The Reality of Servitude
حقيقة العبودية
ناشر
مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة
محل انتشار
القاهرة
ژانرها
حقيقة العبودية
طبعة جديدة
مجدي الهلالي
صفحه نامشخص
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي يوم من الأيام ذهب ثلاثة من الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى بيوت أزواج النبي ﷺ ليسألوا عن عبادته حتى يحذوا حذوه، فلما أُخبروا بقدر تلك العبادة كأنهم تقالُّوها (أي اعتبروها قليلة)، وقالوا: أين نحن من النبي ﵊ وقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! ثم بدأ كل واحد منهم يتحدث عن عبادته، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدًا ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فلما بلغ ذلك النبي ﷺ جاء إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١).
هذا الحديث العظيم يعلمنا أن العبرة في سباق السائرين إلى الله ليست بكثرة عبادات الجوارح، بل العبرة بما في القلوب من معاني العبودية لله ﷿ «أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له».
وغني عن البيان أن عبادات الجوارح هي المظهر والشكل الذي من خلاله يُظهر ما في القلب من معاني العبودية لله ﷿ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣].
فعبادات الجوارح على درجة بالغة من الأهمية كمظهر وشكل ينبغي الالتزام به في تقربنا إلى الله ﷿.
ومع ذلك؛ فإن الجهد الأكبر الذي ينبغي أن يُبذل في العبادة هو الاجتهاد في إظهار معاني العبودية لله ﷿ من خلالها؛ وكما أخبرنا سبحانه: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: ٣٧].
إن السباق إلى الله ﷿ إنما هو سباق قلوب، والقلب الذي يسبق هو الذي يحوي القدر الأكبر من العبودية الحقيقية له سبحانه ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣]، ولقد جاء في الأثر: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا صيام، ولكن بشيء وقر في صدره ..
فإن كان الأمر كذلك: فما العبودية؟ وما حقيقتها؟ وما طريقها؟
هذا ما تُحاول - بإذن الله - الصفحات التي بين يديك - أخي القارئ - الإجابة عليه بصورة إجمالية.
نسأل الله ﷿ العون والتوفيق والسداد والتجاوز عن الزلات، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: ٣٢].
_________
(١) متفق عليه: البخاري (٥/ ١٩٤٩، رقم ٤٧٧٦)، ومسلم (٢/ ١٠٢٠، رقم ١٤٠١).
1 / 1
الفصل الأول
معنى العبودية
1 / 2
معنى العبودية
كرَّم الله ﷿ الإنسان تكريمًا عظيمًا، وفضله على كثير من خلقه ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٠].
هذا التكريم العظيم للإنسان يعكس مدى حب الله ﷿ له، ومنزلته عنده.
ولقد علمت الملائكة بهذه المنزلة فجعلت جزءًا من عبادتها: دعاءها واستغفارها للناس، وهي بذلك تريد التقرب إلى الله - سبحانه - وتطمع في نيل رضاه ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: ٥].
ويزداد دعاؤهم واستغفارهم لمن لهم مكانة خاصة عنده - سبحانه - من البشر المؤمنين لعلمهم بحب الله لهم: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [غافر: ٧ - ٩].
الجنة تنتظرك:
ومن أعظم الدلائل التي تؤكد على المنزلة الخاصة للبشر عند الله: إعداده - سبحانه - الجنة لتكون لهم دارًا أبدية .. يقيمون فيها إقامة دائمة بلا تعب ولا نصب ولا تكاليف يؤدونها .. بل نعيم مقيم لا يحول ولا يزول ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: ٧١].
ولقد جعل سبحانه دخول هذه الجنة مرتبطًا بالنجاح في اختبار يُعقد على ظهر الأرض لجميع البشر ..
جوهر هذا الاختبار: عبادته سبحانه بالغيب، والقيام بحقوق العبودية له: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١].
أحب الخلق إلى الله:
يلاحظ المتدبر لآيات القرآن أن الله ﷿ عندما يمتدح أحدًا من رسله وأنبيائه، فإنه سبحانه يصفه بوصف العبودية، كقوله تعالى عن نبيه داود: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص:١٧].
وقوله تعالى عن سليمان: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص:٣٠].
وقد تكرر وصف رسولنا ﷺ بهذه الصفة ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا﴾ [الإسراء:١].
﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدً﴾ [الجن: ١٩]
معنى ذلك أن العبودية هي الصفة التي يحب الله ﷿ أن تتمثل في الإنسان: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ [ص:٤٥ - ٤٧].
فأحب الخلق إليه - سبحانه - أكثرهم عبودية له.
جوهر العبودية:
العبد عكس الحر وهو المملوك لسيده، وأصل العبودية: الخضوع والتذلل (١) فالطريق «مُعَبَّد» إذا كان مذللا بكثرة الوطء (٢).
فالعبودية إذن صفة ينبغي أن يعيش المرء حقيقتها، وأن تُظهرها صورة تعامله مع ربه من ذل وانكسار وخضوع وافتقار، وطاعة وهيبة وإجلال، وتعلق تام به، وفوق هذا كله: حبٌ عظيمٌ له ..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمن خضع لإنسان مع بغض له لا يكون عابدًا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن له عابدًا" (٣).
_________
(١) لسان العرب لابن منظور (٣:٢٧١) - دار صادر بيروت.
(٢) المصدر السابق.
(٣) العبودية لابن تيمية، ص (٣٤) - مكتبة دار الأصالة - الإسماعيلية - مصر.
1 / 3
تكوين الإنسان:
الله ﷿ يريد الخير لعباده جميعًأ ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: ٧]، يريد لهم دخول الجنة ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٢١].
ولأن دخول الجنة مرتبط بالنجاح في اختبار العبودية؛ فقد خلق الله ﷿ الإنسان بطريقة وهيئة تعينه وتيسر له ارتداء رداء العبودية ومن ثمَّ النجاح في اختبارها، فجعل أصله من التراب ولم يجعله من معدن نفيس كالذهب والفضة، فالتراب هو أقل الأشياء وأوضعها ..
هذا التراب هو التربة التي ينمو فيها النبات فيأكل منه الإنسان، وينشأ من خلاصته المَني والذي من خلاله يتم التكاثر، ومن ثم يتكون الجنين الذي يصبح بعد ذلك ذكرًا أو أنثى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [فاطر:١١].
ولو نظر أحدنا إلى المنيّ واشتم رائحته لأعرض عنه ولعافه ولتقززت نفسه منه، وصدق الله العظيم: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [المرسلات:٢٠].
هذا الأصل الحقير للإنسان من شانه أن يساعده على الاتصاف بصفة العبودية، فابن التراب والماء المهين ليس له أن يتكبر أو يتعالى أو يرفع رأسه أمام سيده وخالقه.
نظر مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى المهلَّب بن أبي صُفرة وعليه حُلة يسحبها، ويمشي الخيلاء، فقال: يا أبا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال المهلَّب أما تعرفني؟ فقال: بل أعرفك: أولك نطفة مَذِرة، وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة (١).
ومع هذا الأصل الحقير؛ كان الحجم الصغير الذي ينسجم مع كونه عبدا: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر:٥٧].
فلو كان الإنسان طويلًا .. أطول من الجبال والأشجار، لكان ذلك مدعاة لعلوه وتكبره: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء:٣٧].
الضعيف العاجز:
ومع الأصل الحقير، والحجم الصغير، فإن الضعف صفة أصيلة في الإنسان: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:٢٨].
فمع أن كل ما في الأرض مخلوق للإنسان: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة:٢٩]، إلا أنه ليس الأقوى فيها، فهناك من المخلوقات من هو أقوى منه في البنيان أو في التحمل أو في البطش.
وجوانب ضعف الإنسان كثيرة ومتعددة، فهو لا يمكنه أن يتحمل الألم ولا الجوع ولا العطش، بل إنه لا يستطيع مقاومة سلطان النوم فترة طويلة.
قوة إبصاره وسمعه وبطشه محدودة .. لا يمكنه أن يحمي نفسه من هجمة حيوان مفترس أو حتى لدغة حشرة صغيرة.
ضعيف أمام رغبات نفسه من حب للشهوات، ونفور من التكاليف والمشاق.
هذا الضعف المتعدد الجوانب من شأنه أن يجعله دوما بحاجة إلى مصدر للقوة يلجأ إليه ليحتمي به ويدفع عنه كل ما يثير مخاوفه ويعكر صفوه.
ولو تخيلنا أن الإنسان خُلق قويا .. أقوى من كل شيئ في الأرض، هل تظنه سيلجأ يوما إلى ربه يطلب منه العون والمدد؟! ولماذا يفعل ذلك وهو يرى قوته تحقق له ما يريد: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق:٦، ٧].
_________
(١) أدب الدنيا والدين للماوردي، ص (٢٣١) - دار الكتب العلمية - بيروت.
1 / 4
إن من رحمة الله بالناس وحبه لهم أن خلقهم ضعفاء وابتلاهم بالأمراض ليسهل عليهم القيام بالمهمة التي خُلقوا من أجلها، ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث مع قوم عاد الذين ابتلاهم الله ﷿ بأن حباهم مزيدًا من القوة فأساءوا استخدامها، بل كانت وبالًا عليهم وجعلتهم ينسون حقيقتهم: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت:١٥].
ومع الضعف الشديد للإنسان، واحتياجه الدائم لقوة تحميه فإنه كذلك عاجز، لا يستطيع إنفاذ إرادته .. يريد أن ينام سريعا فلا يستطيع .. يريد أن يسهر فيغلبه النعاس .. يريد تذكر شيء ما فلا يتذكره .. يتمنى أن تلد زوجته ذكرًا فتلد أنثى ..
كل هذا ليستشعر مدى عجزه واحتياجه لمن بيده القدرة على فعل كل شيء، ومن يفعل ما يريد وقتما يريد فيستسلم له ويذعن بين يديه.
الجاهل الفقير:
ومن سمات الإنسان كذلك أنه جاهل بعواقب الأمور، وعدم علمه الغيب، ولا حتى ما سيحدث بعد جزء من الثانية .. فهو لا يدري حين ينام هل سيستيقظ أم لا، وإذا ما استيقظ هل يكون معافى أم مريضًا.
هل العملية الجراحية التي ستُجرى له ستنجح أم لا؟!
هل هذا الطعام الذي يأكله سيسبب له مرضا أم لا؟!
هل .. هل؟! ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان:٣٤].
ومع عجزه وضعفه وجهله الملازم له، فهو كذلك لا يستطيع أن يتولى إدارة شئون جسمه وتدبير أموره ولو للحظة واحده.
فالقلب يحتاج إلى تعهد دائم ومطلق ليستمر في الخفقان وضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم، والدم يحتاج لأن يظل في درجة ما من السيولة لو انخفضت لحدثت جلطات وانسدت الشرايين، ولو زادت لحدث نزيف.
العضلات تحتاج دومًا إلى من يتعاهد انقباضها وانبساطها، ولو لم يحدث ذلك لشُل الجسم.
الرئتان .. الكليتان .. المخ .. جهاز الهضم والامتصاص .. جهاز الإخراج .. جهاز المناعة .. الغدد، بل كل خلية من خلايا الجسم البالغ عددها عدة تريليونات تحتاج إلى إمداد مستمر، وإلا توقفت عن العمل .. كل ذلك ينبغي أن يتم بصورة دائمة، فلو توقف إمداد المخ بالدم عدة دقائق لتوقفت الحياة، ولو تخلت الكليتان عن عملهما لتسمم الدم، ولو، ولو، ولو ... إلخ.
معنى ذلك أن الجسم يحتاج إلى من يقوم عليه ويمده بما يحفظه ويكفل له الاستمرار في وظائفه، ويدير عملياته الحيوية لينتج عن ذلك: نطق باللسان، ورؤية بالعين، وحركة بالأطراف، وهضم للطعام، وإخراج للفضلات، وشهيق وزفير، و...
ومن منا يقدر أن يقوم بذلك ولو للحظة واحدة، فنحن نضع اللقمة في الفم ولا ندري ماذا يجري لها داخل الجسم، ولو تُرك لنا هضمها وتوزيع خلاصتها وإخراج فضلاتها لما استطعنا أبدًا.
إننا بحاجة إلى من يقوم بإدارة شئون أجسادنا وإمدادها بما يصلحها، ويحافظ عليها، وذلك دونما توقف ليلًا أو نهارًا بل ولا لحظة واحدة، ويستوي في ذلك جميع البشر، القوي منهم والضعيف .. الغني والفقير .. الصغير والكبير.
لا يملك شيئا:
وبالإضافة إلى هذا كله، فلقد خلق الله ﷿ الإنسان ولم يعطه أي ملك ذاتي ولو مثقال ذرة، فنحن جميعًا ملك لله: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة:١٥٦]، وما عندنا من أموال وأولاد وأثاث و... فهي ملك له سبحانه، وهبها لنا في حياتنا الدنيا ثم يؤول كل شيء إليه بعد ذلك ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ [مريم:٤٠].
فكل ما تراه عيناك ليس له إلا مالك واحد هو الله ﷾ ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ [النمل:٩١].
1 / 5
وبالإضافة إلى عدم وجود أي شيء يملكه الإنسان ملكا حقيقيا، فلقد خلقه الله بلا قوة ذاتية مهما صغرت، فالقوة كلها لله يمنح جزءا منها للناس ويسلبها منهم متى شاء: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [البقرة:١٦٥].
وكذلك القدرة، فالله على كل شيء قدير، أما الإنسان فلا يقدر على شيء إلا بما قدره له ربه، فلا يمكن له أن يخلق ولو ذبابة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج:٧٣].
فلا ملكًا ذاتيًا، ولا قوة أو قدرة ذاتية للإنسان، ولا صلاحية له في هذا الكون تجعله يستطيع أن يضر أحدًا، أو ينفعه إن أراد ذلك .. وهذا الأمر ينطبق على جميع الخلق بمن فيهم الرسل والأنبياء .. تأمل معي قوله سبحانه لرسوله الحبيب محمد ﷺ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران:١٢٨].
ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث لزوجتي نوح ولوط ﵉: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم:١٠].
هذه هي حقيقتك:
هذه هي حقيقتك أيها الإنسان: أصلك حقير، حجمك صغير، جاهل بالغيب وعواقب الأمور، ضعيف تحتاج إلى قوة تحميك، عاجز لا تستطيع إنفاذ إرادتك .. فقير فقرًا مطلقًا وذاتيًا، تحتاج دومًا إلى من يقيم حياتك، ليس لك من الأمر شيء .. لا تملك شيئا .. لا قوة لك .. لا قدرة لك .. فأنت لا شيء ولن تكون شيئًا بدون ربك، ولقد خلقك الله ﷿ بهذه السمات رحمة بك، لكي يسهل عليك ارتداء رداء العبودية له سبحانه، ومن ثَمَّ تنجح في الاختبار وتدخل الجنة. وكيف لا وأنت بهذه الصفات تحتاج دوما إلى من يحميك، ويطعمك ويسقيك .. بحاجة إلى من تعتمد عليه في تصريف أمورك .. بحاجة إلى من يعلم ما خفي عنك فيوجهك لما فيه مصلحتك .. بحاجة إلى من يمدك بالقوة والقدرة والمال والصحة والولد و.. والذي يملك هذا كله هو الله وحده لا شريك له، فله ملك السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير، ومحيط، وعليم .. يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا .. يصحبنا في حلنا وترحالنا .. قريب مجيب .. يحبنا ويريد لنا الخير، وينتظر منا التفاتة صادقة إليه ليقبل علينا ويصلح شأننا: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة:١٤٣].
تأمل معي قوله سبحانه في الحديث القدسي: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم .. " (١).
فإن كنا جميعا لا نساوي شيئا بدون الله، وأنه لا يوجد مصدر يمدنا بالحياة والقوة والهداية والعصمة سواه فماذا عسانا أن نفعل معه؟! وما هي الصورة الصحيحة التي ينبغي علينا أن نعامله بها؟!!
أليس من الطبيعي أن نتذلل دومًا له، ونظهر له سبحانه عظيم فقرنا واحتياجنا له؟!
ألا ينبغي أن نتمسكن بين يديه، ونعترف أمامه بمدى حقارتنا، وضعفنا، وعجزنا، وأننا لا شيء بدونه؟!
لقد كان هذا بالفعل حال الرسل والأنبياء مع ربهم .. كانوا يعيشون في حقيقة عبوديتهم بكل ما تحمله هذه الحقيقة من معان .. تأمل معي ما قاله رسولنا الكريم ﷺ في دعائه لربه عشية عرفة:
_________
(١) رواه مسلم (٢٥٧٧).
1 / 6
" أنا البائس الفقير، المستغيث، المستجير، الوجل، المشفق، المقر، المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، دعاء من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل لك جسده، ورغم أنفه لك " (١).
وهذا إبراهيم ﵇ يقول لأبيه: ﴿وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الممتحنة:٤].
وتأمل معي ما قاله نوح ﵇ لربه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود:٤٧].
أما هذا الموقف الذي حدث مع موسى ﵇ فهو موقف يظهر مدى شعوره بحقيقته كعبد يتصرف فيه مولاه كيفما شاء: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ [الأعراف:١٥٥].
وتأمل حال يوسف الصديق وهو يناجي ربه ويسأله العون على كيد النسوة: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف:٣٣].
هذا العبد الصالح ماذا قال لربه عندما مكنه في الأرض: ﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف:١٠١].
العبودية والفطرة:
من فضل الله على عباده أن جعل معاني العبودية مركوزة فيهم، ومهما حاول المرء إظهار استغنائه عن ربه، ومهما اغتر بما حباه الله ﷿ من إمكانات إلا أنه يظهر على حقيقته كعبد ضعيف أمام الشدائد .. حينئذ تراه يتجه بكليته إلى الله يطلب منه النجاة والحماية: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس:٢٢].
فالشدائد والابتلاءات رحمة من الله ﷿ بالناس، ووسيلة يأخذهم بها إلى حظيرة العبودية: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام:٤٢].
السعادة الحقيقية:
من هنا ندرك سر شعور الإنسان الذي لا يعيش في حقيقة العبودية بأن هناك شيئا ما ينقصه مهما كان معه من إمكانات.
فتجده كثيرًا ما يمر بلحظات يتملكه فيها الخوف من المستقبل المجهول، خاصة على أولاده من بعده.
في صدره ضيق ووحشة مهما بدا عليه من مظاهر الفرح والسعادة ..
تأتيه أوقات يشعر فيها بضعفه وعجزه واحتياجه إلى قوة تحميه ..
هذه الأمور لا يمكن للإنسان أن يتغلب عليها، أو إغلاق الأبواب دونها بالأسباب المادية، ولو أُوتي مالًا مثل مال قارون، أو قوة وسلطانًا بلا حدود، بل إن هذه الأمور ستزيده شعورًا بالوحشة والاضطراب وعدم الأمان.
_________
(١) رواه الطبراني عن ابن عباس. قال الشيخ الألباني: (ضعيف)، انظر حديث رقم: ١١٨٦ في ضعيف الجامع.
1 / 7
فلا سبيل لحدوث السلام الداخلي، والشعور بالسعادة والطمأنينة والسكينة إلا من خلال العيش في حقيقة العبودية والتجلبب بجلبابها، ولِمَ لا ومن خلالها يشعر المرء بالأمان وهو يعيش في كنف ربه المقتدر الذي يملك كل شيء، ويقدر على فعل أي شيء يريده، ويستطيع أن يحفظه من كل سوء، ويؤمن مخاوفه، ويحميه ويستره: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس:٦٢، ٦٣].
فعلى سيبل المثال: الخوف على مستقبل الأولاد وهو أمر يتملك مشاعر الكثير من الناس فيجعل كل همهم جمع المال ليؤمنوا لأولادهم مستقبلهم .. هذا الخوف لا يتملك من يرتدي رداء العبودية لله ﷿، وكيف يتملكه وقد طمأنه ربه وقال له: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء:٩].
وما دام العيد يوقن أن الله هو الذي يكفل الجميع ويكلؤهم بالليل والنهار ففيم الخوف؟!
ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول: ففي القلب شَعْث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته.
وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته.
وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه.
وفيه فاقه لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم يسد تلك الفاقة منه أبدًا (١).
عجزي كنزي:
معنى ذلك أن خير أوقات المرء هي تلك الأوقات التي يحدث فيها سلام داخلي بين جوهر حقيقته كعبد وبين ما يعيشه من معاني العبودية ..
يقول ابن عطاء: خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد فيه إلى وجود ذلتك.
وفي نفس المعنى يقول ابن تيمية: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.
فبالعبودية يدخل المرء جنة الدنيا ونعيمها الذي لا يشبهه أي نعيم آخر.
يقول ابن القيم: فمحبة الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته، وإرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وقرة عين المحبين، وحياة العارفين.
ويحكي عن شيخه - ابن تيمية - أنه قال مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أني رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
ويستطرد ابن القيم قائلا: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم والمسابقة إليها (٢).
_________
(١) تهذيب مدارج السالكين، ص (٥٦٦، ٥٦٧).
(٢) الوابل الصيب، ص (٩٦ - ٩٨) بتصرف - مكتبة المؤيد - الرياض.
1 / 8
وفي كتابه - مقومات التصور الإسلامي - يؤكد سيد قطب ﵀ على هذا المعنى فيقول: إن الطمأنينة إلى الله، بعد معرفته بصفاته كما يعرضها القرآن، لا تعدلها طمأنينة، ولا يعدلها شيء من أشياء هذه الدنيا، وإنه لتمر بالإنسان أحداث ولحظات يشعر فيها بقيمة هذه المعرفة شعورًا كاملًا واضحًا عميقًا، ولكنه قد ينسى أو يغفل حتى تذكره تلك اللحظات والأحداث! وإن الرضا والأنس والبشاشة والتوجه والطمأنينة والثقة والراحة التي تسكبها تلك المعرفة لأمور تذاق ولا توصف، وأقرب ما يصورها المنهج القرآني في مثل تلك الإشارات:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨].
أهمية العبودية:
إن العبودية هي الحالة التي يحب الله ﷿ أن يراها متمثلة في عباده، وعلى قدر تمثلها فيهم يكون رضاه عنهم، وقربه منهم.
ومما يؤكد هذا المعنى قوله ﷺ: " ما من حالة يكون العبد عليها أحب إلى الله من أن يراه ساجدا يُعفر وجهه في التراب " (١).
بل إن أي وقت يحدث فيه للعبد انكسار فإن الله ﷿ يعامله في هذا الوقت معاملة خاصة، فالمريض - على سبيل المثال - يكسره المرض، لذلك تجده - سبحانه - قريبًا منه، بل ويحثنا على عيادته للتخفيف عنه كما جاء في الحديث: «أن الله ﷿ يقول يوم القيامة: يابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ..» (٢).
يقول ابن القيم: (وهذا - والله أعلم - هو السر في استجابة دعوة الثلاثة: المظلوم والمسافر والصائم، للكسرة التي في قلب كل واحد منهم. فإن غربة المسافر وكسرته مما يجد العبد في نفسه، وكذلك الصوم فإنه يكسر سَوْرَة النفس السبعية الحيوانية ويذلها) (٣).
ومما يؤكد أن العبودية من ذل وانكسار، وخضوع وتواضع هي الحالة التي يحبها الله ﷿ من العبد ما حدث للمرأة البغي التي سقت الكلب الظمآن وما تلا ذلك من مغفرة الله لها. فعن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: " بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته، فغُفر لها به " (٤).
(فما قام بقلب البغيّ التي رأت الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها، وهو ملآن، حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق التي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا. فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها) (٥).
من هنا ندرك قول أحد الصالحين: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام. فلم أتمكن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق .. فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو - سبحانه - قد أخد بيدي وأدخلني عليه.
وكذلك قول أحدهم: لا طريق أقرب إلى الله من طريق العبودية (٦).
_________
(١) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٩٠، رقم ٢٥٦٩).
(٣) تهذيب مدارج السالكين، ص (١٦٩ - ١٧٠).
(٤) رواه البخاري (٣٤٦٧) وركية: أي بئر، وموقها: أي خفها.
(٥) تهذيب مدارج السالكين، ص (١٨٨).
(٦) المصدر نفسه، ص (٢٢٩).
1 / 9
التمرد على العبودية:
العبودية هي الحالة التي يحب الله ﷿ أن يراها بادية على خلقه، وعلى قدر تمثلها فيهم تكون ولايته ونصرته لهم: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر:٣٦]، وفي المقابل فإن من أكثر الأمور التي تغضبه سبحانه هو تمرد المرء على ارتداء رداء العبودية، واستبداله برداء العز والكبر .. ففي الحديث: " العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته " (١).
فالكبر مناف للعبودية، لذلك فهو من أكبر الذنوب وأخطرها، وصاحبه يحرم من المعية والتوفيق والولاية والنصرة الإلهية: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأعراف:١٤٦].
إن الشرف العظيم للإنسان أن يكون عبدا لله ﷿، يسأله دوما حاجته، ويطلب منه الحماية والنصرة، والعون والمدد، فإذا ما استكبر عن ذلك، وظن أن بمقدوره العيش في الحياة دون معونة من الله فقد ظلم نفسه، وطغى طغيانا لا حدود له، ومن ثَمَّ كان العقاب الأليم في انتظاره: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:٦٠].
تضخم الذات:
هناك أسباب كثيرة لارتداء العبد رداء العزة والكبر، وتمرده على رداء العبودية، لعل من أهمها وأخطرها على المسلم: الشعور بالعزة والرفعة على غيره وذلك بسبب ما حباه الله من الامكانات، وبما أكرمه وهداه إلى فعل الطاعات، فينخدع بذلك، ويظن أن عنده شيئا ذاتيا يملكه ليس عند غيره، فيتكبر به ويتعاظم في نفسه فتصبح هذه الإمكانات وتلك الطاعات التي أكرمه الله بأدائها حجة عليه لا له ... قال ﷺ: " لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يُكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم" (٢).
بل إن صاحب الذنب المنكسر الذي يرى نفسه أقل الناس شأنا قد يكون عند الله أفضل منه.
تأمل معي - أخي القارئ - هذا الحديث: قال ﷺ: " كان رجلان في بني إسرائيل متواخيان، وكان أحدهما مذنبا، والآخر مجتهدا في العبادة، وكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر. فوجده يومًا على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلِّني وربي، أبُعِثْت عليَّ رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقُبض روحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا، أو كنت على ما في يدي قادرًا؟! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار" (٣).
ويؤكد على هذا المعنى ابن عطاء الله بقوله: معصية أورثت ذلًا وانكسارًا، خيرٌ من طاعة أورثت عزًا واستكبارًا.
وكذلك قال بعض السلف - كما ينقل عنهم ابن القيم-: إن العبد قد يعمل الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار. قالوا: كيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه، إن قام، وإن قعد، وإن مشى: ذكر ذنبه، فيحدث له انكسارًا، وتوبة، واستغفارًا، وندمًا، فيكون ذلك سبب نجاته.
ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه، إن قام، وإن قعد، وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجبًا وكبرًا ومنة، فتكون سبب هلاكه.
فيكون الذنب موجبا لترتيب طاعات، وحسنات، ومعاملات قلبية، من خوف الله، والحياء منه، والإطراق بين يديه منكسًا رأسه خجلًا، باكيًا، نادمًا، مستقيلًا ربه، وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبرًا وازدراء بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
_________
(١) رواه مسلم (٢٦٢٠).
(٢) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ويذهب بنفسه أي: يرتفع ويتكبر.
(٣) رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح رقم (٤٤٥٥).
1 / 10
ولا ريب أن هذا المذنب خير عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز من المعجب بطاعته، الصائل بها، المانّ بها وبحاله على الله ﷿ وعباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك، فالله شهيد عل ما في قلبه.
فإذا أراد الله بهذا العبد خيرًا ألقاه في ذنب يكسره به، ويعرفه قدره، ويكفي به عباده شره، وينكس به رأسه، ويستخرج منه داء العجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده. فيكون هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة، ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء العضال (١).
وخلاصة القول أن الله ﷿ قد خلقنا بهذا التكوين وما فيه من ضعف وعجز وجهل واحتياج دائم ليسهل علينا أداء واجبات العبودية، ويحدث الانسجام بين ما هو مركوز في فطرتنا وبين ما ينبغي أن نقوم به من تواضع، وتذلل، وانكسار، وتضرع، وحب، وخشية، وهيبة له سبحانه، فإذا ما تمرد المرء على ارتداء رداء العبودية فإنه بذلك يخرج من كنف ربه ورعايته، وتكون له المعيشة الضنك في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
_________
(١) تهذيب مدارج السالكين، ص (١٧٠).
1 / 11
الفصل الثاني
بين العبادة والعبودية
1 / 12
بين العبادة والعبودية (١)
لو تأملنا في معاني العبودية لله ﷿ من تعظيم ومهابة، وذل وانكسار، وحب ورجاء، وخشية وإجلال، لوجدنا أنها عبارة عن مشاعر ووجدانات، ولأن القلب هو الذي تجتمع فيه مشاعر الإنسان ووجداناته فالعبودية إذن محلها القلب، وبالتالي فإن أكثر الناس عبودية لله ﷿ هو أعظمهم تعبيدا لقلبه، وتوجيهًا لمشاعره نحوه سبحانه حتى يصير حبه أحب الأشياء إليه، وخشيته أخوف الأشياء عنده ... ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة:١٦٥].
ومع كون العبودية محلها القلب إلا أن آثارها قد تظهر على الجوارح، فالإخلاص عبادة قلبية تظهرها الجوارح على صورة إخفاء الأعمال، والهرب من مواطن الشهرة، وعدم تزكية النفس أو المباهاة بها ...
والتواضع عبادة قلبية تظهر آثارها على أفعال صاحبها بخفض الجناح للمؤمنين، والمشي على الأرض هونا، وعدم الاستنكاف من الجلوس مع الفقراء والمساكين ...
العبودية لا تتغير:
منذ بدء الخليقة وهبوط آدم ﵇ على الأرض، وحتى قيام الساعة فإن المطلوب من الإنسان في كل زمان ومكان أن يكون عبدًا لله ﷿.
هذه هي الوظيفة التي خُلق جميع البشر من أجل القيام بها مدة وجودهم على الأرض وذلك من سن البلوغ حتى نهاية الأجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:٢١].
المطلوب من الجميع أن يتجه بمشاعره نحو الله ... أن يحبه ويخافه ويتذلل إليه ويهابه ويجله ويتقيه .. .
هذه العبودية المطلوبة من البشر جميعا تحتاج بلا شك إلى مظاهر تظهرها، وأعمال بالجوارح تُعبر عنها ... من هنا كانت الشرائع السماوية التي تحدد للناس أشكال الأعمال التي ينبغي عليهم أن يقوموا بها إظهارًا لعبوديتهم لله ﷿.
_________
(١) اتفق العلماء على أن هناك عبادات محلها القلب من حب وخوف ورجاء وتوبة وإخلاص .. وعبادات محلها الجوارح كالصلاة والصيام والذكر والحج.
وقد أدرج بعضهم القسمين تحت مسمى العبادة، وإن كانوا قد فرقوا بينهما بعد ذلك فسموهما: عبادة القلب، وعبادة الجوارح، أو أعمال القلب وأعمال الجوارح، والبعض الآخر أدرج عبادات القلب تحت مسمى (العبودية)، وعبادات الجوارح تحت مسمى (العبادة).
والملاحظ أن جوهر التقسيم واحد وإن اختلفت المسميات، ونحن في هذا الكتاب نتبنى الرأي الثاني.
1 / 13
والملاحظ أن الشرائع السماوية مختلفة في بعض أعمالها وهيئاتها ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]؛ إلا أنها تشترك جميعها في كونها تعبر عن معاني العبودية لله ﷿، والتي لا ينبغي أن تختلف من شخص لآخر مهما كان وضعه أو مكانه أو زمانه الذي يحيا فيه.
ومن أمثلة اختلاف شرائع من قبلنا عن شريعتنا قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام:١٤٦].
وأخرج الإمام أحمد في الزهد أن وهب بن منبه سُئل: ما كان شريعة أيوب ﵇؟ قال: التوحيد وصلاح ذات البين، وإذا أراد أحدهم حاجة إلى الله ﷿ خر ساجدا ثم طلب حاجته (١) ..
لا بديل عن الاتباع:
قد يقول قائل: ولماذا لا يُترك الناس للتعبير عن عبوديتهم لله ﷿ حسب ما يرون؟
لو تُرك للناس تحديد الأعمال التي يظهرون من خلالها عبوديتهم لله ﷿ لحدث اختلاف كبير بينهم، ولتشدد البعض وتسيب البعض الآخر.
فعلى سبيل المثال: قد يرى إنسان أن إظهار المسكنة لله ﷿ يستلزم أن يظل واقفا تحت أشعة الشمس فترة طويلة من الوقت، أو ألا ينام أو يأكل أو يتزوج.
وقد يرى بعض الناس مثلا أنه ما دام القلب متجها إلى الله فليس من الضروري القيام بأعمال أو طاعات له سبحانه ...، وهكذا.
من هنا تظهر قيمة الالتزام بالعبادات والشرائع التي جاءت بها الرسل والتي شرعها الله ﷿ لعباده، وهو أعلم بهم، وبما يناسبهم من أعمال تُعبر عما في قلوبهم تجاهه سبحانه.
بل إن من أهم مظاهر العبودية: الانقياد والاستسلام لله ﷿ وطاعة رسوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:٣١].
قيمة عبادات الجوارح:
إذن فالعبادة التي نؤديها بالجوارح ما هي إلا شكل ووعاء علينا أن نُظهر من خلاله معاني العبودية لله ﷿ من ذل وانكسار وافتقار، وحب وخوف ورجاء، وخضوع واستكانة.
فالصلاة بالهيئة التي طالبنا الله بها علينا أن تُظهر من خلالها التواضع والانكسار والذل والخضوع له سبحانه. . . تأمل معي هيئة السجود وما فيها من معاني الذل والخضوع ... قال ﷺ: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء " (٢).
أما الزكاة والصدقة فهي عبادات تُظهر مدى حبنا لله ﷿ ومدى انتصار هذا الحب على حب المال الذي تعشقه النفس.
والصوم عبادة تُظهر مدى تضحيتنا وحبنا لله ﷿ أكثر من حبنا للطعام والشراب .. أما الحج فيظهر مدى استسلامنا، وانقيادنا لأمره سبحانه.
والذكر كذلك: فالتسبيح يعبر عن تعظيم الله وتنزيهه، والاستغفار يُعبر عن الشعور بالتقصير في جنبه سبحانه، والحوقلة تُظهر الإفتقار والمسكنة إليه ... وهكذا.
فالعبادات إذن ما هي إلا منظومة تُظهر معاني العبودية لله ﷿.
ولكي تؤدي هذه العبادات دورها في إظهار العبودية، لا بد من حضور القلب وتفاعله معها .. حضور مشاعر الحب والخوف والرجاء، ليزداد خلالها خشوعه وخضوعه لله ﷿ كما قال تعالى واصفا عباده الصالحين: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء:١٠٩].
_________
(١) الزهد للإمام أحمد، ص (٤٢) - دار الكتب العلمية - بيروت.
(٢) رواه مسلم (٢: ٤٩ - ٥٠).
1 / 14
يقول د. محمد سعيد رمضان البوطي: العبادة هي الوظائف البدنية التي كلف الله عباده بها، من صلاة وصيام وحج وغيرها من العبادات. أما العبودية فهي الذل الذي يهيمن على كيان الإنسان ومشاعره لخالقه، فيقوده إلى تعظيمه ومهابته، وإلى الالتجاء الدائم إليه بالاستغفار والدعاء والرجاء، ومن ثم فهو لا يدين بالولاء والتعظيم لأي كائن غيره.
وعلاقة ما بين العبادة والعبودية أن العبادة وعاء للعبودية، ومن ثَمَّ فإن قيمة العبادة تكمن في القدر الذي تنطوي عليه من معنى العبودية. ذلك لأن الذي يقرب العبد إلى الله تحققه بمعنى العبودية له، وإنما شُرعت العبادات وسيلة لذلك (١).
ويقول كذلك: ثم اعلم أن للطاعات والقربات المتنوعة التي شرعها الله وأمر بها، ثمرة واحدة لا ثانية لها، وهي سر قبول الله لها وإثابته عليها، ألا وهي ثمرة الافتقار إلى الله والتوجه إليه بذل العبودية والضراعة والانكسار.
بل المطلوب من الإنسان أن يكون في كل أحواله وتقلباته مستشعرًا حقيقة الافتقار إلى الله متصفًا بذل العبودية لله، ملتصقًا بأعتاب جوده وكرمه، وما شُرعت العبادات والطاعات إلا لتكون تذكرة لهذا المطلوب، وترسيخًا لمشاعر العبودية لله والافتقار إليه في نفس الإنسان (٢).
بين الشكل والمضمون:
من هنا يتبين لنا أن القيمة العظمى للعبادة هي إظهارها لمعاني العبودية لله ﷿، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يجوز ابتداع شكل آخر غير الأشكال التي طالبنا الله بها وبينها لنا رسول الله ﷺ، فالطرق إلى الله كلها مسدودة إلا الطريق الذي يقف عليه محمد ﷺ.
وإليك أخي القارئ مثالًا يوضح أهمية الشكل ونسبته إلى المضمون:
عندما يذهب الواحد منا إلى مصلحة كمصلحة الأحوال المدنية ليستخرج بطاقة للأحوال الشخصية أو مستخرجًا رسميًا لشهادة الميلاد، فإنه يقدم طلبه على نموذج معد لذلك، ويستوفي الشروط المطلوبة لصحة الطلب، ثم يكتب ما يريده بعد ذلك.
فإذا قام بتقديم طلبه على ورقة أخرى غير هذا النموذج، فلن يُلتفت إلى طلبه مهما كتب فيه.
وإن قدم النموذج المطلوب واستوفى شروطه ولكنه لم يكتب فيه شيئا مما يريد، فسيُطرح طلبه جانبًا من قِبل المختصين لأنهم لم يعرفوا ماذا يريد.
إذن فالنموذج مطلوب، وملؤه بالبيانات كذلك مطلوب .. فلابد من الإثنين معًا.
كذلك العبادة بالجوارح والعبودية بالقلب.
فالعبادة مهمة جدًا كشكل ونموذج طالبنا الله ﷿ أن ندخل عليه من خلاله.
ولكن إذا اجتهدنا في تحصيل الشكل الظاهري لتلك العبادة، وبالغنا في إتقانه دون أن نملأه بمعاني العبودية، فقد ضاع تعبنا ... تأمل معي قوله ﷺ: "رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" (٣).
ولو قمنا بإظهار معاني العبودية لله ﷿ ولكن بشكل مبتدع مخالف للذي ارتضاه لنا فلن يُقبل منا، وسيُرَد علينا كما قال ﷺ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد" (٤)، فلو أن شخصا اتجه في صلاته متعمدًا لغير القبلة وكانت صلاته خاشعة متذللة متمسكنة فلن تُقبل منه، وفي المقابل لو صلى في اتجاه القبلة، وأتى بجميع حركات الصلاة الصحيحة وقلبه غافل لاهٍ ساهٍ فما قيمة صلاته؟! ألم يقل ﷺ: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" (٥).
_________
(١) شرح الحكم العطائية (٣:١٤٢) - دار القلم - دمشق.
(٢) شرح الحكم العطائية (٣:١٥١).
(٣) سنن ابن ماجه (١٦٨٠). قال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم (٣٤٨٨) في صحيح الجامع.
(٤) صحيح البخاري (٢٤٩٩).
(٥) أخرجه مسلم (٨/ ١١).
1 / 15
يقول ابن القيم: ولا ريب أن مجرد القيام بأعمال الجوارح، من غير حضور ولا مراقبة، ولا إقبال على الله: قليل المنفعة، دنيا وأخرى، كثيرة المؤونة .. فهكذا العمل الخارجي القشوري بمنزلة النخالة، كثيرة المنظر قليلة الفائدة (١).
ويقول الإمام البنا ﵀: وعمل القلب مقدم على عمل الجارحة وتحقيق الكمال في كليهما مطلوب وإن اختلفت مرتبتا الطلب (٢).
النسبة بين الشكل والمضمون:
إذا كان الشكل مهما وضروريا للدخول على الله ﷿ إلا أن الأهم والأهم هو مدى إظهاره معانى العبودية والتي من أجلها خُلق الإنسان.
ومما يؤكد ذلك أن الله ﷿ قد بيَّن لنا في كتابه أن المقصود الأعظم من العبادة هو زيادة عبودية القلب له سبحانه، تأمل معي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:٢١]، وقوله: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج:٣٧].
فإراقة الدماء في الحج ليست غاية في حد ذاتها بل هي شكل من أشكال العبادة التي ينبغي أن تظهر من خلالها تقوانا لله ﷿ ... فما قيمة إراقتها دون أن يصاحبها زيادة في التقوى؟!
وفي الحديث أنه ﷺ قال: إنما الصلاة تَمسكُن وتواضع وتضرع وتَأوُه وتنادُم وتضع يديك فتقول: اللهم اللهم. فمن لم يفعل فهي خداج" (٣).
لابد إذن من أن يوضع الشكل - مع أهميته القصوى - في حجمه الصحيح، فوظيفته الأساسية إظهار العبودية وزيادتها في قلب العبد ..
فإن كنت في شك من هذا فتدبر معي قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٧٧].
فهذه الآية الجامعة قد نزلت بعد تحويل القبلة تجاه الكعبة، وما صاحب ذلك من جدل طويل من اليهود وغيرهم .. نزلت هذه الآية لتضع الأمر في حجمه الصحيح عند المسلم، وأن المقصد الأهم من العبادات هو الإيمان الذي يزيد في القلب فينعكس أثره على الأعمال.
_________
(١) تهذيب مدارج السالكين، ص (١٥٣).
(٢) رسالة التعاليم، من مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا - دار التوزيع والنشر الإسلامية.
(٣) أخرجه الترمذي والنسائي بنحوه من حديث الفضل بن عباس بإسناد مضطرب. وخداج أي ناقصة.
1 / 16
ولصاحب الظلال تعليق على هذه الآية فيقول ﵀: إنه ليس المقصد من تحويل القبلة، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق؛ أن يولي الناس وجوههم قِبل المشرق والمغرب .. نحو بيت المقدس أو نحو البيت الحرام .. وليست غاية البر - وهو الخير جملة - هي تلك الشعائر الظاهرة، فهي في ذاتها - مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك - لا تحقق البر، ولا تُنشئ الخير .. إنما البر تصور وشعور، وأعمال وسلوك، تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة، وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة. ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قِبَل المشرق والمغرب .. سواء في التوجيه إلى القبلة هذه أم تلك، أو في التسليم في الصلاة يمينًا وشمالًا، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر (١).
العبادة المؤثرة:
مما لا شك فيه أن قيام الجوارح بالعبادة مع حضور القلب وتفاعل مشاعره معها له أثر كبير في زيادة الإيمان والعبودية في القلب، وفي المقابل فإن تحرك الجوارح بالعبادة دون تحريك القلب قليل النفع، ضعيف الأثر، فالرجلان قد يكون مقامهما في صف الصلاة واحدًا ولكن بين صلاتهما كما بين السماء والأرض، وليس ذلك لتفاوتهما في حركات الجوارح، ولكن لتفاوت حركة المشاعر في قلبيهما من الخشوع والذل والانكسار والمحبة لله ﷿.
معنى ذلك أن مجرد الإكثار من العبادة بالجوارح ليس دليلا على قرب صاحبه من الله، بل دليل القرب هو مقدار العبودية في القلب والتي لا يعلم مقدارها إلا الله ﷿ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:١٣].
والدليل على ذلك الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيوت أزواج النبي ﷺ، يسألون عن عبادته ﷺ، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالُّوها (أي عدُّوها قليلة)، وقالوا: أين نحن من النبي ﷺ فقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله ﷺ فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (٢).
هنا نجد أن رسول الله ﷺ لم يكن يصلي الليل أو يصوم الدهر كله، ومع ذلك كان أكثر الخلق خشية وتقوى لله ﷿، بالرغم من وجود من يصلي الليل ويصوم الدهر كله.
وقس على ذلك ما وُصف به أبو بكر الصديق ﵁ بأنه"ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في صدره" (٣).
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي ﷺ قال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: ما أعددت لها من كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله ﷺ: "أنت مع من أحببت".
قال أنس: ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا (٤).
ومما يؤكد هذا المعنى قوله ﷺ: "والله لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا أكثر الناس صلاة ولا صيامًا ولا اعتمارًا، ولكنهم عقلوا عن الله مواعظه، فوجلت قلوبهم واطمأنت إليه النفوس، وخشعت منه الجوارح، ففاقوا الخليقة بطيب المنزلة وبحسن الدرجة عند الناس، وعند الله في الآخرة" (٥).
_________
(١) في ظلال القرآن لسيد قطب (١: ١٥٩) - دار الشروق - القاهرة.
(٢) صحيح البخاري (٤٦٧٥).
(٣) المحجة في سير الدلجة لابن رجب، ص (٥٣) - دار البشائر - بيروت.
(٤) البخاري ٣٤٨٥
(٥) رواه ابن السني وابن شاهين والديلمي عن علي.
1 / 17
والمتأمل في كتب السير والتراجم يجد أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا أكثر صلاة وصياما ممن جاءوا من بعدهم، ولم يؤثر عن أحدهم أنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء كذا وكذا سنة، بل كانوا ينامون ويستيقظون بالليل .. يصومون ويفطرون .. يضحكون ويبكون .. ومع ذلك كانوا أكثر الخلق بعد الأنبياء قربًا من الله ﷿ وعبودية له بقلوبهم.
يقول ابن مسعود مخاطبًا نفرًا من التابعين: أنتم أكثر صلاة من أصحاب محمد ﷺ، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا: وبم ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب في الآخرة (١).
أين الأثر؟
ومع قيمة العبادة العظمى في كونها تظهر معاني العبودية لله ﷿ من ذل وافتقار وانكسار وخضوع واستسلام؛ فإنها أيضًا تقوم بوظيفة كبيرة في تحسين السلوك، والاستقامة على أمر الله، وذلك من خلال زيادة الإيمان التي تصاحب تحرك القلب وتجاوب المشاعر مع تلك العبادة ليقوم الإيمان بدوره في دفع المرء للقيام بالأعمال الصالحة: ﴿(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:٣٢].
فأسرع الناس إلى فعل الخيرات هم أكثر الناس إيمانًا وخشية وتعبيدًا لمشاعرهم وقلوبهم لله ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون:٥٧ - ٦١].
ولئن كان إظهار العبودية لله ﷿ من أهم مقاصد العبادات، فإن من مقاصدها كذلك تحسين السلوك، ودفع المرء إلى الاستقامة على أمر الله.
فالصلاة من شأنها أن تُشعر المسلم بخضوعه وانكساره لربه، وهي وسيلة عظيمة للاتصال به - سبحانه -، ومناجاته، واستشعار القرب منه، والأنس به، والشوق إليه، فتكون نتيجتها زيادة خضوع المشاعر لله ﷿ ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: ١٠٩].
وبذلك تقرب الصلاة العبد من ربه ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: ١٩].
ومن نتائجها كذلك: زيادة الإيمان في القلب، فإذا ما زاد الإيمان: تحسن السلوك، فتزداد مسارعته لفعل الخير، ويقوى وازعه الداخلي ومقاومته لفعل المعاصي أو الاقتراب منها فيتحقق بذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥].
فإن لم تفعل الصلاة ذلك، ولم يظهر أثرها في سلوك المرء، فإن هذا يعني عدم زيادتها للإيمان، وعدم إظهارها لمعاني العبودية، ومن ثَمَّ فقد فقدت روحها والمقصد الأعظم منها.
المشاعر أولًا:
من هنا تتضح لنا أهمية العبودية وضرورة تمكنها من المشاعر أولًا لتأتي العبادة فتعبر عنها وتزيدها رسوخًا في القلب ومن ثَمَّ انعكاسًا على السلوك، ومما يؤكد هذا المعنى أن التربية الربانية للجيل الأول كانت تركز على العبودية وزيادة الإيمان في القلب أولًا قبل تشريع العبادة، فكما قيل بأن الإسلام بدأ مشاعر ثم شعائر ثم شرائع.
إنه لأمر عجيب أن تُفرض الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج، ويفرض الصيام وسائر التشريعات في المدينة بعد سنوات من البعثة .. فما كان الذي يفعله المسلمون الأوائل في مكة إذن؟
ماذا كان يفعل الواحد منهم عندما يستيقظ من نومه ولم يكن عليه ساعتها تكاليف يؤديها أو محظورات يجتنبها؟!
_________
(١) حياة الصحابة.
1 / 18
نعم، كان هذا هو الواقع الذي عاشه المسلمون الأوائل .. ومع عدم وجود تكاليف إلا أنه كان يتم في هذه الفترة أخطر مرحلة من مراحل بناء الفرد المسلم، وهي مرحلة تأسيس القاعدة الإيمانية، وارتداء رداء العبودية لله ﷿ .. مرحلة تعبيد المشاعر له سبحانه، لتأتي الشعائر بعد ذلك فتُحسن التعبير عن هذه المشاعر.
تقول السيدة عائشة ﵂: أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول الأمر: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، ولو نزل أول الأمر لا تشربوا الخمر لقالوا: لا نترك الخمر أبدا .. أُنزل على النبي ﷺ وأنا جارية ألعب ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر:٤٦]، وهي من سورة القمر، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده في المدينة (١).
ويؤكد على هذا المعنى جندب بن عبد الله ﵁ بقوله: كنا مع النبي ﷺ فتيان حزاير (٢)، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا (٣).
وليس معنى هذا أن نترك العبادة، أو نقول: لابد أن نفعل مثل ما فُعل مع الصحابة، فلقد اكتمل التشريع كما قال تعالي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣].
فنحن مطالبون بأداء كل ما افترضه الله علينا، ومع ذلك فلابد من التركيز على القلب وزيادة الإيمان والعبودية لله فيه، وأن نعطي هذا القدر الكافي من الاهتمام، وبخاصة في بداية تكوين الفرد المسلم، لتصبح العبادة مؤثرة تُزيد العبودية في القلب، ومن ثَم تُقرب صاحبها إلى الله أكثر وأكثر.
تربية الأبناء على العبودية:
ولعلنا من ذلك نستخلص طريقة تربوية في تربية أبنائنا على العبودية لله ﷿ قبل سن التكليف، فمع تحبيبهم والعمل على تعويدهم على أداء العبادات إلا أن الجهد الأكبر ينبغي أن ينصب على تعريفهم بالله ﷿، وتعظيم قدره في نفوسهم، وتعريفهم بأنفسهم، وأنهم لا شيء بدون ربهم .. انظر إلى رسول الله ﷺ وهو يوجه عبد الله بن عباس ﵄ لذلك بقوله: "يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفت الصحف" (٤).
اقتران العبادة بالعبودية:
إن الطاعات التي فرضها الله علينا كلها أنوار، ووسائل يتقرب من خلالها العبد إلى الله ﷿ .. قال ﷺ: "الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء" (٥). ولا يمكن أن يتقرب العبد إلى ربه إلا من خلالها، فهي تعد بمثابة المركبات التي تتحرك بمن يركبها فتقربه إلى مولاه .. هذه المركبات تحتاج إلى وقود يُحركها ويدفعها للأمام وإلا لما تحركت .. وهنا يأتي الدور العظيم لمعاني العبودية والتي تُعد بمثابة الوقود لهذه المركبات.
فالدعاء على سبيل المثال وسيلة وطاعة يتقرب بها العبد إلى ربه كما قال ﷺ: "الدعاء هو العبادة" (٦).
_________
(١) صحيح البخاري رقم ٤٧٠٧.
(٢) جمع حزير، وهو الشاب الممتلئ نشاطا وقوة.
(٣) رواه ابن ماجه بسند صحيح.
(٤) صحيح، سنن الترمذي (٢٤٤٠).
(٥) صحيح مسلم (٣٢٨).
(٦) رواه الترمذي (٣٣٦٩)، وأبو داود (١٤٤٩)، وصححه ابن حبان (٢٣٩٦).
1 / 19