The Guide to Understanding Arab Poetics
المرشد إلى فهم أشعار العرب
ناشر
دار الآثار الإسلامية-وزارة الإعلام الصفاة
شماره نسخه
الثانية سنة ١٤٠٩ هـ
سال انتشار
١٩٨٩ م
محل انتشار
الكويت
ژانرها
عبد الله الطيب
المرشد
إلى فهم أشعار العرب وصناعتها
- (مج: ١/ الجزء الأول: في النظم) -
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها
1 / 3
[تقدمة]
الإهداء
إلى جميع من أعانوا على خلق هذا الكتاب، بما تولوه من إرشادي وتعليمي ونقدي، أولهم أبي ﵀.
عبد الله الطيب
1 / 5
تقديم الكتاب
للأستاذ الكبير الدكتور طه حسين
هذا كتاب ممتع إلى أبعد غايات الإمتاع، لا أعرف أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث.
ولست أقول هذا متكثرًا أو غاليًا، أو مؤثرًا إرضاء صاحبه، وإنما أقوله عن ثقة وعن بينة، ويكفي أني لم أكن أعرف الأستاذ المؤلف قبل أن يزورني ذات يوم، ويتحدث إليَّ في كتابه هذا، ويترك لي أيامًا لأظهر على بعض ما فيه. ثم لم أكد أقرأ منه فصولا، حتى رأيت الرضى عنه، والإعجاب به، يفرضان عليَّ فرضًا، وحتى رأيتني ألح على الأستاذ المؤلف في أن ينشر كتابه، وأن يكون نشره في مصر، وآخذ نفسي بتيسير العسير من أمر هذا النشر. وأشهد لقد كان الأستاذ المؤلف، محتفظًا متحرجًا، يتردد في نشر كتابه حتى أقنعته بذلك بعد إلحاح مني شديد. وقد يسر الله هذا النشر، بفضل ما لقيت من حسن الاستعداد، وكريم الاستجابة، من شركة الطبع والنشر لأسرة الحلبي، فشكر الله لهذه الشركة حسن استعدادها، وكريم استجابتها، وما بذلت من جهد قيم، لتطرف قراء العربية بهذا الكتاب الفذ، الذي كان الشعر العربي في أشد الحاجة إليه.
وإني لأسعد الناس حين أقدم إلى القراء صاحب هذا الكتاب، الأستاذ عبد الله الطيب، وهو شاب من أهل السودان، يُعلم الآن في جامعة الخرطوم، بعد أن أتم دراسته في الجامعات الإنجليزية، وأتقن الأدب العربي، علمًا به، وتصرفًا فيه، كأحسن ما يكون الإتقان، وألف هذا الكتاب باكورة رائعة لآثار كثيرة قيمة ممتعة إن شاء الله.
1 / 7
أنا سعيد حين أقدم إلى قراء العربية هذا الأديب البارع، لمكانه من التجديد الخصب في الدراسات الأدبية أولا، ولأنه من إخواننا أهل الجنوب ثانيًا.
وأنا سعيد بتقديم كتابه هذا إلى القراء، لأني إنما أقدم إليهم طرفة أدبية نادرة حقًا، لن ينقضي الإعجاب بها، والرضى عنها، لمجرد الفراغ من قراءتها، ولكنها ستترك في نفوس الذين سيقرؤنها آثار باقية، وستدفع كثيرًا منهم إلى الدرس والاستقصاء، والمراجعة والمخاصمة. وخير الآثار الأدبية عندي، وعند كثير من الناس، ما أثار القلق، وأغرى بالاستزادة من العلم، ودفع إلى المناقشة وحسن الاختبار.
وأخص ما يعجبني في هذا الكتاب، أنه لاءم بين المنهج الدقيق للدراسة العلمية الأدبية، وبين الحرية الحرة التي يصطنعها الشعراء والكتاب، حين ينشئون شعرًا أو نثرًا، فهذا الكتاب مزاج من العلم والأدب جميعًا، وهو دقيق مستقص حين يأخذ في العلم، كأحسن ما تكون الدقة والاستقصاء، وحر مسترسل حين يأخذ في الأدب، كأحسن ما تكون الحرية والاسترسال. وهو من أجل ذلك يرضي الباحث الذي يلتزم في البحث مناهج العلماء، ويرضي الأديب الذي يرسل نفسه على سجيتها، ويخلي بينها وبين ما تحب من المتاع الفني، لا تتقيد في ذلك لا بحسن الذوق، وصفاء الطبع، وجودة الاختيار.
وقد عرض الكاتب للشعر، فأتقن درس قوافيه وأوزانه، لا إتقان المقلد، الذي يلتزم ما ورث عن القدماء، بل إتقان المجدد، الذي يحسن التصرف في هذا التراث، لا يضيع منه شيئًا، ولكنه لا يفنى فيه فناء، ثم أرسل نفسه على طبيعتها بعد ذلك، فحاول أن يستقصي ما يكون من صلة بين أنواع القرافي وألوان الوزن، وبين فنون الشعر التي تخضع للقوافي والأوزان، فأصاب الإصابة كلها في كثير من المواضع، وأثار ما يدعو إلى الخصام والمجادلة في مواضع أخرى، فهو لا يدع بحرًا
1 / 8
من بحور الشعر العربيّ، إلا حاول أن يبين لك الفنون التي تليق بهذا البحر، أو التي يلائمها هذا البحر، وضرب لذلك الأمثال في استقصاء بارع لهذا البحر، منذ كان العصر الجاهليّ، إلي أن كان العصر الذي نعيش فيه، وهو يعرض عليك من أجل ذلك، ألوانًا مختلفة مؤتلفة من الشعر، في العصور الأدبية المتباينة، ألوانًا في البحر الذي أقيمت عليه، وفي الموضوعات التي قيلت فيها، ولكنها تختلف بعد ذلك باختلاف قائليها، وتباين أمزجتهم، وتفاوت طبائعهم، وتقلبهم آخر الأمر بين التفوّق والقصور، وما يكون بينهما من المنازل المتوسطة والمؤلف يصنع هذا بالقياس إلي بحور العروض كلها، فكتابه مزدوج الإمتاع، فيه هذا الإمتاع العلميّ، الذي يأتي من اطراد البحث علي منهج واحد دقيق، وفيه هذا الإمتاع الأدبيّ، الذي يأتي من تنوع البحور والفنون الشعرية التي قيلت فيها، وتفاوت ما يعرض عليك من الشعر، في مكانها من الجودة والرداءة.
والمؤلف لا يكتفي بهذا، ولكنه يدخل بينك وبين ما تقرأ من الشعر، دخول الأديب الناقد، الذي يحكم ذوقه الخاص، فيرضيك غالبًا، ويغيظك أحيانًا، ويثير في نفسك الشك أحيانًا أخري. وهو كذلك يملك عليك أمرك كله، منذ تأخذ في قراءة الكتاب، إلى أن تفرغ من هذه القراءة. فأنت متنبه لما تقرأ تنبهًا لا يعرض له الفتور، في أي لحظة من لحظات القراءة. وحسبك بهذا تفوقًا وإتقانًا.
وليس الكتاب قصيرًا يقرأ في ساعات، ولكنه طويل يحتاج إلى أيام كثيرة، وحسبك أن صفحاته تقارب المائة والخامسة. وليس الكتاب هينًا يقرأ في أيسر الجهد، ويستعان به على قطع الوقت، ولكنه شديد الأسرْ، متين اللفظ، رصين الأسلوب، خصب الموضوع، قَيَّم المعاني، يحتاج إلى أن تنفق فيه خير ما تملك من جهد ووقت وعناية، لتبلغ الغاية من الاستمتاع به. هو طُرْفة بأدقّ معاني هذه الكلمة، وأوسعها وأعمقها. ولكنها طُرفة لا تقدَّم إلى الفارغين، ولا إلى الذين
1 / 9
يؤثرون الراحة واليسر، ولا إلى الذين يأخذون الأدب على أنه من لهو الحديث، وإنما تقدم الذين يَقْدُرون الحياة قدرها، ولا يحبون أن يضيعوا الوقت والجهد، ولا يحاولون أن يتخففوا من الحياة، ويأخذون الأدب على أنه جد، حلو مرّ، يُمتع العقل، ويرضي القلب، ويصفَّي الذوق.
هؤلاء هم الذين سيقرؤون هذا الكتاب، فيشاركوني في الرضى عنه، والإعجاب به، والثقة بأن له ما بعده، ويشاركونني كذلك في ترشيح هذا الكتاب لجائزة الدولة، التي تقدمها الحكومية المصرية لخير ما يُصْدِره الأدباء من كتب، إن جاز لك ولي أن نَدُلّ لجنة هذه الجائزة، علي ما ينبغي أن تدُرس من الكتب، لمنح هذه الجائزة.
أما بعد، فإني أهنيء نفسي، أهنيء قّراء العربية بهذا الكتاب الرائع، وأهنيء أهل مصر والسودان بهذا الأديب الفذّ، الذي ننتظر منه الكثير.
1 / 10
شكر واعتراف
يرجع الفضل الأكبر في إبراز هذا الكتاب من حجاب الخمول إلى جماهير القراء الكرام، إلى الأستاذ العلامة عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، فقد اختلس من زمنه القيم ساعات لقراءة أصوله، ثم وعد بالتقديم له، ثم سعى سعيًا حثيثًا في نشره، كلّ ذلك فعله ابتغاء وجْهِ الله، واعترافًا بحقّ الأدب والأدباء. وقد وردتُ مصر غريبًا، وصدرتُ منها بعد لقائه وأنا أشعر بالعزّة والكرامة.
ولأستاذي الكريم العلامة ألفريد جيوم، عميد الدراسات الإسلامية بمعهد اللغات الشرقية بلندن، لديّ يدُ لا تُنكر، فقد كان لايني يشجعني برسائله، على بعد ما بيننا من المسافة، ثم تَجَمّلَ فحمّلني رسالة تقديم لطيفة إلي الدكتور طه حسين، كانت هي فاتحة اللقاء بيني وبينه.
هذا، ولا أنسى فضل الأخ المواطن الأديب الأريب، الأستاذ عمران العاقب، أمين المكتبة بمعهد التربية في بخت الرضا، فقد يسر لي المراجع، وأعانني بالنقد، ولفت ذهني إلى أشياء كثيرة كانت غائبة عنى، ثم شارك هو والأستاذ المهذّب بشير أفندي الهادي المدرس بمعهد التربية، في كتابه الأصول. فأنا لهما شاكر.
وأختتم بحسن الثناء على سيادة الناشر، لما تكلفه من صَبْر وعناية، وعلى الأستاذ الكبير مصطفى السقا، الذي تولى مراجعة الملزمتين الأولَييْن، وعلى المواطن الشهم فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الطيب: الذي سهر على مراجعة الأصول، وإصلاح ما وقع من الأخطاء، ثم تولى تصحيح التجارب- فعل كل ذلك، جزاه
1 / 11
الله عني وعن الأدب خير الجزاء على كثرة المشاغل، وبين فترات الدرس، لا يبتغي غير رعاية حقوق الوطنية والمعرفة:
إن المعارف في أهل النُّهى ذِمَم
هذا وأعتذر للقارئ الكريم عما وقع في بعض ملازم هذا الكتاب من الأخطاء في الضبط والطبع، وآمل أن يتلافى في جدول الأخطاء هذا النقص.
ولله الحمد أولا وأخيرًا، وبه التوفيق على كل حال.
عبد الله الطيب
1 / 12
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبَة الكتاب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذا هو الجزء الأول من كتاب "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" فرغت منه بعد طول جهد، وقد كنت تكلفت كتابته منذ عام، على قلة من المراجع وتراكم من الأعمال المكتبية، وانشغال بين حين وآخر بالتفتيش المدرسي، في بلد لا تزال المواصلات فيه عاجزة متأخرة.
والكتاب كله مبني على فكرة بسيطة، وهي أن الشعر العربي من حيث الصناعة، يقوم على الأركان الآتية: النظم، والجَرسْ اللفظي، والصياغة، ثم إلقاء الكلام علي صور خاصة من الأداء، وفي أساليب ومناهج تمليها عوامل التقاليد والبيئة علي مّر الأزمان واختلاف الأمكنة، وتؤثر فيها الأفكار المستحدثة، وما يجري مجراها من دواعي التغير والتجدد.
وقد أخذت على نفسي أن أدرس جميع ذلك في نوع من الإيجاز.
وقد جعلت هذا الجزء الأول مقصورًا على ناحية النظم، آمل أن يعينني الله فأتبعه بجزء آخر يبحث في نواحي الجرس اللفظي والصياغة والبيان والبديع، وهلم جرّا.
وقلبي مفعم بالرجاء أن ينتفع القارئ من هذا الجزء الذي أتقدم به،
1 / 13
ويستمتع. ولا أدعي أنى قد جئت فيه بجديد مبتكر، فالقاريء -أصلحه الله- يعلم أن زهيرًا قد كان صادقًا حين قال:
ما أرانا نقول إلا معارا ... أو معادًا من قولنا مكرورا
المؤلف
1 / 14
الباب الأول
في النظم
النظم العربي يقوم على عمادين:
(أ) البحر، ويتكون عادة من عدد من المقاطع الطويلة والقصيرة منظمة بطريقة خاصة (١).
(ب) القافية، وهي الحرف الذي يجيء في آخر البيت. ولا يخفي أن حديثنا هنا عن النظم العربي وحده.
وبحور الشعر العربي محصورة العدد، ولا سبب لهذا الحصر إلا اتفاق العلماء وتواضعهم، فقد اخترع الخليل بن أحمد (٢) علم العروض، وبناء على خمس دوائر هي:
_________
(١) المقطع القصير: هو عبارة عن أي حرف متحرك نحو ل. م. ب. والمقطع الطويل نوعان: الأول مثل قد وفي ولم - حرف متحرك، بعده ساكن أو مد أو إشباع أو تنوين. والثاني مثل: قال، باع، بعل. حرف متحرك بعده ساكنان خالصان أو مد فسكون وما بمجرى ذلك. ولتثبته في ذهنك أنشد قول عدي بن أبي الزغباء الأنصاري:
أنا عدي والسحل ... أمشي بها مشي الفحل
(٢) اختراع الخليل للعروض ليس معناه أن العرب لم تكن تعرف شيئًا عن طبيعة الأوزان قبله. بل الأدلة موجودة على أنهم كانوا يعرفون كيف يقطعون الشعر ويمتحنون وزنه (راجع سيرة ابن هشام - بتحقيق محمد محيي الدين، مصر، (١ - ٦٢). كل ما فعله الخليل أنه اخترع العروض بصيغته المعروفة الآن. ويزعم الرواة أن سبب اختراعه له انصراف الناس عنه إلى سيبويه، وهذا بعيد. فكتاب سيبويه تدوين وتكملة لعلم الخليل. وسيبويه لم ينصب نفسه للتدريس إلا بعد وفاة الخليل.
1 / 15
١) (فعولن مفاعلين فعولن مفاعيلن) × ٢
٢) (مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن) × ٢
٣) (مستفعلن مستفعلن مستفعلن) × ٢
٤) (مستفعلن مستفعلن مفعولات) × ٢
٥) (فعولن فعولن فعولن فعولن) × ٢
واستخرج من هذه الدوائر خمسة عشر وزنًا أسماها بحورًا. ثم أدخل كل الأوزان المستعملة - كما زعم- في نطاق بحوره الخمسة عشر. وقد استدرك عليه الأخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة، ٢١٥ هـ) وزنًا سادس عشر، استخرجه من الدائرة الخامسة هكذا: لن فعولن فعو الخ، وتساوي: فاعلن فاعلن فاعلن الخ. ولم يزد العلماء شيئًا بعد الأخفش. ولم يجرؤ الشعراء على الإتيان ببحر جديد إلا ما ندر. وحتى هذا النادر لم يتعد الدوائر الخمس مثل بيت العتاهي (١):
للمنون دائرا ... ت يدرن صرفها
ولعل الشاعر الوحيد الذي خرج عن هذه الدوائر خروجًا بينا، هو رزين العروضي في كلمته (٢):
_________
(١) الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، مصر ١٣٦٦ هـ، ٢ - ٧٦٦. البيت من المقتضب أو المديد.
(٢) معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) تحقيق أحمد فريد رفاعي، مصر، ١٥ - ٢٦٥ - ٢٦٦.
1 / 16
قربوا جمالهم للرحيل ... غدوة أحبتك الأقربوك (١)
وقد استحسنها بعض معاصريه (٢). ولكن لم يتبعه أحد -بحسب ما نعلم- في اختراعه هذا.
ومن عجيب الأمر أن القيود التي وضعها العروض، لم تمنع من اختراع بحر جديد فحسب، ولكنها أيضًا ضيقت دائرة الرخص في استعمال الزحاف والعلل، وأماتت كثيرًا من الأوزان القديمة. وعندي أن العلماء تعمدوا هذا التضييق لأسباب أهمها:
١) ولعهم بتعميم القواعد النظرية وطرد الشواذ. وهذا يفسر استنكارهم لوزن المعلقة العاشرة لعبيد بن الأبرص:
أقفر من أهله ملحوب
ولوزن كلمة المرقش (٣)
هل بالديار أن تجيب صمم ... لو أن رسما ناطقًا كلم
وكلمة الآخر:
لو وصل العيث لابنينا امرأ ... كانت له قبة سحق بجاد
هكذا رواه أبو عبيد البكري في سمط اللآلي، ورواية ابن قتيبة في الشعر والشعراء مختلفة (٤).
٢) الغيرة على القرآن. وذلك أن العلماء كانوا حرصًا على ألا يوافق كلام الله المنزل في قطعة وافية منه شيئًا من أوزان الشعر القديم، لقوله تعالى، في سورة الحاقة:
_________
(١) و(٢) معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) تحقيق أحمد فريد رفاعي، مصر، ١٥ - ٢٦٥ - ٢٦٦.
(٣) مفضلية وانظر رسالة الغفران، تحقيق ابنة الشاطيء الطبعة الأولى، مصر، ٢٩٨.
(٤) انظر الشعر والشعراء ١ - ٤٩ - ٥٠.
1 / 17
﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾ الآية. ولقوله تعالى، في سورة يس ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ الآية.
وقد لاحظ بعض العلماء أن في كتاب الله آيات توافق أوزان الشعر، كقوله تعالى، في سورة براءة ١٤: ﴿وَيُخْزِهِمْ (١) وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ إذا وقفت عند النون (٢) كما كانت تفعل العرب بالقوافي المطلقة أحيانًا. وقد ذكر صاحب العقد الفريد في مقدمة فصله عن أوزان الشعر آيات سوى هذه. ونظم أحد الشهابين أبياتًا في البحور ضمنها آياتٍ من كتاب الله سوى ما ذكره ابن عبد ربه، كقوله:
يا مديد الهجر هل من كتاب ... فيه آيات الشفا للسقيم
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن* ... "تلك آيات الكتاب الحكيم"
وهذا النظم رديء للغاية، وفيه مع ذلك من إساءة الأدب. على أني أسلم أن الشهاب كان حسن النية، وكان يقصد إلى التعليم فقط حين نظم هذه القصيدة وغيرها (٣)
وقد لوحظ مجيء الوزن في الحديث كقوله ﷺ:
ما أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وكقوله في غزوة حنين (٤):
_________
(١) ضم الميم قراءة ابن كثير وعندنا (أبو عمرو)، وعند حفص الميم ساكنة، وعلى هذا يكون في الآية إذا أجريت على وزن الوافر زحاف العقل في أول الأجزاء.
(٢) ذكر سيبويه في الجزء الثاني من كتابه، في الحديث عن الوقف، أن القوافي المطلقة يجوز إسكانها، نحو:
أقلي اللوم عاذل والعتاب
(٣) ورد نظم الشهاب كاملًا في الكتيب المدرسي ميزان الذهب للمرحوم الهاشمي طبع سنة ١٩٧٨ - ص ١٠٥.
(٤) قاله لما انكشف الناس عنه منهزمين. والخبر مشهور، وانظره في سيرة ابن هشام.
1 / 18
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وهذا من وزن رجز دريد بن الصمة الذي قتل في نفس الغزوة (١):
يا ليتني فيها جذع الخ.
وهذه الشواهد جميعها، مما يذكرنا ومالم نذكر، من قبيل الاتفاقات النادرة، ولا تقوم بها للملحد حجة، ومثلها كثير في الكتب النثرية البحتة (٢). إلا أن العلماء كانوا يخشون عددها أن يزيد، إن هم توسعوا في البحور، وتسهلوا في أمر الزحاف والعلل. كما كانوا يخشون أن يحاكي بعض الزنادقة آيات بأعيانها من القرآن، ويضع على طرازها شعرًا، وليس هذا الفرض ببعيدٍ، فقد كان الزنادقة يحاولون كل وسيلة ليهجنوا من قدر القرآن ويشنعوا عليه.
وثم عامل ثالث سوى ما ذكرنا، من نفس طبيعة البحور العربية، أعان العلماء جدًا على مسلك التضييق الذي سلكوه. وهو أن أهم الأوزان وأجملها، وأحبها إلى الأسماع، وأقواها على البقاء، وأكثرها تصرفًا ودورانًا في المنظوم، كانت كلها داخلة تحت نطاق الدوائر الخمس، لكان نظام العروضيين قد انهار من أوله إلى آخره.
وكلا الناقد والشاعر في عصرنا هذا، يجد من ضيق الأوزان العربية وانحصار عددها عنتا، ويود لو كان العلماء قد تسهلوا وتيسروا شيئًا، ولم تستبعدهم دوائر
_________
(١) قاله لما نازعه مالك بن عوف النصري الراي قبل تلقى هوازن المسلمين، وانظره في سيرة ابن هاشم ٤ - ٦٧.
(٢) عثرت على الاشطار الآتية الهزجية في صفحة واحدة من بخلاء الجاحظ (الحاجري مصر ١٩٤٨ - ٩٠) "فاني عندهم مسلم" و"قد اعتقد القوم" "وكنيتني أبو الحرث" "ولفظي لفظ عربي". وفي الأصل ضبط "لفظ" بالرفع والتنوين وجعل "عربي" صفة لها لا مضافًا إليه- وما ذكرناه أجود. ولا أعرف إن كان أصل الحاجري المخطوط مضبوطًا.
1 / 19
الخليل كل الاستبعاد. وكم يتمنى المرء لو أن الشعراء الأوائل، ولا سيما المحدثين من طبقة بشارٍ وأبي نواس، كانوا أكثر تحررًا، وأقل تقليدًا واتباعًا للأوزان القديمة.
وشكوى النقاد والشعراء المعاصرين من نظام القافية العربية أشد وأمر، إذ القافية في نظرهم قيد ثقيل، يمنع من التعبير الصحيح، ويشغل الشاعر عن الاسترسال في معاينه، بالتفتيش عن أحرف الروي المناسبة. وهذه الحجة في ذاتها ضعيفة، لأن اللغة العربية واسعةٌ جدا. وبنيتها تساعد على كثرة القوافي، إذ فيها أكثر من ستين ألف أصلٍ ثلاثي ورباعي، وكل أصل من هذه الأصول له نظائر عدة تنتهي بمثل الحرف الذي ينتهي به ذلك الأصل، نحو "ضرب، كتب، طرب، سلب، هرب، أرب، رغب" وهلم جرا. ونحو (هدم، لثم، إرم، برم، علم، ألم) وهلم جرا .. ثم إن هذه الأصول فيها نحو عشرين ألف أصل، ذي فروع ومشتقات. وهذه المشتقات تنتهي بنفس الحروف التي تنتهي بها أصولها في الغالب نحو "كاتب وكتب وكتّب وكتائب، وسلب وسليب وسالب وأسلاب". وما لا ينتهي منها بحروف أصولها نحو: "فرحان من فرح، وحسناء من حسن" يقع في صيغ تعين على كثرة القوافي كباب فعلان وفعلاء وفعلن كضيفن.
ولا تنس الضمائر فإن لها في تيسير القوافي أثرًا عظيمًا.
وكل هذا يجعل الكلمات المتشابهة الأواخر كثيرة جدًا في القاموس العربي، حتى إن أمر السجع والتقفية، يصير سهلًا للغاية. وقد أدرك إسمعيل بن حماد الجوهري وأضرابه من أصحاب المعاجم هذه الظاهرة في بنية الكلمة العربية، فقسموا أبواب القواميس بحسب أواخر الكلم، وكأنهم راعوا في ذلك أن ييسروا طلب القوافي للشعراء.
ولا شك أن التزام القافية في الشعر العربي جاء نتيجة لتجارب طويلة من
1 / 20
الشعراء. ولا بد أن تكون سبقته أجيال وأجيال من النظم المسمط القوافي (أي المنوع القوافي) والنظم المرسل المعتمد على جرس الحركات والسكنات. ولا يستبعد أن السجع قد كان طرازا من الشعر أول أمره، ثم صار من السهولة بحيث خرج من باب النظم إلى باب النثر مرة واحدة. ومما يدل على أن السجع كان أول أمره شعرًا، أن الكهان في الجاهلية كانوا يسجعون، وكان لهم نوع خاص من السجع. والشعر في أول أمره يرتبط عادة بالسحر والكهانة والدين. بل يكاد يكون محصورًا في هذه الدائرة في البدء، ثم بعد ذلك ينتقل من ربع الدين والكهانة، فيتصرف فيه الشعراء، وينوعون في أوزانه بحيث يجعلونها تصلح للرقص والغناء والفخر وغير ذلك. ويظل النوع منه الذي لم يفارق الكهانة والدين على حالته الأولى، أو قريبًا منها في الغالب الأكثر. ولأن الكهانة والدين تسيطر عليهما المحافظة دون التجديد. ومما يستحق الذكر هنا أن أعداء النبي كانوا يتهمونه إما بالكهانة، وإما بالشعر. وما أحسب أنهم ربطوا بين الكهانة والشعر من غير أن يكون في عقولهم رابط قوي بينهما.
هذا، وعلى تقدير أن الشعر في تطوره الطويل من كلام مرسل إلى كلام مسجوع، لم يهتد إلى القافية الموحدة الملتزمة التي هي طابعه الآن، أتراه كان بذلك يكون أفضل وأسمى وأطلق عنانًا، ثم يبلغ من درجات التعبير الرفيع، مالم يبلغه بعد أن دخلت عليه القافية؟ أستبعد ذلك جدًا. لأننا لو سلمنا بوجود شعراء ينظمون في هذا الشعر الطليق الذي افترضناه، وعندهم من اتساع الذخيرة ما كان عند امرئ القيس وزهير، فلا بد أن نسلم أيضًا بأن نظم هؤلاء ما كان ليسلم بحال من الأحوال من الزخرفة اللفظية المبالغ فيها. وهذا أمر تقتضيه طبيعة الذخيرة العربية الواسعة، ما لم تكبح جماحها قيود شديدة من القوافي الملتزمة والقواعد النحوية الصلبة.
لا، بل إن القافية الملتزمة قد تكون سهلة جدًا على الشاعر ذي الموسوعة الضخمة، إذا اتفق أن كان حروف الروي فيها من الحروف الذلل. فيضطر الشاعر
1 / 21
في هذه الحالة إلى مضاعفة القيود اللفظية على نفسه ليضمن السلامة من الزخرف اللفظي والإكثار من الجناسات والأسجاع، وهذا ما فعله كثير عزة في تائيته المشهورة، وما فعله أبو العلاء المعري في ديوانه الدرعيات، ثم ديوانه الكبير "لزوم ما لا يلزم"- وعندي أن قيود هذا الديوان الثاني كانت في خير الشاعر لا ضروره كما يزعم بعض النقاد.
وفي عصرنا هذا نجد الذخيرة اللغوية قد ضؤلت جدًّا حتى إن محفوظ الأديب لا يزيد على عشرة آلاف من الكلمات أو نحو ذلك. وهذه الضآلة تستدعي نظامًا من التأليف مخالفًا للنظام القديم، إذا أصر أصحابها على ألا يزيلوها بتوسيع ذخائرهم اللغوية. والتأليف الجديد إما أن يتبع طريقة التسميط -أي تنويع القوافي- وإما أن يتبع طريقة الشعر المرسل ويستغني عن القافية. وإما أن يحاول مخرجًا ثالثًا غير هذين.
والتسميط كان مستعملا منذ عهد قديم، إلا أنه كان لا يجيء إلا في الأنواع الدنيا (أعني غير الجادة العالية) من الشعر، مما يقصد فيه إلى مجرد الترنم، ويحسن عليه الرقص. وقد نشأ التسميط في العهود الجاهلية، لأنه لابد أن يكون قد سبق القافية الموحدة، بحسب ما تقتضيه قوانين التطور والتدرج. ويبدو أنه كان في الغالب نوعًا شعبيًا، لا يرقى إلى مرتبة المقصدات والقطع، التي كانت تنشد في المحافل والأسواق والأندية. كما يبدو أنه كان مقصورًا على أنواع قليلة من الأوزان الخفاف، كالرجز ومنهوك المنسرح مثل:
ويهًا بني الدار ... ويهًا حماة الأدبار
ضربًا يكتل بتار
إن قبلوا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
1 / 22
ثم انتقل التسميط إلى سائر البحور القصار، واستعمله الأندلسيون في الرمل من البحور الطوال، ثم شاع استعماله حتى عم كل البحور، فظهرت أنواع التخميس والتسبيع والتثمين، وكثرت الموشحات وتعددت أنواعها. إلا أن التسميط على كثرته عند المحدثين، لم يتجاوز الأنواع الثانوية من الشعر إلى الأنواع الجدية، ولم يتغلغل في البحور الطوال كما تغلغل في البحور القصار. (إذ المسمطات الطوال كانت كلها من صناعة العلماء والمتكلفين كتخميسات البردة والهمزية) ولا أحسبه يستطيع أن يتغلغل فيها، لأن طبيعته طبيعة ترنم وتغن خفيف، لا طبيعة جد واحتفال وجلالة.
وفي التسميط مع هذا عيب آخر، وهو أنه قابل جدًا لأن يدخله من أنواع القيود، ما يجعله أعسر بكثير من القافية الموحدة. وطبيعة اللغة العربية الخصبة بالقوافي تدعو إلى ذلك وتعين عليه. افرض أنك أردت أن تنظم قصيدة مسمطة، أي منوعة القوافي، قد تكتفي فيها بقافية تلتزم في كل ثلاثة أبيات أو أربعة أو خمسة. وقد تنوع فتجعل لصدور الأبيات قافية، ولأعجازها قافية أخرى، وقد تزيد في التنويع فتقسم قصيدتك إلى أجزاء، كل جزء يتكون مثلًا من خمس أشطار- بيتين كاملين وشطر منفصل، يكتب تحتهما في وسط السطر، ولصدري البيتين قافية، ولعجزيهما قافية أخرى، وللشطر المنفصل قافية ثالثة، تماثل القوافي المستعملة في الأشطار المنفصلة التي تأتي في جميع الأجزاء، هكذا:
شطر، قافية أ ... شطر، قافية ب
شطر قافية أ ... شطر قافية ب
شطر قافية جـ
شطر قافية د ... شطر قافية هـ
شطر قافية د ... شطر قافية هـ
شطر قافية جـ
1 / 23