انقلاب شعر مدرن از بودلر تا عصر حاضر (بخش اول): مطالعه
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
ژانرها
وقد رجع إليها أصحاب النزعة الأفلاطونية في عصر النهضة، ثم عرفها رامبو وهو بعد تلميذ صغير من إحدى مقالات «مونتني» التي تناول فيها فكرة أفلاطون عن المس أو جنون الإلهام الذي يصيب الشعراء (وقد عرضها بوجه خاص في محاورة فايدروس). وليس ببعيد أن يكون رامبو قد تأثر في هذا الصدد أيضا بفيكتور هيجو. المهم على أية حال أنه فهمها فهما جديدا، وأنه فسر الرؤية تفسيرا يختلف اختلافا كبيرا عما كانت عليه عند اليونان.
إن هدف الشعر في رأي رامبو هو «الوصول إلى المجهول»، أو هو في عبارة أخرى «رؤية ما لا يرى، وسماع ما لا يسمع.» ويعلم القارئ أن هذه الأفكار ليست جديدة كل الجدة؛ فهي موجودة كما رأينا عند بودلير، وهي تستخدم هنا وهناك للدلالة على المثالية الفارغة، أو المتعالي (الترانسندانس) الخالي من كل معنى. ورامبو لا يحددها عن قرب، بل يكتفي بالتعريف السلبي للهدف الذي تتجه الرؤية نحوه. فهو أحيانا «غير المألوف» أو «غير الواقعي»، وهو في كل الأحيان ذلك «الآخر» الذي يخلو من أي معنى إيجابي. وأشعار رامبو تؤكد هذ؛ فأنت تلمس نزعتها العاصفة المتفجرة للانطلاق وراء الواقع، ثم تلمس تحويلها أو تشويهها للواقع إلى صور مفككة، صور غير واقعية حقا، ولكنها لا تدل على معنى متعال أصيل. إن المجهول يظل عند رامبو كما كان لدى بودلير قطب توتر فارغ من المضمون، ورؤيته الشعرية تتغلغل في حطام الواقع - الذي مزقه الشاعر عن عمد! - لتبصر السر المظلم. فما هو موضوع هذه الرؤية؟
يجيب رامبو على هذا السؤال بعبارة مشهورة: ... «لأن «أنا» شيء آخر، عندما تبعث الحياة في الصفيح فيتحول بوقا، فليس للصفيح فضل في هذا. إنني أعاين ازدهار تفكيري، أنظر إليه، أتسمع صوته. إنني ألمس الوتر، وما هو إلا أن تهتز السمفونية في الأعماق. من الخطأ أن يقال: أنا أفكر. لا بد أن يقال: إن هناك من يفكرني.»
ليست الأنا التجريبية إذن هي الموضوع الصالح للرؤية، بل هناك قوى تحل محلها، قوى صادرة من الأعماق، سابقة على الشخصية، ولكنها نافذة وقاهرة. إنها هي الأداة الملائمة لرؤية «المجهول». وليس من الصعب أن نحس اللمسة الصوفية في هذا الكلام. فالأنا تتجرد من نفسها، تطرح ذاتها، لأن الإلهام الإلهي يتملكها ويسيطر عليها، ولكن هذه السيطرة تأتي الآن من أسفل، تأتي من الأعماق. تغوص الأنا في الأعماق وهناك تغلب عليها الروح الكلية
Lâme miverselle
الجامعة فتشلها وتسلب إرادتها. ها نحن نعاين مشهدا جديدا سيتكرر في الشعر الحديث. إن الشاعر يتلقى تجاربه الجديدة - التي أصبح العالم المستهلك عاجزا عن تقديمها له - من عالم آخر هو عالم المجهول الذي يسوده الاضطراب والتشويش. ولا غرابة بعد هذا أن يرى السيرياليون في رامبو أحد آبائهم وروادهم.
ولكن لنعد مرة أخرى إلى فكرتنا الأصلية لنسأل: كيف تصل الأنا إلى تجريد ذاتها من كل قوة؟ يقول رامبو: عن طريق الفعل. ولكن ما هي طبيعة هذا الفعل؟ الجواب: الإرادة والذات هما اللتان تقومان بتوجيهه: «أريد أن أكون شاعرا، وإني لأعمل جاهدا لأن أكونه.» والعمل هنا جهد إرادي دءوب مضن يحاول به الشاعر، مهتديا بالعقل «أن يشوش حواسه ويشيع فيها الاضطراب.» بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا فيقول: «إن المهم هو أن يصنع الشاعر لنفسه نفسا مشوهة، متشبها في ذلك برجل يزرع البثور في وجهه ويرعاها حتى تكبر.» والدفعة الشعرية لا تنبعث إلا «بمسخ» الذات «وتقبيح» النفس. وما الهدف من كل هذا العناء ؟ الهدف هو بلوغ «المجهول». والشاعر الذي ينظر في المجهول هو «المريض العظيم، والمجرم العظيم، والمحتقر العظيم، وهو كذلك أعظم العارفين.»
إذن فلم يعد الشذوذ قدرا يحتمله الشاعر في صمت وشجاعة، كما كان الحال عند روسو والرومانتيكيين. إنه الآن رغبة مقصودة في «الابتعاد» و«الانطلاق» و«الخروج». والأدب، والشعر بوجه خاص، مرتبط بالمجهود الذي تبذله الإرادة «لمسخ» الذات أو تشويه النفس؛ لأن هذا المسخ وهذا التشويه هما اللذان يسمحان بالاندفاع الأعمى نحو الأعماق البدائية الدفينة أو الانطلاق نحو المتعالي (الترانسندنس) الفارغ من كل معنى وحقيقة. وما أبعدنا الآن عن ذلك الشاعر أو الرائي الإغريقي الذي تتملكه ربات الفن وتصيبه الرؤية بمس الإلهام أو عبقري الجنون!
إن الأدب الذي يأتي عن هذا الجهد الشاق سيصبح الآن «لغة جديدة» أو «لغة جامعة»، وهذه اللغة تختلط فيها عناصر الإغراب والعمق والتنفير والنشوة، يستوي أن يكون لها شكل أو لا يكون، ويستوي فيها الجميل مع القبيح. إن مقياس قيمتها هو الانفعال والموسيقى، هي عند الشاعر الذي لا يكف عن الحديث عنها «موسيقى مجهولة»، وهو يسمعها في «القلاع المبنية من العظام»، في «الأغنية الحديدية المنبعثة من أسلاك البرق»، وهي «نشيد مشرق عن محنة من نوع جديد». هي موسيقى عميقة امحى فيها كل أثر «للعذاب الشجي» الذي طالما تغنى به الرومانتيكيون. وكلما نغمت موسيقى هذا الشعر الأشياء والكائنات انبعث منها صراخ وزئير يخترمان الغناء والنشيد؛ إنها موسيقي نشاز أو هي نشوز موسيقي.
ولكن لنرجع مرة أخرى إلى الرسالتين؛ ستستوقفنا عبارات جميلة كهذه العبارة: «إن الشاعر يحدد مقدار المجهول الذي يجيش في روح عصره الشاملة.»
صفحه نامشخص