The Trial of the Killing of Uthman Ibn Affan
فتنة مقتل عثمان بن عفان
ناشر
عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية،المدينة المنورة
شماره نسخه
الثانية
سال انتشار
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
محل انتشار
المملكة العربية السعودية
ژانرها
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة معالي مدير الجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أشرف ما تتجه إليه الهمم العالية هو طلب العلم، والبحث والنظر فيه، وتنقيح مسائله، وسلوك طريقه، لأن ذلك هو الذي يوصل إلى السعادة كما قال الرسول ﷺ: "مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ". وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.
وأول ما بدئ به رسول الله ﷺ هو وحي الله إليه بالعلم ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾. وقال تعالى يخاطبه ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ …﴾. وقال تعالى ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾.
وما قامت به الحياة السعيدة في الحياة الدنيا والآخرة إلا بالعلم النافع.
ولذا كان التعليم هو الهدف الأعظم لمؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز ﵀، ولأبنائه كذلك من بعده، ففي عهد خادم الحرمين الشريفين، أول وزير للمعارف بلغت مسيرة التعليم مستوى عالية، وازدهر التعليم العالي وارتقت الجامعات، ومن هذه الجامعات
1 / 5
العملاقة، الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، فهي صرح شامخ، يشرف بأن يكون إحدى المؤسسات العلمية والثقافية، التي تعمل على هدي الشريعة الإسلامية، وتقوم بتنفيذ السياسة التعليمية بتوفير التعليم الجامعي والدراسات العليا، والنهوض بالبحث العلمي والقيام بالتأليف والترجمة والنشر، وخدمة المجتمع في نطاق اختصاصها.
ومن هنا، فعمادة البحث العلمي بالجامعة تضطلع بنشر البحوث العلمية، ضمن واجباتها، التي تمثل جانبا هاما من جوانب رسالة الجامعة ألا وهو النهوض بالبحث العلمي والقيام بالتأليف والترجمة والنشر.
ومن ذلك كتاب (الأمثال القرآنية القياسية المضروبة الإيمان بالله مع نماذج من بعض الأمثال) تأليف: د. عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع.
نفع الله بذلك ونسأله سبحانه أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معالي مدير الجامعة الإسلامية
د/ صالح بن عبد الله العبود.
1 / 6
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (^١).
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (^٢).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (^٣).
_________
(^١) سورة آل عمران، الآية: (١٠٢)
(^٢) سورة النساء، الآية: (١).
(^٣) سورة الأحزاب، الآيتان: (٧٠ - ٧١).
1 / 7
وعسى الله أن يقيض لإبراز هذه الجوانب النيرة في ذاك العصر أحدًا ممن يحب، ليؤكدوا صلاحيته للقدوة والاقتداء، ويكشفوا عن دور الداسِّين عليه المشوهين صورته الحسنة بالأخبار السيئة المكذوبة المتزيدة.
فإن هذه الفتن، لم تشع فحسب، بل زيد فيها الكثير، وحرف منها شيء غير قليل، وشُوِّه أكثرها، حتى ظهرت تلك الحوادث مشوهة، دعت كثيرين إلى تجنب الحديث عنها، باعتبارها مما شجر بين الصحابة (^١) عملًا بقوله ﷺ: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا … " (^٢).
فإن "من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم، وألسنتهم لأصحاب رسول الله ﷺ كما وصفهم الله في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (^٣) وطاعة النبي ﷺ في قوله: "لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (^٤).
_________
(^١) السبب هو: انخداعهم بروايات الشيعة الرافضة الباطلة، وتصديقها، بسبب حسن بهرجتها وإتقانهم لصياغتها، مما نشر الباطل وأخفى الحق عن الكثيرين.
(^٢) رواه أبو نعيم في الحلية (٤/ ١٠٨ وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع (١/ ١٥٥، وفي السلسلة الصحيحة (١/ ٤٢).
(^٣) سورة الحشر، الآية: (١٠).
(^٤) ابن تيمية، العقيدة الواسطية (ص: ١٦٦)؛ والحديث رواه البخاري، الجامع الصحيح، فتح الباري (٧/ ٢١)، ومسلم، الجامع الصحيح، باب تحريم سب الصحابة ﵃ (٤/ ١٩٦٧)، وأبو داود، والترمذي، وأحمد بن حنبل، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري ﵁، ومسلم وابن ماجه من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 8
ويتبرؤون من طريقة الروافض، الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب، الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم، منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير من وجهه، والصحيح منه، هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم، عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق، والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم -إن صدر- حتى إنهم يغفر لهم من السيئات، ما لم يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم .. " (^١).
وهم يعلمون: أن الله حفظ لنا الدين، بصحابة رسول الله ﷺ ﵃ الذين نقلوه إلى الجيل الذي لقيهم، ومن ثم انتقل إلينا عبر الأجيال، جيلًا بعد جيل، حتى وصل إلينا؛ كما تعلموه من رسول الله ﷺ.
_________
(^١) ابن تيمية، العقيدة الواسطية (ص: ١٧٤).
1 / 9
إلا أن أعداء الإسلام، لما جهدوا فعجزوا عن تشكيك المسلمين بعقيدتهم، ودينهم الصحيح، عمدوا إلى الطعن في نقلته الأخيار صحابة رسول الله ﷺ ﵃.
يقول الإمام مالك عن أمثال هؤلاء: "إنما هؤلاء أقوام، أرادوا القدح في النبي ﷺ فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء، ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابه صالحين" (^١).
ويقول أبو زرعة: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله ﷺ عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن؛ أصحابُ رسول الله ﷺ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب، والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (^٢).
فعمد هؤلاء المغرضون إلى الفتن، التي حدثت بين الصحابة، وأحاطوها بالكذب والافتراء، والتزييف، والتزيّد وجعلوا منها وسيلة إلى الطعن، في الصحابة ﵃.
ومن تلك الفتن: مقتل عثمان بن عفان ﵁ وأرضاه ونجح القوم في تحقيق شيء من بغيتهم، فانطلت حيلتهم على كثيرين، وتخيلوها من خلال الروايات الضعيفة المكذوبة، التي يرويها الهلكة، والمتروكون،
_________
(^١) ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: ٥٨٠).
(^٢) ابن تيمية، منهاج السنة (١/ ١٨).
1 / 10
أما بعد (^١): فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (^٢).
وبعد: فإن الدراسة المثمرة للتاريخ، تكون لهدف صحيح، ويجب أن يكون التاريخ المعتمد لذلك، تاريخًا صحيحًا، من حيث نقله، وإلا فستكون الثمرة ثمرة فاسدة.
ولا يكون التاريخ صحيحًا إلا إذا استُمِد من المصادر الموثوقة الصحيحة، التي في مقدمتها كتاب الله العزيز، الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (^٣) ففيه مادة تاريخية واسعة، متنوعة العصور، تتناول عددًا من الح-وادث، وتتعم-ق -أحيانًا- في تفصيلات دقيقة.
ويلي هذا المصدر الموثوق، ما صح عن النبي ﷺ من أحاديث، فإنها تحتوي على معلومات تاريخية، عن بعض الأمم السالفة، وعن عصر
_________
(^١) هذه الخطبة تسمى خطبة الحاجة، وقد كان النبي ﷺ يقدمها بين يدي الخطبة، وكذلك السلف الصالح في خطبهم، ودروسهم، وكتبهم ومختلف شؤونهم، وقد خصص لها فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ﵀ رسالة أسماها (خطبة الحاجة).
(^٢) رواه مسلم في صحيحه (٢/ ٥٩٢، وأحمد في المسند (٣/ ٣٧١، والبيهقي في سننه (٣/ ٢١٤، وليس عن أحمد: "وكل بدعة ضلالة"، وزاد هو والبيهقي: "وكل محدثة بدعة"، وصحح الألباني إسناديهما (خطبة الحاجة ص ٢٦).
(^٣) سورة: فصلت، الآية: (٤٢).
1 / 11
السيرة ١.
أما المصدر الثالث، من مصادر التاريخ الموثوقة، فهو: الروايات التاريخية المسندة؛ صحيحة الأسانيد، التي يرويها أصحاب المصنفات المسندة والتي منها: كتب الحديث، وكتب التاريخ، والكتب التي خُصصت لتراجم الرجال؛ يروونها بأسانيدهم الصحيحة إلى شاهد العيان.
هذه هي مصادر التاريخ الموثوقة ٢ التي يجب على كل باحث، في سيرة النبي ﷺ وتاريخ الخلفاء الراشدين، أن يستقي معلوماته منها.
وعليه أن يتجنب الروايات الواهية، والموضوعة، ليكون بناؤه التاريخي سليم القواعد، صالحًا للتحليل، واستمداد العبر منه، والوصول إلى قوانين العمران، وسنن الاجتماع.
وأصدق، وأصلح تاريخ لذلك هو تاريخ الأنبياء، وفي مقدمتهم
١ من المعروف أن علماء الحديث، خصصوا أبوابًا لروايات السيرة النبوية في مصنفاتهم الحديثية، ككتاب المغازي في صحيح البخاري، وكتاب الجهاد في صحيح مسلم، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وموطأ مالك.
٢ ومن مصادر التاريخ التي لا تتناسب مع موضوع هذا البحث:
١ - ما يذكره المؤرخون في كتبهم التاريخية، دون إسناد، ولم تثبت معاصرتهم للأحداث: فهذا المصدر غير موثوق به خاصة بالنسبة لموضوع هذا البحث، لأهميته، وضرورة استمداد معلوماته من المصادر الموثوقة.
٢ - ما يستنتجه المتخصصون في علم الآثار، من التنقيب والحفريات وغيرها، وهذا المصدر لا يناسب موضوع هذا البحث أيضًا.
1 / 12
خاتمهم محمد ﷺ وتاريخ خلفائه الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ﵃.
فإن هذا التاريخ، تاريخٌ سليم من الشذوذ، والأمراض الاجتماعية، والفكرية، ومن الأهواء والتطرف.
هذا هو طابعه العام، أما ما وقع في أواخر هذه الفترة، من فتن وحروب، فعلى فرض صحة ما صورته الروايات التاريخية، فإنه لا يعمم الحكم عليها، مع أنه قد أدخل فيها الكثير من الدس، والتحريف، ثم أبرز وأشيع.
فشاعت فتنة مقتل عثمان ﵁ وموقعة الجمل، وصفين، والتحكيم، شيوعًا أعظم مما كان فيها من مواضع القدوة، وما كان فيها من العدل والإنصاف، والمثل العليا في تحقيقها، وأكثر مما كان من قصص أولئك المؤمنين الصادقين الأبرار، مما يبين قوة إيمانهم، ويقينهم، وتعلقهم بخالقهم، مما يزيد الإيمان ويحسن الاقتداء بهم (^١).
لقد طغت شهرة هذه الفتن، على هذه المعاني السامية، من حيث الانتشار، فلا يكاد يعلم الكثيرون عن هذه الفترة إلا الفتن التي حدثت في آخرها.
_________
(^١) من ذلك رفض عثمان ﵁ قتال المحاصرين، كما سيأتي، وما في ذلك من إيثار وتقديم لمصالح الأمة على مصالحه الشخصية، فإن فيه دلالات قوية على قوة إيمانه ﵁ وتعلقه بربه، واستحضاره للحياة الآخرة.
1 / 13
ومن ثم أحجموا عن دراستها وجمعها ظنًا منهم أنها مما شجر بين الصحابة، وأخذ أفراخ أولئك الأعداء يحاجون المسلمين، ببعض المواقف المستقاة من تلك الروايات المكذوبة، فمن المسلمين من يبهت، ويسكت، ومنهم من يتلمس الأعذار، ولم يناقش في أسانيد تلك الأكذوبات، إلا عدد قليل من الأئمة؛ أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولم أقف على كتاب جمع مرويات هذه الفتنة ودرس أسانيدها، ومَيَّز صحيحَها من ضعيفِها، ثم بَنَى على الروايات الصحيحة صورة صحيحة حقيقية لها.
فقمت بذلك في هذا الكتاب -قدر الجهد والاستطاعة- مما أظهر لي أن هذه الفتنة، لا تعد مما شجر بين الصحابة ﵃ وأرضاهم، إنما هي مما شجر بين الصحابة، وأناس ليسوا من الصحابة، كما أوضحت موقف الصحابة الحقيقي تجاه عثمان ﵁ وقتله، وأن أحدًا من الصحابة لم يشترك في التحريض عليه، فضلًا عن قتله، ولم يخرج أحد من الصحابة عليه، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنة الفردوس مأوانا ومأواهم، وحشرنا جميعًا تحت لواء خير أوليائه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
وليس معنى هذا أن السلف أغفلوا دراسة هذه الفتنة عمومًا فقد بذل أهل السنة والجماعة جهودًا عظيمة، في توضيح صورتها على حقيقتها والرد على تلك الروايات الباطلة، التي شوهت صورتها، وكشف زيفها كابن تيمية في منهاج السنة، وابن العربي في العواصم من القواصم، والمحب
1 / 14
الطبري في الرياض النضرة، فجزاهم الله خيرًا، وأجزل لهم المثوبة.
إلا أن الموضوع كما أسلفت، لم يستكمل البحث فيه، من جهة دراسة أسانيد تلك الروايات، والبناء على صحيحها، والتحذير من ضعيفها، مع كشف عللها وبيان سبب ضعفها، وهذا العمل فيه دفاع عن العقيدة، وتصحيح لجانب من جوانبها، ألا وهو حب الصحابة، وإنزالهم من-زلتهم التي أنزلهم ربهم.
وقد تنبه إلى هذا الأمر، أساتذة فضلاء دعوا إلى تنقية الروايات الواردة في فتنة مقتل عثمان ﵁ على منهج المحدِّثين، في نقد الروايات، وذلك بدراسة أسانيدها، ومتونها، وتمييز صحيحها من سقيمها، ثم البناء على ما صح منها.
وكان من هؤلاء الأساتذة: الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري، فقد اقترح عليَّ الكتابة في هذا الموضوع على هذا المنهج، فوافق ذلك رغبة في نفسي لعدة أسباب منها:
أولًا: رغبتي في الذبِّ عن الصحابة، وإظهار براءة من اتُّهم منهم، ودفع الشبهات التي ألصقت بهم ﵃، لأن محبتهم توجب ذلك، لا سيما وقد ظهر من يقدح فيهم بالباطل، يقول ابن تيمية: "إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل، فلا بد من الذب عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل" (^١) ولا يعد ذلك، مما نهينا عنه، من الخوض فيما شجر
_________
(^١) منهاج السنة النبوية (٦/ ٢٥٤).
1 / 15
بينهم، بل هو إظهار للحقيقة التي تدفع عنهم ما ألصق بهم من باطل.
ثانيًا: التنبيه على أن هذه الفتنة ليست مما شجر بين الصحابة، كما هو المشهور عند الكثيرين.
ثالثًا: رغبتي القوية في تأصيل الصورة الصحيحة، وتصحيح المفاهيم بحقيقة هذه الفتنة، على أسس صحيحة قوية مبنية على نقد الأسانيد والمتون.
رابعًا: استجابتي لحث العلماء، على تصحيح التاريخ الإسلامي، وتخليصه مما علق به من شوائب، باستخدام منهج قوي ومتين، ليتهيأ للمربين، فيربوا عليه أجيال المسلمين تربية صحيحة.
خامسًا: حبي الشديد لدراسة الأسانيد ومتونها.
هذا وقد اعتمدت في إعداد هذا البحث، منهجًا يعين على بناء صورة تاريخية صحيحة، وهو منهج المحدثين في التعامل مع الروايات، فقمت بجمع روايات الفتنة، من بطون كتب الحديث، والتاريخ العام، وتواريخ المدن، وكتب التراجم والطبقات؛ وغيرها من المصادر المسندة للروايات.
ثم قمت بتصنيف هذه الروايات، التي بلغ عددها ما يربو على ألفي رواية ودمجت المكررات، مع الإشارة إلى الفروق بينها من جهة الإسناد والمتن.
ثم درست هذه الأسانيد، فتميز لديَّ صحيحها من ضعيفها، ثم اعتمدت الروايات الصحيحة، فشكلت من صحيحها صورة تكاد تكون
1 / 16
متكاملة عن فتنة مقتل عثمان ﵁.
ثم جمعتها مخرجة بطرقها، ودراسة أسانيدها في قسم ألحقته بآخر الرسالة، لأتيح للقارئ متابعة النتائج التي توصلت إليها، وليقف على تراجم رواة الروايات التي حكمت عليها صحة وضعفًا.
واعتمدت بعض الروايات المرسلة، والضعيفة في بعض المسائل التاريخية، التي لا علاقة لها بالعقيدة، ولا الشريعة لا بصورة مباشرة ولا غير مباشرة؛ كما في تاريخ قتله، وسنه عند استشهاده، ونحو ذلك، ففي مثل هذه الموضوعات، آخذ بأصح ما رُوي منها، وقد أدرس متونها وأقابلها بالروايات الصحيحة، فأقدم ما ترجح لدي، مع ذكر أسباب الترجيح.
وإلا فإني أطبق ما أعلمه من قواعد مصطلح الحديث دون تساهل، وذلك في ما له علاقة بالعقيدة، أو الشريعة مع تحفظ شديد، فقد يظهر للمطالع -أحيانًا- أن الخبر لا علاقة له بذلك، ثم مع التأمل تظهر علاقته، لذا فإني أراعي ذلك وأتأمل الرواية قبل دراستها.
وتطبيق منهج المحدثين، هو المنهج الذي أراه مناسبًا، لنقد روايات التاريخ الإسلامي، وخاصة السير وعصر الخلفاء الراشدين منه، وأخص الفتن التي حدثت ابتداءً من مقتل عثمان ﵁ ثم الجمل وصفين؛ لسلامة أسسه في النقد، وجودة نتائجه.
ونجد أن بعضًا من غير المتخصصين في التاريخ قد رفضوا هذا
1 / 17
المنهج (^١) فجانبوا الصواب، ولا حجة لهم؛ بأن السلف لم يعتمدوا هذا المنهج، في نقد الروايات التاريخية، لأنهم أعملوه كابن كثير فقد حكم على بعض الروايات بالصحة، وعلى أخرى بالضعف، وغيره كثير، كما ستراه منقولًا عنهم في هذه الرسالة.
وقد نادى باستخدام هذا المنهج في التاريخ، وبالأخص في فتنة مقتل عثمان ﵁ مجموعة من الأساتذة المتخصصين في التاريخ من المعاصرين منهم: محب الدين الخطيب (^٢) وصادق عرجون (^٣) ويوسف العش (^٤).
وذلك لمعرفتهم بمنهجي المحدثين والغربيين، في نقد الروايات التاريخية، مما جعلهم يؤثرون منهج المحدثين؛ لقوته وصلاحيته لذلك، ولا شك أن من لم يستوعب هذا المنهج، ولم يعرفه، يصعب عليه التسليم به، فضلًا عن تبنيه والعمل به.
وإني لأدعو كل من يتردد في قبول هذا المنهج الأصيل، إلى التجرد أولًا، ثم إلى دراسته وتأمله، فإنه سيصل إلى ما وصل إليه غيره ممن دعوا
_________
(^١) من الرافضين لهذا المنهج: أحمد محمد جمال في محاضرة له، مطبوعة تحت عنوان: (تاريخنا لم يقرأ بعد، وعثمان صافي الذي يرى أن طرح الموضوع بهذا العنوان: (إعادة كتابة التاريخ ينطوي صراحة على تخطئة السلف في كل ما كتبوه، ويرى أن إعادة كتابة التاريخ، ضرب من الخيال. (انظر: كتاب منهج كتابة التاريخ الإسلامي، للدكتور/محمد بن صامل العلياني السلمي (ص: ١٢).
(^٢) العواصم من القواصم (ص: ٧٥ - ٧٦ الحاشية: (٦٦).
(^٣) في كتابه: (عثمان بن عفان (ص: ٧ - ٨).
(^٤) الذي حاول تطبيقه في كتابه: (الدولة الأموية).
1 / 18
إليه.
هذا وقد أثر عن السلف الصالح، ما يبين مكانة الإسناد في الدين الإسلامي، من ذلك: ما صح عن محمد بن سيرين أنه قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" (^١) وقوله أيضًا: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".
وفي ذلك يقول عبد الله بن المبارك: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" (^٢).
ومن الدين حب صحابة رسول الله ﷺ وسلامة القلوب تجاههم، فهم الذين حملوه إلينا صافيًا نقيًا، كما سمعوه من الرسول ﷺ بل إن أهل السنة والجماعة جعلوا ذلك أصلًا من أصولهم كما تقدم.
يقول الطحاوي: "وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان" (^٣).
وقال محمد بن حاتم بن المظفر: "إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة، وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمًا وحديثًا إسناد موصول، إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم
_________
(^١) رواه مسلم في مقدمة صحيحه (١/ ١٤)، والدارمي في مقدمة سننه (١/ ٣).
(^٢) مقدمة صحيح مسلم (١/ ١٥).
(^٣) شرح العقيدة الطحاوية (ص: ٤٦٧)، ط: (٨)، ١٤٠٤ هـ، بتحقيق الألباني.
1 / 19
أخبارهم" (^١).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد ﷺ وجعله سُلَّمًا إلى الدراية، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة، أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والقويم.
وغيرهم من أهل البدع والكفار، إنما عندهم منقولات، يؤثرونها بغير إسناد، وعليها من دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل، وأما هذه الأمة المرحومة، وأصحاب هذه الأمة المعصومة، فإن أهل العلم منهم والدين هم من أمرهم على يقين، فظهر لهم الصدق من المين، كما يظهر الصبح لذي عينين" (^٢).
وذكر ابن حزم أن نقل الثقة عن الثقة، حتى يصل إلى النبي ﷺ لم يوجد عند غير المسلمين، وأن المبادئ الأساسية للإسلام، والشريعة المنقولة عن النبي ﷺ وما يتعلق به من الأحكام، كلها ثابت بهذا النوع من النقل (^٣).
يقول الدكتور/ محمد أبو شهبة: "ولا أكون غاليًا، أو متعصبًا إذا
_________
(^١) شرح المواهب (٥/ ٤٥٤).
(^٢) مجموع الفتاوى (١/ ٩).
(^٣) اهتمام المحدثين بنقل الحديث (ص: ١٦٢ - ١٦٣).
1 / 20
قلت: إن الأصول التي وضعها علماء أصول الحديث لنقد المرويات، هي أرقى وأدق ما وصل إليه العقل البشري في القديم والحديث … " (^١).
ويقول أبو حاتم الرازي: "لم يكن في أمة من الأمم، منذ خلق الله آدم، أمناء يحفظون آثار الرسل، إلا في هذه الأمة" (^٢).
ومن يترك هذا المنهج الصحيح، في نقد الروايات المتعلقة بالسيرة، وعصر الراشدين، فمصيره إلى الخطأ والغلط ومن الأمثلة الواقعية لذاك:
ما نقله أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) عن ابن أبي الحديد قوله: " … فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث، نحو: "لو كنت متخذًا خليلًا"، فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو: "سدوا الأبواب" فإنه كان لعلي، فقلبته البكرية إلى أبي بكر … ".
وزاد أحمد أمين: "وتلمح أحاديث كثيرة، لا تكاد تشك وأنت تقرؤها أنها وضعت لتأييد الأمويين، أو العباسيين، أو العلويين، أو الحط منهم" (^٣).
_________
(^١) دفاع عن السنة (ص: ٣٦).
(^٢) اهتمام المحدثين بنقل الحديث (ص: ١٦٢ - ١٦٣)؛ وانظر في بيان أن الإسناد من الدين ومن خصائص هذه الأمة (الإسناد من الدين ومن خصائص أمة سيد المرسلين للدكتور: عاصم بن عبد الله القريوتي).
(^٣) فجر الإسلام (ص: ٢١٣).
1 / 21
وهذان الحديثان اتفق على تصحيحهما البخاري، ومسلم، ومن ثم المسلمون كلهم بالإجماع، لإجماعهم على أن كل ما في الصحيحين من أحاديث مسندة فهو صحيح (^١).
فانظر إلى من يترك منهج المحدثين، ويعتمد مناهج أخرى لنقد المتون دون الإسناد، كيف يقع في مثل هذا الخطأ الجسيم.
ومما يبين أهمية استخدام هذا المنهج، في نقد روايات فتنة مقتل عثمان ﵁ أن من يطالع هذه الروايات، لا يستطيع أن يخرج بصورة متكاملة عن الفتنة، إلا وتأتي روايات مضادة تهدم هذه الصورة، لتحل مكانها أخرى، ثم يتكرر هذا مرارًا، مما يوقع القارئ في حيرة شديدة، فهذا يؤكد أن هذا التناقض يرجع إلى وجود روايات موضوعة مكذوبة، دست لأهداف دنيئة.
لذا فإن أَنْسَبَ منهج لمحاكمة هذه الروايات، هو منهج المحدثين، الذي يعتمد على دراسة الإسناد، والمتن معًا؛ وهو الذي اعتمدته -كما تقدم- في نقد روايات الفتنة.
وقد قسمت الكتاب إلى قسمين:
القسم الأول: وسردت فيه الصورة التاريخية للحادثة، ووثقت
_________
(^١) انظر في ذلك قول الحافظ ابن حجر ونقولاته في (هدي الساري ص: ٣٤٦) وما بعدها، وكتاب (بين الإمام مسلم والدارقطني للدكتور: ربيع بن هادي المدخلي (ص: ١٦ - ١٧).
1 / 22
المعلومات في الحاشية دون تفصيل، ثم أحيل إلى القسم الثاني.
ليجد القارئ فيه دراسة أوسع للروايات من حيث: تخريجها وشواهدها وتراجم رواتها، وسبب الحكم عليها بالصحة، أو الحسن، أو الضعف، وأيضًا لينظر القارئ إلى الرواية كاملة غير مجزأة.
ورغم أني لم أستفد كثيرًا من الروايات الضعيفة، والشديدة الضعف والموضوعة في بناء الصورة التاريخية إلا أني خصصت لها موضعًا في الملحق مع دراستها وذلك ليرجع إليها، من يريد معرفة مصدر تلك الصور الباطلة المشتهرة بين الناس، مع معرفة سبب ضعفها، وبطلانها.
مصادر فتنة مقتل عثمان ﵁:
إن المصادر التي تناولت فتنة مقتل عثمان ﵁ تنقسم إلى قسمين؛ منها ما هو عن الفتن عامة، ومنها ما هو عن فتنة مقتل عثمان ﵁ خاصة، وسأذكر فيما يلي المصادر المفقودة التي لم أطلع عليها، ثم أذكر بعض المصادر التي استفدت منها في إعداد هذا البحث:
أما المصادر المفقودة التي ألفت عن الفتن عامة فمنها:
١ - كتاب (الفتن) لعثمان بن أبي شيبة، المتوفى سنة (٢٢٧) هـ (^١).
٢ - كتاب (الفتن) لعبد الله بن محمد بن أبي شيبة، المتوفى سنة (٥٣٢) هـ (^٢).
_________
(^١) ابن النديم (الفهرست: ٢٨٥).
(^٢) المصدر السابق.
1 / 23
٣ - كتاب (الفتن) لإسماعيل بن عيسى العطار البغدادي (^١).
وأما المصادر المفقودة التي ألفت عن فتنة مقتل عثمان ﵁ خاصة فمنها:
١ - كتاب (الشورى) ومقتل عثمان لأبي مخنف لوط بن يحيى المتوفى سنة: (١٥٧) هـ (^٢).
٢ - (مقتل عثمان) لأبي عبيدة معمر بن المثنى التميمي المتوفى سنة: (٢١٠) هـ (^٣).
٣ - كتاب (مقتل عثمان بن عفان) للمدائني أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي يوسف المتوفى سنة: (٢١٥) هـ (^٤).
٤ - (مقتل عثمان) لعمر بن شبة بن عبيد بن ريطة (أبو معاذ) المتوفى سنة: (٢٦٢) هـ (^٥).
٥ - (سيرة عثمان) للعياشي أبي النظر محمد بن مسعود، المتوفى
_________
(^١) المصدر السابق: ١٢٢.
(^٢) ابن النديم (الفهرست ١٠٥، والطوسي، الفهرست، كما في (علم التاريخ عند المسلمين لفرانز روزنثال ٣١١. وإسماعيل باشا، هدية العارفين (٥/ ٨٤٢).
(^٣) ابن النديم في الفهرست ص: ٥٩، ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (٢/ ١٧٩٤)، وانظر (علم التاريخ عند المسلمين لفرانزروزنثال ٢٧٩).
(^٤) ذكره ابن النديم (الفهرست ١١٥، وفرانزروزنثال (علم التاريخ عند المسلمين ٢٧٩).
(^٥) ابن النديم (الفهرست ١٢٥)، (وفرانزروزنثال ٢٧٩).
1 / 24