أولا لا أريد أن أفجع أمها في أمل قد يلازمها بضعة أشهر أخرى، وثانيا أريد أن أبحث عن مدرسة لتعليم ...
وعادت الدموع في عينيه مرة أخرى، وأطرق همام. ولكن عزت أكمل جملته في صوت يختلط بالبكاء: الصم.
الفصل العاشر
رحمتك اللهم ورضاك، كان أهون علي لو أرحتها من العالم وأخذتها إلى جوارك، ولكن الأمر أمرك لا حيلة لنا فيه. ما ذنبها يا رب؟ ماذا جنت؟ ولكن سبحانك، تصيبنا لتختبر الصبر فينا، وهل نملك إلا الصبر؟ بماذا تلاقي الدنيا هذه الفتاة المسكينة؟ بنتي حبيبتي، لقد سدت منافذ الصوت إلى عقلها، وقف وعيها عند هذه السنوات القلائل التي بلغتها من العمر، ما مصيرها؟ أتظل ترنو إلينا بهذه العيون الحائرة القلقة المذعورة؟ إنها لا تدري ما بها وهي تحسه أو فيما يكون الحس، لم تعد تسمع شيئا، لا تستطيع الضحك، ولا تعرف إلا البكاء، كلما رأتنا نتكلم، فهي لا تسمع كلامنا وإنما تراه، تبكي، لقد فقدت شيئا كبيرا، ثم هي لا تدري ماذا فقدت فتبكي، تسأل، تسألني، وتسأل أخاها، وتسأل أختها: لماذا لا أسمع؟ وكيف نجيب؟ وكيف تسمعنا إن نحن أجبنا؟ يا حبيبتي يا بنتي، أهكذا ينقطع ما بينها وبين الحياة، لا تتصل بالدنيا إلا بعيون جاهلة. طفلة صغيرة حائرة، ترى أتجدي هذه المعلومات القلائل التي تعلمتها؟ وإلا فكيف تتعلم؟ أو كيف تعيش؟ يا رب هذا هو القضاء، فأين اللطف فيه؟ وتلك هي الكارثة، فيدك الكريمة يا رب ترفع بعضها أو تخفف وقعها، يا كريم يا رب.
ضاقت بالسرير وضقت بالأمل، فتركت هي السرير. أتراني أستطيع أن أترك الأمل؟ وماذا لي غيره، يأس؟ يأس قاتل أسود مرير، كحياتها بل كحياتي، أبقاك الله يا عزت، تريد أن تخفف عني المصيبة ولعلها عليك أشد. وتريد أن تفسح لي أملا من السفر إلى الخارج، وهل أجهل المرض، أليس في أوروبا صم؟ فما لهم لم يعالجوا هناك إذا كان هناك من يعالج؟ ولكنها صغيرة، فالفاجعة فواجع، والمصيبة مصائب، لن تكون بنتي فايزة صماء فحسب، بل قد تغدو شبه بلهاء. أو كيف تفهم ما يدفع عنها البله وهي لا صلة لها بدنيا الناس إلا عقل استقر عند السادسة لا ينمو. وكيف له أن ينمو؟ وعلم توقف لا يزيد. وكيف يزيد؟ أأرجو لها الموت؟ يا لي من أم قاسية، أأتمنى لها الموت لترتاح هي أم لأرتاح أنا؟ ماذا فعلت يا رب حتى يصبح موت ابنتي أمنية عندي؟ هل أستحق هذا؟ لعلك في مطوي علمك قد ادخرت لي عندك ثواب هذا العذاب. ولكن سبحانك أي ثواب يعدل ما ألاقيه، ولكن سبحانك فإنك تعلم ما لا نعلم وحسبنا أنت. إنك أنت، أنت حسبنا ونعم الوكيل.
وقامت إجلال هانم من جلستها الصامتة الصاخبة تملأ الدموع وجهها، دموع حارقة لا تطفئ نارا ولا تريح فؤادا. قامت فاستقبلت القبلة وأقامت الصلاة تتمتم ألفاظها غائبة عن معانيها وتؤدي مناسكها ذاهلة، وإنما هي قيام وركوع وسجود تقوم بها جميعا كشيء يسير في طريق فرض عليه لا يدري مبتدأه أو منتهاه.
وحين بلغت إجلال قراءة التحيات الأخيرة دلف إلى الغرفة زوجها عزت واتخذ كرسيا وظل يرنو إليها يجاهد نفسه ما وسعه الجهد ألا تبدر من عينيه دمعة، والله وحده يعلم أي كفاح مرير بذله حتى يذود الدموع عن عينيه، تاركا قلبه يبكي في نشيج مرير مكتوم. كان لا بد له أن يصبر حتى يصبر البيت جميعه، وكان لا بد له أن يتماسك حتى لا يفقد أسرته كلها، فصبر وتماسك.
إذا أصاب الموت بيتا فأيام أو شهور ثم يعود البيت إلى سابق حياته، فالموت يطوف طواف الزائر العجلان، يختار من يختاره ثم يمضي به لا يترك إلا الذكرى. وللأيام على الذكرى سطوة، فهي تنسيها، وإن عادت بها فلحظات أو ساعات ثم يعود القوم المصابون إلى مألوف حياتهم. أما هذه الكارثة التي أصابت بيت عزت فهي قائمة تسعى في البيت تطالع القلوب التي تحف بها بالهول الذي أصابهم فيها، وإنهم ليدركون ما أصابهم ويقدرون عواقبه، وينظرون إلى المستقل الذي ينتظرها فلا يرون إلا سوادا حالكا، أما هي فقطعة من إحساس يسعى في البيت، إحساس يعلم أنه مصاب بفادح من الأمر، ثم يقف بها العلم عند الشعور بلا إدراك ولا تفكير في العواقب ولا نظر إلى المستقبل.
فرغت إجلال من الصلاة ولم تفرغ دموعها فإنها لا تزال تنهمر على وجنتيها سكبا بلا توقف، وأنعم عزت فيها النظر بعض الحين حتى ملك مر لسانه وقال: وبعدلك يا إجلال؟ - لا عليك يا عزت، تحملني، المصيبة كبيرة. - لعل الله يكرمنا فنجد علاجا في أوروبا. - أتراني صغيرة يا عزت؟ لا فائدة، وأنا أعلم أن لا فائدة.
وارتج على عزت هنيهة ثم قال: كيف؟ كيف؟ من قال هذا؟ - أنا أقوله، اسمع، المهم أن نبحث الآن عن طريقة تتعلم بها القراءة والكتابة. - لعلنا في أوروبا نجد الطريقة. - ماذا تتعلم هناك؟ لغة أخرى غير لغتنا، لا، دع عنك سفر أوروبا هذا، لا فائدة منه على الإطلاق. - يا ستي من يعرف؟ - عزت، أرجوك، أنا لست صغيرة. - طيب! لعلنا نجد لها مدرسة هناك؟ - ولا هذا، هل يمكن أن أتركها في هذه المدرسة؟ ثم ماذا تتعلم فيها؟
صفحه نامشخص