The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani

راغب السرجاني d. Unknown
98

The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani

السيرة النبوية - راغب السرجاني

ژانرها

الهجرة إلى الحبشة للمحافظة على الدعوة كانت الوسيلة الجديدة أمام الرسول ﷺ وأصحابه: هي الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء أو استئصال للدعوة. هذه خطوة تكتيكية من رسول الله ﷺ، سبقتها إشارات جاءت في كتاب الله ﷿، فقد أنزل الله ﷿ سورة الزمر، وكان فيها: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:١٠]. إذًا: أرض الله واسعة، وأعظم قطعة في الأرض هي القطعة التي يعبد فيها الله ﷿، لا تفضل قطعة أخرى بأنهار أو أشجار أو أموال أو أهل وعشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض التي يعبد فيها الله ﷿، لذلك فكر المسلمون في ترك أشرف بقعة على الأرض مكة البيت الحرام إلى غيرها؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبدوا الله ﷿ كما يريدون في مكة، فليكن غيرها، المهم أن نعبد الله ﷿ دون أن نفتن في ديننا. والهجرة وترك الديار والعشيرة ليس أمرًا سهلًا، فالقرار صعب، ويحتاج إلى نفوس خاصة، ولابد أن نأخذ في الاعتبار أنهم لا يهاجرون من بلد إلى بلد لتحسين مستوى المعيشة، أو لجمع أموال ليست في بلادهم، أو لتحصيل علم ليس في مدينتهم، أو للحياة في مكان جميل، لا، بل هم يتركون بلادهم وقد استقرت أوضاعهم فيها لولا قضية الدعوة، سيتركونها إلى بلد آخر قد يكون فقيرًا بعيدًا حارًا أو باردًا مجهولًا، كل هذا لا لشيء إلا لعبادة الله ﷿. تخيل بمقياس الحاضر رجلًا يعيش في استقرار في بلد محبوب إلى قلبه، وأوضاعه مستقرة، ثم هو يقرر الهجرة إلى بلد آخر؛ لكي يعبد الله ﷿ بعد أن ضيق عليه في بلده. لو كان سيهاجر إلى بلد أعظم رفاهية وأكثر أموالًا، لكن هذا أسهل، لكن أن يهاجر إلى بلد لا تهفو النفوس إليه عادة، فهو يحتاج إلى جهاد عظيم للنفس؛ ولذلك عظم الله أجر الهجرة عندما تكون في سبيله، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [الحج:٥٨ - ٥٩]. لم يهاجر المؤمنون سعيًا وراء الرزق، ولكن في ظاهر الأمر أنهم سيفتقدون الرزق؛ لأنهم سيتركون أعمالهم ويهاجرون إلى بلد قد لا يتوافر فيه عمل مناسب، فوعدهم الله ﷿ بالرزق الحسن في الجنة، فإنه على أسوأ الفروض في حسابات البشر سيقتل المهاجرون أو يموتون، فالله ﷿ يعد -ووعده الحق- أنهم لو قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقًا حسنًا، بالإضافة إلى أنه قد علم المؤمن أن رزقه في الدنيا لن ينقص، وسيأتيه رغمًا عن أنفه في بلده أو خارج بلده، في ظروف أو في ظروف أخرى ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات:٢٢]. إذًا: نقف وقفة نحلل فيها، ونحاول الإجابة على سؤال هام: هل قرر المسلمون الهجرة للحفاظ على الدعوة أم الدعاة؟ قد تكون الفروق بين الإجابتين طفيفة، لكن عند التدقيق في الأمر نجد أن الفرق كبير جدًا، هل يضحى بالدعوة من أجل الحفاظ على الدعاة، أم يضحى بالدعاة من أجل الحفاظ على الدعوة؟ واقع الأمر أن أهم شيء في حياة المؤمن هو الدين، والمقصد الأول من المقاصد التي جاء الشرع لحمايتها هو الدين، ومن أجله يضحى بكل شيء. إذًا: يبذل المؤمنون أرواحهم للدفاع عن الدين، لكن لا يبذل المؤمنون دينهم للحفاظ على أرواحهم، بل يحض الله ﷿ المؤمنين على بذل أرواحهم حفاظًا على دينهم ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة:١١١]. إذًا: السبب الأول في الهجرة التي قررها رسول الله ﷺ: هو حماية الدعوة، بمعنى أن الرسول ﷺ أراد أن يجعل للدعوة محضنًا آخر غير مكة، بحيث إذا استؤصل الدعاة في مكة تبقى طائفة أخرى في مكان آخر لاستمرار الدعوة. إذًا: لم يكن السبب الأول في الهجرة هو الحفاظ على أرواح الدعاة، وإن كان هذا أمرًا هامًا، ويؤيد هذا الرأي أن الرسول ﵊ قرر أن يهاجر الصحابة رضوان الله عليهم للحفاظ على الدعوة لا على الدعاة، والذين طلب منهم أن يهاجروا كانوا من القرشيين، ولم تطلب الهجرة من الذين كانوا عبيدًا، إنما هاجر القوم الذين يتمتعون بعصبية وقبلية، هاجر الأشراف أصحاب المنعة، ولم يهاجر الموالي والمستضعفون، ولو كان الهدف الأول هو حماية الأرواح لكان الأولى أن يهاجر هؤلاء الضعفاء.

8 / 3