The Music of Remembrance
العزف على أنوار الذكر
ژانرها
العزفُ على أنوار الذِّكر
معالم الطريق إلى فقه المعنى القرآنيّ في سياق السورة
إعداد
محمود توفيق محمد سعد
أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم
في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر الشريف
شبين الكوم
١٤٢٤هـ
الطبعة الأولى: ١٤٢٤هـ
الحقوق محفوظة للمؤلف
المحتويات
المقدمة
المخل إلى المنهج
الدعوة إلى التدبر
مفهوم التدبر
المبتغَى إليه بالتدبر
مفهوم المعنى القرآني
مجال التدبر والبحث عن المعنى القرآني
مراحل الطريق إلى فقه المعنى القرآني
توطئة
*****************
الفصل الأول
فقه موقع السورة على مدرجة السياق القرآني
تنزلات القرآن
وجه تسمية الفاتحة أم الكتاب
محور المعنى في أم الكتاب
البقرة رأس التفصيل وسنامه
أنواع المعنى القرآني في السورة
علاقة ذلك بتبيان موقع السورة على السياق الكلي
علاقة هذا بغرض عبد القراهر من كتابه (أسرار البلاغة)
مذهب السيوطي في بيان موقع السورة على السياق القرآني
تأويل مذهبه
مذهب شيخنا أبي موسى في علاقة الطواسيم ببعضها وموقع كل على السياق القرآني
عناية البقاعي بموقع السورة في السياق القرآني
بيانه علاقة البقرة بالفاتحة
علاقة آل عمران بالبقرة والفاتحة
مذهبه في تناسل مقاصد السور
مذهبه في تقسم القرآن الكريم إلى مراحل
علاقة مفتتح ومختتم كل مرحلة بمفتتح ومختتم المراحل الأخرى
علاقة السور المفتتحة بالحمد
ومواقعها في السياق القرآني
مذهب السعد التفتازاني
تفصيل البقاعي مذهب السعد
تأويل الفصل بين السور المستفتحة بالحمد
علاقة هذه السور الفاصلة بما قبلها وما بعدها
**************
الفصل الثاني
فقه وحدة سياق السورة ومقصودها الأعظم
وجه تفصيل القرآن إلى سور
دلالة التسمية بالسورة على وحدة المقصد
من إعجاز القرآن عجز الخلائق عن إعادة نسق ترتيب آيات سوره
فريضة العناية بالنظر في أول الكلام وآخره لمن تدبّر
موقف الشاطبي من غاية الفقه وغاية البياني من تدبر القرآن الكريم
أثر ذلك في تدبر وحدة مقصود السورة
لكل سورة طابعها الروحي
مذهب الشيخ دراز
تحقيق المقصود سبيل إلى عرفان تناسب الآيات
تشبيه السورة بالشجرة في تناسبها
تشبيه السورة بالدائرة في بنائها
تكرار القصص ووحدة مقصود السورة
المقصد الكلّي هو الروح المهيمن
روح التركيب عند الرافعي
أثر روح التركيب في تمازج السياقين التشريعي والتكليفي في القرآن
لا تفاوت بين بلاغة ضروب البيان التشريعي والتثقيفي
روافد استصار المقصود الأعظم في السورة:
اسم السورة
منهج التسمية ووجه الدلالة
فاتحة السورة
خاتمةالسورة
تدبر الفروق البيانية بين المعاني الكلية المصرفة في السورة
تدبر المعاني الكلية الخاصة
تدبر الفروق البيانية بين المعاني الجزئية المصرفة في السورة
تكرار أو تصريف نمط تركيبي في سياق السورة
المعجم اللغوي
***********
الفصل الثالث
تقسيم السورة إلى معاقد كلية
اشتمال السور على معانٍ كلية مترابطة
أساس تقسيم السور إلى معاقد كلية
أثر هذا التقسيم
تقسيم سورة البقرة إلى معاقد: المطلع والمقدمة - قلب السورة - خاتمتها
تأصيل ذلك من السنّة والآثار الموقوفة والمرفوعة.
مذهب الشيخ دراز في تقسيمها
ما أذهب إليه في تقسيم سورة البقرة ووجه ذلك الاختيار
علاقة معاقد سورة البقرة ببعضها
************
الفصل الرابع
التحليل البياني لكلمات وجمل وآيات السورة
بين يدي السفر في التأويل
التحليل البياني هو القادر على إضاءة السورة من داخلها
التحليل البياني قراءة تأويلية لبيان السورة
منزلة الذاتية في التحليل البيلاني
ما يقوم عليه المنهج
اهمية العناية بالتصريف البياني عن المعنى القرآني في منهج التحليل البياني
أهميبة العناية بتوجيه القراءات القرآنية في منهج التحليل البياني
التحليل البياني بين التفكيك والتركيب
مجال التحليل البياني للسورة
التحليل البياني للمفردات
التحليل البياني للتراكيب
التحليل البياني للصورة البيانية
التحليل البيان للجرس والإيقاع
فاصلة القول
بيان مهم
هذا الكتاب نشرته في مصر، وقد تمَّ تدريسه لطلاب جامعة الأزهر كلية اللغة العربية في مادة (قاعة البحث البلاغي)
ومن شاء أن يطبعه وينشره في طلاب العلم فله ذلك شريطة الحصول على إذن كتابيّ من المؤلف على عنوانه الآتي:
جمهورية مصر العربية - القاهرة - حدائق الزيتون رقم بريدي ١١٣٢١
شارع سنَّان باشا رقم ١٧ - برج حمادة الشفة رقم ٤١١
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» .
أما بعد: فإن كلّ أمة من الأمم تتخذ لنفسها منهاجًا تقيم شؤون حياتها عليه وتجعل لها " دستورًا" تضبط به حركتها وحركة القائمين على شؤونها، وتندبُ ثُلّة من خيرتها للقيام على هذا المنهاجِ وذلك "الدستور" تعلمًا وتفقها ورعاية وتجديدًا وتقويًمًا.
أمر لا تكاد تجد عاقلا ينكرُه.والأمة الإسلامية لم يرض الله ﷿ أن يحمِّلها عِبْءَ تأسيس هذا المنهاج و"الدستور" والحفاظ عليه، فتكفل لها بذلك من فيض رحمانيته ورحيميته، فأنزل صفوة ملائكته "جبريل"﵇ على صفوة خلقه أجمعين: سيدنا محمد بن عبد الله ﷺ بأعظم كتاب ومنهاج:القرآن الكريم، ليبنه للناس
﴿ِ.....وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: من الآية ٤٤)
﴿.....وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: من الآية ٨٩)
وتكفل بحفظه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:٩) فمُنَزِّلُه هو حافظُه من التحريف والتغيير، وحافظُه من أن يكون في الأمَّة نازلةٌ يعجزُ القرآن الكريمُ عن إحسان بيان سواء الصراط فيها، فجعله كتابا مباركًا: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأنعام:١٥٥)، ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (الانبياء:٥٠)
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَأُولُوالأَلْبَابِ﴾ (صّ:٢٩)
فهو دائم الخير والعطاء، ليس كمثله مناهج الخَلْقِ ودساتيرهم المفتقرة إلى تقويم وتجديد وتغيير بحذفٍ وإضافة ... تكفّل الله ﷾ بذلك، وزاد الأمة تشريفا بأن حَمَلَها إلى أن تقوم بشرف فقهه وفهمه وتدبره واستخراج مكنون أسرار عطائه ونواله
﴿... فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: من الآية ١٢٢)
1 / 2
وحثهم على التدبر: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (صّ:٢٩)
﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ (النساء:٨٢)
﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد:٢٤)
وهذا التدبّرُ سبيلٌ مُمْتَدٌّ مُتًراحِبٌ تتعدَّدُ مناهج تحقيقه بتعدد الغايات المنشودة من القيام به والثمار المرجوِّ اجتناؤها، فلكلِّ متدبِّرٍطَلِبته وقطُوفٌ يبتغى جناها، وتتعدَّدُ أدواتُه وآلاتُه، وعلى قدر ما يمتلك المرءُ منها ويُحْسِنُ الانتفاعَ بها يكون نواله وعطاؤه.
وهذا ما كان باعثًا لي إلى أنْ أقيمَ هذا الكتابَ، وأنْ أنشرَه في طُلابِ العلم الشريف غاية ووسيلة ومقامًا.
أقيمه وأنشره احتسابًا ليكونَ على ثغرٍ من الثغور التي يتكاثر أعداء الأمة على اقتحامها وإتيان الأمَّة منها، فلم يعد العدوان العسكري المسلح هو السبيل الوحيد إلى امتلاك أعدائنا لديارنا وقلوبنا، بل هم يُمَهِّدُون لذلك بضروب من الغزو، منها الغزو الثقافي والعلمي والخلقي والنفسي، فمن ملك العقول والوجدان ملك الشعوب والأوطان.
وأيّ أمة لا تُعِدّ جندَها على تلك الثغور يجاهدون هذه الضروبَ من الغزوِ اللطيفِ الخبيثِ على قدرِ ما تُعِدُّ جُندَها لميادين الجهادِ المُسلِّح بالسيفِ والرُّمحِ هِيَ أمَّةٌ لا شَكَّ خاسِرةٌ النِّزالَ في ميدان القتال بالسيفِ والرّمحِ، وإن امتلكت أحدثَ وأعظم ما تُنْتِجُهُ البشريّة من أسلحةٍ وإِنْ أحْسَنَتْ استخدامها وتطويرها.
نصرُ أيِّ أمَّةٍ أو هزيمتها مؤسّسٌ على نصرِها أوهزيمتها في ميادين الجهاد الثقافي والعلمي والخلقي والنفسي، فمن ملك هذه الأبعاد من أي أمة ملكها كلها من هنا كان تداعِي الأمم علينا في هذه الميادين أشد وأنكى.
1 / 3
أعداء هذه الأمة – وهم اليوم كُثْر- قد علموا أنَّ الحصن المنيع والحبل المديد المتين الذي لن تضل الأمة ما إن تمسكت به إنَّما هو الكتاب والسنة، ومن ثَم تكالبت وتظاهرت لتفتننا في أمرهما،
هم يعلمون أنهم لن يتمكنوا من العباد والبلاد إلا إذا أحكموا تضليل الأمة في فقه وتدبر الكتاب والسنة،ولذلك تنادت النخبة المثقفة والصفوة المستنيرة بفريضة إعادة قراءة القرآن الكريم قراءة معاصرة.
و(القراءة المعاصرة) أو (إعادة قراءة القرآن) هي كلمة يراد بها غير ما جاءت به السنّة النبوة: تبشيرًا وتكليفا: «إنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهذهِ الأمّة عَلَى رَاسِ كُلِّ مِئَةِ عَامٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دينَها» (أبوداود: الملاحم)
القراءة المعاصرة ترمي إلى اتخاذ منهاج يفسر النص في حركة الفعل الإنساني، فلكلّ عصر ومصر قرآنه، لأنَّ القرآنَ حَمَّالٌ ذو وجوه يَصْلُح لكلّ زمان ومكان: يصلح للمسجد والملهى والمرقص ... ...
ومن ثَمَّ تنادى القوم بما أسموه ﴿تجديد الخطاب الدّيني﴾ وهو ولا شكَّ في هذا إنما يريد منه بعض الناعقين به الآن الإعراض عمَّا جاء عن سلف الأمة في فهم الكتاب والسنّة والإغراء بما جاء في لسان. كثير من أدعياء التنوير العلمانيّ المقيت.
وتسارعت ثلّة ممن ينتسب إلى أهل العلم فنعقت بما نعق به العلمانيون الذين سعوا إلى أن تجري الكلمة ﴿تجديد الخطاب الديني﴾ على لسان كبيرهم حتّى تملك قدسيّة تحجز الألسنة عن أن تنقض أو تنقد.
ليس " تجديد الخطاب الديني" في لسان بطانة السلطان هو التجديد الذي بشرت به الحكمة النبوية.
التجديد الذي هدت إليه السنّة النبوية يرمي إلى تجديد تديُّن الأمة وفق الفهم الصحيح لما جاء به بيان الوحي
تجديد انبعاث الأمة وإقبالها على ربها بما شرعه لها لا بما شرعته هي لنفسها
1 / 4
القرآن الكريم في التجديد النبويّ يَصْلح لكل زمان ومكان بإصْلاحِ كلِّ زمان ومكان، وما من نازلة في عَصْرٍ ومِصْرٍ إلا ولها ما يهدي في شأنها إلى سواء الصراط: ﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ (الشورى:٥٣)
التجديد النبوي في قراءة القرآن الكريم لاستنباط ما يقيم الأمة على محجة بيضاء ليلها كنهارها جلاء ونورًا له ضوابطه وآدابه، وله رجاله: ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ﴾ (النور:٣٧) ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ (الاسراء: من الآية٥٧)
وهذا ما يسعى إليه هذا الكتاب (العزف على أنوار الذكر:معالم الطريق إلى فقه المعنى القرآني في سياق السورة)
يسعى إلى أن يشير إلى منهجٍ تدبريًٍّ يعين عَلَى اجتناء المعاني البيانية للقرآن الكريم في سياق السورة تأسيسًا على أنها وحدة التحدّي الصغرى؛ لتكون زادًا إلى حسن فقه مراد ربنا ﷻ -َ منا، فنسعى إلى التصاعد في سبيل تحقيق ما يحب ﷿ ويرضى.
وهذا الذي أسْطُرُه منهاجًا تدبريًّا لبيان القرآن الكريم لايَسْتَهْتِرُ بتطبيق ما يقوم فيه من أصولٍ كليّةٍ ومعالمَ إرشادِيّةٍ تحْمِلُ النَّاظِرَ فيها إلى غايةٍ شريفةٍ نبيلةٍ، ولكنَّها لاتحمُله عليها
منهاجٌ يُقِيمُك على مقرُبةٍ لِتُبْصِرَ، ولا يُقِيمُك فِيه فَتُؤسَرَ، يغريك تجريبًا، ولا يَقْسِرُك تطبيقًا. في التطبيق تقديس، وفي التّجريب تقويم وتزكية
كلّ تجْريبٍ يُضِيفُ إلى المنهاج ما يُحَقِّقُ له التَّخلُّصَ مما غيرُه أزكى وأندَى
1 / 5
التطبيق يسْطِيعُه ناشئٌ قد لايملك التّحصُّنَ ممَّا قدْ يَأْتَلِقُ من المنهاج الذي بين يديه؛ لأنَّه يمكث قي المنهج، فيأسره، ولا يملك أن يَجُوسَ خلاله يَسْتَكْشِفُ عَوَارَهُ، فإذا هو بتطبيقه يلقِي على ذلك المنهاجِ طَيْلَسَانَ التّقديس ... والتجريب لايقوم به إلا مُتَمكّنُ من استيصارِ أبعاد المنهاج الذي بين يديه نافذ البصيرة فيه، فلا يسيطرُ المنهاج علَيْهِ؛ لأنه لا يمكث في المنهاج بل يقيمه بين ناظريه، يتفرَّسُهُ فيقوم ويسدّد.
صاحب المنهاج هو أقرب إلى التطبيق منه إلى التجريب مالم يكن فحلا، ذلك انَّ صاحبَ المنهاجِ وثيق الاعتلاق بما وضع من أصوله ومعالمه، إذ هو وليد قلبه ولسانه، فقد يغفُل، فلا يفتش عمّا فيه من خَلَلٍ، وذلك غير حميد، وإنجاز التجريب من الآخر آمَنُ عُقْبَى، وأوفرُ ثمرًا
والربّانيون من أهل العلْم لا يحملون تلاميذهم على مناهجهم، بل يحملونهم إليها حمل إبانة، ويغرونهم بالمناقدة المؤسَّسة على عرفانٍ نافذٍ محيط بما هم قائمون له، ويذكرونهم بأنَّهم في سياق المناقدة والتفتيش عن الأعلى والأزكى والأذكى (الأكمل) قائمون في طاعة سيدهم النبي المكرم سيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مؤذنًا فينا:
«لا تكونُوا إِمّعَةً:
تقُولُونَ: إِنْ أحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإنْ أَسَاءوا فَلا تَظْلِمُوا»
(رواه الترمِذي: كتاب البِرّ - حديث: ٢٠٠٧)
1 / 6
وفي تسميته الإساءة في العمل: قولا وفعلا ظلمًا دلالة بينة على أنَّ من لم يجتهد في البلوغ بعمله: قولا وفعلا درجة الإحسان، فإنَّه ظالمٌ نفسَه أَوَّلا؛ إذ حرمها أن تكون مع المحسنين في الدنيا والآخرة، وصحبة أولئك هي النعيم العظيم، وإنّه أيضًا ظالمٌ أمَّتَهُ؛ إذ حرمها أن تنعم بنعمة ما هو الحسن قولا وفعلا، وقد حثّنا بيان الوحي قرآنا وسنة على أن نحسن إلى الصاحب بالجنب، فكيف بمن فوقه؟!!
وتدبر قوله ﷺ َ:" وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ " فإنّها هادية إلى الإبلاغ في ترويض النفس وتهذيبها وتدريبها على أن تسكن إلى الإحسان وإن تفردت به، ولم تجد لها عليه ناصرًا ومعينا.
وفي هذا هداية إلى أن العقبى لمن أحسن وإن قلَّ عددا،، فلا اغترار لمسلم بما كثر عدده وساء عمله، ولا اغترار بأن الصواب مع الأغلبية، فلم تكن الأغلبية في معايير أهل الفضل أبدًا لكن في قوم يستنصرون بالدهماء والغوغاء، ولا ينظرون إلى الأمرِ فِي نفسه، بل إلى من هو قائم له وبه، فالحق عندهم ما قام به الأغنياء والصفوة من بطانة السلطان وحزبه، والقرآن الكريم يقررغير ذلك: يقرر أن أكثر النَّاس لا يعلمون:
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام:١١٦)
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: من الآية١٨٧)
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (هود: من الآية١٧)
إن ما جاء في بيان الوحي قرآنًا وسنة في الدعوة إلى الإنقان والإحسان لَجِدُّ كثير لا يتسع المقام للإشارة إليه.
1 / 7
والله ﷾ أسأله هداية إبانة وإعانة وأسأله أن يصحِّح نياتنا ويجعلَها خالصة له من قبل إِقْدَامِنا وفي سعينا، وعاجل أمرنا وآجله، وأن يرفع ذكرنا بالقرآن الكريم بين عباده الصالحين في الدنيا والآخرة.
وصَلّى وسلّم وبارك على عبده ونبيه ورسُولِه سيدِنا محمّدٍ بنِ عبدِ الله وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وأُمَّتِه فِي كُلِّ لَمْحَةٍ وَنَفَسٍ عَدَدَ خَلقهِ وَرِضَاءَ نَفْسِه وزنّةَ عرْشِهِ وَمدادَ كَلِمَاتَه، كَما يُحِبُّ وَيَرْضى صلاة وسلاما وبركة يجمعنا بها مع عبده ونبيه سيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا يوم القيامة في فردوسه الأعلى آمين أمين آمين رَ بَّ العالمين.
لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وكتَبَه
محمود توفيق محمد سعد
أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم في كلية اللغة العربية
جامعة الأزهر الشريف (شبين الكوم)
القاهرة - حدائق الزيتون
رجب المعظم: ١٤٢٤
1 / 8
المدخل إلى المنهج
نزَّل الله ﷿ القرآنَ الكريم ليكون آية على صحة نبوة عبده سيّدنا محمد بن عبد الله ﷺ وصدق دعوته وليكون تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين
وهذا يقتضِي أن يكون من بعد كمال الإيمان به حسنُ ترتيله وحسن تدبره والعمل بما فيه وتعليمه والدعوة إليه بلسان الحال ولسان المقال
ولهذا تسمع قول الحق ﷾ مقررًا أنَّه قد أنزله مباركًا ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (صّ:٢٩) فهذه (اللام) في (ليَدّبّروا) و(ليتذكر) لام الغاية والحكمة، فمن لم يأخذ حظَّه من مدخولهما لن يأخذ حظه من بركته، فعلى قدر سعيك إلى اكتساب حظك من التَّدبُّر والتَّذكُّر يكون حظك من بركة هذا الكتاب العظيم، وقد وصف الله ﷻ القرآن الكريم في مواضع بالبركة:
﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ (الأنعام:٩٢)
﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأنعام:١٥٥)
﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ (الانبياء:٥٠)
والبركة من الكلمات الحبيبة التي تنشرح لها قلوب العباد، فإنَّها مرتبطة في وعيهم بالنماء والزيادة، وقد يغفلون عن معنى الثبات والدوام الذي تتضمنه الكلمة، فقرر بهذه الكلمة نَعْتينِ للكتاب:
تجدد عطائه ودوام نفعه.
ومن ثَمَّ حثّ على تدبره لاستخراج ما فيه من خير متجدد لا يزول ولا يحول ولا يغيض، فهو لا يَصْلُحُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ وعصرٍ ومصرٍ فحسب بل هو يُصلِح كلّ ذلك ويقومه ويقيمه على سواء الصراط:
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ (الاسراء:٩)
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا﴾ (الاسراء:٨٢)
1 / 9
وأنت إذ تنظر في قول الله ﷿: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (صّ:٢٩) تر أنّه ﷾ قال (ليدّبروا) في قراءة الجماعة، ولتَدَبَّرُا في قراءة أبي جعفر.
قراءة "أبي جعفر" بالتاء (المثناة الفوقية) هي لكل من يصح خطابه ولا سيما من كان أمة الإجابة وعلى رأسها المخاطب بصدر الآية سيدنا محمد ﷺ. وقراءة الجماعة بالياء (المثناة التحتية) لم تعين مرجع (الواو) كمثل ما جاء التعيين في (ليَتذَكّر) إذ جعله من أولي الألباب (وَلِيَتَذَكّرَ أُولُو الألْبَاب)، إشارة إلى أنَّ التَّذكُّرَ منزلةٌ مُتَرَتِّبَةٌ على حسن التدبر، فمن قام بشيءٍ من حق التَّدبُّر كان له من التذكر نصيب على قدر لبّه، وكثيرًا ما يقرِنُ التذكر بأولي الألباب: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (البقرة:٢٦٩)
واللب هو خالص القلب الذي به يكون التعقل والتفكر والتذكر، والله ﷿ قدْ حَثَّ عبادَه على تدبُّره مقررًا اتِّساقه قائلا ﷾: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ (النساء:٨٢)
فقرر أنَّ ما يكون من عند غير الله ﷾ فيه الاختلاف الكثير أمَّا ما كان من عنده ﷻ فلا اختلاف فيه البتة، ولكنْ فيه تصريفُ البيان عن المعاني المحقق لبيان المراد كماله
1 / 10
وفي هذا دعوة ربانية وإغراء كريم بالعكوف على تدبُّر البيان القرآنيّ والوقوف على اتساقه وتناسبه، فإنه لن يؤمن المرء بأن القرآن الكريم من عند الله ﷿ إيمانا مؤسسًا على علم وعرفان إلا إذا استفرغ جهده في هذا التدبّر، فهو من جليل العبادات.
مفهوم التدبر
التَّدبُّر في لسان العرب: النظر الثاقب في أدبار الأمور والوقوف على ما تنتهي إليه.
وهو عند أهل العلم بكتاب الله ﷿: العمل على تحقيق وتحديق النظر في ما يبلغه المعنى القرآني المَدِيدُ من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم. وهذا نظر لا يتناهَى، فإن المعنى القرآني له أصل يبدأ منه ولكن منتهاه لا يكاد يبلغه أحدٌ من العباد، فصاحب القرآن الكريم في سفر دائم طلبًا للمزيد من المعنى القرآني.
وكلّ تَعَقُلٍ وتَفَكُّرٍ وتَفَقُّهٍ وتَفَهُّمٍ للبيان القرآني لا يحقق العلم بدرجة من درجات الهداية إلى الصراط المستقيم لا يكون من تدبر القرآن الكريم في شيْءٍ.
المبتغى إليه بالتّدبر.
إذا ما كان التدبر فريضة، فما المغزى الذي يُجَيِّشُ صاحبُ القرآنِ الكريمُِ وقدراته وووسائله ويجمع زادَه ليبلغه أو ليحوم حول حماه؟
أنزل القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله ﷺ ليكون هدى ورحمة وبشرى لعباده: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر:٢٣)
1 / 11
، وهذا لا يتحقق بالوقوف عند تلاوة كلماته، وجعل تلاوته عملا ليس من ورائه شيء، ففي ذلك تعطيل للأمر بتدبره: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (صّ:٢٩)
والتدبُّر لا يكون إلاّ لما هو مكنون في الكلم من المعاني، ومن ثمّ كان المبتغى بالتدبرهوالمعنى القرآني الكريم، وهذا هو مناط البركة الرئيس
وإذا ما نظرنا في مدلول كلمة معنى في لسان العرب إلفينا أن مادة (عني) اليائية اللام تدلُّ على القصد والاهتمام والإظهار وتدل أيضا على المقاساة والتجشم.
تقول العرب:عنيت كذا: قصدته وعنت القرية: أظهرت ماءها وعنت الأرض: أنبتت نبتا حسنا وتقول:عانيت الأمر: قاسيته وتعناه: تجشمه، وعناه الأمر: أهمه
أما المعنى الاصطلاحى لكلمة (معنى) فقد لقى اختلافا بالغا بين العلوم المختلفة. ذات العلاقة باللغة، ومرد اختلافهم فى تحرير المعنى الاصطلاحى لكلمة (معنى) هو اختلافهم حول وظيفة اللغة (١»
ونحن لا نرمى إلى النظر فى معنى (المعنى اللغوى) على إطلاقه بل إلى (المعنى القرآنى) بهذا النعت التقييدي الجليل، ولذلك لن نبحر فى قاموس الاختلاف بين أهل العلم فى بيان معنى المعنى وإنما سنعمد إلى تبيان مرادنا من معنى (المعنى القرآنى)
_________
(١) راجع في هذا:التعريفات للسيد الشريف:١٢٢، معجم النقد العربي القديم لمطلوب:٢/٣١٠+٣٢٦، ومعجم المصطلحات العربية لمجدي وهبة:٣٧٤،علم النفس اللغوي لنوال عطية:٢٠،٤٢،٤٥، مفهوم المعنى لعزمي سلام:٢٤، سيكولوجية اللغة لجمعة يوسف:١٢٥، دور الكلمة في اللغة لستيفان أولمان ترجمة كمال بشر:٦١، اللغة مبناها ومعناها لتمام حسان: ٢٤
1 / 12
وغير خفى أن الحديث عن المعنى القرآنيّ لا يقصد إلى معانى كلمات القرآن الكريم فى حقلها المعجمى ووجودها الإفراديّ ذلك " أن الألفاظ المفردة التى هى أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها فى أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينهما من فوائد " (١)
ومن ثَمَّ فإنَّا إلى المعني المَنْسُولِ من أوضاع الكلمات التى تحدث بالتأليف والتركيب والبناء وهذه الأحكام وتلك المعانى هى التى كان بها الهدى، وكان بها المنهج الذى عليه تقوم الأمة المسلمة.
وفى سعينا إلى تبيان معنى (المعنى القرآنى) علينا أن نتذكر أنَّ الدلالة المعجمية لكلمة (عنى) ذات بُعْدَين رئيسين:
بُعْدُ القصد والاهتمام ِ، وبُعْدُ الظّهورِ
الذى يرجع إلى المتكلم إنَّما هو بُعْدُ القصد والاهتمام أمَّا بُعْدُ الظهور فإنَّما يرجع إلى الكلام نفسِه من وجه وإلى المخاطَبِ به من وجهٍ آخر.
البعْدُ الأول: (القصد) ليس لنا أن نزعم في تدبر البيان القرآني سعيًا إلى إدراك المعنى القرآني أنّنا نملكُ القطع بتحريره وتحقيقه من بيانه القرآنىّ، فإنَّ ما تفهمه الأمَّة من كلامه ﷾ ليس هو عين مراده من كلامه الموحى إلى نبيه ﷺ ذلك أن القطع بأن ذلك المعنى من هذه الآية مثلا هو عين مراد الله ﷿ منها إنما يكون بطريق توقيفى صحيح الإسناد إلى رسول الله ﷺ (٢)
ولا يستطيع متلقٍ بيانَ القرآن الكريم الزعمَ يتطابق إدراكه مع مراد الله تعالى لأنَّ القول بهذا فيه جرأة على الله ﷻ
؟ المعنى القرآنيّ ضربان:
_________
(١) دلائل الإعجاز – عبد القاهر - ت: شاكر:٥٣٩
(٢) الزركشي: البرهان في علوم القرآن – ت: محمد أبو الفضل:١/١٦
1 / 13
(الاول) المعنى القصْدِيّ، وهذا هو عين مراد الله ﷾،وهو معنى توفيقى ليس لنا معه إلا الاجتهاد فى فهمه حين يبلغنا بسند صحيح عن سيد المرسلين محمد ﷺ.
(والآخر) المعنى الإدراكِيّ وهو كلُّ ما يدركه أهلُ العلم والتَّدبُّر من النَّصِّ القرآنيّ وفقا لأصول الإدراك والتَّدبُّر وضوابطها وهذا الضرب (المعنى الإدراكى) هو مناط دراستنا ونستطيع أن نعرفه الآن:
«كلُّ مايدركه ويستنبطه أهلُ العلم من النَّصِّ فى سياق السورة المقاليّ والمقاميّ وفقا لأصول وضوابط الفهم والاستنباط»
ذلك هو المبتغَى من التَّدبّر.
ووجه هذا أنَّه ما كان الاستنباط من النصّ وفق الأصول العلمية للاستنباط قائمًا به من هو أهل لذلك الاستنباط، فإنَّ ثمرة ذلك مما يريد الله ﷿ من عباده أن يعرفوه،ويريد أن يبلغهم عنه؛ لأنَّه لو كان ذلك لا يريد إبلاغه إلينا لأقامَ في بيانه من القرائن ما يصرفُنا عن فقهه، فذلك حق المستمع على المتكلم،وقد جاء عن أهل العلم أن من البلاغة ألاَّ يؤتَى السَّامع من قِبَلِ المتكلم، بألاَّ يقيمَ المنائرَعلى الطريق، وألاَّ يضعَ القرائن المُعِينَة على فقه المراد الصَّارفة عمَّا لا يريد.
مجال التَّدبّر والبحث عن المعنى القرآنيّ:
إذا ما كان المعْنَى القرآني هو بغية المتدبر طَلِبَتِه التي يرتحل إليها، فإن لهذا التَّدبُّر المبتغِي نوالَ المعنى القرآنيّ مجالا تتوالى فيه حركة المتدبّر حلولا وارتحالا، لا يتوقف، ولا يعرف منتهًى ينتهي عِنده؛ ليعقل الراحلة ويحطَّ الرَّحْلَ.
1 / 14
ويمكننا أن نقول إنّ مجال التدبر يتنوع، فقد يكون مجالا موضوعيًّا بأن يجمع المتدبّر الآيات الدَّالة على غرض معين كغرض الجهاد أو التعاون على البرّ،او النهي عن المنكر، فيجمع تلك الآيات ويتخذ له منهاج ترتيب وتصنيف وفقًا لما قد يصطفي،ويبحث عن مناهج التصوير التي اتخذها القرآن الكريم في تصوير ذلك المعنى وفي إيصال ذلك الغرض والمقصد إلى القلب في أحسن صُورة من اللفظ كما يقول الرمَّانيّ.
وقد يكون مجالا أسلوبيًّا كأن يتخذ أسلوب التشيبيه في القرآن كله أو في سورة من السّورأوموضوع من الموضوعات، فيجمع الآيات التي بنيت على التشبيه لينظر في الأغراض والمقاصدالتي استخدم التشبيه لتصويرها.
وقد يكون مجالا سياقيًا كأن يجعل مجال بحثه عن المعنى القرآني هو سياق ترتيل سورة ما باعتبار أن وحدة التحدي هي السورة
فِي سياقِ التِّلاوَةِ نرى أربع دوائر يحيط بعضها ببعض وفقا لاتساع كلّ دائرة، فكلُّ دائرة منها هي أقل اتساعًا تقوم في رحم الدائرة الأوسع.
تلك الدوائر هي دائرة الآية، فالمَعْقِدِ، فالسّورة ِ، فالقرآنِ الكريمِ، ويُمْكِنُكَ أن تقول هي خمس دوائر بجعلك الجملة دائرة تحيط بها دائرة الآية، تحيط بها دائرة المعْقِد، تحيط بها دائرة السورة، تحيط بجميع الدوائر دائرةُ السياقِ القرآنِيِّ الكريمِ
المعنى القرآني المُجْتَنَى منْ تَدَبُّرِ الجملة في سياق الآية يغلب عليه أنّه معنى قريب، وبرغمٍ من قُرْبِه هو معْنًى كريمٌ وَمُهمٌ، بل هو متعلِّقٌ بما يُعدّ أساسَ المعانِي التي تُنْسَلُ منه فهو أصل المعنى الجمهوريّ للنصّ، ويمكن لمن يكتفي بمثل ذلك الزاد أن يبصر الطريق به إلى مرضاة ربه ﷾ أخذًا وتركًا في حركة حياته، وهذا من تيسير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىعلى عباده الذين ليس لهم قدَمٌ في طلب العلم بالكتاب والسنة
1 / 15
فأنت إذا ما نظرت في قول الله ﷾: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ (محمد:١٩)
وتدبرت قوله ﷿: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ﴾ وحده من غير أن تربطه بسياقه المقاليّ والمقامي، فإنّك تصل إلى أنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤه يأمر نبيه ﷺ وأمته من بعده أن يعلم أن الله ﷾ واحد.
وهذا المعنى إذا ملأ القلب كفاه زادًا في سعيه في هذه الحياة، ولكنَّ من وراء هذا المعنى الجمهوري المأخوذ من هذه الجملة القرآنية وحدها دون ربطها ببقية الآية وبسياقها المُمْتَدِّ في السورة وسياقها المقامي معانيَ متصاعدةً تتوافدُ عليك كلَّما وسعت دائرة التبصّر والتّدبر.
والله ﷾ يحثنا على ألاَّ نرضى بالوقوف عند أوّل المَدْرَجَةِ إذا ما كان بمَُلكِنا أن نتصاعد، فنجتني الأوفر والأكبر:
﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ...﴾ (الزمر من الآية:٥٥)
فإنَّ من وجوه المعنى – فيما أذهب إليه -: أنَّ ما أنزل إلينا من ربنا - عَزَّ اسْمُهُ - ذو عطاءٍ متكاثرٍ، فعلينا أن نتبع أحسنه عطاءً لقلوبنا، فإنَّ لكل قلبٍ مُعافَى من داء الغفلةِ من المعاني القرآنية ما يُحْسِنُ إليه غذاء وشفاء،فيحسن حاله به والمرءُ السّويّ أبصر بما يصلح قلبه ونفسه، فعليه أن يتبع.
1 / 16
وإذا ما تجاوز صاحب القرآن الكريمُِ في تدبّره دائرة الجملة إلى دائرة الآية كان مجتنى تدبّره أبسطَ وألطفَ وأحكمَ إذا ما كانت الآية ذات معنى يمكن الوقوف عنده دون أن يفتقر المرءُ افتقارًا بالغا إلى أن يقرنَ بها غيرها، وهذا هو الغالب على كثير من آيات القرآن الكريم، ولا سيّما آيات السور الكثير عدد آياتها. وبعضُ آيات القرآن الكريم تكون بالنسبة إلى أختها كالكلمة بالنسبة إلى أختها في بناء الآية؛ لتعلُّق الأخرى بها تعلقًا تركيبيا يصير بعض الآية التالية مكمِّلا بناءَ المعنى في الجملة السابقة
ذلك أنَّ تفصيل السورة القرآنية إلى آيات ليس معياره لغويًّا نحويًّا تركيبيًّا، بل من وراء ذلك حكم لطيفة قد لا يتيسر لنا إدراكها.
وقد جاء في خبر موقوف عن أم المؤمنيبن سيدتنا " عائشة بنت الصديق – ﵄: " أنها قالت: إن عدد آيات القرآن الكريم على عدد درج الجنة، وكلَّما قرأ صاحب القرآن آية ارتقي في الجنة درجة."
ومثل هذا لا يكون من أمِّ المؤمنين أو أحدٍ من الصحابة غيرها من عند نفسه بل هو في حكم المرفوع.
المهم أن المعنى القرآني المجْتَنَى من تدبر الآية أوفر عطاء وألطف نوالًا من المعنَى المجتنَى بتدبّر الجملة القرآنية في سياق الآية.
***
1 / 17
وإذا ما تجاوز صاحب القرآن الكريم في تدبره دائرة الآية إلى دائرة المعقد المتشكل من مجموع آيات ذات موضوع واحد كالمعقد الذي يجمع آيات تصنيف الناس إلى ثلاث في صدر سورة البقرة أو المعقد الذي يجمع آيات الإنفاق في سبيل الله ﷾ وفي غيرسبيله، وما يتعلق بالعلاقات المالية في خواتيم سورة البقرة،أو المعقد الجامع الآيات المتحدثة في شأن الدعوة في خواتيم سورة النحل أو الآيات التي تجمع سمات عباد الرحمن في خواتيم سورة الفرقان إلى غير ذلك – إذا ما جاز إلى تلك الدائرة فإنَّ دقائق من معاني القرآن الكريم تتقاطر عليه أو تترادف وفقَ منزلِه من الفقه والفهم عن الله ربّ العالمين.
وتدبُّر المعقد ذو أهمية بليغة للمتدبر أيًّا كانت طلبته من صنوف المعاني القرآنية: صاحب معاني التشريع شأنُه شأن صاحب المعاني البيانيَّة تقتضيه طلبته ألاّ يأسر تبصُّرَه في دائرة الآية، فإنَّ غير قليل من معاني التشريع تقتضي النظر في عديد من الآيات المنسوق بعضها في إثر بعض،على أنَّ بعض المعاني التشريعية يمكن استفادتها من النَّظر في آية واحدة بخلاف المعاني البيانية، فطبيعة المعنى المبتغَى هو المقتضى مجال التدبر.
فإذا أراد المتدبِّرُ ضربًا آعلى من دقائق المعاني ولطائفها، فإنَّه يتخذُ دائرة السُّورة مجالا يُعْمِلُ فيه بصيرته وفراسته البيانية، فإنَّ لكلِّ سورةٍ سياقا يوحد نسب آياتها، ويحقِّق الرَّحم القائم بينها، ومراعاة ذلك السياق فيه البرّ برحم المعنى القرآني في السورة،وفي نور السياق الممتد للسورة يتبين للمتدبِّرِ كثيرٌ من اللطائف.
وقد أشار إلى ذلك " أبو إسحاق الشاطبي" في الموافقات ":
1 / 18
«الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدًا بكلّ اعتبار، بمعنى أنّه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت، وعليه أكثر سور المفصل،وتارة يكون متعددًا في الاعتبار بمعنى أنّه أنزل في قضايا متعددة كسورة البقرة ... ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة أم نزلت شيئًا بعد شيءٍ
ولكن هذا القسم له اعتباران:
*اعتبار من جهة تعدد القضايا، فتكون كلُّ قضية مختصة بنظرها،ومن هنالك [أي من النظر في كلّ قضية على حدتها] يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه ...
* واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة إذ هو ترتيب بالوحي لامدخل فيه لآراء الرجال ... فاعتبار جهة النظمِ مثلا في السورة لايتمُّ به فائدة إلاَّ بعد استيفاء جميعها بالنظر، فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود، كما أنَّ الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لايفيد إلاَّ بعد كمال النَّظر في جميعها.» (١)
والمعنى المُجْتَنَى من التَّدبُّر في سياق السورة هو المعنى القرآني الذي أذهب إلى أن البحث عنه محقق لكثير من المعاني الإحسانية التي نحن في مزيد الافتقار إليها تفقُّهًا وتأدبا، ولهذا قلت في تعريف المعنى القرآني: "كلُّ مايدركه ويستنبطه أهلُ العلم من النَّصِّ فى سياق السورة المقاليّ والمقاميّ وفقا لأصول وضوابط الفهم والاستنباط"
قلت (فى سياق السور) لأنَّ تمام المعنى لا يدرك فى سياقه الجزئى وإنما يدرك فى سياق السورة كلِّها التى هى وحدة التحدى، وكلُّ درس آية خارج سياق سورتها هو درس خداج عاجز عن استبصار كثير من وجوه المعنى القرآنى التى تغذو الروح واللب بلطائف المعانى الاحسانية.
وما نجري في سياقه الآن إنَّما هو النَّظر في معالم فقه المعنى القرآني في سياق السورة.
***
_________
(١) الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة: ج ٣ ص ٤١٤- ٤١٥ - تح: عبد الله دراز.
1 / 19
ويبقى من بعد هذا المجال الأرحب للتدبر: دائرة السياق القرآني كله من مفتتح تلاوته: (أم الكتاب) إلى مختتم التلاوة: (سورة الناس)
والمتدبِّر في تدبُّره في حركة متصاعدة بتصاعد المعنى القرآني، وجميع هذه المعاني المتصاعدة المبثوثة في آيات القرآن الكريم من مفتتح سورة (البقرة: سنام القرآن الكريم) إلى مختتم آيات (سورة الناس) هي تفصيل لما هو مجمل من المعاني في سورة الفاتحة (أم الكتاب) وكلُّ معنى قرآني هو منسولٌ من معنى من معاني سورة الفاتحة، ولهذا قرَّر أهل التحقيق أن (سورة الفاتحة: أم الكتاب) قد جمعت كل معاني القرآن الكريم على سبيل الإحكام، وسائر السور تفصيل لتلك المعاني، وكلام أهل العلم في هذا مبسوط في مواطنه.
مجمل القول أن مجالَ التَّدبُّرِ من حيث اتساعه دوائر يحيط بالصغير منها ما هو أكبر منه حتّى تحيط دائرة السياق القرآني كلِّه بالدوائر كلِّها.
ولكل دائرة من دوائر مجال التدبر مؤونتها وعطاؤها،وعلى قدْرِ الزَّاد الذي يحمل المتدبِّر والوسائل التي يمتلك والمنهج الذي به يأخذ يكون العطاء والنوال.
***
1 / 20