162
ولَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هَلَكَ سَرِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا وَهُمْ هَارِبُونَ، وَكَانَ أَبَرْهَةُ مِمَّنْ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا، حَتَّى مَاتَ وأصابت قريشٌ مَالًا جَزِيلًا مِنْ أَسْلَابِهِمْ، وَمَا كَانَ مَعَهُمْ، وأعْظَمَتِ العَرَبُ قُرَيْشًا، وقَالُوا: هُمْ أهْلُ اللَّهِ، قَاتَلَ اللَّهُ عَنْهُمْ وكَفَاهُمُ العَدُوَّ، وازْدادُوا تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ الحَرَامِ، وإيمَانًا بِمَكَانِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وأرَّخُوا بِهِ، وقَالُوا: وَقَعَ هَذَا فِي عَامِ الفِيلِ، ووُلِدَ فُلَانُ في عَامِ الفِيلِ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ فِيمَا يَعُد بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نعْمتَه عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ، مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ، لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ، فَقَالَ تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ ﴿لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ أَيْ: لِئَلَّا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ لَوْ قَبِلُوهُ. (^١) وفَضَّلَ اللهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ: فَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللهَ عَشْرَ سِنِينَ، لَا يَعْبُدُهُ إِلَّا قُرَشِيٌّ، وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَصَرَهُمْ يَوْمَ الْفِيلِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِمْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ غَيْرُهُمْ - لإِيلافِ قُرَيْشٍ -وَفَضَّلَهُمْ بِأَنَّ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ، وَالْخِلافَةَ، وَالْحِجَابَةَ، وَالسِّقَايَةَ (^٢).

(^١) ومَلَكَ بعد أبرهة في اليمن ابنه يَكْسُومُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبَرْهَةَ، حتى خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَن الْحِمْيَرِيُّ إِلَى كِسْرَى فَاسْتَغَاثَهُ عَلَى الْحَبَشَةِ، فَأَنْفَذَ مَعَهُ مِنْ جُيُوشِهِ فَقَاتَلُوا مَعَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ، وَمَا كَانَ فِي آبَائِهِمْ مِنَ الْمُلْكِ، وَجَاءَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ لِلتَّهْنِئَةِ بعودة مُلْكِ اليمن إلى حِمْيَر. وكان سيف بن ذي يزن قد اصطفى جماعة من الأحباش، وجعلهم من خاصته، فاغتالوه وقتلوه، فأرسل كسرى حاكمًا له على اليمن، واستمر حكّام كسرى على اليمن إلى أن كان آخرهم باذان الذي كان على عهد رسول الله ﷺ، وأسلم، ثم صارت اليمن للإسلام. (^٢) الحجابة: أي سدانة الكعبة وتولى حفظها ومفتاحها. والسِّقَايَةُ: هي جَمْعُ المَاءِ مِنْ آبَار مكَّةَ المُخْتَلِفَةِ، ووضْعُهَا قُرْبَ الكَعْبَةِ، وقَدْ تُحَلَّى بشَيْءٍ من التَّمْرِ أو الزَّبِيبِ فيَشْرَبُ الحَجِيجُ منها. وكَانَتْ إِلَى قُصَيٍّ سِقَايَةُ الْحَجِيجِ فَلَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مِنْ مَاءِ حِيَاضِهِ، ثم كَانَ هَاشِمُ بنُ عَبْدِ مَنَافٍ -واسْمُهُ عَمْرٌو- رَجُلًا مُوسِرًا ذَا شَرَفٍ كَبِيرٍ، وقَدْ تَوَلَّى هَاشِمٌ السِّقَايَةَ والرِّفَادَةَ، ثُمَّ أوْصَى هَاشِمٌ عِنْدَ وَفَاتِهِ إِلَى أخِيهِ المُطَّلِبِ فَصَارَتِ السِّقَايَةُ والرِّفَادَةُ إلَيْهِ. والرِّفَادَةُ: هو طعامٌ يُوضَعُ للحُجَّاجِ على سَبِيلِ الضِّيَافَةِ. ولَمَّا صَارَ شَيْبَةُ بنُ هَاشِمٍ غلامًا رَحَلَ المُطَّلِبُ في طَلَبِهِ، فَاحْتَمَلَهُ فَدَخَلَ بِهِ مَكَّةَ مُرْدِفَهُ عَلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هذا المُطَّلِبُ اشْترَى عَبْدًا فُسُمِّيَ شَيْبَةُ عَبْدَ المُطَّلِبِ. فَقَالَ المُطَّلِبُ: وَيْحَكُمْ! إنَّمَا هُوَ ابْنُ أخِي هَاشِمٍ قَدِمْتُ بِهِ مِنَ المَدِينَةِ. وكَانَ عَبْدُ المُطَّلِبِ جَسِيمًا أبْيَضَ، وَسِيمًا طِوَالًا فَصِيحًا، مَا رَآهُ أَحَدٌ قَطُّ إلَّا أَحَبَّهُ، وَشَرُفَ في قَوْمِهِ شَرَفًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنْ آبَائِهِ، وأحَبَّهُ قَوْمُهُ، حَتَّى عُرِفَ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ: "بِشَيْبَةَ الحَمْدِ" لِكَثْرَةِ حَمْدِ النَّاسِ إيَّاهُ. ثُمَّ وَليَ عَبْدُالمُطَّلِبِ السِّقَايَةَ والرِّفَادَةَ بعد عمه المطلب فَأَقَامَهَا لِلنَّاسِ. وَكَانَتْ زَمْزَمُ إِذْ ذَاكَ مَطْمُوسَةً مِنْ زَمَنِ جُرْهُمٍ قَدْ تَنَاسَوْا أَمْرَهَا مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَوْضِعِهَا. حيث إنّ جرهم عفّت أثر بئر زمزم وطمّتها لما أخرجت من مكة، فلم تزل دارسة إلى أيام عبدالمطلب. ثم إنّ عبدالمطلب أري في المنام مكان زمزم فجدّد حفرها، فنازعته قريش فيها، فنذر عبدالمطلب لئن رزق بعشر من البنين يمنعونه من الناس ليذبحن أحدهم قربانًا، فخرج القدح على عبدالله، ففداه عبدالمطلب بمائة من الإبل. وزَوَّجَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ بنِ عَبْدِ مَنَافِ، بنِ زُهْرَةَ، بنِ كِلَابِ، بنِ مُرَّةَ، وهِيَ يَوْمَئِذٍ أفْضَلُ امْرَأَةٍ في قُرَيْشٍ نَسَبًا وَمَوْضِعًا، وأبُوهَا سَيِّدُ بَنِي زُهْرَةَ نَسَبًا وشَرَفًا.

1 / 180