وقد كان خيري حريصا ألا يدور الحديث عن مذاكرته أمام يسري، فقد خشي ألا يصيب النجاح فيجعل من نفسه قدوة غير طيبة أمام أخيه. وقد كان في يومه هذا على موعد أن يذهب إلى نجيب في السادسة من بعد الظهر، فلقد أنبأه نجيب أنه لن يعود إلى البيت قبل هذا الميعاد، ولم يجد ما يفعله من الظهيرة حتى حلول الموعد إلا أن يستلقي على فراشه ويقرأ، وكانت ضجة إخوته تملأ البيت، ولكنه كان قد تعود ألا يضيق بها.
لم يطل انفراد خيري بنفسه فقد فتحت أمه الباب تسأله: أتريد شيئا يا خيري؟ - لا يا نينا شكرا، ما المناسبة؟ - أنا خارجة أنا ويسري ونادية. - إلى أين؟ - إلى بيت عمك عزت. مسكينة إجلال من يوم سفر وفية وحزنها حزنان، حزن على المقيمة معها التي لا تسمع، وحزن على الغائبة التي لا تعرف كيف تسير حياتها مع زوجها الغريب الذي لم يرها ولم تره إلا عند الزواج.
ولم يشأ خيري أن يعلق على هذا الحديث وإن ملأ نفسه حزنا، فقال في ألم كبير حازم: طيب يا نينا مع السلامة، أتأخذين معك بشير أغا؟ - نعم، وأنت لماذا لا تذهب إلى عمك عزت يا خيري؟ - والله يا نينا لا أدري، تقصير، مجرد تقصير. - لا، لا حق لك، إنه يا بني يستحق منك كل خير. - أنا لا أنسى فضله. - إنه دائم السؤال عنك. - سأذهب إليه. - لماذا لا تأتي معي؟ - لا ليس اليوم، أنا على موعد، قد أذهب غدا إن شاء الله. - طيب يا بني كما تحب، فتك بعافية. - الله يعافيك يا نينا.
وخرجت الأم وأقفلت الباب، ولم يعد خيري إلى القراءة وإنما نحى الكتاب جانبا وراح يفكر، والتذ التفكير، والتذ الألم، والتذ التضحية التي قام بها، الجراح تملأ نفسه، ولكنه كان حين يتحسسها يجد في قلبه راحة وهدوءا، ليس يدري أهو هدوء البركان الثائر من الحب أتت عليه الخطوب فاستقر ثائره وهدأ مضطربه وأصبح لا شيء إلا ذكرى؟ كان خيري إذا التقى بجراحه في خلوة بنفسه أحس في داخله أنه كبير، واطمأن خاطره أنه رجل أدى ما يحب أن يؤديه الرجل من أمانة نحو نفسه ونحو كبريائه ونحو أهله ونحو من يحب.
طال التفكير بخيري ولم يقف عنه إلا حين فوجئ بالباب يفتح. وبدولت تبدو منه هنيهة اطمأنت فيها أنه وحده. ثم أقفلت الباب وسعت إليه وهو نائم لا يزال دهشا لدخولها على غير توقع.
وقالت دولت: أين الحاجة زينب؟ - لا أدري، ألم تفتح لك باب الشقة؟ - أبدا، دققت الجرس مرات فلم يرد أحد، وكدت أعود، ولكني دفعت الباب فوجدته مفتوحا.
وتلعثم خيري وهو يقول: لعلها ذهبت تشتري شيئا وتعود.
ونظرت إليه دولت وأطالت النظر ثم قالت: لم نعد نراك.
وسكت خيري، وراح ينظر إليها، كم من الأحداث مرت به منذ التقيا في خلوة كامنة كهذه، وكم تعلم من أشياء منذ ذلك الحين، كم فقد وكم كسب، فقد أباه وفقد حبا وفقد مالا، وكسب خبرة وكسب جرأة. وجلست دولت. لم تجلس إلى الكرسي الكبير بجانب الشباك، ولم تجلس إلى الأريكة الفخمة التي تصر على البقاء تحت المكتبة وكأنها تعيرها بالفارق بينهما، أو هي في الواقع تعيرها بعدم التناسب بينهما، وأين مكتبة أقامتها يد بضة لم تمسك بغير القلم من أريكة صيغت بباريس بناء على تصميم خير المهندسين وأجملهم ذوقا؟! لم تجلس دولت إلى شيء من هذا، وإنما اختارت السرير ذاته الذي ينام عليه خيري، وحين حاول أن يجلس دفعته بيدها فنام ثانية، كأنما أحست دولت أن الفارق الذي كان بينهما قد زال، كان المال يفصل بينهما وها هي ذي تراه قد أصبح قريب الفقر منها، وكانت وفية تفصل بينهما، ووفية اليوم في أوروبا في أحضان زوجها، أي شيء يمنعها عنه؟ لماذا لا يتزوجها ذلك الشاب الفتى الجميل؟ ولم تكن دولت ترى وسيلة أفعل في التعجيل بالزواج من هذه الجلسة ومما توقعت أن يتولها.
واستقبل خيري الدفعة في رضى ونشوة. ولم يفكر في فوارق كانت بينهما وزالت، ولم يفكر في الزواج، وإنما فكر في أشياء أخرى لا يستطيع أن يفكر في غيرها.
صفحه نامشخص