The Veil: The Law of God in Islam, Judaism, and Christianity
الحجاب شريعة الله في الإسلام واليهودية والنصرانية
ژانرها
الحجاب
شريعة الله في الإسلام واليهودية والنصرانية
سامي عامري
1 / 1
الإهداء
إلى أخواتي العفيفات في كلّ أرض.. نضّر الله وجوههن..
ورزقهن نعيم الجنان..
وزادهن بسطة في الإيمان!
1 / 5
الحُسْنُ أسفرَ بالحجابِ (١)
قمر توشحَ بالسَحابْ
غَبَشٌ توغل، حالمًا، بفجاجِ غابْ
فجرٌ تحمم بالندى وأطل من خلف الهضابْ
الورد في أكمامه
ألق اللآلئ في الصدفْ
سُرُجٌ تُرفرفُ في السَدَفْ
ضحكات أشرعةٍ يؤرجحها العبابْ
ومرافئ بيضاء تنبض بالنقاء العذبِ من خلل الضبابْ
من أي سِحرٍ جِئت أيتها الجميلهْ؟
من أي باِرقة نبيلهْ
هطلت رؤاك على الخميلةِ فانتشى عطرُ الخميلهْ؟
من أي أفقٍ ذلك البَرَدُ المتوجُ باللهيبِ وهذه الشمسُ الظليلَهْ؟
من أي نَبْعٍ غافِل الشفتينِ تندلعُ الورودُ؟ - من الفضيلَهْ
هي ممكنات مستحيلهْ!
قمر على وجه المياهِ َيلُمهُ العشب الضئيلُ وليس تُدركه القبابْ
قمر على وجه المياه، سكونه في الاضطراب، وبعده في الاقترابْ
غَيب يمد حُضورَه وسْطَ الغيابْ
وطن يلم شتاته في الاغترابْ
روح مجنحة بأعماق الترابْ!
_________
(١) قصيدة للشاعر «أحمد مطر»، نظمها لمّا منعت فرنسا المسلمات من أن يرتدين الحجاب في مدارسها!
1 / 9
وهي الحضارة كلها تنسَل من رَحِم الخرابْ
وتقوم سافرة لتختزل الدنا في كِلْمتين: (أنا الحِجابْ!)
الحُسْنُ أسفرَ بالحجابِ فمالها حُجُبُ النفورْ
نزلت على وجهِ السفورْ؟
واهًا ... أرائحة الزهور تضيرُ عاصمة العطورْ؟
أتعف عن رشْفِ الندى شَفَةُ البكورْ؟
أيضيق دوح بالطيورْ؟!
يا للغرابة! - لا غرابهْ
أنا بسمة ضاقت بفرحتها الكآبهْ
أنا نغمة جرحت خدود الصمت وازدردت الرتابهْ
أنا وقدة محت الجليد وعبأت بالرعب أفئدة الذئابْ
أنا عِفة وطهارة بينَ الكلابْ
الشمس حائرة يدور شِراعُها وَسْطَ الظلام بغير مرسى
الليلُ جن بأفقها والصبحُ أمسى!
والوردة الفيحاء تصفعها الرياح ويحتويها السيل دَوْسا
والحانة السكرى تصارع يقظتي وتصب لي ألمًا ويأسا
سأغادرُ المبغى الكبيرَ ولست آسى أنا لستُ غانية وكأسا!
نَعلاكِ أوسعُ من فرنسا
نعلاكِ أطهرُ من فرنسا كلها جَسَدًا ونفْسا
نعلاك أجْملُ من مبادئ ثورةٍ ذُكِرَتْ لتُنسى
مُدي جُذورَكِ في جذورِكِ واتركي أن تتركيها
قري بمملكةِ الوقارِ وسَفهي الملِكَ السفيها
هي حرة ما دامَ صوتُكِ مِلءَ فيها
وجميلة ما دُمتِ فيها
هي مالَها من مالِها شيء سِوى (سِيدا) بَنيها!
هي كلها ميراثُكِ المسروقُ: أسفلت الدروبِ، حجارةُ الشرفاتِ، أوعيةُ المعاصِرْ
1 / 10
النفطُ، زيتُ العِطرِ، مسحوقُ الغسيلِ، صفائحُ العَرباتِ، أصباغُ الأظافرْ
خَشَبُ الأسِرةِ، زئبقُ المرآةِ، أقمشةُ الستائِرْ
غازُ المدفئ، مَعدنُ الشَفَراتِ، أضواءُ المتاجرْ
وسِواهُ من خيرٍ يسيلُ بغيرِ آخِرْ
هي كلها أملاكُ جَدكِ في مراكشَ أو دمشقَ أو الجزائِر
هي كلها ميراثك المغصوبُ فاغتصبي كنوزَ الاغتصابْ
زاد الحسابُ على الحسابِ وآنَ تسديدُ الحسابْ
فإذا ارتضتْ..أهلًا
وإنْ لم ترضَ فلترحَلْ فرنسا عن فرنسا نفسها إن كانَ يُزعجُها الحجابْ
الشاعر: أحمد مطر
1 / 11
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ (١)
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالًا كثيرًا ونساءًا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا﴾ (٢)
﴿يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا﴾ (٣)
أما بعد ...
يمثّل حجاب المرأة المسلمة اليوم في الحسّ الكوني مظهرًا من مظاهر الاستعلاء الفكري والسلوكي الإسلامي المتأبّي على التركيع في زمن تهاوت فيه الأنماط الفكريّة والأخلاقيّة الشرقيّة أمام سحر الليبراليّة الغربيّة التي أعلنت نهاية تاريخ الأفكار والقِيم عند سواحلها..
_________
(١) سورة آل عمران/ الآية (١٠٢)
(٢) سورة النساء/ الآية (١)
(٣) سورة الأحزاب/ الآيتان (٧٠-٧١)
1 / 13
ويمثّل في الجدل الأيديولوجي والفكري داخل بلاد المسلمين، أحد عناوين الصراع بين حملة رسالة الإسلام والعالمانيين (١) ..
وهو يشغل اليوم حيزًا كبيرًا من اهتمام الشرق والغرب، متصدّرًا عناوين المشهد السياسي والثقافي والإعلامي داخل بلاد المسلمين والبلاد الغربيّة لما يحمله من دلالة، ولما احتفّت به من هالة!
وتقع الحملة الموجّهة (لقولبة) الحجاب في صور نمطيّة متعددة الأوجه السلبيّة، ضمن سياق فكري تعاظمت فيه هجمات الصادين عن الحقّ، والمتسوّرين على حقائق الدين وثوابت الشرع؛ فقد أطلق المغرضون لألسنتهم عنان قذف المسلمات الملتزمات بأحكام الشرع بالرقيع من الدعوى، تحت ستار البحث الموضوعي والنقد الواعي، ممّا كشف أضغانًا داكنة قد أُشرِبتها قلوب المخالفين، وتبدّت أوهامهم شوهاء رغم أنّهم قد سعوا إلى أن يلبسوها دثار العقل والمنطق، وأن يجمّلوها بمطارف النصح والرفق..
وقد كان راكبو متون المحادة الفجّة للإسلام في النصف الثاني من القرن العشرين، خليطًا من الليبراليين والماركسيين، ولكن لماّ غيض الطرح الماركسي في تربة الأمة، وتبخّرت آخر قطراته تحت لفح الطرح القرآني الأصيل، التحق أبناء (الآفلين) بعربة دعاة الليبرالية، (متناسين) ما كان يفرّقهم ويثير بينهم النزاع والشقاق، ثم انضمّت لقافلة (الآبقين) فلول المنصّرين على تعدد كنائسهم وبرامجهم؛ فكان الركب المسارع إلى جَدْل خيوط الفتنة، خليطًا يجمع أضغاثًا من الأفكار المتنافرة والعقائد المتحادّة التي لم يلمّ شملها ويجمع (أعوادها) المتشاكسة غير (التململ) من جاذبيّة هذا الدين!
ويتولّى الإعلام العربي اليوم عمليًا (وظيفة) نشر هذا الفكر الفاسد، وتجديع جسد الأمّة وتمزيقه بإعلان المحادة الصريحة لفريضة الحجاب؛ فصارت القنوات الفضائية تنفث سيل الشتم
_________
(١) العالمانيون، جمع عالماني، وهو المقابل العربي الصحيح لكلمة (laïque) الفرنسيّة، لا (عِلماني) بكسر العين، ولا (عَلماني) بفتح العين؛ إذ لا علاقة لأصل الكلمة الأعجميّة «بالعِلم»، كما أنّه لا وجود لجذر «عَلْم» في المعجم العربي. وأصل الكلمة يعود إلى الكلمة اليونانية «لاؤس» «؟؟؟؟» التي تعني الشعب الذي يفكّر في (العالم/الدنيا) ويعمل له، في مقابل طبقة رجال الدين المنشغلين بالآخرة.
1 / 14
والتشهير؛ تصريحًا وتلميحًا ... وأصبحت الأذن تألف الكلمات النابيّة؛ تأنيبًا وتقريعًا ... وفَشَت التشبيهات الفاحشة للمحجّبات؛ تجريحًا وتقبيحًا ... (فالحجاب: حجاب على العقل)، و(النقاب: خيمة)، و(الملتزمة بأحكام الشرع: معقّدة)، و(من تأبى الاختلاط: متخلّفة) .. وأضحت قيمة المرأة ترتفع كلّما تقلّصت مساحة القماش الذي تلبسه.. وكلّما غطّت المرأة من جسدها شبرًا؛ كلّما فقدت من قيمتها قدرًا.. وهكذا هي العلاقة (المتناغمة) بين (اللحم) المبذول و(القدر) المصون.. وذاك هو القانون المُحَكَّم؛ كلّما أبدت المرأة من نفسها جزءًا؛ كلّما زِِيد لها في أفق (الوعي!!) مَدًا..!!؟
وهكذا استقرّت الصور المشوّهة عن الحجاب الإسلامي في أذهان (الإسفنجيين) الذين تتشرّب عقولهم كلّ ما يلقى إليها من فكر فاسد، وهو أمر واقع في الغرب كما الشرق، وكما تقول «كاثرين بلّوك» فإنّ: «الذين يستعملون التيار الإعلامي الرئيسي كمصدر وحيد للمعلومات عن الإسلام، لا يمكن أن يكتسبوا غير المنظور السلبي عن الحجاب.» (١)
لقد ركب العالمانيون والمنصّرون مَتْن (الدغدغة) واستثارة عواطف النساء، بشعارات لامعة خادعة، وفُتّحت الأبواب لكلّ مَنْ خوى وفاضه من الفهم والاطلاع؛ ليدلي بدلوه ويشنّع على الملتزمات باللباس الشرعي المطلوب..وليس على دعيّ (الفهم) و(البصيرة) إلاّ أن يدندن ببعض الكلمات التي يحسبها (ساحرة) ك: (المعاصرة) و(الحداثة) و(الحريّة) ... ويزيد على ذلك بعض الكلمات الأعجميّة التي لا يفقه هو نفسه لها معنى (!)، فإن فعل؛ فقد قدم المطلوب وبلغ ذرى المجد المنشود من (متنوّر!) يصارع قوى الظلام التي (تلوّث) عقول الفتيات المسلمات (!)، ويصاول (الخفافيش المحنّطة) (!) التي تريد أسر المرأة بين آكام الماضي السحيق (!) .. وكلّما أحدث هذا (الدعيّ) مزيدًا من (الصفير)؛ كلّما انفرجت له مغاليق الإعلام العربي، واحتفت به منصّات الندوات النديّة بالهذر والكلام (الخفيف) المنمّق..
في ظلّ هذا الجو البئيس وسيطرة التغريبيين على المنافذ الكبرى للبلاغ، تُمنع كلمة الحقّ بكلّ قوّة متاحة من الوصول إلى أسماع المسلمات.. ويُصوّر الحال على أنّ حملة الشريعة والداعين إلى استئناف الحياة الإسلاميّة، هم من السُوقة والمترديّة ممّن لا يعرفون غير سَوق الناس
_________
(١) Katherine Bullock، Rethinking Muslim Women and the Veil، London: The International Institute of Islamic Thought، ٢٠٠٢، p.xxxvi
1 / 15
بالسياط إلى حتفهم، وأنّهم أغمار لا يزيدهم الطول من الأعمار إلاّ تحجّرًا وتبلّدًا.. وأنّ بينهم وبين هذا العصر عداوة وإحنًا.. وهكذا.. زد من كلّ وصف ماتح للبشاعة من قعر النفوس العليلة..!!
لقد أطالوا في نقش وهم الكلام.. وحق علينا أن نجهر بالبيان..!
لقد أمعن دعاة العالمانيّة في استخدام منهج الإسقاط النفسي والتلبيس العقلي بأسلوب إنشائي ساذج فجّ.. فقالوا وجالوا في الديار يَدْعون لقولهم ويقمعون بسلطان الترهيب كلّ مخالف عَلِمَ وهاء قولهم ... فكان علينا أن ننزع عنهم وطاءهم؛ ليلامسوا جمر الحقيقة التي تحرق ما حاكوا من زور..
وأفاض أرباب التنصير في القول بلا علم وإطلاق الدعوى بلا برهان ونسبة الأباطيل إلى الإسلام، وكالوا للقرآن الكريم بغير ما كالوا لدينهم، وطمسوا من أسفارهم وتاريخهم كلّ ما لا يناغم الدعاوى التي وُكّلوا بنشرها، وتوجّهوا إلى النساء المسلمات ليُحْدِثوا من خلالهن شرخًا في جدار الأمّة، وثلمة في حصن الدين.. (١)
وقد دفعنا ما سبق إلى أنّ نرد على هؤلاء وأولئك بالبيان الشافي والجواب الكافي من شهادات القرآن الكريم الذي يفترون عليه، والواقع البشري الذي يزيفون معالمه ليثبتوا منه غير منطوقه وظاهر نتوئه، وأسفار أهل الكتاب وأقوال أعلام علمائهم بلفظها الصريح المحكم لينكشف ما يخفيه المنصّرون!
_________
(١) قال إمام المنصّرين في القرن العشرين «صامويل زويمر»: «بسبب حقيقة أنّ تأثير الأم على الأولاد والبنات.. عظيم، وأنّ النساء هنّ العنصر المحافظ في الدفاع عن إيمانهم؛ فإننا نعتقد أنّ على الهياكل التنصيريّة أن تركّز بصورة أكبر على النساء المسلمات كوسيلة للتعجيل بتنصير البلاد المسلمة.» (S. M. Zwemer، Moslem Women، p. ١٧٠، Quoted by، Katherine Bullock، op. cit.، p.٢٢)، وقال أحد المنصّرين الآخرين العاملين مع «زويمر»: «إذا كسبتَ البنات للمسيح؛ فقد كسبتَ مصر للمسيح.» (Van Sommer and Zwemer، Our Moslem Sisters، p.٥٩، Quoted by، Katherine Bullock، op. cit.، p.٢٢)
1 / 16
ليست الغاية هي أن نقول للنصارى واليهود إنّ ديننا لا يدعونا إلى (عيب)؛ فإنّ عندكم الحجاب كما هو عندنا..!
إنّنا لا نتبنّى هذا الخطاب الذي يرضى بأن يكون الشرع محلّ تهمة، وموضع حرج وريبة؛ حتّى نهرع لكلّ الأدلة لنقول لغيرنا إن ّالدليل على أنّنا على الحقّ، هو أنّ دينكم أيضًا يدعوكم إلى ما يدعو إليه الإسلام، وأنّ الحجّة على صواب مسلكنا، هي أنّ ذاك ما تدعو إليه عقائدكم ومذاهبكم!
إنّ غايتنا الحقّة هي تبشير المسلمة أنّ الله قد اصطفاها وخصّها بفضله أن تكون وحدها من بين نساء أمم الأرض محافظة على شريعته، مستجيبة لأمره، لمّا أوغلت الأمم الأخرى في الحرام، وتركت ما أنزل عليها من الحق القراح..
ولسنا هنا ساعين لإقناع غيرنا أننا نشاركهم في ما عندهم، إذ إنّ بيننا وبينهم مفازات كما بين الدلسة والإشراق، أو ما بين الحقّ الصُراح والباطل البَواح، وإنّما نحن ندعوهم في هذا المقام إلى أن تبصر أعينهم كيف جنت عليهم أيدي رجال الدين، ونرغّبهم في الحقّ الذي طمست حروفه في أسفارهم المقدّسة!
وهاك هذا الكتاب، حجّة للحقيقة التي يُراد وأدها، ونصرة للمسلمة التي تُعَلّم العالم اليوم معنى الطهر وحقيقة العفّة، وتظهر جمال الأنوثة المصونة، وجلال الرقي الإيماني، بعد أن استمسكت بالكتاب الهادي وتفيّأت مقيله.. فهي أحقّ الخلق بقول الشاعر:
وهم النجوم لكل عبدٍ سائرٍ ... يبغي الإله وجنة الحيوانِ (١)
وسواهم والله قطّاع الطـ ... ـريق أئمةٌ تدعو إلى النيرانِ
وقد تحدّثنا في مبتدأ الكتاب عن شبهات العالمانيين (ومن تابعهم)، وأظهرنا تهافتها وعوارها بالدليل والمثال؛ لتعلم المسلمة أنّ القوم ليسوا على شيء، وإنّما هي شبهات واهية ودعاوى واهنة..
_________
(١) الحيوان: الحياة الحقّة.
1 / 17
ثم انتقلنا إلى ما أثبتته الكتب التي يقدّسها اليهود والنصارى وأقوال أئمة المجتهدين في هاتين الديانتين، لنعلن أنّ اليهوديّة والنصرانيّة تجزمان بفرض الحجاب على النساء باعتباره شريعة ربّانيّة وفريضة أخلاقيّة..
وقد آثرنا أن يكون الحديث مختصرًا والكلام مختزلًا مع بذل خلاصة الباب والعصارة واللباب، بما لا يأخذ من القارئ وقتًا ولا طول نظر، ونرجو أن نكون قد وفّقنا إلى ذلك..
ونسأل الله بفضله أن ينير بهذا الكتاب بصائر، وأن يشرح به قلوبًا.. وأن يتقبّله من كاتبه في حياته، وأن ينير به قبره ويوسّع له فيه يوم يوارى تحت الجنادل بلا قوّة وسلطان، وأن يشفّعه فيه يوم تتطاير الصحف بعد أن تجفّ الأقلام..
فلا يَشُحَّن القارئ على مؤلّف الكتاب بدعوة بظهر الغيب!
1 / 18
الحجاب في الإسلام
الحجاب.. فريضة ربّانية:
الحجاب.. فريضة ربّانيّة في نصوص الوحي.. ومقصودنا «بالحجاب» هو اللباس الذي يغطي جسد المرأة كاملًا أو مع كشف الوجه والكفّين والقدمين (١) .. وهو اللباس الذي تظهر به المرأة أمام الرجال الذين لا يحرم عليها أن تتزوج منهم على التأبيد، كابن العم وابن الخال ومن لا تربطها بهم قرابة..
وقد جاءت النصوص القرآنية في تفصيل هذا الأمر وبيان حدوده، رغم أنّ عامة آيات الأحكام في القرآن الكريم نزّاعة إلى ترك التفصيل، وتقديم قواعد شرعيّة عامة؛ وما ذلك إلاّ لأهميّة هذا الأمر وتعلّقه بصميم بناء الشخصيّة الإسلاميّة للمرأة المؤمنة..
قال تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ
_________
(١) اختلف أهل العلم من المسلمين في حدود عورة المرأة أمام الرجال غير المحارم.. ولسنا هنا بصدد الانتصار لمذهب دون آخر، وإنّما نقول إنّ الحد الأدنى هو تغطية البدن كاملًا دون الوجه والكفين والقدمين.. وعلى هذا طائفة من أهل العلم والإمامة.. أمّا تغطية الوجه والكفين والقدمين، فهي في حكم الواجب على قول وسنّةٍ على قول آخر..
1 / 19
يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ (١)
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (٢)
ففي الآية الأولى جاء التصريح بوجوب ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب، ولا يستثنى من ذلك إلاّ «ما ظهر» من الزينة.. وهذا دليل أنّ على المرأة أن ترتدي ما تستر به نفسها، ولا يستثنى من ذلك إلاّ ما ظهر.. ولم يمتد خلاف أهل العلم في أمر الزينة (الظاهرة) إلى أكثر من الوجه والكفين والقدمين! (٣)
قال تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ (٤) . وقد روى «البخاري» عن «عائشة» ... ﵂ قالت: «لما أنزلت هذه الآية أخذن أزورهن، فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها.» .. وفي هذا النصّ دليل قاطع على أنّ شعر المرأة عورة؛ فقد غطت الصحابيات رؤوسهن لمّا نزلت هذه الآية، وهو فهم للآية أقرّه عليهن الرسول ﷺ.
_________
(١) سورة النور/ الآية (٣١)
(٢) سورة الأحزاب/ الآية (٥٩)
(٣) لا تذكر القدمان في هذا الاستثناء عند عامة من ينقلون الخلاف، ويُكتفي في الأغلب بالإشارة إلى الوجه والكفين.
(٤) سورة النور/ الآية (٣١)
1 / 20
وقال الرسول ﷺ: «المرأة عورة؛ فإذا خرجت استشرفها الشيطان» (١) . وهذا دليل على أن جميع بدن المرأة عورة؛ ومن أراد أن يستثني فعليه الدليل، ولا يعلم للمستثنين غير استثناء الوجه واليدين والقدمين.. وليس وراء ذلك مجال للزيادة..
وقال رسول الله ﷺ: «من جرَّ ثوبهُ خيلاءَ لم ينظرِ اللهُ إليهِ يومَ القيامةِ، فقالت أمُّ سلمةَ: فكيفَ يصنعُ النِّساءُ بذُيُولهنَّ؟ قال: يُرخينَ شبرًا، فقالت: إذًا تنكشفُ أقدامُهُنَّ، قال: فيرخِينهُ ذراعًا لا يزدنَ عليهِ.» (٢) .. هذا الحديث دليل على أنّ الأصل في المرأة الستر، وقد كانت هذه الصحابيّة تخشى أن يظهر منها قدماها لحرمة ذلك.. فكيف يقال مع ذلك إنّ الإسلام لم يحدد للمرأة لباسًا شرعيًا ساترًا؟!! أو أنّه يجوز لها أن تلبس ما يظهر الركبة أو ما دونها بقليل مادام (محتشما!!)؟!
هل اختلف أهل العلم في وجوب تغطية الرأس؟
شاع بين العالمانيين القول إنّ الإسلام لا يمنع المرأة من أن تلبس (على الموضة) مادام اللباس محتشمًا (!)، وجاؤوا بالدعاوى الكثيرة الباطلة التي ترفضها وتلفظها نصوص الكتاب والسنّة. وبلغ بهم أمر الجرأة على التحريف، أن قالوا إنّ علماء الإسلام لم يجمعوا على وجوب تغطية المرأة رأسها!
لقد اختار (بنو عِلمان) أن يزيفوا الحقيقة، وأن يسيروا على خلاف الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة، ليحقّ عليهم وعيد الله -جلّ وعلا-بالعذاب وسوء المآل لمن خالف هذا الإجماع:
_________
(١) رواه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حيان، والطبراني في معجمه الكبير والأوسط، والبزار، وابن أبي شيبة. وصحّحه الألباني.
(٢) رواه النسَائي، والترمذي وصحّحه.
1 / 21
قال تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ (١) .. فمن خالف سبيل الأمّة في إجماعها على أمر من الأمور؛ فقد شاق الرسول ﷺ وأهلك نفسه بلحوق الوعيد الشديد به.
لقد اتّفق علماء الإسلام منذ عصر الصحابة على أنّه على المرأة الحرّة أن تغطّي كامل بدنها، ولم يختلفوا إلاّ في الوجه والكفّين والقدمين. وهذا الاتفاق مبثوث في كتب أهل العلم، ومن هذه الشهادات التي تؤكّد حصر الخلاف في ما ذكرنا:
قال «ابن حزم»:
«واتفقوا على أن شعر الحرة وجسمها حاشا وجهها ويدها عورة، واختلفوا في الوجه واليدين حتى أظفارهما؛ عورة هي أم لا؟» (٢)
وأقرَّه شيخ الإسلام «ابن تيمية» ولم يتعقبه كما فعل في بعض المواضع الأخرى من تعقيبه على كتاب الإمام «ابن حزم» الذي خصّصه لنقل الإجماعات.
قال «الجزيري»:
«اختلف العلماء في تحديد العورة على مذاهب:
الشافعية في إحدى رواياتهم والحنابلة، قالوا: جميع بدن المرأة الحرة عورة، ولا يصح لها أن تكشف أي جزء من جسدها أمام الرجال الأجانب إلا إذا دعت لذلك ضرورة، كالطبيب للعلاج والخاطب للزواج، والشهادة أمام القضاء، والمعاملة في حالة البيع والشراء، واستثنوا من ذلك الوجه والكفين لأن ظهورهما للضرورة، أما القدم فليس ظهوره بضروري فلا جرم أنهم اختلفوا فيه أهو عورة أم لا؟ فيه وجهان، والأصح أنه عورة.
_________
(١) سورة النساء/ الآية (١١٥)
(٢) ابن حزم، مراتب الإجماع، مصر: دار زاهد القدسي، ص ٢٩
1 / 22
الحنفية والرأي الثاني للشافعية والمفتي به عند المالكية، قالوا: جميع بدن المرأة الحرة عورة إلا الوجه والكفين فيباح للمرأة كشف وجهها وكفيها في الطرقات، وأمام الرجال الأجانب، ولكنهم قيّدوا هذه الإباحة بشرط أمن الفتنة، أما إذا كان كشف الوجه واليدين يثير الفتنة لجمالها الطبيعي أو لما فيهما من الزينة وأنواع الحلي؛ فإنه يجب عليها سترهما ويصيران عورة كبقية أعضاء جسدها، وذلك من باب سد الذرائع ...» (١)
لم يتجاوز أهل العلم عند استعراضهم المذاهب الفقهية في أمر حدود ما يباح كشفه، الوجه والكفين والقدمين، فدلّ ذلك بذاته على إجماعهم على حرمة كشف ما عدا ما سبق.
شبهات حول الحجاب في الإسلام
في زمن (إفراغ) المسلم من ماهيّته، وتسطيح وعيه، وحجزه عن الانحياز إلى دينه وحضارته، بفعل التعليم الملحد (٢) عن صراط الحقّ، والإعلام المجيّر لخدمة العالمانيين والإباحيين، ورفع النماذج الفاسدة والتائهة لتكون قدوات تشرئبّ لها أعناق النائشة ويحتذى (بهديها!) .. في هذا السياق العقدي والثقافي، أوجد المناوئون للإسلام منفذًا إلى عقول شباب الإسلام، وتخلّلوا من خلال هذه الثغرة المعرفيّة في بنائهم العلمي ليصرفوهم عن دينهم الذي هو لبّ وجودهم وجوهر كيانهم..
ولمّا كانت العالمانية في تضاد دائم مع الإسلام، فقد وجد المنصّرون بذلك جوًا مهيّأ وسعة ويسرًا لمشاركة (إخوانهم) العالمانيين في السعي لزعزعة الثوابت الشرعيّة والحقائق الإيمانيّة الإسلامية، رغم اختلاف مشاربهم وتباعد مذاهبهم..
وبدأت القنوات الفضائيّة اليوم في خدمة هذا (المشروع) والترويج له؛ فهي تجمع في برامجها (التوجيهيّة!) إلى جانب العالماني الذي يحاول أن يخفي جحده لمبدأ الوحي المنزّل -بدعوى الفهم العصري للإسلام-، المنصِّرَ صاحب الأسفار المحرّفة والأفكار المعطّلة.. كلّ يشتكي في لوعة موجوعة حزينة من (أسلمة المجتمع) و(أصوليّة المجتمع) و(تحجّر المجتمع) .. وغير ذلك
_________
(١) الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، القاهرة: دار المنار، ١٤٢٠هـ-١٩٩٩م، ٥/٤٧
(٢) الملحد: المائل
1 / 23
من (القوالب) المألوفة من الشتائم المعروفة التي توصم بها مجتمعاتنا التي هي أبعد ما تكون عن أن تعدّ ممثّلة للإسلام، رغم ما فيها من خير متنامٍ.. فكيف لو كان العالمانيون والمنصّرون يعيشون في مجتمع تحكمه ضوابط الشريعة، ويسلك الناس فيه صراط الأحكام القويمة؟!!
إنّ العالمانيين والمنصّرين ليسوا (هبلًا) حتى يلتبس عليهم الأمر وتأخذهم الظنون إلى أنّ مجتمعاتنا على جادة الإسلام حقًا.. وإنّما هم يسعون –من وراء خطابهم المتّقد حنقًا- إلى الحيلولة دون عودة هذه المجتمعات إلى موئلها الأوّل والأخير: (الإسلام) .. ولذلك فهم يستحييون مشاعر (الريبة) و(الرُهاب) في أنفس أضرابهم؛ وكأنّ القوم تتهددهم جحافل الإجرام، أو كأنّهم يئنّون تحت كلكل (الظلاميات) التي تنشر في آفاق أبصارهم حجب الفقر والمرض والتخلف بأسبابه وأنواعه.. إنّه استباق (للكارثة) الكبرى التي يخشونها؛ وهي انخلاع أمّتنا من ربقة الفكر الوافد الاستلابي..فعندها سينفض الناس عنهم، وينضب ضرع (العطايا) التي يستحلبونها باسم نشر (التنوير) !!
ويشكّل الحجاب الإسلامي مصدر (قلق) لدعاة العالمانيّة وإخوانهم المنصّرين؛ ذلك أنّ الفكر التغربيبي والعمل التنصيري قد ظنّا –في بداية القرن العشرين- أنّ المرأة هي أضعف مناطق المناعة في الأمّة، فهي منفذ سهل لزرع الأدواء فيها..فبذلوا كلّ نفيس لأجل اختراق أجيال المسلمين من خلال المرأة، وأنشؤوا لذلك الجمعيات، وأقاموا لذلك المخططات طويلة النفس وقصيرة الزمن.. لكنّهم فوجئوا بعودة الفتاة المسلمة إلى دين الطهر وإدبارها عن الفتنة الزائفة التي عرضوها أمامها رخيصة، مستعصية بذلك على الذوبان في حوامض الفكر الاسترقاقي.. وهنا فقدوا اتزانهم المزيّف، ووسطيّتهم المختلقة المزوّقة، وسقطت أقنعة الخديعة، وأدبر عنهم شعارهم القديم: (حقّ الاختلاف)، وأرسلوا من ألسنتهم التهم والسباب، ولم يتوانوا عن تحقير كلّ امرأة رفضت أن تشتري منهم كفن هلاكها ورَمْس فنائها.. لأجل ذلك ردّدوا شبهاتهم الطاعنة في الحجاب، والتي سنستعرضها الآن؛ لنكتشف مبلغ ظلم أصحابها وعِظم مجافاتهم للحقّ.. وهي شبهات مكرّرة، تطرق أسماعنا كلّ حين بفعل الجوّ الثقافي والإعلامي الذي يتّخذ العالمانيّة محرابًا، وقِبلة، وشعيرة، ومهوى فؤاد.. ولا سبيل لنقض هذه الشبهات إلاّ أن نعرضها كما هي على ألسنة (أهلها)، ونعرّيها عن بريق الحقّ الذي تسربلت به على حين غفلة من حماة الفضيلة..
1 / 24
الشبهة الأولى: الحجاب، شريعة رجعيّة
كثيرًا ما طرق آذان المسلمات قول صارخ منتفش، ودعوى فجّة مغرورة أنّ «مطالبة المرأة (العربيّة) بارتداء الحجاب في القرن الواحد والعشرين، حيث تطوّر العالم، وبلغ في ابتكاراته العلميّة الذروة، وتطوّر المجتمع، وأصبح أكثر انفتاحًا ونضجًا؛ لهو دعوة صريحة إلى الانتكاس والعودة إلى القرون الوسطى؛ عصور الظلام!!»
الجواب:
أولًا/ ما معنى كلمة «رجعيّة» التي صار يكرّرها مناهضو الإسلام، ويرمون بها من يدعون إلى الالتزام بأحكام القرآن والسنّة، بكلّ حماسة؟
كلمة «رجعيّة» هي تعريب للكلمة الإنجليزيّة «reactionism» والتي يُقصد بها الدعوة إلى العودة إلى أيّ نظام أيديولوجي أو سياسي أو اجتماعي قديم. وقد ظهر هذا الاصطلاح إبّان الثورة الفرنسيّة في وصف من كانوا ينادون بالعودة إلى النظام الملكي والإقطاعيّة، بعد إزالة الملك والإقطاعيّة من فرنسا ... ثم صار كلّ من يدعو إلى العودة إلى نظام أو منهج سابق موصومًا «بالرجعيّة» .. فهل «الرجعيّة» بمعناها الاصطلاحيّ مذمومة بإطلاق؟
إنّ ولع التغريبيين بالاصطلاحات الغربيّة دون النظر إلى خلفياتها التاريخيّة وبيئتها التي نشأت فيها؛ قد أحدث لبسًا في الفهم وخللًا في الحكم على الواقع، قادهم إلى التناقض الفجّ والتسطيح الساذج في قراءة الواقع والتعامل الواعي والإيجابي معه.
إنّ كلمة «رجعيّة» كحكم سلبي على موقف أو مذهب، تحمل في داخلها مخزونًا معرفيًا متصلًا بحبل سُرِّي بالثقافة السائدة في الفكر الغربي الرافض لكلّ ثابت إنساني حيث تتبدّل القيم و(تتطوّر) بتبدّل الزمان!
إنّ إدانة «الرجعيّة» تعني إدانة كلّ حقيقة نازلة من السماء أو نابعة من اجتهاد بشري سليم، قُدِّر لها أن توجد في يوم من أيام (الماضي) .. ويترتّب على ذلك القول إنّ كلّ القيم الجميلة التي تبنّاها أجدادنا، وكلّ الأفكار الرائعة التي نافحوا عنها؛ يجب تجاوزها لأنّها من الماضي.. فكلّ «ماضٍ»، هو (فكر مرفوض) لا يجوز (الرجوع) -أو (الدعوة إلى الرجوع) - إليه، دون النظر في حقيقة قيمته ومبلغ صوابه!
1 / 25
هذه هي حقيقة تهمة «الرجعيّة» وذاك أصلها في منبتها الأوّل.. فهل يقبل العاقل من صاحبها تهمته لصاحبة الحجاب؟!!
وماذا لو أنزلنا حكم «الرجعيّة» على الواقع الغربي؟! ماذا ترى هذا المعترض يقول!؟؟
سأضرب مثالين اثنين، أظنّ أنّهما يغنيان عن التفصيل!
المثال الأوّل: انتقلت الأسرة في الغرب في ظلّ الأنظمة «الرأسماليّة المتوحشّة» «capitalisme sauvage» (١) من نموذج العائلة المتماسكة حيث يتقاسم الوالدان تربية الأبناء، ويربيانهم على مراعاة الأخلاق الفاضلة واحترام النظم العامة التي تخدم مصالح الشعب، إلى شكل الأسرة التي يعمل فيها كلّ من الأبوين لتحصيل أكبر مبلغ من المال دون الاهتمام بتنشئة الأبناء على القيم المحمودة؛ حتّى أصبح الأبناء نهبًا للفساد الإعلامي والجشع التجاري الذي يستثمر سذاجة النشء لتحقيق مبالغ هائلة من الأرباح..
وقد نشأت اليوم تيّارات في الغرب تدعو إلى إصلاح الأنظمة الأسريّة، وإعادة اللحمة القديمة التي كانت تربط أفرادها وتحكم علاقاتها، بتعميق الارتباط بين الزوجين والأبناء، وحماية الأجيال الصاعدة من سموم الإعلام التجاري والقيم الهابطة.. ولا شكّ أنّ هذا التيّار يعتبر من ناحية الاصطلاح، تيّارًا (رجعيًا)؛ لأنّه طبق التعريف السالف، يدعو إلى العودة إلى أنظمة اجتماعيّة قديمة.. فهل يستحقّ هؤلاء الداعون إلى العودة إلى النظام الأسري القديم الإدانة لمجرّد أنهم على مذهب (رجعي)؟!! وهل كلّ دعوة للتغيير ومفارقة القديم هي دعوى محمودة؟ وهل كلّ دعوة للعودة إلى القديم هي دعوى مدانة مرذولة؟!!
المثال الثاني: دعا الغرب في مؤتمر السكّان في القاهرة، وفي غيره من المؤتمرات إلى تغيير ما سمّاه «الشكل التقليدي للأسرة» .. والمقصود بهذا الشكل التقليدي هو أن يكون الزواج قاصرًا على طرفين: رجل وامرأة.. والشكل الحديث المطلوب، بل والذي تتبنّاه عامة المجتمعات
_________
(١) اصطلاح باللغة الفرنسيّة، وهو مفهوم طوّره عدد من علماء الاجتماع الفرنسيين لوصف واقع المنظومة الرأسماليّة منذ العقد السابع من القرن العشرين، ونقدها.
1 / 26
الغربيّة –ممارسةً-، ومن اليقيني أنّ كلّ الدول الغربيّة ستتبنّاه قريبًا –قانونًا- لتعاظم نفوذ الداعين إليه وتناقض التيّارات الغربيّة الرافضة له، هذا الشكل هو: زواج رجل برجل.. وزواج امرأة بامرأة.. مع الصورة (القديمة): زواج رجل بامرأة..!
وقد ظهر تيّار غربي يدعو اليوم إلى المحافظة على الصورة التقليديّة لشكل الأسرة الموافقة لأحكام الدين ونواميس الطبيعة، لكّنه قوبل بصدّ حاد وردّ جاف من دعاة ما يسمّى بـ (حقوق الشواذ)، واتُّهم هذا التيّار، بأّنه تيّار (رجعي) .. ولا شكّ أنّ وصفه (بالرجعيّة) هو وصف سليم منضبط؛ لأنّه حسب تعريف «الرجعيّة»، يُعدّ الداعي إلى كلّ نظام قديم، رجعيًا!!
فهل يصحّ القول إن منع الزواج بين الرجال فيما بينهم، أو بين النساء فيما بينهن، يعدّ فعلًا (ظلاميًا) (ظالمًا)؛ لأنّه يرفض الواقع الجديد، ويدعو إلى نموذج أسري قديم؟!!
الإجابة على السؤالين السالفين، أَظَهَرُ من أن نفصّلها، إلاّ أن يكون المخالف لا يرى تربية الأبناء شيئًا جديرًا بالاعتبار، ولا يجد حرجًا -أو ما دون ذلك- في زواج الرجل بالرجل والأنثى بالأنثى!!؟؟
إذن.. «الرجعيّة» ليست تهمة تخشاها صاحبة الحجاب؛ لأنّ «الرجعيّة» قد تكون إيجابيّة أو سلبيّة، تبعًا لصلاح الأمر الذي يعمل المرء على «الرجوع» إليه؛ فإذا كانت الرجعية هي العودة إلى الصالح من الأفكار والأفعال، فنِعمّ الرجعيّة هي! وإذا كانت الرجعيّة هي العودة إلى القبيح والمشين من الأفكار والأفعال، فبئس الرجعيّة هي!
إنّ (الإنسان) هو (الإنسان) في علاقته ببيئته بما فيها من البشر وبقيّة الأحياء والأشياء، ولا تكاد تتغيّر فيه إلاّ وسائل الإشباع، أمّا الحاجات الأساسيّة الكامنة فيه؛ كالأكل والشرب والزواج وطلب الأمن والسكينة والأنس؛ فهي نفسها في القديم والحديث، ولم يكد يمسّها تطوّر إلاّ في وسائل التعامل معها لتحقيق الإشباع المطلوب.. إنّ قيم الإنسان الجميلة التي تؤسّس فيه حقيقة انتمائه للجنس الآدمي المكرّم، لا تَنْدَرِسُ لمجرّد تغيّر الزمان وتبدّل البلاد.. إنّ الإنسان قيمة ثابتة، لا تتغيّر منها إلاّ الظواهر السطحيّة.. ولو فصلناه عن حقيقة الجمال
1 / 27