The Fundamentals of the People of the Sunnah and the Community
أصول أهل السنة والجماعة
ژانرها
أصول أهل السنة والجماعة - عصمة الأنبياء
قضت نصوص الكتاب والسنة بالعصمة للأنبياء فيما يتعلق بالرسالة والتبليغ، ومقارفة المعاصي والكبائر، وهم كذلك يقع منهم من الهفوات واللمم ما لا يؤثر على نبوتهم ورسالتهم، ومع ذلك يسارعون في التوبة والاستغفار.
1 / 1
عصمة الأنبياء في منهج أهل السنة والجماعة
إن الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وما قَلَّ وكفى خير مما كَثُر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: فقد تكلمنا فيما مضى عن خصائص أهل السنة والجماعة، وبينا أن الخاصية الأولى هي: أنهم يعتمدون على النقل لا العقل عند تعارض العقل مع النقل، وأنه لا يمكن أن يكون ثمة تعارض بين العقل والنقل إلا أن يكون مرد ذلك إلى أمرين لا ثالث لهما: إما أن النقل لم يثبت، وإما أن العقل قاصر عن أن يفهم النقل، وليس معنى هذا أننا نلغي العقل.
لا فهو مناط التكليف؛ لما ورد في كتاب الله ﷿، وفي سنة النبي ﵊ من مخاطبة العقل بالتدبر والتعقل والتفكر في ملكوت الله ﷿، وفي مخلوقاته.
والخاصية الثانية لأهل السنة والجماعة: أنهم يختصون دون غيرهم من فرق الضلالة بأنهم لا يأخذون قول أحد بعينه كله، ولا يأتمرون بأمر أحد على الإطلاق، ولا ينتهون بنهي أحد على الإطلاق إلا رسول الله ﷺ، وما دون النبي ﵊ فهو يصيب ويخطئ، يقول الحق والباطل، يغفل ويسهى وينسى، بخلاف النبي ﵊، بل بخلاف الأنبياء جميعًا؛ فإن الله تعالى قد ميزهم عن غيرهم من بقية الخلق بما عرف في الشرع بالعصمة.
هذه العصمة التي ميز الله تعالى بها أنبياءه ورسله إنما هي منجية لهم أن يزيدوا في أحكام الله ﷿، أو ينقصوا منها شيئًا من عندياتهم؛ لأن ذلك شأن من أتى بعدهم كائنًا من كان إذا ضل عن أصول أهل السنة والجماعة، وهذا في حق كل نبي على حدة، وفي نبينا ﵊ على جهة الخصوص، فالنبي ﵊ أفضل البشر على الإطلاق، وهو أفضل الأنبياء، وهو أفضل من الملائكة بلا خلاف بين أهل العلم المعتبرين، ولذلك أجمع أهل السنة والجماعة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، بل إن صالحي البشر أفضل من الملائكة مجتمعين، كيف لا وهم يدخلون عليهم من كل باب يقولون: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد:٢٤]، فهنا بيان أن صالحي البشر الذين قد دخلوا الجنة أفضل من الملائكة على الإطلاق، بخلاف العصاة فقد وقع الخلاف بين أهل السنة والجماعة أيهما أفضل: عصاة الموحدين أم الملائكة، والذي يترجح لي أن الملائكة أفضل من عصاة الموحدين، كما أنهم أفضل من المنافقين والكافرين بإجماع المسلمين، ليس هذا هو المبحث، إنما المبحث إثبات أن النبي ﵊ هو أفضل الخلق قاطبة، وقد ميزه الله ﷿ بما لم يميز به أحدًا من البشر ولا حتى الأنبياء، لكن لا يجوز تفضيل نبينا ﵊ على إخوانه من الأنبياء على سبيل احتقار هؤلاء الأنبياء، فكلهم أنبياء مرسلون أرسلهم الله ﷿ واختارهم واصطفاهم على الخلق أجمعين، ونبينا ﵊ أرسل إلى الإنس والجن، بخلاف غيره من الأنبياء فإن كل واحد منهم كان يرسل إلى قومه خاصة، والله ﷿ اصطفى واختار نبينا محمدًا ﵊ في وقت لوحده نبينًا رسولًا، وطالب العالمين أجمعين بالإيمان به، فمن تنكب الإيمان به فهو من أكفر الكافرين، وهو من المخلدين في النار أبد الآباد، كما أن الله ﷿ كان قد أرسل الرسل من قبله، لكن أرسل كل رسول إلى قومه خاصة، وربما أرسل النبيين أو الرسولين في وقت واحد والثلاثة والأربعة حتى أرسل اثني عشر رسولًا في وقت واحد، وهم يوسف ﵇ وإخوته وهم الأسباط.
1 / 2
ما يعصم فيه الأنبياء
اتصف نبينا ﵊ بالعصمة، والعصمة هي المأمن من الزلل والخطأ، والمأمن من أن يقر النبي ﵊ على خطأ أو نسيان يصدر عنه، وغير ذلك مما يعتري البشر، ولا يؤثر ذلك في رسالته أو نبوته ﵊.
والعصمة تكون في ثلاثة أمور: الأول: العصمة فيما يتعلق بالوحي تلقيًا وتبليغًا، الثاني: العصمة فيما يتعلق بالوقوع في الكبائر، الثالث: العصمة فيما يتعلق بالوقوع في الصغائر، فهذه ثلاثة أبواب هي أبواب العصمة التي ميز الله تعالى بها أنبياءه ورسله.
1 / 3
عصمة الأنبياء في تلقي الوحي
أما العصمة فيما يتعلق بالتبليغ أو بتلقي الوحي عن الله ﷿ فإنه لا خلاف بين أهل السنة والجماعة أن الأنبياء والمرسلين معصومون في هذا الباب، كما أنهم معصومون بعد بعثتهم من اقتراف الكبائر، ووقع نزاع فيما يتعلق بارتكابهم الكبائر قبل بعثتهم، والراجح: أنهم لم يرتكبوا كبيرة قبل البعثة، فهذان بابان نثبت فيهما العصمة المطلقة للأنبياء والمرسلين فيما يتعلق بتلقي الوحي عن الله ﷿، وأنهم لا يخطئون شيئًا منه، ولا ينسون شيئًا من الوحي إلا أن يشاء الله ﷿ أن ينسي أحد أنبيائه شيئًا قد أوحى به إليه، وهو الذي يعبر عنه أهل العلم بالنسخ، أي: لا يعمل به، وإنما يستعيض الله ﷿ عنه لأمة نبيه بشيء قد أراده لهم آنفًا، وليس في هذا أن الله تعالى قد بدا له ما لم يكن قد علم آنفًا، وإنما هي مشيئته ﷾: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم:٦٤].
إذًا: الأنبياء والمرسلون معصومون في باب التلقي عن الله ﷿، كما أنهم معصومون في التبليغ عن الله ﷿ إلى الخلق، فهم يتلقون الوحي بغير زيادة ولا نقصان، ويبلغون الوحي إلى أممهم بغير زيادة ولا نقصان، وهذا باب عظيم جدًا لا ينبغي الخطأ فيه؛ لأن الخطأ فيه ينافي مقصود الرسالات والنبوات، وهذه عقيدة مسلمة عند الناس كافة إلا ما كان من أمر اليهود والنصارى عليهم لعنة الله ﷿، وسيأتي ذكر موقفهم من أنبياء الله ورسله.
اسمع إلى ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتابه العظيم مجموع الفتاوى حيث قال: إن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفي تبليغ رسالته باتفاق الأمة.
أي: هذا أمر مجمع عليه ولا خلاف فيه، ولهذا وجب الإيمان بكل ما جاء به الأنبياء والمرسلون.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك: النبي ﷺ معصوم، فلا يجوز أن يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة، ولا أمران متناقضان في الحقيقة إلا وأحدهما ناسخ والآخر منسوخ، والله هو الذي تولى حفظ الذكر؛ لأن ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة هو هدى الله الذي أنزله على رسوله، وبه يعرف سبيله، وهو حجته على عباده، فلو وقع فيه ضلال لم يبين لسقطت حجة الله في ذلك، وذهب هداه، وعمي السبيل؛ إذ ليس بعد هذا النبي نبي آخر ينتظر ليبين للناس ما اختلفوا فيه، بل هذا هو رسول آخر الزمان وأمته خير الأمم، ولذا لا يزال فيها طائفة قائمة على الحق بإذن الله، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة، وربما وقع الخلاف بين هذه الطائفة، لكن الحق في عمومه لا يخفى على عموم الأمة في وقت من الأوقات ولا في زمن من الأزمنة.
فبعد أن اتفقت الأمة على أن الرسل معصومون في تحمل الرسالة، فلا ينسون شيئًا مما أوحاه الله تعالى إليهم إلا شيئًا قد نسخ، وقد تكفل الله لرسوله بأن يقرئه القرآن فلا ينسى منه شيئًا، كما في قوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى:٦ - ٧]، وتكفل له كذلك بأن يجمعه في صدره؛ لأن النبي ﵊ في حين تلقي الوحي عن جبريل كان يردد الوحي قبل أن ينصرف جبريل مخافة أن ينسى منه شيئًا، فطمأنه الله ﷿ بأنه لن يضيع منه شيء، وأنه سيثبته في قلبه، قال: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة:١٦ - ١٨]، أي: فاتبع قراءته وتلاوته.
كذلك الأنبياء والرسل معصومون في باب التبليغ، فهم لا يكتمون شيئًا مما أوحاه الله إليهم؛ لأن الكتمان خيانة، والخيانة نقص بشري تنزه عنه الأنبياء والمرسلون، ولذلك عاتب الله تعالى كثيرًا من أنبيائه على بعض اللمم الذي صدر منهم، ومع هذا ما أخفى الله تعالى وما أخفى نبيه ﵊ ذلك اللوم وذلك العتاب، بل ذكره النبي ﵊ وبلغه عن ربه بكل أمانة؛ لأنه الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة:٦٧]، وقال كذلك: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة:٤٤ - ٤٦]، فلما لم يأخذ منه باليمين، ولم يقطع منه الوتين -أي: الحلقوم- تبين أنه ﵊ لم يتقول على الله ﷿ بقول قط لا كبير ولا صغير، وإنما بلغ عن ربه بمنتهى الأمانة، حتى الذي عاتبه فيه ربه إنما نقله إلينا على صورة العتاب الذي عاتبه الله تعالى فيها ولامه.
1 / 4
العصمة فيما يتعلق بالصغائر والنسيان
هناك أمور لازمة لجميع البشر لم ينج منها أحد حتى الأنبياء والمرسلون؛ كالغضب والرضا والسخط والخوف وغير ذلك، لكن هل هذا يؤثر على نبوتهم ورسالتهم، أو عصمتهم؟ الجواب بإجماع أهل السنة: لا.
فإن الأعراض البشرية الجبلية لا تنافي العصمة، فإبراهيم ﵊ أوجس في نفسه خيفة من الملائكة، وهو لا يعلم أنهم ملائكة؛ لأنهم تصوروا في صورة رجال، فلما قدم إليهم طعامًا ووجد أن أيديهم لا تمتد إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة حتى طمأنوه بأنهم رسل الله تعالى إلى لوط: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود:٧٠].
وموسى ﵇ وعد الخضر ألا يتكلم معه، وألا يتعجل أمره، وأن يصبر على كل ما يرى منه، مع أن موسى أفضل من الخضر، ولكن انظر إلى عجلة موسى ﵇ وتركه الصبر أحيانًا، ولو صبر لنقل إلينا علمًا كثيرًا كما قال نبينا ﵊، ولذلك لما اعترض في ثلاث مرات كانت الأولى نسيانًا، والثانية والثالثة -لبشاعتها فيما يرى الرائي- وعده بالفراق إن حصلت، وفي كل يقول له الخضر: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف:٧٥]، ولما تبين لموسى ﵇ صحة ما صدر من الخضر، وأن ذلك كان بوحي السماء، قال له الخضر: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف:٨٢]، يعني: أنت يا موسى لم يكن عندك من القدرة على الصبر فيما أنكرته ظاهرًا أن تلتزم بوعدك السابق، ولكنك تعجلت الأمر، وهذه هفوة لا تؤثر، ولمم لا يعكر على صفاء رسالة موسى وعلى نبوته.
وكذلك غضب موسى غضبًا شديدًا على بني إسرائيل، لما عبر بهم البحر ثم ترك معهم هارون وذهب إلى ميقات ربه في أرض سيناء عند جبل الطور، فأخبره الله ﷿ أن قومه اتخذوا العجل الذي صنعه لهم السامري، وهو رجل مشرك جمع من بني إسرائيل الذهب، وصنع لهم عجلًا جسدًا له خوار، أي: له صوت وهو صوت الريح يصدر منه إذا مر الهواء في جوف العجل، فحينئذ يجتمع عنده بنو إسرائيل فيعبدونه، فأخبر الله ﷿ موسى أن يقدم على قومه لأنهم قد صنعوا عجلًا وعبدوه من دون الله ﷿، لكن الأمر كما قال النبي ﵊: (ليس الخبر كالمعاينة)، لما أخبر موسى بذلك غضب، ولكنه لم يكن كغضبه لما أتى إلى قومه وعاين البلاء بنفسه، حينها غضب غضبًا شديدًا، وألقى الألواح التي كانت بيده ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى﴾ [الأعراف:١٥٤]، أي: كلام الله ﷿ منسوخ ومكتوب فيها، فلما رأى ذلك ألقى الألواح من يده في الأرض أو في وجه أخيه هارون، ثم أخذ بلحية أخيه يجره إليه، حتى قال هارون ﵇: ﴿ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف:١٥٠].
هذه هفوة عظيمة صدرت من موسى ﵇ أن يلقي الألواح، لكنه ما ألقاها إلا بعد أن غضب غضبًا شديدًا أفقده شيئًا من وعيه حتى يلقي كتاب الله في الأرض، ومثل هذا يعفى عنه لفرط غضبه ﵊.
وكذلك نسيان آدم، وما ترتب عليه من مخالفة أمر الله، والوقوع فيما نصحه به إبليس اللعين بزعمه، فسمى الله تعالى ذلك عصيانًا، وقال: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه:١٢١].
ومن نسيان آدم أيضًا: ما جاء عن أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﵊: (لما خلق الله آدم مسح ظهره، فخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل منهم وبيصًا -أي: ضوءًا من نور- ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، قال: فرأى رجلًا منهم فأعجبه ما بين عينيه، فقال آدم: أي رب من هذا؟ قال: هذا رجل من ذريتك يقال له داود، قال: رب كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال آدم لملك الموت: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود، قال: فجحد آدم - أنكر ذلك- فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته)، وآدم باتفاق أهل العلم نبي من الأنبياء، فوقع في مثل هذا نسيانًا، ولذلك لم يؤاخذه الله تعالى به، وبمجرد أن تاب تاب الله ﷿ عليه.
وكذلك نبي من الأنبياء يحرق قرية من النمل بأسرها لأجل نملة قرصته، ففي الصحيح: (أن نبيًا من الأنبياء لدغته نملة، فأمر بالقرية فأحرقت بالنار، فأوحى الله إليه: فهلا نملة؟) أي: كل هذا لأجل نملة واحدة، والحديث أخرجه البخاري.
ونبينا ﵊ قد حصل له مثل هذا من النسيان و
1 / 5
موقف الشيعة والصوفية من عصمة الأنبياء في الصغائر
الشيعة الرافضة والإسماعيلية والصوفية وغيرهم من فرق الضلالة وقفوا موقفًا فيما يتعلق بوقوع الصغائر من الأنبياء يناقض موقف أهل السنة والجماعة، ويناقض مذهب جماهير العلماء من المحدثين والمفسرين، بل والمتكلمين كذلك، وقالوا: بأن الأنبياء معصومون من النسيان والخطأ والسهو، فضلًا عن عصمتهم من وقوعهم في الصغائر، فخالفوا بذلك النصوص الثابتة في كتاب الله ﷿ وفي سنة النبي ﵊، بل وأولوها تأويلًا غير سائغ، بل هو تحريف للكلم عن مواضعه، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإنما نقل القول بالعصمة المطلقة في العصر المتقدم عن الرافضة ثم عن المعتزلة، ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين، قال: وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء أنهم غير معصومين -أي: أن الأنبياء غير معصومين على الإقرار على الصغائر- ولا يقرون عليها -يعني: لو وقع نبي منهم في شيء من هذا عاتبه ربه على الفور- فبان الحق، وفي هذا إثبات أن الخطأ إذا وقع من نبي بقول أو فعل فإن الله تعالى يصححه على الفور، مما يبين وجوب الأسوة والقدوة بهم، وأن ذلك لا يؤثر على الاقتداء والتأسي بهم؛ لأن خطأهم مصحح بخلاف خطأ غيرهم.
ويقولون: إنها لا تقع بحال -أي: الجمهور- وأول من نقل عنه من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقًا وأعظمهم قولًا لذلك الرافضة، مع أن الرافضة أبعد الناس عن الأنبياء والمرسلين، وأعدى الأعداء للنبي ﵊ ولأهل بيته، ويزعمون أنهم أولياء للنبي وأهل بيته، فإنهم يقولون بالعصمة على ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل، وينقلون ذلك إلى من يعتقدون إمامته كـ علي بن أبي طالب والحسن والحسين إلى آخر الأئمة الاثني عشر وقالوا: بعصمة علي، ومثلهم الإسماعيلية الذين كانوا ملوك القاهرة، وكانوا يزعمون أنهم خلفاء علويون فاطميون، وهم في الحقيقة باطنيون ملاحدة، ولذلك صنف الغزالي كتابًا يرد على الفاطميين يقول فيه: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض، وهؤلاء هم الفاطميون الذين حكموا مصر ردحًا من الزمان، ولا تزال مصر ترزح تحت نيرانهم في باب العقيدة والسلوك، أما في باب العقيدة فإنهم لا يعتقدون معتقد أهل السنة والجماعة، وإنما يعتقدون معتقد الأشعرية والماتريدية، وهم في باب السلوك صوفية قبورية مشركون بالله ﷿، وقد صنف كذلك القاضي أبو يعلى في الرد عليهم، والكلام في أمرهم يطول، وليس هذا معتقد أهل السنة والجماعة.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية سؤالًا آخر عن رجل قال: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر دون الصغائر، فقال: هو كافر.
أي: المسئول لما سئل عن رجل يقول: إن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، قال ذاك المستفتى: إن من قال هذا فهو كافر، فهل هذا الكلام صواب أم خطأ؟ فقال شيخ الإسلام: الحمد لله رب العالمين.
ليس هو كافرًا باتفاق أهل الدين، وهذا من مسائل السب المتنازع في استتابة قائله بلا نزاع، كما صرح بذلك القاضي عياض وأمثاله من المتشددين في باب العصمة، فضلًا أن يكون قائل ذلك كافرًا، ولا حتى فاسقًا، فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر ذلك أبو الحسن الآمدي عليه رحمة الله؛ أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول، بخلاف غير الأنبياء، فإنهم ليسوا معصومين لا عن الكبائر ولا عن الصغائر كما عصم الأنبياء، ولو كانوا أولياء لله، -أي: غير الأنبياء- لأن الصحابة أولياء، ومع هذا وقع بعضهم في الزنا، ووقع بعضهم في السرقة، ولكنه سرعان ما بادر بالتوبة وأقيم عليه الحد، فتاب إلى الله توبة كانت أفضل لحاله من حاله قبل ارتكاب هذه الكبيرة، ولهذا من سب نبيًا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء، ومن سب غيرهم لم يقتل، وإنما يعزر ويؤدب، وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة.
1 / 6
موقف اليهود والنصارى من عصمة الأنبياء
هذا موقف أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بعصمتهم في تلقي الوحي، وعصمتهم في تبليغ الوحي، وأنهم لا يكتمون منه شيئًا، كما أنهم معصومون من الكبائر كذلك، وخالف في ذلك اليهود والنصارى، حيث نسب اليهود إلى الأنبياء والمرسلين أعمالًا قبيحة، فقالوا: إن نبي الله هارون هو الذي صنع العجل، والسامري كان رجلًا صالحًا، ولم يصنع العجل، فانظر إلى هذا! أيرتد نبي بعد إيمانه وبعثته؟! لا يمكن هذا بحال، لا نقلًا ولا عقلًا.
قالوا: إن نبي الله هارون صنع عجلًا وعبده مع بني إسرائيل، وهذا قد جاء في الإصحاح الثاني والثلاثين العدد الأول من سفر الخروج.
وقد بين هذا الضلال القرآن الكريم عندما حدثنا أن الذي صنع العجل إنما هو السامري.
وقالوا كذلك: إن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قدم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال منها الخير، أي: حتى يزني بها، فلما بلغه أن فرعون زنى بها سكت على ذلك ولم يتكلم! معاذ الله أن يكون ذلك من إبراهيم أو من سارة، ولكن إبراهيم لما سئل ﵇: من هذه؟ قال: هي أختي، يعني: أخته في الإسلام، ومع صدق هذا الخبر إلا أن إبراهيم عد هذا كذبة استغفر منها ربه وأناب.
ومن ذلك قول اليهود عن لوط ﵇: إن لوطًا شرب خمرًا حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنى بهما الواحدة بعد الأخرى! وهذا أيضًا في سفر التكوين الإصحاح التاسع عشر العدد الثلاثين، ومعاذ الله أن يفعل لوط ذلك، فقد دعا إلى الفضيلة وحارب الرذيلة قبل أن يبعث، فلما بعث اجتمع عليه قومه وأردوا منه أن يدخل في ملتهم بعد أن هداه الله وأنجاه منهم، أو أن يخرج من بينهم، وكانت قضيته أنه رجل طهره الله ﷿: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل:٥٦]، فقضيتهم أنهم طاهرون مطهرون، فلا بقاء لأمثال هؤلاء في وسط مجتمع يرزح تحت نير الرذيلة، الفساد في كل شارع، وفي كل بيت، وعلى كل قارعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولذلك هذه الطائفة المؤمنة لا بقاء لها في هذا المجتمع الفاسد إلا أن تعلو بإيمانها على هذا الواقع الباطل، ويدعون إلى الله ﷿ بالحكمة والموعظة الحسنة.
وقال اليهود: إن يعقوب ﵇ سرق مواشي من حميه، وخرج بأهله خلسة دون أن يعلم حميه، وقالوا: إن راوبين -وشتان ما بين رابين اليهودي وراوبين الذي هو نبي من الأنبياء، وهو من الأسباط وأخو يوسف ﵇ زنى بزوجة رجل من قواد جيشه، ثم دبر حيلة لقتل الرجل، ثم أخذ داود الزوجة وضمها إلى نسائه، فولدت له سليمان! وقالوا: إن سليمان ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد، كما ورد في سفر الملوك الأول الإصحاح الحادي عشر العدد الخامس.
وقالوا: إن يوسف ﵇ حل السراويل وقعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من امرأته! معاذ الله، وهو الذي آثر السجن على ما يدعونه إليه من الفاحشة.
والنصارى ليسوا بأفضل حالًا من اليهود، فإنهم أبناؤهم، ومن عباءتهم خرجوا، فقالوا كما ورد في إنجيل متى: إن عيسى من نسل سليمان بن داود، وإن جد سليمان هو فارض، الذي هو من نسل الزنا من يهوذا بن يعقوب ﵇، وهذا في إصحاح متى الأول العدد العاشر، وفي إنجيل يوحنا الإصحاح الثاني العدد الرابع: أن يسوع- وهو عيسى ﵇ أهان أمه في وسط جمع من الناس! فأين هذا مما وصفه به القرآن: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾ [مريم:٣٢]، وقالوا: إن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سراق ولصوص! وهذا في إنجيل يوحنا الإصحاح العاشر العدد الثاني.
وهذا قليل من كثير مما تكلم به اليهود والنصارى عليهم لعنة الله في حق الأنبياء والمرسلين، حتى تعلموا صدق ما جاء في الكتاب العزيز: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة:١٢٠]، وحتى تعلموا صدق ما جاء في الكتاب العزيز: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء:٨٩].
لا يمكن أيها الموحدون أن يرضى عنكم اليهود والنصارى إلا أن تكفروا وتنخلعوا من إيمانكم وتنغمسوا معهم في الكفر البواح حتى تخلدوا معهم في نار جهنم.
اليهود هم اليهود، وهم قوم بهت وسوء وضلال وانحراف، والله ﷿ أخبر في زمن نبينا ﵊ أن اليهود قتلوا الأنبياء بغير حق، مع أن المعلوم قطعًا أن اليهود في زمن النبي ﵊ لم يقتلوا نبيًا من الأنبياء؛ لأنهم لم يبعث لهم نبي، فكان هذا مفيدًا بأن من رضي بالفعل كمن فعل، ومن أقر العمل كمن عمل، وهؤلاء اليهود تعرضوا لنبينا ﵊ بالقتل تارة فلم يفلحوا، وأنجاه وحي السماء من غدر اليهود، ومن غدر المشركين، والنبي ﵊ لم يثبت عنه قط مرة واحدة في تاريخ دعوته الطويلة التي بلغت ثلاثًا وعشرين عامًا، وخاصة العشر الأ
1 / 7
توبة الأنبياء من الصغائر
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: إذا كان بعض الأنبياء نسي أو خرج عن حد الاعتدال بسبب فرط غضبه؛ فإن ذلك لا يؤثر في نبوته ولا رسالته، فإن المرء إذا وقع في ذنب تاب منه توبة نصوحًا، واجتهد على نفسه بالدعاء والاستغفار وسائر القربات ما لم يكن قد اجتهد قبل وقوعه في الذنب، إذا كان هذا في عامة البشر، فهو في حق الأنبياء أحرى وأولى، ولذلك قال تعالى في حق آدم: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه:١٢٠ - ١٢١].
أو في نوح ﵇: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ [هود:٤٥]، فلامه ربه على مقالته هذه، وأعلمه أنه ليس من أهله، وأن هذا منه عمل غير صالح: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود:٤٦]، حينئذ استغفر نوح ربه من ذنبه وتاب وأناب: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود:٤٧].
وموسى ﵇ أراد نصرة الذي من شيعته فوكز الذي من عدوه ولم يقصد قتله، إنما ضربه بمجمع كفه: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [القصص:١٥ - ١٦].
وداود ﵇ تسرع في الحكم قبل سماع قول الخصم الثاني، وهم أصحاب الغنم، لما أتوا إلى داود ﵇ ليحكم بينهم، تسرع داود لما سمع من أحد الخصمين ولم يسمع من الآخر، فكان قضاؤه مخالفًا للحق باجتهاد منه، ولما عاتبه الله ﷿، استغفر ربه وخر راكعًا وأناب فغفر الله له ذلك.
كما أن نبينا ﵊ لما حرم على نفسه العسل، وهي قصة طويلة مشهورة في أوائل سورة التحريم عاتبه الله ﷿ وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم:١]، لو كان النبي ﵊ غير معصوم في التبليغ لأخفى وكتم هذه الآية، ولكنه ذكرها بأمانة ﷺ، وكذلك عاتبه الله ﷿ بقوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ [عبس:١ - ٥] أي: من صناديد الكفر والشرك: ﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ [عبس:٦] فأنت له تصدى يا محمد، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ [الكهف:٢٨] عن بلال وصهيب وغيرهما ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف:٢٨].
ولقد هم الرسول ﵊ أن يصلي الجنازة على أحد المنافقين فقال عمر ﵁: لا تصل عليه يا رسول الله، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة:٨٤]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر:٩٧] وكل هذه أعراض بشرية وغيرها لا تؤثر في الرسالة والنبوة.
وإنما دعا من دعا إلى العصمة المطلقة في الكبائر والصغائر بسبب شبهتين: الشبهة الأولى: قالوا: إن الله أمر باتباع الرسول ﵊، والتأسي به والاقتداء، ولو أننا اتبعناه فيما أخطأ فيه لكان هذا أمرًا منافيًا للتأسي والاقتداء؛ لأننا لم نؤمر بالباطل واتباع ما خالف الصواب.
والرد عليهم: أن ذلك في حال ما إذا لم يظهر هذا الخطأ الذي وقع فيه النبي،
1 / 8
بعض ما جاء عن النبي من التوبة والاستغفار
لقد أخبر الله تعالى بتوبة جميع الأنبياء حتى أمر نبيه ﵊ بالاستغفار والتوبة في آخر حياته، كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر:١ - ٣]، وفي الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت: (كان النبي ﵊ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، وقد أنزل الله عليه قبل ذلك: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١١٧].
وفي صحيح البخاري عن النبي ﵊ أنه قال: (يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وعند مسلم عن الأغر المزني أن النبي ﵊ قال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)، وفي السنن عن ابن عمر أنه ﵊ قال: (كنا نعد لرسول الله ﵊ في المجلس الواحد، يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة)، وفي الصحيحين عن أبي موسى أنه ﵊ كان يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: (يا رسول الله! أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة -أي: في الصلاة- ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، وفي صحيح مسلم وغيره أنه ﵊ كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع، كما عند مسلم من حديث علي أن النبي ﵊ كان يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي وعملت سوءًا، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)، وعند مسلم كذلك أنه ﵊ كان يقول في سجوده: (اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره)، وفي السنن عن علي: (أن النبي ﵊ أتي بدابة ليركبها، وأنه حمد الله وقال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا إلى لمنقلبون، ثم كبر الله وحمده، ثم قال: سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، وقال: إن الرب يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول: -أي: الله ﷿ علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا)، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:١٩]، أي: يا محمد: ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد:١٩]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح:٢]، وفي الصحيحين في حديث الشفاعة: (أن المسيح ﵇ قال لمن طلبوا منه الشفاعة اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).
وفي الصحيح: (أن النبي ﵊ كان يقوم الليل حتى ترم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا).
إن نصوص الكتاب والسنة قاضية بأن الأنبياء والمرسلين وقعوا في الهفوات وفي اللمم الذي لا يؤثر على نبوتهم ورسالتهم، ومع ذلك عدوا ما وقعوا فيه ذنبًا، فاستغفروا الله تعالى منه وتابوا إليه، فتقبل الله تعالى منهم تلك التوبة وغفر لهم ذنوبهم، وليس معنى أنهم وقعوا في الذنب أنهم كسائر البشر يقعون في العظائم من الأمور والملمات والخطوب، وإنما وقعوا في هفوات، ولعل الأمر كما قال بعض الصالحين: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا
1 / 9
أصول أهل السنة والجماعة - الرد على قصة الغرانيق
الأنبياء معصومون في تلقيهم الوحي من الله ﷿ وتبليغه للناس، ومن هنا نعلم أن قصة الغرانيق وما ألقى فيها الشيطان على رسول الله ﷺ أمر مردود وباطل، كما أن من رواة أحاديث قصة الغرانيق من هو معروف بالزندقة والكذب والضلال، والواجب على المسلم رد مثل هذه الشبهات، وأن يعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة بنقاء الوحيين وصفائهما من عبث العابثين وضلال المنحرفين.
2 / 1
عصمة النبي ﷺ في تلقي الوحي وتبليغه
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
لا زال الكلام عن أصول وخصائص أهل السنة والجماعة موصولًا، ومن تلك الأصول: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة:٤٤ - ٤٦]، فلما لم يأخذ منه اليمين، ولم يقطع منه الوتين تبين أنه لم يتقول على ربه بالزيادة ولا بالنقصان.
وقال تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى:٦ - ٧]، وهذا الاستثناء يدل على أن النسيان هو الترك، ومنه النسخ، فيكون المعنى: سنقرئك يا محمد! أي: سنتلو عليك الكتاب فلا تتركن منه شيئًا إلا ما أمرناك بتركه تلاوة أو حكمًا، فالاستثناء لا يدل على أن النبي ﷺ ينسى شيئًا من الوحي؛ لأن أصابع الكفار لا تزال تعمل عملها في الأمة، وأصابع الملاحدة وأفكار الملاحدة لا تزال تلعب في رءوس وأدمغة شباب الأمة، ولما تكلمت في الدرس الماضي منذ شهر عن عصمة الأنبياء وأثبتنا بفضل الله أنهم معصومون في تلقي الوحي وتبليغه، كما أنهم معصومون من الكبائر، اختلط على كثير من الشباب، فهاتفوني وسألوني مشافهة ما قصة الغرانيق التي تفيد بظاهر لفظها أن النبي ﵊ وقع في شرك صريح مع الله ﷿، فأحببت أن أذكر هذه الشبهة في هذا اليوم على جهة الخصوص، وإن كانت هناك شبهات كثيرة؛ لكن هذه أعظم شبهة، ولذلك استحسنت جدًا طرحها والسؤال عنها لإزالة الإشكال فيها وبيان أمرها، وإثبات براءة صفحة النبي ﵊، وأنه بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب مما سمي في السنة بقصة الغرانيق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أقسم الله ﵎ على عصمته بعظيم من عظائم مخلوقاته فقال: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:١ - ٤] وغير ذلك من الآيات التي أفادت عصمته ﵊، والله ﵎ أراد أن يبرئ نبيه عن أن يكون زاد في القرآن شيئًا أو نقص منه، فقال: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ﴾ [الإسراء:٧٣]، حاول المشركون فتنة النبي ﵊، حتى يدخل في القرآن أو يتقول على الله ﷿ ما لم يقله وما لم يأمره به: ﴿وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾ [الإسراء:٧٣] أي: لو أنك فعلت ذلك يا محمد! «لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا»، ولما لم يتخذوه خليلًا دل على أنه لم يفتر على الله ﷿ الكذب، والله تعالى يمتن على نبيه فيقول: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:٧٤]، فلما لم يركن إليهم شيئًا قليلًا، ومن باب أولى لم يركن إليهم شيئًا كثيرًا؛ دل هذا على أن الله تعالى هو الذي ثبته وعصمه: ﴿إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء:٧٥]، فلما لم يكن ذلك؛ دل على أن النبي ﵊ لم يتقول على ربه بحرف واحد زائد، ولم ينس شيئًا من الوحي تلقيًا أو بلاغًا.
والله تعالى كذلك أثنى على نبيه فقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْ
2 / 2
قصة الغرانيق وما نزل من القرآن حولها
فما هي قصة الغرانيق؟ قصة عظيمة جدًا في ضلالها وبطلانها وفسادها، قصة مناقضة لأصول استقرت عند العقلاء فضلًا عن أهل السنة والجماعة، قصة لا يقبلها عقل محترم قط، قصة الغرانيق هي افتراء من الشيطان على ألسنة المشركين في العهد المكي، قصة الغرانيق إذا طبقها عبد كاد يهدم الشريعة من أصلها ولا يبقى له من إيمانه ذرة، قصة الغرانيق لها حكاية في سورة النجم، كما أن لها حكاية وتكملة وسببًا للنزول في سورة الحج.
قال الله تعالى في سورة النجم في بيان قصة الغرانيق: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى﴾ [النجم:١٩ - ٢١]، يخاطب الله تعالى المشركين: أتجعلون لله ﵎ الأنثى وتجعلون لكم الذكور؟ ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم:٢٢] قسمة جائرة فاسدة أن تجعلوا لكم الذكور ولله تعالى الإناث، قال: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم:٢٣ - ٢٦]، إذا كان هذا في شأن الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فكيف بشفاعة أصنام وأوثان صنعتها أيدي المخلوقين، فعبدوها من دون الله ﷿؟ كيف يكون لها الشفاعة وهي لا تملك لنفسها فضلًا عن غيرها نفعًا ولا ضرًا؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم:٢٧ - ٢٨]، ثم ينبه الله تعالى نبيه بالإعراض عن هذا المعتقد الفاسد والطغيان والبغي، فقال سبحانه: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ [النجم:٢٩ - ٣٠].
هذه الآيات لما نزلت على نبينا ﵊ تلاها في ناد من نوادي المشركين.
قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم:١٩ - ٢٠]، فزعموا أن الشيطان أوحى على لسان النبي ﵊ بعد أن تلا هاتين الآيتين: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فيزعمون أنهم سمعوا هذا من النبي ﵊.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم:١٩ - ٢٠] تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى؛ يزعمون أنهم سمعوا هذا من النبي ﵊، وليس الأمر كذلك؛ وأنه لما سمع بهذا النبي ﵊ شق عليه ذلك، وبلغت المشقة مبلغها في نفسه ﵊، فأنزل الله ﵎ آياته في سورة الحج التي مطلعها: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ﴾ [الحج:٥٢ - ٥٥] أي في شك: ﴿مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [الحج:٥٥ - ٥٧].
هذه الآيات من سورة النجم وسورة الحج قضت قضاء مبرمًا على قصة الغرانيق التي افتراها الشيطان على ألسنة المشركين.
2 / 3
بيان معنى قول الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)
قبل الدخول لرواية القصة لا بد من بيان معنى قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ [الحج:٥٢].
إن التمني يمكن أن يكون بالقلب كأن تقول: تمنيت على الله كذا وكذا، ولكن التمني في هذه الآية بمعنى: التلاوة والقراءة والذكر، فيكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا قرأ كتاب الله المنزل إليه ألقى الشيطان في تلاوته ما ليس منها، هذا التقدير.
والدليل على ذلك: أن العرب تستخدم لفظ التمني بمعنى القراءة، كما قال حسان بن ثابت ﵁ لما قتل القتلة عثمان بن عفان ﵁ وهو يذكر الله ويقرأ القرآن: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر (تمنى كتاب الله) أي: تلا كتاب الله من (أول ليلة)، حتى إذا بلغ آخر الليل قام عليه القتلة فقتلوه، فتلقى حمام قدره رضي الله ﵎ عنه؛ ولذلك ينقل غير واحد عن أكثر المفسرين والمحققين أن التمني بمعنى: القراءة والتلاوة، بل عزاه ابن القيم إلى السلف قاطبة، فقال في إغاثة اللهفان: والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا النبي ﵊ ألقى الشيطان في تلاوته، وكذلك قال القرطبي في تفسيره العظيم وهو أحكام القرآن.
فتأويل كلامه في هذه الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ أو حدث ألقى الشيطان في تلاوته، فينسخ الله ﷿ ما ألقاه الشيطان في تلاوة ذلك النبي ويبطله.
هذا هو المعنى المراد من هذه الآية الكريمة، وبالتالي لا أظن أنه قد بقي فيها إشكال؛ لأن الإشكال كما في صدور الإخوة وعقولهم أنهم حملوا التمني على تمني القلب، وإذا عرفت أن التمني هو التلاوة وأن الله ﵎ أبطل ما ألقاه الشيطان في تلاوة النبي، وأحكم الله تعالى آياته بغير زيادة ولا نقصان زالت الشبهة بإذن الله تعالى.
ولكن أعداء الدين الذين قعدوا له في كل طريق وترصدوا له عند كل مرصد، لا يرضيهم إلا أن يدسوا فيه ما ليس منه، ولم يقله رسوله ﵊، فذكروا ما ستراه في الروايات مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة، وذلك ديدنهم منذ القديم، كما فعلوا في غيرما آية وردت على ألسنة الرسل والأنبياء السابقين، كداود وسليمان ويوسف ﵈، فرووا في تفسيرها من الإسرائيليات ما لا يجوز نسبته إلى رجل مسلم فضلًا عن نبي مكرم، كما هو مبين في محله من كتب التفسير والقصص، وإن شئت فقل: من كتب الإسرائيليات والضلالات كما في كتاب التلمود والإنجيل والتوراة المحرفة.
2 / 4
الروايات التي ساقت قصة الغرانيق
2 / 5
رواية سعيد بن جبير في قصة الغرانيق
أما الروايات التي ساقت قصة الغرانيق فمنها ما جاء عن سعيد بن جبير أنه قال: (لما نزلت هذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم:١٩] قرأها رسول الله ﵊ فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فسجد رسول الله ﷺ، فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير) لماذا؟ لأن قوله: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، أي: ترجى منهم الشفاعة عند الله ﷿، فهذا مدح لهذه الآلهة وهذه الأصنام من دون الله ﷿، ولذلك فرح المشركون أيما فرح لما سمعوا قوله: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، فسجدوا مع النبي ﵊، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ﴾ [الحج:٥٢] الآيات التي سمعتموها.
ثم جاء في رواية أخرى: (أنه جاء جبريل بعد ذلك فقال: يا محمد! اعرض علي ما جئتك به، فلما بلغ أي في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، قال جبريل: لم آتك بهذا.
هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ﴾ [الحج:٥٢] الآيات)، فهذه رواية سعيد بن جبير.
2 / 6
رواية ابن عباس ﵄ في قصة الغرانيق
هناك رواية عن ابن عباس ﵄ قال: (إن رسول الله ﷺ قرأ: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم:١٩ - ٢٠] تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى، ففرح المشركون بذلك، وقالوا: قد ذكر آلهتنا -أي: بخير- فجاء جبريل فقال: اقرأ علي ما جئتك به، فقرأ: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم:١٩ - ٢٠] تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى، فقال: ما أتيتك بهذا، هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج:٥٢].
إلى آخر الآيات).
2 / 7
رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث في قصة الغرانيق
وعن ابن شهاب الزهري قال: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: (أن رسول الله ﷺ وهو بمكة قرأ عليهم: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم:١]، فلما بلغ إلى قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم:١٩ - ٢٠] قال: إن شفاعتهن ترتجى، سها رسول الله ﷺ، -سها أي: قال ذلك سهوًا-، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض، فسلموا عليه وفرحوا بذلك، فقال لهم: إنما ذلك من الشيطان، فأنزل الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ﴾ [الحج:٥٢] الآيات)، فهذه رواية أخرى تثبت أن النبي ﵊ قال ذلك سهوًا.
وفي رواية: لما أنزل الله سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه على ما هم عليه، ولكن لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا، أي: يعيب آلهتنا بما لا يعيب بمقداره ونسبته دين اليهود والنصارى، وكان النبي ﵊ يسب آلهتهم ويشتمها.
وكان النبي ﵊ اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنته ضلالتهم، فكان يتمنى كف أذاهم، وعند ابن كثير: يتمنى هدايتهم، فلما أنزل الله سورة النجم، قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم:١٩ - ٢٠] ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت، فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى، فكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وزلقت بها ألسنتهم وتباشروا بها، وقالوا: إن محمدًا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلما بلغ رسول الله ﷺ: ﴿وَالنَّجْمِ﴾ [النجم:١] سجد وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة عند المهاجرة الأول، فأنزل الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ﴾ [الحج:٥٢] الآيات، فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعدوانهم على المسلمين مرة أخرى، واشتدوا عليهم أكثر من شدتهم أولًا.
2 / 8
رواية أبي العالية في قصة الغرانيق
هذه رواية أخرى عن أبي العالية قال: قالت قريش لرسول الله ﷺ: إنما جلساؤك عبيد بني فلان، أي: أصحابك يا محمد! عبيد وصعاليك -فقراء- ليسوا من علية القوم، بل هم من أسافل القوم وموالي بني فلان، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك، فإنه يأتيك أشراف العرب، فإذا رأوا جلساءك من أشراف قومك كان أرغب لهم فيك، فألقى الشيطان في أمنيته، فنزلت هذه الآيات: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم:١٩]، فأجرى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى، مثلهن لا ينسى.
قال: فسجد النبي ﵊ حين قرأها وسجد معه المسلمون والمشركون، فلما علم الذي أجري على لسانه كبر ذلك عليه؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ﴾ [الحج:٥٢] الآيات.
2 / 9
رواية محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس في قصة الغرانيق
وفي رواية محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس قالا: (جلس رسول الله ﷺ في ناد من أندية قريش كثير أهلها، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه) -يعني: النبي ﵊ يحابي المشركين، ويتمنى على الله ألا ينزل في هذا الموطن شيء يعيب آلتهم؛ لأن هذا أمر يؤذي المشركين، فيحابي المشركين على حساب غضب ربه وعلى حساب نزول وحيه! كلام عجيب وغريب، بل كلام في غاية النكارة والشذوذ، (فأنزل الله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم:١ - ٢]، فقرأها رسول الله ﷺ حتى إذا بلغ: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم:١٩ - ٢٠]، ألقى الشيطان عليه كلمتين: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فتكلم بها ثم مضى، حتى أتم السورة إلى آخرها، وآخرها سجدة، فلما سجد النبي ﵊ سجد كل من كان في هذا الناد من مسلم ومشرك، ومعنى الناد، أي: المكان الذي يجتمع فيه الناس.
قالا: ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته فسجد إليه، وكان شيخًا كبيرًا كافرًا، فمس التراب جبهته مخافة أن تنزل صاعقة من السماء فتجتاح الجميع، فخاف من ذلك، خاصة وأن الله تعالى بين في هذه السورة أنه أهلك عادًا الأولى وثمود فما أبقى، فخافوا ألا يسجدوا أن تنزل عليهم صاعقة من السماء فتهلكهم، فسجدوا جميعًا إلا الوليد بن المغيرة، رفع حصى أو ترابًا، وقيل: كذلك فعل ابن أحيحة، ومنهم من يقول: بل الذي فعل ذلك فقط الوليد بن المغيرة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقاهما الشيطان عليه قال -أي جبريل-: ما جئتك بهذا، اعرض علي.
قال: ما جئتك بهاتين، فقال النبي ﵊: افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل! فشق ذلك عليه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ﴾ [الإسراء:٧٣] إلى قوله: ﴿ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء:٧٥] فما زال مغمومًا مهمومًا حتى نزل قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾ [الحج:٥٢] الآيات، فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم؛ لأنهم سجدوا فظنوا أن هذا السجود إسلام، خاصة أن الشيطان أوحى إليهم هذا حتى سار الخبر إلى أرض الحبشة، ففرح بذلك المهاجرون الأول الذين هاجروا إلى النجاشي في أرض الحبشة، وقالوا: إذا كان أهل مكة جميعًا أسلموا فما قيمة بقائنا في أرض الحبشة؟ فرجعوا إلى مكة، فإذا بالمشركين قد رجعوا إلى ما كانوا عليه من عناد وشرك وإلحاد وكفر، حيث رجع المهاجرة إلى عشائرهم وقالوا: هو أحب إلينا -أي: البقاء في مكة أحب إلينا من البقاء في الحبشة- فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله تعالى ما ألقى الشيطان.
وفي رواية: فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاغوا له -أي: فاستمعوا له بإنصات شديد- والمؤمنون يصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربه، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل؛ لأنه معصوم من ذلك.
2 / 10
رواية قتادة بن دعامة في قصة الغرانيق
في رواية قتادة بن دعامة السدوسي البصري: أن النبي ﵊ كان يتمنى ألا يعيب الله آلهة المشركين، فألقى الشيطان في أمنيته: إن الآلهة التي تدعى، إن شفاعتهن لترتجى، وإنها للغرانيق العلى، فنسخ الله ذلك وأحكم الله آياته بقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم:١٩] حتى بلغ: ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم:٢٣].
قال قتادة: لما ألقى الشيطان ما ألقى قال المشركون: قد ذكر الله آلهتكم بخير، ففرحوا بذلك، فذكر الله تعالى قوله: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الحج:٥٣].
وفي رواية: بينما رسول ﵊ يصلي عند المقام.
أي: عند مقام إبراهيم.
وانظروا إلى اختلاف هذه الروايات: مرة وهو يصلي، ومرة وهو ساه، ومرة على لسانه وهو متيقظ، وغير ذلك من اختلاف الروايات التي تدل على بطلان القصة من أساسها.
فألقى الشيطان على لسانه كلمة فتكلم بها وتعلق بها المشركون، فقال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم:١٩ - ٢٠] حتى ألقى الشيطان على لسانه: وإن شفاعتهن لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلى، فحفظها المشركون، وأخبرهم الشيطان أن نبي الله قد قرأها، فزلت بها ألسنتهم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ﴾ [الحج:٥٢] الآيات، فدحض الله الشيطان ولقن نبيه حجته.
وفي رواية: لما عاتبه جبريل قال ﵊: (أطعت الشيطان وتكلمت بكلامه وشركني في أمر الله) وغير ذلك من كلمات الندم التي قالها النبي ﵊.
وغير ذلك أيها الإخوة الكرام! من روايات هذه القصة العجيبة وهي كثيرة.
مفاد هذه الروايات: أن النبي ﵊ ضحك عليه إبليس اللعين بأن أدخل في القرآن ما ليس منه، وأن النبي ﵊ استجاب له في ذلك وأدخل في القرآن كذلك ما ليس منه.
2 / 11