الشيعة والتصحيح
الصراع بين الشيعة والتشيع
العلامة الدكتور: موسى الموسوي
صفحه نامشخص
الإهداء
هذا كتاب يدافع عن الإسلام والإنسان والعقل
ابتغيت به وجه الله ورضاه وعونه وغفرانه
وقصدت به الشيعة في كل زمان ومكان
فإلى كل من يتبع نداء التصحيح ويسعى لأجل مبادئه وأهدافه
أهدي هذا الكتاب
1 / 4
تقديم
كلمة لا بد منها
بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله
وبعد أن ولدت ونشأت وترعرعت في بيت الزعامة الكبرى للطائفة الشيعية ودرست وتأدبت على يد أكبر زعيم وقائد ديني عرف تاريخ التشيع منذ الغيبة الكبرى (١) وحتى هذا اليوم وهو جدنا الإمام السيد " أبو الحسن الموسوي " الذي قيل فيه: (أنسى من قبله واتعب من بعده) (٢)
في مثل هذه البيئة بك ما قيل ويقال في التشيع والشيعة وبكل الظروف والملابسات التي كانت تحكي عن الخلاف الطائفي بين الشيعة والسنة والذي دام قرونًا وقرونًا كنت أعيش آلام الخلافات المريرة بين الشيعة والفرق الإسلامية الأخرى وأشاهد عواقبها الوخيمة عن كثب في ظل خطوات جريئة وعزومة كان جدنا الإمام الأكبر يخطوها لتخطي الصعوبات في إرساء العلاقة الصحيحة بين الشيعة والسنة للوصول إلى الوحدة الكبرى بين الطائفتين التي كانت تصطدم بالسياسات الاستعمارية الحاكمة في العالم الإسلامي التي كانت تساندها عقول متحجرة وأناس متعصبون ومتاجرون بالطائفة البغيضة بدأت أدرك خطورة المهمة وقداستها في نفس الوقت.
وقد زادني إيماني بها عندما بدأت أعرف أن السبب في قتل والدي بين صلاة المغرب والعشاء في الحضرة العلوية في النجف الأشرف وعلى يد مجرم في لبوس رجل الدين الذي ذبحه كالكبش وهو يصلي في المحراب، إنما كانت خطة استعمارية لكي تثني السيد أبو الحسن عن خطواته الإصلاحية ولكن السيد أبو الحسن احتمل المصيبة صابرًا محتسبًا لله وضرب أروع الأمثال في تلقين المصلحين درسًا لا زال التاريخ الشيعي لا ينساه ألا وهو العفو عن القاتل الذي قتل فلذة كبده وأعز الناس إلى قلبه وذلك ليثبت أن قلب المصلح لا تزلزله العواصف ولا تضعفه المصاعب ولا تتحكم فيه الأحقاد والثارات وأنه يبقى
_________
(١) - الغيبة الكبرى تعني: الإمام المهدي الثاني عشر عند الشيعة الإمامية الذي غاب عن الأنظار في عام ٣٢٩هـ راجع فصل الإمام المهدي.
(٢) - قائل هذا الكلام هو الإمام الراحل الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء ﵀.
1 / 5
كالطود الشامخ يذود عن العقيدة التي يريد إرساءها في المجتمع ولدى الفرد.
وبعد كل هذا كان من الطبيعي أن تتكون لدي فكرة الانطلاق نحو تصحيح الشيعة في بعض عقائدها أو أعمالها ولا سيما تلك التي سببت الخلاف مع الفرق الإسلامية الأخرى والتي كانت بحد ذاتها تتناقض مع روح الإسلام والمنطق السليم وهي كما أعتقد كانت ولم تزل وبالًا على المذهب الشيعي حيث أدت إلى تشويه سمعته ومسخ معالمه في العالم الإسلامي بل وفي العالم كله.
واعتقد في الوقت نفسه أن سرد الأسباب لا يكفي لحل المعضلة فحسب بل لا بد من تقديم حلول عملية أطلب من الشيعة في كل أرجاء الأرض أن يلتزموا بها إذا أرادوا خير الدنيا والآخرة معًا، وقد وصلت إلى نتيجة حاسمة في تتبعي للخلاف بين الشيعة الإمامية والفرق الإسلامية الأخرى هو أن الخلاف بينهما ليس بسبب بعد رسول الله؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ أو أن الإمام عليًا أولى بالخلافة من غيره، لأنني أرى الشيعة الزيدية وهي تؤلف طائفة كبيرة تربو على الملايين تعتقد بأحقية عليٍّ بالخلافة بعد الرسول الكريم ولكن الوئام والأخوة والمحبة يسود بينها وبين أهل السنة والجماعة.
فإذًا إن السبب الأساسي في الخلاف بين الشيعة الإمامية والفرق الإسلامية الأخرى ليس هو موضوع الخلافة بل هو موقف الشيعة من الخلفاء الراشدين وتجريحهم إياهم الأمر الذي لا نجده عند الشيعة الزيدية وبعض الفرق الأخرى ولو اكتفت الشيعة الإمامية بسلوك الزيدية لقلت الخلافات ولضاقت مساحة الشقاق ولكن الشيعة الإمامية وقعت في الخلفاء الراشدين تجريحًا وانتقاصًا فكانت الفتنة.
وقد كنت أدعو الله في آناء الليل وأطراف النهار أن يلهمني العلم والبصيرة ويمنحني القوة والتوفيق لآداء رسالة التصحيح التي كنت أصبو إليها منذ سنيِّ الشباب فكانت نتيجة تلك الدعوات الصالحات هي كتابي هذا " الشيعة والتصحيح: الصراع بين الشيعة والتشيع " الذي أقدمه اليوم إلى الشيعة في كل زمان ومكان.
إنه نداء للشيعة مبعثه الإيمان المطلق بالله وبرسالة الإسلام الخالدة وبقوة المسلمين وكرامة الإنسان، إنه نداء يدعو إلى الطرق الإصلاحية الكبرى لمحاولة إنهاء الخلاف الطائفي بين الشيعة والفرق الإسلامية الأخرى إلى الأبد وإلى أن تقوم الساعة، إناه صرخة لله ولاستيقاظ الشيعة من نوم عميق دام
1 / 6
ألفًا ومائتي عام، إنها قصة الصراع المرير بين المسلمين حتى يومنا هذا، إنه نداء العقل والإيمان إلى الشيعة كي تنفض عن نفسها غبار السنين وتثور ثورة لا هوادة فيها ولا انتظار على تلك الزعامات المذهبية التي سببت لها هذا التخلف الكبير في الحياة الدينية والفكرية والاجتماعية وهكذا يدفعني اعتقادي وواجبي أن أوصي ملايين الشيعة وأؤكد عليهم قراءة هذا الكتاب (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) النمل ٩٢ صدق الله العظيم.
1 / 7
الإمامة والخلافة
بدأ الصراع بين الشيعة والتشيع عندما حرفت الشيعة معنى التشيع من حب الإمام علي وأهل البيت إلى ذم الخلفاء الراشدين وتجريحهم بصورة مباشرة وتجريح الإمام علي وأهل بيته بصورة غير مباشرة.
1 / 8
الإمامة والخلافة
فكرة الخلافة حتى القرن الرابع الهجري
الشيعة والتشيع
الانحراف
التصحيح
عقيدة الشيعة الإمامية في الخلافة:
كلما تعمقت في الشيعة والتشيع وعقائد الإمامية أجد أن هناك هوة عظيمة تفصل بين الشيعة والتشيع قد تصل في بعض الأحيان إلى التناقض الصارخ، حيث أرى بوضوح أن التشيع شيء والشيعة شيء آخر، وكلما تعمقت في تاريخ الصراع بين الشيعة والتشيع تتجلى أمامي العصور الثلاثة التي انبثق فيها الصراع مبتدئا بالعصر الأول وهو عصر ظهور الصراع الفكري بعد الغيبة الكبرى الذي مهد الطريق للعصر الثاني وهو ظهور الدولة الصفوية على يد مؤسسها الشاه إسماعيل الصفوي في عام ٩٠٧ هـ وتأسيس الدولة الشيعية في إيران، ومن ثم عصر الثالث وهو عصر الصراع الأخير الذي نشاهده في حياتنا المعاصرة بين الأفكار الشيعية الحديثة والتشيع، نلك الأفكار التي عصفت بالمجتمع الشيعي وأدت إلى نتائج حزينة لا تتحملها الأرض ولا السماء .. .............................................................
ولكي نضع النقاط على الحروف في رسالتنا الإصلاحية هذه لابد من طرح الأفكار بصورتها الحقيقية، ومن ثم إنارة الطريق لكي يكون القارىء على بينة من أمره .. الإمامة هي الحجر الأساسي في المذهب الشيعي الإمامي، وهكذا في المذهب الزيدي والإسماعيلي، ومنها يتفرع كل ما هو مثار للجدل والنقاش مع الفرق الإسلامية الأخرى، فالشيعة الإمامية تعتقد أن الخلافة في علي بعد رسول الله ﷺ ومن بعد علي في أولاده حتى الإمام الثاني عشر الذي هو محمد بن الحسن العسكري الملقب بالمهدي إن رسول الله ﷺ
1 / 9
ألمح إلى الخلافة لعلي من بعده في مواطن كثيرة ونص على ذلك في مواطن أخرى أشهرها في موقع يسمى غدير خم عند رجوعه من حجة الوداع، حيث عقد البيعة لعلي وقال:
" من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه "
كان ذلك في شهر ذي الحجة من العام العاشر بعد الهجرة، .......، أما الفرق الإسلامية الأخرى فترى أن النبي ﷺ ولم يتخلف أحدا من بعده بل جعل الأمر شورى بين المسلمين نزولا عند نص الكتاب ....
هذا هو ملخص الخلاف بي الفريقين ولكل فرقة آراؤها وأدلتها حيث ألف علماء الفريقين في هذا الموضوع مئات الكتب المطولة والمختصرة، ولم تنفع تلك الكتب بطولها وعرضها في زحزحة الشيعة عما تعتقده في الخلافة، أو زحزحة السنة عما تراه أولى بالاتباع، غير أن المشكلة القصوى هي أن الخلاف الفكري لم يتوقف إلى هذا الحد، بل اتخذ شكلا خطيرا، كلما مرت السنوات وبعد العهد عن عصر الرسالة، ولو أن الخلاف بقي محصورا عند هذا الحد لكان الخطب هينا، والعالم الإسلامي لم يشاهد في تاريخه الطويل كثيرا من المحن والمصائب التي حلت به بسبب المتفرعات من فكرة الخلافة والخلاف فيها.
وكما أشرنا ... فإن الخلاف الفكري تجاوز حدود البحث العلمي والاختلاف في الرأي، بل اتخذ طابعا حادا وعنيفا عندما بدأت الشيعة تجرح الخلفاء الراشدين وبعض أمهات المؤمنين، وذلك بعبارات قاسية وعنيفة لا تليق بأن تصدر من مسلم نحو مسلم، ناهيك عن أن تصدر من فرقة إسلامية نحو صحابة الرسول ﷺ وأزواجه، صحابة لهم مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، وأزواج للنبي عبر الله عنهن بأمهات المؤمنين.
وهنا ظهر على ساحة الخلاف عدم التكافؤ بين الفريقين في طريقة التفكير والعقيدة، فالفرق الإسلامية كلها تحب عليًا وتكرمه شأنه شأن الخلفاء الذين
1 / 10
سبقوه وتحترم أهل بيت رسول الله؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ وتصلي عليهم في الصلاة في كل صباح ومساء، ولكن الشيعة لها موقف آخر من خلفاء المسلمين موقف فيه العنف والقسوة والكلام الجارح.
فكانت النتيجة ظهور رد فعل عنيف من قبل علماء الفرق الإسلامية الأخرى للدفاع عن أعز وأكرم خلفائهم، فألَّف ودوّن كتاب السنّة وعلماؤها في الشيعة الكتب المطولة والمختصرة معيرة إياها بالكفر مرة وبالخروج عن الإسلام مرة أخرى وهكذا شغلت فكرة الخلافة حيزًا كبيرًا من الكتب الإسلامية عند الفريقين ولا زالت الأقلام تكتب والمؤلفات تنتشر وكأن المسلمين بكل طبقاتهم لا يواجهون مشكلة في هذه الدنيا المليئة بالأحداث والمكاره إلا مشكلة الخلافة فحسب.
لكن الحيرة كل الحيرة هي الطريقة التي اتبعتها الشيعة في معالجتها لمشكلة الخلافة فهي تتناقض كل التناقض مع سيرة الإمام علي وسيرة أولاده من أئمة الشيعة، ولذلك تتملكني الحيرة والدهشة عندما أرى أن شعار الشيعة هو حب الإمام علي وأولاده ولكنهم يضربون عرض الحائط سيرة علي والأئمة من ولده.
وهنا أود أن أتحدث مع الشيعة بلغتهم وفي نطاق معتقداتهم كي تكون حجة عليهم ولذلك فلا بد من القول إنني أواجه أمرين متناقضين: أحدهما التشيع والآخر الشيعة، ومن هنا بدأْتُ أستنتج أن ذلك الصراع الذي حدث بين الشيعة والتشيع بعد الغيبة الكبرى مباشرة هو السبب الأساسي لكل الانحرافات التي حدثت في الفكر الشيعي بعد الغيبة الكبرى وإلى يومنا هذا، ونحن نعتقد أن ذلك الانحراف سبب الشقاق بين الشيعة وسائر الفرق الإسلامية والذي سنفصله في هذا الكتاب كلًا في فصل خاص به.
فكرة الخلافة في عهد الرسول؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ؟:
إذا درسنا موضوع الخلافة في عصر الرسول؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ وبعد وفاته بصورة مستفيضة لوصلنا إلى نتيجة مؤكدة لا يختلف عليها اثنان هي: أن فكرة الأولوية والأفضلية لخلافة النبي الكريم ظهرت بعد وفاته مباشرة فهذا " عباس بن عبد المطلب " يخاطب الإمام عليًا عندما كان مشغولاَ بتجهيز النبي؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ وكفنه:
1 / 11
(أعطني يدك لأبايعك حتى يقول القوم عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله) فيقول له الإمام: (وهل يطمع فيها طامع غيري ثم إنني لا أريد أن أبايع من وراء رتاج) ..... واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة لينظروا في أمر الخلافة وقالت الأنصار للمهاجرين: (منا أمير ومنكم أمير) وكادت تحدث فتنة بين المجتمعين لولا أن الخليفة " عمر بن الخطاب " حسم الأمر وبايع أبا بكرٍ فبايعه المسلمون بعد ذلك وترك " سعد بن عبادة " شيخ الخزرج الاجتماع غاضبًا لأنه كان يرى نفسه أولى بالخلافة من غيره، وتخلف الإمام " عليّ " عن البيعة بعض الوقت إلا أنه بايع الخليفة الجديد " أبا بكر " وهو راض عن البيعة مقبل عليها، غير أن فكرة الأولوية كانت تراود نفس الإمام ومعه السيدة " فاطمة الزهراء " وبعض صحابة الإمام وبني هاشم حتى أن الخليفة " عمر بن الخطاب " قال لابن عباس وهو يشير إلى " عليّ " (أما والله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بعد رسول الله؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ إلا أنا خفناه على اثنين: حداثة السن وحبه بني عبد المطلب (١».
ومرة أخرى نستمع إلى الخليفة " عمر بن الخطاب " وهو على فراش الموت يشير إلى الإمام " علي " ويقول: (والله لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجة البيضاء (٢».
ومن هنا يمكن القول: إن فكرة التشيع لعليٍّ بالمعنى الذي أشرنا إليه ظهرت بعد وفاة النبي؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ واستمرت حتى القرن الثالث الهجري حيث كان التشيع
_________
(١) - شرح نهج البلاغة ج١ ص١٢٤
(٢) - شرح نهج البلاغة ج١ ص ٦٤
1 / 12
يعني أن الإمام " عليًاّ " أولى بالخلافة وأحق بها من غيره ولكن المسلمين نزولًا لأوامر القرآن الكريم الذي يقول: (وأمرهم شورى بينهم) الشورى ٣٨
ارتضوا " أبا بكر " خليفة والإمام ارتضاه كما ارتضاه غيره وبايعه كما بايعه غيره وهكذا كان موقفه مع الخليفتين " عمر بن الخطاب " و" عثمان بن عفان " فبايعهما وأخلص لهما في المشورة والرأي.
التشيع في القرن الثاني الهجري:
منذ أوائل القرن الثاني للهجرة أخذت فكرة التشيع تمثل مذهبًا فقهيًا هو مذهب أهل البيت وقد تجلى هذا المذهب في زمن انبثقت فيه المذاهب الفقهية الكبيرة الإسلامية الأخرى كالمذهب المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، وتجلت مدرسة أهل البيت في مدرسة الإمام الصادق الإمام السادس للشيعة الإمامية، وقد كانت الفكرة التي تساند مذهب أهل البيت هي الفكرة القائلة بأنه إذا كان الإمام " عليّ " أولى بالخلافة من غيره فأولاده ومن ثم حفيده الإمام " جعفر بن محمد الصادق " الذي كان يعتبر من أفقه فقهاء عصره أجدر بأن يتبع في مسائل الدين وشؤونه من غيره من الفقهاء، وهكذا ظهرت المدرسة الفقهية الجعفرية إلى الوجود في عهد الإمام " الصادق " الذي كان يلقي محاضراته ودروسه في الفقه وفي علوم أخرى على تلاميذه في المدينة المنورة آنذاك.
ولا بد من الإشارة إلى أن التشيع " لعلي " وأهل بيته بدأ يأخذ شكلًا خطيرًا بعد مقتل الإمام "
الحسين " الذي أحدث رد فعل عنيف في العالم الإسلامي وكانت نتيجته المباشرة حدوث ثورات متتاليات أدت إلى سقوط الدولة الأموية ومن بعدها المروانية وقيام الخلافة العباسية.
وكما نعلم فقد حدثت ثورات متتاليات باسم التشيع " لعليّ " وأهل بيته منها ثورة " المختار " وثورة " مصعب بن الزبير " وثورة " زيد بن علي بن الحسين " التي انتهت إلى استشهاده واستشهاد صحبه، كما أن الثورة التي قطف ثمارها " العباسيون " والتي أطاحت بالخلافة الأموية في المشرق الإسلامي إلى الأبد قد بدأت باسم التشيع لأولاد " عليّ " وأهل بيت رسول الله؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ و" أبو مسلم الخراساني " كان يدعو لأهل البيت في إبان القيام بثورته ولكنه انحاز إلى العباسيين في قصة معروفة جاء ذكرها في كتب التاريخ.
1 / 13
وكان أئمة الشيعة في عهد الخلفاء العباسين يتمتعون باحترام عظيم لدى المسلمين، كما أن فكرة الإسلامية الأولوية والأحقية في خلافتهم كانت تراود كثيراُ من الناس، فلولا الرأي العام الإسلامي بأحقية أهل البيت بالخلافة لما اختار " المأمون العباسي " الإمام " علي الرضا " وليًا للعهد غير أن الرضا توفي في عهد " المأمون " واستمرت الخلافة في العباسيين.
فإذًا إن فكرة التشيع " لعلي " وأهل بيته والتي كانت تظهر بمظاهر مختلفة في المجتمع الإسلامي آنذاك كان لها أنصارها المتحمسين، ونستنتج من كل هذه المقدمات أن فكرة التشيع كانت موجودة في القرون الثلاثة الأولى بعد الهجرة وهذه الفكرة كانت تنحصر في النقاط التالية:
أولًا - إن " عليًا " أولى بالخلافة من غيره ولكن المسلمين بايعوا الخلفاء الراشدين و" عليٌّ " بايعهم ثم بايع المسلمون " عليًا " بعد " عثمان " فلا غبار على شرعية خلافة الخلفاء الراشدين من " أبي بكر " إلى " علي ".
ثانيًا - إظهار العداء للأمويين وذلك لموقف " معاوية " من " علي " ومقتل الإمام " الحسين " في فاجعة " الطف " وسب الخلفاء الأمويين " عليًا " على المنابر زهاء خمسين عامًا إلى أن قام بالأمر " عمر بن عبد العزيز " الخليفة الأموي فنهى عن سب الإمام.
ثالثًا - الرجوع إلى أهل البيت في الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية.
رابعًا - أهل البيت ولا سيما الأئمة من أولاد " الحسين " أولى بالخلافة من الأمويين والعباسيين.
بداية الانحراف في الفكر الشيعي:
وبعد الإعلان الرسمي عن غيبة الإمام المهدي في عام / ٣٢٩ / هـ حدثت في التفكير الشيعي أمور غريبة أدعوها (بالصراع بين الشيعة والتشيع) أو عهد (الانحراف) وكانت أولى هذه الأمور في الانحراف الفكري ظهور الآراء القائلة: بأن الخلافة بعد الرسول؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ كانت في " عليٍّ " وبالنص الإلهي وأن الصحابة ما عدا نفر قليل منهم خالفوا النص الإلهي بانتخابهم " أبا بكر " كما ظهرت في الوقت نفسه آراء أخرى تقول: إن الإيمان بالإمامة مكمل للإسلام وحتى أن بعض علماء الشيعة أضافوا الإمامة والعدل إلى أصول الدين الثلاثة التي هي:
1 / 14
التوحيد - النبوة - والمعاد، وقال بعضهم بأنها من أصول المذهب وليس من أصول الدين وظهرت روايات تنقل عن أئمة الشيعة فيها تجريح بالنسبة للخلفاء الراشدين وبعض أزواج النبي.
ومن الجدير بالذكر أنه حتى في خلافة " معاوية بن أبي سفيان " وعندما كان يأمر بسب الإمام " علي " على المنابر وحتى بعد مقتل الإمام " الحسين " وظهور الثورات الداعية إلى الأخذ بالثأر وفي العهود التي كان التشيع يعصف بالخلافة الأموية ويقصم ظهرها ويمهد الطريق للخلافة العباسية لم نجد أثرًا لدى المتشيعين " لعلي " وأهل بيته للآراء الغريبة التي ظهرت فجأة في المجتمع الإسلامي بعد الغيبة الكبرى، تلك الآراء التي ساهم بعض رواة الشيعة وبعض علماء المذهب في بثها ونشرها وغرسها في عقول الساذجين من أبناء الشيعة.
وظهرت في الوقت نفسه فكرة " التقية " التي كانت تأمر الشيعة بأن تعلن شيئًا وتضمر شيئًا آخر وذلك لحماية الآراء الحديثة التي كانت بحاجة إلى الكتمان سواء لنشرها أو لحمايتها من السلطة الحاكمة، ولكي يكون لهذه الآراء الغريبة رصيد ديني لا يجوز التشكيك فيها نسب رواة تلك الروايات الغريبة إلى أئمة الشيعة ولا سيما إلى الإمامين " الباقر " و" الصادق " ولتثبيت صحة تلك الروايات وعدم الخوض في مضامينها وقبولها كما ذكرت فقد ظهرت فكرة عصمة أئمة الشيعة في ذلك العهد لكي تكون رصيدًا آخر يجعل من تلك الروايات الغريبة روايات مقدسة لا تخضع للنقاش والجدل والبحث والنقض، وقد أفردنا لتلك الآراء الغريبة الدخيلة والتي لها علاقة مباشرة بتكوين المذهب الشيعي فصولًا خاصة سنناقشها فيما بعد في هذا الكتاب، أما الآن فلنعد إلى مبحث الإمامة والخلافة لكي نناقش المتغيرات التي أحدثها الرواة وعلماء المذهب فيها بعد الغيبة الكبرى.
إن المتتبع المنصف للروايات التي جاء بها رواة الشيعة في الكتب التي ألفوها بين القرن الرابع والخامس الهجري يصل إلى نتيجة محزنة جدًا وهي أن الجهد الذي بذله بعض رواة الشيعة في الإساءة إلى الإسلام لهو جهد يعادل السموات والأرض في ثقله، ويخيل إليَّ أن أولئك لم يقصدوا من رواياتهم ترسيخ عقائد الشيعة في القلوب بل قصدوا منها الإساءة إلى الإسلام وكل ما يتصل بالإسلام، وعندما نمعن النظر في الروايات التي رووها عن أئمة الشيعة وفي الأبحاث التي نشروها في الخلافة وفي تجريحهم لكل صحابة الرسول؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ ونسفهم لعصر الرسالة والمجتمع الإسلامي الذي كان يعيش في ظل
1 / 15
النبوة لكي يثبتوا أحقية " علي " وأهل بيته بالخلافة ويثبتوا علو شأنهم وعظيم مقامهم نرى أن هؤلاء الرواة - سامحهم الله - أساءوا للإمام " علي " وأهل بيته بصورة هي أشد وأنكى مما قالوه ورووه في الخلفاء والصحابة، وهكذا تشويه كل شيء يتصل بالرسول الكريم؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ وبعصره مبتدئًا بأهل بيته ومنتهيًا بالصحابة، وهنا تأخذني القشعريرة وتمتلكني الحيرة وأتساءل: أليس هؤلاء الرواة من الشيعة ومحدثيها قد أخذوا على عاتقهم هدم الإسلام تحت غطاء حبهم لأهل البيت؟ ماذا تعني هذه الروايات التي نسبها هؤلاء إلى أئمة الشيعة وهم صناديد الإسلام وفقهاء أهل البيت؟ وماذا تعني هذه الروايات التي نسبوها إلى أئمة الشيعة وهي تتناقض مع سيرة الإمام " علي " وأولاده الأئمة وكثير منها يتناقض مع العقل المدرك والفطرة السليمة؟ وإنني لا أشك أن بعضًا من رواة الشيعة ومحدثيها ومن ورائهم بعض فقهاء الشيعة قد أمعنوا في هذا التطاول على أئمة الشيعة وفي وضع روايات عنهم عندما أعلن رسميًا بحدوث الغيبة الكبرى، ونقل عن الإمام المعدي قوله: (من ادّعى رؤيتي بعد اليوم فكذبوه (١».
وهكذا سدت الأبواب كلها للاتصال بالإمام وللسؤال عن صحة الروايات التي نسبت إليه وإلى أجداده الأئمة الطاهرين، وهكذا خلا الجو للمتربصين بالتشيع والإسلام معًا فصفَّروا ونقَّروا وكتبت أقلامهم ما شاءت وما ارتأت.
ولكي أكون واضحًا أود أن أضع النقاط على الحروف وأبدأ بالخلافة لكي نرى أن ما رووه في حق الخلفاء وصحابة الرسول؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ يصطدم اصطدامًا كبيرًا بسيرة الأمام " علي " وأهل بيته، ونرى بعد ذلك كيف أن هؤلاء الرواة وبعض علماء الشيعة لتعزيز آرائهم ولتفنيد مواقف الإمام الصريحة وأهل بيته التي تفند ما نسبوه غليهم ناقضوا مواقف الإمام " علي " والأئمة من بعده بصورة ملتوية ظاهرها مليح وباطنها قبيح لكي يثبتوا آراءهم حسب أهوائهم.
_________
(١) - سيرة الأئمة الإثني عشر ج٣ ص٥٧٠ هاشم الحسين
1 / 16
موقف الإمام " علي " من الخلافة
قلنا قبل قليل أن التشيع كان يعني حب الإمام " علي " وأهل بيته وإعطاءه حق الأولوية في الخلافة وإعطاء أولاده مثل هذا الحق من بعده ولا أعتقد أن هناك أحد لا يعرف الأسباب الدافعة إلى هذا الاعتقاد، فالإمام " علي " ترعرع ونشأ في بيت الرسول الكريم؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ وهو يحدثنا عن تلك النشأة بقوله: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه ويُمسني جسده ويشُمني عرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل) (١)
ويستمر الإمام في بيان منزلته عند رسول الله؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ ويقول: (ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان أيس من عبادته إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير).
ولنستمع إليه مرة أخرى وهو يقول: (ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وإن رأسه لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله صلى الله عليه وآله والملائكة أعواني فضجت الدار
_________
(١) - نهج البلاغة ج٢ ص١٥٧
1 / 17
والأفنية .... ملأٌ يهبط وملأٌ يعرج وما فارقت سمعي هيمنة فهم يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه فمن ذا أحق به مني حيًا وميتًا فانفذوا على بصائركم (١».
وهذا هو الإمام " علي " يصف نفسه وموقعه من رسول الله؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ مرة أخرى في كتاب بعثة واليه في البصرة " عثمان بن حنيف " جاء فيها: (وأنا من رسول الله كالصنو والذراع من العضد) وبعد كل هذا فالإمام هو زوج " الزهراء " وأبو الحسنين وبطل المسلمين ومن أعظم بناة الإسلام ودافع عن الرسول الكريم ورسالته بقلبه ولسانه ودمه وعرقه وهو بعد غلام لم يبلغ الحلم وقد شاء الله أن تكون شهادته حيث كان مولده فقد ولد " علي " في بيت الله واستشهد في بيت الله، وقد تكتمل الصورة المشرقة " لعلي " وجهاده وموقعه من قلب الإسلام عندما نعلم علم اليقين وحسب الأحاديث المتواترة الصحيحة التي رواها رواة الشيعة والسنة على السواء في حب الرسول الكريم؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ " لعلي " وتقديره إياه، فالنبي زوجَّه " فاطمة الزهراء " بأمر من السماء ورفض أولئك الذين تقدموا لخطبتها بقوله: (إنما أنتظر بها القضاء) وعندما نزل القضاء تم ذلك الزواج الميمون بين " علي " و" فاطمة ".
وفي غزوة الخندق يصف النبي الكريم " عليًا " بجملتين تضاهيان كل الأحاديث التي رويت عنه في فضائل " علي " حقًا عن كل حرف من تلك الكلمات الخالدات المشرقات يعتبر وسامًا نبويًا ينصبه محمد؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟على صدر " علي بن أبي طالب " إنه وسام أعطى الجهاد والإخلاص والتفاني والإيمان بالله موقعه السرمدي في حياة الدهر وتخليد العظماء، والجملتان صدرتا عن الرسول في خلال ساعة أو أكثر منها بقليل وذلك عندما ذهب " علي " ليلتقي بعدو الإسلام وبطل المشركين " عمرو بن ود " والذي كان يبارز لوحده جماعات ورجالًا قال؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: اللهم برز الإسلام كله إلى الشرك كله؟
_________
(١) - نهج البلاغة ج٢ ص١٧٢
1 / 18
وعندما وقع " عمرو " صريعًا بسيف " علي " قال؟صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين (١)؟.
إن المتتبع لحياة الرسول الكريم والإمام يصل إلى نتيجة أكيدة وهي: أن الوشائج التي كانت تربط " محمدًا "؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ بِ " علي " كانت أقوى بكثير من وشائج القربى إنها صلات روحية مترابطة متماسكة أصلها في السماء وفرعها في قلبي الرسول؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ وابن عمه ولذلك لا نستغرب أبدًا عندما نلمس في " علي " نفحات من نفحات النبي فهذا هو رسول الله؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ يدافع عن رسالته بكلمته الخالدة التي قالها للمشركين: (والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر عن يساري لأترك هذا الأمر ما فعلت) وهذا هو " علي " يدافع عن إيمانه بالله ويقول: (فوالله لو أعطيت الأقاليم السبعة وما تحت أفلاكها أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت). وبعد كل ما ذكرناه ورويناه فقد يكون من الطبيعي أن يرى " علي " نفسه أولى بخلافة محمد؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ من غيره، ومن الطبيعي أيضًا أن تعتقد فئة من الناس بذلك وتتحمس لها أشد التحمس وتجد الفكرة لها مؤيدين وأنصارًا كما أن من الطبيعي أيضًا أن نقرأ في قلب محمد؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ ولسانه ما يدل على استخلاف " علي " بعد وفاته.
الإمام " علي " يؤكد شرعية بيعة الخلفاء
ولكن هل يعني كل هذا - وهذا بيت القصيد وحجر الأساس في كل ما يتعلق بالإمامة وشؤونها المتفرعة منها - أن هناك نصًا إلهيًا بتعيين " علي " لخلافة الرسول؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ أم أنها رغبة شخصية من رغبات رسول الله الخاصة؟ الإمام " علي " كان يقول: لا نص عليه من السماء وصحابة " علي " والذين عاصروه كانوا يعتقدون بذلك أيضًا وقد استمر هذا الاعتقاد حتى عصر الغيبة الكبرى وهو العصر الذي حدث فيه التغيير في عقائد الشيعة وقلبها رأسًا على عقب.
_________
(١) - أخرجه الحاكم في المستدرك ج٣ ص٣٢ (لمبارزة علي لعمرو أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة).
1 / 19
ومرة أخرى نقول: عن هناك فرقًا كبيرًا بين أن يعتقد الإمام " علي " والذين كانوا معه انه أولى بخلافة الرسول الكريم؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ من غيره ولكن المسلمين اختاروا غيره وبين أن يعتقد أن الخلافة حقه الإلهي ولكنها اغتصبت منه، والآن فلنستمع إلى الإمام " علي " وهو يحدثنا عن هذا الأمر بكل وضوح وصراحة ويؤكد شرعية انتخاب الخلفاء وعدم وجود نص سماوي في أمر الخلافة: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد .... وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا كان ذلك لله رضىً، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين) (١).
وقبل أن أتحدث عن موقف الإمام " علي " بالنسبة للخلفاء الذين سبقوه وقبل أن نسهب في هذا الأمر ونستشهد بأقوال أخرى للإمام حيث أن لهذا الموقف أهميته القصوى في كشف الحقيقة وإنارة الواقع لا بد من التفصيل حول رغبات النبي الشخصية وذلك الجانب السماوي الذي كان يصدع به بأمر من الله وبوحي منه.
الفصل بين الأوامر الإلهية ورغبات النبي الشخصية
إن فصل هذين الجانبين في الشخصية المحمدية؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ يساهم مساهمة كبيرة في إعطاء صورة واضحة عن الجانب الإلهي والشخصي في رسول الله؟صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ وإذا علمنا أن النبي الكريم كان يحاول جاهدًا التفريق بين الجانب الإلهي في أقواله وما يصدر عنه من أقوال وأعمال لا صلة لها بالسماء لعرفنا عظمة النبي وعظمة نفسه الكريمة، بالقرآن الكريم عندما يتحدث عن النبي؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ بهذه الآيات البينات؟ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى؟ النجم الآيات ٣ - ٥،
_________
(١) - نهج البلاغة ج٣ ص٧
1 / 20
لا شك أنه يقصد بذلك أنه؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ عندما يقرأ القرآن ويبلغ المسلمين بالآيات الإلهية وبالأحكام المنزلة عليهم إنما ينطق بالوحي وبكلام الله المنزل على قلبه وهذا هو شرط الإيمان بالإسلام وبرسالة محمد؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ وبالقرآن المنزل عليه، ولكن القرآن الكريم حتى يبين الفرق الأساسي بين ما هو رغبة من رغبات النبي الخاصة وما هو أمر إلهي قد حسم الموقف بصورة واضحة وصريحة في آيات العتاب وفي آيات النهي عن أمور كان النبي؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ يرغب الإتيان بها ولنقرأ معًا هذه الآيات؟ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس .....؟ ٦٧ المائدة،؟ واذكر ربك إذا نسيت؟٢٤ الكهف،؟ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ....؟٦ - ٧ الأعلى،؟ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر .......؟١٧٦ آل عمران،؟ ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ....؟٨٨ الحجر،؟ وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض .....؟٦٧ الأنفال،؟ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ....؟٤٣ التوبة،؟ وما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم
أنهم أصحاب الجحيم ....؟١١٣ التوبة،؟ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه .....؟٣٧ الأحزاب؟ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي
1 / 21
مرضاة أزواجك والله غفور رحيم؟١ التحريم،؟ عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة ......؟١ - ١١ عبس،؟ قل غنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد .....؟١١٠ الكهف،؟ إنك ميت وإنهم ميتون .....؟٣٠ الزمر.
إن من يتدبر في هذه الآيات البينات سيعلم علم اليقين أن القرآن الكريم يؤكد تأكيدًا قاطعًا على أن رسول الله؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ لم يكن ملكًا ولا عنصرًا سماويًا ولا موجودًا خارج نطاق هذا الكون وطبائعه إنما هم بشر مثل سائر البشر، كان يأكل وينام ويصح ويمرض ويحب ويكره ويتزوج وينجب الأطفال حسب الناموس الطبيعي للكون فيسري عليه من التفاعل الطبيعي كل ما هو يسري على سائر أفراد البشر، ومن الواضح جدًا أن التأكيد على هذا الجانب في رسول الله؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ إنما كان ليثبت للناس أن كل ما يصدر من النبي لا يعني أنه وحي أو كلام إلهي أو أمر سماوي، أما الناحية الإلهية في وجود النبي وهي الاتصال بالمبدأ الأعلى فكان يؤكدها شخص النبي؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ عندما كان ينزل عليه الوحي ويطلب من كتبة الوحي أن يدونوا قول الله تعالى، ويبدوا واضحًا للمتتبع لأخلاق الرسول الكريم؟ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ كما قلنا قبل قليل إنه كان يسعى جاهدًا لتأكيد الفصل بين الجانب السماوي والأرضي في شخصه وهذه كانت من أكبر السمات الدالة على قوة النبي النفسية وصدقه في الرسالة وإخلاصه لربه وعظمة شخصيته وهي خصال لا تضاهيها خصال أي رسول من رسل السماء وأي عظيم من عظماء الأرض، فهذا الدور البارز العظيم الذي كان يؤديه ليظهر بالمظهر الذي خصه به ربه وبالصفات التي وصفه بها إلهه (فهو بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) ولكنه بشير ونذير أرسله الله للعالمين، فعندما كانت تنزل عليه آيات الثناء كان يقرؤها من موقع العبد المطيع فلم ير النبي في نفسه انتقاصًا عندما تلا على المسلمين آيات العتاب التي نزلت عليه كما لم يظهر عليه الخيلاء والتكبر عندما تلا آيات الثناء التي أنزلها الله على قلبه،
1 / 22