The Aspiration is the Way to the Top
الهمة طريق إلى القمة
ناشر
دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع
شماره نسخه
الثالثة
سال انتشار
١٤١٥ هـ - ١٩٩٥ م
محل انتشار
جدة - المملكة العربية السعودية
ژانرها
الهَّمة
طريقُ إلى القمَّة
تأليف
د. محمد موسى الشريف
صفحه نامشخص
تمهيد
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن الخافقاتِ لها سكونُ
وإن ولدت نياقُك فاحتلبها ... فلا تدري الفصيلُ لمن يكونُ
قال حكيم من الحكماء:
«لما كنت حدثًا كنت أتصور أن الرعد هو الذي يقتل الناس، فلما كبرت علمت أن البرق هو الذي يقتل، ولهذا عزمت من ذلك الحين على أن أقِل من الإرعاد وأكثر من: الإبراق»
1 / 5
مقدمة الطبعة الرابعة
الحمد لله موفق من شاء بما شاء، والصلاة والسلام على خير الرسل والأنبياء، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه البررة الكبراء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والجزاء، وبعد:
فهذه هي الطبعة الرابعة من هذا الكتاب، ولله الحمد والمنة على ما وفَّق ويسَّر.
وقد سرت في هذه الطبعة على المنهج العلميّ «الأكاديميّ» في ترجمة الأعلام، والفهارس المتعددة، إضافة إلى ما كان في الطبعات السابقة منها.
وقد خاطبني بعض إخواني أن أوسع الكتاب قليلًا حتى يكون كالكتب الأخرى التي صُنفت في شأن الهمّة - وهذا الكتاب هو أولها صدورًا فيما أعلم - لكني آثرت أن يكون كما أردت له أن يكون: دليلًا للمبتدى المؤتسي وتذكرة للمنتهي الألمعي. والله أسأل كمال التوفيق، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصلّ اللهم على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
المؤلف
محمد بن موسى الشريف
الموقع على الشبكة: www.altareekh.com
البريد الالكتروني: mmalshareef@hotmail.com
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله رب العالمين، وصلاةً وسلامًا تامَّين كاملين عطرين على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه الطبعة الثالثة - ولله الحمد - من كتاب «الهمّة»، وقد تميزت عن ... الطبعتين السابقتين بزيادات كثيرة متنوعة، أهمها في نظري ما أوردته عن حال ... الغربيين في بداية القرن التاسع عشر وما بعده، وذلك إبان ثورتهم الصناعية ... الكبرى، وما كان بعضهم عليه من همة عالية، ولم أقصد بذلك تمجيدهم -حاشا وكلا- ولكني قصدت إظهار أنه من سنة الله في الكون أن يكافئ المُجِدَّ المجتهد العامل الساعي في الدنيا ويُنيله مرادَه مسلمًا كان أو كافرًا، أما الآخرة فلا يكافئ بها إلا من كان قد اجتهد لوجهه الكريم.
ولما كان بعض أهل الغرب قد بذل وعرق ونصب وتعب في سبيل رفعة قومه، ... فقد أحببت أن أورد بعضًا من تلك الأخبار
1 / 7
والأقوال حتى تكون حافزًا- هي وما سبق أن سقته- لبني ديني لأن ينفضوا غبار الذل والضَّعة عنهم حتى يبزغ لهم بإذن الله تعالى- فجرٌ جديد.
ثم إن أهل الهمّة العالية منهم لم يفوقوا في ذلك أسلافنا، بل هم قد سبقوهم سبقًا عظيمًا، ولكن لما اقتربت حوادثهم من عصرنا، وحققوا بهممهم تلك ما نراه من مخترعات وتقنيات، ساغ لي أن أورد بعض أخبارهم على أنها من جملة ما يحسن بنا اتباعه والأخذ به من الحكم وتجارب الأمم، والله أعلم.
هذا، ووصيتي لكل من يقرأ هذا الكتاب أن يأخذ نفسه بإرشاداته، ويعمل ما في وسعه ليتشبه بهمة وجدِّ وعزيمة أولئك الرجال الذين ذكرت أخبارهم وأحوالهم، فإنه إن صنع ذلك يُرجى له الفلاح والسعادة، وتمام الأمر والسيادة، والله المستعان.
1 / 8
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، الذي خلق الخلق واصطفى منهم المؤمنين، ودلّهم على ما
فيه سعادتهم بقوله:
(خذوا مآ ءاتيناكم بقوة وآذكروا ما فيه لعلكم تتقون) (١)
والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين، الذين أضاؤوا بهمتهم العالمين.
أما بعد:
خلق الله ﷾ الخلق وقدّر فهدى، فكان من تقديره تعالى أن قَسَم لهم
حظوظهم من الدين والعقل والغنى والجمال، وكان مما قسمه الله سبحانه وقدره
على كل إنسان - أيضًا - حظُّه من الهمّة والإرادة.
والبشر يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا في هذا الأمر، فمنهم من تعلو
_________
(١) الأعراف: ١٧١
1 / 9
به همته حتى يكاد يبلغ حدود الكمال، ومنهم من تسفل به همته حتى يصبح حاله أسوأ من
الدواب، وبين ذلك من المراتب ما لا يدخل تحت الحصر، وما لا يعلمه إلا
الله تعالى.
وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أمر الهمّة عظيم، وشأنها خطير، يجدر بالإنسان المسلم
أن يفهمه ويعتني به، ويحدث به نفسه دائمًا عسى أن يكون من أهل الهمّة العالية
فيفوز فوزًا عظيمًا.
وفي هذه الوريقات - التي أسأل الله تعالى أن يباركَ فيها ويضع لها القَبول-
مباحثُ لا تخلو من جدَّة، توضح معنى الهمّة وكيفية تحصيلها وتطويرها إلى غير
ذلك من المعاني المهمة، والمطالب التي تعلو بصاحبها إلى القمة.
ولا يستصغرنّ إنسان شأن الهمّة فيسأل مستنكرًا: هل هذا الموضوع يستحق
أن يفرد له بحثٌ، وأن توضع له قواعد ومحاذير؟!
نعم والله الذي لا إله إلا هو، إن للهمة لشأنًا عظيمًا وتأثيرًا كبيرًا على
حياة صاحبها سواء أكان في سن الشباب أم تعداه، ممن يطلب الدنيا أم من
طلاب الآخرة، فهي أساس حياة الإنسان، والقطب الجاذب له إلى العزة أو
الهوان.
ولا يُستغرب - أيضًا - إيرادُ هذا المبحث وُيقال: إن الكتب التي دلت على
أهمية الوقت ودلَّلت على قيمته يستغنى بها عن
1 / 10
هذا المبحث، إذ الوقت يستثمره حق الاستثمار من علت همته، وعرف كيف يستفيد بها ومنها، وكتب الاستفادة
من الوقت ومعرفة قيمته أمر آخر غير مباحث الهمّة كما سيرى القارىء،
إن شاء الله تعالى.
وإن مما دعاني لتأليف هذا المبحث ندرة من تكلم فيه وأوضحه، ولم أرَ فيه مصنفًا مستقلًا، ولا أزعم أني أعطيته حقّه، ولكني حاولت دخول هذا المضمار والتطفُّل على هذا الشأن، والله المسؤول بالإتمام وعليه التكلان.
1 / 11
معنى الهمّة
جاء في القاموس: (هـ م م): «ما هُمَّ به من أمر ليُفعل».
فالهمّة هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول، فمن الناس من تكون
همته عالية علو السماء، ومنهم من تكون همته قاصرة دنيئة سافلة تهبط به إلى أسوأ الدرجات.
وعرّف بعضهم علو الهمّة فقال:
«هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور» (١)
قال ابن القيم (٢) رحمه الله تعالى، واصفًا الهمّة العالية:
«علو الهمّة ألا تقف (أي النفس) دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا
ترضى بغيره بدلًا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور
والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية.
_________
(١) «رسائل الإصلاح»: ٢/ ٨٦.
(٢) هو الشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب الُزرعيّ الدمشقي، شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبلي، ولد سنة ٦٩١.
وكان جريء الجنان، واسع العلم، كثير الصلاة والتلاوة، حسن الخلق، كثير التودد، توفي بدمشق سنة ٧٥١ رحمه الله تعالى،
وكانت جنازته حافلة. انظر «الدرر الكامنة»:٤/ ٢١ - ٢٣.
1 / 13
فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل
إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمّة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها،
وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان» (١)
وقد حذر السلف كثيرًا من سقوط الهمّة وقصورها، فقد قال الفاروق عمر ﵁:
«لاتُصُغِّرَنّ همتك، فإني لم أرَ أقْعَدَ بالرجل من سقوط همته» (٢).
وقال ابن نُباتة (٣) رحمه الله تعالى:
حاول جَسيمات الأمور ولا تَقُل ... إن المحامد والعُلى أرزاقُ
وارغب بنفسك أن تكون مقصرًا ... عن غاية فيها الطِّلابُ سِباقُ (٤)
_________
(١) «مدارج السالكين»: ٣/ ١٧١.
(٢) «محاضرات الأدباء»:١/ ٤٤٥.
(٣) شاعر العراق، أبو نصر، عبد العزيز بن عمر بن محمد بن نُباتة السَعْديّ، له نظم عذب، ومدح الملوك والكبراء، وله ديوان كبير،
مات سنة ٤٠٥ وهو في عشرالثمانين. انظر «سير أعلام النبلاء»: ١٧/ ٢٣٤ - ٢٣٥.
(٤) «محاضرات الأدباء»: ١/ ٤٤٥
1 / 14
وقد قيل:
«المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت، وإن قصر بها اتّضعت» (١)
وقال شاعرُ بني عامر:
إذا لم يكن للفتى همة ... تبوئه في العلا مصعدا
ونفس يعودها المكرمات ... والمرء يلزم ما عُوِّدا
ولم تَعْدُ همته نفسه ... فليس ينال بها السؤدُدا (٢)
وقد ذمّ أعرابيٌّ رجلًا فقال:
«هو عبد البدن، حُرُّ الثياب، عظيم الرُّواق، صغير الأخلاق، الدهر
يرفعه وهمته تضعه» (٣).
وقال أبو دُلف (٤):
وليس فراغ القلب مجدًا ورفعة ... ولكنّ شغلَ القلب للهمِّ رافعُ
وذو المجد محمول على كل آلة ... وكل قصير الهمِّ في الحيّ وادعُ (٥)
_________
(١) المصدر السابق.
(٢) المصدر السابق: ١/ ٤٤٧
(٣) صاحب الكَرج وأميرها القاسم بن عيسى العجلي، كان فارسًا شجاعًا مهيبًا، سائسًا، شديد الوطأة، جوادًا مُمَدّحًا، مبذرًا،
شاعرًا مجودًا، وولي إمرة دمشق للمعتصم، وله أخبار في الكرم والفروسية، توفي ببغداد سنة ٢٢٥.انظر «سير أعلام النبلاء»:
١٠/ ٥٦٣ - ٥٦٤.
(٤) «محاضرات الأدباء»: ١/ ٤٤٧.
(٥) الشيخ الإمام العلامة الحافظ المفسر أبو الفرج عبد الرحمان بن علي بن محمد ابن الجوزيّ، ينتهي نسبه إلى بكر الصديق
﵁، ولد سنة تسع أو عشر وخمسمائة ببغداد، وسمع من مشايخ كثيرين، وكان رأسًا في التذكير بلا مدافع،
وصنف مصنفات كثيرة في بعضها أوهام وأخطاء بسبب عدم التحرير والمراجعة، وله حكم كثيرة وأقوال شهيرة، توفي سنة
٥٩٧ ببغدد. انظر «سير أعلام النبلاء» ٢١/ ٣٦٥ - ٣٨٤.
1 / 15
والهمّة قسمان: وهيبة، وكسبية:
فالوهبيّة هي ما وهبه الله تعالى للعبد من علو الهمّة أو سفولها، ويمكن أن تنمى
وتُرعى أو تهمل وتترك، فإن نماها صاحبها وعلا بها صارت كسبية، أي أن
صاحب الهمّة كسب درجات عالية لهمته، وزاد من أصل مقدارها الذي
وهبه الله تعالى إياه، وإن تركها وأهملها ولم يلتفت إليها خَبَتْ وتضاءلت.
والهمّة في هذا تشترك مع باقي الصفات العقلية والخلقية كالذكاء وقوة الذاكرة وحسن الخلق وغير ذلك مما هو معلوم بَدَهِيّ.
وقال ابن الجوزي (١)
رحمه الله تعالى:
«وقد عرفت بالدليل أن الهمّة مولودة مع الآدميّ، وإنما تقصر بعض الهمم
في بعض الأوقات، فإذا حُثَّت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فَسَلِ
المنعم، أو كسلًا فالجأ إلى الموفِّق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، ولا يفوتك
خيرٌ إلا بمعصيته» (٢)
_________
(١)
(٢) «لفتة الكبد إلى نصيحة الولد»:٤٥
1 / 16
مراتب الهمم
الناس متفاوتون في أمرين:
الأمر الأول: مطالبهم وأهدافهم.
والآخر: الهمم الموصلة إلى هذه المطالب والأهداف.
فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها، فهذا متمنٍّ مغرور.
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
ومن أعظم المغالبات مغالبة النفس لتصبح ذا همة عالية.
ومن الناس من لا يطلب إلا سفاسف الأمور ودناياها، وهم فريقان:
- فريق ذو همة في تحصيل تلك الدنايا، فتجده السبَّاق إلى أماكن اللهو ومغاني
الغواني، وهذا إن اهتدى يكن سبّاقًا إلى
1 / 17
المعالي، ذا همة عالية نفسية:
«الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إن فقهوا» (١)
- وفريق لا همة له، فهو معدود من سقط المتاع، وموته وحياته سواء، لا
يُفتقد إذا غاب، ولا يُسأل إذا حضر.
إني رأيت من المكارم حسبكم
أن تلبسوا خَزَّ الثياب وتشبعوا
فإذا تذوكِرتِ المكارم مرّةً
في مجلس أنتم به فتقنعوا (٢)
ومن الناس من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله ﷺ،
وله همة عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه فهنيئًا له.
وبين كل هذه الأقسام مراتب كثيرة متفاوتة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
«لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسًا
وأعلاهم همة وأرفعهم قدرًا من لذتهم في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه،
والتودد إليه بما يحبه ويرضاه» (٣)
وقال ابن القيم أيضًا:
_________
(١) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوانه ءايات للسائلين).
(٢) «محاضرات الأدباء»:١/ ٤٤٧. ومعنى تقنعوا: غطوا وجوهكم خجلًا وتواروا لأنكم لستم من أهلها.
(٣) «الفوائد»:١٩٦ - ١٩٧
1 / 18
«ولله الهمم ما أعجب شأنها وأشد تفاوتها!، فهمة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة
حول الأنتان والحُش» (١) (٢).
يتفاوت الناس في هممهم فتتفاوت على هذا أعمالهم وحظوظهم ودرجاتهم،
وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم فانظر إلى همة ربيعة بن كعب الأسلمي (٣)
﵁ وقد قال له رسول الله ﷺ: «سَلْ».
فقال: «أسألك مرافقتك في الجنة» (٤).
وكان بعض الناس يسأله ما يملأ بطنه أو يواري جلده.
وعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال:
«ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك».
قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله.
فنزع نمرةً كانت على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى النمل يدب
عليه فحدثني، حتى إذا استوعبت حديثه قال:
«اجمعها فصُرها إليك».
فأصبحت لا أسقط حرفًا مما حدثني (٥).
_________
(١) بيت الخلاء.
(٢) «مدراج السالكين»: ٣/ ١٤٧.
(٣) ربيعة بن كعب بن مالك الأسلميّ، أبو فراس المدنيّ، من أهل الصُفّة، توفي سنة ٦٣ بعد موقعة الحرّة، ﵁.
انظر «التقريب»:٢٠٨
(٤) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الصلاة: باب فضل السجود والحث عليه.
(٥) أخرجه أبو نعيم في «الحلية»: ١/ ٣٨١.
والحديث مروي بنحو هذا اللفظ في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد وغيرهم رحمهم الله تعالى.
1 / 19
فاكتسب ﵁ بهمته في الطلب مجدًا عظيمًا، وهو أنه حفظ للناس أحاديث
رسولهم ﷺ، فأصبح حافظ الصحابة بلا منازع، بل أصبح راوية
الإسلام.
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني (١) لغلامه:
«ياغلام: لا يكن همك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس وما تنكح، وما تسكن وما
تجمع، كل هذا همُّ النفس والطبع فأين همُّ القلب، همك ما أهمك فليكن همك ربك
﷿ وما عنده» (٢).
وهذه - والله - من أعظم الوصايا للدعاة حتى لا تضعف همتهم أمام المغريات، لا
سيما وأن من أهم صفات الداعية مخالطته للناس والتأثير عليهم، فكم من داعية
انزلق في بحر هذه المغريات حتى أضحت الدعوة آخر اهتماماته.
ليس المروءة أن تبيت مُنعّمًا
وتظل معتكفًا على الأقداح
ما للرجال وللتنعم إنما
خلقوا ليوم كريهة وكفاح (٣)
وأما أمر ابن عباس ﵁ مع صاحبه الأنصاري فهو دليل على تفاوت الهمم
واختلاف مراتبها فقد قال ﵁:
_________
(١) الشيخ الإمام، الزاهد العارف القدوة، شيخ الإسلام، عَلَم الأولياء، محيي الدين، أبو محمد، عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الحنبلي، شيخ بغداد، ولد ب «جيلان» سنة ٤٧١، له الكرامات العجيبة والمواعظ المؤثرة، وقد تاب على
يديه خلق كثير، عاش تسعين سنة، وتوفي سنة ٥٦١ ببغداد رحمه الله تعالى. انظر «سير أعلام النبلاء»: ٢٠/ ٤٣٩ - ٤٥١.
(٢) إحياء فقه الدعوة، الراشد، مجلة المجتمع: العدد ١٣٦.
(٣) «محاضرات الأدباء»: ١/ ٤٨٨
1 / 20
«لما قبض رسول الله ﷺ قلت لرجل: هلم فلنتعلم من أصحاب
النبي ﷺ فإنهم كثير.
فقال: العجب - والله - لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس
من ترى من أصحاب رسول الله ﷺ؟!
فركبت ذلك وأقبلت على المسألة وتَتَبُّع أصحاب رسول الله ﷺ،
فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله ﷺ
فأجده قائلًا، فأتوسد ردائي على باب داره تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج إليّ،
فإذا رآني قال: يا ابن عم رسول الله ﷺ ما لك؟
قلت: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله ﷺ فأحببت أن
أسمعه منك.
فيقول: هلا أرسلت إليّ فآتيك؟
فأقول: أنا كنت أحق أن آتيك.
وكان ذلك الرجل يراني، فذهب أصحاب رسول الله ﷺ وقد
احتاج الناس إلي، فيقول: أنت أعلم مني» (١).
وترى اليوم من تفاوت الهمم أمرًا عجبًا، فإذا استثنى الناظر في أحوال الناس أمر
العامة - واستثناؤهم واجب لأنه قد ماتت هممهم، وقعدت بهم عن تحصيل معالي
الأمور- واطلع على أحوال الخاصة وهم: الدعاة، وطلاب العلم، وباقي الملتزمين
الحريصين على دينهم، سيصاب بالدهشة لما يراه من فتور الهمّة، وأنها
_________
(١) قال في «مجمع الزوائد» ٩/ ٢٨٠: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
1 / 21
الشأن الغالب
على الخصوص الذين ذكرتهم:
فمنهم من إذا اطَّلع ساعة أو ساعتين في اليوم ظن أنه قد أتى بما لم يأتِ به الأوائل،
ومنهم من إذا خرج لزيارة فلان من الناس بقصد الدعوة يظنّ أنه قد قضى ما عليه من
حق يوميّ، ومنهم من تتغلب عليه زوجة وعيال فيقطع عامة وقته في مرضاتهم، ومنهم
من اقتصر في تحصيل العلم على سماع بعض الأشرطة وحضور محاضرة أو اثنتين في
الأسبوع أو الشهر، ومنهم من غلب عليه الركون إلى الدنيا والتمتع بمباحاتها تمتعًا
يُفضي به إلى نسيان المعاني العلية، ومنهم من يقضي عامة يومه متتبعًا لسقطات
إخوانه، ومطلعًا على ما يزيد علمه رسوخًا في هذا المجال.
وهكذا يندر أن تجد إنسانًا استطاع أن يعلو بهمته، ويجمع شمله ويَقْصر من الاعتذارات
والشكايات فتصبح حياته مثلًا أعلى يُحتذى به.
ولا أزعم أن جمهور الصحوة قد فات عليه هذا الأمر- أي أمر الهمّة وعلوها- ولكن
أقول جازمًا بأنه - إلا القليل - لم يستثمروا هممهم حق الاستثمار، ولم يحاولوا أن
يرتقوا بأنفسهم حق الارتقاء.
يقول الأستاذ المودوديّ رحمه الله تعالى مخاطبًا قومًا ممن ذكرناهم آنفًا:
1 / 22
«إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متّقدة تكون في ضرامها - على الأقل
مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابنًا له مريضًا ولا تدعه حتى تجرّه إلى
الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئًا يسد به رمق حياة أولاده فتقلقه وتضطره إلى
بذل الجهد والسعي.
إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة تشغلكم في كل حين من
أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم، وتعمر قلوبكم بالطمأنينة، وتكسب لعقولكم
الإخلاص والتجرد، وتستقطب عليها جهودكم وأفكاركم بحيث إن شؤونكم
الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين.
وعليكم بالسعي ألا تنفقوا لمصالحكم وشؤونكم الشخصية إلا أقل ما يمكن من أوقاتكم
وجهودكم، فتكون معظمها منصرفة لما اتخذتم لأنفسكم من الغاية في الحياة.
وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم، ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم،
آخذةً عليكم ألبابكم وأفكاركم، فإنكم لا تقدرون أن تحرِّكوا ساكنًا بمجرد أقوالكم
. .
الحقيقة أن الإنسان إذا كان قلبه مربوطًا بغايته، وفكره متطلعًا إليها، فإنه لا يحتاج إلى
تحريض أو دفع. . .
واسمحوا لي أن أقول لكم: إنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبردَ من تلك
1 / 23
العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم وأمهاتكم فإنكم لا بد
أن تبوؤوا بالفشل الذريع» (١).
أرأيتم همة الإمام ﵀، ولا غرو أن تخرج هذه اللآلىء من رجل تصدى طيلة حياته المباركة لهموم دعوة الخلق إلى الحق، حتى أنه كان يصدر دورية بنفسه لا يشاركه
فيها أحد - وكان هذا في مقتبل حياته - فهو الناشر ومدير التحرير والموزِّع، وقد
أخبر عن نفسه بأنه كان يبل الخبز اليابس في النهر ثم يأكله، وحياته تصلح أن تكون
تطبيقًا لما أوردته عنه آنفًا، ﵀.
ويمكن بعد هذا أن نقول: إن مراتب الهمم متفاوتة فيما يلي:
١ - همة لا تسعف صاحبها لقضاء حوائجه الأساسية بل يظل عامة ليله وسحابة نهاره
في نوم وتراخ وكسل، وهذه أدنى درجات الهمم - والعياذ بالله - وصاحبها عاجز
قاصر يعتمد على الناس اعتمادًا كليًا، وهذه المرتبة قليلة في النوع الإنسانيّ، ولله الحمد.
ومن أمثلتها في الناس الطفيليون، وطبقة التنابلة المشتهرين في التاريخ بكسلهم وسقوط هممهم.
٢ - ومن الهمم همة ترقى بصاحبها إلى قضاء الحوائج والسعي في
_________
(١) «تذكرة دعاة الإسلام»: ٥٨.
1 / 24
الأرض وأداء الفروض، ولكن كل هذا يقضيه بقدر بحيث يستصعب معه كثيرًا من الأمور،
ويعتقد استحالتها وهي أمور ممكنة التحقق عند غيره، وتجده - عند الاستشارة-
كثير الصدّ قريب القصد.
وهذه المرتبة من الهمّة يشترك فيها كثير من الناس إن لم نقل أغلبهم.
٣ - ومن الناس من يريد الارتفاع بهمته ولكنه لا يعرف سبل استثمارها ولا كيفية
الاستفادة التامة منها، فتجده متذبذبًا في أموره، فتارة ينجز أمورًا عظيمة، وتارة
يستصعب الممكن ويستبعده.
والغالب على أهل هذه المرتبة أنهم لا يحققون ما يصبون له يتطلعلون إليه.
٤ - ومن الناس من تتجاوز به همته واقع الناس بكثير وتتعداه، بل تكاد تستسهل
المستحيل ولا تخضع له، وصاحب هذه الهمّة نادر في دنيا البشر، ولكنه موجود
معروف، يعرفه الناس ويقتدون به.
والغالب على صاحب هذه الهمّة أنه يحقق أهدافه وغايته، بل يحقق أمورًا تحتاج في تصور معظم الناس إلى فريق من العاملين لإنجازها.
1 / 25