانية السويسرية. كنت أعرفها منذ ما يقرب من عشر سنوات، وكنت أتصور دوما أنها فرنسية سويسرية؛ فكنت أتوقع أنها تعاني عند استخدام الألمانية مثل معظم الفرنسيين السويسريين (فضلا عن الألمانية السويسرية التي نادرا ما يتحدث بها الفرنسيون السويسريون)، لكنها كانت تجري حوارا بطلاقة باستخدام لغتها الأم، كما أدركت فيما بعد. وأصبت بدهشة مماثلة عندما علمت أن الممثلة ناتالي وود، بطلة فيلم «قصة الحي الغربي» الذي ظهر في عام 1961، التي كنت أعتقد أنها كانت شخصا أحادي اللغة بالكامل؛ ولدت في الواقع في عائلة تتحدث بالروسية، وكانت هي ثنائية اللغة في اللغتين الروسية والإنجليزية. يرد على الذهن كثير من الأمثلة على هذه «المعجزة» الخاصة بالثنائية اللغوية؛ وهي اللغات المخبأة التي يعرفها الناس لكنهم لا يستخدمونها أبدا في وجودنا.
إن اختيار لغة أساسية والالتزام بها في حالة التواصل الأحادي اللغة، سواء أكان في التحدث أم في الكتابة، هو جزء من كون الفرد ثنائي اللغة. فأحيانا توجد على المحك أمور أكثر من مجرد عملية التواصل، ويكون الالتزام بالوضع الأحادي اللغة هو أهم شيء. يصف أوليفيه تود، الصحفي والكاتب الفرنسي البريطاني، في سيرته الذاتية كيف أنه هو ووالدته البريطانية فشلا في اللحاق بآخر سفينة متجهة إلى إنجلترا عندما غزا الألمان فرنسا؛ فظلا في فرنسا أثناء الحرب، وكانت والدته مختبئة جزئيا؛ إذ إنها قد ترسل إلى معسكر اعتقال إذا عرف الألمان جنسيتها. يصف تود كيف أنهما اتفقا على عدم التحدث بالإنجليزية أمام الناس؛ في الشارع، وفي المقاهي، وفي الحافلات، وإذا أخطأت ونطقت بكلمة أو جملة إنجليزية رغما عنها، فإنه يتوجب على تود، الذي كان طفلا صغيرا في هذا الوقت، أن يضغط على يدها. المشكلة أن والدته كانت ضد الألمان بشدة، وفي أحد الأيام في مترو الأنفاق لم تتمالك نفسها، وتحدثت بالإنجليزية بعنف شديد ضد المحتلين، أمام ضابط ألماني. يخبرنا تود أنهما كانا محظوظين في هذا اليوم ولم يحدث شيء. تمكنت والدة أوليفيه تود من النجاة أثناء فترة الحرب دون أن تنكشف هويتها كمواطنة إنجليزية.
2
أثارت اهتمام الباحثين لوقت طويل قدرة ثنائيي اللغة على التحكم في اللغة التي يتحدثون بها، وكيف يقصون لغاتهم الأخرى. على المستوى المعرفي يوجد جدل محتدم حول الآليات المستخدمة؛ فيتحدث بعض الباحثين، من أمثال ديفيد جرين من جامعة لندن، عن كبح اللغات التي لا توجد حاجة إليها، بينما أتبنى أنا وجهة نظر «أبسط» وأؤيد عدم تفعيل هذه اللغات ولكن ليس كبحها.
3
فأنا أرى أن النظام اللغوي الثنائي اللغة يسمح بالتبديل بين الوضع الأحادي اللغة والوضع الثنائي اللغة، وأنه حتى في الوضع الأحادي اللغة، كما سنرى فيما يلي، يستطيع المتحدث استخدام اللغة الأخرى المعطلة. ويصعب فعل هذا عندما تكون اللغة مكبوحة أكثر مما إذا كانت معطلة.
أجرى أطباء الأعصاب وعلماء اللغويات العصبية مؤخرا دراسات تقوم على تصوير الدماغ، في محاولة منهم لتحسين فهمنا للبنى التي تتحكم في اختيار اللغة. استعرض جوبن أبو طالبي وديفيد جرين الدراسات في هذا الموضوع، وقالا إن ثمة بنى عصبية كثيرة تلعب دورا في هذا الشأن؛ يبدو أن الجزء الأيسر من النواة الذنبية في المنطقة تحت القشرية من الدماغ يشرف على الاختيار الصحيح للغات؛ والجزء الأيسر من القشرة أمام الجبهية يحدث اللغة المناسبة ويحافظ على استمرار العمل بها، بالإضافة إلى أنه يكبح اللغات غير المستخدمة؛ وترسل القشرة الحزامية الأمامية إشارات إلى القشرة أمام الجبهية بالأخطاء المحتملة في اختيار اللغة؛ ويوجه الجزءان الأيمن والأيسر من القشرة الجدارية الخلفية الاختيار نحو اللغة المستخدمة وبعيدا عن اللغة غير المستخدمة.
صفحه نامشخص