The Prophetic Guidance in Raising Children in Light of the Quran and Sunnah
الهدي النبوي في تربية الأولاد في ضوء الكتاب والسنة
ناشر
مطبعة سفير
محل انتشار
الرياض
ژانرها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (١).
فهذه رسالة في «الهدي النبوي في تربية الأولاد في ضوء الكتاب والسنة» كتبت أصلها في النصف الثاني من سنة ١٤٠٢هـ ثم في عام ١٤٣١هـ، نظرت فيها، وتأملت وحررتها تحريرًا، وزدت عليها زيادات نافعة إن شاءالله تعالى، وقد قسمت البحث إلى أربعة وعشرين مبحثًا على النحو الآتي:
المبحث الأول: أهمية تربية الأولاد في الإسلام.
_________
(١) عن جابر بن عبد الله ﵄ قال: كان رسول الله ﷺ إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم. ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. أخرجه مسلم برقم ٨٦٧.
1 / 3
المبحث الثاني: أهمية اختيار الزوجة الصالحة في تربية الأولاد.
المبحث الثالث: العقيقة واختيار الاسم الحسن حق للأولاد على الآباء.
المبحث الرابع: أهمية الإنفاق على الأسرة من الحلال.
المبحث الخامس: مداعبة الأولاد.
المبحث السادس: الرعاية الصحية.
المبحث السابع: الرضاعة.
المبحث الثامن: الحضانة.
المبحث التاسع: النفقة على الأولاد.
المبحث العاشر: تعليمهم التعليم الشرعي.
المبحث الحادي عشر: تعليمهم حرفة شريفة يكتسبون منها.
المبحث الثاني عشر: الرعاية العقلية.
المبحث الثالث عشر: تعويدهم على الأخلاق الفاضلة.
المبحث الرابع عشر: تأديبهم بالأدب النبوي.
المبحث الخامس عشر: العدل بين الأولاد.
المبحث السادس عشر: الحلم والرفق بهم.
المبحث السابع عشر: الرحمة بالأولاد.
المبحث الثامن عشر: التلطف بالأولاد والتبسط معهم وإدخال السرور عليهم.
المبحث التاسع عشر: مصاحبتهم بعد البلوغ.
المبحث العشرون: تعليمهم اختيار الجليس الصالح والصاحب الصالح.
المبحث الحادي والعشرون: فوائد وثمرات التربية الحسنة.
1 / 4
المبحث الثاني والعشرون: مضار التربية السيئة.
المبحث الثالث والعشرون: الهدي النبوي في تربية الشباب.
المبحث الرابع والعشرون: التربية والتأديب بالقوة عند الحاجة.
والله أسأل أن يجعله نافعًا، مباركًا، خالصًا لوجهه الكريم،
وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبد الرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
كُتبَ أصله في النصف الثاني من عام ١٤٠٢هـ
وحرِّر في ضحى يوم الأحد الموافق ١/ ٧/١٤٣١هـ
1 / 5
المبحث الأول: أهمية تربية الأولاد في الإسلام
أولًا: حرص الأنبياء والمرسلين على تربية أهليهم وأولادهم:
١ - نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:
١ - قال اللَّه في قصته مع ابنه: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (١).
قال العلامة السعدي ﵀: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) لما ركب، ليركب معه (وَكَانَ) ابنه (فِي مَعْزِلٍ) عنهم، حين ركبوا، أي: مبتعدًا وأراد منه، أن يقرب ليركب، فقال له: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) فيصيبك ما يصيبهم.
فـ (قَالَ) ابنه، مُكذِّبًا لأبيه أنه لا ينجو إلا من ركب معه السفينة:
(سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) أي: سأرتقي جبلًا أمتنع به من الماء، فـ (قَالَ) نوح: (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ)، فلا يعصم أحدًا، جبل ولا غيره، ولو تسبب بغاية ما يمكنه من الأسباب، لما نجا إن لم ينجه الله: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ) الابن (مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٢).
_________
(١) سورة هود، الآيات: ٤٢ - ٤٣.
(٢) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٣٨٢).
1 / 6
٢ - (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (١).
قوله ﷿: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) أي: وقد قلت لي: فـ (احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) ولن تخلف ما وعدتني به؛ لعله ﵊، حملته الشفقة، وأن الله وعده بنجاة أهله، ظن أن الوعد لعمومهم، من آمن، ومن لم يؤمن، فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء، ومع هذا، ففوّض الأمر لحكمة الله البالغة، فـ (قَالَ) الله له: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذين وعدتك بإنجائهم (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) أي: هذا الدعاء الذي دعوت به، لنجاة كافر، لا يؤمن بالله ولا رسوله.
(فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي: ما لا تعلم عاقبته، ومآله، وهل يكون خيرًا، أو غير خير.
(إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أي: أني أعظك وعظًا تكون به من الكاملين، وتنجو به من صفات الجاهلين.
_________
(١) سورة هود، الآيات: ٤٥ - ٤٧.
1 / 7
فحينئذ ندم نوح ﵇، ندامة شديدة، على ما صدر منه، و(قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
فبالمغفرة والرحمة ينجو العبد من أن يكون من الخاسرين، ودلّ هذا على أن نوحًا ﵇، لم يكن عنده علم، بأن سؤاله لربه، في نجاة ابنه محرم، داخل في قوله: (وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) بل تعارض عنده الأمران، وظنّ دخوله في قوله: (وَأَهْلَكَ). وبعد ذلك تبين له أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم، والمراجعة فيهم» (١).
٢ - إبراهيم عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام:
١ - (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢).
«يخبر تعالى، عن عبده وخليله، إبراهيم ﵇، المتفق على إمامته وجلالته، الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدّعيه، بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات، أي: بأوامر ونواهي، كما هي عادة اللَّه في ابتلائه لعباده، ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء والامتحان من الصادق، الذي ترتفع درجته،
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٣٨٢ - ٣٨٣).
(٢) سورة البقرة، الآية: ١٢٤.
1 / 8
ويزيد قدره، ويزكو عمله، ويخلص ذهبه، وكان من أجلِّهم في هذا المقام، الخليل ﵇.
فأتمّ ما ابتلاه اللَّه به، وأكمله ووفَّاه، فشكر اللَّه له ذلك، ولم يزل اللَّه شكورًا، فقال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) أي: يقتدون بك في الهدى، ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية، ويحصل لك الثناء الدائم، والأجر الجزيل، والتعظيم من كل أحد.
وهذه - لعمر اللَّه - أفضل درجة، تنافس فيها المتنافسون، وأعلى مقام، شمّر إليه العاملون، وأكمل حالة حصّلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم، من كلِّ صدّيق متَّبِعٍ لهم، داعٍ إلى اللَّه وإلى سبيله.
فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذرّيته (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)؛ لتعلو درجته ودرجة ذريّته، وهذا أيضًا من إمامته، ونصحه لعباد اللَّه، ومحبّته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية، والمقامات السامية.
فأجابه الرحيم اللطيف، وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام، فقال: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي: لا ينال الإمامة في الدين، من ظلم نفسه وضرّها، وحطّ قدرها، لمنافاة الظلم لهذا المقام، فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان، والأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة، والشمائل السديدة، والمحبّة التامّة، والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟
1 / 9
ودلّ مفهوم الآية، أن غير الظالم، سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها» (١).
٢ - (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢).
أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل، في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس، واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء، حتى إنهما مع هذا العمل دعَوَا اللَّه أن يتقبّل منهما عملهما، حتى يحصل فيه النفع العميم.
ودعَوَا لأنفسهما، وذريتهما بالإسلام، الذي حقيقته، خضوع القلب، وانقياده لربه، المتضمِّن لانقياد الجوارح. (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) أي: علّمناها على وجه الإراءة والمشاهدة، ليكون أبلغ. يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلّها، كما يدلّ عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعمُّ من ذلك، وهو الدّين كلّه، والعبادات كلّها، كما يدلّ عليه عموم اللفظ، لأن النسك: التعبد، ولكن غلب على متعبّدات الحج، تغليبًا عرفيًا، فيكون
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٦٥).
(٢) سورة البقرة، الآيتان: ١٢٧ - ١٢٨.
1 / 10
حاصل دعائهما، يرجع إلى التوفيق للعلم النافع، والعمل الصالح، ولمّا كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير، ويحتاج إلى التوبة قالا: (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١).
٣ - (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٢).
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ) امتثالًا لربه: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) إخلاصًا وتوحيدًا، ومحبة، وإنابة فكان التوحيد للَّه نعته. ثم ورثه في ذريته، ووصّاهم به، وجعلها كلمة باقية في عقبه، وتوارثت فيهم، حتى وصلت ليعقوب، فوصّى بها بنيه.
فأنتم - يا بني يعقوب - قد وصّاكم أبوكم بالخصوص، فيجب عليكم كمال الانقياد، واتباع خاتم الأنبياء قال: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) أي: اختاره وتخيره لكم، رحمة بكم، وإحسانًا إليكم، فقوموا به، واتصفوا بشرائعه، وانصبغوا بأخلاقه، حتى تستمروا على ذلك، فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه، لأن من عاش على شيء، مات عليه، ومن مات على شيء، بعث عليه» (٣).
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٦٦).
(٢) سورة البقرة، الآيتان: ١٣١ - ١٣٢.
(٣) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٦٦).
1 / 11
٤ - (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).
«أي: (وَ) اذكر إبراهيم ﵊ في هذه الحالة الجميلة، إذ قَال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) أي: الحرم) آمِنًا (فاستجاب الله دعاءه شرعًا وقدرًا، فحرّمه الله في الشرع، ويسّر من أسباب حرمته قدرًا ما هو معلوم، حتى إنه لم يُرده ظالم بسوء إلاّ قصمه اللَّه، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم.
ولما دعا له بالأمن دعا له ولبنيه بالأمن، فقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ) أي: اجعلني وإياهم جانبًا بعيدًا عن عبادتها، والإلمام بها، ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه بكثرة من افتتن، وابتلي بعبادتها فقال: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) أي: ضلوا بسببها، (فَمَنْ تَبِعَنِي) على ما جئت به من التوحيد والإخلاص للَّه ربّ العالمين (فَإِنَّهُ مِنِّي) لتمام الموافقة، ومن أحبّ قومًا وتبعهم التحق بهم.
(وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا من شفقة الخليل ﵊؛ حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من اللَّه،
_________
(١) سورة إبراهيم، الآيتان: ٣٥ - ٣٦.
1 / 12
واللَّه ﵎ أرحم منه بعباده، لا يعذب إلا من تمرّد عليه» (١).
٥ - (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (٢).
وذلك أنه أتى بـ (هاجر) أم إسماعيل، وبابنها إسماعيل ﵊، وهو في الرضاع، من الشام حتى وضعهما في مكة، وهي -إذ ذاك- ليس فيها سكن، ولا داعٍ، ولا مجيب، فلما وضعهما دعا ربه بهذا الدعاء، فقال - متضرعًا متوكلًا على ربه: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي: لا كل ذريتي؛ لأن إسحاق في الشام، وباقي بنيه كذلك، وإنما أسكن في مكة إسماعيل وذريته، وقوله: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي: لأن أرض مكة لا تصلح للزراعة، (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي: اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة؛ لأن إقامة الصلاة من أخصّ وأفضل العبادات الدينية، فمن أقامها كان مقيما لدينه، (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي: تحبّهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه، فأجاب اللَّه دعاءه، فأخرج
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٤٢٦ - ٤٢٧).
(٢) سورة إبراهيم، الآيات: ٣٧ - ٤٠.
1 / 13
من ذرية إسماعيل محمدًا ﷺ، حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي، وإلى ملة أبيهم إبراهيم، فاستجابوا له، وصاروا مقيمي الصلاة. وافترض اللَّه حجّ هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم، وجعل فيه سرًا عجيبًا جاذبًا للقلوب، فهي تحجّه، ولا تقضي منه وطرًا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه، ازداد شوقه، وعظم ولعه، وتوقه، وهذا سرّ إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فأجاب اللَّه دعاءه، فصار يجبى إليه ثمرات كل شيء، فإنك ترى مكة المشرّفة كل وقت والثمار فيها متوفرة، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب.
(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) أي: أنت أعلم بنا منّا، فنسألك من تدبيرك، وتربيتك لنا، أن تيسّر لنا من الأمور التي نعلمها، والتي لا نعلمها، ما هو مقتضى علمك ورحمتك، (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، ومن ذلك هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إلا الخير، وكثرة الشكر للَّه ربّ العالمين. فهبتهم من أكبر النعم، وكونهم على الكبر في حال الإياس من الأولاد نعمة أخرى، وكونهم أنبياء صالحين أجلّ وأفضل، (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي: لقريب الإجابة ممّن دعاه، وقد دعوته فلم يخيب رجائي» (١).
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٤٢٧ - ٤٢٨).
1 / 14
٦ - (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (١).
ثم دعا لنفسه ولذريته، فقال: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) فاستجاب الله له في ذلك كله إلا أن دعاءه لأبيه إنما كان عن موعدة وعده إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه
٧ - (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) (٢).
(رَبِّ هَبْ لِي) ولدًا يكون (مِنَ الصَّالِحِينَ)، وذلك عند ما أيس من قومه، ولم يرَ فيهم خيرًا، دعا اللَّه أن يهب له غلامًا صالحًا، ينفع الله به في حياته، وبعد مماته، فاستجاب الله له، وقال: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)، وهذا إسماعيل ﵇ بلا شك، فإنه ذكر بعده البشارة بإسحاق؛ ولأن الله تعالى قال في بشراه بإسحاق (فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) فدلّ على أن إسحاق غير الذبيح، ووصف الله إسماعيل ﵇ بالحلم، وهو يتضمّن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر والعفو عمن جنى» (٣).
٣ - إسماعيل بن إبراهيم عليهما وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ
_________
(١) سورة إبراهيم، الآيتان: ٤٠ - ٤١.
(٢) سورة الصافات، الآيتان: ١٠٠ - ١٠١.
(٣) تيسر الكريم الرحمن، (ص ٧٠٥).
1 / 15
رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ
مَرْضِيًّا) (١).
«أي: واذكر في القرآن الكريم، هذا النبي العظيم، الذي خرج منه الشعب العربي، أفضل الشعوب، وأجلّها، الذي منهم سيّد ولد آدم. (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) أي: لا يعد وعدًا إلا وفى به. وهذا شامل للوعد الذي يعقده مع اللَّه، أو مع العباد؛ ولهذا لمّا وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه له، وقال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، وفى بذلك، ومكّن أباه من الذبح، الذي هو أكبر مصيبة تصيب الإنسان، ثم وصفه بالرسالة والنبوة، التي هي أكبر منن اللَّه على عبده، وأهلها من الطبقة العليا من الخلق. (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ) أي: كان مقيمًا لأمر اللَّه على أهله، فيأمرهم بالصلاة المتضمنة للإخلاص للمعبود، وبالزكاة المتضمّنة للإحسان إلى العبيد، فكمل نفسه، وكمل غيره، وخصوصًا أخصّ الناس عنده، وهم أهله؛ لأنهم أحقّ بدعوته من غيرهم. (وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)، وذلك بسبب امتثاله لمراضي ربه، واجتهاده فيما يرضيه، ارتضاه اللَّه وجعله من خواصّ عباده، وأوليائه المقربين، فرضي اللَّه عنه، ورضي هو عن ربه» (٢).
٤ - يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
_________
(١) سورة مريم، الآيتان: ٥٤ - ٥٥.
(٢) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٤٩٦).
1 / 16
إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١).
«ولمّا كان اليهود يزعمون أنهم على ملّة إبراهيم، ومن بعده يعقوب، قال تعالى منكرًا عليهم: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ) أي: حضورًا (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أي: مقدماته وأسبابه، فقال لبنيه على وجه الاختبار، ولتقرّ عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)؟ فأجابوه بما قرّت به عينه، فقالوا: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا)، فلا نشرك به شيئًا، ولا نعدل به أحدًا، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فجمعوا بين التوحيد والعمل. ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب؛ لأنهم لم يوجدوا بعد، فإذا لم يحضروا، فقد أخبر اللَّه عنه أنه وصّى بنيه بالحنيفية، لا باليهودية» (٢).
٥ - زكريا عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام:
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (٣).
«أي: دعا زكريا ﵇ ربه أن يرزقه ذرية طيبة، أي: طاهرة الأخلاق، طيبة الآداب، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم.
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ١٣٣.
(٢) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٦٦).
(٣) سورة آل عمران، الآية: ٣٨.
1 / 17
فاستجاب له دعاءه» (١).
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (٢).
«أي: واذكر عبدنا ورسولنا زكريا، منوهًا بذكره، ناشرًا لمناقبه وفضائله، التي من جملتها، هذه المنقبة العظيمة المتضمّنة لنصحه للخلق، ورحمة الله إياه، وأنه (نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا) أي: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٣) من هذه الآيات علمنا أن قوله: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا) أنه لما تقارب أجله، خاف أن لا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى اللَّه، والنصح لعباد اللَّه، وأن يكون في وقته فردًا، ولا يخلف من يشفعه ويعينه، على ما قام به، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) أي: خير الباقين، وخير من خلفني بخير، وأنت أرحم بعبادك مني، ولكني أريد ما يطمئنّ به قلبي، وتسكن له نفسي، ويجري في موازيني ثوابه. (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى) النبي الكريم، الذي
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، (ص ١٢٩).
(٢) سورة الأنبياء، الآيتان: ٨٩ - ٩٠.
(٣) سورة مريم، الآيات: ٤ - ٦.
1 / 18
لم يجعل اللَّه له من قبل سميًا. (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) بعدما كانت عاقرًا، لا يصلح رحمها للولادة، فأصلح اللَّه رحمها للحمل، لأجل نبيه زكريا، وهذا من فوائد الجليس، والقرين الصالح، أنه مبارك على قرينه، فصار يحيى مشتركًا بين الوالدين. ولمّا ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين، كلًا على انفراده، أثنى عليهم عمومًا، فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: يبادرون إليها، ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي، ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوّذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضارّ الدارين، وهم راغبون راهبون، لا غافلون، لاهون، ولا مدلون، (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) أي: خاضعين متذلّلين متضرّعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم» (١).
٦ - محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ﷺ -:
١ - أمره اللَّه تعالى بقوله: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (٢).
«أي: حثّ أهلك على الصلاة، وأزعجهم إليها من فرض ونفل. والأمر بالشيء، أمر بجميع ما لا يتمّ إلا به، فيكون أمرًا
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، (ص ١٢٩).
(٢) سورة طه، الآية: ١٣٢.
1 / 19
بتعليمهم، ما يصلح الصلاة ويفسدها ويكملها. (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) أي: على الصلاة بإقامتها، بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها، فإن ذلك مشق على النفس، ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك، والصبر معها دائمًا، فإن العبد إذا أقام صلاته على الوجه المأمور به، كان لما سواها من دينه أحفظ وأقوم، وإذا ضيعها كان لما سواها أضيع، ثم ضمن تعالى لرسوله الرزق، وأن لا يشغله الاهتمام به عن إقامة دينه، فقال: (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) أي: رزقك علينا قد تكفّلنا به، كما تكفّلنا بأرزاق الخلائق كلهم، فكيف بمن قام بأمرنا، واشتغل بذكرنا؟! ورزق اللَّه عام للمتقي وغيره، فينبغي الاهتمام بما يجلب السعادة الأبدية، وهو: التقوى، ولهذا قال: (وَالْعَاقِبَةُ) في الدنيا والآخرة (لِلتَّقْوَى) التي هي فعل المأمور، وترك المنهي، فمن قام بها، كان له العاقبة، كما قال تعالى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١).
٢ - أوحى اللَّه ﷿ إليه بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (٢).
«أي: يا مَنْ مَنَّ اللَّه عليهم بالإيمان، قوموا بلوازمه وشروطه، فـ (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة،
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٥١٧).
(٢) سورة التحريم، الآية: ٦.
1 / 20
ووقاية الأنفس بإلزامها أمر اللَّه، والقيام بأمره امتثالًا، ونهيه اجتنابًا، والتوبة عما يسخط اللَّه، ويوجب العذاب، ووقاية الأهل، والأولاد، بتأديبهم، وتعليمهم، وإجبارهم على أمر اللَّه، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر اللَّه به في نفسه، وفيما يدخل تحت ولايته من الزوجات والأولاد وغيرهم ممن هو تحت ولايته وتصرفه. ووصف اللَّه النار بهذه الأوصاف، ليزجر عباده عن التهاون بأمره فقال: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) كما قال تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ). (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ) أي: غليظة أخلاقهم، عظيم انتهارهم، يفزعون بأصواتهم ويخيفون بمرآهم، ويهينون أصحاب النار بقوتهم، ويمتثلون فيهم أمر اللَّه، الذي حتم عليهم العذاب، وأوجب عليهم شدة العقاب، (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وهذا فيه أيضًا مدح للملائكة الكرام، وانقيادهم لأمر اللَّه، وطاعتهم له في كلّ ما أمرهم به» (١).
٣ - أمر رسول الله ﷺ الناس بقوله: «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِع» (٢).
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، (ص ٨٧٤).
(٢) أخرجه أحمد (١١/ ٣٦٩، رقم ٦٧٥٦)، وابن أبي شيبة، (١/ ٣٤٧، رقم ٣٥٠١)، وأبوداود بلفظه، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، برقم ٤٩٥، وأبو نعيم في الحلية (١٠/ ٢٦)، والحاكم (١/ ١٩٧، رقم ٧٠٨)، والبيهقي (٢/ ٢٢٨). وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (٢/ ٤٠١): «إسناده حسن صحيح».
1 / 21
ثانيًا: حرص الصالحين الصادقين على صلاح الذرية:
١ - حرص امرأة عمران: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (١).
قوله تعالى: «إذ قالت امرأة عمران) أي: والدة مريم لمّا حملت: (رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا) أي: جعلتُ ما في بطني خالصًا لوجهك، محررًا لخدمتك وخدمة بيتك (فتقبل مني) هذا العمل المبارك (إنك أنت السميع العليم) تسمع دعائي، وتعلم نيّتي وقصدي، هذا وهي في البطن قبل وضعها، (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى) كأنها تشوّفت أن يكون ذكرًا؛ ليكون أقدر على الخدمة، وأعظم موقعًا، ففي كلامها نوع عذر من ربّها، فقال اللَّه: (واللَّه أعلم بما وضعت) أي: لا يحتاج إلى إعلامها، بل علمه متعلِّق بها قبل أن تعلم أمّها ما هي (وليس الذكر
_________
(١) سورة آل عمران، الآيات: ٣٥ - ٣٧.
1 / 22