The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani
السيرة النبوية - راغب السرجاني
ژانرها
شغل الناس بالباطل واللهو عن الحق
المرحلة السلمية الرابعة: شغل الناس بالباطل، فمن الصعب على القلب المنشغل بالباطل أن يلتفت إلى دعوة إصلاحية أو إلى دعوة الحق، بل من الصعب على الإنسان الذي غرق في حياة اللهو والتفاهة والانحلال أن يهتم بدعوة جادة.
خطة قديمة لأهل الباطل أن يقدموا للناس فنونًا مختلفة من الملهيات، فلا يكون عندهم وقت ولا عقل ولا قلب لدراسة هذا الدين، التفت إلى هذه الخطة الشيطانية رجل من كفار قريش، تولى ما يسمى بالإعلام المضاد لدين الإسلام، إعلام مضاد بصورة غير مباشرة، هو لم يطعن في دين الإسلام ولم يطعن في الرسول ﷺ مباشرة، لكنه سيقدم للناس مشهيات وملهيات تشغل الناس في يومهم وليلتهم عن الدين، وهذا الرجل هو النضر بن الحارث لعنه الله، وقف يحادث قريشًا عن خطته، فقال: يا معشر قريش! والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثًا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن.
يتكلم وكأنه يدافع عن الرسول ﷺ، ولكنه يكابر.
وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، يا معشر قريش! فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
يقع الذين يصدون الناس عن الدعوات الإصلاحية وبالذات الإسلام في المشكلة الضخمة، وهي أن الدعاة إلى الله ﷿ عادة ما يكونون على صورة طيبة، تفوق بكثير صورة أهل الباطل، من صدق، وأمانة وأدب في المعاملة، ومروءة في الأخلاق، وتفوق في العلم، وحسن في المنطق، فصعب على الناس أن تقبل طعنًا في الداعية، وقد يصعب عليها أيضًا أن تقبل طعنًا في الرسالة؛ لأن الرسالة تتوافق مع فطرة الناس جميعًا.
إذًا: الإلهاء عن الحق كان وسيلة من وسائل الكفر في حرب الإسلام، فماذا فعل النضر بن الحارث، ذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة في العراق يتعلم منها فنًا جديدًا؛ لكي يلهي الناس به؛ يبذل النضر بن الحارث المال والوقت والجهد والفكر للصد عن سبيل الله، ينفق أموالًا ضخمة وميزانيات هائلة لنشر الإباحية والمجون: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ [الأنفال:٣٦].
أخذ النضر بن الحارث يتعلم أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار، أخذ يتعلم أساطير وحكايات وروايات وقصصًا فيها تشويق وإثارة، وفيها جذب للانتباه، وتنشيط للشهوات، وإباحية أحيانًا، وغموض أحيانًا أخرى، وصراع في أحيان ثالثة، ورومانسية في أحيان رابعة، وهزل وضحك وكوميديا في أحيان خامسة، وهكذا سيجد ما يوافق كل ذوق.
ثم عاد النضر بن الحارث بهذا التنوير وبهذا التطور وبهذا الرقي -في زعمه- يرفع الناس في مكة إلى مستوى حضارات الفرس كما يزعم، ثم بدأ في حربه ضد رسول الله ﷺ، إذا جلس رسول الله ﷺ مجلسًا جادًا محترمًا يذكر بالله، ويرغب في جنته، ويرهب من ناره، جلس النضر بن الحارث بالقرب منه يحدث بحديثه الهزلي، ويمتع الناس برواياته، ويقول: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني.
ولم يكتف بذلك النضر، بل اشترى مطربات راقصات، فبدلًا من أن تتخيل الراقصات والمجون في رواياته، فلتشاهده عيانًا بيانًا بنفسك؛ إمعانًا في الإلهاء والتضليل، كلما سمع أن رجلًا مال قلبه إلى الإسلام سلط عليه المطربات والراقصات يلهينه عن سماع كلام الإيمان، وكلما نشط رسول الله ﷺ نشط النضر بن الحارث؛ لأن هناك مواسم يكون فيها نشاط للدعوة، مثل موسم الحج، في هذه المواسم الدينية ينشط النضر بن الحارث في ملهياته، فنزل فيه وفي أمثاله قول الله ﷿: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [لقمان:٦ - ٧].
وهكذا يتواطأ أهل الباطل بهذا المنهج؛ شغل الناس بلهو الحديث، وبالذات في فترات زيادة الإيمان، ولعلنا بذلك نفهم أحداثًا خفيت على بعضنا؛ نفهم مثلًا النشاط الإعلامي الرهيب في شهر رمضان، تكدس ضخم للأعمال الفنية الملهية عن أي شيء جاد في الحياة؛ ملهية عن الدين وغير الدين، برامج حافلة بالفساد، وقنوات تلفزيونية لا حصر لها، وتنوع غير مسبوق فيما يقدم من أفلام، وتمثيليات، ومسرحيات، وأغان، وعروض كلامية، ورياضة، وحكايات، وبرامج ضاحكة، كل هذا في شهر
6 / 11