قرينة السياق ودورها في التقعيد النحوي والتوجيه الإعرابي في كتاب سيبويه
قرينة السياق ودورها في التقعيد النحوي والتوجيه الإعرابي في كتاب سيبويه
ژانرها
المُتَكَلِّم أولى بأَنْ يبدأ بنفسه قبل المخاطب، كان المخاطب الذي هو أقرب من الغائب أولى بأن يبدأ به من الغائب» (١).
لقد استغل سيبويه المخاطب مع المُتَكَلِّم والغائب في تفسير استعمال الضمير عند اجتماع المخاطب مع المُتَكَلِّم، أو المخاطب مع الغائب. فهو ينبِّه على أنَّه عند استعمال ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب يجب أنْ نبتدئ بالأقرب قبل الأبعد؛ أي نبدأ بالمتكلم قبل المخاطب والمخاطب قبل الغائب، «والعلِّةُ في ذلك أن الأولى أن يبدأ الإنسان بنفسه؛ لأنَّها أعرف وأهم عنده. وكما كان المختار أن يبدأ بنفسه، كان المختار تقديم المخاطب على الغائب؛ لأنَّه أقرب إلى المتكلم») (٢).
وهذا نصّ عجيب يوحي بأن سيبويه كان يتَتَبَّع التركيب النَّحْوِيّ الذي يدرسه في نصوص اللُّغَة أقصى درجات التتَبُّع، متأمِّلا إياه في سياقاته المختلفة، وليس مجرد تتَبُّع بل هو تتَبُّع يمكن أَنْ نسميه «تتَبُّعا إِحْصَائِيّا»؛ وإلا فكيف يتسنَّى له استخلاص مثل هذه النتيجة ومثل هذه القاعدة!
ويوحي هذا النَّصّ أيضا أَنَّ اللُّغَة لها نوع منطق داخلي، وثوابت منهجِيَّة، وأنَّ الأمور مع اللُّغَة لا تسير بعفويَّة مطلقة، فهناك نوع منطق ونوع نظام بداخلها، قد نختلف في تحديد درجة هذه المنطقية وهذا النظام، إلا أَنَّ الثابت أَنَّهما موجودان. ويوحي أيضا أَنَّ اللُّغَة تهتم بما هو حاضر وتقدمه على ما غائب.
ــ المخاطب وحمايته من اللَّبس والالتباس:
من الأمور المُهِمَّة التي تدل على اهتمام سيبويه بالمخاطب وعنايته الفائقة به حديثُهُ المُكَرَّرُ والمعاد عن «تجنب اللَّبس والالتباس» في الكلام، ففي أكثر من موضع أشار إلى أَنَّ اللُّغَة تتَّخذ كافة الوسائل التي تضمن «وضوح المعنى المنقول للمخاطب»، وأوضح أَنَّ اللُّغَة تتَّخذ إجراءات وقائِيَّة لمنع اللَّبس في المعنى على كافة المستويات سواء على مستوى البنية الصَّرْفِيَّة أو التركيب النَّحْوِيّ. ونشعر هنا أَنَّ الخوف من اللَّبس كان نصب عيني سيبويه طوال تقعيداته وتوجيهاته النحوِيَّة التي ذكرها، فهو لا يقرِّرُ قاعدة ما إلا إذا تأكَّد من وضوحها وأهليَّتها لنقل المعنى بسلام، وإذا أحسَّ أَنَّ هناك احتمالا ما لأنْ يقع اللَّبس نبَّه على ذلك.
ولا يبقى هنا سوى أَنْ نسوق من الأدِلَّة ما نؤيِّد به ما قدمنا، ونثبت اهتمام سيبويه بهذه القضية:
_________
(١) سيبويه: الكتاب، ٤/ ٣٦٤
(٢) ابن يعيش: شرح المفصل، ٢/ ٣٢١
1 / 88