143

انقلاب شعر مدرن از بودلر تا عصر حاضر (بخش اول): مطالعه

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

ژانرها

وجونجورا (1561-1627م) شاعر قديم لعله أعقد الشعراء القدامى في إسبانيا وأصعبهم. وقد أعاد الإسبان اكتشافه منذ سنة 1910م وأفادوا بحركة البعث هذه شعرهم الجديد فائدة لا تقدر، فلوركا يقول عنه في حديثه السابق إنه «أب الشعر الحديث» ويبين أوجه التقارب بينه وبين مالارميه في الأسلوب والأداء، بل ويقول إن مالارميه هو أفضل تلاميذ جونجورا، وأقربهم إلى فنه الشعري، على الرغم من أن الشاعر الفرنسي لم يعرف شيئا عن الإسباني!

ويعد كلام لوركا عن هذا الشاعر القديم تعبيرا عن رأيه في الشعر الجديد ونظرته الإستيطيقية إليه. فقد كان جونجورا - كما يقول لوركا - يعتقد أن قيمة الشعر لا ترتفع إلا بمقدار بعده عن كل ما هو عادي مألوف في العالم الخارجي والداخلي على السواء. كان يحب الجمال النقي العقيم، ويرى أن هذا الجمال لا يظهر إلا إذا تخلص الشاعر من التعبير المباشر عن العواطف. وكان يكره الواقع، ولكنه كان يملك القدرة على السيطرة المطلقة على الممالك الشعرية وحدها. إن الكلمات عنده مستقلة بذاتها، وهو يقيم منها بناء يناهض الزمن، لم يكن للطبيعة مكان في شعره، لأن «الطبيعة التي تخرج من بين يدي الخالق غير الطبيعة التي تحيا في القصيدة.» ولذلك فإن قيمة قصائده لا تقاس بالواقع بل تنبع من ذاتها. لقد كان «يحمل الأشياء والأحداث إلى غرفة ذهنه المظلمة حيث تتحول هناك وتعود لتتجاوز العالم.»

هذه القوة التي تحولها هي قوة الخيال القادرة على التشبيه والاستعارة. إنها تخلق صورا غير واقعية ترتفع إلى مستوى الأساطير وتؤلف بين أكثر المجالات بعدا عن بعضها البعض، وهو يسلط بهذه الصور ضوءا مشعا باهرا على المضمون الموضوعي لشعره بحيث يصبح هذا الشعر في النهاية عديم المعنى. إن أبياته يغمرها «ضوء روما البادر»، ربما يكون الإلهام قد سبقها، إلا أنها لم تتحول على يديه إلى حقائق نقية صلبة إلا لطول تجربته للخصائص النغمية والصوتية الموجودة في اللغة.

هكذا نشأ نوع من الشعر لا يبحث عن القارئ، بقدر ما يفر منه. فإذا أراد أن يقترب منه فعليه أن يستخدم العقل وحده. وإذا لاحظ فيه غموضا أو ظلاما فما ذلك إلا لشدة النور العقلي الذي يغمره.

لا بد أن القارئ قد لاحظ الفرق بين ما يقوله الشاعر الفرنسي والإسباني من حيث اللهجة والمستوى والهدف، ولكنه قد أدرك بغير شك أنهما يتفقان في تأكيد نوع من الشعر يوجهه العقل ويستقل بنفسه عن الواقع والمألوف، ويصدم القارئ، بغرابته وتنافر أنغامه. (3) اللغة الجديدة

من الطبيعي أن تكون لغة الشعر الجديد لغة جديدة، فتفسير قصيدة من هذا الشعر يحتاج منا أن نقف عند أسلوبها في الأداء أطول بكثير من الوقوف عند موضوعها أو مضمونها أو الباعث عليها. كان في استطاعة الناقد فيما مضى أن يبين للقارئ، مضمون القصيدة من الشعر القديم. وكان ذلك أمرا ممكنا ومقبولا ومفيدا، طالما كان هدف الناقد والشاعر معا أن يخطبا ود القارئ ويمهدا له طريق الإحساس بقصيدة كتبت بلغة تخدم نظام حياته الطبيعية. غير أن الأمر مع الشعر الحديث يختلف عن ذلك اختلافا بينا. فليس من الممكن أن نفهم قصيدة من شعر إليوت أو سان-جون بيرس أو أنجارتي من مضمونها، وإن كانت لا تخلو بالطبع من مضمون أو مجموعة من المعاني التي تكشف عن عالم هذا الشاعر أو ذاك. ذلك لأن المسافة هنا بين الذات وبين «التكنيك» أو الصنعة الفنية أكبر بكثير مما كانت عليه في الشعر القديم، كما أن قمة التأثير في هذا الشعر وطاقاته الفنية تكاد تكمن بأكملها في الصنعة أو الأسلوب. فالأسلوب هو المظهر اللغوي المباشر للتحول الذي طرأ على الواقع والمألوف في هذا الشعر. لقد اختل التوازن القديم بين مضمون العبارة وأسلوب أدائها، وأصبح الأسلوب الجديد بما فيه من تنافر وتضاد وإغراب وقلق وتقطع وفجوات هو الذي يجذب الأنظار قبل أي شيء آخر. إننا لا نستطيع الآن كما كان الحال قديما أن نشغل أنفسنا بالمضمون الذي تعبر عنه القصيدة عن الأسلوب الذي تم به التعبير، لأن التباين والتنافر بين أسلوب التعبير والشيء المعبر عنه أو بين الإشارة والمشار إليه قد أصبح من أهم قوانين الشعر والفن الحديث. وقد نجد في إحدى اللوحات أن قطعة قماش أصبحت تدل على آلة موسيقية كما تجد في إحدى القصائد أن الغاية تشير إلى ساعة البرج، واللون الأزرق يرمز إلى النسيان، وأداة التعريف تهدف إلى زيادة الغموض والإبهام وعدم التحدد.

هذا الأسلوب المتنافر الشاذ قد زاد ثقله في القصيدة إلى حد تجريد الموضوعات التي يلمسها من أهميتها ومعناها، بل ومن وجودها الواقعي نفسه. فالقصيدة الحديثة تتلافي الاعتراف «بموضوعية» العالم الكائن خارج الذات أو داخلها حتى لا ينال من أسلوبها، وإذا تناولت بعض بقايا هذا العالم الموضوعي فهي تستغلها لتحريك المخيلة «الطاغية» وزيادة طاقتها على التحويل والتشويه والتبديل. وليس معنى هذا أن الشعر الحديث يقصر نفسه على موضوعات قليلة أو عديمة الشأن، كما فعل مالارميه مثلا. وحتى إذا حدث هذا فلا يمنع أن هناك قصائد تزدحم بالعديد من الأشياء والموضوعات. إنما المهم أن هذه الأشياء تخضع الآن «لتركيبة» جديدة وأسلوب جديد في الرؤية والأداء، وأنها قد أصبحت مادة تتحكم فيها الذات الشاعرة كما تشاء، وفقدت كثيرا جدا من «موضوعيتها»، و«شيئيتها». ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الشاعر الحديث أن يؤلف بين أشياء لا تآلف بينها في الواقع ولا الطبيعة، أو يرمز إلى أشياء لا تطابق فيها بين الرمز والمرموز إليه، أو يشبه بين أمور لا وجه للتشابه بينها على الإطلاق ... من هنا نفهم السبب الذي يدعو الشعراء المحدثين إلى الإغضاء من شأن موضوعاتهم، كما نفهم أيضا ما يقوله الشاعر الفرنسي بيير ريفردي (1889-1960م) من أن الشاعر لا موضوع له، وإنه يفترس نفسه بنفسه، وأن قيمة العمل الشعري أنه يكشف عن سبب تمزقه وربطه بين عناصر لا رابط بينها.

بل إن شرط «الشعر الخالص» أن وجوده كما يقول الشاعر الإسباني ساليناس، متوقف على قدرته على التخفف بقدر الإمكان من الموضوعات والأشياء لأن هذا وحده هو الذي يتيح للغة أن تتحرك حركتها الإبداعية الحرة. ثم إن الشاعر، كما قال جوتفريد بن في سنة 1950م ، يلجأ إلى الحيل الشكلية ليحافظ على انطلاق الأسلوب؛ فهو يثبت الخواطر التي ترد عليه كما لو كان يدق المسامير ويعلق عليها متتابعات ألحانه، وهو يتحاشى أن يربط الأشياء ببعضها ربطا ماديا سيكولوجيا بل يكتفي بالإشارة ولا يمضي في شيء إلى غايته.

إن أسلوب الشعر الجديد يأبى على المضمون أن يكون له وجوده المتماسك وقيمته الذاتية. إنه لا يكف عن البحث عن اللغة الجديدة، ويعيش في صراع متصل بين مطامحه المتطرفة وبين مضموناته، وهو يريد، كما يقول أبوللينير، لغة جديدة لا يدري النحويون عنها شيئا. ولكن كيف ستبدو هذه اللغة المفاجئة الناشزة؟

إن الشاعر الفرنسي لا يقدم إجابة محددة، بل بشير إلى لغة وحشية متنافرة أو لغة إلهية تكون الكلمة فيها مفاجئة أشبه بإله مرتعش!

صفحه نامشخص