The Prophetic Biography between Narrated Traditions and Quranic Verses

Muhammad bin Mustafa Al-Debeesee d. Unknown

The Prophetic Biography between Narrated Traditions and Quranic Verses

السيرة النبوية بين الآثار المروية والآيات القرآنية

ژانرها

جامعة عين شمس كلية الآداب - قسم اللغة العربية وآدابها السيرة النبوية بين الآثار المروية والآيات القرآنية «دراسة نصية مقارنة للحصول على درجة الدكتوراه» مقدمة من الطالب محمد مصطفى عبد السلام تحت إشراف الأستاذ الدكتور عفت الشرقاوي

صفحه نامشخص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ﷺ، وبعد .. ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية، أو سرد طرف من القصص والأحداث، شأنها شأن الاطلاع على سيرة أحد الخلفاء في الأزمنة الغابرة. إن الغرض من السيرة أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية متجسدة مجموعة في حياته ﷺ. فليست سيرته إلا تطبيق الوحى المنزل من السماء لهداية البشر في شؤنهم كافة وبالتالى يتضح لنا: ١ - أن اختيار الرسول ﷺ لهذه المهمة العظمى، إنما هو اختيار للمثل الأعلى لكل شأن من شؤن الحياة الفاضلة التى أرادها الله تعالى لسعادة البشر، ومما لا شك فيه حينئذ أن الانسان إذا أراد البحث عن مثل أعلى في كل ناحية يطلبها من نواحى حياته، الروحية والمادية، النفسية والبدنية فإنه سيجد ذلك بشكل تام الوضوح متناسب الاركان وفي أعلى الكمالات في النبي ﷺ، وفي ذلك يمن الله تعالى على الناس فيقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]. ٢ - إن تأمل ما سبق يدل دلالة واضحة على صدق نبوته، وصحة رسالته ﷺ إذ دراسة سيرته تبين بجلاء أن ذلك المثل الأعلى فعلًا وقولًا ظاهرًا وباطنًا هو الرسول محمد ﷺ،

1 / 1

وأن وفاء سيرته بهذا المثل الأعلى بكل هذه التفصيلات، الدقيقة لحياته لم تكن لأحد من قبل ممن أوتوا النبوة، فضلًا عن أدعيائها من قبل ومن بعد. ٣ - إن فهم شيء عن شخصية النبي ﷺ بهذه النظرة لابد أن يكون من منظور النبوة لا من أي منظور آخر، إذ لن يفسر كثيرًا، بل كل أحواله ﷺ إلا كونه موصولًا بالسماء مؤيدًا بالوحى. ٤ - دراسة سيره النبي ﷺ الزاد الذى به يفهم القرآن الكريم وتتجلى معانيه تجلية حقيقية كصورة صادقة لمقصود الشارع، فيكون لدى المعلم والداعية الإسلامي نموذج حى عن طرائق التربية والتعليم والنصح ولإرشاد كل ذلك هداية للافراد والجماعات ليكونوا أعضاء فعالين ناجحين في المجتمع الصالح، فسيرته ﷺ تقدم لنا نموذج الشاب المستقيم في سلوكه، والنموذج الرائع للداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة الباذل منتهى الطاقة في سبيل ابلاغ سالتة، ولرئيس الدولة الذى يسوى الأمور بعدل ورحمة وحذق الدقيق بين الحقوق والواجبات في أسرته، وللقائد الحربى والسياسى المحنك الصادق والمتعبد المتبتل في دقة وعدل، والمعاشر لأهله وصحبه بحسن العشرة والمصاحبه. (١) أهمية البحث: علاوة على ما تقدم من أهمية السيرة النبوية، جاءت هذه الرسالة لتضيف أهمية سيرته في القرآن الكريم، لأنه كان خلقه ﷺ القرآن (٢)، فكان بحث السيرة في القرآن مما يضيف جديدًا للبحث العلمى في هذا الباب من ناحيتين:

(١) د. البوطى، فقه السيرة (١٨). (٢) رواه مسلم (٧٤٦)، مطولًا من حديث قتاده ﵁.

1 / 2

الأولى: المقارنة بين ما نزل من القرآن ووقع في السيرة النبوية وهو طراز جديد من الكتابة يبين مراد القرآن الكريم من القصص والعبر المأخوذة منه والحكم والفهم عن الله والتحذير وغيره مما جاء به القرآن الكريم ليفيد المسلمين مطلوب الهداية من سيرته ﷺ، وليميز للمؤمنين المتقين مراد الله وحكمته وموعظته وشرعه إلى آخر ما أشرنا إلى شيء منه مع المقارنة بقصص الانبياء السابقين وشيء من سيرتهم ليحذر المشركين من سوء عاقبة ما هم فيه، ويبشر المؤمنين بنصر الله إلى كثير مما دق أو جل مما جاء في القرآن الكريم. الثانية: المقارنة بين ما جاء في القرآن عن الرسول ﷺ وعن الأنبياء ﵈ مما يوضح أم مشكاة النبوة واحدة، ويبرهن على ما ادخر الله من فضل لهذه الأمة، وعلى أن النبي ﷺ سيد ولد آدم ولا فخر. وإن ما نزل بالمسلمين اليوم - وعلى رأسه - مهاجمة النبي ﷺ طعنًا في دينه ورسالته استمرار الغزو الفكرى لبلاد الإسلام، ليعطى أهمية أخرى للرد على المستشرقين الذين أسسوا فكرهم على هذا السوء وذلك البهتان، وكان اختيار الأستاذ الدكتور المشرف لمونتجمرى وات للرد عليه من أصوب الاختيارات وأدقها، لأن وات يتقمص المذهب المؤدب المتسربل بالعلمية والحياد والنزاهة، وهو أخطرهم جميعًا فهو محصلة السابقين، وأسوة المتأخرين لذلك كان الرد عليه وإظهار حقيقته، في الحقيقة رد على الأولين منهم والآخرين فكان مما شمله هذا البحث هو الرد على وات وإظهار وجه السيرة الناصع مما أثاره عليه وات من غبار ومن ورائه طابور المستشرقين جمعيًا. وكانت محبة النبي ﷺ وشرف الانتماء إلى دينه القويم من وراء ذلك كله هي الأهمية الحادية على وضع هذه اللبنة فخارًا بالدفاع عنه، وإن كان دفاع أمثالنا وعدمه سواء فمن نحن لندفع عمن كان بفضله سبحانه سبب الدفع عنا، وسبب سعادتنا في الدنيا والأخرة.

1 / 3

منهجى في البحث: أحاطت بالبحث مناهج عدة: أولها: منهج كتابة السيرة. وقد اعتمدت منهج المحدثين إذ هو أدقها في تصحيح الوقائع وتضعيفها بما لم يصل إليه منهج آخر، وما ورد من وقائع وأحداث تاريخية في غير العقيدة والتشريع أخذت بها على طريقة المؤرخين غير متشدد فيها. الثاني: منهج التفسير. وكان أهمها وهو المنهج الذى وضعت لبنتة الأولى في رسالة الماجستير، وهو منهج التفسير الموضوعى فهو المحيط المتتبع للموضوع في القرآن الكريم كما بينت ذلك نظريًا وتطبيقيًا مما يلم بالموضوع ويظهر جماليات النصوص وعلو بلاغتها المؤدى في كثير إلى بيان حد الإعجاز علاوة على المقارنة والدراسة النصية والتحليلية. وكذلك التفسير بالمأثور لإثبات هذه القائع والسير، مع التفسير بالرأى الصحيح عامة. الثالث: المنهج المقارن. وقد خصصت منه ما يتعلق بالموضوع الواحد بمقارنة النصوص الواردة فيه. الرابع: المنهج النقدى المنبنى على دراسة النص في ذاته ثم مقارنته ببقية النصوص، وقد استخدمت ذلك مع وات وغيره لتصحيح الصحيح وإظهاره وتزيين الباطل ودحضه. لقد كان لتعدد منهج البحث بهذه الطريقة صعوبة الإحاطة بجزء ولو يسير في كتابة السيرة، ولكن لما ذكرنا من أهمية البحث، كانت محاولة الباحث القيام بهذا الجزء لإيضاح السيرة بهذه الطريقة، لعلها تكون لبنة متواضعة يرجى البناء عليها لتكون السيرة هي الموسوعة الشاملة لكل ما يتعلق بأحوال النبي ﷺ وأخلاقه ومعاملاته وصفاته وهدايته لأمته.

1 / 4

إن هذا لأمل نرجو للمخلصين القيام به، وقد وقف البحث في أبوابه عند حدود ولم يستكملها نظرا للطول الشديد مع الاختصار لو استكمل شيئًا من ذلك، وهو مما يؤسف له ويحزن عليه، ولعل الله أن يبارك في الجهد والعمر لتكملة ما يمكن إكماله من هذا البحث. قسمت البحث إلى مدخل وثلاثة أبواب وخاتمة: الباب الأول: سيدنا محمد ﷺ في القرآن الكريم ويشتمل على ثلاثة فصول: - الفصل الأول: ثناء الله تعالى عليه ﷺ. - الفصل الثاني: حقوقه ﷺ. - الفصل الثالث: عصمته ﷺ. الباب الثاني: الرسول ﷺ في مكة ويشتمل على ثلاثة فصول: - الفصل الأول: من المولد إلى البعثة. - الفصل الثاني: البشارات بالنبي ﷺ إرهاصًا بنبوته. - الفصل الثالث: بدء الوحى. الباب الثالث: العهد المدنى. - الفصل الأول: أسس بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية في المدينة. - الفصل الثاني: غزوة بدر الكبرى.

1 / 5

وكان من فضل الله علىَّ التوفيق لأن يكون المشرف على الرسالة الأستاذ الدكتور/ عفت الشرقاوى، وهو من هو علمًا وخلقًا خاصة، فكان الراعى لهذا البحث حتى خرج في ثوبه هذا، مع التكريم بوقته وجهده، ولم يبخل علىَّ بحسن توجيه ودقة ترتيب وزيادة مهمة تفيد البحث وتجعل له قيمة من الناحية العلمية، مع سعة صدره وصبره على فيما أنا فيه من أمراض وعلل، فالله يتولى جزاءه وحسن مثوبته على ما قدم من علم وبذل من جهد. وفي النهاية ذلك جهد المقل، وبضاعتى المزجاة في خدمة الدين والذب عن رسول الله ﷺ، أرجو أن تكون في محل القبول عند الله قبل الناس، وأن يعفو عنى في تقصيرى وما بدر منى. الباحث

1 / 6

الباب الأول سيدنا محمد ﷺ في القرآن الكريم

1 / 7

تمهيد يقدم الباحث في هذا الجزء من الرسالة دراسة ما يتعلق بالرسول ﷺ في القرآن الكريم، فهو أصدق وصف له ﵊ وأدقه وأجمله وأشمله، ثم إنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه خاصة أنه نزل على قوم شاهدوا تلك الأوصاف، وعاينوا تلك الأخلاق وعاشروا صاحب هذه السمات، وكان لهم مع عداوتهم له أن يردوا ذلك، أو يشككوا فيه إذ كان ذلك أسهل في رد الدعوة وإبطالها من القتال والقتل، وما ورد عن هؤلاء حينما كانوا أعداء كفرة إلا التسليم بتلك الصفات، والإذعان لهذه الأخلاق، وذلك صريح الإعلان بتصديق القرآن، والتسليم له بهذه الأوصاف، وسنشير بإذن الله تعالى إلى تفصيل تلك الآيات، تفسيرها وما يتعلق بذلك. وطريقتنا في البحث - كما قدمنا - هو عرض النصوص، ودراستها دراسة نصية ومقارنتها ببعضها، واستخلاص النتائج، مع التحليل وإظهار جمالياتها، بلاغةً ولغةً، مع مراعاة المكى والمدنى منها، والترتيب التاريخى لها، وكلها ترد على المستشرقين أصحاب الادعاءات الكاذبة من مثل العلمية، والإنصاف، والحياد، حيث لم تصمد هذه الدعاوى أمام أي نقد نزيها كان أم غير نزية للأسف، فليس ثَمَّ إلا التعصب. وباستقراء آيات القرآن الكريم، والاستعانة بكلام العلماء في تتبع ما جاء في القرآن الكريم عن النبي ﷺ وجدناه ينقسم إلى أقسام كثيرة، اخترنا منها ثلاثة أقسام تدل على ما وراءها وتوفي بالغرض، وتغطي جوانب الموضوع، وتركنا الباقى - مع أهميته - اختصارًا، وهي:

1 / 9

الأول: في ثناء الله تعالى عليه، وإظهار عظيم قدره عند ربه وما خصه به من كرامته في الدارين (١)، مع تكميل المحاسن له خَلْقًا وخُلُقًا، وما أظهره عليه من الكرامات، وشَرَّفَه به من الخصائص. الثاني: حقوقه التي فرضها الله على عباده من لزوم الإيمان به ومحبته ووجوب طاعته واتباع سنته، وتوقيره وبرِّه، وتعظيم أمره، والصلاة عليه ﷺ. الثالث: عصمته ﷺ في الأمور الدينية، وما يجوز أن يطرأ عليه من الأعراض البشرية، مع العرض والرد لما يوهم مخالفة ذلك للقرآن الكريم.

(١) ومما ورد في ذلك: مواساته ﷺ والتخفيف عنه، وتولى الدفاع عن شخصه الكريم، وتصبيره، وحمله على أحاسن الأخلاق.

1 / 10

الفصل الأول ثناء الله تعالى عليه ﷺ

1 / 11

المبحث الأول ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ونبدأ بدراسة القسم الأول، وأول آية تصادفنا فيه من ثناء الله تعالى على النبي ﷺ، وتبين رفيع منزلته، وعلو قدره، هي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾ [القلم: ٤]. وقدمنا بها الكلام لأنها نزلت في أول ما نزل من القرآن الكريم إذ هي قد نزلت بعد قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ حيث قررنا من قبل أننا سنراعي الترتيب الزمني في ذلك؛ لأن الدراسة بالأصالة في سيرته، وتلك كالمقدمة بالتعريف لصاحب السيرة ﵊. وعلى أية حال ننظر في الآية الكريمة لنحللها، ونبدأ بها هذا القسم. وأول ما يلاحظه الباحث في هذه الآية الكريمة أنَّ الله ﷾ اصطفى سيدنا محمدًا ﷺ لتَحَمُّل الرسالة والنبوة وهو في غاية الخُلُق وأعلاه، بل وهو على عظيم الخُلُق وأجَلِّه، وهو دليل على حيازة النبي ﷺ للكمالات النفسية كافة قبل البعثة، مما يدلّ على عناية الله تعالى المتقدمة بنبيه ﷺ ومبعوثه إلى الخلق، وهو ما يميز ويوضح لعموم الخلق صدق النبوة وصحَّة الرسالة، إذ كيف يتأتى لأحدٍ من العرب لا يزيد عليهم في شيء، بل هو ابن بيئتهم بثقافتها، وعلمها وغيره، أن يكون على هذه الحال الذي لم يبلغ شأوه أحد، ولن يبلغه أحد، بل إن الفارق بين شأوه وبين جميع الناس كالفارق بين السماء والأرض.

1 / 13

والعجيب أنَّه لم يمار أحد ممن عادوه وقاتلوه في هذه الأخلاق، وكانوا يناشدونه بتلك الأخلاق العالية أن يعفو عنهم، وقد لقَّبوه بالصادق الأمين (١). وما كانت هذه الأخلاق، وهذه العناية لتوحد إلا لأننا في معرض أخطر أمر، وهو أمر النبوة والرسالة، إذ ما كان لأحدٍ أن يردَّها أو يدفعها، أو يشكك فيه فيقضي على الرسالة في مهدها بتكذيب الله أن يكون ذلك رسوله. وأمر آخر، وهو أن الرسول ﷺ هو القدوة لهؤلاء المدعوين إلى الله تعالى، وكذلك الدعاة إليه، فكيف يكون فيه ما يشينه ويردّ دعوته بإظهار النقص والعيب فيها، إن ذلك قدح في المرسل سبحانه - وهذا ما يستحيل صدوره. وقد رأينا التحدي في دعوته ﷺ إلى آخر لحظة من حياته الشريفة والعجز عن مواجهته، فكيف يكون في أول دعوته ما يبطلها؟ وقد بُدئ وصفه ﷺ في بداية البعثة بهذا الوصف بالذات؛ لأنه الدليل إلى ما بعده من الأوصاف، وهو البرهان الساطع على صدق ما سيلقيه عليهم بعد ذلك من توحيد، وعبادات ومعاملات وغيره، وعلى أن ذلك حق لا مرية فيه، صحيح لا شية فيه؛ لأن الناقل له، المبلغ به هو صاحب الخلق العظيم في هذه الحياة الدنيا، فكيف يقول كذبًا، أو يتقول على الله تعالى ما لم يقله؟ وذلك يدل على صحة كل ما صدر عنه ﷺ، ويؤيده قوله فيما نزل بعد ذلك في سورة النجم: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٤] كما سنبينه في حينه إن شاء الله تعالى.

(١) وردت تسميته بالأمين في حديث تحكيمه ﷺ في الحجر الأسود، قالوا: "هذا الأمين رضينا، هذا محمد" (ابن هشام ١/ ١٩٧). وورد تسميته ﷺ بالصادق في حديث إسلام حمزة ﵁ الذي رواه ابن أسماء "أشهد أنك الصادق" (السيرة النبوية لابن كثير ١/ ٤٤٦)، وفي غير ذلك.

1 / 14

وثمة أمر آخر وهو أنَّ الرسول ﷺ جاء ليدعو الناس جميعًا إلى التزام أحاسن الأخلاق، والاتصاف بها، كما قال: (إِنَّمَا بُعِتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق). (١) وبالتالي لابد أن يكون أعلى الناس جميعًا خُلُقًا، لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، وإن كان مثلهم فلأي شيءٍ يدعوهم؟ ولذا وجدناه من أول بعثته أعظم الناس خُلُقًا، فلما وصفه ربُّه بذلك من حين ابتعثه، كان ذلك متسقًا تمام الاتساق مع دعوة الله تعالى الناس إلى توحيده ومعرفته، وعبادته، وإلى كل جميل من الأقوال، والأفعال في الظاهر والباطن. وللأستاذ سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن" (٢) كلام جميل نذكره ملخصًا، يقول: ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾. وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي ﷺ، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود، ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من ربِّ الوجود، وهي شهادة من الله، وفي ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾، ومدلول الخلق العظيم هو ما عند الله مما لا يبلغ مداه أحد من العالمين. ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد ﷺ تبرز من نواحٍ شتى: تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعالي، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله.

(١) الحديث صحيح رواه البخاري "في الأدب المفرد" (٢٧٣)، وابن سعد " في الطبقات" (١/ ١٩٢) والحاكم (٢/ ٦١٣)، وأحمد (٢/ ٣١٨)، عن أبي هريرة مرفوعًا. (٢) انظر سيد قطب "في ظلال القرآن" دار الشروق الطبعة العاشرة ١٤٠١ هـ - ١٩٨١ م. تفسير سورة القلم (٧/ ٢٩٠).

1 / 15

وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد ﷺ لتلقيها وهو يعلم مَنْ ربَّه هذا، قائل هذه الكلمة؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التى يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين. إن إطاقة محمد ﷺ لتلقى هذه الكلمة من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - مع أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب .. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل. ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة، وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روى عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر، أعظم بصدورها عن العلى الكبير، وأعلم بتلقى محمد لها وهو يعلم من هو العلى الكبير، وبقائه بعدها راسخًا ثابتًا مطمئنًا، لا يتَكَبَّر على العباد، ولا ينفتح، ولا يتعاظم. لقد كان - وهو بشر - يُثني على أحد أصحابه، فيهتز كيان صاحبه هذا من وقع هذا الثناء العظيم، وهو بشر ويعلم أصحابه أنه بشر، فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله، وهو يعلم من هو الله، ثم يتماسك ويصطبر ويتلقى ويسير إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير. وما كان إلا محمد ﷺ بعظمة نفسه هذه من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى فيكون كفؤًا لها كما يكون صورة حية منها. إن هذه الرسالة من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدق والحق بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يُثني عليه الله هذا الثناء فتطيقه شخصيته، ثم يتلقى بعد ذلك عتاب ربه له بذات التماسك، وذات الطمأنينة، ويعلن ذلك كما يعلن تلك لا يكتم من هذه شيئًا، ولا تلك، وهو في كلتا الحالتين النبي الكريم، والعبد الطائع والمُبَلِّغ الأمين.

1 / 16

إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأُفُق من العظمة، هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية حتى لتتمثل في شخصه حية، تمشي على الأرض في إهاب إنسان، إنه محمد - وحده - الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام. والله أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم، وأعلن في الأخرى أنه - جلَّ شأنه، وتقدست ذاته وصفاته، يصلي عليه هو وملائكته: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٥٦]، وهو - جلَّ شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدًا من عباده ذلك الفضل العظيم. انتهى تلخيصا لكلام المؤلف. (١) وأما عند تحليل الآية الكريمة: فأول ما يطالعه الباحث في ذلك هو العطف (٢)، وهو عطف جملة ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)﴾ على قوله: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ وهو جواب القسم، أي إنَّ قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ ....﴾ مُقسَم عليه من الله جلَّ وعلا - وإن كان سبحانه لا يحتاج لقسمٍ لإثبات كلامه - وإنَّما ذلك لتبيين أهمية المُقسَم عليه وصدقه، وعلو شأنه، وأنه مفروغ منه، ولا يتطرق إليه الاحتمال، أو يمسُّه الشك. والقَسَم هنا يجري على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى بما شاء من عظيم خلقه الدالة على آثار صفاته وجلاله.

(١) انظر سيد قطب "في ظلال القرآن" تفسير سورة القلم (٧/ ٢٩٠). (٢) انظر محي الدين الدرويش "إعراب القرآن الكريم" (١٦٤/ ١٠) الطبعة الخامسة دار ابن كثير ١٤١٧ هـ ١٩٩٧ م.

1 / 17

والقلم هو الوارد في قوله تعالى: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)﴾ [العلق: ٤ - ٥]، لأنه الظاهر الذي يقتضيه حال أهل الكتاب، وعند من يعرف الكتابة من العرب، وهو المناسب لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: ١]، وقد أقسم به لشرفه بأنه يكتب به القرآن، وكُتِبَت به الكتب المقدسة، وتُكْتَب به كتب التربية والأخلاق والعلوم، وكل ذلك له حظ شرف عند الله تعالى. (١) هذا على التعريف المرجح في تعريف القلم، وقيل أيضًا ما يُكَنَّى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة، والتي ستكون (٢). وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: ١] فالمقسم به الثاني، فالآيات فيها أمران مقسم بهما؛ وهما القلم وما يسطرون، والمقسم عليه ثلاثة، وهي نفي الجنون عن النبي ﷺ، وإثبات الأجر والثواب له، والثالث كونه على خلق عظيم. ونعود إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: ١]، ومعناه السطور المكتوبة بالقلم، فإذا كانت ﴿مَا﴾ موصولة صار المعنى: أي وما يكتبونه من الصحف، ويجوز أن تكون مصدرية والمعنى: وسطرهم الكتابة سطورًا. ويجوز أن يكون القسم بالأقلام التي يكتب بها الوحي وبالمكتوب والموحى به، ويكون القسم حينئذ بالقرآن نفسه على أن القرآن ما هو بكلام مجنون، وذلك كقوله تعالى:

(١) ومن فوائد هذا القسم أنَّ هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنَّه سيكون مكتوبًا مقروءًا بين المسلمين، ولهذا كان ﷺ يأمر أصحابه بكتابة هذا الوحي. وتعريف القلم هنا للجنس. انظر التحرير والتنوير (٢٠/ ٦٠)، للطاهر بن عاشور. (٢) انظر السابق.

1 / 18

﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٢ - ٣] فهو قسم بالقرآن على القرآن، وهو من بديع القسم، إذ القرآن هو الدليل والمدلول عليه في نفس الوقت، وهو قضية سنعود إلى توضيحها إن شاء الله في حينها. وضمير ﴿يَسْطُرُونَ﴾ راجع إلى غير مذكور، وهو معلوم للسامعين، فكأنه قال: ن والقلم المكتوب، أي والمسطور، وهو نظير قوله تعالى: ﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣)﴾ [الطور: ٢ - ٣]، لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون، والمقصود هو المكتوب، فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول، ومن فسر التفسير الثاني للقلم جعل ضمير ﴿يَسْطُرُونَ﴾ عائدًا إلى الملائكة في كتاباتهم ما يلقي إليهم من الله تعالى لتنفيذه، بضبط الكاتب بغير زيادة ولا نقصان. كل ما سبق يبين ويوضح قيمة الآتي من الكلام، وعظمة معناه، واستقراره وثبوته؛ لأنه لا خُلْف لكلام الله تعالى، فضلًا عن قَسَمِه، ومن ثَمَّ أطلنا شيئًا ما لنبرز تلك الدرجة العليا التي تظهر نبوة النبي ﷺ وصدقها، ومدى صحة الرسالة وأنها وحيٌ من الله تعالى، ولا يمكن أن يكون إلا ذلك. (١) وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أنَّ باعث الطاعنين على الرسول ﷺ واللامزين له بالجنون، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب، فكان هذا من أقوى التحدي لهم

(١) لأنَّ هذا الكلام إما أن يكون مصدره محمد ﷺ، أو المكذبين من الكفار وأهل الكتاب وأهل الأرض جميعًا، أو أن يكون مصدرًا آخر. ولا يمكن أن يكون بالعقل هو كلام الكفار، وكذلك لا يمكن أن يكون من كلام محمد، لأنه ﷺ لا يزيد في علمه عن علوم بيئته، وكذا في لغته وثقافته، وبدراسة هذا الكلام نجده مباينًا لكلامه، وأعلى في بلاغته وبيانه وعلومه عن بيئته بما لا مجال للمقارنة فيه حتى سجد له أساطين اللغة حينئذ. (علاوة على أن دراسة النص لها موضع آخر) فكان هذا الكلام كلام قوة عليا عليمة محيطة أعلى من كل شيء، ولا يحيط بها شيء، فَدُلُّونَا على قادر عليم، ادعى أنَّ هذا كلامه، غير الله جلَّ وعلا.

1 / 19

على صدق النبوة، وبرهانًا ساطعًا على الرسالة، لأن ما رموه بسببه من الجنون هو ذاته ما أقسم به دليلًا لصدقه، وحجة لمدَّعاه. إنَّ الأدلة المقطوعة على هذا النحو لهي إعجاز في نفسها وتعجيز للخصم بحيث لا يستطيع ردًا ولا دحضًا. ونأتي إلى جواب القسم لنحلل آياته، ولنرى فيه قيمة المقسم عليه، وما فيه من إثبات الكمالات للنبي ﷺ، ونفي النقص عنه، وذلك في الدنيا، مع عظيم الأجر والثواب في الآخرة. والمقسم عليه ثلاثة كما ذكرنا آنفًا: أولها: نفي الجنون عن النبي ﷺ، والمقصود من نفي الجنون إثبات النبوة للنبي ﵊ لأنَّ المشركين قصدوا بإلحاق الجنون به وإثباته له نفي النبوة عنه، فلما أقسم المولى سبحانه على نفي الجنون فذلك إنما كان لإثبات ما قصد المشركون نفيه، فثبتت له النبوة. وكان ذلك تسليةً أيضًا من الله تعالى للنبي ﷺ لئلا يحزنه هذا القول، وتسرية عنه لما لاقاه من أذى بحمله دعوة الحق، إذ كان يظن ﷺ أنه بدعوتهم إلى هذا الخير سيسرعون لتصديقه، وتأييده، والإيمان به، خاصة وأنه غير متهم عندهم، بل هو الصادق الأمين لديهم من قبل ومن بعد. وأما رميهم له بالجنون ﷺ، فهو ما ذكره القرآن الكريم عنهم في نفس السورة حيث شافهوا الرسول ﷺ به فيقول القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١)﴾ [القلم: ٥١]. وقد أكدوا قولهم هذا بحرف ﴿وَإِنْ﴾ ولام الابتداء ﴿إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١)﴾ فأُجيب على قولهم بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه أولًا، وجيء بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده ثانيًا، وثالثًا بالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة

1 / 20

الاسمية على ثبات الخبر وهكذا كل ما ورد فيه نفى صفه الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)﴾ وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه (١). وقد أكد القرآن أن نفي الجنون عنه أنه بسبب نعمة الله تعالى عليه، أو لتلبسه بنعمة الله جلَّ وعلا، فكيف يكون مجنونًا من هو محاط بنعمة الله متدثرًا بها، فهى عليه كاللباس مشتملًا بها. وهو ما يدل في محاجة المشركين على أنّ هذه النعم كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة، والعقل الكامل والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، فوجودها تنافي الجنون وحصوله، وقد نبه الله تعالى على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له إنه لمجنون (٢). يقول العلامة أبو السعود في "إرشاد العقل السليم" في ذكر قوله: ﴿رَبِّكَ﴾ حيث أظهر وصف الربوبية، وأضافها إلى النبي ﵇ والصلاة - أنه يدل على عظمة قيمة

(١) انظر الطاهر ابن عاشور " التحرير والتنوير" (٢٩/ ٦٢)، الدار التونسية للنشر، بغير سنة الطبع، والزلة التى يشير إليها للزمخشرى في تفسيره لسورة التكوير حيث استدل بهذه الآية على علو مقام جبريل ﵇ على النبي ﷺ وهذا من عقائد المعتزلة ودسائسها. (٢) انظر الفخر الرازي " التفسير الكبير" (١٥/ ٦٤٨)، وأبا حيان "البحر المحيط" (١٠/ ٢٣٥) دار الفكر ١٤١٢ هـ ١٩٩٢ م، وابن عطية "المحرر الوجيز" (٥/ ٢٣٦)، وقد ذكر بعض المفسرين كأبي السعود أن النعمة هي النبوة والرياسة العامة وهذه يجادل فيها المشركون وينكرونها، وأما ما ذكرنا فهو المناسب لرد الجنون المزعوم. انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (٥/ ٧٥٢) طبعة دار الفكر، والألوسي "روح المعاني" (١٦/ ٤١) المكتبة التجارية.

1 / 21