[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد (الأمين، وآله الأكرمين، وبه نستعين) الحمد لله الرافع لأولي العلم في الجنة درجات، والخافض لأولي الجهل في النار دركات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المؤيد بالمعجزات، وعلى آله أهل الفضل والكرامات، وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرض والسموات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالآيات البينات، وتدارك به الأمة من الضلالات، صلى الله عليه وعلى آله بحور العلم الزاخرات، أما بعد:
فإني لما رأيت تقاصر أهل الزمان عن طلب العلم الشريف، وميلهم عن منهجه المنيف، ومن طلب منهم فهو كخابط عشواء، أو كأعمى يقود أعمى لا يلتفت إلى ما ينبغي (له) من معرفة فضيلة العلم، والعلماء، ومعرفة الآداب التي يحتاج إليها في طلبه حتى يساوي بها أو يداني الحكماء؛ أردت أن أضع في ذلك مختصرا يشتمل على ما يحتاج إليه العالم والمتعلم، ليكون مشحذة للهمم العلية، ومعبرا إلى الطريق السنية، وأذكر فيه ما صح لي سماعه أو استجزته عن مشايخي أبقاهم الله تعالى وعافاهم من الأدلة مع اعترافي بقلة البضاعة، وقصور الباع عن هذه الصناعة، فلست من أهل هذا الشأن ولا من فرسان الميدان، ولا ممن له في سباحة هذا البحر يدان، ولكني نظرت إلى قوله تعالى: ?ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله?[الطلاق:7] وإلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
صفحه ۳۵
((ما أهدى المسلم لأخيه المسلم أفضل من كلمة حكمة سمعها فانطوى عليها ثم علمه إياها يزيده (الله) بها هدى أو يرده عن ردى، وإنها لتعدل إحياء نفس ?ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا?)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس)) وغير ذلك من الأدلة (الدالة) على ذلك ورتبته على خمسة أبواب:
الباب الأول: في فضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك.
الثاني: في آدابهما وما يتصل بذلك.
الثالث: في بعض ما ورد في أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وكون قوله حجة.
الرابع: في فضل أهل البيت عليهم السلام وكون إجماعهم حجة.
الخامس: في فضل الشيعة وما يتصل بذلك.
وسميته: ب (الثمار المجتناة في فضل العلم والعلماء والهداة وما يتصل بذلك من الآداب ومعرفة الفرقة الناجية) أسأل الله أن يجعل ذلك خالصا لوجهه، وأن ينفع به إنه أكرم مسؤول وأعظم مرجو ومأمول، وهو حسبي ونعم الوكيل.
صفحه ۳۶
الباب الأول في فضيلة العلم والعلماء والمتعلمين
اعلم أيها الطالب للنجاة أن طلب العلم أفضل المطالب، وكسبه أشرف المكاسب، وهو أرفع المعالي والمفاخر، وأحمد المصادر والموارد وتقدم بشرفه الأصاغر على الأكابر، واستضاءت ببهائه الأسرار والضمائر، هو سراج يستضاء به في الظلم، ومفتاح المقفلات البهم، وبه يدرك الفوز والرضوان والخلود في غرف الجنان، وأهله سادات في كل آوان، ومقدمون على الآباء والإخوان شعرا:
أفضل أستاذي على قدر والدي .... وكل له فضل وكل له شرف
صفحه ۳۷
فذاك مربي الروح والروح جوهر .... وهذا مربي الجسم والجسم من خزف وبهم يكمل الإيمان، ويسعد أهل الزمان، ويصلح بهم الرعية والسلطان، ويرغم أنف الشيطان، إصطفاهم رب الأرباب، وأورثهم السنة والكتاب، أحيا الله بهم الدين، وجعلهم أئمة للمسلمين، وقدوة للمهتدين، وكعبة للمسترشدين، والدليل على ذلك قول الله تعالى:?قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون?[الزمر:9] وقوله تعالى: ?ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا?[البقرة:269] وقوله تعالى: ?إنما يخشى الله من عباده العلماء?[فاطر:28] وقوله تعالى: ?رب زدني علما?[طه:114] (وقوله تعالى): ?وما يعقلها إلا العالمون?[العنكبوت:43].وقوله تعالى: ?شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط?[آل عمران3:18] وقوله تعالى: ?وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم?[آل عمران:7].
ويقال: سادات الناس ثلاثة: الملائكة، والأنبياء، والملوك، وكلهم أجمعوا على تعظيم العلماء، فالملائكة سجدوا لآدم صلى الله على نبينا وعليه لعلمه، وموسى عظم الخضر على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وملك مصر عظم يوسف عليه السلام لعلمه ويكفيك دليلا على فضله كونه يحرسك والمال تحرسه وهو يزكو مع الإنفاق، والمال ينقص معه، وما من أحد إلا وهو يريد العلم ويكره الجهل، ما ذلك إلا لأنه ارتكز في العقول، أنه صفة مدح، والجهل صفة ذم.
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(1) ((العلماء ورثة الأنبياء)).
صفحه ۳۸
(2) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أحدكم ولا فخر)).
(3) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)).
(4) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا إلا من أحيا الله قلبه بالعلم)).
(5) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يسير الفقه خير من كثر العبادة، وخير أعمالكم أيسرها)).
(6) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده)).
(7) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خير ما يخلف الرجل بعده ثلاثة: ولدا صالحا يدعو له، وصدقة جارية يبلغه أجرها، وعلم يعمل به)).
(8) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نعم وزير الإيمان العلم)).
(9) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اكتبوا هذا العلم عن كل صغير وكبير وعن كل غني وفقير، ومن ترك العلم من أجل أن صاحب العلم فقيرا أو أصغر منه سنا فليتبوأ مقعده من النار)).
(10) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((العلم خزائن ومفاتيحها السؤال، فاسألوا يرحمكم الله فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل والمعلم والمستمع والمستجيبب لهم)).
(11) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته)).
صفحه ۳۹
(12) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما أعز الله بجهل قط)).
(13) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قيدوا العلم بالكتاب)).
(14) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الغدو والرواح في تعلم العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله)).
(15) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فقيه واحد أفضل عند الله من ألف عابد)).
(16) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نوم العالم أفضل عند الله من عبادة الجاهل)).
(17) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: في آخر خبر: (( ولمذاكرة ساعة أحب إلى الله تعالى من عبادة عشرين ألف سنة)).
(18) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ركعتان من عالم خير من ألف ركعة من عابد جاهل)).
(19) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الكلمة يتعلمها المسلم من أخيه المسلم أو يعلمها إياه أفضل من قيام ألف ليلة وصيام ألف يوم وصدقة ألف دينار، وصدقة ألف درهم، وحجة مبرورة)).
(20) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( النظر إلى وجه العالم خير من عبادة ستين سنة، وتفكر ساعة خير من عبادة سنة قيام ليلها وصيام نهارها)).
(21) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((تعليم حرف في العلم خير من عبادة مائة سنة وتفكر ساعة خير من عبادة سنة)).
(22) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((العلماء زين ومجالستهم كرم، والنظر إليهم عبادة....، والمشي معهم فخر، ومخالطتهم والأكل معهم شفاء للناس، تنزل عليهم (ثلاثون)رحمة وعلى غيرهم رحمة واحدة)).
(23) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ولهلاك قبيلتين من قبائل العرب خير لهذه الأمة من هلاك عالم واحد)).
صفحه ۴۰
(24) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم ارحم خلفائي -ثلاثا- قيل: يا رسول الله من خلفاؤك؟. قال: الذين يأتون من بعدي فيروون أحاديثي وسنتي ويعلمونها الناس من بعدي)).
(25) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من نقل عني إلى من لم يلحقني من أمتي أربعين حديثا كتب في زمرة العلماء، وحشر في جملة الشهداء))، ولهذا الحديث لا يزال العلماء رحمهم الله تعالى يلاحظون في الأربعونيات.
(26) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله فقيها، وكنت له يوم القيامة شافعا [و]شهيدا)).
(27) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ضالة المؤمن العلم كلما قيد حديثا طلب إليه آخر)).
(28) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن من أفضل الفائدة حديث حسن، يسمعه الرجل فيحدث به أخاه)).
(30) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا كان يوم القيامة وضعت منابر من ذهب عليها قباب من فضة مرصعة بالدر والياقوت والزمرد جلالها السندس والإستبرق ثم يجاء بالعلماء فيجلسون فيها، ثم ينادي منادي الرحمن عز وجل أين من حمل إلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم علما أتي به، يريد به وجه الله؟ اجلسوا على هذه المنابر ولا خوف عليكم حتى تدخلوا الجنة)).
صفحه ۴۱
(30) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من زار عالما فكأنما زار بيت المقدس، ومن زار بيت المقدس محتسبا لله حرم الله لحمه وجسده على النار، ومن أدرك مجلس عالم فليس عليه في القيامة شدة ولا عذاب ثم قال: عباد الله كونوا علماء ولا تكونوا جهالا، فإن الجاهل (في الدين) مثل الأعمى في سواد الليل لا يعرف طريقه فكيف يقطع الطريق وهو لا يعرف وفي الآخرة ملوم خاسر عند الله من العقوبة [ثم قال: أي قلب يدرك عذاب الجاهل في الآخرة ولو أن الجاهل يعلم قدر ما أعد الله من العقوبة] لا يأكل طعاما بشهوة ولا يشرب شرابا بشهوة.)) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الموت الموت)).
(31) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد)).
(32) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((جالسوا العلماء وسائلوا العلماء وخالطوا الحكماء)).
(33) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)).
(34) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا كان يوم القيامة يقول الله للمجاهدين والعابدين: ادخلوا الجنة، فيقول العلماء: بفضل علمنا تعبدوا وجاهدوا، فيقول الله: أنتم عندي كملائكتي اشفعوا تشفعوا ثم ادخلوا)).
(35) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((العلماء أمناء الله على خلقه)).
(36) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يشبع العالم من علم حتى يكون منتهاه الجنة)).
(37) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن لكل شيء معدنا ومعدن التقوى قلوب العارفين)).
صفحه ۴۲
(38) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الفتنة تجيء فتنسف الناس نسفا فينجوا العالم منها بعلمه)).
(39) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن لكل شئ خيار وخيار العلماء الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة)).
صفحه ۴۳
فصل: في الترغيب في طلب العلم
(40) روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من خرج من بيته ابتغاء العلم وضعت الملائكة أجنحتها له رضاء بما يصنع)).
(41) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((اطلبوا العلم يوم الإثنين فإنه ميسر لصاحبه)).
(42) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((تعلموا العلم قبل أن يرفع ورفعه ذهاب أهله فإنه لا يدري أحدكم متى يحتاج إليه أو يحتاج إلى ما عنده)).
(43) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من عبر بحرا في طلب العلم أعطاه الله تعالى أجر سبعين حجة وعمرة، وسبعين غزوة ويهون عليه سكرات الموت)).
(44) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجواهر واللؤلؤ والذهب)).
(45) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)).
(46) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم مرحبا مرحبا بوصية رسول الله، وافتوهم)).
(47) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من طلب علما مما يبتغي به وجه الله لم يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة -يعني ريحها)).
(48) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وإنه ليستغفر لطالب العلم من في السموات ومن في الأرض حتى حيتان البحر وهوام البر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)).
صفحه ۴۴
(49) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من جاءه أجله وهو يطلب العلم لقيني ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوءة)).
(50) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الحكمة تزيد الشريف تشريفا، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك)).
(51) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من طلب العلم لله عز وجل لم يصب منه بابا إلا ازداد به في نفسه ذلا، وفي الناس تواضعا ولله عز وجل خوفا، وفي الدين اجتهادا فذلك الذي ينتفع بالعلم فليتعلمه ومن طلب العلم للدنيا والمنزلة عند الناس والحظوة عند السلطان لم يصب منه بابا إلا ازداد في نفسه عظمة وعلى الناس استطالة، وبالله اغترارا، وفي الدنيا جفاء، فذلك الذي لا ينتفع بالعلم فليكف وليمسك عن الحجة على نفسه والندامة والخزي يوم القيامة)).
(52) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من طلب علما فأدركه كتب له كفلان من الأجر، ومن طلب العلم فلم يدركه كتب له كفل من الأجر)).
(53) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل صاحب علم غرثان إلى علم)).
(54) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من طلب العلم تكفل الله برزقه)).
(55) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((اطلبوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده)).
(56) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما شفاء العي السؤال)).
(57) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله لا يقبل عمل عبد حتى يرضى قوله)).
(58) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((رحم الله عبدا أصلح من لسانه)).
صفحه ۴۵
فاغتنم أيها المغرور بهذه الفضيلة وارفض هذه الدنيا الحقيرة وكن عالما أو متعلما لا الثالثة فتهلك نسأل الله أن يرزقنا العلم والعمل به إنه على ما يشاء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فهذا ما أردنا نقله في الباب الأول، ويتلوا ذلك الباب الثاني في آداب العالم والمتعلم وما يتصل بذلك.
صفحه ۴۶
### || الباب الثاني في آداب العالم والمتعلم وما يتصل بذلك
[الآداب المتعلقة بالمدرس(الشيخ)]
فنقول وبالله التوفيق ينبغي للعالم أمور: منها:
الإنصاف للقارئ، والإقبال عليه، والتفقد لأحواله، وتمهيدها بما يحتاج إليه، وبما يعينه على طلب العلم، وحسن النظر فيما يسأله عنه والبحث عما التبس عليه، فإن ظهر له أجاب عنه، وإن أشكل قال: الله أعلم؛ فإنها نصف لعلم، ولا يعجل بالجواب حتى يتجلى له، ولا يتكلف في الجواب من غير تحقيق، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:
(59) ((إن الله يبغض المتكلفين)).
ومنها: أن لا يفرح بقبول أقواله ولا يحزن بردها، ولا يرد من طلب منه الفائدة أو لأجل فقره، ولأجل خموله، بل يتلقى الفقير والغني والشريف والوضيع على السواء.
ومنها: التسوية بين التلامذة في النظرة، واللحظة وإجابة السؤال، لئلا يوغر صدورهم بالإقبال على بعض دون بعض.
ومنها: أن يحسن تأديبهم بضرب الأمثال، وحكايات الصالحين، ويوضح لهم الأمثلة بحسب طاقته ويصافيهم ويودهم ويمازحهم عند أن يسأموا لطول القراءة أو لدقة المسائل ونحو ذلك.
ومنها: أن يبذل لهم النصح في كيفية ترتيب القراءة، وما الذي يبتدئ به المبتدئ وكيف الترقي في ذلك.
والذي رأيناه في ترتيب الدرس أن نقول لا يخلف طالب العلم، إما أن يطلبه في حال الكبر أو في حال الصغر وأيام الشباب.
صفحه ۴۷
إن طلب في وقت قد أيس عن إدراك الفائدة الكثيرة فالأولى له الاشتغال بمعرفة ما يجب عليه من العبادات بشروطها وفروضها، وما يحرم عليه من الأفعال الظاهرة والباطنة كالعجب والكبر والرياء ونحو ذلك، فإن المهلكات كثيرة، وما يجب عليه من مسائل أصول الدين وغير ذلك.
وإن وقع الطلب في وقت الصغر أو في أيام الشباب فالأولى له البداية بعلم النحو بعد معرفة ما يجب عليه من أصول الدين فهو فأس العلوم وقد رأينا من يكد في طلب العلم بغير نحو فلا يحصل من سعيه على طائل، ويبدأ منه بمختصر (كالبحرق) ثم يترقى إلى (الفاكهي)، و(القواعد) ونحو ذلك، ثم بعد ذلك لا بأس عليه أن يخلط مع علم النحو علم التصريف، فإنه كالجزء من علم النحو وقد رأينا (الكافية) و(الشافية) لابن الحاجب مع أحد الشروح (كحاشية السيد المفتي) على (الكافية)، و(شرح المناهل) على (الشافية) للشيخ لطف الله الغياث، أنفع ما يكون في ذينك الفنين ولا يستغنى في قراءتهما بأول شرف بل يكرر درسهما حتى يصيرا له ملكة فإذا أتقنهما انتقل إلى (علم المعاني والبيان)، و(أصول الفقه)، ويكفي في كل فن مختصر نحو (التلخيص) وشرحه في المعاني والبيان، ونحو (الكافل) وأحد شروحه، كشرح سيدي أحمد لقمان.
صفحه ۴۸
ثم بعد ذلك لا بأس عليه في أي فن قرأ، ولا بأس أن يفعل معشرا واحدا من أول الطلب مع ما ذكرت من الفنون المرتبة في (شرح الأزهار)، ليعرف العبادات فهذا ما ينبغي للشيخ فعله ولو لم يمكن فعله من التلاميذ إلا بالإغلاظ عليهم والتخشين في القول ما لم يؤد إلى جرح الصدور وإحباط الأجر، وقد جعل بعضهم عدم ترتيب القراءة من الشيخ خيانة وهي لعمري كذلك. فقد رأينا من يتعاطى طلب ماليس له بأهل فيبقى أعواما وسنين في كد ونصب، ولم يحصل على فائدة، وما سبب ذلك إلا عدم الترتيب في القراءة كما قرره العلماء رحمهم الله تعالى في أجوبتهم ومصنفاتهم فإنه أجاب سيدي هاشم بن يحيى الشامي حين سئل عن ترتيب القراءة بما معناه، ما ذكرنا من الترتيب، وليحذر الطالب أن يطلب هذه العلوم ثم يهمل علم التفسير وعلم السنة فهما البغية المقصودة والضالة المنشودة، وأما ما تقدم من العلوم فإنما هي موصلة إليهما وإلا فهما مرجع جميع العلوم في الحقيقة فيهما تبيين الحلال والحرام، والمندوب والمكروه، والمباح، والعدل والتوحيد، والوعد والوعيد، والزهد والطب، والآداب والمواعظ والقصص والأخبار، وعلى الجملة ما من علم ينتفع به إلا وهما أصله، وهو متفرع عنهما نسأل الله الإعانة على حفظ معانيهما فإنه أكرم المسؤلين وهو رب العالمين.
صفحه ۴۹
[الآداب المتعلقة بطالب العلم ]
وأما ما ينبغي للطالب فخصال:
الأولى: حسن التأدب والتواضع، والتعظيم لشيخه، فيبتدئه بالسلام ويقل بين يديه الكلام ومن ذلك أن يدعوه بأحب الأسماء إليه، فإن حق الشيخ كحق الوالدين وقدنصوا أنه لا يدعوهما بأسمائهما ولا بالكنية، فكذلك الشيخ لا يدعوه باسمه العلم ولا بكنية لا تفيد تعظيما، ولقد رأينا بعض من يدعي العلم وليس به إذا عرف أن غيره أكمل منه بالغ في إغماط حقه وكتمه، وربما حمله ذلك على أن ينبزه بألقاب لا تليق بذلك العالم، وما ذلك إلا لينقصه عند الناس وهيهات أن يغطي على الشمس بيده، أو أن ينزف ماء البحر بفمه، فنعوذ بالله من الحسد فإنه الداء الدوي والشيطان المغوي.
الثانية: أن يفتتح قبل القراءة بالدعاء لشيخه ولنفسه ولإخوانه المؤمنين بأن يقول: أستفتح الله الهادي إلى الدين أن يهدينا وإياكم وهو خير الهادين، رضي الله عنكم وعنا وعن والديكم وعن والدينا، وعن الصالحين كافة بحرمة الفاتحة، ويقول عند الختم من الدعاء: إلى هنا ونزيد، وبالله التوفيق والفاتحة على نيتكم وبأن الله تعالى يجزيكم عنا أفضل الجزاء وأن يعشر خطاكم في الجنة وأن يفتح علينا وعليكم بالقرآن العظيم والعلم الشريف والعمل بهما وإلى روح سيدنا محمد وآله صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم.
صفحه ۵۰
الثالثة: ينبغي للتلميذ أن لا يحصره بكثرة السؤال، ويحسن مسائلته فلا يسأله في حال إلقائه عليه، أو على غيره ولا يسأله عن شيء غير ما هو مشغول فيه، ولا يسأله عن شيء مضى، ولا عن شئ مستقبل، وعليه التلقي والقبول لما ألقاه عليه، والتحفظ له ولا يعجل برده ولا باعتراضه فإن بان له فيه وجه سؤال بحث عنه بحسن عبارة على وجه السؤال لا على وجه الاعتراض والتعنت فإن ذلك يؤدي إلى حرمان الفائدة.
ومنها: أن يتخلق بأخلاق الصالحين، وأن يتواضع لجميع المؤمنين ولا يتشبه بأهل البادية في الجفاء والقسوة والغلظة، فإن كان الطالب من البادية فينبغي له أن يتشبه بالصالحين من أهل الحضر في الآداب الحسنة، فإن ((من تشبه بقوم فهو منهم))
شعرا:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم .... إن التشبه بالكرام فلاح
وذلك لأن أهل القرى ألين عريكة وأحسن طباعا، وقد روي أن الله تعالى لم يبعث نبيا من أهل البادية ولا من الجن، ولا من النساء، وقال جرير في ذم البادية:
أرض الفلاحة لو أتاها جرول .... أعني الحطيئة لاغتدى حراثا
ما جئتها من أي وجه جئتها .... إلا حسبت بيوتها أجداثا
(60) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من بدا فقد جفا)).
(61) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الجفاء والقسوة في الفذادين)) ولأهل البادية غرام بحبها قال بعضهم وقد دخل الحضر فاشتاق إلى البادية:
لعمري لأصوات المكاكي بالضحى .... وشحم تنادي بالعشي نواعبه
أحب إلي من فراخ دجاجة .... صغار ومن ديك تنوس عباعبه وقول الأخر:
صفحه ۵۱
فليت لنا بالجوز واللوز كماة .... جناها لنا من بطن نخلة جان
وليت العلاص الأدم قد وجدت .... بنا بواد تهام في ربا ومثان
بوادي تهام ينبت السدر صدره .... وأسفله بالمرخ والعلجان
فهذا ما أردنا نقله من التخلق بأخلاق الصالحين والتواضع، والدليل على ذلك قوله تعالى: ?ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون? [الحجرات:2].
قال النجري رحمه الله تعالى في (شرح آيات الأحكام): دلت على وجوب التواضع لأهل العلم لأنهم ورثة الأنبياء، وعلى وجوب التعظيم لهم وخفض الصوت في مجالسهم وأنهم لا ينادون بأسمائهم ولا بالأصوات المرتفعة كما ينادى غيرهم ولا يفزعون بقرع أبوابهم وفي الحديث:
(62) ((من غض صوته عند العلماء جاء يوم القيامة مع الذين امتحن قلوبهم للتقوى)) ولا خير في الملق والتواضع إلا ما كان لله في طلب علم، وأن الأولى لمن طلب الحاجة منهم، إلا أن لا يطلبهم الخروج من منازلهم بل ينتظرون بالوقوف عند أبوابهم، فإن الوقوف بها شرف كما روي. انتهى كلام النجري نسأل الله أن يقود بنواصينا إلى الخير، وأن يوفقنا لما فيه رضاه وتقواه بحوله وطوله آمين.
صفحه ۵۲
الرابعة: مما ينبغي لطالب العلم أن يحسن النصيحة لزميله، وأن يخلص له المودة، وأن يعاشره بأحسن المعاشرة، وأن يعينه على الحفظ ويوضح له ما أشكل عليه عند الشيخ، فإن المؤمنين كالبنان أو كالبنيان يشد بعضه بعضا، وأن لا يتكبر عليه إذا كان قد أحرز من الفائدة أكثر منه، وأن يحسن خلقه للناس جميعا سيما لزميله فإنه قد ظفر بأخ صالح في الله، فمن الحسرة العظمى أن يضيعه فيخاف أن لا يجد مثله عقوبة.
ولا خير في الدنيا إذا لم يكن بها .... صديق صدوقا يعرف الحق منصفا
فإن من أفضل المكاسب اكتساب الإخوان.
(63) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( إن من الإيمان حسن الخلق وأفضلكم إيمانا أحسنكم خلقا)).
(64) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((الدين الخلق الحسن أليس إيتاء الزكاة من الخلق الحسن أليس الحج من الخلق الحسن أليس الصلة من الخلق الحسن أليس حسن الجوار من الخلق الحسن)) ثم تلا قوله تعالى: ?وإنك لعلى خلق عظيم?[القلم:4] قال: حسن.
(65) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا في الجنة أحسنكم خلقا، وإن أبعدكم مني منزلا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون قال ابن عباس: قلنا يا رسول الله: أما الثرثارون والمتشدقون فقد عرفناهم، فمن المتفيهقون؟ قال: المتكبرون. قلنا: يا رسول الله أمن الكبر الدابة نركبها والحلة نلبسها والطعام نصنعه للإخوان؟ قال: لا ولكن من سفه الحق وغمط الناس)).
صفحه ۵۳
(66) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أفضلكم إيمانا أحسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الوصلون أرحاما)).
(67) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا ضمين بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحا وبيت في أعلى الجنة لمن أحسن خلقه)).
(68) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((البر حسن الخلق)).
(69) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق)).
(70) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)).
(71) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن أحسن الحسن: الخلق الحسن)).
(72) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن العبد ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم)).
(73) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن من سعادة المرء حسن الخلق)) فهذا ما ينبغي إيراده في هذا المختصر فاشدد بحسن الخلق يدا فإنه أشرف الخلال، وأحمد الخصال، وبه يجتلب المرء المودة من جميع العباد.
صفحه ۵۴