غاية المنوة في آداب الصحبة وحقوق الأخوة
غاية المنوة في آداب الصحبة وحقوق الأخوة
ناشر
دار الصديق للنشر والتوزيع
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
ژانرها
غاية المنوة
في
آداب الصحبة وحقوق الأخوة
كتبه
حازم خنفر
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن مما أورث القلب حرقةً وأشعر النفس كربةً: ما لاح في زماننا من تعذر أثر الأخوة بين الخلق - خاصتهم وعامتهم _، حتى أفضى الأمر إلى شد الأرحل بحثًا عن صحبة صرفة؛ صافية من كدر وخالصة من شوب.
ولما كان من سجيتي: استئناسي بوحشتي ولزومي مجلسي بمعزل؛ فإني عمدت إلى قلمي أدفع به الحرقة وأرد به الكربة بعد أن غلب على الناس نبذ المحبة واطراح المودة، فما كان من
1 / 7
أثر مسعاي إلا الخلوص إلى كتاب في الصحبة والأخوة، جعلته سلوةً لي ولكل متفجع لحال زماننا.
وعمدتي فيه: كتاب الله - تعالى _، وسنة نبيه ﷺ، وآثار سلفنا الصالح - ﵃ أجمعين _، ومنثور الأسفار من أخبار وأشعار وحكم وأذخار.
فأما كتاب الله؛ فأوردت ما استنبط منه أهل العلم فيما هو من مقاصد كتابي هذا.
وأما السنة النبوية؛ فما أوردت منها إلا الصحيح؛ معولًا على حكم المحدث المبرز: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - ﵀ _.
وأما الآثار؛ فأوردت ما وقفت عليه من كتب الحديث والأدب دون النظر في صحتها أو ضعفها؛ فإن الأثر إن لم يبلغ مبلغ الصحة؛ فما عساه إلا أن يقصر عن مرتبة الأثر إلى مرتبة الحكمة.
وأما منثور الكتب والأسفار من الأقوال والأخبار والأشعار؛ فإني وإن كنت لم أحفل بعقيدة القائل ومسلكه، إلا أني قد أخذت بسمين الأقوال التي ليس فيها ما يخالف الكتاب والسنة ومسلك سلف الأمة، وأضربت عن غثها من شطط ونحوه.
1 / 8
ولما كان اللسان العربي الفصيح - في هذا الزمان - قد ظهرت عليه العجمة وغلب عليه اللحن؛ فإني آثرت أن أقيد الحروف بالشكل؛ جمعًا بين الدربة على تقويم اللسان - نحوًا وصرفًا - وبين مقاصد الكتاب.
ولا أدعي عصمتي من المزلات، فحسبي أني بذلت قصاراي في إقصاء ما يخالف الشرع، وضبط الشكل على ما يوافق فصاحة اللسان.
وأسأله - سبحانه - أن يقر هذا الكتاب في ميزان الأعمال الصالحات يوم القيامة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
حازم خنفر
الأردن / في الثالث من ذي الحجة ١٤٢٨ هـ
الموافق:١١/ ١٢/٢٠٠٧م
1 / 9
فصول الكتاب
مقدمة في معنى الصحبة وما يرادفها من الألفاظ
الفصل الأول: في فضل الصحبة والأخوة
الفصل الثاني: في مراتب الصحبة وأسبابها
الفصل الثالث: في مقامات الإخوان ومراتبهم
الفصل الرابع: فيمن لا ترجى عشرته ومن تؤثر صحبته
الفصل الخامس: في حقوق الصحبة وآدابها ظاهرًا وباطنًا
1 / 11
معنى الصحبة وما يرادفها من الألفاظ
اعلم - رحمني الله وإياك - أن في الاجتماع الإنساني صلات شتى تعرض بين الأفراد؛ فمنها: الصحبة، ومنها: الصداقة، ومنها: الأخوة، ومنها: الرفقة، ومنها: الخلة - وغيرها _.
وتشترك جميعها في معنًى كلي واحد، إلا أنها تختلف في أشياء:
أما معنى الصحبة من حيث الاشتقاق الكبير؛ فقد قال ابن فارس في «المقاييس»: «الصاد والحاء والباء: أصل واحد يدل على مقارنة شيء ومقاربته، من ذلك: (الصاحب)، والجمع: (الصحب)».
وأما من حيث المعنى الخاص؛ فهي: المعاشرة والملازمة، وقد قيدها بعض أهل اللغة بالرؤية والمجالسة، ولذا قد جاء في تعريف (الصحابي) عند المحدثين: هو من لقي النبي ﷺ مؤمنًا به ومات على الإسلام؛ سواء أطالت صحبته أم قصرت.
1 / 13
إلا أن الصحبة قد تطلق دون هذا القيد، وإنما يراد بها ملازمة الشيء بالبدن أو بغيره؛ كالصحبة مع الله، وقد سئل أبو عثمان - سعيد بن إسماعيل - الحيري عن هذه الصحبة، فقال: «الصحبة مع الله: بحسن الأدب ودوام الهيبة ...» كما
رواه البيهقي في كتابه «شعب الإيمان».
وكذلك: لا تقيد الصحبة بمعاشرة البشر للبشر فقط؛ إنما قد تصرف إلى معاشرة البشر لغيرهم من الكائنات والموجودات.
ولا يشترط لها القصد؛ فقد تكون بإكراه ومن غير نية؛ كمصاحبة أهل النار للنار في قوله - تعالى _: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون﴾.
قال أهل التفسير: والصحبة هي: الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة.
وقد جمع هذا الأصل وأجمله: الخليل بن أحمد في كتابه «العين»، بقوله: «وكل شيء لاءم شيئًا فقد استصحبه».
وضبط ذلك كله الراغب الأصفهاني في كتابه «المفردات في غريب القرآن»، فقال: «الصاحب: الملازم إنسانًا كان أو حيوانًا أو مكانًا أو زمانًا، ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن - وهو
1 / 14
الأصل والأكثر _، أو بالعناية والهمة ... ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته، ويقال للمالك للشيء: (هو صاحبه)، وكذلك لمن يملك التصرف فيه».
وقد فرق أهل اللغة بين الصاحب والقرين:
قال أبو هلال العسكري في كتابه «الفروق اللغوية»: «... أن الصحبة تفيد
انتفاع أحد الصاحبين بالآخر، ولهذا يستعمل في الآدميين خاصةً، فيقال: (صحب زيد عمرًا) و(صحبه عمرو)، ولا يقال: (صحب النجم النجم) أو (الكون الكون) ... والمقارنة: تفيد قيام أحد القرينين مع الآخر ويجري على طريقته وإن لم ينفعه، ومن ثم قيل: (قران النجوم)، وقيل للبعيرين يشد أحدهما إلى الآخر بحبل: (قرينان)».
قلت: وقد يتوهم بأن ثمة اختلافًا بين ضبط الأصفهاني للصحبة وبين ضبط العسكري لها؛ إذ خصصه أبو هلال بالآدميين خاصةً، أما الراغب الأصفهاني فقد أطلقه وعداه إلى الحيوان والزمان والمكان!!
ولا تضارب بين القولين؛ فإن مراد أبي هلال متعلق باشتراط كون طرف الصحبة الأول المتكلم آدميا - وهو الفاعل _، ولهذا
1 / 15
مثل الخطأ بقول القائل: (صحب النجم ...) و(صحب الكون ...)، ولا يريد بقوله - هذا - عدم جواز قول القائل: (صحبت الدهر) و(صحبت الصبر) و(صحبت الليل)، فهذا كله جائز لأن المتكلم آدمي، وهذا لا يخالف قول الراغب الأصفهاني؛ فإن مراده متعلق بالطرف الثاني - وهو المفعول به _، فأشار إلى إطلاقه؛ كقول القائل: (صحبت كلبًا) أو (صحبت هذا المكان) - والله تعالى أعلم _.
أما الفرق بين الصحبة وبين ما رادفها من ألفاظ - كالصداقة والأخوة والرفقة والخلة _؛ فقد ضبط ذلك أهل اللغة في دواوينهم:
فأما الصداقة؛ فهي: صدق الاعتقاد في المودة، وذلك مختص بالإنسان دون غيره، وكما قيل: إنما سمي الصديق صديقًا لصدقه، والعدو عدوا لعدوه عليك.
وقد ذكر ابن حزم في كتابه «الأخلاق والسير» حد الصداقة، فقال: «هو أن يكون المرء يسوءه ما يسوء الآخر، ويسره ما يسره، فما سفل عن هذا فليس صديقًا، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق، وقد يكون المرء صديقًا لمن ليس
1 / 16
صديقه ... إذ قد يحب الإنسان من يبغضه، وأكثر ذلك في الآباء مع الأبناء، وفي الإخوة مع إخوتهم، وبين الأزواج، وفيمن صارت محبته عشقًا، وليس كل صديق ناصحًا، لكن كل ناصح صديق فيما نصح فيه».
وأما الأخوة؛ فهي كل من جمعك وإياه صلب أو بطن، وتستعار لكل من يشاركك في القبيلة أو في الدين أو في الصنعة أو في معاملة أو في مودة - أو في غير ذلك من المناسبات _.
وأما الرفقة؛ فتقال للقوم ما داموا منضمين في مجلس واحد ومسير واحد، فإذا تفرقوا ذهب عنهم اسم الرفقة، ولم يذهب عنهم اسم الرفيق.
وأما الخلة؛ فهي الصداقة، إلا أنها رتبة لا تقبل المشاركة، ولهذا اختص بها الخليلان إبراهيم ومحمد - ﵉ _.
وقال العسكري في «الفروق»: «والخلة: المودة التي تتخلل الأسرار معها
بين الخليلين، وسمي الطريق في الرمل خلا لأنه يتخلل لانعراجه».
وقال - أيضًا _: «الفرق بين الصداقة والخلة: أن الصداقة اتفاق الضمائر على المودة، فإذا أضمر كل واحد من الرجلين
1 / 17
مودة صاحبه، فصار باطنه فيها كظاهره؛ سميا صديقين، ولهذا لا يقال: (الله صديق المؤمن) كما أنه وليه، والخلة: الاختصاص بالتكريم، ولهذا قيل: إبراهيم خليل الله؛ لاختصاص الله إياه بالرسالة، وفيها تكريم له ...».
وقال ثعلب في معنى الخليل: إنما سمي الخليل خليلًا ; لأن محبته تتخلل القلب، فلا تدع فيه خللًا إلا ملأته.
1 / 18
فصل
في فضل الصحبة والأخوة
واعلم أن للأخوة الصالحة أثرًا عظيمًا في سلوك المؤمن، وذلك أن الله - جل شأنه - جعلها سببًا من أسباب الهداية؛ فإذا أراد بالعبد خيرًا قيض له صحبةً من الأخيار، وهيأ له من الإخوان من يعينه على صلاح نفسه، فلا يلبث أن يبلغ قدرهم أو يبرز عليهم.
قال ابن المقفع في «الأدب الصغير»: «وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس - ما استطاع - إلا ذا فضل في العلم والدين والأخلاق فيأخذ عنه، أو موافقًا له على إصلاح ذلك، فيؤيد ما عنده وإن لم يكن عليه فضل؛ فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمي إلا بالموافقين والمؤيدين، وليس لذي الفضل قريب ولا حميم أقرب إليه ممن وافقه على صالح الخصال فزاده وثبته، ولذلك زعم بعض
1 / 19
الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال».
وقال الماوردي في كتابه «أدب الدنيا والدين» ذاكرًا فضل مجالسة أهل الخير ومصاحبتهم بقوله: «فإذا كاثرهم المجالس وطاولهم المؤانس أحب أن يقتدي بهم في أفعالهم ويتأسى بهم في أعمالهم، ولا يرضى لنفسه أن يقصر عنهم، ولا أن
يكون في الخير دونهم، فتبعثه المنافسة على مساواتهم، وربما دعته الحمية إلى الزيادة عليهم والمكاثرة لهم، فيصيروا سببًا لسعادته، وباعثًا على استزادته، والعرب تقول: (لولا الوئام لهلك الأنام)؛ أي: لولا أن الناس يرى بعضهم بعضًا فيقتدى بهم في الخير لهلكوا، ولذلك قال بعض البلغاء: (من خير الاختيار: صحبة الأخيار، ومن شر الاختيار: مودة الأشرار)، وهذا صحيح؛ لأن للمصاحبة تأثيرًا في اكتساب الأخلاق، فتصلح أخلاق المرء بمصاحبة أهل الصلاح، وتفسد بمصاحبة أهل الفساد».
قلت: ولهذا جاء النهي عن الهجران، والترهيب منه:
فقد أخرج الإمام أحمد في «مسنده» عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله ﷺ قال: «والذي نفسي بيده؛ ما تواد اثنان ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما».
1 / 20
قال المناوي في «فيض القدير»: «فيكون التفريق عقوبةً لذلك الذنب، ولهذا قال موسى الكاظم: إذا تغير صاحبك عليك فاعلم أن ذلك من ذنب أحدثته، فتب إلى الله من كل ذنب يستقم لك وده».
وأخرج الشيخان عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي ﷺ قال: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال؛ يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».
واستثنى أهل العلم من هذا الهجران: أهل البدع والفسوق وغيرهم؛ مستدلين بأحاديث، منها: ما أخرجه الشيخان أن قريبًا لعبد الله بن مغفل خذف، فنهاه، وقال: إن رسول الله ﷺ نهى عن الخذف ... فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله ﷺ نهى عنه ثم تخذف؟! لا أكلمك أبدًا.
والخذف: هو الرمي بالحصى بين أصبعين.
قال النووي في «شرح صحيح مسلم»: «فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائمًا، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم
1 / 21
دائمًا، وهذا الحديث مما يؤيده، مع نظائر له؛ كحديث كعب بن مالك وغيره».
وقال ابن رجب في كتابه «جامع العلوم والحكم» بعد أن أورد أحاديث الهجران: «وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية، فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاث، نص عليه أحمد، واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا وأمر النبي ﷺ بهجرانهم ... وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء».
وأما صحبة أهل المعاصي؛ فقد قال - تعالى - فيهم: ﴿الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِين﴾.
قال الطبري في «تفسيره»: «المتخالون يوم القيامة على معاصي الله في الدنيا: بعضهم لبعض عدو، يتبرأ بعضهم من بعض؛ إلا الذين كانوا تخالوا فيها على تقوى الله».
ومما ذكر في هذه الآية: ما حكي عن ابن الجلاء أنه كان يقول لأصحابه: اطلبوا خلة الناس في هذه الدنيا بالتقوى تنفعكم في الدار الآخرة، ألم تسمعوا الله - تعالى - يقول: ﴿الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِين﴾.
قلت: وكذلك فإن في صحبة أهل الخير السلامة، وفي صحبة أهل الشر الأذى.
1 / 22
وفي ذلك قال بعض الحكماء: شر ما في الكريم: أن يمنعك خيره، وخير ما في اللئيم: أن يكف عنك شره.
وقال مالك بن دينار: نقل الحجارة مع الأبرار أنفع لك من أكل الخبيص مع الفجار.
ولهذا حث الشرع على صحبة الأخيار، فمن ذلك:
قوله - تعالى _: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، قال السعدي في «تفسيره»: «ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن
في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى».
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله ﷺ: «المرء مع من أحب»، أخرجه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله ﷺ: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره»، أخرجه أحمد والترمذي.
1 / 23
وعن أبي سعيد الخدري، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود.
وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله ﷺ: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك وكير الحداد؛ لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثةً»، أخرجه البخاري ومسلم.
وعليه: فإن لصحبة أهل الخير والعلم والحكمة عظيم نفع للعبد الصالح وإن لم يبلغ مبلغهم، وكما قيل: من جلس على دكان العطار لم يفقد الرائحة الطيبة.
بل وستكون صحبة الأخيار: من حسرات أهل النار يوم القيامة، بعد أن
مالت بهم أهواؤهم عنها في الدنيا، ولم يحفلوا بها:
قال جعفر بن محمد: «لقد عظمت منزلة الصديق عند أهل النار؛ ألم تسمع إلى قوله - تعالى - حاكيًا عنهم: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِين وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيم﴾».
1 / 24
ومما ذكر من محاسن صحبة أهل الفضل:
١ - الذكر الجميل؛ فإن الملازم لأهل الفضل لا بد أن يناله شيء من ذكر جميل وشأن عظيم؛ قال ابن كثير في «تفسيره» عند قوله - تعالى _: ﴿وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيد﴾: «وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن».
قلت: وهذا الذكر والشأن قد خلص إلى كلب لازم أهل الفضل، فما بال من لازمهم واقتدى بصلاحهم؟!
٢ - ومما جاء عن السلف في محاسن صحبة الأخيار: الإعانة على طلب العلم؛ كما أخرج الخطيب البغدادي في كتابه «الجامع لأخلاق الراوي» عن علي بن أبي طالب، قال: «يا طالب العلم! إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه: التواضع، وعينه: البراءة من الحسد ...» ثم ذكر أمورًا، وختم قائلًا: «ورفيقه: صحبة الأخيار»؛ أي: ورفيق العلم: صحبة أهل الخير والفضل.
وقد ذكر عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: لما قدم
1 / 25
أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، سمعت أبي يومًا يقول: ما صليت غير الفرض؛
استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي.
٣ - ومما ذكر أهل الحكمة في محاسن صحبة الأخيار: وراثة الخير؛ قال ابن المقفع في كتابه «كليلة ودمنة»: «إذا غدرت بصاحبك فلا شك أنك بمن سواه أغدر، وأنه إذا صاحب أحد صاحبًا وغدر بمن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موضع، فلا شيء أضيع من مودة تمنح من لا وفاء له، وحباء يصطنع عند من لا شكر له، وأدب يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وإن صحبة الأشرار تورث الشر؛ كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيبًا، وإذا مرت بالنتن حملت نتنًا».
٤ - ومن محاسن صحبة الأخيار - أيضًا _: صون القلب والنفس عن الشيطان ووسوسته؛ قال ابن الحاج في كتابه «المدخل»: «واعلم أن الشيطان إذا نظر إلى العبد مريدًا، صادقًا، مخلصًا، مداومًا، عارفًا بنفسه، عارفًا بهواه، معاندًا لهما، حذرًا، مستعدا، عارفًا بفقره إلى الله - تعالى _؛ قال
1 / 26
له: (إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالأعوان عليه)، والشيطان على الواحد أقوى، وهو من الاثنين أبعد، فجالس إخوانك، وذاكرهم، وأخبرهم بما ينوبك في عملك من نفسك وهواك ومن عدوك؛ فإنهم يدلونك ويعينونك».
قلت: ولهذا كان أهل الفضل يحثون على طلب الصحبة - دون إكثار كما سيأتي _، ويعدون فقدان الصاحب أمرًا جللًا:
فقد روي عن أبي القاسم عبد الله البغوي أنه قال: سمعت الإمام أحمد بن حنبل يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذل.
وقال سفيان بن عيينة: قال لي أيوب: إنه ليبلغني موت الرجل من إخواني فكأنما سقط عضو من أعضائي.
وقال الفرزدق:
يمضي أخوك فلا تلقى له خلفًا ... والمال بعد ذهاب المال مكتسب
وقال آخر:
لكل شيء عدمته عوض ... وما لفقد الصديق من عوض
وعن علي: أعجز الناس: من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه: من ضيع من ظفر به منهم.
1 / 27