لم يستطع خيري في غمرة عمله والأحزان والتغيير الذي أصاب حياته جميعا أن ينسى هواه، وكيف له أن ينساه؟ فقد تستطيع الحياة أن تفقد أباه، وتستطيع أن تفقده المال ورفاهية العيش، وتستطيع أن تفقده آماله من شهادة عالية ومكان بين الناس كبير. وقد يستطيع أن يقنع عن اليتم بساعد إن يكن ضعيفا إلا أنه لا بد له على الأيام أن يشتد. وقد يستطيع أن يرضى من المال بالستر، ومن الرفاهية بالعيش الرضي. وقد يستطيع أن يخدع آماله في مكان كبير بين الناس بأن يرى نفسه داخل نفسه كبيرا يسعى من أجل أمه وأخويه. ولكن بماذا يقنع هواه وهو هوى في القلب بلا منطق أو عقل؟ إنه هوى، بماذا يستطيع أن يخدع حبه أو يرضيه؟ وكيف السبيل إليها اليوم؟ لقد صحبت أمها إلى البيت في كل زيارة، ولقيها، وحادثها. يا له من حديث كالحصان الجامح العربيد تمسك به يد طاغية عاتية لا يملك منها فكاكا. حادثها عن عمله هنيهات، وانتظر أن تدعوها أمها كما كانت تفعل. ولكنها لم تدعها، لقد أرادت الأم أن تشعره أن شيئا بينهما لم يتغير، وشعر هو وفهم، ولكن هيهات، لقد تغير كل شيء، رفض هو سكون أمها فلم يلبث أن دعا هو وفية أن يذهبا معا ليجلسا إلى أمها، رفض الخلوة التي كان يحلم بها ويدعوها ويرجوها ويسعى إليها. وأحست هي، ولكن كيف تبين له عما تحس؟ أرادت أن تقول له إن شيئا لم يتغير، وقالتها بما صنعت من جلوسها إليه، ولكنها لم تستطع أن تذكر هذا في حديث. خيل إليها أنها لو قالت إن شيئا لم يتغير فكأنما تقول إن كل شيء قد تغير. أرادت الأمور أن تجري في نفس المجرى الذي كانت تسير فيه، ولكن الأمور أبت وأبى هو وأبت الحياة.
هيهات، إنه هوى لا سبيل إليه، قالها وأحس في نفسه الطعنة، وأحس راحة الموت بعد الشقاء، وهدوء المنكوب بعد الفاجعة. لا أمل له في هواه، فليبحث له عما يصرفه عن هذا الهوى، فها هو ذا أصبح حرا من الحب، وإن كان الجرح في نفسه عميقا.
وأحست وفية أنه حزم أمره على اليأس، وحاولت في زياراتها العديدة أن ترسل إلى هذا اليأس وامض أمل، ولكنه أغلق نفسه من دونها.
أتراها تيأس مثل يأسه وتتركه؟! لكم تمنى ألا تفعل، ولكم تمنى أن تفعل، حيران بين يأس استقر عليه وبين حب شب معه وانتهى إلى رماد من ذكريات ودماء من جراح. أيتزوجها فيصبح عالة عليها وعلى أبيها؟ هو يعلم أن أباها يقبل، ولكن أيقبل هو؟ ولكن أيقبل أن تصبح أيامه الماضية جميعا من طفولة وشباب ذكريات لا تحمل إلا الألم والحسرة؟ وما له لا يقبل؟ ألم تتغير حياته جميعا؟ فليكن هذا جرحا مع الجراح، ولتتكسر النصال على النصال. ولكن هذا الجرح أشد عمقا وأبعد في الزمن والنفس غورا. لعلها ... لعلها ماذا؟ إنني لن أقبل، أم تراني أقبل؟ رحماك يا رب العالمين.
الفصل الرابع عشر
دأب خيري منذ انتقل إلى الشقة وحصل على كتب أبيه، على أن يشتري هو الخشب ويصنعه ليكون مكتبة تغطي جدران حجرته، ولم تكن المكتبة التي يهفو إليها إلا أرففا بعضها فوق بعض، يسيرة الصنع رخيصة التكاليف، تعينه على قطع الوقت وعلى تجميل الحجرة وعلى حفظ الكتب. وقد جعلت أمه من هوايته الجديدة هذه مادة ضحكها، فكان يشاركها في الضحك ويدعو إليه أخته وأخاه، فقد تستطيع النفوس الحزينة أن تجد في بلواها ما يضحك، وقد تراح النفوس إلى هذا الضحك، كم هي رحيمة يد الله! الدمع يغسل والزمان يلهي والحياة تقسو فلا يجد الناس لدفع قسوتها سلاحا إلا الضحك فيضحكون.
واستطاع يسري أن يجد في المكتبة إلى جانب الضحك مادة للعب أيضا، حتى جرح يوما أصبعه فأمره أخوه ألا يلهو بأدوات النجارة مرة أخرى ، ولم يطعه فزجره فلم ينته. فلم يجد خيري مفرا من أن يقفل الحجرة كلما ترك البيت، وأصبح يقوم بعمله هذا واجدا في ذلك العمل اليدوي راحة لذهنه وقلبه معا.
كان خيري مشغولا بإقامة مكتبته حين جاءه بشير أغا يخبره أن صديقا له اسمه نجيب جاء لزيارته. ويقول خيري في فرح: نجيب كامل؟
ويقول بشير أغا في عربية غير عربية: لا أعرف، قال نجيب، كامل غير كامل لا أعرف؟!
ويسارع خيري إلى غرفة الجلوس فيجد صديقه نجيب كامل وعلى فمه ابتسامة حلوة وهو يقول: يا أخي اذكرنا، تركت البيت، أرسل لنا العنوان الجديد، أم تراه حتما علينا أن ندوخ حتى نعرفه.
صفحه نامشخص