The Core in Parsing Al-Busiri's Poem
العمدة في إعراب البردة قصيدة البوصيري
پژوهشگر
عبد الله أحمد جاجة
ناشر
دار اليمامة للطباعة والنشر
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢٣ هـ
محل انتشار
دمشق
ژانرها
تقديم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تعدّ حركة إحياء التراث في حياة الأمم والشعوب تعبيرا حيا مصمّما للحفاظ على قيم الجماعة وفكرها، وتأكيد أصالتها واستمرار وجودها.
وقد عرف التراث العربي مثل هذه الحركة الحية غير مرة في تاريخه الطويل، كان آخرها ما يشهده العالم في هذا منذ نحو قرن من الزمان.
ومن عجب أن هذا المدّ الزاخر من إقبال الأجيال المتلاحقة على تحقيق نصوص التراث العربي والإسلامي لم تهدأ فورته، ولم تخمد شعلته ... بل زادها تعاقب الأعوام وعقودها قوة وصلابة ونضجا، وغدا أبناؤها يقبلون عليها بوعي كامل، وإيمان عميق بأن كل نص تراثي يخرج إلى النور إنما يؤدي غرضا متعدد الجوانب ... إذ يكشف عن جانب متفوق فيما غبر من حضارة الأمة من جهة، ويشكل لبنة قوية تأخذ مكانها في صرح هذه الحضارة الشامخ فتسهم بدورها في سموه ورسوخه من جهة أخرى، كما تعد شعاعا ساطعا يضيء للأجيال طريق المستقبل المتصل الحلقات بالماضي العريق بعد ذلك.
ومما يسعد النفس ويبقي على نضارة الامال؛ أن نجد هذا الميدان التراثي الأصيل تمور في جنباته همم عليمة شابة، وكان المظنون لدى بعض أهل العلم أنه قاصر على علم الشيوخ في طول صبرهم ومعاناتهم.
1 / 5
غير أن الأمر تجاوز هذا التصور المحدود، وأقبلت جموع الشباب المتخصص على هذه التركة الجليلة من أسفار التراث العربي الإسلامي، بعلومه المتنوعة، وفنونه المتشعبة، تنتخب من أصداغها الدرر الثمينة وتنشرها على العالم باهرة متقدمة، لتكون الأساس المتين الذي يرتفع عليه بناء الأمة المجيد وحضارتها التليدة المتجددة.
وقد نهضت أقسام الدراسات العليا ورسائلها لنيل الدرجات العلمية بقسط وافر من هذه المهمة الدقيقة الشاقة ... غير أن الذين أقدموا على هذا العمل من غير هذه الفئة كثيرون، يحدوهم إلى هذا إيمان صادق بجلال الطريق وسمو المقصد ... فجعلوا التوغل في شعاب التحقيق شغلهم في أوقات الراحة، وراحتهم عند الكلال والعناء ... فهم يستعذبون من هذا العناء ما تسمو به هممهم وعقولهم، وتنتشي بالإسهام به مشاعرهم وأرواحهم إذ يقدّمون إلى الأجيال الصاعدة جرعة سائغة من جهود أجيال البناء السالفين.
وممن يعدّ في هؤلاء العاملين المخلصين؛ محقق هذا الأثر النفيس عبد الله الجاجة بعد تخرجه في قسم اللغة العربية بجامعة حلب؛ فقد هداه ميله الغلاب إلى النحو والصرف إلى اختيار مخطوط «العمدة في إعراب البردة» .
وما الإعراب سوى شرح للمعنى بمصطلحات نحوية، بل إنه تتبع للطائف المعاني متوسلا بشعاع الإعراب النحوي.
أما المتن محور عناية الإعراب؛ فهو أثر شعري باهر من تراث القرن السابع الهجري، إنه بردة البوصيري ذات الشهرة الذائعة والمعارضات الكثيرة عبر العصور، حتى لم يخل عصر من إمام يعارض قصيدة البردة هذه ...
فالأثر نفيس في متنه، وشرحه، ومعارضاته وإعرابه.
وأما صاحب الإعراب؛ فالراجح أنه أحد أبرز أعلام القرن الثامن أو التاسع الهجري، ولا يضيره أن يسقط اسمه من يد الزمان فقد عوّض من ذلك هذا
1 / 6
العمل نفسه في غزارة علمه، وسداد منهجه، وعموم نفعه، وامتداد تأثيره ... فكان ممن تأثر به العلامة بدر الدين الغزي ٩٠٤- ٩٨٤ هـ.
والعلامة الباجوري ت (١٢٧٦) هـ صاحب (حاشية الباجوري على البردة) وأحد أعلام القرن الثالث عشر الهجري.
فقد احتذى عالمنا معرب البردة في جملة ما صنع وكثير من تفصيله، إذ عمد إلى شرح البردة وإعرابها مقتبسا مواقف من الشرح، ووجوها كثيرة من الإعراب، مما تتبدّى الإشارة إليه في حواشي التحقيق.. وفي ذلك شهادة من أحد أعيان العلماء على رفعة ما قدمه ذلك الجندي «المجهول» في عمله الذي يقدمه المحقق لقراء العربية وعارفي مكانة النحو، عسى الله أن ينفع به.
والحمد لله رب العالمين.
اد. محمد علي سلطاني
1 / 7
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقدمة
إنّ تراث الأمة جزء أصيل من كيانها ووجودها، وبإحيائه وابتعاثه تتسامى في مشارف المجد والحضارة، ونحن العرب نملك من التراث في صنوف العلم والمعرفة تركة كبيرة خلّفها لنا آباؤنا وعلماؤنا الأوائل، وتشتد حاجتنا إلى إحياء هذا التراث محققا على أسس علمية قويمة لتعم به الفائدة الكبيرة التي تعود على أيدي الطلاب الدارسين والباحثين بالمنفعة العظيمة.
ومن أهم العلوم العربية التي اهتم بها العرب والمسلمون على مر العصور، علم النحو والصرف، لما له من الأثر العظيم في تقويم اللسان، وصيانة اللغة، وفهم معاني الشعر، وتوجيه معاني القرآن الكريم ومعرفة الحديث الشريف، فيكون استنباط الأحكام منهما على نحو سديد.
وهذا العلم ينمو ويتزايد، وتتشعب فيه الاراء وتختلف المذاهب، وتعقد له المناظرات في الكوفة والبصرة وبغداد وفي الشام ومصر والقيروان وبلاد الأندلس وغيرها من العواصم العربية.
وإن للشعر العربي دورا كبيرا في إعطاء صورة واضحة عن حياة العرب والمسلمين منذ الجاهلية حتى يومنا هذا؟
1 / 8
ومن أجل الدراسات القرآنية والشعرية تعددت المناظرات، واحتدم النقاش وكثر الجدل، وفاضت كتب النحو بمعين لا ينضب من هذه المناظرات والمناقشات، وقصيدة «البردة» للبوصيري من أهم القصائد الشعرية في المديح النبوي، فهي مصدر وحي لكثير من القصائد التي أنشئت بعد البوصيري في مدح الرسول، ومن جوانب الأهمية في قصيدة البردة شراحها من علماء العربية البارزين وفي شروحهم من الفوائد النحوية، والصرفية، والبلاغية، واللغوية، والأدبية والتاريخية، الشيء الكثير.
وإنني أشكر أستاذنا الدكتور محمد علي سلطاني على جهده في مراجعته لمتن المخطوط وتقديمه له وقد عملت بتعاليمه وإرشاداته، فله مني جزيل الشكر.
وترجع صلتي بموضوع هذه الرسالة بعدما تخرجت في جامعة حلب عام ١٩٧٩. وكنت أنوي متابعة الدراسات العليا في جامعة دمشق، وفي عام ١٩٨٢ سافرت خارج القطر إلى الكويت للتدريس في مدارسها.
دمشق- الكسوة
1 / 9
المخطوط
قمت بتصوير المخطوط من المكتبة الظاهرية بدمشق، وعدد أوراقه سبع وعشرون ورقة. تحت (٨٤٥٣) .
وصف مخطوط العمدة في إعراب البردة. كما جاء في فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية علوم اللغة العربية (النحو) «١» .
حاول مؤلفها المجهول أن يعرب جميع أبيات البردة التي نظمها الشاعر:
(شرف الدين أبو عبد الله البوصيري) ٦٩٦/ هـ في مدح الرسول ﷺ، ويبين غريب ما تيسر من لغاتها، ويضبط ما أشكل من ألفاظها ليسهل تناولها على حفاظها.
أول المخطوط بعد البسملة: «الحمد لله الذي رفع قدر من اختاره من عباده واصطفاه، ونصب الدليل على وحدانيته فليس لنا إلاه ... الخ» .
وآخره قوله: «... بالنغم، بفتح النون والغين المعجمة: جار ومجرور متعلق بأطرب والباء للاستعانة» يلي ذلك تاريخ الفراغ من النسخ الاثنين ١١ ذي القعدة سنة ١١٧٩ هـ، فاسم الناسخ: عبد الله الغبيط الشافعي» ولم يذكر مكان النسخ.
_________
(١) وضعته: أسماء الحمصي. دمشق ١٣٩٣ هـ- ١٩٧٣ م.
1 / 10
تقع النسخة في (٢٧) ورقة، كتبت بالسواد بخط معتاد معجم خال من الشكل مقروء، عبارات الأصل بالحمرة، ترك لها هامش بعرض (٤ سم) عليه تصويبات.
على الورقة الأولى قيد تملك باسم محمود بن عبد المحسن الحسيني الموقع في (١٤) شعبان سنة ١٢٨١ هـ.
٢٧ ق ٢٧ س ٥ ٢١* ١٦ سم
الرقم ٨٤٥٣
_________
قارنت بين هذه المخطوطة وبين شرح البردة للشيخ خالد بن عبد الله الأزهري رحمة الله (٩٠٥) هـ.
وحاشية الباجوري على البردة (١١٩٨- ١٢٧٦) هـ.
والزبدة في شرح البردة تأليف بدر الدين محمد الغزي (٩٠٤- ٩٨٤) هـ وسوف نبين مدى تأثر الغزي (بالعمدة في إعراب البردة) وأيضا الباجوري، وبالنسبة إلى شرح البردة للأزهري. نجد بأن معرب العمدة، أما بأنه أخذ هو والأزهري من مصدر واحد. أو أن الأزهري أخذ من معرب العمدة وذلك لأننا نجد أن الأزهري قد زاد في إعراب البردة بشرحها شرحا موجزا.
ولدى المقارنة بين العمدة، وإعراب الأزهري نجد التشابه الكبير بينهما إلى حد التطابق في النواحي الإعرابية واللفظية، والأزهري يأخذ بكثير من كلام المعرب.
وإن (بدر الدين محمد الغزي) ٩٠٤- ٩٨٤ هـ قد تأثر بصاحب العمدة وأخذ عنه.
1 / 11
الدراسة
1 / 13
ترجمة البوصيري
البوصيري: هو محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله بن صنهاج، كان أحد أبويه من (أبو صير) والاخر من (دلاص) من قرى بني سويف، فركبت له منهما نسبه، وقيل: (الدلاصيري) لكنه اشتهر بالبوصيري، وكان يعاني صناعة الكتابة والتصرف، ويباشر الشرقية ببلبيس «١» ودرس العلوم الدينية، وشيئا من النحو والصرف والعروض والسيرة النبوية، ودرس التصوف وآدابه.
والبوصيري شاعر مصري ظريف من شعراء القرن السابع الهجري، تجري في شعره النكت المستملحة، وله في شكوى حاله والتذمر من الموظفين قصائد لا تخلو من ذكاء، وفي شعره وصف للحالة الاجتماعية في عصره، وأحسبه من الصادقين، فهو يذكر أن الموظفين كانوا يسرقون الغلال، وأنهم لولا ذلك ما لبسوا الحرير، ولا شربوا الخمور، وأن من الكتاب طائفة تنسكت وعدت من الزهاد مع أنها تملأ بطونها بالسحت، وتأكل مال الأيتام، ويذكر أن القضاة خانوا الأمانة، وبرروا خيانتهم بتأويل القرآن والحديث، ويذكر أن المسلمين والأقباط كانوا مختلفين، فكان المسلمون يقولون: لنا بمصر حقوق، ونحن أولى الاخذين، وكان القبط يقولون: نحن ملوك مصر، ومن سوانا هم الغاصبون، وكان اليهود يستحلون مال الطوائف أجمعين.
_________
(١) [راجع فوات الوفيات] ولد البوصيري في دلاص) سنة ٦٠٨ توفى بالإسكندرية سنة ٦٩٧ وله قبر مشهور في الاسكندرية يتصل به مسجد كبير تدرس به العلوم الدينية.
1 / 15
فدعاه ذلك إلى دراسة الإنجيل والتوراة دراسة دقيقة، كما درس تاريخ ظهور المسيحية ثم أخذ يرد على أصحاب هذه الديانات «١» .
ويقول في إحدى قصائدة ينتقد الموظفين «٢»:
نقدت طوائف المستخدمينا ... فلم أر فيهمو حرّا أمينا
فكم سرقوا الغلال وما عرفنا ... بهم فكأنهم سرقوا العيونا
ولولا ذاك ما لبسوا حريرا ... ولا شربوا خمور الأندرينا
تنسك معشر منهم وعدّوا ... من الزّهّاد والمتورّعينا
ويقول في الطوائف:
يقول المسلمون لنا حقوق ... بها ولنحن أولى الاخذينا
وقال القبط نحن ملوك مصر ... وإن سواهمو هم غاصبونا
وحلّلت اليهود بحفظ سبت ... لهم مال الطوائف أجمعينا
* ويرجع شهرة هذه القصيدة إلى ما فيها من التنديد بالموظفين، والناس يبغضون الموظفين حين يعرفون بالطمع والاستبداد، ولها قيمة تاريخية، فيه شاهد على اختلاف الطوائف في مصر، وهي شاهد على عيوب الإدارة في ذلك الحين.
* ومن شعر البوصيري فيما يجري مجرى الدعابة قوله في الحديث عن جارية راودها عن نفسها فأنكرت عليه الشيب والضعف.
كيف أعصي الهوى وطينة قلبي ... بالهوى قبل آدم معجونه
سلبته الرقاد بيضة خدر ... ذات حسن كالدرة المكنونه
قلت لا بدّ أن تسيري إلى الدا ... ر فقالت عسى: أنا مجنونه
* وعن سبب وضعه للبردة قال: «كنت قد نظمت قصائد في مدح
_________
(١) مقدمة الديوان، ص ٧.
(٢) هذه القصة ذكرها صاحب فوات الوفيات من قصيدة طويلة.
1 / 16
رسول الله ﷺ منها ما كان اقترحه علي (الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير)، ثم اتفق بعد ذلك أن صاحبني فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه فعملتها، واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت، ونمت، فرأيت النبي ﷺ، فمسح وجهي بيده المباركة وألقى عليّ بردة. فانتبهت ووجدت فيّ نهضة فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحدا فلقيني بعض الفقراء، فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله فقلت: أيّها؟ فقال التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولها وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله ﷺ، ورأيت رسول الله يتمايل وأعجبته، وألقى على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها، وذكر الفقير ذلك وشاع المنام» .
* وفي هذه القطعة دلالة على عقلية البوصيري: فهو رجل فيه طيبة وسذاجة كأكثر الصوفية، فليس من المعقول أن يبرأ مريض من مرضه لاية يتلوها أو قصيدة ينشدها كما برىء البوصيري بقصيدته، ولو مرض مفتي الديار المصرية- لا سمح الله- ما استغنى بالبردة عن الطبيب.
ولعل حكاية البوصيري هذه هي سبب ما سار بجانب البردة من الخرافات، فقد ذكر بعض الشراح، لكل بيت من أبياتها فائدة: فبعضها أمان من الفقر، وبعضها أمان من الطاعون! وهذا النوع من الغافلة قديم «١» فقد كان الزمخشري يذكر شيئا من مثل هذا عن سور القرآن، ونلاحظ كذلك «ﷺ» خمس مرات في هذه الفقرة القصيرة وتكرار الصلاة على النبي كلما ذكر اسمه من وساوس المتأخرين.
وقد زاد البوصيري على ذلك في القصيدة «المضرية» فهو يدعو الله أن يصلي على النبيّ وشيعته وصحبه عدد الحصى والثرى والمدر، وعدد نجم السماء،
_________
(١) المدائح النبوية زكي مبارك ص ١٧٩.
1 / 17
ونبات الأرض، وعدد وزن مثاقيل الجبال، وقطر جميع الماء والمطر، وما حوت الأشجار من ورق وعدد الجن والأنس، والأفلاك وعدد الذر والنمل والحبوب، والشعر والصوف والريش والوبر.
وعدد ما أحاط به العلم المحيط، وما جرى به القلم والقدر، وعدد نعم الله على الخلائق مذ كانوا، ومذ حشروا، وعدد ما كان في الأكوان، وما يكون إلى يوم البعث وتكون هذه الصلاة بهذا التحديد.
في كلّ طرفة عين يطرفون بها ... أهل السموات والأرضين أو يذروا
ملء السموات والأرضين مع جبل ... والفرش والعرش والكرسي وما حصروا
ما أعدم الله موجودا وأوجد معدو ... ما صلاة دواما ليس تنحصر
تستغرق العدّ مع جمع الدهور كما ... تحيط بالحد لا تبقي ولا تذر
* وهذا النمط من الصلاة على النبي لم يكن معروفا في صدر الإسلام، وإنما هو تصرف من غلاة الصوفية أمثال صاحب «دلائل الخيرات» «١» .
* ومنام البوصيري كانت له أطياف في ذهن الصوفية، فقد استحبوا أن يقرأ المرء هذا البيت.
مولاي صلّ وسلم دائما أبدا ... على حبيبك خير الخلق كلهم
بعد كل بيت من أبيات البردة.
وذكروا أن الغزنوي كان يقرؤها في كل ليلة ليرى النبي في منامه، فلم تتيسر له الرؤيا، فشكا ذلك إلى شيخ كامل فقال له: لعلك لا تراعي شرائطها؟
فقال: لا، بل أراعيها، فراقبه الشيخ ثم قال له: إنك لا تصلي بالصلاة التي كان يصلي بها الإمام (البوصيري) على النبي ﷺ وهي قوله: مولاي صل وسلم.....
قالوا: وحكمة اختياره هذا البيت دون غيره أنه ﵀ لما أنشأ هذه
_________
(١) المدائح النبوية ص ١٨٠.
1 / 18
القصيدة رأى النبي في المنام، فأنشدها بين يديه، فكان يتمايل طربا كتمايل الأغصان، فلما انتهى إلى قوله:
«فمبلغ العلم فيه أنه بشر..» .
لم يقدر على تكميل البيت، فقال له ﵊: اقرأ، فقال إني لم أوفق للمصراع الثاني يا رسول الله فقال له الرسول قل: «وإنه خير خلق الله كلهم» .
فأدرج البوصيري هذا المصراع الذي قاله النبي في البيت المتقدم، وجعله صلاة مكررة بعد كل بيت حرصا على لفظ النبي ﵇.
وهذه المنامات تعليلها سهل، فحب البوصيري للرسول خلق منه قيثارة نبوية وإيمان الصوفية بعظمة البوصيري بالإضافة إلى قصيدته، وجّه أحلامهم إلى تصور الرسول في المنام بفضل الإكثار من تلاوة البردة مصحوبة بتلك الصلاة.
والبردة لا تمكن كل إنسان من الكرامات، وإنما تنفعل النفس بما تؤمن به في صدق وإخلاص، فتمثل الغرائب والأعاجيب.
وكذلك كانت البردة عند بعض الناس مفتاحا للمثول بين يدي الرسول، ورؤيا النبي حق: عند الصوفية، وعند الفقهاء.
1 / 19
عناصر البردة
١- قصيدة البردة من القصائد الطوال، وأغلب الظن عندي أن البوصيري استأنس عند نظمها بميمية (ابن الفارض) . ودليل ذلك تشابه المطلعين، فإن مطلع قصيدة ابن الفارض «١»:
هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم ... أم بارق لاح في الزّوراء فالعلم
أرواح نعمان هلّا نسمة سحرا ... وماء وجرة هلّا نهلة بفم
ومطلع قصيدة البوصيري:
أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
أم هبّت الرّيح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظّلماء من إضم
فذو سلم، وهبوب الريح، وإيماض البرق: مما اشترك فيه الشاعران مع وحدة الوزن والقافية، يضاف إلى ذلك أن ابن الفارض قال:
يا لائما لامني في حبّهم سفها ... كفّ الملام فلو أحببت لم تلم
فتابعه البوصيري فقال:
يا لائمي في الهوى العذري معذرة ... مني إليك ولو أنصفت لم تلم
كما تابع شوقي البوصيري حين قال:
يا لائمي في هواه والهوى قدر ... لو مسك الشوق لم تعذل ولم تلم
_________
(١) المدائح النبوية ص ١٨٣.
1 / 20
وقال ابن الفارض:
طوعا لقاض أتى في حكمه عجبا ... أفتى بسفك دمي في الحل والحرم
أصم لم يسمع الشكوى وأبكم لم ... يحر جوابا وعن حال المشوق عمي
فدار البوصيري حول هذا المعنى إذ قال:
عدتك حالي لا سري بمستتر ... عن الوشاة ولا دائي بمنجسم
محضتني النصح لكن لست أسمعه ... إن المحب عن العذال في صمم
٢- وتشمل البردة على عدة عناصر:
١- ففي صدرها النسيب.
٢- ويليه التحذير من هوى النفس.
٣- ثم مدح الرسول.
٤- والكلام عن مولده ومعجزاته.
٥- ثم القرآن.
٦- الإسراء والمعراج.
٧- والجهاد.
٨- ثم التوسل والمناجاة.
* وأما أثرها في التأليف، فيظهر فيما وضع لها من الشروح «١»، فقد شرحها ابن الصائغ المتوفى سنة ٧٧٦ وشرحها علي بن محمد القلصايّ- بفتحات- المتوفى سنة ٨٩١، وشرحها شهاب الدين بن العماد المتوفى سنة ٨٠٨ وشرحها الشيخ خالد الأزهري المتوفى سنة ٩٠٥، وشرحها علاء الدين البسطامي المتوفى سنة ٨٧٥ وشرحها يوسف بن أبي اللطف القدسي المتوفى بعد الألف للهجرة. وشرحها يوسف البسطامي من علماء القرن التاسع،
_________
(١) انظر المدائح النبوية ص ١٩٦.
1 / 21
وشرحها ملّا علي المتوفى سنة ١٠١٤ وشرحها شيخ زاده محي الدين.
ولكن أقدم نسخة من شرحه يرجع تاريخها إلى سنة ٩٤٩ وشرحها جلال الدين المحلى المتوفى سنة ٨٦٤، وشرحها محمد بن أحمد المرزوقي المتوفى سنة ٨٨١. وشرحها عبد الحق بن عبد الفتاح من علماء القرن الثاني عشر وشرحها زكريا الأنصاري المتوفي سنة ٩٢٦ وشرحها عمر الخرنوبي من علماء القرن الثالث عشر. وشرحها القسطلاني المتوفي سنة ٩٢٣ وهو شارح البخاري وشرحها محمد بن مصطفى المدني من علماء القرن الثاني عشر.
د وشرحها محد عثمان المير غني من علماء القرن الثالث عشر، وشرحها الشيخ حسن العدوي الحمزاوي المتوفى سنة ١٣١٣.
وشرحها الباجوري المتوفى سنة ١٢٧٦.
وفي دار الكتب المصرية شروح أخر لم يعرف مؤلفوها.
ولأكثر هذه الشروح أسماء شعرية، والبردة نفسها سماها المؤلف «الكواكب الدرية في مدح خير البرية» .
وعند النظر في هذه الشروح نراها مجموعات نفيسة تزخر بالفقرات اللغوية والأدبية والتاريخية، وشغل هؤلاء الشراح بالأدب واللغة والتاريخ ويرجع الفضل فيه إلى تصوف ذلك الشاعر المجيد.
* وأما أثرها في الدرس، فيتمثل في تلك العناية التي كان يوجهها العلماء الأزهريون إلى عقد الدروس في يومي الخميس والجمعة لدراسة «حاشية الباجوري على البردة» .
وهي دروس كانت تتلقاها جماهير من الطلاب، ويتخيرون لها أوقات الفراغ.
* وأما أثر البردة في الشعر والشعراء، فعظيم جدا، فقد ضمنوها، وشطروها، وخمسوها، وسبعوها، وعشروها، وعارضوها.
1 / 22
ومن الذين ضمنوها الشيخ قاسم (ولم نقف له على ترجمة):
أمن تذكّر أوطان على علم ... أم من تفقّد جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى كالقطر منهمرا ... يجري على وجنة من مقلة بدم
ومن الذين شطروها- أحمد بن شرقاوي الخلفي- نسبة إلى قرية يقال لها:
الخليفة ملاصقة لمدينة جرجا، وبها توفي في سحر ليلة الجمعة التاسع عشر من شهر ذي القعدة سنة ١٢٥٠ وأول التشطير.
أمن تذكّر جيران بذي سلم ... أصبحت ذا خلد بالوجد مصطلم
أم من تفتّت قلب في الحشا شغفا ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وأحمد بن عبد الوهاب الجرجاوي المتوفي سنة ١٢٥٤ وأول التشطير:
أمن تذكر جيران بذي سلم ... تصبّب الدمع يجري حاكي الدّيم
وأحمد بن عثمان العوامي المدفون بجرجا (ولم يعلم تاريخ وفاته) وأول التشطير:
أمن تذكر جيران بذي سلم ... جزمت أنك مقصور على الألم
وعند ما هاجت الذكرى ولوعتها ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
ورمضان حلاوة، من علماء آخر القرن الثالث عشر، وأوائل الرابع عشر، وأول تشطيره:
أمن تذكر جيران بذي سلم ... لبست ثوبا من الأشواق والألم
أم من عيون ظباء بالعقيق بدت ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وأبو الهدى الصيادي، وأحمد الحفظي، وعبد الرحيم الجرجاوي، ومحمد فرغلي الطهطاوي، وشطرها أخيرا سعادة عبد العزيز بك محمد.
ومطلع تشطيره:
أمن تذكر جيران بذي سلم ... فاضت شؤونك ملتاعا لبينهم
أم من فؤادك مكلوما لوحشتهم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
1 / 23
وقد نالته بركتها فعين وزيرا للأوقاف «١»، ولعله يخمسها فيعين رئيسا للوزراء.
وأما الذين خمسوها فهم كثيرون، وفي دار الكتب المصرية مجموعة في تخاميس البردة تشتمل على تسعة وستين تخميسا، ومن أمثلة ذلك قول ناصر الدين الفيومي:
ما بال قلبك لا ينفك ذا ألم ... مذبان أهل الحمى والبان والعلم
وانحل مدمعك القاني بمنسجم ... أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
ولكن لا بد من التنبيه إلى أن الذين خمسوا البردة لم يكونوا جميعا مصريين ففيهم رجال من المغرب والشام والعراق، وفي هذا ما يدل على أنها شغلت الشعراء في أكثر الأقطار العربية.
* ومن الذين سبعوها: شهاب الدين أحمد بن عبد الله المكي، وقد التزام في كل تسبيع لبيت من أبيات البردة أن يذكر لفظ الجلالة، وأول التسبيع:
الله يعلم كم في القلب من ألم ... ومن غرام بأحشائي ومن سقم
على فراق فريق حلّ في الحرم ... فقلت لما همى دمعي بمنسجم
على العقيق عقيقا غير منسجم ... أمن تذكر جيران بذي سلم
وسبعها: محمد المصري، وهو من شرّاح البردة، والتزام في التسبيع أن يذكره أوّلا مصدّرا بلفظ (محمد) . كقوله في المطلع.
محمد جاء بالايات والحكم ... مبشرا ونذيرا جملة الأمم
وهو معارضة (للمكي) الذي التزام لفظ الجلالة في أول تسبيع لكل بيت.
* وأما الذين عارضوا البردة، فيعدون بالعشرات، وإن جميع المدائح النبوية التي جاءت بعد البوصيري على الوزن والقافية كان أصحابها مسوقين
_________
(١) المدائح النبوية في الأدب العربي ص (٢٠٢) .
1 / 24
بالروح البوصيرية، وأشهر من عارضها أخيرا الشاعر محمود سامي البارودي الذي سمى قصيدته: «كشف الغمة في مدح سيد الأمة» وعدد أبياتها ٤٤٧ بيتا.
والمطلع:
يا رائد البرق يممّ دارة العلم ... واحد الغمام إلى حيّ بذي سلم
وعارضها: الشاعر: أحمد شوقي، وسمى قصيدته (نهج البردة) وقد نظمها في ١٣٢٧ هـ ومطلعها.
ريم على القاع بين البان والعلم ... أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم
* مات البوصيري سنة ٦٩٦ هـ. وبعد موته بسنتين ولد أبو عبد الله محمد بن أحمد المعروف بابن جابر الأندلسي. وكان ضريرا، ورحل إلى المشرق، فدخل مصر والشام، واستوطن حلب ثم رجع إلى الأندلس، فتوفي في البيرة في جمادى الآخرة سنة ٧٨٠ هـ «١» .
وقد افتتن ابن جابر بقصيدة البردة وظهر أثرها في شعره.
وشغل نفسه بمعارضتها، ولكن أيّ معارضة؟ لقد ابتكر فنا جديدا هو «البديعيات» وذلك أن تكون القصيدة في مدح الرسول، ولكن كل بيت من أبياتها يشير إلى فن من فنون البديع» «٢» .
ومطلع هذه البديعية:
بطيبة انزل ويممّ سيّد الأمم ... وانشر له المدح وانثر أطيب الكلم
ووضع (صفي الدين الحلي) المتوفي سنة (٧٥٠ هـ) بديعته (الكافية البديعية في المدائح النبوية) على بحر البسيط وعلى روي الميم المكسورة ومطلعها.
_________
(١) انظر ترجمة ابن جابر في نفخ الطيب ج ١ ص ٩١٦- ٩١٨، وانظر الكلام على شارح بديعيته في ص ٩٢٣- ٩٢٥ من نفح الطيب.
(٢) المدائح النبوية في الأدب العربي ص ٢٠٤- ٢٠٥.
1 / 25
إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... واقر السّلام على عرب بذي سلم «١»
وأنشأ (عز الدين الموصلي) المتوفي سنة ٧٨٩ قصيدة بديعية لمعارضة (الحلي) أسماها «التوصل بالبديع، إلى التوسل بالشفيع» .
وجاء العلامة: تقي الدين أبو بكر ابن حجة الحموي. المتوفى سنة ٨٣٧ هـ وصرح بمعارضة، صفي الدين الحلي، وعز الدين الموصلي معا «٢»، ووضع شرحا مطولا لبديعيته، أسماه «خزانة الأدب وغاية الأرب» .
وجاء (ابن المقري) المتوفى سنة ٨٣٧ هـ فأنشأ بديعية سماها: «الجواهر اللامعة في تجنيس الفرائد الجامعة للمعاني الرائعة» .
وجاء «السيوطي» فعارض «ابن حجة الحموي» ببديعية سماها: «نظم البديع في مدح خير شفيع» .
واندفع الناس في هذا الفن فللسيدة «الباعونية» بديعيتان، و«لأبي الوفاء بن عمر الفرضي» بديعية. وللسيد عبد الهادي الأبياري بديعية، وللشيخ «طاهر الجزائري» بديعية.
ولابن «خير الله الخطيب العمري» بديعية، ولعبد الغني النابلسي، بديعيتان، و«لقاسم بن محمد الحلبي» بديعية، «لصدر الدين الحسيني» بديعية، و«لشعبان الاثاري» بديعية «٣» .
ولأكثر هذه البديعيات شروح فيها الوسيط والوجيز والمبسوط «٤»، وأكثر هؤلاء الشراح من المتفوقين في العلوم العربية، وفي شروحهم من الفوائد
_________
(١) خزانة الأدب لابن حجة الحموي ج ١ ص ٣٧.
(٢) انظر (البديعيات في الأدب العربي) د. علي أبو زيد.
(٣) جميع هذه البديعيات محفوظة بدار الكتب المصرية، وأكثرها بقسم البلاغة. وقد تكون هناك بديعيات أخرى لم تعرفها دار الكتب المصرية (المدائح النبوية) .
(٤) المدائح النبوية ص ٢٠٧.
1 / 26