The Orientalists and the Prophet's Biography
المستشرقون والسيرة النبوية
ناشر
دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢٦ هـ
محل انتشار
بيروت
ژانرها
ـ[المستشرقون والسيرة النبوية]ـ
المؤلف: عماد الدين خليل
الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - ١٤٢٦ هـ
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الكتاب: المستشرقون والسيرة النبوية المؤلف: عماد الدين خليل الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق، بيروت الطبعة: الأولى - ١٤٢٦ هـ عدد الأجزاء: ١ [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الكتاب: المستشرقون والسيرة النبوية المؤلف: عماد الدين خليل الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق، بيروت الطبعة: الأولى - ١٤٢٦ هـ عدد الأجزاء: ١ [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحه نامشخص
ملاحظات أساسية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
١
يجب أن نلاحظ في البداية أنّ المسلم- مهما كانت درجة ثقافته- يتعامل مع معطيات السّيرة وفق ما يمكن اعتباره شبكة من البدهيات والمسلّمات.. وهي لم تأت إليه مباشرة عن طريق الأخبار والروايات التاريخية التي قد يكون بعضها ضعيفا وبعضها الآخر مشكوكا فيه.. بل إن بعض المسلمين لم يقرأ في حياته كتابا تاريخيا واحدا عن محمد ﵊.. إنما جاءته بطرق أكثر حيويّة كانت أشبه بالروافد المتدفّقة التي تتشكّل لكي تصير نهرا، من خلال تعامله مع القرآن والحديث، ومن خلال تجربته الإيمانيّة التي تحتّم عليه أن يكون على معرفة طيبة بسيرة رسوله ﷺ من خلال عرف اجتماعيّ ثقافيّ عام، يقوم على خطوط عريضة وتفاصيل متفق عليها تماما بصدد أحداث السيرة.. من خلال تقليد زمنيّ؛ تتناقل بواسطته حقائق السيرة من جيل مسلم إلى آخر.. من خلال تعاطف وتقدير دينيّين إزاء كل ما يتعلّق بحياة الرسول ﵊..
وبالنسبة للمثقّف الأكثر تخصّصا، فإنّ توغّله في الحقائق التاريخيّة للسيرة يضيف رافدا آخر- ولا شك- إلى هذه الروافد جميعا.
1 / 5
ولكنّ هذه الروافد كافة، ما تلبث أن تتجمّع لكي تجعل موقف المسلم من سيرة الرسول ﷺ واحدا. أيّا كان موقع هذا المسلم، اللهم إلّا في حالات استثنائية تقتصر على الخارجين على الإسلام بهذه الدّرجة أو تلك، وعلى بعض الدارسين الذين تلقّوا تأثيرات مضادة عن مصادر غير إسلامية.
إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين.. والذي يجد في السيرة تعبيرا متكاملا عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة تغرّبا عن مسلّماته وخروجا صريحا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور.. وهي لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور.
هذا مع أن معالجة واقعة تمتد جذورها إلى عالم الغيب، وترتبط أسبابها بالسماء، ويكون فيها (الوحي) همزة وصل مباشرة بين الله سبحانه ورسوله الكريم، ويتربّى في ظلالها المنتمون على عين الله ورسوله ليكونوا تعبيرا حيّا عن إيمانهم، وقدوة حسنة للقادمين من بعدهم.. واقعة كهذه لا يمكن بحال أن تعامل كما تعامل الجزئيات والذرّات والعناصر في مختبر للكيمياء.. أو كما تعامل الخطوط والزوايا في المساحات على تصاميم المهندسين، بل ولا كما تعامل الوقائع التاريخيّة التي لا ترتبط بأيّ بعد دينيّ أصيل..
إننا هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص، وشبكة من العوامل والمؤثّرات تندّ عن حدود مملكة العقل، وتستعصي على التحليل المنطقيّ الاعتياديّ المألوف، ومن ثم فإنّ محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف ومعطيات المنطق المتوارثة لا يقود إلى نتائج خاطئة حينا، ولا تستعصي عليه بعض الظواهر حينا آخر فحسب، بل إنه يقوم بما يمكن اعتباره جريمة
1 / 6
قتل بشكل من الأشكال، أو محاولة تفحّص الجسد البشري كما لو كان في حالة سكون مطلق بعيدا عن تأثيرات الروح وتعقيدات الحياة..
إن الدين، والغيب، والروح، لهي عصب السيرة وسداها ولحمتها..
وليس بمقدور الحسّ أو العقل أن يدلي بكلمته فيها إلّا بمقدار.. وتبقى المساحات الأكثر عمقا وامتدادا، بعيدة عن حدود عمل الحواس وتحليلات العقل والمنطق..
إنّنا- ونحن نناقش هذا المستشرق أو ذاك في حقل السيرة النبوية- يجب أن ننتبه إلى هاتين النقطتين مهما كان المستشرق ملتزما بقواعد البحث التاريخيّ وأصوله.
إنه من خلال رؤيته الخارجية، وتغرّبه، يمارس نوعا من التكسير والتجريح في كيان السيرة ونسيجها، فيصدم الحسّ الديني، ويرتطم بالبداهات الثابتة.. وهو من خلال منظوريه العقليّ والوضعيّ يسعى إلى فصل الروح عن جسد السيرة ويعاملها كما لو كانت حقلا ماديا للتجارب والاستنتاجات، وإثبات القدرة على الجدل..
وهو في كلتا الحالتين لن يخدم الموقف الإسلاميّ الجاد من سيرة رسول الله ﷺ.. أو يحتل موقفا جادا منها بوجه من الوجوه.
٢
لنحاول أن نقرّب المسألة أكثر.. إنّ العمل المعماريّ الكبير إذا أقيم على أسس خاطئة فإنه سيفقد شرطين من شروطه الأساسية: التأثير الجمالي الذي يمكّنه من أداء وظيفته الوجدانية، والمقومات العلمية التي تمكّنه من أداء وظيفته الحيوية.
إن البحث في (السيرة) بوجه خاصّ، ليستلزم أكثر من أيّة مسألة أخرى في التاريخ البشري هذين الشرطين اللذين يمكن أن يوفّرهما منهج متماسك
1 / 7
سليم يقوم على أسس علميّة موضوعيّة لا يخضع لتحزّب أو ميل أو هوى..
ويمتلك عناصر جماليّته الخاصّة التي تليق بمكانة الرسول المتفرّدة، ودوره الخطير في إعادة صياغة العالم بما يردّ إليه الوفاق المفقود مع نواميس الكون والحياة..
وقد كانت مناهج البحث الغربيّ (الاستشراقيّ) في السيرة تفتقر إلى أحد هذين الشرطين أو كليهما.. وكانت النتيجة أبحاثا تحمل اسم السيرة وتتحدث عن حياة الرسول ﷺ وتحلّل حقائق الرسالة، ولكنها- يقينا- تحمل وجها وملامح وقسمات مستمدة من عجينة أخرى غير مادّة السيرة، وروح أخرى غير روح النبوّة.. ومواصفات أخرى غير مواصفات الرسالة.
إن نتائجها تنحرف عن العلم لأنها تصدر عن الهوى، وتفقد القدرة على مسامتة عصر الرسالة وشخصية الرسول ﷺ، ونقل تأثيراتهما الجمالية بالمستوى العالي نفسه من التحقق التاريخي.. لأنها تسعى لأن تخضع حقائق السيرة لمقاييس عصر تنسخ كل ما هو جميل، وتزيّف كلّ ما هو أصيل، وتميل بالقيم المشعّة إلى أن تفقد إشعاعها وترتمي في الظلمة، أو تؤول إلى البشاعة!!.
٣
يجب أن نلاحظ أن الفهم الجادّ للسيرة يقتضي منهجا يقوم على طبقات أو أدوار أو شروط ثلاثة، وإن افتقاد أو تهديم أيّ واحد منها يلحق ضررا فادحا في مهمة الفهم هذه..
فأمّا الطبقة الأولى الأساسية فهي الإيمان، أو على الأقلّ احترام المصدر الغيبيّ لرسالة محمد ﷺ وحقيقة (الوحي) الذي تقوم عليه..
1 / 8
وأما الطبقة الثانية فهي اعتماد موقف موضوعيّ بغير حكم مسبق، يتجاوز كل الإسقاطات التي من شأنها أن تعطّل عمليّة الفهم.
وأما الطبقة الثالثة فهي (تقنية) صرفة تقوم على ضرورة الإحاطة الجيّدة بأدوات البحث التاريخيّ: بدا باللغة وجمع المادّة الأوّلية، وانتهاء بطرائق المقارنة والموازنة والنقد والتركيب.. إلى آخره..
وإذا كان الغربيون قد بلغوا حد التمكن والإبداع في هذه الدائرة الأخيرة، فإنهم في نهاية الأمر لم يستطيعوا أن يقدّموا أعمالا علميّة بمعنى الكلمة لواقعة السيرة، ولا قدروا حتى على الاقتراب من حافّة الفهم، بسبب أنهم كان يعوزهم التعامل الأكثر علميّة مع الدائرتين الأوليين: احترام المصدر الغيبيّ، واعتماد الموقف الموضوعيّ.. بصدد النقطة الأولى فإنّه يصعب علينا أن نطلب من الغربيين النصارى والمادّيّين- وبخاصة الأخيرين منهم- التحقّق بإيمان كهذا.. بل إنه أمر يكاد يكون مستحيلا.. ولكن من ناحية علمية، بالمفهوم الشامل للعلم، فإنّه لا بدّ من هذا التحقق إذا أريد إدراك واقعة السيرة ومتابعة حبكة نسيجها ذي الخلفية الغيبية، باعتباره حركة دين سماويّ قادم من (فوق) وليس تجربة بشرية متخلّقة في تراب الأرض.
أما بصدد الدائرة الثانية، فإنّ مما يؤخذ على الباحث الغربيّ تجاوزه (الموضوعية) في مناهج تعامله مع السيرة.. فلو أنه حاول التزامها، وحرر عقله من عوامل الشد الزمنية والمكانيّة والمذهبيّة والنفسيّة، ولو أنه قدر على تجاوز النسبيّات وضغوط الإسقاطات المرحلية، فإنه كان سيتمكن من تقديم أعمال أنضج بكثير، وأقرب إلى روح الواقعة، وتركيبها، وإيقاعها..
إن منهج البحث في السيرة للمؤرخ الغربي أو المستشرق، يمثل بحد ذاته جدارا يصدّه عن الفهم الحقيقيّ لوقائع السيرة ونسيجها العام..
1 / 9
٤
إن مناقشة أيّ من المستشرقين الذين تناولوا السيرة، على مستوى التفاصيل والجزئيات التاريخيّة والعقديّة، لا تغني شيئا، لأنها ستكون بمثابة نقد موقوت يتحرّك على السطح، ويستهلك نفسه في الجزئيات؛ دون أن يبحث عن الجذور العميقة التي تظلّ تنبت الشوك والحسك.
والجذور العميقة هي المنهج الخاطئ الذي تقوم عليه أبحاث هؤلاء المستشرقين فإذا استطعنا أن نضع أيدينا على عيوب المنهج وشروخه استطعنا معرفة المنبع الذي يتمخّض عنه تيّار الأخطاء الموضوعيّة، وخلخلة الأسس التي آتت هذه الثمار المرّة واقتلاعها.. لكي تنظّف الأرضيّة ويمهد الطريق.. ويحين اليوم الذي تعالج فيه السيرة وفق منهج عدل يعرف كيف يتعامل مع سيرة نبيّ ليست كالسّير يقينا..
٥
هنالك ملاحظة جديرة بالالتفات، بالرغم أنها على قدر كبير جدا من الوضوح، لكن الوضح الشديد قد يؤدّي إلى الخفاء كما يقول المثل المعروف..
إنّ بحث المستشرقين- بصفة عامة- في السيرة لا يحمل عناصر اكتماله منذ البداية، بل إنه ليشبه الاستحالة الحسابيّة المعروفة بجمع خمس برتقالات مثلا- مع ثلاثة أقلام.. إذ لا يمكن أن يكون الحاصل ثمانية.. إن هنالك خلافا نوعيا لا يمكّن الأرقام من أن تتجمع لكي تشكّل مقدارا موحدا..
إنّ المستشرقين- بعامة- يريدون أن يدرسوا سيرة الرسول ﷺ وفق حالتين تجعلان من المستحيل تحقيق فهم صحيح لنسيج السيرة ونتائجها وأهدافها التي تحرّكت صوبها والغاية الأساسية التي تمحورت حولها..
1 / 10
فالمستشرق بين أن يكون علمانيا، ماديا، لا يؤمن بالغيب، وبين أن يكون يهوديا أو نصرانيا لا يؤمن بصدق الرسالة التي أعقبت النصرانية..
وإذ كانت السيرة، في تفاصيلها وجزئياتها، تنفيذا تاريخيا لعقيدة الإسلام ذات المرتكزات الغيبية، بل ذات التداخل بين المغيّب والمنظور في السدى واللحمة، وإذ كانت بمثابة دعوة سماوية أخيرة، جاءت لكي توقف النصرانية المحرّفة عن العمل وتحلّ محلّها، بما تتضمّنه من عناصر الديمومة والحركية والاكتمال.. فإنّ ثمّة جدارا فاصلا يقف بين المستشرقين- سواء أكان من الصنف الأول، أم من الصنف الثاني- وبين فهم السيرة.
ومهما أعمل المستشرق قدراته العقليّة، ومهما اجتهد في تحليلاته المنطقيّة، ومهما استنفر إمكاناته التقنيّة وحاول الإفادة مما يسمى بالعلوم المساعدة أو الموصلة للحقيقة التاريخيّة، ومهما ادعى من حياد وموضوعيّة، فإنه غير واصل البتّة إلى تقديم صيغة أقرب إلى الكمال لسيرة رسول الله ﷺ.
ولن يكون غريبا، أو يعد تجاوزا على الواقع، القول: إن أعمال المستشرقين في السيرة، على تألّق بعضها وعمقه وغنائه، لا يمكن أن ترقى بحال إلى المصاف الأول من الأبحاث الجادة، ولا يمكن إلّا أن تظلّ في الخطّ الثاني أو الثالث، وربما العاشر، إذا وجد المستشرق نفسه ينساق بفجاجة وراء تعصبه النصراني كما فعل لامانس، أو وراء تصوّره المادي للكون والعالم والحياة كما فعل بندلي جوزي.. إنها لا تغدو أبحاثا حين ذاك ولكن عبثا بمقدساتنا باسم العلم، وتحويلا للسيرة لكي تكون حقلا لتجارب العقل النقدي الغربي «١» ونحن يجب أن نرفض التعامل مع هذا العبث وأن نرفض حتى النظر فيه.
_________
(١) انظر على سبيل المثال: مونتغومري وات: محمد في مكة، الصفحات ١٦٦- ١٧٨، ١٨٣- ١٨٩، ٢٣٣- ٢٣٥.
1 / 11
إنه يجب أن نضع هذه الحقيقة في الحسبان كي لا نسبح في بحر الجزئيات المتلاطمة دون أن نعرف الحدود النهائية، والملامح الأساسية، والصورة الشاملة (لوضع البحث الاستشراقي) إزاء سيرة رسول الله ﷺ..
ولن يرضى مسلم جاد أن يبقي عقيدته مفتوحة لدخول الريح الصفراء..
٦
بما أن وقائع السيرة هي بمثابة التشكّل التاريخي والواقعي لعقيدة الإسلام: قرآنا وسنّة ورصيدا تشريعيا، وبما أنها البيئة الزمنية والمكانية لفعالية محمد ﷺ النبي المبعوث عن الله سبحانه للعالم جميعا، فإنّه يصعب من الوجهة الإسلامية اعتبارها مسألة تاريخية صرفة تخضع لأساليب النقد والتحليل التي تعامل بها مراحل التاريخ المختلفة، والمناهج البشريّة النسبيّة التي تحاول أن تجعل الواقعة التاريخية مسألة مختبرية، أو معملا للتشريح..
إن السيرة، إذا اعتبرت كذلك، قاد هذا الاعتبار إلى خطأين أساسيين:
أما أولهما: فهو استحالة فهمها ما دام أنها أكبر من المناهج النسبية وأكثر شمولا، وما دامت تستعصي على أساليب النقد والتحليل المحدودة القاصرة.
وأما ثانيهما: فهو فتح الطريق أمام خصوم الإسلام لتدمير الثقة بمنطلقاته الأساسية، وأيّ منطلق، بعد القرآن الكريم، أكثر ثقلا وأكبر أهميّة من السيرة: بيئة التخلّق الإسلامي على كل المستويات، وتشكّله واكتماله؟
لذا فإنه- من الناحية المبدئية- يجب على المثقف المسلم رفض القبول النهائيّ لنتائج بحوث المستشرقين في حقل السيرة.. لأنها مهما تكن على درجة من الحياديّة والنزاهة؛ فإنها لا بدّ وأن تسقط الخطأين آنفي الذكر:
القصور عن الفهم وتدمير الثقة بأسس هذا الدين.
ولكن ما دام أن بحوث المستشرقين أمر واقع، وهي تغطي مساحات في السيرة واسعة في مجال البحث التاريخي، وتفرض ثقلها في الدوائر
1 / 12
الأكاديميّة التخصصيّة بعامة، وما دام أن في بعض هذه البحوث لمحات منهجية وموضوعية قد تمنحنا المزيد من الإدراك لنسيج السيرة، وتعطينا المزيد من الأدوات المعينة على الفهم، فلا بأس أن نتعامل معها على هذا الأساس، وليس أبدا على اعتبار أنها صيغة مقبولة في التعامل الدراسي مع سيرة رسولنا ﵊.
ومن أجل ألّا يختلط الأسود بالأبيض، وتمرّر على العقل المسلم معطيات المستشرقين المنحرفة وأخطاؤهم المكشوفة أو المستترة، كان لا بدّ من تقديم العديد من الدراسات النقدية لهذه المعطيات، تكون بمثابة مصدر إنارة للمسلم في هذا الدرب المعتم الطويل..
٧
«إن (مونتغمري وات) يحاول ما وسعه الجهد أن يكون الباحث (الجديد) الذي يتجاوز أخطاء أسلافه ومعاصريه، بل إنه ليخطو خطوة أخرى، لم يسبقه بها أحد من أقرانه، فيسعى إلى التحقق بقدر من الاحترام والحيادية إزاء الجذور الغيبيّة لحقائق السيرة ووقائعها، يقول في مقدمة كتابه (محمد في مكة): «فيما يتعلق بالمسائل الفقهيّة التي أثيرت بين المسيحية والإسلام فقد جهدت في اتخاذ موقف محايد منها، وهكذا بصدد معرفة ما إذا كان القرآن الكريم كلام الله أو ليس كلامه امتنعت عن استعمال تعبير مثل: (قال تعالى)، أو (قال محمد) في كل مرة أستشهد فيها بالقرآن، بل أقول بكل بساطة: (يقول القرآن) .... وأقول لقرائي المسلمين شيئا مماثلا، فقد ألزمت نفسي، برغم إخلاصي لمعطيات العلم التاريخي المكرّس في الغرب، ألاأقول أي شيء يمكن أن يتعارض مع معتقدات الإسلام الأساسية» «١» .
_________
(١) المرجع السابق، ص ٥- ٦.
1 / 13
ويعلق المستشرق البريطاني المعروف (سير هاملتون جب) على الكتاب قائلا: بأنّه يجعل القارئ يشعر بأنه كتبه رجل عاش بالخيال تجربة محمد في مكة أكثر من أي كاتب سابق، يضاف إلى ذلك تنظيمه الدقيق لمواد البحث الذي يعد إضافة جديدة قيمة لدراسة أصول الإسلام. لقد اهتم الكتاب خاصة يقول جب- بالأرضية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وعلاقاتها بنظريات القرآن الدينيّة. ولهذا يؤمّل أن يؤدّي إلى تقدير حق لهذا القائد العظيم أكثر في الغرب مما مضى «١» !!. من أجل هذا وقع الاختيار عليه، لأن الآخرين من المستشرقين الذين افتقدوا بعض شروط البحث الجادّ، قد نوقشوا كثيرا؛ فضلا عن أن بحوثهم لم تعد تستحق ذلك العناء الكبير الذي عوملت به في العقود السابقة بسبب وضوح تناقضاتها وإلحاحها في ملاحقة ما تتصوّره أخطاء والتشبّث بها، كالمغناطيس الذي يمسك بقطع الحديد المتناثرة..
ثم إن (الدفاع) عن الحقائق الإسلامية العقيدية والتاريخية إزاء أخطاء الآخرين وتحريفاتهم ليس أكثر أهمية من تقديم أعمال بنائيّة، وإنه ليجب التأكيد باستمرار على حقيقة أن العمل التاريخي الجادّ بحاجة إلى البناة، الذين يملكون الحسّ النقدي بطبيعة الحال، أكثر من النقاد، ذلك أن جوانب كثيرة من تاريخنا وحضارتنا لا تزال تنتظر من يكشف النقاب عنها، أو يعيد عرضها بالأسلوب الذي يقدمها كما تحققت فعلا، أما ملاحقة دراسات الآخرين كشفا عن خطأ فيها، ودفاعا عن قيمة ما في تاريخنا وفكرنا وعقيدتنا، فيبدو أمرا ثانويا يجب ألّا يحتلّ الخطّ الأماميّ إلّا بعد أن يتم القدر الأكبر من مساحات البناء وتكويناته.
ومع ذلك فإن العملية النقدية- ما دامت تتضمن قدرا من الإنجاز البنائي في جانب ما من جوانب العقيدة أو التاريخ- تغدو جديرة بالممارسة هي الآخرى، شرط ألّا تكون هدفا بحدّ ذاتها.
_________
(١) من تعليق جب الذي اعتمده الناشر على غلاف كتاب (محمد في مكة) .
1 / 14
باختصار فإنّ التوجّه الأكثر أهميّة وجدوى يجب أن يتجاوز الدفاع المتشنّج إزاء كل ما طرحه الخصوم حول هذه النقطة وأن تكون في مجرى التاريخ والعقيدة الإسلامية صوب أبحاث في تكوين التاريخ والحضارة والعقيدة والشريعة، نظما وصيرورة وأعمالا بنائيّة، في هذا الجانب أو ذاك لتقدّم بذاتها القناعات الموضوعيّة التي تتهافت عندها مقولات الخصوم «١» .
ومن ثمّ، واستنادا إلى ذلك كله؛ وقع الاختيار على (وات) في واحد من كتابيه المعروفين عن محمد ﷺ؛ وهو (محمد في مكة) .. ولم أشأ أن أتناول الكتابين معا لسببين: أولهما: أن حجم المادة سيتضاعف ولا شك، مما لا يسمح به مجال كهذا الذي أتاحه المجلد الخاص بالمستشرقين.
وثانيهما: إني سأضطر- حينذاك- لوضع القارئ أمام حشد كبير من الشواهد والنصوص قد تمثل في جوهرها تكرارا لمعان محدّدة.. فما دام أن المنهج في الكتابين واحد، وأن الخلل الذي يعانيه هذا المنهج واحد كذلك في الكتابين، فإن التعامل مع أحدهما سيغني بالضرورة عن التعامل مع الآخر.
فهل قدر الرجل على تنفيذ أمنيته التي طرحها في مقدمة بحثه؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نقوم بعرض مركّز للأدوار التي مرّت بها الحركة الاستشراقيّة في سيرة الرسول ﷺ، والملامح الأساسية في مناهجها، لكي نعرف على وجه التحديد موقع (مونتغمري وات) على خارطة الاستشراق، وبخاصة على مستوى (المنهج) .
_________
(١) انظر: كتاب (فصول في المنهج والتحليل) للمؤلف، فصل (حول تداول السلطة في العصر الراشدي) .
1 / 15
تطوّر الموقف (الغربيّ) من السيرة
1 / 17
١
بدأ الموقف (الغربيّ) من رسول الإسلام ﷺ يتشكّل في إطار دينيّ صرف، مترع بالتعصّب والتشنّج والانفعال، مليء بالحقد والغضب والكراهية، تحيطه جهالة عمياء متعمّدة حينا وغير متعمّدة أحيانا جعلت بين القوم وبين شخصية رسولنا ﵊ سدّا يصعب اختراقه، والنتيجة ليست أبحاثا تاريخية علمية أو موضوعية بحال.. إنما ذلك السيل المنهمر من الشتائم والسباب مارسها رجال دين من قلب الكنيسة النصرانية باتجاهاتها كافة.. ومارسها رجال علمانيّون لا علاقة لهم بالكنيسة من قريب أو بعيد، وقد استمر هذا التيار حتى العصر الراهن.
ماذا كانوا يقولون عن رسولنا ﵊، وعن رسالته؟
يصعب على المرء أن يسرد ما قالوه حتى على سبيل الاستشهاد ...
ولكن ما دام أن ناقل الكفر ليس بكافر، فلا بأس من الإشارة- بإيجاز- إلى بعض الشواهد، نتلقّاها عن أناس حديثي عهد بهذا العصر، بل إن بعضهم لا يزال حيا.
يقول المونيسنيور كولي في كتابه (البحث عن الدين الحق): برز في الشرق عدو جديد؛ هو الإسلام الذي أسس على القوة وقام على أشد أنواع التعصّب، ولقد وضع محمد السيف في أيدي الذين تبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب. ووعد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات في الجنة. وبعد قليل أصبحت آسية الصغرى وإفريقية وإسبانية فريسة له. حتى إيطالية هددها الخطر، وتناول الاجتياح نصف فرنسية لقد أصيبت المدنية؛ ولكن انظر!! ها هي النصرانية تضع بسيف شارل مارتل سدّا في وجه سير الإسلام المنتصر عند بواتييه (٧٥٢ م)، ثم تعمل الحروب الصليبية في مدى قرنين تقريبا
1 / 19
(١٠٩٩- ١٢٥٤ م) في سبيل الدين، فتدجّج أوربة بالسلاح وتنجي النصرانية، وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة «١» .
ويقول المسيو كيمون في كتابه (ميثولوجيا الإسلام): «إن الديانة المحمّدية جذام فشا بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا. بل هو مرض مروع وشلل عام وجنون ذهني يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن معاقرة الخمور (!!) ويجمح في القبائح. وما قبر محمد في مكة (!) إلّا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع (الهستريا)، والذهول العقلي، وتكرار لفظة (الله الله) إلى ما لا نهاية، وتعود عادات تنقلب إلى طباع أصيلة؛ ككراهية لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة، والفجور في الملذّات» «٢» .
ويقول جويليان في كتابه (تاريخ فرنسة): «إن محمدا، مؤسس دين المسلمين، قد أمر أتباعه أن يخضعوا العالم، وأن يبدّلوا جميع الأديان بدينه هو، ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنيين والنصارى! إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة وقالوا للناس: أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح أراحوا النفوس ببرهم وإحسانهم. ماذا كانت حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا؟ إذن لكنا مسلمين كالجزائريين والمراكشيين» «٣» .
_________
(١) عن النصوص السابقة ولمزيد من التفاصيل انظر: د. محمد البهي: الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص ٥٠٧- ٥٢١، ليوبولد فايس (محمد أسد): الإسلام على مفترق الطرق، ص ٦٠ فما بعد، عمر فروخ ومصطفى الخالدي: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، توفيق الحكيم: تحت شمس الفكر ص ١٨ فما بعد، مجلة البلاغ الكويتية، عدد ٥٨ ص ١٢. مجلة البعث الإسلامي الهندية، عدد ٩ السنة الثامنة.
(٢) ينظر الهامش السابق.
(٣) الهامش السابق.
1 / 20
وجاء في كتاب (تقدّم التبشير العالمي) الذي ألفه الدكتور غلوور ونشره في نيويورك سنة (١٩٦٠ م)، في نهاية الباب الرابع: «إن سيف محمد والقرآن أشد عدو وأكبر معاند للحضارة والحريّة والحق، ومن بين العوامل الهدّامة التي اطلع عليها العالم إلى الآن» «١»، وقال: «القرآن خليط عجيب من الحقائق والخرافات، ومن الشرائع والأساطير، كما هو مزيج غريب للأغلاط التاريخيّة والأوهام الفاسدة، وفوق ذلك هو غامض جدا لا يمكن أن يفهمه أحد إلّا بتفكير خاص له.. والذي يعتقده المسلم أن المعبود هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فالله ملك جبّار متسلّط، ليست له علاقة مع خلقه ورعاياه، برغم أن الإسلام يذكر الرابطة الموجودة بينهما» «٢» .
ثم ينتقد غلوور شخصية الرسول ﷺ فيقول: «كان محمد حاكما مطلقا، وكان يعتقد أن من حق الملك على الشعب أن يتبع هواه ويعمل ما يشاء، وكان مجبولا على هذه الفكرة، فقد كان عازما على أن يقطع عنق كل من لا يوافقه في هواه. أما جيشه العربي فكان يتعطّش للتهديد والتغلّب، وقد أرشدهم رسولهم أن يقتلوا كل من يرفض اتباعهم ويبعد عن طريقهم» «٣» .
ويعتقد سفاري الذي ترجم القرآن سنة (١٧٥٢ م) «أن محمدا قد لجأ إلى السلطة الإلهية لكي يدفع الناس إلى قبول هذه العقيدة، ومن هنا طالب بالإيمان به كرسول لله، وقد كان هذا اعتقادا مزيّفا أملته الحاجة العقليّة ...» «٤» .
_________
(١) الهامش السابق.
(٢) عن النصوص السابقة، ولمزيد من التفاصيل انظر: د. محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص ٥٠٧- ٥٢١، ليبولد فايس (محمد أسد): الإسلام على مفترق الطرق ص ٦٠ فما بعد، عمر فروخ ومصطفى الخالدي: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، توفيق الحكيم تحت شمس الفكر ص ١٨ فما بعد، مجلّة البلاغ الكويتية، عدد ٥٨ ص ١٢، مجلة البعث الإسلامي الهندية، عدد ٩ السنة الثامنة.
(٣) انظر الهامش السابق.
(٤) انظر الهامش رقم ٢.
1 / 21
وهذا يكفي. لقد جاءت هذه الأقوال إفرازا طبيعيا للصراع المحتدم بين الإسلام والصليبيّة. وقد كان للنتائج التي تمخّضت عنها الحروب الصليبيّة طعم مر في حلوق الغربيّين ما ذاقوه أبدا.. إن ليوبولد فايس «محمد أسد» يتحدث عن التجربة التي استحالت معضلة في مناهجهم يصعب تجاوزها فيقول: «فيما يتعلق بالإسلام، فإن الاحتقار التقليديّ أخذ يتسلّل في شكل تحزّب غير معقول إلى بحوثهم العلمية، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوربة والعالم الإسلامي (منذ الحروب الصليبيّة) غير معقود فوقه بجسر، ثم أصبح احتقار الإسلام جزآ أساسيا من التفكير الأوربي. والواقع أن المستشرقين الأوّلين في الأعصر الحديثة كانوا مبشّرين نصارى يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوّهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخه مدبّرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوربيّين من الوثنيّين. غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير.. ولم يبق لعلوم الاستشراق هذه عذر من حميّة دينيّة جاهليّة تسيء توجيهها. أمّا تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة، وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية، بكل ما لها من ذيول، في عقول الأوربيّين «١» .
ليست الحروب الصليبيّة وحدها، لكنه الإسلام نفسه. إن الخطر الحقيقيّ، كما يقول لورنس براون في كتاب أصدره عام (١٩٤٤ م): «كامن في نظامه، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويّته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي» «٢» .
ونقرأ في مجلة العالم الإسلامي (عدد حزيران سنة ١٩٣٠ م): «إن شيئا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربيّ. ولهذا الخوف أسباب؛
_________
(١) انظر الهامش رقم (٢) في الصفحة السابقة.
(٢) انظر الهامش رقم (٢) في الصفحة السابقة.
1 / 22
منها: أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم يضعف عدديا، بل كان دائما في ازدياد واتساع. ثم إن الإسلام ليس دينا فحسب، بل إن من أركانه الجهاد، ولم يتفق قط أن شعبا دخل في الإسلام ثم عاد نصرانيا» «١» .
والمستشرق الألماني بيكر يقولها بصراحة: «إن هناك عداء من النصرانيّة للإسلام بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى أقام سدا منيعا في وجه انتشار النصرانيّة، ثم امتد في البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها» «٢»
٢
وفي موازاة هذا التيّار الكهنوتي المتعصّب الذي يفتقد أيّ قدر من الرغبة في التعرّف على حقيقة الإسلام وشخصيّة النبي ﵊، وفي أعقاب عصر الإصلاح الدينيّ، وفيما بعد خلال عصر التنوّر وانفصال الدين عن الدولة، وحتى القرن العشرين، توالت على المسرح أجيال من المعنيّين بالدراسات الإسلامية عامة، وسيرة رسولنا ﷺ خاصّة، وقد عرف هؤلاء بالمستشرقين؛ كان بعضهم ينتمي إلى الكنيسة ويرتدي ملابس الكهنوت، ولكن كان أغلبهم مدنيا ولا تربطه بالكنيسة رابطة وظيفية.. وكان يتوقع أن تخف حملاتهم على رسولنا ﷺ، وأن تتغيّر نظرتهم في تعاملهم مع شخصيته وتاريخه وتعاليمه..
نعم، لقد حدث شيء من هذا، ولكنه ما تعدى التشذيب والتهذيب، وتجاوز كلمات الفحش والسباب، أما المنهج فقد ظلّ هو المنهج: جهلا بتركيب السيرة، وتعصّبا في التعامل معها، وتحليلات واستنتاجات ما أنزل الله
_________
(١) انظر الهامش رقم (٢) في الصفحة ٢١.
(٢) انظر الهامش رقم (٢) في الصفحة ٢١.
1 / 23
بها من سلطان، يؤكدها الواحد منهم المرّة تلو المرّة، ويجتمع القوم عليها حتى لتكاد تغدو عندهم يقينا من اليقين على الرغم من أنها بنيت أساسا على الوهم الذي تستحيل معه رؤية الحقائق، بحجمها الطبيعي، وعلى الرغم من أنها انبثقت عن زاوية رؤية ضيّقة مترعة بالتعصّب، ونظر إليها عبر منظار قد دخّن عليه سلفا، وعلى الرغم من أنها في أحسن الأحوال، قد بنيت على شواهد تاريخية ولكنها ليست- بحال- الشواهد المتواترة ذات الثقل، وإنما هي الشاذ الغريب الذي يتشبثون به لكونه يشبع في نفوسهم وعقولهم حاجة.
وعموما فإننا نستطيع أن نضع أيدينا على عدد من الأخطاء والثغرات المنهجيّة لهذه البحوث الاستشراقيّة، ونشير هنا، على وجه التحديد، إلى ثلاث من هذه الثغرات:
أولا: المبالغة في الشكّ، والافتراض، والنفي الكيفيّ، واعتماد الضعيف الشاذّ:
يكاد يكون هذا الملمح الأساسيّ في مناهج المستشرقين قاسما مشتركا أعظم بينهم جميعا.. إنهم يمضون مع شكوكهم إلى المدى، ويطرحون افتراضات لا رصيد لها من الواقع التاريخيّ، بل إنهم ينفون العديد من الروايات، لهذا السبب أو ذاك؛ بينما نجدهم يتشبّثون- في المقابل- بكل ما هو ضعيف شاذ.. «لقد غالوا في كتاباتهم في السيرة النبويّة، وأجهدوا أنفسهم في إثارة الشكوك (في وقائعها)، وقد أثاروا الشك حتى في اسم الرسول ﷺ، ولو تمكّنوا لأثاروا الشك حتى في وجوده، ولكنهم مهما قالوا في نسبة التاريخ الصحيح في سيرة الرسول ﷺ فإن سيرته هي أوضح وأطول سيرة نعرفها بين سير جميع الرسل والأنبياء» «١» .
ويشير درمنغهم إلى هذه المسألة فيقول: «من المؤسف حقا أن غالى بعض هؤلاء المتخصّصين- من أمثال: موير ومرغوليوث ونولدكه وشبرنجر
_________
(١) د. جواد علي: (تاريخ العرب في الإسلام): جزء ١ ص ٩- ١١.
1 / 24
ودوزي وكيتاني ومارسين وغريم وغولد زيهر وغود فروا وغيرهم- في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عامل هدم على الخصوص، ولا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة ولن تقوم سيرة على النفي، وليس من مقاصد كتابي أن يقوم على سلسلة من المجادلات المتناقضة.. ومن دواعي الأسف أن كان الأب لامانس- الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّبا، وإنه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولا عن القرآن؛ فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلا من أن يؤكّد أحدهما الآخر» «١» .
إنّ هذا يقودنا إلى موقف بعض المستشرقين من القرآن الكريم كمصدر أساسيّ من مصادر السيرة، وذلك أن اعتماد القرآن الكريم في هذا المجال يمكن أن يعدّ سلاحا ذا حدّين، ويتمثّل الحدّ السلبيّ بنفي الكثير من أحداث السيرة ما دامت لم ترد في القرآن الكريم، وكأن القرآن كتاب تاريخي خاص بتفاصيل حياة محمد ﷺ. وهذا مكّنهم من عملية انتقاء مغرضة ذات طابع هدمي معاكس، وهي التشكيك، أو نفي كل رواية لم ترد مؤيداتها في القرآن، ولا سيّما إذا كان في هذه الرواية تمجيد للنبي ﷺ، أو كان في نفيها تأكيد لإحدى وجهات النظر الاستشراقية، فمثلا نجد شبرنكر يرى أن اسم النبي ﷺ ورد في أربع سور من القرآن؛ هي: آل عمران والأحزاب ومحمد والفتح، وكلها سور مدنيّة، ومن ثم فإن لفظة (محمد) لم تكن اسم علم للرسول قبل الهجرة، وإنما اتخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتصاله بالنصارى «٢» .
_________
(١) حياة محمد، المقدمة، ص ٨- ١١.
(٢) انظر: جواد علي، تاريخ العرب: ١/ ٧٨ وهوامشها.
1 / 25