نور الآفاق
إهداء ووفاء
الكتاب الأول
الصحراء والنفود والربع الخالي
بلاد العرب السعيدة
أهل جزيرة العرب وعلاقتهم بالجنس السامي
في دلالة اللغات على الأجناس الإنسانية
أهمية علم اللغات وعلم الأجناس في تدوين السيرة المحمدية
اللغات والأجناس
ظهور الإسلام
الحالة الاجتماعية في قريش
تعريف وجيز بإبراهيم خليل الله ونشأته وثورته على الوثنية في وطنه
هل كان إبراهيم الخليل بدويا أم حضريا؟
هجرة سيدنا إبراهيم الخليل إلى الحجاز ومعه هاجر وإسماعيل
مكة المكرمة قبل الإسلام
بناء الكعبة
صورة العالم السياسية والاجتماعية قبل البعثة المحمدية
حالة عرب الجاهلية بين البداوة والأمية
الأمم والدول العربية البائدة
سيدنا إسماعيل عليه السلام ونسله في الحجاز
الرسالة المحمدية
مكة والكعبة والإسلام بعد الجاهلية والوثنية
عهد العماليق ونزوح القبائل إلى مكة
عهد خزاعة وظهور عمرو بن لحي
كيف فكر عمرو بن لحي في عبادة الأوثان للتجارة
ظهور قصي وأعماله وتبدد ظلمات التاريخ الجاهلي
تقسيم الوظائف الرئيسية في مكة
الكتاب الثاني
تأسيس مكة وعبادتها وقيمة الأوثان فيها
تداعي الوثنية وعقم أديان العرب قبل الإسلام
محاولة شعوبية للتقليل من شأن البعثة المحمدية
عقلية الجاهلية بين الوثنية والتوحيد
العرب حول الكعبة
قانون الصحراء يخضع البدو مدى الأجيال
حلف الفضول، ودار الندوة1
خلال البدوي التي تجلت في الجاهلية
مجافاة عرب الجاهلية للمساواة الديمقراطية
المادية في الأدب الجاهلي وعبادة جسم المرأة والخمر والدم
ثارات العرب في الجاهلية
المجتمع الجاهلي في ضوء المباحث العلمية الحديثة
حياة الجاهلية في ضوء البحوث التاريخية والاجتماعية
أكان بنو إسماعيل أول من عبد الحجارة؟
الكتاب الثالث
السيرة المحمدية واختلاف عناصرها وطرائقها
شخصية محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي المبعوث إلى سائر الأمم1
وصف شخصيته على ألسنة المعاصرين
الكلام في نسب محمد عليه الصلاة والسلام
البحث العلمي في نسب أجداد محمد صلى الله عليه وسلم وآبائه وأمهاته على طريقة النقد الحديث
نشأة عبد المطلب جد النبي وحفظ تراث الأجداد
زواج هاشم القرشي من سلمى النجارية بيثرب
نشأة عبد المطلب بن هاشم بمكة ووظائفه
نشأة عبد المطلب وزواجه وحفر زمزم
هجوم أهل اليمن والحبشة على الكعبة عام الفيل
المفاوضة بين أبرهة الأشرم وعبد المطلب
موقعة الفيل الشهيرة
الكتاب الرابع
الطفولة
تمام الرضاع وحادث الملكين وشق الصدر
أخطاء بعض كتاب السيرة النبوية من مؤرخي العرب
أميته وصفاته النفسية في صغره
يتيما وعائلا ...
صورة إنسانية للوالدين والولد
التبشير بالرسول من طفولته إلى نبوته
نصوص التوراة والإنجيل في التبشير بمحمد عليه الصلاة والسلام
الكهان والتبشير بالرسول
كفالة عبد المطلب للرسول عليه الصلاة والسلام
كفالة أبي طالب للرسول عليه الصلاة والسلام
رحيل الرسول مع أبي طالب إلى الشام وبشرى الراهب بحيرا
حرب الفجار
عبد الله بن جدعان
رعاية أبي طالب للرسول عليه الصلاة والسلام
عفته عليه الصلاة والسلام
بغضه للأوثان وإعراضه عنها
قس بن ساعدة
الكتاب الخامس
الشباب
الرسول وبناء الكعبة
ديمقراطية محمد صلى الله عليه وسلم
التجارة والزواج
بيت النبي عليه الصلاة والسلام في مكة والمدينة
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
معاملة الرسول للمرأة
الكتاب السادس
التحنث في الغار
نزول الوحي
الوحي والسيدة خديجة
تفسير نزول الوحي
تقدير الوحي عند الإفرنج
تناقض الكتاب الإفرنج في تفسير الوحي والنبوة
حيرة علماء الإفرنج في تعليل الوحي والنبوة
أثر القرآن في أذهان العرب
اقتران ظهور الإسلام بمكارم الأخلاق
بلاغة القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم
روعة الوحي
العربية، لغة القرآن
العرب في القرآن
الكتاب السابع
الحالة التي كانت عليها العرب في الدين أثناء الدعوة المحمدية
الحالة التي كان عليها العرب في الاجتماع والسياسة والاقتصاد أثناء الدعوة المحمدية
الإسلام ثورة كبرى
دار الأرقم المخزومي موئل الإسلام بعد حراء وبيت الرسول
الصحابة
شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
حقارة قريش في الجاهلية
قريش ومحاربة الرسول
أحداث الهجرة
الكتاب الثامن
المدينة عند قدوم النبي إليها
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
وثيقة دستورية
الرسول في المدينة
اليهود في المدينة
المنافقون في المدينة
الكتاب التاسع
غزوة بدر الكبرى
كعب بن الأشرف وعصماء
غزوة أحد
الكتاب العاشر
جلاء بني النضير عن المدينة
بدر الثانية
غزوة الخندق
الموقعة
القضاء على بني قريظة
تحريم الزنا
غزوة بني المصطلق
صلح الحديبية1
غزوة خيبر
الدعوة إلى الإسلام خارج الجزيرة العربية
عمرة القضاء
غزوة مؤتة
فتح مكة
حنين والطائف
حملة تبوك1
معاهدات صلح
مسجد الضرار
مؤامرة على قتله صلى الله عليه وسلم
نصوص قرآنية عن تبوك
العودة من تبوك
تشريع اللعان وإعفاء الزوج القاتل من العقوبة إذا رأى زوجه متلبسة بجريمة الزنا
أثر تبوك
مرض النبي صلى الله عليه وسلم ولحوقه بالرفيق الأعلى
نور الآفاق
إهداء ووفاء
الكتاب الأول
الصحراء والنفود والربع الخالي
بلاد العرب السعيدة
أهل جزيرة العرب وعلاقتهم بالجنس السامي
في دلالة اللغات على الأجناس الإنسانية
أهمية علم اللغات وعلم الأجناس في تدوين السيرة المحمدية
اللغات والأجناس
ظهور الإسلام
الحالة الاجتماعية في قريش
تعريف وجيز بإبراهيم خليل الله ونشأته وثورته على الوثنية في وطنه
هل كان إبراهيم الخليل بدويا أم حضريا؟
هجرة سيدنا إبراهيم الخليل إلى الحجاز ومعه هاجر وإسماعيل
مكة المكرمة قبل الإسلام
بناء الكعبة
صورة العالم السياسية والاجتماعية قبل البعثة المحمدية
حالة عرب الجاهلية بين البداوة والأمية
الأمم والدول العربية البائدة
سيدنا إسماعيل عليه السلام ونسله في الحجاز
الرسالة المحمدية
مكة والكعبة والإسلام بعد الجاهلية والوثنية
عهد العماليق ونزوح القبائل إلى مكة
عهد خزاعة وظهور عمرو بن لحي
كيف فكر عمرو بن لحي في عبادة الأوثان للتجارة
ظهور قصي وأعماله وتبدد ظلمات التاريخ الجاهلي
تقسيم الوظائف الرئيسية في مكة
الكتاب الثاني
تأسيس مكة وعبادتها وقيمة الأوثان فيها
تداعي الوثنية وعقم أديان العرب قبل الإسلام
محاولة شعوبية للتقليل من شأن البعثة المحمدية
عقلية الجاهلية بين الوثنية والتوحيد
العرب حول الكعبة
قانون الصحراء يخضع البدو مدى الأجيال
حلف الفضول، ودار الندوة1
خلال البدوي التي تجلت في الجاهلية
مجافاة عرب الجاهلية للمساواة الديمقراطية
المادية في الأدب الجاهلي وعبادة جسم المرأة والخمر والدم
ثارات العرب في الجاهلية
المجتمع الجاهلي في ضوء المباحث العلمية الحديثة
حياة الجاهلية في ضوء البحوث التاريخية والاجتماعية
أكان بنو إسماعيل أول من عبد الحجارة؟
الكتاب الثالث
السيرة المحمدية واختلاف عناصرها وطرائقها
شخصية محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي المبعوث إلى سائر الأمم1
وصف شخصيته على ألسنة المعاصرين
الكلام في نسب محمد عليه الصلاة والسلام
البحث العلمي في نسب أجداد محمد صلى الله عليه وسلم وآبائه وأمهاته على طريقة النقد الحديث
نشأة عبد المطلب جد النبي وحفظ تراث الأجداد
زواج هاشم القرشي من سلمى النجارية بيثرب
نشأة عبد المطلب بن هاشم بمكة ووظائفه
نشأة عبد المطلب وزواجه وحفر زمزم
هجوم أهل اليمن والحبشة على الكعبة عام الفيل
المفاوضة بين أبرهة الأشرم وعبد المطلب
موقعة الفيل الشهيرة
الكتاب الرابع
الطفولة
تمام الرضاع وحادث الملكين وشق الصدر
أخطاء بعض كتاب السيرة النبوية من مؤرخي العرب
أميته وصفاته النفسية في صغره
يتيما وعائلا ...
صورة إنسانية للوالدين والولد
التبشير بالرسول من طفولته إلى نبوته
نصوص التوراة والإنجيل في التبشير بمحمد عليه الصلاة والسلام
الكهان والتبشير بالرسول
كفالة عبد المطلب للرسول عليه الصلاة والسلام
كفالة أبي طالب للرسول عليه الصلاة والسلام
رحيل الرسول مع أبي طالب إلى الشام وبشرى الراهب بحيرا
حرب الفجار
عبد الله بن جدعان
رعاية أبي طالب للرسول عليه الصلاة والسلام
عفته عليه الصلاة والسلام
بغضه للأوثان وإعراضه عنها
قس بن ساعدة
الكتاب الخامس
الشباب
الرسول وبناء الكعبة
ديمقراطية محمد صلى الله عليه وسلم
التجارة والزواج
بيت النبي عليه الصلاة والسلام في مكة والمدينة
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
معاملة الرسول للمرأة
الكتاب السادس
التحنث في الغار
نزول الوحي
الوحي والسيدة خديجة
تفسير نزول الوحي
تقدير الوحي عند الإفرنج
تناقض الكتاب الإفرنج في تفسير الوحي والنبوة
حيرة علماء الإفرنج في تعليل الوحي والنبوة
أثر القرآن في أذهان العرب
اقتران ظهور الإسلام بمكارم الأخلاق
بلاغة القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم
روعة الوحي
العربية، لغة القرآن
العرب في القرآن
الكتاب السابع
الحالة التي كانت عليها العرب في الدين أثناء الدعوة المحمدية
الحالة التي كان عليها العرب في الاجتماع والسياسة والاقتصاد أثناء الدعوة المحمدية
الإسلام ثورة كبرى
دار الأرقم المخزومي موئل الإسلام بعد حراء وبيت الرسول
الصحابة
شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
حقارة قريش في الجاهلية
قريش ومحاربة الرسول
أحداث الهجرة
الكتاب الثامن
المدينة عند قدوم النبي إليها
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
وثيقة دستورية
الرسول في المدينة
اليهود في المدينة
المنافقون في المدينة
الكتاب التاسع
غزوة بدر الكبرى
كعب بن الأشرف وعصماء
غزوة أحد
الكتاب العاشر
جلاء بني النضير عن المدينة
بدر الثانية
غزوة الخندق
الموقعة
القضاء على بني قريظة
تحريم الزنا
غزوة بني المصطلق
صلح الحديبية1
غزوة خيبر
الدعوة إلى الإسلام خارج الجزيرة العربية
عمرة القضاء
غزوة مؤتة
فتح مكة
حنين والطائف
حملة تبوك1
معاهدات صلح
مسجد الضرار
مؤامرة على قتله صلى الله عليه وسلم
نصوص قرآنية عن تبوك
العودة من تبوك
تشريع اللعان وإعفاء الزوج القاتل من العقوبة إذا رأى زوجه متلبسة بجريمة الزنا
أثر تبوك
مرض النبي صلى الله عليه وسلم ولحوقه بالرفيق الأعلى
ثورة الإسلام وبطل الأنبياء
ثورة الإسلام وبطل الأنبياء
أبو القاسم محمد بن عبد الله
تأليف
محمد لطفي جمعة
نور الآفاق
في سيرة المبعوث لإقامة الحق وإتمام مكارم الأخلاق؛
سيد الكون وبطل الأنبياء؛
أبي القاسم محمد بن عبد الله،
عليه أفضل الصلاة والسلام.
إهداء ووفاء
إلى المقام الأعلى والروح الأسمى، قمة الإنسانية الشماء، ومهبط وحي السماء، والمظهر الأكمل الأتم، والصورة المثالية التي لم يبعث سواها بعثة عامة إلى سائر الأمم؛ إلى سيد الكون وفخر العرب والعجم، الرسول العربي والنبي الأمي الذي منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزلت علوم آدم فأعجزت الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق ولا لاحق؛ فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، سر الله الجامع والدال عليه، وحجابه الأعظم القائم له بين يديه، قرة عين الأمم، ومنقذ الإنسانية من الظلم، محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
يتقدم العبد العاجز الضعيف بهذا الكتيب؛ وفاء بذرة مما في عنقه من الدين، إلى سدة البشير النذير والرسول الهادي الأمين.
محمد لطفي جمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا . (سورة النساء)
لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا . (سورة النساء)
وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى . (سورة النجم)
النبوة والوحي في نظر الفلسفة
قال أبو علي الحسين بن عبد الله بن سيناء الملقب بالشيخ الرئيس: «يوجد رجال ذوو طبيعة طاهرة اكتسبت نفوسهم قوة بالطهر وبتعلقها بقوانين العالم العقلي؛ لذا ينالهم الإلهام ويوحي إليهم العقل المؤثر في سائر الشئون. ويوجد غيرهم لا حاجة بهم إلى الدرس للاتصال بالعقل المؤثر لأنهم يعملون كل شيء بدون واسطة؛ هؤلاء هم أصحاب العقل المقدس. وإن هذا العقل لمن السمو بحيث لا يمكن لكل البشر أن ينالهم منه نصيب.» ا.ه.
فكما تبزغ الشمس بأضوائها فتفجر ينبوع النور المسمى بالنهار يبعث النبي فيظهر في الإنسانية ينبوع الضوء المسمى بالعقيدة والإيمان والدين. النهار يحقق يقظة الأحياء بعد النوم، والإيمان يحقق يقظة النفوس بعد الجهالة والضلال.
وقال أبو النصر محمد الفارابي: «إن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها، ولا أخدمتها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضا أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم، وكثير من هذه التي يعطيها العقل الفعال فتتخيلها القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية، فيصير ما أعطاه العقل الفعال من ذلك مرئيا لهذا الإنسان، فإذا اتفقت المحاكيات التي حاكت بها القوة المتخيلة تلك الأشياء مع محسوسات في نهاية الجمال والكمال، قال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود شيء منها في سائر الموجودات أصلا، ولا يمتنع أن يكون الإنسان إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال فيقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة، ويراها فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية؛ فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة، وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة.»
وقال عبد الرحمن بن خلدون في المقدمة: «وصنف من النفوس البشرية متوجهة بالحركة الفكرية نحو العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية، إنما جعل فيها من الاستعداد لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشري، ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية؛ وهي وجدان كلها لا نطاق لها من مبدئها ولا من منتهاها، وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة - جسمانيتها وروحانيتها - إلى الملائكة من الأفق الأعلى؛ ليصير في لمحة من اللمحات ملكا بالفعل، ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، وهؤلاء الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة - وهي الوحي - فطرة فطرهم الله عليها، وجبلة صورهم فيها ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة، وركز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها؛ فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها، لا باكتساب ولا صناعة، فإذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه عاجوا به على المدارك البشرية منزلا في قواها لحكمة التبليغ للعباد؛ فتارة يسمع دويا كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه، فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه، وتارة يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلا فيكلمه ويعي ما يقوله. والتلقي من الملك، والرجوع إلى المدارك البشرية، وفهمه ما ألقي عليه؛ كله كأنه في لحظة واحدة، بل أقرب من لمح البصر ؛ لأنه ليس في زمان، بل كلها تقع جميعا، فيظهر كأنها سريعة؛ ولذلك سميت وحيا لأن الوحي في اللغة الإسراع.»
النبي إشراق إلهي
فليس النبي إنسانا كغيره من العظماء يقرأ تاريخه بالفكر الذي يلازمه المنطق، والمنطق يصاحبه الشك، ثم يدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشرية العامة، ولكنه إنسان كوكبي يقرأ بمثل المنظار المقرب في الدقة، معه العلم ومع العلم الإيمان، ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية الإلهية؛ لأن النبي إشراق إلهي على الإنسانية يقومها في فلكها الخلقي، ويجذبها إلى الكمال في نظام هو صورة لقانون الجاذبية في الكواكب، ويجيء النبي فتجيء الحقيقة الإلهية معه في مثل بلاغة الفن البياني لتكون أقوى أثرا وأيسر فهما وأبدع تمثيلا.
وهذا الرجل الفرد إنما يخلقه الله ويكمله ويبعثه ليكون هو التفسير لما مضى وما يأتي؛ فتظهر به حقائق الكون العليا في صورة الإنسان العامل المنظور.
الكتاب الأول
وصف طبيعة الجزيرة العربية
الصحراء والنفود والربع الخالي
في تاريخ العالم وقصص الحضارة الإنسانية، وفي أخبار العمران وأنباء المدنيات القديمة والحديثة؛ صفحات غامضة وألغاز معقدة، يقف الباحث والقارئ حيالها مدهوشا حائرا، وقفة أوديب بين يدي الأسد المجنح ذي الأسرار، الذي ألقى عليه من الأحاجي والمعميات ما ألقى ليختبر ذكاءه، ويسطر حظه بلسانه في جانب الشقاء والسعد بعد المجد الذي ناله وهو يرفع له الستار عن حقيقة أمره، ولكنه لم يفطن ولم ير؛ لأن الأقدار أرادت له ما أرادت. وإن هذا الوحش المجنح لم ينقرض، ولم يغب سواده عن هذه الحياة الدنيا يوما أو بعض يوم، ولم يخفت صوته ليلة، ولم تنقطع مسائله للبشر طرفة عين. وكذلك الفتى أوديب راح وحلت محله مئات وألوف من الفتيان والكهول والشيوخ بدءوا حياتهم عميانا وختموها غير مبصرين يسألون ويجيبون، ثم يسيرون في طريقهم المقسومة ويتبعون خطة القضاء المرسومة لهم إلى النعيم أو إلى الشقاء؛ وهكذا الأمم كالأفراد تتبع حظوظها معصوبة الأعين مكتوفة الأيدي إلى أن تتاح لها اليقظة التي تدب من صميم نفوسها، ويمنحها الله الفكاك من قيود أسرها فتنطلق هي الأخرى لمستقر لها في آفاق المجد والعظمة، أو في درك الخمول والخمود ...
ومن هذه الألغاز المعقدة اختيار العناية الإلهية جزيرة العرب لتكون مشرقا لأنوار النبوة، ومصدرا للرسالة الإنسانية، ومهدا للحضارة العربية. فإن هذه الجزيرة كانت ولا تزال مضرب المثال في الجفاف والجدب؛
1
تهامتها وحجازها، ونجدها وعروضها، ما عدا اليمن التي لم تحرمها العناية من ريها فاحتفظت بخصبها؛ ولذلك سميت من قديم الزمان ب «العرب السعيدة».
جزيرة العرب قحلاء في معظم أجزائها، وقد وصف حجازها الواقع بين الجبال والبحر بأنه واد غير زرع، وهي في شمالها وغربها ومعظم الجنوب صورة موحشة من صور الأرض الجبلية المرتفعة، والسهول ذات الرمال الناعمة، والصحاري التي لا تعرف الخضرة ولا الماء ولا الظلال.
وقد لا يرى قسوة الطبيعة الجرداء المقفرة والأرض الغبراء المحرقة بجبالها ووديانها - على حقيقتها - غير الطيار الذي يتاح له أن يلقي بنظرة من مرصد طائرته على الأرض التي يحلق فوقها؛ فتأخذ عينه بقمم الجبال العارية البارزة كرءوس المردة على أعناق طويلة ملساء كأعناق العقبان، فإذا ما تجاوزها بمنظاره إلى الوديان، ارتد إليه بصره بعد أن ترتسم على شبكيته صور الكهوف والمغاور والمفاوز التي يتيه فيها الخيال قبل ارتداد الطرف إلى صاحبه، وقبل أن يتمكن من تحويل عينيه المحدقتين عن تلك الهضاب والنجود النادرة الإنبات، تهب عليها رياح شديدة الحرارة كأنها تأوهات خارجة من أتون عظيم، وقوده تلك الرمال الملتهبة، ودخانه ذلك الهبوب الذي يسيل دماغ الضب ويصهر الصخر الصلد ويذيب الحديد الصلب في جوف الأرض، وكل ذلك في أرض بعيدة الغور مترامية الأطراف متحركة الرمال غامضة الدروب مبهمة التقسيم، كأنها امرأة مسحورة تلد الأجيال وتبتلع نسلها، ثم هي تبدو للناظر كأنها بكر لم تزف إلى عرس ولم تعرف بعد أحدا من الرجال؛ فهذه الطرق والدروب التي اخترقها ملايين الرجال على ظهور الإبل شرقا وغربا وشمالا وجنوبا من عهد عاد وثمود وجرهم وجديس ... لا تلبث أن يطأها المسافرون خفافا سراعا أو ثقالا مبطئين ، حتى تنطبق على آثارهم وتنصفق على خطاهم فتمحو الأولى وتخفي الثانية، وكأنها لوح الطفل القارئ يمحو فيه ويثبت وهو مجد في المحو كما هو مجد في الإثبات، كثير النسيان؛ وهكذا يمتد النظر في عالم الذهن أو على متن الطائرة من ساحل البحر الأحمر إلى ساحل الخليج الفارسي، ومن خليج السويس إلى بوغاز باب المندب، ومن جبال الحجاز إلى الدهناء، وكأن الهلال الذي اتخذه المسلمون رمزا لرايتهم قد رسمته الطبيعة في جبل الطويق الذي يعترض نجدا، كما شكلت العناية الإلهية أجزاء من الجزيرة بأشكال تشبه سائر المخلوقات، ولها من أسمائها الغريبة نصيب؛ فهذا النفود الكبير ذو الرمال الكثيفة المتراكمة الصعبة المرور تسفيها الرياح فتؤلف كثبانا متسلسلة؛ فهو أشبه بالبحار العميقة التي تكاد تكون لعمقها بلا قرار، بل هي أشبه شيء بوادي الهلاك، فيكون داخلها معرضا للنفاد والضياع.
رمال صحراوية لا ماء بها، يسير فيها الركب أربع ليال، وفيها برك إذا سالت الأودية امتلأت، ولكن تلك الكثبان مكسوة بشجر الغضا والعذر والأثل؛ وهي أشجار مخيفة موحشة تكون في الأغلب ملتوية ومتعرجة كأنها مرسومة بريشة مصور مخبول على ستار مأساة فاجعة، فتظن وأنت تراها وتسمع موسيقاها المحزنة المثيرة للخوف والحيرة، أن أغصانها أعشاش للبوم والعنقاء، وجذوعها ملجأ لصغار الجن وكبارها، ومن حين إلى آخر ترى بئرا تخالها - لإقفار ما حولها - محفورة بأيد مجهولة من عهد صالح وثمود، وتتوهم للوهلة الأولى أنها خلقت مع الأرض ولم يحفرها إنس ولا جان، ولم يدل فيها بدلوه قبلك بشر، حتى إذا خليت وراءك الآبار وهرولت في «ظل» تلك الأشجار وجست خلال الأودية والشعاب والطعوز والقعور خيل إليك أن الطبيعة لم تكن من الدنيا إلا جزيرة العرب، وما جزيرة العرب إلا هذه الرمال التي لا يعلم عدد ذراتها إلا علام الغيوب؛ فتدرك حينئذ جمال الخلق وجلال الخالق المتجلي في هذه المظاهر نفسها.
وما هذا النفود الكبير الذي يمتد من الجوف إلى اليمن سوى رقعة واحدة من رقاع شبيهة به؛ أهمها وأعظمها ذلك الربع الخالي الذي ألف في وصفه الحاج عبد الله فيليبي كتابا بعد أن جاس خلاله.
وإذا ودعت النفود الكبير بطعوزه وأفلاقه وشعابه وقعوره وخبوبه وآباره وأشجاره ومفارق طرقه ودروبه، وأجوائه التي تتراوح بين حرارة الغليان وشآبيب البرد في اليوم والليلة، فإنك مقبل على الدهناء والقنيفذة والسر ودلقان والشقيقة؛ وكلها نفود صغيرة كالمواليد الجربانة في حضن والدها الأكبر الذي اضطجع بجانبها وجعلها حدا فاصلا بينه وبين الربع الخالي؛ وهو نفود أعظم لا تدرك أطرافه، يلم بين تلك الأطراف والحواشي عوالم من الرمال الرقيقة الناعمة التي تسمى بالأحقاف؛ وهي من نوع رمال بعض شواطئ أيقوسة؛ فهي مغراق تبتلع الأجسام الثقيلة التي تطؤها، وهي خداعة كأمواج البحر، وهي مسحورة تخفي الناس قبل أن يتنبهوا لسحرها، وهي ناعمة كالمرأة الفتانة التي تحوطك بذراعيها لتخدرك قبل أن تفترسك، وهي غزيرة متراكمة كالكلمات التي تغريك بها الكاهنة لتسلب لبك قبل أن تسلب مالك وتمتص دمك. هل هي رمال أم محط رحال الجن ومسكن الشياطين، ومدخل مدهون بأزهى الألوان يؤدي بداخله إلى وادي الفناء؟
نعم، إنه الربع الخالي، بل محيط المحيط من الرمال؛ هضاب وكثبان ووديان، أوقيانوس أرضي له أمواجه وتياراته، وكما أن في قاع المحيط وحوشا مائية مهولة كالأخطبوط، كذلك في الربع الخالي قبائل موغلة في الوحشية وقادرة - لبعدها عن حدود الحياة البشرية - أن تتحمل شظف العيش ومتاعب الحياة كأنها كلمات مهجورة على هامش صحيفة مبهومة الكتابة، كلمات لم تحوها حروف الهجاء المعروفة لنا، بل معروفة لأجيال سابقة انقطعت بيننا وبينها صلات الحياة. هل كان هذا الربع الخالي قاعا للبحر قبل التاريخ؟ للبحر الذي كان يغمر الأرض من أعلاها إلى أسفلها ومن شرقها إلى غربها؟ هل يكتشف العلماء بقايا متحجرات مائية تزيح لنا الستار عن هذه الحقيقة الباهرة؟
وكأني بالطائر المحلق في سماء هذا الربع الخالي وقد تجلت له تلك الرقعة العجيبة بألوانها الحمراء، وكثبانها الغنية بالرمال، وتلالها المستديرة كأنها حدوة الفرس أو شق الهلال، وبجوارها سلاسل بيضاء متوازية كأنها جبال من لبن متجمد في وسط وعاء ضخم من النحاس الأحمر، وفي جوف الوعاء لبن يترقرق، فإذا ما أمعن النظر بدت له الرمال البيضاء المتماوجة.
وفي ثنايا تلك المفاوز البيضاء والحمراء والهضاب الوردية والوديان الصفراء ذلك البحر السافي الذي ورث عن أبيه البحر القديم غريزة الهلاك؛ فما البحر السافي سوى تلك الرمال الرقيقة التي تبتلع الأثقال التي تطؤها.
وليست المياه في تلك النفود والصحاري معدومة، ولكنها نادرة ندرة خير منها عدمها؛ فأكثر هذا النادر مر الطعم لا يستساغ ولا يطفئ ظمأ ولا ينبت زرعا، وبعضه ملح أجاج لا يشرب ولا يذاق، وقليل منه في الآبار العميقة يشرب لأنه لا يوجد ماء سواه، بل يعد المسافر نفسه سعيدا إن ورد عين ماء بعد طول الشقة وشدة الحرمان، وقد تشد رحالك ما يزيد على مائتي ميل فلا تجد ماء من أي نوع من الأنواع، وحيث لا ماء فلا حياة للنبات والحيوان والإنسان.
وإن معنى الآية الشريفة:
وجعلنا من الماء كل شيء حي
لا يتجلى لك على ضفاف النيل أو الفرات حتى يكثر الزرع والضرع وتظهر نعمة الله على الخلق بفضل الخضرة والماء، ولكن معنى تلك الآية يتجلى واضحا قويا حيال ذلك العدم المطلق في تلك الصحاري المقفرة التي زادها الظمأ والجفاف إقفارا وفقرا، ونقلها من عالم الحياة إلى وادي الموت والعدم؛ فالحياة لا تدب إلا حيث السواقي والمراعي والآبار والواحات، والكائن الحي لا يهجر إلا القحط والعطش، ولا يفر إلا من المفاوز والمخاطر، والسائح والمسافر لا يسيران إلا في طريق معبدة ممهدة تخترقها القوافل حتى وإن كانت حواشيها وهوامشها ملآنة بالهياكل العظمية للإبل والبشر، فإنها لا تزال مأمونة ما دامت مطروقة، وإن كانت تحتفظ بآثار الموت الطارئ، بل إن آثار هذا الموت الطارئ دليل على أن الحياة مرت من هنا وهناك؛ لأنه لا يوجد الموت إلا حيث كانت الحياة، وهذه العظام النخرة، وتلك الجماجم ذات الأعين المفقوءة، والمحاجر العميقة الراقدة في جنب جماجم الإبل؛ تدل على أن الإنسان والحيوان قد مرا بتلك الفدافد، وما زال الإنسان ورفيقه يجد السير ويدأب حتى أدركه الموت على صورة من الصور، وكأن تلك العظام إذا مر بها النسيم سحرا تنادي أشباح المسافرين المسرعين في وادي الموت «ألا أيها الركب المجد! كما أنت مجد، كذا نحن كنا مجدين، وكما نحن راقدون كذا أنتم ترقدون!»
ولا عجب؛ فإن هذه الطرق التي كانت تخترقها القوافل قد انعدمت وضاعت آثارها بعد أن هجرها المسافرون والتجار، ولأن الرياح الشديدة الهبوب تسفي الرمال بغير حساب، فإنها تغير معالم الأرض وتحول طبيعتها وتنقل كثبان الرمال من مكان إلى مكان، وحسنا فعلت القوافل بهجرها تلك المفاوز والمغاور، وحسنا فعلت الرياح بتغيير تلك المعالم؛ فلا خير والله في أرض يخرج منها ماء وينبت فيها عشب إن ارتوى منهما الحيوان ورعى ضاع لون دمه الأحمر القاني، وانقلب أسود فاحما! وسواء أكانت تلك الفدافد والمفاوز تخفي في أحشائها آثار عمران قديم أو بقايا حضارة بائدة تدل عليها خرائب وقلاع وحصون وديار شامخة وقصور أمست دامرة بعد أن كانت عامرة، أم تخفي براكين عظيمة خامدة سكنت بعد حركة وهدأت بعد غليان، وانطفأت نيرانها التي كانت متأججة، وهبطت حرارتها التي كانت متوهجة، ولم تخلف بعد موتها سوى أحجار محترقة؛ فهي على الحالين لا تنطوي إلا على الخراب بعد العمران، والخمود بعد الهيجان، والموت بعد الحياة. إن كانت ثمة حضارة فقد اندثرت، وإن كانت ثمة حياة فقد انعدمت، وإن كانت ثمة حرارة أو نار فقد هبطت وبردت وانطفأت.
ويتفرع من النفود سهول رملية ذات رمل فحفاح، يستر صخورا وتتكون منه آكام وكثبان متقطعة توصلك إلى الدهناء، ومريط ومخيط وخب النوم وخب الرضم، وتوقعك تلك الدهناء في حبائل وشباك وشراك وخيوط رملية، وتندلع منها ألسنة تمتد إلى فجوات حجرية، وقد جردت الطبيعة في وجه المسافر أسيافا من الرمل جعلت حدها حدودا بين النفود الشمالي والنفود الجنوبي أو الربع الخالي. أما جبال الحجاز فتجتاز الجزيرة على محاذاة الساحل الغربي، وهو شاطئ البحر الأحمر من الشمال إلى الجنوب، وتبدأ من شمالي مدين إلى اليمن أو «العرب السعيدة»، وقد أطلق علماء الجغرافيا على هذه الجبال اسم السراة، وسميت حجازا لأنها تحجز بين البحر الأحمر وبين النجاد الشرقية العالية، وهذه الأرض تمتد إلى الغرب حتى تصل إلى تهامة، وتبسط يدها إلى الشرق فتبلغ أرض نجد. وبعد جبال الحجاز يرتفع في الجزيرة جبل شمر، وأجا وسلمى، وهذه جبال مؤلفة من آكام وهضاب ورءوس تفصل بينها أودية وشعبان. وأجا جبل ذكر؛ لذا جعلته الطبيعة أعلى من سلمى، وهي سلسلة جبال أنثى. وهذه المنطقة - منطقة شمر - تزين السهل بهذين الجبلين الشامخين، وبما يحيط بهما من الكثبان والآكام كأنها أسراب ضخمة من القطا الكامن في أحضان ذلك السهل.
وإذا تعديت تلك الجبال ورأيت حضنا فقد أنجدت، وما نجد التي اشتهرت بشعرائها وجمال نسائها ووفاء خيولها وصحة أنسابها، إلا سلسلة من الواحات المتشابهة في الشكل، المختلفة في الحدود والمساحة.
بلاد العرب السعيدة
وليست كل جزيرة العرب على هذه الحال من الجفاف والجفاء والجدب والإقفار والفقر ومظاهر الهلاك والعدم، بل إن فيها أقساما اختصها الله بخيره وبره، وأنعم عليها بالخصب والري؛ فإن في اليمن أو العرب السعيدة أراضي خضراء تفوح من أدغالها روائح النبات الطيبة، وبها وديان كوادي الذهب، ولا حيف في الاسم؛ فهو من أجمل الوديان وأخصبها، تجري فيه المياه، ويزرع ثلاث مرات في السنة الواحدة كأخصب أرض في القطر المصري، ترى الناس يحصدون ثلاث زراعات من الحنطة والشعير والذرة والعدس والحلبة والقات والبن، فإذا سرت في الوديان أو صعدت في العقبات السالكة في الجبال العالية - واسمها في اليمن «نقيل» - تشرف منها على مشاهد بهجة من السهول المزروعة والقمم الخضراء والجرداء، ثم تدخل في نجد الأحمر - وهي بقعة من الأرض الحمراء تعلو صخورها سطح البحر بأربعة آلاف - فيجف الهواء ويثلج الماء ويشف النسيم وتتعدد حولك الأزهار والرياحين، حتى لكأنك في جبال سويسرا أو لبنان. وإذا ما تركت وادي الذهب إلى وادي المرفد وجدته يفوق وادي الذهب خصبا وجمالا؛ ففيه شجرة البن التي تشبه بورقها وزهرها شجرة الليمون، وفيه الجوز واللوز والخرنوب وبساتين غضة من العنب والموز، تجري في ظلالها مياه النهر الذي يتدفق من جبل سمارة، فإذا صعدت إلى قمة سمارة - وهي أعلى ذروة في اليمن - رأيت تحت أقدامك قاع الحقل، فيتجلى لك القاع بمزروعاته المنوعة وبقاعه القريبة العهد بالحصاد كأنه طنافس خضراء وصفراء وبيضاء وسمراء تملأ العين بهجة، وتملأ النفس سرورا.
وهكذا جعل الله اليمن في مكان من الأرض شاء أن يكون ربيعه دائما. إن الهواء والسماء والماء تبسم كلها لأرض اليمن، وفي تلك السهول تلقى ماء حيثما بحثت؛ لأن في قديم الزمان كان يجري نهر غزير الماء، ولا تزال المياه تتدفق من الجبال كما هي الحال في لبنان وسويسرا وشمال إيطاليا، وإنترلاكن وشلالات أمريكا.
وإن هذه السهول المخصبة المخضلة، وتلك الجبال المشرقة، وتلك الأنهار المتدفقة، وهاتيك البساتين المزهرة، وتلك المياه المثلوجة المترقرقة؛ قد أنجبت مدنية عجيبة وهيأت لها من أسباب المجد والشهرة والعمران ما لأكبر بلاد العالم المتحضر في عصرنا هذا؛ فلها تاريخ غابر مجيد وحضارة بين شمس المجوس وكواكب الأوثان فيها تعددت الهياكل وتنوعت المعابد بكهنتها وأسرارها، ولديها عزت الآمال وتحطمت المطامع ووهنت الأماني فكانت مملكة سبأ، وكان حمير وتبع وقحطان. وقامت الحصون والقصور والقلاع وسدود الماء التي تصغر لديها سدود هذا الزمان وقناطره، ونشأ فيها العلماء والشعراء ونوابغ فنون التحصين والبناء، ثم جاءت كلمة التوحيد ودوى صوت المنادي بها في كل مكان، وارتفعت شوكة قريش وعدنان؛ تلك صنعاء اليمن.
وهذا كتاب الإكليل للحسن أحمد الهمداني في محافد اليمن ومساندها ودفائنها وقصورها ومراثي حمير والقبوريات، حافل بأخبار المجد والنصر وألوان من التاريخ والعلم، وليس ذكر سويسرا هنا مبالغة أو تفاخرا أو أنه ليدل على حقيقة واقعة؛ فإنه لا يظن المسافر أن في بلاد سويسرا مشهدا مثل المشهد الذي ينبسط أمامك في اليمن عندما تقف على ذروة بوعان فتشرف منها على بحر أمواجه قنن الجبال، وسطحه تلك الأودية المتشعبة الملتفة بعضها على بعض، وهناك دون القنن الشاهقة والصخور الشامخة والهضاب المتهرمة والوديان المظلمة المدلهمة والمنحدرات المهولة وفوق ظهر الغمام؛ تلوح جبال حراز وسريح، وأن النسور المحلقة والعقبان المرفرفة على رءوس الجبال بأعناقها الجرداء لتتعثر على حدة بصرها وقوة أجنحتها بسنام تلك الصخور والقنن، ولا تظن وأنت تنظر بعينك الإنسانية التي تكتسب من هذا العلو الشامخ قوة كقوة عين البازي والصقر أن ما خلقه الإنسان على شكل الطير وسماه طائرة أو منطادا يستطيع أن يجتاز هذا الفضاء القائمة فيه هذه الجبال كالجبابرة، وإن كان اجتاز قمة إيفرست وعلا جبال هيمالايا التي كانت من قبل لا تنال، فإن هذه الجبال اليمنية قد شمخت برءوسها، ولكنها كمنت كمون العدو في السحاب، فإذا حلق الطائر فوقها فهو لا شك يضل سبيله فيما يشبه تحته بحرا متلاطما بالأمواج، ولكنها أمواج من الصخور التي لا تلين ولا ترغي ولا تزيد.
هذه صورة مصغرة للجزيرة العربية من اليسير أن يتخيلها من يقرأ الجغرافيا ويلم بوصف الأرض ثم يرسمها رسما يقرب من الحقيقة العامة، وإن كانت في حاجة إلى التدقيق عند لزوم التطويل وتفصيل الإجمال الذي تدعو إليه فكرة الإيجاز. ورسم هذه الصورة من الضروريات لمن يريد أن يقف على حالة الجماعات البشرية التي عمرت تلك الأراضي الشاسعة صحراءها وواحاتها، جبالها وسهولها، قراها ومدنها، سواحلها ونجودها، وديانها وهضابها.
أهل جزيرة العرب وعلاقتهم بالجنس السامي
(1) الجنس السامي والجنس الآري
وعند محاولة وصف تلك الجماعات واستقصاء حالها تبدأ صعوبات جمة للمؤرخ والواصف؛ فلا ريب في أن الجماعات التي سكنت تلك الجزيرة العربية من فجر التاريخ هي من الجنس السامي الذي يشارك الجنس الآري في تكوين النوع الإنساني؛ فإن هذا النوع لا يخرج عن الجنسين السامي والآري إلا قليلا.
وقد زعموا أن الجنس الآري تميز بقوة الخيال وسمو الفكر واحتمال الشدائد ومكافحة الطبيعة وقوة الابتكار وروح الهجوم والاعتداء والتطلع إلى المجد واتخاذ الوسائل لبلوغ السعادة بالسعي في سبيل الحياة؛ وهذه المناقب التي استقل بها الجنس الآري دون
1
الجنس السامي، نشأت في غريزة أبنائه من طبيعة الأرض التي قطنوها؛ فإن تعدد المناظر واختلاف المناخ ورطوبة الأجواء ومشقات الحياة وصعوبة الحصول على الرزق وانعدام القناعة وحوافز الجد والمثابرة؛ كلها كونت الشعوب الآرية تكوينا يخالف تكوين الشعوب السامية، وغير خاف أن الشعوب النبيلة لا تهبط من السماء ولكنها تترقى «تتنبل» بالتدريج، ومثلها في ذلك مثل أشجار الفواكه، وهذا التطور التدريجي يمكن بدؤه في أي وقت من الأوقات كلما هيأت أسبابه حوادث جغرافية أو تاريخية أو رسمت له خطة محدودة مثل ما حدث للألمان، وقد تمت هذه العوامل للجنس الآري في أجيال سحيقة وفي أماكن شتى لا يمكن حصرها ولا بيانها على التحديد لطول القدم، ويمكن استقراؤها على انفراد بحسب حوادث التاريخ اليوناني والروماني والتيوتوني والسكسوني.
أما الجنس السامي فهو أعرق في القدم من الجنس الآري، ولكنه على عكسه من حيث صفات أفراده؛ فهو جنس يقطن من فجر التاريخ بلادا ذات مناظر واحدة، أرادت الطبيعة أن تكون فيها الحياة على وتيرة واحدة في جوها وهوائها وأرضها وسمائها؛ ولهذا كانت أخلاق هذا الجنس هي ما نراه في شعوبه المعروفة لنا، كالعرب ومعظم الشرقيين، وبعض أهل أفريقيا الشمالية، وآسيا الغربية. على أن نظرية التمايز قد كسدت.
وقد اختلف العلماء في تعيين مهد الجنس السامي اختلافا كبيرا؛ لأن مصادر علمهم ثلاثة، وهي الكتب المقدسة والآثار التاريخية والأساطير. وفي الكتب المقدسة نصيب كبير من التاريخ، وإن كانت في بعض الأحوال تختلف عن الحقائق التي وردت في الآثار، أما الأساطير فيخطئ من يعتبرها كلها من وضع الخيال أو ثمرات لأفكار الرواة والقصاصين؛ لأنها تنطوي على كثير من الحقائق، وإن لم تكن هي الحقيقة بنصها وفصها، فهي على الأقل رموز للحقيقة وصور لما يقرب منها وينطبق عليها.
فقال بعض العلماء إن الجنس السامي نشأ في أرض كنعان (وهي سوريا ولبنان)؛ لأن الحضارة الكنعانية أقدم الحضارات، ولم تشاهد حضارة أقدم منها، ولأن اللغة الكنعانية أقدم اللغات، وطبيعي أن اللغة هي أهم مصدر من مصادر التاريخ العلمي لأنها تعد أعظم أثر وأقوى مستند في سجل الأمم. وهذا الرأي غير موافق للصواب؛ لأن القائل به جعل الكنعانيين أصل الساميين، وقد اهتدى العلماء إلى وحدة الجنس السامي بالمشابهات العديدة المشاهدة في اللغات السامية؛ وهي الكنعانية والنبطية والسامرية والعربية والعبرية والحبشية، كما اهتدوا إلى وحدة الأفكار التي تمليها حياة الأفراد على اللغة وتتخذها مظهرا لها ووعاء تفرغ فيه مادتها؛ فهذه الشعوب كلها يمت الواحد منها إلى الآخر برابطة اللغة ورابطة الفكر، ولكن النظرية القائلة بأن كنعان مهد الجنس السامي سقطت وتلتها نظرية البابلية؛ وهي أن الجنس السامي بابلي آشوري. وهذه النظرية الثانية قد فشلت أيضا وإن كان يبدو عليها مسحة من الحقيقة سببها أن أهل بابل وآشور كانوا يتكلمون لغة سامية ويفكرون على طريقة سامية وإن كانوا يعيشون في بلاد تحتم عليهم أن يكونوا آريين؛ لأن بابل وآشور (العراق اليوم) بلاد مختلفة المناظر متنوعة الأوضاع والأجواء والمناطق، ولكن أهلها ما فتئوا يكتبون وينطقون بلغة سامية ويفكرون بطريقة سامية. وسبب هذه الظاهرة الغريبة هو أن البابليين والآشوريين أصلهم عرب ساميون نزحوا من جنوب الجزيرة في اليمن إلى بابل، ثم عادوا بعد أجيال طويلة إلى وطنهم الأصلي في قحطان بعد أن دخلت على لغتهم أشكال وصور جديدة مستفادة من وطنهم الجديد. ولكن هذه الحياة الجديدة التي عاشوها في بابل وآشور على ضفاف دجلة والفرات لم تقو على انتزاع فطرتهم السامية.
ثم انتهى المطاف بالعلماء إلى القول بأن مهد الجنس السامي هو جزيرة العرب نفسها، ودليلهم على ذلك في اللغة العربية القديمة وهي اللغة التي ورثها المستعربون عن العرب الأولى. وأصحاب هذه النظرية يصورون جزيرة العرب كأنها مصدر ومورد للساميين ينزحون منها ويعودون إليها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؛ فإليها جاء أقوام من شمال أفريقيا وغرب آسيا، ومنها نزح أقوام في فجر التاريخ إلى العراق وإلى مصر وإلى أرض كنعان نفسها، ومنهم من اجتاز مضيق باب المندب، ومنهم من جاز صحراء سينا إلى الأراضي الخصيبة شمالا وغربا. وقد أدى هذا الارتحال المستمر قبل استقرار الأمم في مواطنها إلى الاختلاط، حتى إن فرعا واحدا من فروع الدوحة السامية يمكن رده إلى أربعة أصول، وهذا الفرع هو النوع اليهودي الذين كانوا في بداية أمرهم عربا رحلوا فيمن رحل من جنوب الجزيرة إلى شمالها وخرجوا منها إلى مصر، ثم خرجوا ففتحوا فلسطين واتخذوا ديانتهم، وعاد بعضهم إلى وطنهم الأصلي، فتجد يهودا في اليمن ويهودا في خيبر ويهودا في يثرب ولكنهم لم يفقدوا عنصرهم الأول وهو العنصر السامي، بل إنهم أضافوا إليه عناصر حيثية وهندية أوروبية وطورانية. (2) نقاوة الجنس البشري
أما النوع الذي احتفظ بذاته واستبقى شخصيته كاملة غير منقوصة، فهو النوع البدوي؛ فهذا البدوي الذي يعيش في صحراء العرب شاءت له الأقدار أن يدخر ساميته كما تدخر العذراء عفتها في وسط هذه العواصف والزعازع والأعصار، وعلى هذا الرأي بوركها ردت وروبرتسون سميث في كتابه ديانة الساميين؛ حيث قال (ص8، مطبوعة 1894): «مما لا يقبل الجدل أن عرب الصحراء منذ العصور التي لا تعرف لها بداية احتفظوا بجنسيتهم نقية غير مخلوطة.» بل إن هذا المؤلف - وهو خبير راسخ القدم في بحوثه - يأبى أن يعد البابليين والفينيقيين في مصاف الساميين، ولا يعترف لهم بالنسب السامي إلا فيما يتعلق باللغة؛ فإن بينها وبين اللغات السامية قرابة ونسبا، ويقول بأن جميع الشعوب المنسوبة إلى السامية قد خولطت وامتزجت دماؤها بدماء أجنبية، ما عدا الجنس العربي الذي يعيش عيشة البداوة في الصحراء، وأن بوركها ردت الذي اتخذه بعض العلماء حجة في هذا الموضوع افترض أن ملايين من البشر يشبهون في مجموع أبدانهم وعقولهم وأخلاقهم وطبيعتهم أهل البادية أو بدو الصحراء؛ هاجروا منذ ألوف الأجيال من الجزيرة إلى مختلف الناحيات طلبا للقوت والرزق؛ لأن طبيعة الجزيرة تدفع على كثرة النسل، ولكنها لا تقوى على تغذية أبنائها؛ فدفعت بهم الحاجة إلى الهجرة والغزو، فانهالوا ألوفا مؤلفة أشبه شيء بالأنهار على الشرق والشمال، فكانوا مسلحين فغزوا ما استطاعوا للغزو سبيلا، واستعمروا ما كان في طاقتهم ووسعهم أن يستعمروه من بلاد الشعوب الشبعانة الضعيفة بنعمة شبعها، وما زالت الهجرة الفردية السلمية حادثة في ظلال الأمان والطمأنينة؛ فإن قبائل أو عائلات ترتحل من مرعى إلى مرعى إلى أن تتعدى الحدود وتحتل بلادا أخرى فتعيش فيها، وقد تحتفظ بدمائها نقية وقد لا تحتفظ، وما زالت جزيرة العرب كالمنجم الذي ينزح وتستخرج معادنه حتى تفيض عن حاجة أصحابه فتصدر إلى البلاد الأجنبية. وقد كانت أمريكا في العصور الحديثة مسرحا لمثل هذه الحال؛ فقد نزحت إليها شعوب بأسرها على توالي الأعوام، تارة تحت ستار الفرار من الاضطهاد الديني، وطورا باسم الفرار من الضنك والضائقة. وما زال هؤلاء ينزحون ويكتسحون أمامهم الأصلاء حتى أفنوهم وحلوا محلهم، وأباحوا الهجرة لسواهم حتى اكتظت مواطنهم الجديدة، فبدءوا يطاردون القادمين الذين هم في حالة كالحالة التي كانوا عليها منذ مائتي أو ثلاثمائة سنة، وقد وصل هؤلاء البدو إلى أفريقيا الوسطى واستعمروها وأقاموا فيها ممالك ودولا بقيت إلى آخر القرن الماضي. (3) نزوح إبراهيم وأخلاق البدو
فإذا عدنا إلى ما تقرره الكتب المقدسة رأينا سيدنا إبراهيم وقد تزوج ينزح من بلاد «أور» - وهو في جنوب الفرات - إلى شمال العراق تحت سلسلة جبال أرمنيا، ثم إلى «بادان أرام» فيما وراء الفرات، ومن بادان أرام إلى الجنوب الغربي في أرض كنعان، ومن كنعان إلى مصر ثم من مصر إلى كنعان، وكان إبراهيم نبيا وشيخ قبيلة بدوية ورب أسرة رحالة تنتقل وراء أنعامها وغنمها، وتركن في الارتحال إلى دوابها من إبل وخيل.
وكان في تنقله مسالما لأنه لا يؤمن غائلة القتال لو كان مسلحا أو لو كان بحارا، فلما بلغ مدينة أور الكلدانيين احتك - وهو ذلك الزعيم البدوي المتنقل - بالحضارة البابلية؛ فرأى حضارة عريقة ومدنية رائعة. ولما أرغم هذا الزعيم ومن يمثلونه على الرحيل عز عليهم فراق ذلك الجوار الناعم وتلك القربى الطيبة، فلما عاد إبراهيم إلى أرض كنعان ما زال يحن إلى أرض بادان أرام ويذكرها بخير ويصفها بأنها وطنه، كما ينتسب السائح النبيه العائد من بغداد أو مصر أو أحدهما فيقول لقومه في تونس أو في الشام إنه مصري أو بغدادي؛ لكثرة ما يحن إلى الواحدة منهما، ولكثرة ما وجد من الروابط الفكرية أو الخلقية التي تربطه بهما. وإن أصل الحجاز يرجع إلى هجرة صغرى من بين تلك الهجرات الكبرى، فإن إسماعيل وأم إسماعيل - وهما من أسرة إبراهيم - نزحا بأمر إبراهيم إلى ذلك الوادي الضيق المجدب المحصور بين سلسلة جبلية وشاطئ بحر عظيم، وهناك تأسست أسرة فقبيلة، فدولة، فدين، فحضارة.
وما يزال البدوي رابضا في صحرائه محتفظا بنقاوة دمه بعيدا عن حومة التاريخ إلى أن يرحل أو ينزح ويختلط بالشعوب الأخرى؛ لأنه ما دام منعزلا على هذه الصورة فهو كمية مهملة. ومن هنا جاءت أهمية الإسلام؛ لأن هذه العقيدة التي انبثقت في قلب تلك الجزيرة أخرجت البدوي من غمده وأبرزته للعالم الخارجي؛ فعلم وتعلم، وحارب وسالم، وتألم وتمتع، وتهذب وتحضر، وسافر وتثقف، ونظم وحكم، وساد وعدل، وأنصف وظلم، وأغنى وأفقر، وأحب وكره، وكافح وحالف. نعم، كان البدوي في حياته السابقة على الإسلام التي توصف بالجاهلية شجاعا وكريما وورعا وقاسيا ومطالبا بالثأر. ولكن هذه كلها عناصر منفردة قد تكون الخلق أو قد تدخل في تكوين الخلق، ولكنها لا تدل على شيء من عقله ولا تبسط لنا مواهبه الروحية، وقد درسنا عقلية البدوي سواء بالمعاشرة أو بالنقل عن عارفيه؛ فما شككنا يوما في أنه - مع كل الفضائل التي تنسب إليه - تنقصه موهبة الانتباه واليقظة العقلية؛ فهو بفطرته خامد القريحة في كل ما يخرج عن دائرة تفكيره الضيقة ولا يستفيق من نومه العقلي الطويل إلا في فترتي الحب والحرب؛ فهو إذن يصحو ويفيق ويحمل سيفه ورمحه أو يصوب سهمه وينطلق لسانه، ولكنه في الحالين مبالغ متطرف لا يعرف الهوادة ولا يسكن إلى الأناة؛ ولذا تراهم يضربون الأمثال للحث على الصبر والحلم وطول التأمل؛ فالبدوي مندفع إذا أحب أو حارب، ولكنه فيما عدا هاتين الخلتين نائم حالم. ولكن هذا النائم الحالم قد ميزته الطبيعة بموهبة نادرة المثال تحسده عليها سائر الأجناس، وهذه الموهبة النادرة هي قوة الإرادة؛ فالبدوي قوي الإرادة يعادل أهل إسبرطة إن لم يفقهم، ويشبه الرومان إن لم يفضلهم، قوي الإرادة حتى الاستهانة بالموت؛ فالحياة التي تراها عند سواه ثمينة وغالية وجديرة بالدفاع والحماية، وفي المكان الأول بقيمتها وقدرها حتى يذل الرجل عنقه ويفقد كرامته في سبيل الاحتفاظ بها! ترى ذلك البدوي الذي لا يقل عن غيره حبا للحياة وتعلقا بأهدابها - ولو على الأقل بحكم غريزة البقاء - ترى ذلك البدوي العربي السامي يستهين بها ويزدريها، ويفضل عليها الموت إن كان في بقاء الحياة ما يذهب بإبائه أو كرامته. وكذلك تراه يضحي بحياته في سبيل عقيدته؛ فالإيمان أولا وقبل كل شيء، والكرامة أولا وقبل كل شيء؛ ولذا رأيناهم يموتون في سبيل كلمة مهينة، أو نظرة احتقار، أو تهمة تمس الشرف، ورأينا حروبا شعواء تشعل نارها حفظا لكرامة ضيف، أو غضبا لانتهاك حرمة ضعيف، أو حماية لعرض امرأة ... لقد وضع البدوي حياته في كفة وشرفه في كفة أخرى، وهذه القوة لا تتوافر إلا إذا كانت الإرادة قد بلغت أشدها في نفس الرجل. لقد أنحى ابن خلدون على العرب في كثير من فصول المقدمة؛ وأقساها السادس بعد العشرين الذي جعل عنوانه «أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب.» وفي هذا الفصل قال: «إنهم أمة وحشية ... وغاية الأحوال العادية عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له؛ فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثاف للقدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك. والخشب أيضا إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه لذلك؛ فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران. وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، ويتلفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم، لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثمن. وأيضا فهم متنافسون في الرياسة، وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره من أجل الحياء؛ فيتعدد الحكام منهم والأمراء. وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه وأقفر ساكنه وبدلت الأرض فيه غير الأرض؛ فاليمن قرارهم خراب إلا قليلا من الأمصار، وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع ، والشام لهذا العهد كذلك، وأفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو سليم من أول المائة الخامسة وتمرسوا بها الثلاثمائة والخمسين من السنين، قد لحق بها وعادت بسائطه خرابا كلها بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانا. تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدائن، والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين» ا.ه. (ص90، من المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون).
وهذه النبذة نفسها نقلها من العربية إلى الفرنسية روبرت فلنت، في ص166 من كتابه تاريخ فلسفة التاريخ، طبع 1893، ونقله عنه هوستون شمبرلين، ص398، ج1، من كتاب «أصول القرن التاسع عشر»، نسخة إنجليزية، طبع 1913. وفي هذا الكلام الخلدوني تحامل كبير على العرب، إن صح بعضه فمعظمه مبالغ فيه، وإن صح هذا القول على العرب فماذا يقال عن القبائل البربرية التي انحدرت من شمال أوروبا وضربت شعوبها واكتسحت رومة وإسبانيا وألمانيا وفرنسا؟ وقد كان للعرب أثر في الحضارة في كل مكان فتحوه أو نزحوا إليه، وقد أسسوا في أنحاء الشرق مدنية عظيمة لا تزال قائمة. ونحن لا نميل للأخذ برأي ابن خلدون على علاته، ولكننا ذكرناه لنظهر ناحية ضعيفة من خلق العرب رآها فيلسوف اجتماعي عظيم تجري في عروقه دماء عربية، ولا يخلو كلامه من بعض الحق؛ لأن العرب لم تصلح شئونهم ولم يتهيئوا للسياسة إلا بعد ثورة الإسلام.
في دلالة اللغات على الأجناس الإنسانية
(1) الغاية من دراسة اللغات
يجب على كل كاتب بالعربية في هذا العصر أن يلم بسائر ما كشف عنه علماء أوروبا من البحوث الحديثة في أصول الأجناس البشرية ونظم الاجتماع الإنساني، فإن لم يكن لنا فضل الاهتداء بأنفسنا إلى ما وصل إليه بعض علماء المشرقيات المنزهين عن الأغراض، بما هيأته لهم الحياة المنظمة والجهود المتواصلة من المصادر والمراجع الغنية، ومن الوقت والمال والأسفار، فلا أقل من أن ندرس كتبهم ونجني ثمار أعمالهم، ونحاول على قدر طاقتنا أن ننتفع بثروتهم العقلية، وأن نتوصل بتفكيرنا ومعارفنا إلى تمحيص الحقائق التي وصلوا إليها على مدى الأعوام بل الأجيال، وينبغي لنا أن نتحرى في كل ما نصدره من تاريخ شعوبنا العربية والشرقية أمرين؛ الأول: أن نتبع طرق الدرس الحديثة بالرجوع إلى المصادر الأصلية، وأن نطبق عليها قواعد النقد العلمي الحديث التي ازدهرت في ألمانيا والنمسا قبل ظهور النظم الديكتاتورية التي هي منافية بطبعها لخدمة العلوم الشرقية وفرنسا وإنجلترا وهولاندا والسويد والدانمارك من القرن 17-20 في كل ما يتعلق بدرس اللغات القديمة والمعتقدات والاجتماع وتقسيم الأجناس البشرية.
والثاني: أن نرد نسبة كل رأي إلى صاحبه، وأن نذكر المراجع بالتفصيل حتى يتمكن القارئ من الرجوع إليها في أصولها إن شاء؛ لأن الاستشهاد برأي عالم والاعتراف بفضله أجدى على الكاتب والعلم من اختلاس الرأي وانتحاله ولو كان فيه إيهام القارئ والناقد بعلم الكاتب؛ لأن الاستشهاد الصادق يدل على التبحر وسعة الاطلاع والثقافة، وانتحال الكلام وسرقته يدلان على الجهل الموشي بالخيانة. وباتباع هاتين الطريقتين يمكننا أن نتطلع لأن يكون منا في الحاضر علماء ومؤرخون، يحققون في المستقبل القريب إن شاء الله أمل الشرق ونبوءة بعض كتاب أوروبا في تقدمنا. اسمع إلى قول الفاضل ه. ج. ولز، في ص80، من «تاريخ العالم»: «لقد دنونا من الوقت الذي سوف يتمكن فيه علماء لغويون
1
من اليابان والصين والعرب والهنود، من مساعدتنا في رفع القناع عن خفايا اللغات الشرقية - السامية منها وغير السامية - التي لقينا في بحث أصولها ما لقينا من الصعاب والعقبات.» والشرقيون لم يساهموا فيها مطلقا.
فهل لنا أن نحقق آمال الشرق ورجاء هذا الكاتب النزيه؛
2
فنتقدم إلى ميدان البحث والاستقراء في لغاتنا وآدابنا وتاريخنا ومعتقداتنا التي لا تزال يتيمة وثكلى في آن؛ ذلك الميدان الذي جلى فيه عشرات، بل مئات، من العلماء الأعلام، فبلغوا في مجال العلم الغاية القصوى وأنالوا شعوبهم ما شاءت لهم العقول الخصيبة المنتجة المستندة إلى قوة الإرادة وإرادة القوة؟
لقد ألف بعض علماء العرب في أصول بعض اللغات وأبلوا أحسن البلاء، ولكن جل جهودهم كانت منصرفة إلى خدمة نظريات قديمة وتحقيق أغراض مفروغ منها، فبدءوا يتساءلون: هل اللغات الإنسانية متواطأ عليها بين أئمتها الذين وضعوها للتفاهم بها، أم أنها توقيف؟ أي منزلة من السماء.
3
وأفاضوا في ذلك ما شاء علمهم ومصادرهم وتواريخهم وأساطيرهم، ولكنهم لم ينتفعوا بدرس هذه اللغات في تحقيق أصول الأمم التي كانت تتكلم بها، بل تراهم يمجدون بعض اللغات لأسباب يحسبونها دينية، ولم يبد لواحد صادق العزيمة منهم أن يتغلغل في نشأة تلك اللغات وأصول الشعوب التي تكلمت بها، ولعل لهم العذر في ذلك؛ فإن دائرة بحوثهم كانت ضيقة، كما أن معارفهم لم تتسع وراء بضع لغات سامية ولغتين آريتين هما الفارسية واليونانية. ولو أن مؤلف «المزهر» ألفى أفق البحث متسعا، فلعله كان يصل إلى شيء مما ننشده ونتأوه عليه.
لقد أجمع علماء المشرقيات من الغربيين على أن أصول الشعوب تعلم بأصول اللغات؛ لأن رابطة اللغة بين الأمم أقوى من رابطة المعتقدات، ولأن درجات القرابة بين القبائل والأمم لا تدل على شيء دلالة اللغات، قال روبرتسون سميث
4
في كتاب «ديانة الساميين» (ص7): «إن تقسيم الجنس الإنساني بحسب اللغات إذا طبقناه على الجماعات الكبيرة، يدنينا من التقسيم الطبيعي دنوا يقارب الدقة المرغوبة، ويمكننا أن نعتبر هذا التقسيم طبيعيا لا مصطنعا، وهذا يصدق غالبا بالتخصيص على الأزمنة القديمة السابقة لوجود آداب اللغات والكتب الدينية؛ لأن اللغات الدخيلة على الأمم لا يمكن أن تستقر في واحدة منها بدون هذين العاملين المؤثرين، وهما الأدب والكتب المنزلة؛ وحينئذ يكون تفاهم أمة من الأمم القديمة، بلغة من اللغات دليلا على أنها لغتها الفطرية الطبيعية، فإذا ما اشتركت أمتان في لغة واحدة دل هذا على وحدة الأصل. وإن أهل مصر في عصرنا الحاضر
5
يتكلمون كلهم باللغة العربية ويكتبونها، واللغة العربية سامية، مع أن الشعب المصري بعيد عن الاندماج في صورة الشعب العربي، ولا يزال حتى هذا العصر محتفظا بملامح الجنس الحامي، ولكن تأصل العربية في مصر وانتشارها في ناحيات الحياة المصرية يرجعان إلى أن العربية لغة القرآن، وأن الإسلام دين المصريين، ولولا هذا الدين وتلك اللغة لبقيت مصر تتكلم اللغة التي تنطبق على أصلها الإتنولوجي.»
6
هل يقصد إلى اللغة المصرية القديمة؟
ويرجع الباحثون سائر اللغات السامية إلى أصل واحد؛ هو اللغة السامية الأولى، أو أم اللغات السامية، أو جذع شجرة اللغات السامية التي اندثرت معالمها كما اندثرت معالم اللسان الآري بعد تفرع اللغات الآرية الثانوية، ولكن الشبه بين الفروع السامية شديد، حتى إن من لم يكن دقيق الملاحظة ولم يتعود براعة المقارنة يدرك للوهلة الأولى شدة الشبه بين الفروع المذكورة.
7 «وبمقارنة اللغات السامية مقارنة لفظية اتضح للباحثين فيها أن أصول كلماتها واحدة ومشتركة، وكثيرا ما تكون معاني هذه الكلمات الأصلية لا تغير فيها بمعنى كذا في العربية مثلا، وبه نفسه في العبرية أو السريانية أو أي لغة سامية أخرى، وفي بعض الكلمات ترى الاشتراك اللفظي مع التحوير في المعنى بأن تكون الكلمة من هذا النوع في اللغة العربية وهي بلفظها في العبرية أو السريانية أو أية لغة سامية أخرى، ولكنها تدل على معنى غير الذي تدل عليه العربية، إلا أنك على الدوام ترى بالبحث السهل العلاقة القائمة بين المعنيين.»
8
يرجح علماء الشعوب وعلماء اللغات أن اللغات الإنسانية ترجع إلى تسعة أصول: السامية، والآرية، والحامية، والزنجية، والأورال الطية، والصينية، واليابانية، والهندية الأمريكية، والإسكيمية.
ولا يهمنا من هذه الأصول التسعة سوى اللغة السامية التي تفرعت عنها البابلية والآشورية والفينيقية والعبرية والسورية والعربية والحبشية، وهذا التقسيم هو أحدث التقاسيم؛ فلا نحب أن نضيف إليه أو نطرح منه، وإن كنا قرأنا في كتب بعض هؤلاء العلماء ما يدل على انتساب الآرامية والكنعانية والنبطية والسريانية إلى الأصل السامي، ولكننا لا نميل للأخذ بتقسيم غير هذا التقسيم الذي ارتضيناه بعد الفحص والتمحيص؛ لأن من العلماء من يقول بأن الكنعانية كانت شعبا قائما بذاته وله لغته وحضارته ويقدمون الأدلة القوية على ذلك
9
وسنأتي على هذه النظرية بالتفصيل.
ويهمنا أن نذكر الأصل الحامي الذي تفرعت عنه اللغات المصرية القديمة وحفيدتها القبطية ولغات بحر إبجيه ولغتا البربر اللتان يتكلمهما سكان الجبال في شمال أفريقيا والإثيوبية المنتشرة في الصومال.
وترجع رغبتنا في ذلك الاستطراد إلى أمرين؛ الأول: أن يثبت في ذهن القارئ أن اللغة المصرية الأولى القديمة لم تكن سامية، وإذن يكون المصريون القدماء من أصل غير أصل العرب، والثاني: أن عالما مصريا موقرا انتقل إلى رحمة الله بعد أن قضى شطرا من عمره في خطأ جسيم بنية سليمة؛ وذلك لعدم إلمامه بعلوم اللغات الحديثة.
فقد صرف عشرات السنين في تأليف قاموس هيروغليفي، ليثبت للملأ أن اللغة الهيروغليفية الحامية ترجع إلى اللغة العربية السامية، ولو اكتفى بتأليف القاموس لتفسير اللغة الهيروغليفية بالعربية إذن كان عمله من أنفع الأعمال، والذي استدرجه إلى هذا الرأي وجود مشابهة بين بعض الألفاظ من اللغتين وانتحال كثير من الألفاظ الهيروغليفية
10
باللغة العامية المصرية، التي هي خليط من لغات شتى من أصول سامية وحامية وآرية؛ لأن مصر بوتقة للأمم ولغاتها من قديم الزمان وسالف العصر، ولكن اللغات السامية آسيوية، واللغات الحامية أفريقية.
ونحب أن تتضح غايتنا من هذا الدرس، وهي الوصول إلى حقائق علمية ثابتة عن الشعب العربي واللغة العربية والحضارة العربية والمعتقدات العربية قبل الإسلام؛ لاعتقادنا أن درس الحاضر دون الوقوف على الماضي يؤدي إلى التخبط والاضطراب، ولأن درس أمة من الأمم يتناول إنتاجها العقلي والأدبي في التفكير الديني أو تكوين العقيدة، وما إليها من طقوس العبادات وأنواع المعاملات والتفكير الفني المكون للحضارة، والنظر العلمي المنتج للمدنية الإنسانية، والنظر الفلسفي الباحث في أسرار الوجود ونواميسه، والمجهود العقلي التاريخي المدون لحوادث الأمة في الحرب والسلم، وفي الحكم والسلطان والمسجل للتطورات التاريخية عن طريق الرواية والأساطير، أو من ناحية الوثائق والنقوش والآثار والعاديات والحفريات. (2) البحوث اللغوية في القرن التاسع عشر
جاء القرن التاسع عشر بثمار علمية نافعة، منها إزاحة الستار عن الخط المسماري واللغة الآشورية البابلية، وبعض لغات سامية أخرى تركت آثارا قديمة قيمة قد دونت بالخط المسماري.
ثم جاء دور المقارنة اللفظية الفنية والمقارنة المعنوية الأدبية.
فقام بالأولى عالم ألماني علا في العلم كعبه وذاع في العالم فضله، هو بروكلمان الذي قام بالمقارنة اللفظية باستيعاب كبير.
وسبقه إلى المقارنة الأدبية المعنوية نولدكه الهولندي ورينان الفرنسي. وكان نولدكه عالما مخلصا مستقل الرأي بعيدا عن الغايات، بعيدا عن التعصب لفكرة أو عقيدة أو رأي سياسي.
أما رينان المستشرق الفرنسي العظيم، فقد ألف كتابه في المقارنة المعنوية الأدبية ولم يكن خاليا من الغرض؛ فإنه عمد فيه إلى الجدل والسفسطة، واستنتج بناء عليها ما حكم به على الساميين من الأحكام الجائرة القاسية البعيدة عن الصدق والصواب.
وبالمقارنة اللفظية التي نهض بها بروكلمان في اللغات السامية ثبت أن جميع اللغات السامية الداخلة في مجموعة واحدة هي لهجات متقاربة جدا ترجع إلى لغة واحدة أولى؛ هي أم هذه اللهجات، وأن جميع الشعوب التي تتكلم بها هي فروع جنس واحد يرجع إلى جماعة سامية أولى؛ هي أصل هذه الفروع، وأن الأمة العربية قديما وحديثا هي الجنس السامي بأكمله، ومنزلة جميع الوحدات السامية من العرب منزلة الشعوب المتفرعة عن أمة واحدة مع دوام اتصال الفرع بالأصل واستمرار المرد من الأصل إلى الفرع، ومنزلة اللهجات السامية من اللغة العربية منزلة الفروع الدانية من الأصل.
أهمية علم اللغات وعلم الأجناس في تدوين السيرة المحمدية
وصل علم اللغات (فيلولوجيا) - بعد أن درس جميع أساتذته اللغات الإنسانية وحصروها وقسموها إلى مجموعات كبرى - إلى غاية علمية حاسمة في تاريخ الإنسان، وهذه الغاية العلمية الثابتة غيرت مجرى التاريخ القديم وشقت له طريقا جديدا، وحولت المؤرخين والباحثين من الاتكال على المنقول من الأساطير والمروي بالتواتر على الألسنة من الأجداد إلى الأحفاد، ومن الأسلاف إلى الأخلاف، مقصورا في أحكامه النهائية ونتائجه الحاسمة القاطعة على الآثار المادية القائمة المشاهدة للعيان، والنقوش المحفورة والتماثيل المنحوتة والوثائق المسلم بها والتحف المحفوظة، والعاديات التي ترجع إلى العصور القديمة وما يماثلها. وقد اعتبرت هذه المصادر المادية مراجع تاريخية غير مشكوك فيها. ومن هنا انشقت الطرائق فاتجهت الثقافة العلمية اتجاها جديدا وفرقت - بعد جهود جبارة - بين الأمور الثابتة التي لا تقبل الشك لأن الأدلة المادية تؤيدها، وبين الأخبار المروية والمنقولة على لسان السلف من الخلف وموروثة بالتواتر.
ولكن ذلك التاريخ المروي أو الوارد في صورة أساطير، وهو الذي خلا من الأسانيد المادية والوثائق الرسمية ، وكان خلاصته الرواية أو الأساطير؛ ليس محلا للطعن فيه أو رفضه برمته إلا إذا ظهرت أدلة أثرية ونتائج علمية وبحوث دقيقة بعدم صحته، وإلا فيبقى الحكم عليه للمستقبل وما ينتظر أن تأتي به جهود العلماء من ثمار البحث والتنقيب والحفر، أو النظر الطبيعي بما يؤيده أو يقضي عليه.
وإذن تكون الثقافة الحديثة تحترم الواقع وتعتمد عليه، ولكنها لا تهمل المروي والموروث، ولا تنكر ما له من أثر نافع في البحث التاريخي.
لقد وصل علماء اللغات بجهود عنيفة وقوة جبارة وصبر الأبطال ومثابرة لا يتطرق إليها اليأس إلى معرفة العاديات (أركيولوجيا) وحل رموز النقوش والخطوط القديمة، ومن أبطال هذه العلوم شامبليون ورينان وفلندر زبتري وماسبرو وماربيت؛ فقرءوا الخطوط القديمة وعرفوا لغاتها، فارتكزوا في نتائج أعمالهم على الآثار والوثائق المدونة والمخطوطات القديمة.
وكانت نتيجة هذه البحوث أن أهم مجموعات اللغات لا يعدو المجموعتين السامية والآرية، وأن أقوى الأجناس البشرية وأفضلها ينحصر في الجنسين: السامي والآري، وإليهما ترجع الحضارة الإنسانية والمدنية العامة، ولغاتهما هي ديوان هذه المدنية وتلك الحضارة، وإليهما يرجع السلطان الأكبر في قيادة الأمم.
والجنس السامي أقدم في كل ذلك عهدا وأبعد أثرا في أزمان طويلة من الجنس الآري، وقد بدأت المدنية الإنسانية العامة في بلاد النيل، والعنصر السائد فيها هو السامي، ومدت مصر نفوذها في أول أدوار التاريخ الإنساني على كثير من بلاد العالم القريبة والبعيدة.
وبعد ذلك ظهر البابليون وتحضروا بالحضارة السومارية الأكادية وبمدنية مصر، ومدوا نفوذهم على كثير من البلاد المجاورة.
ثم نهض الآشوريون - وهم ساميون أيضا - وزاحموا بابل واستولوا على بلادها، وامتد سلطان آشور من إيران إلى البحر الأبيض ومصر، وهذا هو الدور الأول للشعب السامي. ثم انتقلت السلطة العالمية، وتحولت القوة الحربية والقدرة السياسية إلى بلاد فارس - وهي أمة آرية - فحاربت اليونان حروبا حاسمة، وبعدها انتقل النفوذ والسلطان إلى اليونان - وهي أمية آرية - وعلى أنقاض دولة الإغريق قامت دولة الرومان - وهي من الجنس الآري - فانتهت هذه الدورة الثانية من حياة الإنسانية بانتقال القوة من شعوب الجنس الآري إلى الجنس السامي من جديد.
وقد تخللت هذين الدورين اللذين دالت فيهما دول وقامت أخرى ديانات شتى، بعضها منزل سماوي، كاليهودية والمسيحية، وبعضها وضعي إنساني، كالبوذية والكنفوسية.
واستعد العالم للدور الثاني السامي - وهو الحلقة الثالثة من حضارة العالم - وذلك بنهضة العرب وظهور الإسلام الذي نقل القوة والنفوذ إلى الجنس السامي، واستمر فيهم إلى العصور الوسطى؛ فتدهورت دول الإسلام في بعض ممالكهم الكبرى، كالدولة العباسية الرابعة في العراق. وابتدأ الدور الثاني للآريين أو الحلقة الرابعة من الحضارة البشرية؛ فخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى إلى نور عهد الإحياء، وتحول إلى أمم الغرب النفوذ السياسي والإنتاج العقلي، ولا يزال هذا الدور مستمرا إلى أوائل القرن العشرين، ولكن كثيرين من علماء أوروبا - لا سيما الألمان والإنجليز - يتكهنون بزوال هذه المدنية الأوروبية ودنو أجلها، ولا سيما بعد الحرب العظمى (1914-1918)، وقد نهضت أمم أخرى من أجناس أخرى غير الجنسين السامي والآري؛ وفي مقدمتها اليابان، ولكن بعدها عن مركز الحضارة العالمية لا يجعل لها شأنا عالميا إلا إذا اتحدت مع غيرها من أمم الجنس الأصفر مثل الصين والهند الصينية وسيام وآنام، وهذا أمر لا يزال كامنا في خبايا المستقبل، ولكن الأمر الذي يكاد يكون محققا هو نهضة الجنس السامي، وهي نهضة كبرى أخذت نشأتها في مصر وامتدت إلى أطراف البلاد العربية. وقد بدأت هذه النهضة من أوائل هذا القرن العشرين، والمرتقب أن تلك النهضة العربية السامية ستجدد العظمة السامية تجديدا كاملا ملائما لروح العصر الحديث، وتجعله مثمرا مزدهرا كبير الأثر في حياة الإنسانية؛ فقد نهضت تلك الأمم بعد طول الرقاد، ونفضت عن كاهلها غبار الأجيال البائدة، وأفادت من علوم العصور الحديثة واختبارها على مدى السبعة القرون السالفة.
اللغات والأجناس
(1) نشأة اللغات وتقسيمها
في «المزهر» للعالم المصري جلال الدين السيوطي (ج1، صفحات 8 وما بعدها) شرح مستوف لآراء علماء المدرسة القديمة في أصل نشأة اللغات، وقد أرجعها إلى رأيين متناقضين.
الرأي الأول يقوم على ما أشارت إليه الكتب المنزلة من أن اللغة - وهي لآدم - هبة ربانية وصلت من الله - سبحانه وتعالى - إلى الجنس الإنساني، ومرجعهم الأكبر آية قرآنية
وعلم آدم الأسماء كلها ، فاللغة في هذا الرأي الديني المحترم إلهام.
والرأي الثاني يقوم على أن اللغة نشأت نشأة طبيعية؛ هي التدرج الفطري المرتبط بطبيعة الإنسان وتكوين أعضاء النطق فيه من حنجرة وحلق وخيشوم ولسان وأسنان وشفاه، مع ما للقوى الفكرية من أثر في تحريك تلك الأعضاء. ولا يوجد في نظر بعض العلماء مانع من اتفاق الرأيين.
1
وفي القرن السابع عشر بعد عهد الإحياء العلمي في أوروبا، وبعد الحروب الصليبية التي اتصلت فيها أوروبا بالشرق، ظهر علماء المشرقيات وبدءوا يدرسون اللغات الشرقية، وأدرك بعضهم علاقة القرابة بين اللغة العربية واللغة الحبشية، ثم اتضح لهم أمر القرابة في مجموعة من اللغات يمكن أن تعرف بالمجموعة السامية؛ فبدءوا البحث فيها، وقد قسموها إلى:
القسم الأول:
الشرقي، وأهمه البابلية.
القسم الثاني:
الغربي، وأهمه الكنعانية والفينيقية والعبرية.
القسم الثالث:
الجنوبي، وأهمه العربية القديمة والقرشية الفصحى. وغاية ما وصل إليه علم اللغات ببحثه الأثري الإقرار بوجود ثلاث لغات سامية تضرب في القدم، وهي العربية والبابلية والكنعانية.
وقد وصل العلماء إلى الحكم بأن أم اللغات السامية هي اللغة العربية، ومنزلة اللهجات السامية من اللغة العربية منزلة الفروع. (2) تقسيم الأجناس البشرية
ووصلت جهود العلماء إلى تقسيم الإنسانية. وأول تقسيم هو تقسيم التوراة تبعا لأبناء نوح: سام وحام ويافث، وهناك تقسيمات أخرى طبيعية ترجع في تكوينها إلى طبيعية الإنسان.
وعلى أي تقسيم من هذه التقاسيم فإنه توجد جماعة متحدة في النشأة والمكان واللون كونت جنسا بشريا عظيما قد اتصلت شعوبه اتصالا وثيقا، وارتبطت بكل الروابط الطبيعية والاجتماعية التي تجعلها حقيقة جنسا بشريا ممتازا؛ وهو الجنس السامي.
وتتلخص آراء العلماء في القول بأن الساميين قد أخذوا نشأتهم الأولى في خمسة مواطن عند مصب النهرين وفي كنعان وفي الحبشة وفي شمال أفريقية وفي بلاد العرب.
والكنعانيون الذين مدنوا سوريا تمدينا عريقا في القدم لا تعرف بدايته أقدم في الوجود من الشعب السامي الذي استوطن العراق.
والرأي الراجح هو أن أواسط جزيرة العرب منذ القدم ومنذ عصور ما قبل التاريخ كانت آهلة بالسكان، وفي أكنافها تكونت الجماعة السامية الأولى، ومنها ابتدأت هجرة الساميين إلى أطراف تلك الجزيرة العربية وإلى ما وراء هذه الأطراف في مصر وإيران.
وقد قرر البحث المقارن أن أهم اللغات هما المجموعتان السامية والآرية، وأن أعظم الأجناس البشرية وأفضلها ينحصر في الجنسين السامي والآري، وإليهما ترجع الحضارة الإنسانية.
ظهور الإسلام
كان من المعجزات الفذة في تاريخ العالم أن شعبا حديث النشأة ولا عهد له بالحضارة العالمية ينهض فجأة، ويخرج من نطاق الصحراء المحصورة، وتتحد عناصره بعد أن كانت متنافرة مشتتة، ثم يشهر أسلحته - التي طالما مزقت أشلاء القبائل نفسها - على الأمم القاصية والدانية فيقهرها قويها وضعيفها، وفي عشرات السنين استطاع هذا الشعب - الذي كان بعيدا عن مظان القوة والملك - أن يمحو قوة كل من عداه من الشعوب من صحيفة الوجود، ولم تقف همته القعساء في تلك الفترة الوجيزة حتى وقف عند أبواب القسطنطينية.
لقد كانت نهضة الإسلام أسرع في الانتشار من نار الحراج تلتهب وتلتهم كل ما يصادفها، وما زالت حتى بلغت شواطئ المحيط الأطلسي غربا.
ولم تكن تلك الحركة المشتعلة، والنهضة التي لم يسبقها مثال سوى ثمرة جهود رجل واحد، هو النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن الأمم الأوروبية وغيرها قد تمكنت من إدراك حقيقته؛ لشدة ما ذعرت من سرعة تقدمه، وانهيار بنائها، واندحار جنودها، وانطفاء أنوارها حيال اندفاع تياره وشدة بأسه وبطشه ونوره الجديد الباهر، فلما عجز ملوكهم وقوادهم ووزراؤهم عن مقاومته في ميادين الوغى والسياسة، انبرى كتابهم وشعراؤهم لهجائه والنيل منه؛ فقالوا ما قالوا، وسبوا وطعنوا وقذفوا وشتموا ما شاء لهم الغيظ والحقد والحسرة على ممالكهم الضائعة وتيجانهم الطائحة وشملهم المشتت.
وبقي أهل الرأي فيهم في حيرة يتساءلون عن علة ظهور الإسلام بهذا المظهر العظيم، وكيف أن صوت النبي محمد وحده أيقظ شعبا من سباته، بل خموده الذي تطاولت عليه القرون؟! وكان لفيف منهم اتهم النبي بالادعاء، فلما رأوا المتانة في الأخلاق، والشدة في الحروب، والدقة في التدبير، وشهدوا القوة في جميع مظاهرها المادية والمعنوية، خضعوا لها، وما فتئت القوة في نظرهم الحجة التي لا ترد والوسيلة البالغة. وبعد أن كانوا يقولون: «إن الإسلام حليف الشيطان وثمرة جهود إبليس ومظهر الغضب الرباني على الجنس الإنساني.» (مجموعة التواريخ، تأليف دي تيرو، الكتاب الأول، الفصل الأول) سكتوا ولم يدروا كيف يعللون ما حاروا في فهمه؛ فعدلوا عن القذف والشتم وتحولوا إلى الدرس والبحث والتنقيب لعلهم يهتدون إلى تفسير ذلك الحادث التاريخي، والذي كان من شأنه إخضاع الملايين لصوت رجل واحد كان منهم ونشأ بين ظهرانيهم وترجمة حاله معلومة لديهم.
وكان من مؤرخي الإفرنج من بدأ يهمس بأن النبي لو كان دعيا أو منتحلا أو طالب مجد لنفسه على حساب الرب الذي يدعو إليه، ما وصل إلى أعماق تلك القلوب التي كانت بالأمس متحجرة، ولا استطاع هو مهما أوتي من حذق وبراعة أن يضرب على الأوتار الحساسة في قلوبهم ونفوسهم، لا سيما وأنه جاء لهم بمعتقدات تخالف معتقداتهم وتصدم ميولهم وشهواتهم وتقف حجر عثرة في سبيل آمالهم الدنيوية.
ولم يقتصر أثره في شعبه الذي ناصبه العداء من اللحظة الأولى، بل امتد أثره إلى الشعوب الأخرى التي لم تكن تربطها بالنبي العربي رابطة دم ولا جنس ولا ماض في جاهلية أو إسلام. وكما أن الفجر يتلوه الصباح، كذلك الهمس يتلوه الجهر؛ فأخذ بعض علمائهم يجهرون بأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
نبي مرسل؛ فقال نولدكه وهيرجرنجيه: إنه صادق. وقال جولد زيهر وولز: «إنه أنجح الأنبياء.»
لقد كانت نهضة محمد في مكة والمدينة على مدى بضع سنين ثورة شعواء على الجهل والظلم والاستبداد في سائر أنحاء العالم، ولم تكن مكة والمدينة سوى قريتين صغيرتين في جزيرة العرب، وقد تمكنت الأفكار التي بزغت من اختراق أعظم العواصم وأعرقها في المدنية؛ فتسللت تلك الأفكار المحمدية إلى مصر ودمشق وبيزنطة وطهران ودهلي وبكين، ولم تثن عزمها شواطئ البحار؛ فخاضت الفكرة الإسلامية غمارها، واستولت على كثير من مدائن أوروبا في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا، فما كان أعظم سر القريتين اللتين بهرتا العالم منذ القرن السابع المسيحي.
ومما زاد علماء الأغيار ومؤرخيهم انبهارا أنهم رأوا حول النبي جيلا كاملا من الرجال الكاملين، أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة؛ فكانوا بعد الوحي الرباني والهدى الإلهي أجنحته التي بها يحلق، وفكرته الثاقبة التي بها ينفذ إلى أعماق المعضلات، وتدبيره الخارق الذي طالما حل أعوص المسائل والمشكلات. وقد التفوا حوله وضحوا بأموالهم وأعمارهم ومجدهم القديم التالد في سبيل نصرته، وقد صدقوا به وصدقوه من الوهلة الأولى.
وليت المجال يتسع لنا لنشرح ما قام به هؤلاء الأفراد المحمديون على حدة، وسوف نحاول - إن شاء الله - أن نلم بأخبارهم إلماما كافيا يجلو الغامض من التاريخ بغير إجحاف بحق من حقوقهم.
أما الناحية الأخلاقية فهي أكثر جلاء من الناحية الدينية؛ لأن العرب بالبادية كانت تعرف الخير من الشر، والحق من الباطل، ولكن هذه المعرفة كانت نسبية، ولا يمكن تقريبها بحال مما استفاض عليهم من الدين الجديد، حتى ولا مما ورد في التوراة والإنجيل، وهما كتابان مقدسان كان يدين لهما بعض القبائل في الشمال وفي الجنوب؛ فكانت حياة الإنسان لا قيمة لها في نظر القاتل، وقد يكون ذلك في نظر أهل المقتول أيضا إلا من ناحية الأخذ بالثأر؛ ولذا كانت الحروب تكاد تكون دائمة، وكان المجرم ينظر إليه في كثير من الأحوال بعين الاحترام والهيبة.
وكان دم الحر أغلى من دم العبد، والرقيق مباح، وكرامة المرأة مهدورة إلا في الندرى، وإذا قتل رجل زوجته عقابا لها على عصيانها أو خيانة الأمانة الزوجية، فأبوها لا يحنق ولا يغضب، بل يزوجه من أختها الصغرى، ويغفر له في سبيل ذلك مقتل الأخت الأخرى! والقاتل إن لم يكرم ويحترم فهو لا يفقد مكانته الاجتماعية! ولم يكونوا بطبيعة الحال يفرقون بين القتل العمد والقتل الذي نشأ عن ضرب أفضى إلى موت؛ أي إنهم لم يعرفوا القصد الجنائي ولم يتبينوا النية الإجرامية في الجاني .
ولكنهم كانوا يعالجون القتل بالقتل حتى صار الأخذ بالثأر عقيدة ثابتة. وكان من العار أن تؤخذ الدية في القتيل، لا لأنها تدل على عدم الاكتراث بالقتيل أو عدم الحب له، بل لأن الاكتفاء بالدية يدل على الجبن والخوف من القاتل!
ولكن لما نزل الوحي وتقدمت الجماعة القرشية وتكونت لها ثروة، رأت أن هدوء الحياة واحترام الأعمار من شروط السلام والنجاح الاقتصادي، ولما كان بقاء القاتل في حضن القبيلة يقتضي دفع الدية أو تعريض أحد رجال القبيلة للقتل، فقد قنعوا بأن بقاء القاتل أمر غير مرغوب فيه؛ لأن يجلب على القبيلة بعض المتاعب التي تزعجها وتزعزع كيانها الاقتصادي!
الحالة الاجتماعية في قريش
كان الزواج معروفا لقريش، نظاما ثابتا منذ أجيال طويلة، ولكنه متعدد الأنواع لتسهيل التناسل، ومهما تكن المرأة فقيرة أو وضيعة فلا بد من دفع الصداق لذويها، إن تم العقد على طريقة الإيجاب والقبول التي أقرها الإسلام بعد ذلك،
1
وشهد العلماء ببقاء آثار تدل على نظام تعدد الأزواج للمرأة الواحدة،
2
ولكنها آثار عافية تلاشت مع تلاشي عهد الأمومة.
أما تعدد الزوجات فكان نظاما معترفا به بجانب التسري واتخاذ الأخدان والاستمتاع بمن ملكت أيمان الرجال واستباحة النساء الأسيرات والمسبيات، كما كانت الحال في بلاد اللاتين قبيل تأسيس رومة وفي بلاد اليونان نفسها، ولكن قريشا كانت تبيح للرجل الذي أدى إلى القبيلة أعظم الأعمال أن يتخذ من يشاء من الزوجات؛ فكان التعدد لونا من الاعتراف بالعظمة والسيادة والرياسة، ولم تكن له علاقة بالمصاهرة لربط أواصر القرابة بين العظيم والقبائل التي تمت إليه بالنسب.
ومن آثار عهد الأمومة وتعدد الأزواج للمرأة الواحدة استبقاء عصمة المرأة في يدها، وحقها في أن تطلق نفسها من زوجها، وأن تلد في دار أبيها، وأن تكفل ولدها إلى سن معينة، كما جرى في تاريخ مولد سيدنا عبد المطلب الذي ولد ببيت النجار بالمدينة.
رأينا كيف أن قريشا كانوا يئدون البنات، ولكنهم في بعض القبائل كانوا يفرحون بمولد البنت لأنها تجلب لأبيها صداقا؛ وهو مال يختلف كثرة وقلة باختلاف النسب والجمال!
ولكن، هل يرجع وأد البنات إلى أسباب اقتصادية وحسب، أم أن الوالد يخشى العار فيعدم ابنته قبل أن تسبب له الفضيحة؟
3
إن قتل المرأة في الشرق - ولا سيما في البلاد العربية - بسبب العرض - لا يزال شائعا، ويبيح القانون قتل الزانية إذا بغتت متلبسة، واشتدت الحماسة للعرض في بعض الأذهان في مصر الحديثة؛ فاقترح بعضهم تشريعا يبيح للوالد والأخ والابن ما يبيحه للزوج، أو يخفف عقوبته.
وقوانين أوروبا تسهل براءة من يقتل بسبب الهوى والغيرة؛ وإن لم تكن علاقة الزوجية قائمة! وحكم في مصر بعقوبة لينة على والد عذب ابنته حتى الموت، وعلى أخ قتل أخته لشرفه، وعلى آخر قتل مطلقته تحت سلطان الغيرة! وكل هذا التخفيف والتعديل في الفكر القضائي دليل على أن فكرة الغضب للعرض لا تزال قوية في الأمم وفي الطبيعة الإنسانية، ومرجعها استقواء الرجل ورغبته الفطرية في الاستئثار بامرأة يحبها ويقتنيها؛ لتلد له أولادا لا شك في نسبهم، وهو رأي سديد، وفطرة سليمة؛ فالوأد كان في بعض الأحيان غيرة أبوية سابقة لأوانها!
4
وبالجملة كانت قريش متأخرة في كل شيء ما عدا التجارة، وهي مصدر حياتهم. وكانت أمورهم فوضى ما عدا ماليتهم وميزانيتهم، بل كانوا قبيلة منحطة ومنقرضة تكاد تئول إلى الزوال وتلحق بعاد وثمود وطسم وجديس، لولا أن أدركها الله بعنايته وأراد لها تلك الحياة الجديدة الخالدة، ولكن هذه القبيلة لم تهتد ولم تخضع للدين عن رغبة ما عدا أفرادا يعدون على الأصابع، إنما خضعت للحرب والقوة التي استطاع النبي تجميعها وتكوينها أثناء إقامته في المدينة؛ فالمهاجرون والأنصار هم قوة الإسلام.
لم اختارهم الله ليكونوا مصدر هذا الدين العظيم ومنبعه ومبعثه دون سائر خلقه، وهم على هذا الجحود والجمود وتلك القسوة والنكران والجهل والحماقة والبعد عن محجة الصواب وشدة العناد والمكابرة؟ إن قبيلة قريش مع ما كانت عليه من المعايب والنقائص ما انفكت منظورا إليها بعين الحرمة والتجلة، لا لشرف المحتد أو قوة الحرب أو سمو الفكر، ولا للكعبة المشيدة في بلدهم والأصنام الجاثمة في أحضانها، ولكن لأن قريشا ظهروا بمظهر الحذق والفطنة في التجارة والبراعة في ابتزاز أموال الغرباء واستدراج الأجانب إلى معبدهم وإلى بئرهم. وكانوا فوق ذلك مرغمين على حب السلم لأجل التجارة؛ فخلصوا بالتدريج من شوائب البداوة؛ فكفوا عن الرحيل لرعي الإبل وتربية الأنعام، بل استقروا وثبتوا ونظموا أسفارهم في قوافل رتيبة على ظهور الجمال لجلب الخير إلى وطنهم. ولعلهم صاروا أميل القبائل للسلم؛ لأنهم ذاقوا حلاوتها وحلاوة كسب المال واختزانه، وحلاوة الهدوء العائلي ولذاذة السفر في سبيل الغنى، ولذاذة الحنين إلى الوطن وهم بعداء، ولذاذة العودة إلى الدار والمرأة والولد ولقاء الأصحاب ومحافل السمر بعد الاغتراب، وقد رغبوا عن الغزو وتوليد الأحقاد بينهم وبين جيرانهم؛ فاتخذوا من هؤلاء الجيران أحلافا وأعوانا وأضيافا يرحلون إلى بلادهم في أعمالهم فيصلون إلى الشام شمالا وإلى اليمن جنوبا وإلى نجد وتهامة ونجران، ولا بد أن يكون محمد
صلى الله عليه وسلم
قد أزعجهم إزعاجا شديدا بتوريطهم في الحروب الدامية التي ربحها وخسروها؛ لأنه لم يكن من السهل على هذه القبيلة أن تخرج من هدوء ديارها لتجريد السيف في وجه ذاك الرجل الذي مناهم بسيادة العالم في الدنيا، وبشرهم بالجنة في الآخرة، وتوعدهم بالذل في الدنيا والعذاب في الآخرة إن خالفوا دعوته إلى ربه، وقد صدق وعده كما صدق وعيده.
ولم تحدثهم أنفسهم أنهم منذ جردوا السيوف وعرضوا الرماح أنهم يتدربون في ميدان الجزيرة على حروب كبرى في ميادين العالم، وأن تلك السيوف لن تعود إلى أغمادها حتى تفتح العالم وتكتسح كل ما ناوأها أو ناصبها العداء في ممالك الأرض قاطبة.
وليس المعنى في هذا أن العرب جملة كان ينقصهم المران الحربي؛ فإنهم - ما عدا قريشا التي استوطنت وسكنت البلد الحرام - كانوا أمة حرب ونضال وثأر وانتقام وغزو وقتل في سبيل السلب والسبي. ويمكن القول بأن سكان جزيرة العرب استمروا في حالة حرب متواصلة منذ أكثر من عشرة آلاف سنة ، وقد أمضوا هذه الحقب الكثيرة في مناضلة الفاتحين والمغيرين ومنابذتهم، أو في محاربة بعضهم بعضا.
ونرى أنفسنا مقتنعين بأن عصمة الجزيرة تنحصر في طبيعة أرضها؛ ففيها الرمال المتراكمة والرياح الهائجة السافية، وفيها الجدب والظمأ، وفي بعض أجزائها - مثل اليمن في الجنوب - جبال عالية قد يبلغ ارتفاع بعضها أكثر من أحد عشر ألف قدم، ومنها جبال تكاد تكون متصلة الأطراف قلما تجد فيها ثغرة يمكن الولوج منها إلا بعد رحلات طويلة ومشقات مهولة، والطرق في أكثر ناحيات اليمن ضيقة جدا، وليس في مقدور جيش أن يجتازها دون أن يتعرض لمحاربة المقيمين في هذه الجبال والذين اتخذوها حصونا طبيعية للدفاع. ويجد المدافع عنها في طبيعة الأرض ما يضاعف قوته، ولا سيما المناطق الجبلية والبلاد ذات المسالك الوعرة.
ومما يسترعي النظر أن المعاملة التجارية هذبت من تلك النفوس الفطرية بعض التهذيب وأعدتها للحياة الاجتماعية البدائية؛ فكان العظيم الغني مقصودا ليحكم بين الناس بالعدل، ولكن ذلك الزعيم الغني كان قد عرف الطبيعة الإنسانية بعض المعرفة، وأدرك أن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام، هذا إن عدل؛ فكان النفاق أو المجاملة البالغة من أهم مظاهر هذا الخلق القرشي على ما اشتهر به العرب من الصراحة وحب الحق، وفي رأينا أن الاشتهار بالصراحة وحب الحق لم يكن إلا من المثل العليا التي صاغها الشعراء والحكماء ونسبوها تجملا للعرب الأقدمين؛ فانظر إلى أبي سفيان وقد لجأ إليه خصمان من قبيلتين وطلبا إليه الحكم في قضيتهما، فسمع الدعوى، ثم أطرق وقال: أنتما متساويان عندي كركبتي الجمل! ولم يقل أيهما الركبة اليمنى وأيهما اليسرى؛ لأنه ظن في ذلك تفضيلا للواحد على الآخر! وفي حكمة الأحنف بن قيس وما نهى عنه كثير من الأخلاق المرذولة، أين هذا من مبادئ العدل والنصفة التي وردت في القرآن؟! وأين هذا من كلمة سيد العرب
صلى الله عليه وسلم
في باب موعظة الإمام للخصوم عن البخاري أنه قال: «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار.»
بل أين نفاق أبي سفيان وخوفه من الخصوم، من عدل عمر الذي سار مسير الأمثال عند العرب، وصار غرة في جبين الدهر، وحتى قيل عنه وهو نائم في العراء: عدلت فأمنت فنمت.
تعريف وجيز بإبراهيم خليل الله ونشأته وثورته على الوثنية في وطنه
أما إبراهيم - أو إبراهام على ما جاء في التوراة - فهو سيدنا إبراهيم، خليل الله الذي بعثه إلى النمروذ، وكان نبي التوحيد أو رسول الدين الحنيف. وذكره وارد في القرآن في سورة «الأنعام» ... إلخ، وفي سفر التكوين وسفر الأيام من التوراة. وهو ابن تارخ بن ناحور ... ابن نوح، وقد ولد بعد آدم بثلاثة آلاف سنة وثلاثماية على تقدير التوراة. وقد يكون تقدير التوراة نسبيا أو رمزيا؛ لأن العهد الذي وجد فيه إبراهيم كان عهد حضارات كبرى في بلاد الكنعانيين والبابليين ومصر، ولا يمكن أن يكون مضى من تاريخ العالم هذا القدر الضئيل من الأجيال، ولكننا على كل حال نسجل التواريخ الرسمية ولا نغفل ذكر الحقائق العلمية التي دلت عليها علوم طبقات الأرض والحفريات والاستقراء التاريخي في أور الكلدانيين وبابل وآشور وتل العمارنة وما إليها، ولا سيما في العصر الحديث.
وكانت أمه عوشاء تخاف عليه وهو جنين مستكن لما علمته من أن النمروذ يتعقب كل ولد ذكر ليقتله (وهذه الإشارة التاريخية التي من قبيل الإرهاصات التي تسبق ظهور الأنبياء نجد لها شبها في قصة موسى، ويوحنا المعمدان، والمسيح نفسه؛ فإن أمه السيدة مريم فرت به من فلسطين إلى مصر لتتقي غضب هيرود). وقد تكون هذه الحادثة قد وقعت فعلا، كما يجوز أن تكون من قبيل المبالغة في تكريم النبي وتعظيم شأنه والدلالة على أن الله ينجي رسوله من الظالم الذي يترقبه؛ فإن عوشاء أم إبراهيم لجأت إلى كهف بالقرب من كوثا؛ لأن نمروذ رأى أحلاما مزعجة فأمر بمراقبة الحوامل وقتل الذكور من المواليد، فزار عماله أم إبراهيم للكشف عليها قبل أن يأتيها المخاض؛ فجسوا جانبها الأيمن فاختفى الجنين في الجانب الأيسر، وجسوا الأيسر فاختفى في الأيمن، فانصرفوا دون أن يظفروا بطائل (الكسائي، ص115 وما بعدها). وإنه لفحص غريب!
فلما ولدته أمه في الكهف ونما، اشتغل مع أبيه في صناعة الأصنام، ثم ترك الغار فجن عليه الليل فرأى كوكبا فظنه ربه، ثم ظن القمر ربه، ثم الشمس، فلما أفلت أنكرها واتجه نحو إله لا يراه بعينه ولكنه يشعر به بقلبه، وهذا هو ركن الإيمان، وسرعان ما عمل على تحقيق رسالته بإعلانه حربا مقدسة ضد الملك نمروذ. وقصة إيمانه واختباره الديني في سورة «الأنعام» بكل إيجاز في أربع آيات (75-79)، ولكن القرآن حافل بقصته وتمجيده وأخباره في عشرات الآيات والسور. وقد كان في عرف اليهود هو البطريرك أو الجد الأعلى وشيخ الأمة ورأس القبيلة وزعيم الجنس والجيل، وكرمه الإسلام لأنه نبي التوحيد ورسول الدين الحنيف الذي بني عليه الإسلام، ولأن إبراهيم وابنه إسماعيل رفعا القواعد من بيت الله الحرام، وهي الكعبة في مكة، ولأن إبراهيم السامي هو الذي زرع نسله في وادي مكة وترك خليفته إسماعيل فتسلسل منه العرب الحجازيون الذين أسسوا مكة وظهر في أحفادهم دين الإسلام الحنيف، ولأن إبراهيم سبق النبي محمدا - عليه الصلاة والسلام - إلى تحطيم الأصنام، سورة «الأنبياء» (59-68)؛ فإنه حمل فأسا وذهب إلى معبد الآلهة؛ حيث كانت الموائد محملة بالأطعمة، فخاطبهم قائلا: ما لكم لا تأكلون؟!
فلم يجيبوا طبعا، فحطم يد أحدها ورأس الآخر وقدم الثالث، ووضع الفأس في يد كبير الأصنام ووضع أمامه ما لذ وطاب من صحاف الطعام، فلما رآه قومه اتهموا إبراهيم بهذا الاعتداء المريع على أربابهم التي لا تسمع ولا تنطق؛ فقال إبراهيم ساخرا ومتحديا: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كان ينطقون. فأجمعوا أمرهم على إحراقه بالنار، ولكنه خرج سالما، وهذا ما لم يحصل لنبي قبله ولا بعده، وكانت النار بردا وسلاما على إبراهيم، فدحر نمروذ، وترك إبراهيم وأتباعه يخرجون إلى فلسطين، وسمي من ذلك التاريخ خليل الله. ولإبراهيم وزوجته سارة حوادث مع فرعون مصر وبعض الملوك، وما زال يرحل حتى بلغ أور الكلدانيين وأرض الحجاز بعد مصر وسينا وفلسطين، فكان نبيا مستنفضا يجوب أنحاء الأرض في سبيل المرعى ونشر دين التوحيد وتعمير البلاد، وقد أمره الله بالختان بعد أن قطع مائة وعشرين عاما من عمره؛ فأطاع أمر الله، وصار الختان علامة على اليهود وشعب الله المختار! وإن كان معروفا عند بعض الشعوب القديمة، ولكنه عند إبراهيم وأتباعه صارت له صبغة دينية رسمية.
وعاش قرنين إلا ربعا (175 عاما)، ودفن في مقبرة أهله في حبرون. ويظهر أنه نال لقب خليل الله عند بداية هجرته من وطنه بعد محنة النار التي أنقذه الله من شرها وحرها. وقد أفاض من المحدثين في تاريخ إبراهيم الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه قصص الأنبياء، كما كتب إسكندر دوماس الصغير رسالة في الطلاق تناول فيها سيرة إبراهيم، وهو كتاب عجيب منقطع النظير، ومن الأقدمين - غير التوراة - الثعلبي والطبري وابن الأثير والكسائي وغيرهم، وتناوله كذلك علماء المشرقيات أمثال رينان وشبرنجر في «حياة محمد» وسنوك هرجرونجيه، وقد أجمعوا على أنه أبو العبرانيين وأبو العرب ومؤسس ملة إبراهيم وباني الكعبة، كما أجمعوا على أنه رمز الهجرة السامية والقبائل اليهودية الرحالة. ولكن يقصد بيهودية إبراهيم تلك اليهودية العريقة الموحدة الخالصة من الشوائب، التي نظرت في الكون وأعرضت عن عبادة الكواكب وعن عبادة الأصنام، فلما اشتد ساعدها حطمتها وجاهرت بعدائها ووقعت في يد الظالم الوثني، وهو نمروذ، وتحملت مشقة التعذيب بالنار، وتحملت آلام الهجرة وفراق الوطن في سبيل المعتقد، ومع كل هذا فلم تخمد لإبراهيم نار؛ فسافر واغتنى وتناسل واستعمر، وكان له مع الله حوار بديع قبل أن يطمئن إلى معتقده، فشك في إحياء الموتى بعد موتهم، فتفضل الله عليه بتجربة الطير التي أمره بذبحها وتفريق أشلائها، ثم أعاد الله إليها الحياة بأمره، وأول هذه التجربة قول الله: أولم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي.
وفي هذا الحوار رمز إلى مقدار ما يسمح الله به لعبده المخلص من البحث والشك ليصل إلى الإيمان واليقين؛ فلم يكن دين إبراهيم دين إيمان أعمى، ولكنه كان دين الإيمان البصير؛ فلا عجب إذا اتخذه الإسلام جدا وأصلا وأرومة وهو يشبهه في كثير من أوجه الحق والصواب، والعمل للبناء والتأسيس، لا على الهدم والتدمير.
هل كان إبراهيم الخليل بدويا أم حضريا؟
قلنا من أهم النزوحات رحلة إبراهيم الخليل؛ فقد رحل وهو رجل ذو أسرة ورب عيلة من أور الكلدانيين على ضفاف الفرات السفلي إلى شمال العراق، حتى بلغ سفح سلسلة جبال أرمينيا إلى بادان أرام فيما وراء الفرات متبعا مواضع المراعي متنقلا بينها صاعدا مئات الأميال، ثم عاد إلى بادان أرام (الجنوب بغرب) إلى أرض كنعان، ومن كنعان إلى مصر، ومن مصر إلى كنعان يجر وراءه أقاربه وقطعانه، وما زال كذلك حتى أرغمته كثرة الأقارب وندرة الكلأ على تقسيمهم وتوزيعهم.
وقد أقامت تلك الأسرة البدوية بزعامة شيخها وبطركها إبراهيم الخليل في جوار مدينة أور جنوب الفرات وعلى حدود الكلدان، فكان في هذا الجوار أول احتكاك بين البداوة والحضارة؛ فاستفادوا وتعلموا ولم يقدروا أن يطغوا أو يتقدموا خطوة في المدن الآهلة بالسكان المملوكة لأربابها والمشغولة بمزارعهم ومساكنهم، وهناك سمع اليهود باسم إبراهام وسارة ونقلوهما إلى اللغة العبرية.
1
ولم يستطيعوا أن يمدوا إقامتهم في ضواحي المدن الكبرى، فتابعوا سيرهم إلى الشمال، ولعل أسرا أخرى كانت تدفعهم من ورائهم ليخلوا لها الجو والمكان، وما زالت بادان أرام في ذهنهم وفي ذاكرة أخلافهم يعتبرونها وطنهم ومستقرهم، وإن لم تكن سوى محطا من محطات رحلتهم الطويلة في سبيل القوت لأنفسهم ولأنعامهم؛ فهي الوطن الأول المحبوب.
هجرة سيدنا إبراهيم الخليل إلى الحجاز ومعه هاجر وإسماعيل
أجمع العلماء على أن المكان الذي خرج منه إبراهيم وهاجر وإسماعيل هو الشام أو أرض كنعان؛ فإنه شيخ قبيلة رحالة بجانب رسالته المقدسة، خرج بهاجر وبإسماعيل وهو طفل يرضع، وعمد بهما إلى موضع الحجرة، فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا، ولم تكن هاجر محظية، ولكنها زوج بعقد شرعي.
1
وقال إبراهيم وهو يودع زوجته وابنه على لسان القرآن:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع
الآية.
ثم انصرف عائدا إلى الشام إلى مقر زوجته الأخرى. وفي الآثار القديمة أن منظر الوداع كان مؤثرا؛ فإن هاجر قالت له: «إلى من تتركني وابني أيها الشيخ الكريم؟»
قال: «إلى الله عز وجل.»
قالت: «رضيت بالله مستودعا وحافظا وأمينا.»
ثم عادت تحمل ابنها تحت الدوحة، فوضعت ابنها إلى جنبها وعلقت شنتها تشرب منها وتدر على ابنها حتى فني الماء فانقطع درها؛ فجاع الولد واشتد جوعه حتى نظرت إليه أمه يتشحط، فحسبت أنه يموت فأحزنها، فقالت: «لو تغيبت عنه حتى لا أرى موته.» وكان سعيها بين الصفا والمروة لا للبحث عن الماء، بل لتخلص من مشاهدة موت ابنها الرضيع؛ لأنها كانت واثقة من جفاف المكان وإجدابه! وكان ما كان من تفجر عين زمزم رحمة من الله بالطفل وأمه، ولكن هاجر ماتت ودفنت بموضع الحجرة ولم تر بناء البيت - وهو الكعبة - وإن كانت قد شهدت نزول جرهم بمائها وموضعها، وأصل ذلك أن ركبا من جرهم مر بالماء، فسألوها: لمن هذا الماء؟ فقالت: هو لي. فلما أذنت لهم نزلوا وبعثوا إلى أهاليهم فقدموا إليهم وسكنوا تحت الدوحة واعترشوا عليها العرش، فكانت معهم هي وابنها حتى ترعرع الغلام، وبذا صدق الله وعده وثقة المرأة الضعيفة به، كما صدق دعوة إبراهيم واستجاب لها، فلما شب إسماعيل زوجوه من عمارة بنت سعيد بن أسامة أحد أعيان قبيلة جرهم، وقصة العتبتين دليل على أن إسماعيل تزوج أكثر من امرأة، وقد طلق الأولى.
توصف الكعبة بأنها أول بيت بني لتوحيد الله؛ وقد جاء في القرآن:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (سورة آل عمران).
فالحقيقة أنه أول بيت لعبادة الله الواحد الأحد، وإن كان قبله بيوت للأنبياء، فقد عرف نوح البيوت وسكنها قبل إبراهيم، وكان إبراهيم في البيوت في وطنه؛ لأن عبادة الأوثان كانت في معابد وفي مدن آهلة بالمساكن، ولكن الكعبة أول بيت وضع للناس وفيه آيات بينات . «وكانت البناية بسيطة؛ فما بنياه بقصة ولا مدر، ولا كان معهما من الأعوان والأموال ما يسقفانه، ولكنهما أعلماه فطافا به.»
ولم يكن إبراهيم سقف الكعبة ولا بناها بمدر وإنما رضمها رضما، وكان عمر إسماعيل عند بناء الكعبة عشرين سنة كاملة.
ومن الأخبار الخيالية الرمزية ما جاء في بعض تواريخ مكة: وتطوقت السكينة كأنها حية على أساس الكعبة وقالت: يا إبراهيم، ابن علي. فبنى عليها؛ فلذلك لا يطوف بالبيت أعرابي نافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة!
وهو من حسن التعليل، وإن كان خرافة، وأعان إسماعيل إبراهيم، ومعناه بالعبري «سامع الله».
وحفر إبراهيم جبا في البيت على يمين من دخله يكون خزانة للبيت يلقى فيها ما يهدى للكعبة، وهو الجب الذي نصب عليه عمرو بن لحي هبل الصنم - الذي كانت قريش تعبده ويستقسم عنده بالأزلام - حين جاء به من هيت من أرض الجزيرة.
وفي هذه النصوص القديمة من أخبار مكة وبناء الكعبة أمران جديران بالاهتمام، وهما أن العرب تعودوا أن ينقلوا إلى كعبتهم آلهة من معابد الأمم الأخرى؛ فالساميون كلهم عبدوا آلهة بعينها، وتكررت عبادتها في أماكن مختلفة، كأرض هيت هذه التي ورد ذكرها. والثاني أن العلاقة بين جزيرة العرب والعراق كانت مستمرة بأسباب التجارة والنزوح والهجرة؛ فإن «هيت» في العراق، وقد أحضر عمرو بن لحي ذلك الصنم «هبل» من «هيت»، وما هبل إلا بل، والهاء أداة التعريف بالكنعانية؛ فهبل هو بل؛ وهو إله البابليين، وقد سموا عاصمتهم باسمه فقالوا «باب بل»، أو بابل.
2
وقد سميت الكعبة بهذا الاسم لأنها جعلت على صورة الكعب سبعا والسعي بين الصفا والمروة والمزدلفة والوقوف عند عرفة ورجم إبليس عند جمرة العقبة، وقال جبريل: أعرفت مناسكك؟ قال: عرفتها.
وبعد بناء البيت انصرف إبراهيم راجعا إلى الشام (بيت المقدس من إيليا) وترك وراءه ولده إسماعيل، وقد صار رجلا وخليفة أبيه في أمانته وملته الحنيفية، ونبيا لجرهم والعمالقة.
وإذن يكون بناء البيت بمكة أحد ثمرات الهجرات العربية القديمة. وإنك لتجد هذه الهجرات العربية مثبتة في كتب التاريخ على صورة غير مفهومة للمؤلفين أنفسهم وللرواة؛ من ذلك هجرة ثمود من أوطانهم الأصلية إلى الحجاز، وقد وقعت لأسباب اقتصادية، كالبحث وراء المراعي والماء، ولكن التاريخ يعللها بما رواه بعضهم قال: «خطب صالح في بعض قومه ثمود الذين آمنوا به، فقال لهم: إن هذه دار قد سخط الله عليها وعلى أهلها فاظعنوا عنها؛ فإنها ليست لكم بدار! قالوا: رأينا لرأيك تبع فمرنا نفعل. قال تلحقون بحرم الله وأمنه. فأهلوا من ساعتهم بالحج ثم أحرموا في العباء وارتحلوا قلصا حمرا مخطمة بحبال الليف، ثم انطلقوا آمين البيت الحرام حتى وردوا مكة.»
فقوله قد سخط الله عليها يعني قلت خيراتها ولحقها القحط؛ فهو يأمرهم بأن يرحلوا إلى تلك البقعة التي صار فيها خضرة وماء وزرع وضرع بعد أن كانت قاحلة، وقد أصابتها الخصوبة إجابة لدعوة إبراهيم الذي قال:
رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر (سورة البقرة). فصالح يتعقب خطوات النبي الشيخ الذي هاجر بزوجته وولده في سبيل الاستعمار والرزق والتوحيد، ودعاء إبراهيم: بارك الله لكم في اللحم والماء. ولو وجد عند زوجة ابنه حبا لدعا لهم بالبركة فيه، فكانت تكون أرضا ذات زرع. وهذه الدعوة توسل بها إبراهيم عندما نزل بيت ابنه إسماعيل في غيبته وقدمت له زوجة ابنه لحما وماء، فباركهما وهو يعلم أن الوادي غير ذي زرع.
لقد دلت الحفريات التي قامت بها بعثة إنجليزية في سنة 1935 على أن إبراهيم في الشام والعراق وما بينهما، وأن هجرة هاجر وإسماعيل إلى الحجاز واقعة تاريخية في نظر علماء التاريخ الحديث لأنها حلقة من سلسلة الهجرات التي قامت بها القبائل العربية ذهوبا وعودة من الواحات إلى الصحاري، ومن الممالك الآهلة بأسباب الحضارة إلى الوديان والهضاب على مدى الأجيال الطويلة، وإن لديهم لدليلا علميا على صحة هذه الهجرة، وهو اسم «هاجر» نفسه. أما سبب تلك الهجرة فقد اختلف المؤرخون في تعليله؛ فزعم البعض أن سارة زوجة إبراهيم التي صحبته في مصر رأت ميلاد إسماعيل من هاجر، وكانت عاقرا وفي سن اليأس، فغارت غيرة الزوج العقيم من الزنوج الخصيبة، فحتمت خروج هاجر بولدها حتى لا تنغص برؤيتها، فأطاعها الخليل لأن هاجر كانت أمة لسارة من جواري مصر اللواتي أصابهن الخليل مما أصاب من الغنى في أرض الفراعنة.
وزعموا أن سارة حملت بإسحاق، وهاجر حملت بإسماعيل في وقت واحد، فوضعتا وشب الغلامان فتسابقا فسبق إسماعيل، فأخذه إبراهيم وأجلسه في حجره وأخذ إسحاق إلى جانبه فغضبت سارة وقالت: «عمدت إلى ابن الأمة فأجلسته في حجرك، وعمدت إلى ابني فأجلسته إلى جنبك!» قالته متعصبة على ابن ضرتها.
وأخذها ما يأخذ النساء من الغيرة؛ فحلفت لتقطعن من هاجر بضعة ولتغيرن خلقها تشويها لها، لتقلل من حب إبراهيم إياها ... ثم ثاب إلى سارة رشدها فتحسرت في يمينها فقال لها إبراهيم «أخفضيها
3
واثقبي أذنيها.» ففعلت ذلك، فصارت سنة في النساء! وهذا السبب كالأول، وفيه تعليل فني للعادات التي درج عليها النساء.
وقيل تضارب إسماعيل وإسحاق كما يتهارش الأطفال؛ فغضبت سارة على هاجر وحلفت أن لا تساكنها في بلد واحد، وأمرت إبراهيم أن يعزلها عنها، فأوحى الله - تعالى - إلى إبراهيم أن يأتي بهاجر وابنها إلى مكة. ونحن نرى أنه مهما اختلفت الأسباب فالنتيجة واحدة؛ وهي أن القبائل التي كان يتزعمها إبراهيم لم تكن قد استقرت على نظام اجتماعي من النظم التي تميزت بها الجماعات المتوطنة في مكان واحد.
فإن إبراهيم لما نجا من غيظ النمرود وناره خرج مهاجرا إلى ربه بعد أن تزوج من ابنة عمه سارة، وخرج بها يلتمس الفرار بدينه والأمان على نفسه ومن معه فقدم إلى مصر.
وإذن كانت معه جماعة أو قبيلة هو زعيمها وشيخها ورئيسها، وهذه الجماعة أو القبيلة كانت حتما على رأيه في أمور الدين والدنيا؛ فهذه هجرة صحراوية صريحة لا شك فيها، وبعد أن جرى له في مصر ما جرى وهب فرعون لسارة هاجر، وهي جارية مصرية جميلة، فتزوجها إبراهيم، وأقام إبراهيم بناحية من أرض فلسطين بين الرملة وإيلياء وهو يضيف من يأتيه، وقد أوسع الله عليه وبسط له في الرزق. إلى هنا يفهم أن قبيلة إبراهيم كانت تعيش تحت نظام الأبوة؛ أي سيادة شيخ القبيلة وزعيمها، فهذا الشيخ هاجر من وطنه، وهو بلا شك وطن سامي عربي، واخترق الصحراء إلى مصر، وأقام فيها إلى أن أثرى، ثم عاد لفلسطين وهو أكثر غنما وخدما، ومر ببلاط بعض الملوك، واستقر نوعا، وأخذ يضع يده على الأرض التي غرس بها أوتاد خيامه ويحكم قبيلته ويكرم أضيافه، فلما أراد الله هلاك قوم لوط بعث رسله إلى إبراهيم يأمرونه بالخروج من بين ظهرانيهم كما خرج من بلد أبيه ناقما على عبادة الأوثان. وهذه هي المرة الثانية التي تتحرك العناية الإلهية لتقصي إبراهيم عن مواطن الشر والأذى، وسوف تتحرك تلك العناية بعد ذلك فتأمره بالنزوح إلى الحجاز، ثم تأمره بذبح ولده، ثم تأمره ببناء البيت الحرام. ولا نخالف العقائد الصحيحة أن نقول إن افتراق إبراهيم ولوط كان أيضا بسبب حياة الصحراء التي تحتم الارتحال في سبيل الماء والمرعى؛ فكل قبيلة - وإن قل عددها - مضطرة لأن تنقسم ليلجأ كل قسم إلى مرعى وماء يكفيه، كما حدث في تاريخ مكة من أن قضاعة لما أقبلت على قريش انقسمت، فمنهم من ذهب إلى الشمال، ومنهم من ذهب إلى الشرق، وكذلك تروي لنا التوراة قصة افتراق لوط عن إبراهيم بسبب اقتصادي، ولكن بعض المؤرخين يعلل ذلك بعناية الله بإبراهيم لإنقاذه من الهلاك الذي سيلحق قوم لوط، فالسبب الديني ورد في كتاب الإعلام للنهروالي، والسبب الاقتصادي ورد في كتاب الزواج والقرابة عند العرب لروبرتسون سميث، وهما يؤيدان رأينا. وإذن كان إبراهيم في تلك الفترة يعيش تحت نظام سيادة الوالد، ولكن في حياة سارة نفسها ما يدل على نظام الأمومة أو الكفالة، من ذلك الزواج نفسه؛ فقد كانت سارة أخته لأبيه لا ابنة عمه، وكان مثل هذا الزواج مباحا، كما كان في أثنيا ومصر وبلاد العرب؛ ففي مصر تزوجت الفرعونات من إخوتهن (نيتوكريس)، وحذت كلوبطرة حذوهن، وهي يونانية، ولكنها ولدت في مصر وحكمتها. وفي الجاهلية تزوج عوف والد عبد الرحمن بن عوف الصحابي الشهير من أخته لأبيه (النووي، ص385)، ومثل هذا في أمثال الميداني، ج2، ص288، والضبي، ص69. ولم تمح العلاقة التي لا تتفق مع الحضارة إلا بنصوص صريحة في القرآن الكريم. والدليل الثاني على آثار عهد الأمومة في حياة سارة سلطتها الظاهرة في بيت إبراهيم؛ فقد أمرته بإقصاء الزوجة الأخرى وابنها فأطاع، وهذه السلطة لا تكون إلا في نظام الأمومة، فسارة كانت تعتبر نفسها الآمرة الناهية في حياة إبراهيم، مع أنه نبي وخليل الرحمن وله معجزات. وقد بلغت سلطتها أنها تقسم بأن تشوه خلق ضرتها هاجر؛ فيصير هذا التشويه سنة تتبعها النساء على مدى الأجيال؛ أي إن ما كانت تقصد به سارة إلى الشر ينقلب خيرا محضا، ولم يقصر هذا على ثقب الأذن والخفاض، بل إن نفي هاجر وابنها إسماعيل إلى واد غير ذي زرع أدى إلى تأسيس شعب ودولة ودين عظيم.
وهنا تظهر نظرية «سابقية القضاء» في تاريخ الإنسانية وتوجيهها إلى الخير؛ فإن خروج هاجر وإسماعيل لم يكن نفيا مجردا عن الغاية، بل كان المقصود به بناء البيت في تلك البقعة القحلاء الجرداء «واد غير ذي زرع»، وقد أصبحت كل حركة وسكنة من حركات الأم وطفلها ذات معنى تاريخي؛ فإن سيرها بين الصفا والمروة في طلب الماء للطفل العطشان، أو للفرار من رؤيته وهو في النزع كما توهمت هاجر، قد صار أحد مناسك الحج، وهو السعي بين الصفا والمروة.
4
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما (سورة البقرة).
ولا بد لهذا الخبر ليكسب قوته التاريخية أن يحاط بأقوال وأفعال تحرك العواطف؛ فإن إبراهيم أمر الأم المهجورة وطفلها أن تتخذ عريشا، ثم انصرف، فتبعته هاجر وسألته: «آلله أمرك بهذا؟»
قال: «نعم.» وانصرف من يومه!
على أن سياق الخبر في كل التواريخ يدل أنه أطاع أمر سارة في الخروج، ولكن أمر الله مقصور على تخصيص محل المنفى لما سبق في علمه من اختيار هذا المكان المجدب لبناء البيت المكرم. وقد كان انبعاث الماء من زمزم بفعل خارق للطبيعة؛ بضربة من جناح الملك، أو بدقة من كعب إسماعيل. فدقة كعب الطفل للمصادفة، وجناح الملك للمعونة الإلهية، ولكن الكعب لم يذكر عبثا؛ فقد جعل البيت على صورة الكعب، وهو مكعب الشكل.
وقد يبدو هذا الفعل غريبا ومحزنا؛ فإن غيرة سارة لم تكن مبررا في نظر الرجل الخلي الذهن من عواقب الإعجاز السعيدة التي حدثت بعد النفي، وقد رأى أحد أئمة الإسلام أن يبين ذلك بجلاء؛ وهو الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر القرطبي في تفسيره؛ فقال: «لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا الحديث (أي قصة إبراهيم وهاجر وإسماعيل) في جواز طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل؛ فإنه فعل ذلك بأمر الله تعالى.» وفي هذه العبارة الوجيزة إشارة دقيقة إلى نقد الأخبار الخاصة بقصة هاجر وسارة، وتوجيه صحيح إلى الرأي الخمير القائل بأن نزوح هاجر وولدها كان نوعا من الهجرة العربية في سبيل القوت، ومن ناحية إبراهيم هجرة إلى الله في سبيل التوحيد.
وما زالت الغيرة في قلب سارة إلى ما بعد المنفى؛ فإن إبراهيم استأذنها أن يزور هاجر وابنها فأذنت له على أن لا ينزل عندها.
وفي هذه الأثناء نزلت قبيلة جرهم بجوار عين الماء بعد الاستئذان من هاجر، وشب إسماعيل فعلموه اللغة العربية، وتكلم بلسانهم، وتزوج منهم، واختلط بهم؛ فسياق الخبر عن شباب إسماعيل وكلامه العربي ومصاهرة جرهم اقتضى تعليل زيارة إبراهيم. وأما أمر الله إبراهيم بذبح ولده فقد اختلفت العلماء في أن المأمور بذبحه إسماعيل أو إسحاق؛ لأن القرآن لم ينص على الاسم؛ فقال قوم هو إسحاق. وأيد هذا القول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. وقد كانت هذه الحادثة بداية الثورة على التضحية البشرية، فإن الله فدى الذبيح بكبش، وروى الأزرقي - وهو من ثقات المؤرخين القدامى في سرد أخبار مكة - أن قرني الكبش وجدا في الكعبة. فالبدل جاء من الله بمعجزة إلهية؛ وهي هبوط كبش من السماء بيد الملك.
أما فداء الضحية البشرية عند عرب قريش في تاريخ عبد الله بن عبد المطلب والد النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء على لسان الكاهنة التي أفتت بأن يكون مائة رأس من الإبل. وسيأتي خبره مفصلا.
ولما نجا إسماعيل من الذبح عاش عيشة هادئة مع زوجته؛ وهي رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي. ورزق اثني عشر ولدا، منهم نابت وقيدار وقطورا، ولما مات إسماعيل في سن متقدمة جدا؛ ولي البيت بعده ابنه نابت، ونشر العرب من نابت وأخيه قيدار.
ومات نابت في حياة جده مضاض بن عمرو الجرهمي؛ فضم بني نابت وبني جرهم وصار ملكا عليهم، ونازعه الملك السميدع.
5
مكة المكرمة قبل الإسلام
مكة أكبر مدن الحجاز، تبعد عن جدة مسيرة خمسة وأربعين ميلا شرقا، كانت تقطعها الإبل قبل السيارات في مرحلتين، وتستريح براكبيها في بحرا أو جدة في «بطن مر». أما بعد ذيوع السيارات فساعتان كافيتان لبلوغ مكة، ويمكن تحديد موضعها جغرافيا بالدرجة 21 من خطوط العرض شمالا، و40 من خطوط الطول شرقا.
والمدينة تدهش زائرها بجدبها وجفافها، فإنها وحرمها تكاد تكون أعقم بقعة يقع عليها البصر؛ فهي جد قحلاء، جرداء، لا تطمئن العين فيها إلى خضرة يانعة، أو عين ماء جارية، فلا حديقة ولا بستان ولا شجرة ولا نخيل ولا أعناب، كأن جدبها وتحجر أرضها وشح الطبيعة عليها بما يطفئ الظمأ ويغذي الجسم ويبهج النفس؛ مقصود بالذات. وسنثبت أن حالة هذا الوادي من أكبر الأدلة المستفادة من علوم الاقتصاد والحياة والنفس على صدق النبي في دعوته ووحيه ووعود القرآن ووعيده. أما الجدب والعقم فقد جاء وصفهما في القرآن على لسان إبراهيم وهو يودع زوجته وولده:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (سورة إبراهيم).
ولو كلف إبراهيم باختيار أقسى أرض الجزيرة قلبا وأصلدها صخرا، وأشدها قيظا وأحرقها شمسا ليودع رفيقة فراشه وفلذة كبده لم يكن ليختار بقعة غير هذه البقعة الواقعة وسط تلال وهضاب خشنة تقطعها وتخترقها «محيرة»
1
من الأودية الضيقة والمعابر المختنقة بين الصخور، كأنها حصن طبيعي أحاطه الجبار الذي شاده بالمهاوي والمفاوز، وحمى ذماره بجبال ووهاد ومصاعد ومهابط أقوى على صد الهجمات من جدران القلال وسنان الأسلاك الشائكة، ثم تنساب أرض ذلك الوادي، وتبرز بروزا ظاهرا في تهامة المنخفضة حيال شواطئ البحر الأحمر، ولكن تعود تلك الأرض فتحتجب بالجبال التي تعوق مسيرها وتقف خاشعة في انخفاضها حيال الجبال التي تحد من الغرب وادي «مر»، وإذا افترضنا طائرة تعلو سماء مكة، وقد علتها طائرات أثناء الحرب (كتاب الأعمدة السبعة أو ثورة العرب، تأليف لورنس) وألقى ذاك الذي امتطى صهوتها ليسبح في الفضاء نظرة، لرأى مكة أشبه الأشياء بسلحفاة رأسها إلى الجنوب وذيلها إلى الشمال، وقد تحلى ظهرها المبرقش بالكعبة ودار الندوة في الوسط، والصفا والمروة والمسعى ومولد فاطمة عن الشمال، وشعب المولد والخندمة والمدعى وأجياد عن اليمين، وانتثرت تحت ناظريه في شتى الأجزاء من ظهر تلك السلحفاة الضخمة (التي تحركت ببطء من ملة إبراهيم إلى عبادة الأوثان، ومن أصنام عمرو بن لحي إلى عقيدة التوحيد ودين الإسلام) سوق الليل وأبو قبيس والمعلاة وقيقعان وسوق الصغير والمسفلة والجبل الأحمر والماجن وجبل عمر.
وما تزال تلك السلحفاة رابضة منبطحة يحرسها الأخشبان، وقد أعدت لها الطبيعة شبكة من السبل في السهل والجبل على مقربة من «شبيكة» فمن درب إلى وادي مر ومن زيمة إلى وادي فاطمة، ومنها تسير القوافل إلى جدة والشام والحبشة واليمن وتصعد إلى نجد وعمان يطل عليها جبل النور، ووراء السلحفاة إلى الجنوب ترى طريق الفرسان والمشاة إلى الطايف وجبل كرا ووادي نعمان ووادي هذيل، وفي أقصى الشرق ترى منى والمزدلفة وجبل عرفة وجبل الثور.
وعندما يتأمل الطائر المعجب بهذه السلحفاة وما حولها من جبال ووديان ودروب وطرق ومضايق ومداخل ومخارج وسهول وهضاب، يدرك للوهلة الأولى أن تلك السلحفاة المنبطحة قد اختارت لمرقدها أو اختار لها مروضها مركز المواصلات بين تهامة ونجد؛ أي بين الأرض المنخفضة على الشاطئ وبين قلب الجزيرة ووسطها، وبذا قد بزت جارتها وضرتها «الطائف» التي كانت تزاحمها في القبض على زمام النقل والتجارة، ثم انهزمت أمامها على الرغم من خصبها وبساتينها وحدائقها وأعنابها وكرومها وخضرتها ومائها، فسلمت لها القياد وأمست جاريتها وخادمتها.
وطالما خدمت الفتاة ذات الجمال مولاة تقل عنها حسنا وفتنة! وكم في العرس أبهى من عروس! وقد كرت الأجيال والطائف في مكانها على طريق اليمن ونجد ولكنها غير متصلة بتهامة؛ فهي تربط بين الشمال والجنوب من وراء حجاب ولا تتصل بشاطئ البحر الذي يربط مكة بالشرق الأدنى والأقصى.
وإذن قد اختارت العناية لهذا البلد أن يكون بلد تجارة وأخذ وعطاء، ومركز أسفار ورحلات، ومستقر قوافل رائحة غادية بين الشام والحبشة، فرحلة الصيف هي رحلة القوافل إلى غزة، ورحلة الشتاء هي رحلتها إلى الجنوب، ولا حياة للبلد بغير هاتين الرحلتين. وإن القارئ ليعجب أن هذه المدينة المحصنة بالجبال كانت في قديم الزمان محصنة بالأسوار العالية والأبواب الضخمة، وقد رأى ابن جبير بقايا إحدى البوابات، ورأى أحجار أحد الأسوار، وقد زالت الأسوار والأبواب ولم يبق منها سوى أسمائها؛ كباب المعلاة والمسفلة والشبيكة. والمعلاة تؤدي إلى منى وعرفة - وهي الطريق التي يسلكها كل حاج - وإلى زيمة ونجد لمن يريد أن تشط به الأسفار، ووراء هذا الباب، كما تجد المقابر في مصر وراء باب الفتوح أو باب النصر، كذلك وراء باب المعلاة تجد مقبرة الحجون التي ورد ذكرها في الشعر الجاهلي على لسان مضاض، ويقال إنها مقبرة الصحابة لكثرة من دفن فيها منهم - عليهم رضوان الله.
ومن الحجون درب معترض، يؤدي بالسائر وراء الأكمة إلى سكة المدينة، وإذا اتجهت منه نحو الغرب بلغت عقبة القضاء التي دخلت منها جيوش النبي يوم الفتح الذي ظنته قريش يوم الملحمة فكان يوم المرحمة. وفي هذا المكان نفسه صلب الحجاج ابن الزبير وتركه معلقا على عود من الخشب، ولم يكن له من ذنب سوى المطالبة بما يعتقده حقا لأهل مكة، ولكن الحجاج خشي الفتنة وتفريق الكلمة. أما المسفلة فهي التي تؤدي إلى طريق اليمن وتفتح للسيول المنهمرة في وادي مكة طريقا إلى تهامة؛ لتروي ظمأ الرمال العطشانة، وتنبت كلأ ترعاه الإبل. وإن كانت مكة قد حصنتها الطبيعة بالجبال والمفاوز إلا أن أهلها لم يهملوا تحصينها بالقلاع؛ فشادوا «القصر» أو الحصن العظيم؛ ليحمي رأس السلحفاة من ناحية الشرق، وهي أضعف الناحيات التي قد يأتي منها العدو المهاجم، وإنه لحصن رهيب لا يقدر العدو على أخذه مهما بلغت قوته، وإن تحصن فيه المكيون، فهم بلا شك يخرجون من ديارهم أقوى الجيوش. أما باب العمرة أو باب الزاهر فيؤدي إلى وادي فاطمة والمدينة وجدة، ومنذ كانت بلاد اليمن مزهرة مزدهرة بتجارة العطور والبخور والبهار وعجائب النبات والأعشاب، كانت مكة محط رحال القوافل التي كانت تعود من تلك الناحيات محملة بما خف وزنه وثقل ثمنه؛ ومن هنا عرفها بطليموس ووصفها في كتابه وسماها «مكورابا»، وهو اسم في ذاته غريب؛ فهو تركيب مزجي من اسم مكة واسم العرب؛ فهو يقصد إلى أنها «مكة العرب»
Makoraba . وقديما قبل البعث بمئات السنين اشتهرت مكة بتجارتها وبكعبتها المقدسة المحاطة بالحرم، وهي البقعة التي يكون الداخل إليها آمنا على نفسه وماله وحريته، حتى لو كان وحشا كاسرا أو طيرا جارحا أو مجرما سفاحا، أو قاتلا فارا من وجه العدل.
وذكر مؤرخ أن هذه البقعة كانت محرمة من قبل مجيء إبراهيم إليها؛ بدليل قول الله في القرآن:
عند بيتك المحرم ، ولم يكن هذا البيت محرما وذاك المعبد مقدسا في نظر قبيلة واحدة، بل في نظر مئات القبائل والعشائر والفصائل، وكانت هذه القداسة تتجلى كل عام في سلسلة من الحفلات والأعياد والموالد والأسواق تقام كلها حول مكة في بطحائها وظواهرها، وفيها تمتزج المواسم الدينية ذات الشعائر والرسوم، بالتجارة والمساومة والبيع والشراء والسلع. وكان للأدب عند العرب جانب لا يضيعونه؛ فطالما خطب الخطباء وأنشد الشعراء ونطق الحكماء في تلك الأسواق التي كانت فيها أركان ومواقف أشبه بمجامع العلم والأدب في عصورنا الحديثة، وكان أهمها عكاظ والمجنة وذو المجاز، ولكنها كانت مظاهر فطرية.
وأراد المكيون أن تقع مواسم الحج والأعياد والأسواق في فصل الشتاء، وطرف من الربيع، وآخر من الخريف؛ فوضع بعض الحاسبين فيهم نظام النسيء ليجعلوا من السنة القمرية والتاريخ الهلالي سنة شمسية؛ ليحتفظوا بحلول المواسم في الوقت الذي يرغبونه، ولم يختر المكيون هذا الوقت من العام عبثا، ولم يفضلوه على غيره لطراوة الهواء أو هبوط حرارة القيظ على القادمين والذاهبين، إنما اختاروه لأنه الوقت الذي يكون فيه الأدم والثمرات وغيرها من البضائع والعروض معدة للعرض في الأسواق، وكانت تلك البضائع والثمرات كل ما يملكه البدو ويأتون به ليبيعوه في أسواق مكة. وكان المكيون أهل حذق وحرص ولباقة، فيكرمون ضيوفهم وعملاءهم، ويقيمون لهم الولائم، وينصبون لهم الجفان، ويذبحون الذبائح؛ فيتمكنون بذلك من شراء بضائع البدو بثمن بخس، ويبيعونهم ما تجلبه القوافل المكية من الشام والحبشة واليمن بأغلى سعر، وبعبارة حديثة: «يأخذون الوارد ويعطون الصادر»، فصاروا سادة التجارة في الجزيرة؛ وهذا الاستغلال ميزتهم الوحيدة.
وأخذت قوافلهم تقطع الجزيرة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، تحمل بضائع بأموال باهظة؛ فإن قافلة قريش التي أوقع بها جيش المهاجرين والأنصار بقيادة النبي
صلى الله عليه وسلم
في موقعة بدر، قدرت بعشرين ألف جنيه ذهبا؛ أي ما يزيد على أربعين ألف دينار بتقدير النقد الحديث. فتأمل كيف أطغاهم المال وأبطرتهم النعمة حتى خشوا الإملاق إن اتبعوا هدي الإسلام.
بناء الكعبة
جميع المؤرخين من المسلمين وغيرهم على أن الكعبة بنيت مرات، وقد اختلفوا في عدد بنائها، ويتحصل من مجموع ما قيل في ذلك أنها بنيت عشر مرات (الفاسي في شفاء الغرام، والنهروالي في الأعلام)؛ وهي: بناء الملائكة، وبناء آدم، وبناء أولاده، وبناء الخليل إبراهيم، وبناء العمالقة، وبناء جرهم، وبناء قصي، وبناء قريش قبل البعث وعمر محمد خمس وعشرون سنة، وبناء عبد الله بن الزبير بن العوام، وآخرها بناء الحجاج بن يوسف الثقفي. وفي الحق أنها عمرت بعد ذلك مرات.
أما بناء الملائكة وآدم وأولاده فلم يروه معصوم ولا ثقة، وهذا رأي كثير من مؤرخي مكة الموثوق بهم.
ذكر الفاكهي عن علي بن أبي طالب أن إبراهيم أول من بنى الكعبة.
وجزم عماد الدين بن كثير في تفسيره فقال: «لم يرد عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل.» أما بناء إبراهيم فثابت بالكتاب والسنة والتاريخ الصحيح قديما وحديثا.
وقد ظهر حرص إبراهيم في البناء وقصده إلى أن يكون البيت معبدا لله، فحسب حساب النذور، فحفر في بطن البيت على يمين من دخله حفرة تكون خزانة للبيت، يوضع فيها ما يهدى إلى البيت.
وهبط أثناء البناء حجر من السماء، هو الحجر الأسود، ولعله من نوع النيازك؛ بدليل وصفه أنه كان يتلألأ نورا فأضاء شرقا وغربا وشاما ويمنا إلى منتهى أنصاب الحرم. وتلألؤه الموصوف في الكتب دليل على أنه كان ذا لون غير السواد، ولكن بعض المؤرخين يعلل سواده بأنجاس الجاهلية وأرجاسها. وقد ثبت أن بعض النيازك يتغير لونها بمجرد مرور الزمن عليها، ومنها ما يتلألأ ويلمع. والكلمة من أصل فارسي «نيزه»، وهو أحد أقسام الشهب، والشهاب ما يرى كأنه كوكب انقض من السماء، وتكثر في شهر آب.
كانت الكعبة قبل أن تبنيها قريش مبنية برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق، فأقبلت سفينة للروم حتى إذا بلغت ساحل مكة وهي يومئذ الشعيبة قبل جدة فجنحت السفينة ثم انكسرت فسمعت بها قريش، فركبوا إليها وأخذوا خشبها واستأجروا روميا كان فيها اسمه باقوم أو يواقيم، وكان نجارا ماهرا وبناء حاذقا، فلما بلغوا مكة كلفوه ببناء الكعبة، فاقترح عليهم نقل الحجارة من الضواحي.
وقد اشترك محمد
صلى الله عليه وسلم
في نقل الحجارة وهو شاب، وهدموا البناء القديم، ولكنهم عجزوا عن رده لأصله؛ لقصر الخشب، فاستقصروا وتركوا منها في الحجر ستة أذرع وشبرا.
وكان يواقيم قد أشار عليهم أن يبنوا سأفا من حجارة وسأفا من خشب؛ أي «مدماكا» من كل منهما، حتى انتهوا إلى موضع الركن فاختلفوا في وضعه وكثر الكلام فيه، فقال أبو أمية: «حكموا بينكم أول من يطلع عليكم من هذا الفج.» قالوا رضينا وسلمنا. فطلع محمد
صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاما ومشهورا بالأمانة فقالوا: «هذا الأمين قد رضينا به!»
فحكموه فبسط رداءه ثم وضع فيه الركن - وهو الحجر الأسود - فدعا من كل ربع رجلا فأخذوا بأطراف الثوب، وهم: عتبة بن ربيعة (عبد مناف)، وأبو زمعة بن الأسود، والعاص بن وائل، وأبو حذيفة بن المغيرة، وقام محمد
صلى الله عليه وسلم
على الجدر ثم وضعه بيده؛ فانتقدهم رجل نجدي قائلا: عمدوا إلى أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم!
أو كما قال نقلا عن كتب السيرة: «وا عجبا لقوم أهل شرف وعقل وسن وأموال عمدوا إلى أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحوزهم كأنهم خدم له.» فكان محمد
صلى الله عليه وسلم
محسودا من هذا الغريب على تلك المكرمة.
صورة العالم السياسية والاجتماعية قبل البعثة المحمدية
لأجل أن يفهم الإنسان تمام الفهم أية دعوة من الدعوات، يلزمه أولا الإلمام بحال الداعي في ذاته، ولأجل أن يقدر قدر دعوته يجب عليه أن يدرس الجهة البشرية التي وجه همته للتأثير عليها؛ هذا هو الغرض من النبذة الوجيزة التي خصصناها للمشترع العربي - عليه الصلاة والسلام - مؤسس ما يمكن تسميته بالجامعة الإسلامية.
1
حوالي ميلاد محمد
صلى الله عليه وسلم
في القرن السادس الميلادي كان جو العالم متلبدا بغيوم الاضطرابات والفتن؛ فكان شعب (الوزيغو) الآريين في إسبانيا وفرنسا الجنوبية يصاولون الملك كلوفيس وأولاده الكاثوليك، فكانوا من أجل ذلك يطلبون مساعدة إمبراطور مملكة الرومان الشرقية المدعو جستنيان، ثم أجبروا على الدخول معه في حرب جديدة تخلصا من سلطة القواد الذين جاءوهم بتلك المساعدة؛ فقد كانوا يزعمون أن لهم حق الفاتحين، لا مجرد ولاء المساعدين.
2
أما في فرنسا نفسها فكان أولاد «كلوفيس» هذا متغادرين متسافكين، وكانت الحروب التي شبت نيرانها بين الملكة الوزيقوتية «برونهو» والملكة الفرنكية «فريد يجوند» تهيئ للتاريخ أشد الصحائف إثارة للأسى والكمد.
وأما في إنجلترا فكان «الأنجلو» ينازعون «السكسونيين» الأرض التي احتلوها واستعبدوا فيها ذرية «كيمريس»؛ وهم أقدم المغيرين على تلك الجزيرة التي تتطلع اليوم للوقوف في مقدمة الأمم علما وصناعة وقوة؛ وهي التي كانت في ذلك الوقت مجالا للقوة الوحشية السائدة في تلك الغياهب الحالكة.
أما في إيطاليا فكان اسم «الرومان» - وهو ذلك الاسم الشامخ - قد فقد خطورته القديمة، وكانت رومة - وهي الشظية الأخيرة أو رأس ذلك التمثال الكبير المهشم، يعني مملكة الرومان - في حالة تململها من استحالة أمرها إلى مركز ديني بسيط ترتج وتضطرب، كلما ألم بها طائف من ذكرى عظمتها القديمة أيام كانت مركزا دينيا أصيلا.
وكانت تهيئ نفسها لأن تكون مركزا للبابوية - وهي تلك السلطة الزمني - كما اقتضت سياسة «شارلمان» أن تجعلها كذلك بعد قرنين من الزمان، ولكنها مع ذلك لم يسعها إلا حمل نير «الهيروليين» و«الأستروغوتيين» وبراطرة المملكة الرومانية واللومبارديين الذين تداولوا السلطة عليها تداولا مستمرا.
أما مملكة اليونان التي كانت قد نسيت مجدها القديم، فكانت تابعة لمملكة الرومان الشرقية، مثلها منها كمثل الزينة ذات الضوضاء. وكان شرق أوروبا مقلقا جنوبها من أول مصاب نهر الراين من جهة الشرق لغاية مصاب نهر الدانوب من جهة الشرق؛ فكان الإسكندنافيون (والنورفيجيون والدانماركيون) يتزاحمون في الطريق الذي سلكه الجوتيون والهورنيون الذين احتلوا تراقيا ومقدونيا ولومبارديا وإيطاليا سواء بالقوة أو بالخديعة ... في ذلك الوقت بدأ ظهور الأتراك من أعماق آسيا الصغرى، وهي تلك الأمة التي قصرت فيما بعد مملكة اليونان على أسوار القسطنطينية.
التصوير البديع الذي جادت به قريحة المسيو «رينان» لبيان مركز الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول من التاريخ المسيحي لا علاقة له البتة بالتصوير الممكن عمله لتجلية حال أوروبا في القرن السادس؛ تلك كانت مفاسد قيصرية مختمرة. أما هذه فوحشية حربية تلعب بالأرواح وتتمرغ في الأوحال (كتاب درابر نزاع العلم والدين).
أما آسيا فلم تكن أهدأ بالا من أوروبا في شيء؛ فمملكة «تبت» والهند التي اقتبست منها الأمم السائدة في أوروبا الآن قرائحها وأفكارها العامة ولغاتها، والصين التي تعد مسألتها أغرب المسائل السياسية والفلسفية، وبعبارة أخصر أغرب المسائل الاجتماعية ؛ كانت هذه الممالك كلها متمزقة الأحشاء بالحروب الداخلية والخارجية المتصلة بالمنازعات الدينية.
أما السفح الشمالي من الهضبة الآسيوية العالية التي في حوزة الروسيا الآن، فكانت غير معروفة على الإطلاق. وأما مملكة الفرس التي كانت أحوالها مرتبطة بأحوال العرب خصوصا من لدن تجريدة الإسكندر المقدوني، فكانت مشتبكة في حروب مع اليونان الرومانيين في القسطنطينية الذين كانوا أصحاب السلطة على آسيا العربية.
وأما في أفريقيا فكان هؤلاء اليونان الرومانيون أنفسهم - وهم أخلاط من عساكر وتجار وحكام مجموعون من آفاق مختلفة - دائبين على امتصاص دم مصر، وعاملين على جعلها - وهي المملكة العلمية ذات المجد القديم - كالجثة المصبرة عديمة الحس والحركة، وكان هذا شأنهم أيضا في الأقاليم الخصبة وقتئذ الواقعة في الجهات الشمالية من أفريقيا التي انتزعوها من أيدي الفنداليين الذين اشتهروا بالتخريب.
والخلاصة أن جو العالم الأرضي كان متلبدا بسحب الاضطرابات الوحشية في كل جهة، وكان اعتماد الناس على وسائل الشر أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير، كأن الشيطان كان مستحوذا عليهم.
وكان أجمع الرؤساء للثقة والطاعة أشدهم صيحة في إصلاء نيران الحروب والمعارك، ولم يكن يأخذ بالقلوب ولا يؤثر عليها تأثيرا حادا - وإن كان وقتيا - إلا شيء واحد وهو الغنيمة وسلب الأمم والشعوب والمدائن والأعيان ورجال الحرب وفقراء الحراثين وبسطاء المتسولين. ولولا شعاع ضئيل من الحكمة كان يتألق في بعض صوامع الكهنة وبعض الجراثيم الفلسفية، التي كانت بمعزل عن أعاصير تلك المشاغب، وانتقلت من روح إلى روح أخرى بواسطة بعض أصحاب الجسارة من رسل الترقي في المستقبل، لكانت البربرية أسرعت في خطاها مقودة بغطرسة زعماء البهيمية، واستحالت إلى وحشية محضة.
مع هذا كله كان هناك ركن من أركان الأرض لم تصبه لفحة من هذه الحركة، ولكن لم يكن ذلك لحكمة أهله ورجاحة عقولهم، بل بسبب موقعهم الجغرافي البعيد عن مضطربات الأمم التي كان يقال إنها متمدينة؛ ذلك الركن هو شبه جزيرة العرب التي ما كانت تسمع انفجار أعاصير تلك الفتن الهائلة في أوروبا إلا عن بعد، وما كان يصلها ذلك اللغط إلا غاية في الضعف والضئولة، وكانت تجهل وجود الهند والصين؛ فإن علاقاتها مع آسيا لم تكن تتعدى حدود بلاد الفرس، ولم تعرف لديها الفرس إلا بواسطة أخبار الانتصارات أو الهزائم التي كان من ورائها رد بعض الوديان العربية القريبة من سوريا إلى تبعية إمبراطرة القسطنطينية تبعية اسمية أو رفع نير تلك التبعية الاسمية عنها.
على أن ذلك الوادي الأخير كان يهم بلاد العرب جدا لأن أبناءها كانوا يذهبون إليه للتجارة، وكان لها فيه أبناء استعمروا الشاطئ الغربي من نهر الفرات، وصعدوا رويدا رويدا إلى بحر قزوين. ومما يشبه المساتير الدينية أنها بقيت منفصلة عن القطر المصري الذي أغار على جنوبه العرب الرعاة، ولم ينجلوا عنه تماما إلى بعد أن انجلى عنه بعض إخوانهم المتأخرين وهم الإسرائيليون تحت قيادة موسى - عليه السلام - حينما استرد المصريون السلطة وعاملوهم معاملة البهائم. أما المملكة الوحيدة التي كان بينها وبين العرب صلة وعلاقة فهي بلاد الحبشة. أما الجهة الشمالية من أفريقيا التي أغاروا عليها مرتين، والتي كانت بجانبهم نقطة النزاع بين الرومانيين والقرطاجيين وبين يونان القسطنطينية والفنداليين، فكانوا لا يحلمون بوجودها.
ثم قال المسيو كوسان دي برسيفال في كتاب «تاريخ العرب»: «إن المتحضرين من عرب البحرين والعراق كانوا خاضعين للفارسيين، أما المتبدون منهم فكانوا في الحقيقة أحرارا لا سلطة لأحد عليهم، وكان عرب سوريا مذعنين للرومان، أما قبائل بلاد العرب الوسطى والحجاز الذين ساد عليهم التبابعة - وهم ملوك بني حمير - سيادة وقتية فكانت تعتبر أنها تحت سيادة ملوك الفرس، ولكنها في الحقيقة كانت متمتعة بالاستقلال التام الذي لا غبار عليه.»
ثم قال جول لابوم: «ولم يكن العرب أحسن استعدادا من غيرهم لقبول أي دين من الأديان.» قال المسيو دوزي في كتابه «تاريخ عرب إسبانيا»: كان يوجد على عهد محمد
صلى الله عليه وسلم
في بلاد العرب ثلاث ديانات: الموسوية والعيسوية والوثنية، فكان اليهود من بين أتباع هذه الأديان أشد الناس تمسكا بدينهم وأكثرهم حقدا على مخالفي ملتهم. نعم، يندر أن تصادف اضطهادات دينية في تاريخ العرب الأقدمين، ولكن ما وجد منه فمنسوب إلى اليهود وحدهم، أما النصرانية فلم يكن لها أتباع كثيرون.
وكان المتمذهبون بها لا يعرفونها إلا معرفة سطحية، وكانت هذه الديانة تحتوي على كثير من الخوارق والأسرار، بحيث يعز أن تسود على شعب حسي كثير الاستهزاء بالمساتير
Mysteres .
أما الوثنيون الذين كانوا السواد الأعظم من الأمة فكان لكل قبيلة - بل وأسرة - منهم آلهة خاصة، والذين كانوا يصدقون بوجود الله - تعالى - ويعتبرون تلك الآلهة شفعاء لديه فقد كانوا يحترمون كهانهم وأصنامهم بعض الاحترام، ولكنهم مع ذلك كانوا يقتلون الكهان متى لم تتحقق أخبارهم بالمغيبات، أو لو عولوا على فضحهم عند الأصنام إن قربوا لها ظبية بعد أن نذروا لها نعجة. وكان من العرب من يعبد الكواكب وخصوصا الشمس؛ فكنانة كانت تدين القمر والدبران، وبنو لخم وجرهم كانوا يسجدون للمشتري، وكان الأطفال من بني عقد يدينون لعطارد، وبنو طيء يدعون سهيلا، وكان بنو قيس عيلان يتوجهون للشعرى اليمانية، وكان علمهم بما وراء الطبيعة على نسبة أفكارهم الدينية. قال كوسان دي برسيفال في كتابه «تاريخ العرب قبل الإسلام» ثلاثة أجزاء: «وكان منهم من يعتقد بفناء الإنسان إذا رحل من هذا العالم، ومنهم من كان يعتقد بالنشور في حياة بعد هذه الحياة، فكان هؤلاء إذا مات أحد أقربائهم يذبحون على قبره ناقة أو يربطونها ثم يدعونها تموت جوعا، معتقدين أن الروح لما تنفصل من الجسد تتشكل بهيئة طير يسمونه الهامة أو الصدى؛ وهي نوع من البوم لا تبرح تطير بجانب قبر الميت نائحة ساجعة تأتيه بأخبار أولاده، فإذا كان الفقيد قتيلا تصيح صداه قائلة: اسقوني! ولا تزال تردد هذه اللفظة حتى ينتقم له أهله من قاتله بسفك دمه. وكانت طبائع العرب وأخلاقهم لا تدل الناظر إليها إلا على أنهم شعب لم يكادوا يجوزون العقبة الأولى من عقبات الاجتماع لو لم تكن الأسرة عندهم؛ بل والقبيلة أيضا - وهي نقطة تلفت النظر - تهتم اهتماما عظيما بحفظ سلسلة نسبها، ولو لم يكن - وهو أمر أغرب من سابقه - إدراكهم للقوانين وسعة لغتهم من جهة أخرى داعيا إلى الالتفات بنوع أخص.»
ثم قال المؤلف المحقق الذي اقتبسنا منه أكثر هذه التفصيلات المتقدمة: «كان العرب مغرمين بشرب الراح، ويوجد من الشعر ما يدل على أنهم كانوا يفخرون ويعجبون به وبلعب الميسر، وكان من عاداتهم أن للرجل أن يتزوج من النساء بقدر ما تسمح له به وسائله المعيشية، وكان له أن يطلقهن متى شاء هواه، وكانت الأرملة تعتبر من ضمن ميراث زوجها! ومن هنا نشأت تلك الارتباطات الزوجية بين أولاد الزوج ونساء الأب! وقد حرم ذلك الإسلام وعده زواجا ممقوتا.
وكان هنالك عادة أفظع من كل ما مر وأشد معارضة للطبيعة، وهي وأد الأهل لبناتهم؛ أي دفنهن على قيد الحياة!»
كل هذا يشير إلى أن العرب لم يكن فيهم أي جرثومة خلقية صالحة يمكن تقويمها وتهذيبها؛ فقد كانوا يحبون الحرية حبا جما، ويمارسون فضائل الكرم وبذل القرى، والأفراد الذين كانوا تابعين لأمم أرقى من الأمة العربية، والذين كانوا مبعثرين هنا وهناك من جزيرة العرب كانوا قليلي العدد جدا، ولا يظهر أنهم كلفوا أنفسهم الدعوة إلى مللهم؛ فاليهود الذين كانوا متشبعين بالأثرة الشعبية - على مثال الصينيين واليابانيين والمصريين - لا يرى منهم لليوم خاصية التأثير على غيرهم إلا بالخضوع لقوانين الأمة التي يشتغلون تحت ظل حمايتها بالأمور المالية، ولئن شوهد أنهم أدخلوا إلى ملتهم بعض العرب، فلم يكن ذلك إلا نتيجة بسيطة لاشتراكهم في الأساطير التاريخية؛ وهو اشتراك يدل على قرابة قريبة بين الأمتين؛ تلك القرابة يستدل عليها أيضا بتساويهم في حب الكسب وتآزيهم في الاستعداد لعدم الأنفة من سلوك أي طريق من الحيل والمكر لنيل مال أو حطام، ولا ينتظر أن يكون من نتيجة الاجتماع بهذه الاعتبارات أدنى رقي أدبي.
أما المسيحيون فكانوا يفدون شيئا فشيئا إلى بلاد العرب هربا من الاضطهادات الدينية التي كانت في مملكة الرومانيين، ولكن لم يكن في حالهم نور يلفت البصر تألقه، وفي حالة مسيحيي الحبشة اليوم نموذج من ذلك؛ فإنه لا يمكن أن يتحلى الإنسان بمدركات العقائد السامية من دين بمجرد التسليم بنص تلك العقائد.
في عهد هذه الأحوال الحالكة، وفي وسط هذا الحيل الشديد الوطأة، ولد محمد بن عبد الله في 29 أغسطس سنة 570م. ا.ه. كلام جول لابوم، وكوسان دي برسيفال، ودوزي.
حالة عرب الجاهلية بين البداوة والأمية
وردت في القرآن الشريف آيات كثيرة تصف أحوال العرب قبل الإسلام وتدل على أخلاقهم ونفسيتهم؛ كقوله - سبحانه وتعالى - في محكم كتابه المنزل على نبيه المرسل، وفيها الأدلة الحاسمة على ما نقول:
أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد (سورة الأحزاب).
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (سورة البقرة).
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم (سورة المنافقون).
وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (سورة إبراهيم).
وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (سورة الزخرف).
أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون (سورة الطور).
ومما لا شك فيه أن الحجازيين من العرب عانوا في وطنهم ما صبغ حياتهم الاجتماعية بصبغة تخالف صبغة أهل اليمن والحيرة والشام؛ لأن الحجاز إقليم طبيعته تخالف طبيعة تلك البلاد؛ فلم تقم فيه حياة اجتماعية متحضرة كالتي قامت في اليمن والعراق، بل غلبت على أهله البداوة وما يتصل بها من أخلاق وعادات، وقد قعدت طبيعة الحجاز بأهله عن مجاراة غيرهم في الحياة الاجتماعية، وصرفتهم إلى مقتضيات الحياة المادية؛ فكانوا بدوا معاندين أميين، ألفوا الظعن والارتحال، جفاة لا ينقادون إلى الحق من قريب. وهذه الفوضى الاجتماعية هي التي نعاها عليهم القرآن الكريم وعابهم بها في بعض آياته؛ لأنه لم يؤثر لهم التاريخ خطبا في الجاهلية ولا كتبا يدرسونها.
وقد جاءوا إلى الإسلام بكما خرسا فأنطقهم بهذه البلاغة الساحرة والبراعة الفائقة.
ولو أن ما رواه أبو الحسين أحمد بن فارس أستاذ الصاحب بن عباد في «فقه اللغة وسنن العرب في كلامها» من أنهم كانوا في الأزمنة الغابرة على علم وفن، فإن هذا العلم وذلك الفن قد درسا قبل الإسلام، ولم يكونا في الحجاز ولا في قريش، وربما كانا في الدول البائدة كعاد وثمود وسبأ وتبع. يقول ابن خلدون في مقدمته: «فاليمن قرارهم قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع.»
فالإجماع على أن العرب قبل الإسلام كانوا في حياة أولية ساذجة، لا أثر للعلم ولا للتفكير الصحيح فيها.
كانت العرب قبل الإسلام أمة بدوية متوغلة في الجهالة والوحشية؛ يئدون البنات، وينتهكون الحرمات، ويقتتلون، ويتناهبون منذ أقدم عصورهم. لا يتغلبون إلا على البسائط؛ لأنهم للتوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب! والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام التوحش وأسبابه فيهم. وكانوا أبعد الأمم عن سياسة الملك، والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالا في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش؛ فاستغنوا عن غيرهم فصعب قيادهم بعضهم لبعض؛ لإيلافهم ذلك وللتوحش. فلما أراد الله بالعالمين خيرا جاءت الرسالة المحمدية فأخرجت العرب من الظلمات إلى النور، وأوجدت فيهم وحدة اجتماعية ما كانوا يعرفونها، وبثت فيهم من الأخلاق والآداب ما كانوا في أشد الحاجة إليه، وآتتهم دستورا أفضى بهم السير عليه إلى تبوؤ خلافة الله في العالم قرونا كثيرة، غيروا فيها وجه الأرض ونشروا علما وحرية ومدنية قضت على كل ما كان متحجرا أو غير صالح للحياة في العالم كله.
الأمم والدول العربية البائدة
قامت لبعض قبائل العرب البائدة دول فطرية قبلية فاشتهر منهم أقوام عاد وثمود والعمالقة وطسم وجديس وأميم وجرهم وحضرموت بتأسيس دول لها ملوك يتوارثون العروش، ومدنية مناسبة للزمان الذي وجدوا فيه، وقد بالغ بعض المؤرخين في وصف تلك الممالك وآثارها، ولكن معظم ما رووه ونقلوه سماعي لا يؤبه له. وقد سميت هذه الطبقة الأولى من العرب بالبائدة لأنها انقرضت منذ زمان بعيد ، وغمض تاريخها إلى حد أن العرب أنفسهم لم يعرفوا منه شيئا يذكر غير مبالغات وخزعبلات تخيلها الخراصون، وقد ظل العرب يجهلون أنه قامت في اليمن في بعض عصورها دولة يقال لها المعينية، حتى قام المستعرب هاليفي الفرنسي مستهديا بما ورد عنها في كتاب المؤرخ اليوناني القديم «استرابون»، فارتاد بلاد الحوف شرق صنعاء، واكتشف أنقاض معين، ووجد بها كتابات بالقلم المسند دلته على أسماء 26 من ملوكها، فنقلها بنصها ورسومها.
فتاريخ هذه الطبقة البائدة من العرب يجب أن يغفل في بحث حالة العرب قبل الإسلام؛ لغموضه وتغلغله في القدم، ولما حدث من الانقلاب الذريع في كيان الأمة العربية بعده، حتى سميت تلك الطبقة بالبائدة، ومن بقي بعد تلك الانقلابات سموا بالعرب المستعربة؛ كما سيجيء.
وما انفكت الأمة العربية ملازمة في كل عهودها للحالة القبلية حتى ظهرت ثورة الإسلام فوحد بينها وجعل منها أمة.
قال الله:
واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها (سورة آل عمران).
وقد لازمت العرب البداوة والأمية في كل أدوار حياتهم قبل الإسلام، وحتى القبائل أو الطوائف التي أسست ممالك وانقرضت قبل الإسلام لم يصلنا عن إحداها كتاب مخطوط، ولا خبر مكتوب عن وجود أثارة من علم فيها، مع أنه قد وصلنا عن أمم كثيرة غيرها مؤلفات قبل 6000 سنة، وأسماء علماء وفلاسفة وفنانين كانوا عائشين في تلك العصور البعيدة، كالسومريين والأكاديين (كتاب ل. كنج).
لقد كانت البداوة والأمية أثيرتين عند العرب إلى حد أنهم على مجاورتهم الفرس والرومان ووقوعهم تحت نيرهم أجيالا؛ لم يأخذوا أخذهم في العلوم والفنون، ولم يشتهر فيهم فلكي أو فيلسوف أو فنان، ولم يصلنا منهم صفحة واحدة باللغة العربية حتى مما له علاقة بالدين، وهو أقل ما تهتم به الأمم القديمة. قال الله تعالى:
وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير (سورة سبأ).
وقال:
أم لكم كتاب فيه تدرسون (سورة ن).
فلو كان عند العرب كتاب كالذي زعم القائلون بوجود النثر الفني قبل الإسلام، لأبرزوه ليردوا على الوحي الذي تحداهم في آيات معدودة.
أما بقية العرب - وهم السواد الأعظم في سائر الجزيرة - فكانوا يعيشون على حالة بداوة وأمية بأوسع معاني هاتين الكلمتين من يوم خلقهم إلى البعثة المحمدية (الأستاذ محمد فريد وجدي).
وجزيرة العرب تبلغ مساحتها ستة أضعاف فرنسا، وليس منها من المدن إلا ما يعد على الأصابع، كمكة والمدينة والطائف. ولم يكن لديهم زراعة ولا صناعة ولا تجارة ولا علم، إلا ما يقيمون به أودهم، وغاية جهدهم اشتغالهم بالنقل البري إلى مطارف الشام على ظهور الإبل وغشيان الأسواق والارتحال. أما الحكومة وأما الجيش والتعليم والقضاء - وهي من مقومات الحضارة - فلم يسمعوا بها، ولم يمارسوها في غير دار الندوة وحلف الفضول.
وأصدق المصادر في الأنباء عن حياة العرب قبل البعثة المحمدية هو القرآن نفسه بإجماع آراء المؤرخين والباحثين من علماء المشرقيات وكتاب العرب، ثم الأمثال والقصص؛ فالقرآن يقول:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (سورة الجمعة).
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم .
قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ؛ حكاية على لسان اليهود.
لقد جاءكم رسول من أنفسكم (سورة التوبة).
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (سورة العنكبوت).
أما القصص والأمثال فتدل كلها على حال البداوة والأمية. وأما الشعر الجاهلي - وهو لون من الأدب الشعبي - فلا ريب فيه، ولكنه لا يستطاع الاحتجاج به، ولا يدل على وجود الفن الأدبي كما لا يدل كل شعر لأمة أمية على وجود هذا الفن لديها.
فشعر هوميروس في الإلياذة كان مرويا ومحفوظا لأنه كان كفيفا ينظم ويستظهر ولا يكتب. شعر جنوب فرنسا «بروفنس» كان مرويا ينشده الشعراء في المحافل، وقد سجله وخلده شاعرهم القومي ميسترال الذي أقاموا له تمثالا في حياته. وفي صعيد مصر وريفها شعراء أميون يقولون الشعر موزونا مقفى ويتناولون شئون الحياة المفرح منها والمحزن، ولكن لم يقل أحد بأنهم على شيء من الأدب أو الفن، وعلى الرغم من انتشار التعليم في مصر، لم يعن أحد من الأدباء بتسجيل أشعارهم؛ لأن هؤلاء الناظمين الأميين يضنون ببضاعتهم على من لم يكن من بيئتهم، وكان الله بالسر عليما، فهو يتحدى العرب المعاصرين للنبي
صلى الله عليه وسلم
بقوله المبين:
ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين (سورة الأحقاف).
وقال:
قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (سورة الأنعام).
فلم يأتوا بكتاب، ولم يخرجوا علما، ولم يردوا أو ينقلوا شيئا من هذا بعد تحدي القرآن مرات عدة، وهم الذين نقلوا كل شيء وجدوه حتى أخبار الخيل والكلاب والغول والعنقاء والأفاعي، وكانوا بسبب جاهليتهم ووثنيتهم وأميتهم ضعفاء مفككين، فلم يستطيعوا أن يحتفظوا باستقلالهم أمام معاصريهم، فاستولى الفرس والرومان على بلادهم المجاورة للدولتين، واستولت الحبشة على اليمن فاستغاث أهله بالفرس فأغاثوهم، وانتهزوا ضعفهم فاحتلوا بلادهم إلى أن أجلاهم الإسلام عنها وحررها كما حرر العراق وغسان.
فثورة الإسلام وحدها هي التي وحدت قبائل العرب، وأسقطت ما بينهم من فروق القبائل ومن ضغائن، وهي التي رفعت عنهم طابع الأمية ودفعتهم لطلب العلم دفعا لا هوادة فيه؛ فكانت ثورة وطنية استقلالية ودينية، قال محمد
صلى الله عليه وسلم : «لقد أذهب الله عنكم رجس الجاهلية وتفاخر آبائها.»
نعم، قد جاء في القرآن الكريم بضع آيات تدل على شبه حضارة بائدة تجمع بين العبث والبطش وتوهم الخلود؛ لقوله تعالى:
أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون (سورة الشعراء).
فهذه الآيات منصبة على قوم عاد البائدين. وجاء في حق ثمود:
أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (سورة الشعراء).
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله (سورة الأعراف).
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (سورة سبأ).
وتدل هذه الآيات كلها على ما كان لبعض العرب البائدة من حياة اجتماعية، ولكن لا علاقة البتة بين هؤلاء وبين العرب عند بعثة النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ إلا إذا كانت هناك علاقة بين الحضارة الأوروبية الحالية وبين حالة البداوة والتوحش التي كانت عليها أوروبا قبل الحضارة اليونانية وأثناء القرون المظلمة. وقد وردت تلك الآيات في القرآن الكريم على سبيل الموعظة والإنذار للعرب المعاصرين للنبي
صلى الله عليه وسلم ، وليس المقصود منها إلى التاريخ والتسجيل كما ظن بعضهم.
ومن العجيب أن جزيرة العرب على غناها الطبيعي لم يتمكن أهلها من استغلال كنوزها؛ فقد روى استرابون أن الذهب كان يعدن في بلادهم، وكانت لهم مدينة أوفير التي ذكرت في التوراة، وبها منجم ذهب عني به سليمان فجلب منه القناطير المقنطرة لبناء هيكله وملء خزائنه، ولم يربح منه العرب شيئا كما فعل السكسون في جنوب أفريقيا حيث مناجم الذهب والماس في أواخر القرن التاسع عشر (انظر تاريخ حرب البوير التي نشبت بسببهما).
1
فالعرب العاربة هم عاد وثمود والعمالقة ومن أشبههم، والعرب المتعربة هم القحطانيون، ومنهم حمير وسبأ والتبابعة وجرهم.
والعرب المستعربة هم الإسماعيلية والعدنانية ودولة حامورابي والدولة المعينية، والأولى في بابل، والأخرى في اليمن.
فالعرب العاربة والمتعربة قطنوا الجنوب، والمستعربة قطنوا الشمال.
فأهل الجنوب بسبب خصوبة أرضهم أحدثوا نوعا من الحضارة الزراعية، وانتهوا ببناء سد مأرب، ولكنهم لم يتمكنوا من تعميره بعد تخريبه.
وقد حدثت أحداث طبيعية ضربت أسباب الحياة المعاشية ضربة قضت عليها، فلم يبق للسكان مناص من النزوح والهجرة؛ فارتحلوا شمالا وشرقا وغربا. وتلك الهجرات شبهها العلماء بالأمواج البحرية لم تنج منها أمة قديمة أو حديثة منذ تاريخ الإنسانية إلى عصرنا هذا (ص358، تاريخ سومر وأكاد، تأليف ل. كنج).
فتاريخ هذه الطبقات البائدة من العرب يجب أن يغفل في بحث حالة العرب قبل الإسلام ، لغموضه وتغلغله في القدم، ولما حدث من الانقلاب الذريع في كيان الأمة العربية بعده.
ومع كل ما تقدم فإن العرب - على اختلاف القبائل والبطون - قلما نبغ فيهم حكيم أو خطيب أو كاهن أو شاعر إلا بعد دخولهم في القرن الأول قبل الهجرة، ولم يكن للذين ظهروا شأن يذكر.
سيدنا إسماعيل عليه السلام ونسله في الحجاز
كان العرب في الشمال يعرفون بالإسماعيلية والعدنانية؛ نسبة إلى جدهم الأعلى إسماعيل بن إبراهيم، وإلى عدنان أحد أجدادهم الأقربين من ولد إسماعيل، وهؤلاء كانوا يسكنون الحجاز من يوم نزوح إبراهيم وهاجر وولدهما. والحجاز إقليم فقير مجدب عديم النبات قليل الماء؛ فنشئوا بدوا يغلب عليهم الظعن والارتحال والتحارب على أسباب البقاء ووسائل الحياة، وإن كان إسماعيل قد صاهر جرهم وبنى منهم بسيدة بنت مضاض ثم برعلة بنت عمرو الجرهمي، إلا أن تاريخ جرهم من أدخل تواريخ العرب في الغموض.
فالتاريخ يحدثنا بأنه شعب يمني قديم عاصر المعينيين في اليمن والحامورابية في العراق، وهم خلفاء عاد والعمالقة.
وأول ما دونه التاريخ عنهم مقترن بنزوح إبراهيم إلى الحجاز؛ فقد اختار الله لتلك الأسرة بطحاء مكة، وكان إبراهيم ذا شخصية بابلية متميزة، له تاريخ عريق وصيت بعيد؛ فقد اقترن اسمه بحوادث خطيرة، وهو خليل الله ورسوله بالحنيفية السمحاء، وهو الذي ثار في وجه أمته الوثنية فحطم أصنامها وحقر ديانتها، وعصى أباه في عقيدته وفنه ورزقه، وجادل علماء وطنه وكهنته، فلما عجز باطلهم لدى حقه ألقوا به في النار، فأيده الله بنجاته وخذلانهم، ففر من بابل بجلده سالما. فحلول إبراهيم أرض الحجاز وتخليفه ولده وزوجه بأرضه، ثم تردده على بطحاء مكة لزيارة نجله، وبناؤهما البيت الحرام في مكة، وجعلهما إياه حرما آمنا محجوبا، ومعبدا لدين التوحيد الجديد الذي جاهر به إبراهيم بعد أن أوذي في سبيله ببابل؛ قد أيقظ عقول بني جرهم إلى الأسرة الجديدة والدين الجديد فتقربوا إليهم وصاهروهم.
وقد تعلم إسماعيل العربية من أصهاره فأحب أن يقيد اللغة الجديدة، فقيل «إن أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل، وضعه على لفظه ومنطقه.» بعد أن التقف اللغة من الأفواه.
أما أشخاص جرهم التاريخيون فنعلم منهم جرهم وعبد ياليل وخشرم وعبد المدان ونفيلة.
وقبل النبي بألف وأربعمائة سنة غزا بختنصر بلاد العرب، فحاربه عدنان في «ذات عرق» وتعادلت القوتان وانسحب الفاتح الأجنبي لما عاناه من جدب الأرض ووعورة المسالك، وبعد أن أيقن أن ثمرات المغازي في بلاد العرب لا توازي ما يبذل في سبيلها، فارتد على عقبيه راضيا من الغنيمة بالإياب، ومؤثرا العافية على الأسلاب، ومنقذا جنوده من الهلاك المحقق (ليون كايتاني، آثار الإسلام، ج1).
وعدنان بطل حجازي لا شك في تاريخه، ويظهر أنه كان النسل كله، وطنية وفروسية وبطولة وزعامة؛ فلم يشاركه أحد في المجد.
قال القلقشندي: «واعلم أن الموجودين من العرب من ولد إسماعيل كلهم من بني عدنان بن أدد» (ج1، ص17).
وقال ابن خلدون: «ومن عدا عدنان من ولد إسماعيل قد انقرضوا ولم يبق لهم عقب؛ ولذلك عرفت بالعدنانية.»
فإذن كان إسماعيل جدا عاليا لعرب الحجاز، وكان ذبيحا، وفي حكم اليتيم، وكان مؤسس أمة ومنشئ لغة قومية ووطنية جديدة. وكان ابن نبي بنص التوراة والقرآن، ونبيا ورسولا وبارا بوالديه؛ ولذا قال الله - تعالى - في حقه:
واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (سورة مريم).
وكانت رسالته إلى جرهم، وهم العرب الذين صاهرهم وعاش بينهم طول حياته؛ فهو نبي محلي لا تعميم لرسالته، وقد بعث الله مثله هودا إلى عاد، وصالحا إلى ثمود، وعيسى إلى يهود فلسطين (إلى هؤلاء الخراف من بني إسرائيل) كنص العهد القديم.
وكل هذه الطوائف والقبائل كانت غارقة في أوحال الجهالة. ولا يعترض بضياع أخبارهم؛ فقد حفظوا أخبار عاد وثمود وصالح وهود، فلو نبغ منهم في القرون الأخيرة عالم أو أديب أو شاعر أو خطيب لما ضاع ذكره ضياعا تاما؛ فإن الأمثال وجوامع الكلم قد رويت بحذافيرها منسوبة إلى ذويها. ولو كان عند العرب أي علم أو فن أدبي أو غيره لنقله عنهم رواة اللغة الذين اختلطوا بهم وبغيرهم من القبائل، ولبثوا بين ظهرانيهم سنين، فهل كان هؤلاء الرواة يحرصون على الألفاظ والأساطير هذا الحرص كله ولا ينوهون بكلمة عن أدب العرب وعلومهم - وهم رواة الأدب العربي - فلم يجدوا غير ألفاظ اللغة فحفظوها عنهم ونقلوها إلينا، وقد شغلهم تطلب الأرباح والكدح للمعاش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الإغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة؟!
ليس المقصود من كل ما تقدم أن بعثة محمد كانت مقصورة على الأميين، وإن كانوا أول من تلقى الرسالة وعاندها وقاومها. فلو كانوا على علم وأدب وفن لعرفوا قدرها، وإن كانوا عجبوا منها وأعجبوا بأسلوب القرآن وإعجاز آياته لأنهم لم يكونوا كلهم خشبا مسندة ولم تقد قلوبهم جميعها من صخر بلا استثناء؛ فقد وجد الباحثون آثار مدرسة لتعليم الأطفال فيها حجارة عليها دروس للأطفال من حساب ولغة وخط. وكان بعض الصحابة وغيرهم ملمين بالكتابة؛ والدليل على ذلك كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمز والمد والقصر. وفي الأغاني أن حماد بن زيد جد عدي بن زيد الشاعر المشهور علمته أمه الكتابة في دار أبيه فخرج من أكتب الناس وصار كاتبا للنعمان الأكبر.
ولكن النبي هو الذي بدأ برفع وصمة الأمية عن الأمة العربية بعمل لم يسجل مثله لمصلح في الأرض؛ وذلك أنه جعل فداء الأسير الذي كان يعرف القراءة والكتابة في وقعة بدر - وهي أول الوقائع الإسلامية - أن يعلمهما نفرا من المسلمين، ففعلوا.
الرسالة المحمدية
لم يكن محمد مبعوثا للأميين خاصة من عرب الحجاز ولا لعرب اليمن، بل للعالمين، وكان خاتم النبيين؛ فهو رسول الله إلى الأبيض والأحمر والأسود والأصفر والجاهل والمتعلم والبادي والحاضر، ولكن رسالته كانت في مظهرها الأول للعرب وباللغة العربية.
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (سورة إبراهيم).
فهذه ضرورة محتمة ليكون العرب المصدر الأول. أما الدين نفسه فهو:
كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (سورة إبراهيم).
وإذن لا تكون عظمة الرسالة المحمدية في إخراج العرب الأميين الجاهلين وحدهم من الظلمات إلى النور، ولكن في إخراج الأمم كلها وفيهم الوثنيون والبوذيون واليهود والنصارى وأهل الكتب التي نسخها القرآن؛ فالظلمات ظلمات الشرك، والنور نور التوحيد، والناس كلهم من جاهل ومتعلم، ألا ترى أن ضلال العلم أخبث وأضر من ضلال الجهل؟!
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (سورة الجاثية).
ولذا ترى الرسالة المحمدية قد أخرجت العرب من ظلمات الشرك والجهل والفوضى، كما أخرجت الفرس والرومان والمصريين والهنود والصينيين وبعض اليابان وسواهم من الأمم المتحضرة. وهي مستعدة بطبيعتها إلى يوم القيامة أن تخرج كل أمة مهما بلغت من العلم والحضارة من الظلمات إلى النور. وقد يظن بعض الناس أن البدو أسرع قبولا للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق، ولكن العرب كانوا أهل مكر ونفاق ورياء وطغيان وجدل وخصام.
مكة والكعبة والإسلام بعد الجاهلية والوثنية
قيل في اسم مكة إن أصله «امتك» الفصيل ما في ضرع أمه إذا لم يبق فيها شيئا؛ فسميت القرية مكة لقلة مائها، كما سميت المعطشة، وسميت في القرآن بكة؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة، وهذا تعليل لغوي، وأطلق عليها القرية، البلد، أم القرى، كوثى، أم كوثى، فاران، المقدسة، قرية النمل، الحاطمة، الوادي، الحرم، العرش، معاد، طيبة، الباسة، الناشة.
1
وهذه أسماء ذكرها المجد الفيروزآبادي، وورد بعضها في مراجع دينية. وقال النووي: «لا يعرف في البلاد بلدة أكثر أسماء من مكة والمدينة.» ولا عجب؛ فإن الإسلام جعل لهما من الشهرة ما جعل المؤرخين يتبارون في التدليل عليهما بكثرة الأسماء، وفي مكة بيت الله المعظم الذي إذا قصده عباده حط عنهم أوزارهم، ورفع درجاتهم، وجعلها قبلة للمسلمين، وفرض الحج إليها، وهي مسقط رأس النبي ومحل إقامته ثلاثا وخمسين سنة، وموضع نزول نصف القرآن الكريم ومهبط الوحي ومظهر الإسلام الأسمى، ومنشأ الخلفاء الراشدين وأبطال الفتوح ومصدر العظمة المحمدية، وقد بلغ تكريم مكة من ذهن بعض العلماء أن يكره إقامة الناس بمكة خوفا من سقوط حرمة البيت الشريف بتعود المقام فيه، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يدور على الحاج بعد قضاء النسك بالدرة ويقول: «يا أهل اليمن يمنكم، ويا أهل الشام شامكم؛ فإنه أبقى لحرمة بيت ربكم في قلوبكم.» خوفا عليهم من الذنوب.
ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم .
ومحصل ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من كراهة المجاورة مبني على ضعف عن مراعاة حرمة الحرم الشريف والبعد عن السمر والتفكه باللغو، وذكر أحوال الدنيا والاغتياب والخوض فيما لا ينبغي لهم من اللهو والعبث، فمن أمكنه الاحتراز عن ذلك وبقيت حرمة البيت في عينه وقلبه فالإقامة هي أفضل، وحينئذ لا تكره، ونحن لا نحب أن نتعرض هنا إلى ما اشتهر عن الحياة الاجتماعية في بعض المدن المقدسة في الهند ومصر وبابل وآشور؛ فهناك أوصاف مسهبة وأدلة ماثلة تجدها في تواريخ هيردوت والأزرقي والنهروالي والفاكهي وفلندرزبتري. وفي مجموعة ويستفلد الألماني نص المنشور الذي بعث به الخليفة الهادي العباسي إلى أهل مكة وفيه الكفاية، ومن بركة العلم نسبته إلى قائله. ولكن ما كانت عليه مكة قبل مولد النبي
صلى الله عليه وسلم
ومبعثه لم يمنعها أن تكون مصدرا لهذا النور الإلهي الذي انبثق من أحد بيوتها، ومن أصعب الأمور أن يوفق الباحث الاجتماعي بين طبيعة الإنسان الغارقة في الأخطاء والأوزار وبين القداسة التي يريدها الله - سبحانه وتعالى - لبعض الأماكن؛ فمكة مشرفة في نظر العالم الإسلامي، وستبقى كذلك إلى الأبد بإذن الله.
وأقدم مؤرخي مكة من العرب أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي، ثم خلفه أبو عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي المكي، ثم تقي الدين الفاسي محمد بن فهد الشافعي، ثم النهروالي من علماء نهروالة صاحب الأقوال المأثورة والكتب المشهورة، وقد جاء وصف مكة على لسان هؤلاء الأعلام - غير ما ذكرناه - أنها مدينة كبيرة مستطيلة ذات شعاب واسعة، لها مبدأ ونهايتان، مبدؤها المعلاة - وهي المقبرة الشريفة - ومنتهاها من ناحية جدة «الشبيكة»، ومن ناحية اليمن «بازان»، وشكلها كالسلحفاة الرابضة، وبها جبلان اسمهما الأخشبان، وهما جبل أبي قبيس (وهو المشرف على الصفا)، والجبل الأحمر أو الأعرف (وهو المشرف على قعيقعان وعلى ديار عبد الله بن الزبير)، وقعيقعان جبل يعرف الآن باسم جزل.
والمسجد الحرام بوسط مكة بين هذين الجبلين، والكعبة بوسط المسجد الحرام، وإذا أشرف الناظر على مكة من أعلى جبل أبي قبيس لا يرى جميع مكة، بل يرى أكثرها.
روى النهروالي أنه كان يشاهد في سن الصبا خلو الحرم الشريف وخلو المطاف من الطائفين، حتى إنه أدرك الطواف وحده من غير أن يكون معه أحد مرات كثيرة؛ كان يترصده خليا لكثرة الثواب بأن يكون الشخص الواحد يقوم بتلك العبادة وحده في جميع الدنيا؛ لأنه لا توجد عبادة يمكن أن ينفرد بها رجل واحد في جميع الدنيا، ولا يشاركه غيره في تلك العبادة بعينها إلا الطواف؛ فإنه يمكن أن ينفرد به شخص واحد.
وروى له والده أن أحد الصالحين رصد الطواف الشريف أربعين عاما ليلا ونهارا ليفوز بالطواف وحده، ولم يذكر لنا إن كان فاز به أم لم يفز.
ويظهر أن مكة كانت في قديم الزمان مسورة وعليها أبواب، وقد أدرك بعض المؤرخين آثار جدران السور، وكان في أعلى مكة بئر تدعى «جبير»، وكان الناس لا يتجاوزونها في السكنى لأنها آخر أطراف العمار، وقد صلى النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - مرة بجوار هذه البئر، ومما يدل على أنها كانت أقصى بقعة في عمران مكة قول عمر بن أبي ربيعة الشاعر الغزلي الشهير:
2
نزلت بمكة من قبائل نوفل
ونزلت خلف البئر أبعد منزل
حذرا عليها من مقالة كاشح
ذرب اللسان يقول ما لم يفعل
يعني أن بئر جبير كانت من الأماكن الخالية التي يلجأ إليها العشاق خارج البلد - كغاب بولون في باريس - وابن أبي ربيعة خير من يعرف. والمكان الذي صلى به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صار مسجدا هو مسجد الراية الذي وضع النبي
صلى الله عليه وسلم
رايته فيه يوم فتح مكة، والبئر لا تزال موجودة إلى الآن خلف المسجد، وقد تجاوز العمران عن حد هذه البئر كثيرا إلى صوب المعلاة.
وقيل إن أول من بنى بيتا بمكة سعد بن عمرو السهمي، وكان فيها نظام يحد حقوق الملك كالنظم الحديثة التي تفرضها الحكومات أو المجالس البلدية في بعض الخطط والناحيات من المدن، وهي قيود وضعت للمصلحة العامة. ومن تلك القيود في مكة أنه لا ينبغي لمن يبني بمكة بيتا أن يرفع بناءه على بناء الكعبة، وهذا القيد ديني لأنه لا يجوز أن يرتفع بناء على بيت الله. وكانت هذه القاعدة متبعة في زمن الصحابة؛ فإن بعضهم كان يأمر بهدم البيت الذي يعلوها. وقال الأزرقي: «سميت الكعبة كعبة لأنه لا يبتنى بمكة بناء مرتفع عليها.» وهذا تعليل خاطئ؛ لأن الكعبة بنيت قبل عمران القرية، ولكن مؤرخي العرب لا يحققون!
أما الصحابي الذي كان يهدم البيوت العالية فهو شيبة بن عثمان، كان يشرف فلا يرى بيتا مشرفا على الكعبة إلا أمر بهدمه. وقد سميت الكعبة لأن شكلها مكعب، ولسبب شعري، وهو دق إسماعيل بكعبه عند زمزم.
كان أهل مكة قبل الإسلام يعيشون على المبادئ التي عاش عليها آباؤهم من قبل، وكانت الكعبة مركز دائرة هذه البلدة، وقد التف حولها بنو كنانة وجعلوا فصيلهم أقرب الناس إلى ذلك المعبد الذي يقدسه لفيف من القبائل المتحالفة عرفوا باسم «الأحابش»، وهم أصل سكان هذا المكان وذووه، بل هم العنصر الأهلي أو الوطني الذي يطلق عليه وصف
native
أو
Indigêne
في العصر الحديث. فهؤلاء الأحابش هم أصحاب الأرض، وبنو كنانة هم النزلاء الذين أسسوا جالية حول الحرم، وكان موسم الحج الذي يحتفل به في شهر ذي الحجة من كل عام في مكة وعرفة وقزح؛ مصدر خير عميم لجميع القبائل التي تقيم في مكة أو على مقربة منها، فلم يكن عيدا دينيا فقط، بل كان موسما تصحبه حركة تجارية تدر أرباحا عظيمة على أهل مكة؛ لأنهم كانوا يبيعون بضائعهم التي جلبوها من الشام لقبائل البدو، ويشترون منهم منتجات الأنعام والنخيل.
وقد عرفت قريش بمكة لأن تلك القبيلة هي التي احتلت نواحيها وعمرتها؛ ففي كتاب المنتقى في أخبار أم القرى للفاكهي أن قريشا ثلاثة أصناف: (1) قريش الأباطح أو قريش البطاح. و(2) قريش الظواهر. و(3) آخرون ليسوا من هؤلاء ولا أولئك.
أما قريش الأباطح فبنو عبد مناف وأسد بن عبد العزى بن قصي وزهرة وتيم وبنو مخزوم. وقريش الظواهر بنو الأدرم بن غالب، وبنو محارب، وبنو فهر، وبنو معيص. وأهل الصنف الثالث منهم من خرجوا من مكة وتنحوا عن البلاد، منهم أسامة بن لؤي بعمان، وجشم باليمامة؛ أي إنهم هاجروا ونزحوا. ولا شك في أن قصيا هو الذي وضع هذا النظام القبلي؛ لأنه أدخل الأباطح معه في بطن مكة وأسكن الآخرين بالظواهر، أما طبقاتهم فكانت ست طبقات: (1)
شعب: خزيمة؛ أو يقال شعب خزيمة، وهي الأعم. (2)
قبائل: كنانة؛ فإذا ذكرت كنانة عرف أنها قبيلة. (3)
عمارة: قريش؛ فقريش إذن ليست قبيلة بل عمارة. (4)
بطون: قصي؛ والعمارة تنشق أو تنقسم بطونا. (5)
أفخاذ: هاشم؛ وأصغر من البطون الأفخاذ. (6)
فصائل: العباس؛ والفصيلة هي الوحدة أو الخلية الأولى.
3
قال شاعرهم وقد جمع هذا التقسيم السداسي:
قبيلة قبلها شعب وبعدهما
عمارة ثم بطن تلوه فخذ
وليس يئوي الفتى إلا فصيلته
ولا سداد لهم ماله قذذ
ويفهم تسلسل السلطة على مكة للقبائل من كلمة منسوبة إلى عمر بن الخطاب بسند حسن، أنه قال لقريش في بعض خطبه: إنه كان ولاة هذا البيت قبلكم طسم، فاستخفوا بحقه، واستحلوا حرمته، فأهلكهم الله، فلا تهاونوا به وعظموا حرمته.
ولكن لا يفهم من كلمة الولاة التي ذكرها سيدنا عمر - رضي الله عنه - أنه كان هناك نظام وقضاء وعدل ودولة؛ فإن تاريخ تلك القبائل كان غارقا في الغموض، وحياتهم الخاصة والعامة نهبا بين الخرافات والأساطير، وحاجتهم إلى الكهانة والسحر ملحة حتى فيما له علاقة بالمواريث. ومن ذلك ما يروى أنه لما حضرت نزار بن معد بن عدنان الوفاة آثر إيادا بولاية الكعبة وقال لأولاده: «إن أشكل عليكم كيف تقتسمون التركة، فأتوا الأفعى الجرهمي ومنزله بنجران.» ثم مات فتشاجروا في ميراثه فتوجهوا إلى الأفعى في نجران، وهو كاهن كسطيح، ولكن ظهر للأفعى من ذكاء أولاد نزار وفطنتهم ما أدهشه؛ فقد كشفوا له عن أمور لها علاقة بنسبه وأصله ولون طعامه! ولا يهمنا في هذه الأسطورة إلا شيئان؛ أولهما: التجاء المتنازعين إلى الكاهن ليفصل لهم في المواريث كأنه محكمة ترضى حكومته ولا يطعن في الرأي الذي يراه، والثاني: سيادة نظام الأمومة بدليل أن إيادا - أحد أولاد نزار - قال لإخوته: «لم أر كاليوم رجلا أسرى لولا أنه ليس لأبيه الذي يدعى إليه!» فسمعهم الأفعى فذهب لأمه وقال لها: اصدقيني من أبي؟
فقالت إنها كانت لملك كثير المال لا يولد له ولد فخافت أن يموت ولا يولد له، فمر بها رجل وكان نازلا عليه (أي ضيف الملك) فطلبت إليه أن يقع عليها (علاقة جنسية غير مشروعة) فولدت منه الأفعى.
عهد العماليق ونزوح القبائل إلى مكة
كانت العماليق ولاة الحكم بمكة فضيعوا حرمة البيت، واستحلوا فيه أمورا عظاما، ونالوا ما لم يكونوا ينالون، فقام أحدهم - وهو عموق - فيهم خطيبا فقال: يا قوم، أبقوا على أنفسكم؛ فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر الأمم قبلكم - قوم هود وصالح وشعيب - فلا تغفلوا، وتواصلوا فلا تستخفوا بحرم الله وموضع بيته، وإياكم والظلم والإلحاد؛ فإنه ما سكنه أحد فظلم فيه وألحد إلا قطع الله دابرهم واستأصل شأفتهم!
وإنك لترى ألوانا من هذه الخطب للدلالة على النصح.
1
فلم يقبلوا منه هذه النصيحة وتمادوا في هلكة أنفسهم حتى سلبهم الله النعم بحبس المطر عنهم، وتسليط الجدب عليهم، فكانوا يكرون الظل بمكة ويبيعون الماء، فأخرجهم الله من مكة، ثم ساقهم الله بالجدب حتى ألحقهم بمساقط رءوس آبائهم - وكانوا من حمير - فلما دخلوا بلاد اليمن تفرقوا وهلكوا، ومن مثل هذه حذر سيدنا عمر قومه.
فهذه إذن قصة قبيلة هاجرت من الجنوب إلى الشمال فلم تستقم أمورها فعادت إلى مواطنها وتبددت بأسباب اقتصادية، ولكن المهم أنها لم تكن صالحة لاستعمار الحجاز. ثم إن جرهما وقطورا خرجوا سيارة من اليمن وأجدبت بلادهم عليهم فساروا بذراريهم ونعمهم وأموالهم وقالوا: «نطلب مكانا فيه مرعى تسمن فيه ماشيتنا وإن أعجبنا أقمنا فيه؛ فإن كل بلاد ينزلها أحد ومعه ذريته وماله فهي وطنه، وإلا رجعنا إلى بلدنا.» فلما قدموا مكة وجدوا فيها ماء طيبا، وعضاها ملتفة من سلم وسمر، ونباتا يسمن ماشيتهم، وسعة من البلاد، ودفئا من البرد في الشتاء. يعني أن كل مكان ينبت العز طيب وإن لم يكن وطنا.
فقالوا: «إن هذا الموضع يجمع لنا ما نريد.» فأقاموا مع العماليق، وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم، وكان ذلك سنة فيهم ولو كانوا نفرا يسيرا. فكان مضاض بن عمرو ملك جرهم والمطاع فيهم، وكان السميدع ملك قطورا. والمقصود بالملك في لغتهم زعيم القبيلة ورئيسها.
فنزل مضاض بن عمرو أعلى مكة، وكان يعشر من دخلها من أعلاها، وكان حوزهم وجه الكعبة والركن الأسود والمقام وموضع زمزم وقعيقعان.
2
ونزل السميدع أسفل مكة وأجيادين والتثنية إلى الرمضة، فبنيا البيوت واتسعا في المنازل وكثروا على العماليق، فنازلتهم العماليق فمنعتهم جرهم وأخرجوهم من الحرم كله؛ فكانوا في أطرافه لا يدخلونه فقال لهم صاحبهم عموق: «ألم أقل لكم لا تستخفوا حرمة الحرم فغلبتموني؟!»
فجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما، وكثروا وربلوا وأعجبتهم البلاد، وكانوا قوما عربا وكان اللسان عربيا، فكان إبراهيم يزور إسماعيل فلما سمع لسانهم أمر إسماعيل أن ينكح فيهم، فخطب إلى مضاض بن عمرو ابنته رعلة، فولدت له عشرة ذكور وهي أم البيت، وهي التي أحسنت لقاء إبراهيم.
وتوفي إسماعيل فقام مضاض بأمر ولد إسماعيل وكفلهم لأنهم بنو ابنته، ولم يزل أمر جرهم يعظم بمكة ويستفحل حتى ولوا البيت كله فكانوا ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة، فجاء سيل فدخل البيت فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم.
وكان مهندسهم في بناء البيت أبو الجدرة فسمي عمر الجادر.
ثم إن جرهما استخفوا بأمر البيت والحرم وارتكبوا أمورا عظاما وأحدثوا فيه أحداثا لم تكن؛ فقام مضاض بن عمرو بن الحارث فيهم خطيبا وخطب خطبة عموق، وضرب لهم مثلا بالعماليق، فاعترض عليه قائل منهم اسمه مجدع وقال: «من ذا الذي يخرجنا منه؟! ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالا وسلاحا ؟!»
فقال مضاض بن عمرو: «إذا جاء الأمر بطل ما تقولون.» فلم يمتنعوا عن شيء مما كانوا يصنعون، وتواعد خمسة نفر من جرهم أن يسرقوا ما في كنز الكعبة، وهو الحلي والمتاع الذي كان يهدى إلى بيت الله؛ فحرسه الله بمعجزة ذكروها.
ولما طغت جرهم في الحرم دخل رجل منهم وامرأة - يقال لهما إساف ونائلة - البيت ففجرا فيه فمسخهما الله حجرين
3
فأخرجا من الكعبة فنصبا على الصفا والمروة ليعتبر بهما من رآهما، وليزدجر الناس عن مثل ما ارتكبا، فلم يزل أمرهما يدرس ويتقادم حتى صارا صنمين يعبدان بأمر عمرو بن لحي!
ثم حولهما قصي بن كلاب بعد ذلك فوضعهما يذبح عندهما وجاه الكعبة عند موضع زمزم. ولم يزالا يعبدان حتى كان يوم الفتح فكسرا فيما كسر من الأصنام، ولا يزال بعضهما عتبات المساجد.
أما سبب زوال جرهم فهو أنهم استحلوا من الحرام أمورا عظاما ونالوا ما لم يكونوا ينالون، واستخفوا بحرمة الحرم وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها سرا وعلانية، وكلما عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم من يمنعه ويدفع عنه، وظلموا من دخلها من غير أهلها. ولما رأى مضاض بن عمرو ما تعمل جرهم في الحرم وما تسرق من مال الكعبة سرا وعلانية عمد إلى غزالين من ذهب كانا في الكعبة وأسياف قلعية فدفنها في موضع بئر زمزم وكان
4
ماؤها قد نضب وذهب؛ وذلك خوفا على الغزالين والأسياف من السرقة.
وفكر مضاض بن الحارث في حماية التجارة والدفاع عن الأجانب جلبا للغرباء والتجار، فقال في إحدى تلك الخطب:
وقروا حرم الله، ولا تظلموا من دخله وجاء معظما لحرماته، وآخر جاء بائعا لسلعته أو مرتغبا في جواركم.
وكان أساس الحياة في ذلك الوادي قبول الهجرة من القبائل القادمة من الجنوب، وتنبأت طريفة كاهنة اليمن لعمرو بن حارثة بخراب سد مأرب، فباع عمرو بن عامر أموالهم وسار هو وقومه من بلد إلى بلد يغلبون البلاد ويقهرونها إلى أن بلغوا مكة وأصحابها جرهم، وقد قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل وقد حدث قبل القهر والاحتلال نوع من المفاوضة السياسية بين القبيلتين؛ فقد أرسل ثعلبة بن عمرو بن عامر إلى جرهم يقول (وكان أبوه قد مات أثناء الرحلة فحل محله في قيادة الهجرة): «يا قوم، إنا قد خرجنا من بلادنا فلم ننزل بلدا إلا فسح أهلها لنا وتزحزحوا عنا فنقيم معهم حتى نرسل روادنا فيرتادون لنا بلدا يحملنا، فأفسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قدر ما نستريح ونرسل روادنا إلى الشام وإلى الشرق فحينما، بلغنا أنه أمثل لحقنا به، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرا!»
فأبت جرهم ذلك إباء شديدا وقالوا: «لا والله ما نحب أن تنزلوا معنا فتضيقون علينا مراتعنا ومواردنا؛ فارحلوا؛ فلا حاجة بنا إلى جواركم.»
فقال لهم ثعلبة: «لا بد لي من المقام بهذا البلد حولا حتى يرجع إلي رسلي التي أرسلت، فإن تركتموني طوعا نزلت وحمدتكم وواسيتكم، وإن أبيتم أقمت على كرهكم ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا ولن تشربوا إلا رنقا (وهو الكدر من الماء)، وإن قاتلتموني قاتلتكم، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء وقتلت الرجال ولم أترك أحدا منكم ينزل الحرم أبدا!»
فأبت جرهم إلا القتال فاقتتلوا ثلاثة أيام وانهزمت جرهم المتحضرة في مكة أمام القبائل المقبلة من الجنوب بحالة البداوة والتقشف في حاجة إلى القوت والمأوى، ولم يفلت من جرهم إلا الشريد. وقد أفناهم السيف وصح تنبؤ مضاض بن الحارث الذي اعتزل جرهما ونزل هو وولده قنونا وحلي
5
واستتب الأمر لثعلبة بن عامر فأقاموا بمكة وما حولها هو وقومه، وعسكر حولا فانتشرت بينهم الحمى فاستوحوا كاهنتهم،
6
وفي الحق أنهم انقسموا على عادة البدو في الصحراء كما حصل لقبائل إبراهيم؛ فكل جماعة أصلية تهاجر جملة ثم تعود فتنشق فصائل، وتتخذ كل فصيلة منهم خطة غير خطة الأخرى.
فانشق عرب الجنوب فسارت منهم جماعة إلى عمان، وهم أزد عمان.
وسارت جماعة إلى وادي الأراك من بطن مر - وهي خزاعة - فالفرع الأول قصد الساحل الشرقي من جزيرة العرب والفرع الثاني أقام في الجنوب من الرصيفة، خلف جبال بحرة.
وخرج الفرع الثالث إلى يثرب - وهم الأوس والخزرج - وخرج الفرع الرابع إلى بصرى وعوير، وبصرى من أعمال جبال حوران بالشام، وعوير هي اليوم بادية الشام، والذين سكنوها هم آل جفنة من غسان، وسكن بلاد العراق آل جذيمة الأبرش وآل محرق.
وانخزعت خزاعة بمكة فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحي، فولي أمر مكة وحجابة الكعبة.
ولهذه الهجرة وما جرى فيها من اشتقاق القبائل دليل تاريخي، وهو شعر حسان بن ثابت يذكر خزاعة والخزرج وغسان وأماكن رحلتها واستقرارها؛ حيث يقول:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت
خزاعة منا في حلول كراكر
بنو الخزرج الأخيار والأوس إنهم
حموها بفتيان الصباح البواكر
وسارت لنا سيارة ذات قوة
بكوم الحطايا والخيول الجماهر
يؤمون نحو الشام حتى تمكنوا
ملوكا بأرض الشام فوق المنابر
أولاك بنو ماء السماء توارثوا
دمشقا بملك كابرا بعد كابر
وماء السماء هو جد عمرو بن عامر رئيس هذه الهجرة وشيخها، فهو عمرو بن عامر، ويقال له مزيقياء بن ماء السماء.
وهذه المقطوعة الشعرية تحمل الدليل التاريخي على أصل هذه القبائل، واتجاه هجرتها، والأماكن التي استقرت بها. وحسان بن ثابت شاعر مخضرم لا شك فيه.
عهد خزاعة وظهور عمرو بن لحي
ولما تولت خزاعة أمر مكة وصاروا أهلها، ظهر بنو إسماعيل وكانوا قلة، وكانوا على الحياد أثناء الحرب التي وقعت بين جرهم وخزاعة فلم يدخلوا في ذلك، فسألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم.
وأذنت خزاعة لبني إسماعيل لأنهم كانوا مستضعفين، ولأن بينهم وبين جرهم عداوة قديمة، وهي التي أخرجتهم من الحرم؛ فهي حليفتهم الطبيعية ضد جرهم. وهذا الحادث يدل على أن علاقات القبائل انطوت على نوع فطري من الدبلوماسية.
ويظهر أن مضاض بن عمرو بن الحارث الذي كان لجأ هو وأولاده إلى قنونا وحلي لما رأى عودة بني إسماعيل إلى الحرم؛ طمع هو أيضا في الرجوع إليه، ولعله حن إلى الوطن فأرسل إلى خزاعة يستأذنها في الدخول إلى مكة والإقامة بجوارهم، وذكر لهم أنه ورع قومه عن القتال ونهاهم عن سوء السيرة في الحرم واعتزل الحرب (أي إنه اختار الحياد في الاصطلاح الحديث).
ولكن خزاعة كانت أحزم من أن تنخدع لمضاض؛ لأن الفاتح لا يأمن لمن كان ينصح لقومه المغلوبين بالاستقامة ومكارم الأخلاق ليستتب ملكهم وتثبت أقدامهم؛ فهو أشد عداوة للفاتح لأنه أبعد نظرا وأشد حبا لوطنه، ولم تكن حال مضاض لتخفى على خزاعة وقد كان زعيم جرهم وخطيبهم، وهو الذي نصحهم عندما رأى سوء حالهم ولم يعتزلهم إلا حنقا على مسلكهم الذي أنذرهم بسوء عاقبته، ولم يعتزلهم بغضا فيهم؛ فهذا زعيم يتقى شره ويخشى خطره، وإن كان تقدم إلى خزاعة في لين جانب ورقة حاشية واعتذر إليهم بأنه لم يدخل الحرب ولم يعاد خزاعة، ولكن خزاعة وضعت قاعدة استعمارية؛ وهي تحريم الحرم ومكة؛ بطحاءها وظواهرها، على كل جرهمي. وقال زعيمهم عمرو بن لحي، وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وحارثة هذا هو أخ لثعلبة الذي افتتح مكة وغلب جرهم على أمرها بعد مفاوضته. قال عمرو بن لحي المذكور لقومه: «من وجد منكم جرهميا قد قارب الحرم فدمه هدر!»
ويظهر أن خزاعة لم تكتف بهدر دماء كل جرهمي، بل أباحت أموالهم أيضا؛ فقد نزعت إبل لمضاض من مراتعها في قنونا تريد مكة فخرج في طلبها حتى وجد أثرها قد دخلت مكة فمضى على الجبال من نحو أجياد
1
حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن وادي مكة، فأبصرها تنحر وتؤكل ولا سبيل إليها، فخاف إن هبط الوادي أن يقتل، فعاد أدراجه آسفا، وقال قصيدة مشهورة، منها:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى! نحن كنا أهلها فأزالنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وبدلنا ربي بها دار غربة
بها الذيب يعوي والعدو المحاصر
فكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بهذا البيت والخير ظاهر
وهذه القصيدة تحوي أسماء الأماكن الشهيرة بمكة مثل واسط والمنحنى وذي الأراكة والحجون والصفا. وترديدها على لسان الزعيم المنفي يشعر بصدق حسرته على وطنه، كما يذكر في معناه شاعر مصري في وقتنا هذا ضفاف النيل والجزيرة وعين شمس ومنيل الروضة وقصور الزمالك، أو كما يذكر البغدادي الرصافة والجسر وضفاف دجلة والكرخ، وكما يذكر شاعر باريس المحروم من الدخول فيها غاب بولون وفرساي وسان كلو وبولفار سان ميشل وشانزليزيه.
فالإنسان لا يتغير، والأدب والتاريخ على فطرته وصبغته في كل زمان ومكان (راجع سيرة آخر بني سراج الأمير الأندلسي، لشاتوبريان).
ويظهر أن مضاض بن عمرو خرج إلى اليمن بعد أن يئس من دخول مكة وتأكد من زوال ملكهم. وقد عللت هجرته بضياع الإبل.
ولما استتب الأمر لخزاعة وصاروا حجاب الكعبة وولاة مكة تزوج لحي - وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو - من فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم، فولدت له عمرو بن لحي الذي صار له أكبر شأن في الوثنية الجاهلية.
ويظهر من هذا النص أن بعض الأميرات من نسل مضاض الجرهمي - وهو الملك المنفي الذي هاجر إلى اليمن بعد فقد ملكه في مكة - بقين بها وتمت مصاهرة بين الفاتح والمغلوب فتزوج أمير من خزاعة بأميرة من جرهم، فولد لهما عمرو بن لحي الذي صار ملك مكة وبلغ بها من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية غير قصي أحد أجداد النبي - عليه الصلاة والسلام - ومؤسس مكة وبانيها ومشترعها.
إن ما ورد من الأخبار عن عمرو بن لحي في كتب التاريخ العربية قريب من الصدق؛ فهو ثمرة لزواج بيتين من بيوت الملك في مكة؛ فأمه حفيدة مضاض، وأبوه حفيد ماء السماء؛ فلا عجب أن جاء جامعا لصفات العقل والحكمة وحسن السياسة، وقد ذهب شرفه في العرب كل مذهب - على حسب معقولية الجاهلية المنحطة.
وهو الذي سن سنة إطعام الحاج بمكة، وعم جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من برود اليمن؛ فهو أول من أطعمهم وكساهم؛ أي قام لهم بواجب الضيافة والرفادة، وقد قسم بين العرب في حطمة حطموها عشرة آلاف ناقة. وقالوا في وصفه غير ما تقدم: إنه «بحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحام وسيب السائبة.»
وكان أمره بمكة مطاعا لا يعصى في العرب، ولما استفحل أمر عمرو بن لحي - وكانت العرب بمكة ومن حولها قد تهاونوا في دينهم؛ وهو دين إبراهيم وإسماعيل وتساهلوا فيه - رأى عمرو بن لحي أن يتم سلطته عليهم بأن يشترع لهم شريعة ويبتدع لهم دينا، ولعله رأى أن الدين القديم قد خلق، وتباعدت المسافة بين مصدره الأول وبين حالة أهل مكة وما حواليها! وكان عمرو بن لحي صاحب أسفار وجواب آفاق، مطلعا على أحوال الأمم المجاورة كالشام ومصر والعراق. ورأى أن الذي يجذب العرب الأقدمين إلى مكة حرمة البيت، ودين إبراهيم لم يبق منه إلا القليل وعدد من الحنفاء، وأن العرب إذا لم يروا شيئا ماديا غير الكعبة فلن يعيروها من الاحترام والاكتراث ما كانوا يعيرونها من قبل.
كيف فكر عمرو بن لحي في عبادة الأوثان للتجارة
كان عمرو بن لحي - وهو ربيعة بن حارثة كما قدمنا - شريفا سيدا مطاعا، بل كان ملك مكة؛ لأنه كان يطعم الطعام ويحمل المغرم، وما يقوله لأهل بلده هو الدين المتبع الذي لا يعصى، وكان ما يستحسنه ويعمل به يعمله أهل الجاهلية، وهو الذي غض عن دين الحنيفية دين إبراهيم وجاء بهبل من أرض الجزيرة فجعله في الكعبة وجعل عنده سبعة قداح، في كل قدح منها كتاب يعملون بما يخرج فيه! ومنها ما فيه: «أمرني ربي، أو نهاني.» لنية السفر، أو الرغبة في أمر، فإذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا أيما أو يدفنوا ميتا ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور، ثم قالوا لغاضرة بن حبشية بن سلول بن كعب - وهو صاحب القداح: هذه مائة درهم والجزور، فاضرب لنا على فلان وقد أردنا كذا وكذا! فيفعل ما كان يفعله الكهنة في طيبة بمصر ودلف باليونان بعد أن يقبض ضريبة الإنباء بالغيب . ومما فعله عمرو بن لحي أنه غير التلبية التي أوحي بها إلى إبراهيم وصرفها فجعلها:
لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك!
إلى أن جاء الإسلام فردها إلى أصلها، وهي تلبية سيدنا إبراهيم الخليل - عليه السلام - المتواترة من عهده:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
هكذا تخيل عمرو بن لحي أو اعتقد عن حسن نية لجهله وانحطاط عقله، وكان قول عمرو في قومه «دينا مطاعا لا يخالف»، فغض عن الحنيفية دين إبراهيم ونصب الأصنام حول الكعبة وجاء بهبل من هيت من أرض الجزيرة فنصبه في بطن الكعبة، فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام،
1
ولم يحتج على هذا التغيير الغريب سوى رجل واحد من جرهم قيل إنه كان باقيا على دين الخليل، فقال مقطوعة من الشعر السقيم مطلعها:
يا عمرو لا تظلم بمك
ة إنها بلد حرام
فنفاه عمرو من مكة إلى ضواحي يثرب، فاكتفى بشعر جديد يندب فيه وطنه ودينه، ولم يذكر التاريخ اسم هذا الشاعر الوفي.
ولكن هذا التغيير الديني الذي اعتبره عمرو بن لحي إصلاحا لم يسخط أحدا عليه؛ مما دلنا على أن العاطفة الدينية كانت في مكة ضعيفة ضعف النعرة الوطنية؛ فلم يغضب أحد للحنيفية! وقد نجحت حكومة عمرو نجاحا مدهشا؛ فولي البيت هو وأسرته وولده من بعده خمسة قرون حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب، وقد تزوجت حبى بنت حليل المذكور من قصي الجد الأعلى لمحمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم .
وإذن كانت أسرة عمرو بن لحي في نظر مؤرخي العرب من أقوى الأسر المالكة وأطولها عهدا وأقدرها على الحكم وسياسة الملك «وقد قضوا خمسمائة سنة وهم حجاب البيت العتيق والقوام به وولاة الحكم بمكة، وحافظوا عليه فبقي عامرا لم يخرب فيه خراب ولم يبن فيه بناء ولم تسرق منه خشبة، بل ترافدوا على تعظيمه والذب عنه.»
وفي نظرنا أن كل هذا يشير إلى أن القرية المكية انتظمت من عهد عمرو بن لحي، وقد دخلت في طور النظام الاجتماعي، وأن ما قبل ذلك كان طور مخاض واستعداد لميلاد البلدة الجديدة ؛ فكانت حروب ورحلات وغزوات وتناحر على الماء والمرعى وقتال على السيادة. وقد استمر النظام الحكومي خمسة قرون قبل قصي، ولكن الوظائف الاجتماعية كانت لا تزال في حالة أولية، وبقي على قصي أن يكمل التشريع الذي بدأه عمرو وولده، ويخلق الوظائف الحكومية ويشيد دار الندوة ويميز بين الحمس والدخيل والضيف واللاجئ. ومنذ كانت خزاعة حاكمة على مكة كانت قريش في بني كنانة متفرقة، وقد قدم على مكة حاج قضاعة في أواخر عهد خزاعة فكان فيهم ربيعة بن حرام، وكان زوجا لفاطمة بنت عمرو بن سعد بعد أن ترملت لموت زوجها الأول كلاب، وقد رزقت منه زهرة وقصيا، فعاشا مع أمهما على مبدأ الكفالة وسيادة الأم الذي كان شائعا في تلك الفترة.
وكانت السيدة فاطمة المذكورة تكفل الولدين، وأحدهما زهرة بالغا وثانيهما قصي وهو فطيم، فلما تزوجت من ربيعة بن حرام تركت زهرة في قومه واحتضنت قصيا، وعاشرت ربيعة فولدت له زراح بن ربيعة أخا قصي لأمه.
ظهور قصي وأعماله وتبدد ظلمات التاريخ الجاهلي
وإذن شب قصي في أرض قضاعة في حضانة أمه لا ينتمي إلى أبيه كلاب، ولكن ينتمي إلى ربيعة زوج أمه، فعيره قضاعي بغموض نسبه فسأل أمه (وهذه حادثة تؤيد سيادة نظام الكفالة والأمومة) فقالت له: أنت ابن كلاب بن مرة ... بن كنانة، وقومك عند البيت الحرام وما حوله،
1
فكره قصي أن يقيم في قضاعة، وخرج إلى وطنه ووطن آبائه ليقيم به. ومعنى هذا أن قصيا عاد إلى قبيلة أبيه وترك الحرية لأمه كما فعل عبد المطلب بعد ذلك بأجيال، فترك يثرب وعاد إلى مكة وطن أبيه.
إذن كان قصي بن كلاب من كنانة، وأمه سليلة سعد بن سيل الذي كان أشجع أهل زمانه، ونشأ في قضاعة في بيت زوج أمه، وخرج إلى وطنه عائدا ككل ولد يبلغ أشده ورشده بعد أن يتم عهد الحضانة في كنف أمه؛ سواء أكانت متزوجة أو مترملة، وهي على كل حال السيدة الآمرة الناهية تكفل ابنها وتبقيه في بيتها أو ترسله، والولد لا يعرف الغيرة على أمه إذا رآها تتزوج من غير أبيه، بل يرى إخوته من أمه أقرب إليه من إخوته لأبيه؛ لأن الوالد أو الزوج عرض زائل، أما الأم فهي العنصر الباقي الذي يلم شمل الأولاد من كل الأزواج. وقد تجلت هذه الظاهرة الاجتماعية في تراجم الكثيرين من رجال العرب الذين ورد ذكرهم في العصر الجاهلي (عمرو بن العاص).
إذن خرج قصي أو عاد قصي من قضاعة وهي بلاد قصية بالنسبة إلى مكة؛ لأن أمه فاطمة اختارت أن تعيش مع زوجها في أرض عذرة من أشراف الشام.
وكان قصي جليدا حازما بارعا واسع الحيلة قوي الإرادة أشبه الرجال بالأبطال الذين أسسوا المدن العظمى في التاريخ كأثينا ورومة ومنفيس وطيبة؛ وهي المدن التي صدرت عنها الحضارات القديمة، ولم تكن مكة بأقل شأنا من هذه العواصم بالنسبة لعرب الجاهلية.
ولا بد أن كانت لقصي كرامة ومكانة بلغهما بمواهبه وأخلاقه، وكانت نفسه ترمي إلى المجد والتسامي والصعود بهمته القعساء إلى ذروة العظمة المدنية. وما زال يدأب حتى تقرب من بيت الملك وتقدم إلى حليل، آخر ملوك خزاعة وسليل بيت عمرو بن لحي، فخطب إليه ابنته حبى. وقد رزقت حبى بنت حليل من قصي عددا من الأولاد، هم: عبد الدار، عبد مناف، عبد العزى، عبد بن قصي.
ولما مات حليل تركت حجابة الكعبة لقصي زوج ابنته، وكان قصي في آخر عمر حليل يعمل على حيازة البيت ووضع يده على مفتاحه؛ وهو الرمز المادي للسيادة والسدانة، ويعمل على قطع ذكر خزاعة عنه، فلما مات حليل نازعت خزاعة قصيا وأخذوا المفتاح من حبى بنت حليل، وشعر قصي بأن النزاع قد يؤدي إلى الحرب فاستغاث أهل أبيه من قريش وكنانة واستنجد رزاح بين ربيعة أخاه لأمه فأنجده ومعه إخوته من أبيه (ربيعة)؛ وهم: حسن، ومحمود، وجلهمة.
وكان فريق قصي مكونا من رجال من قريش وبني كنانة وأنصار من قضاعة، وكانوا في مجموعهم أقوى من خزاعة، وانتهى أمرهم بتحكيم يعمر بن عوف الكناني، فعقدت جلسة في فناء الكعبة غداة التحكيم فوقف الحكم يعمر بن عوف وقال: «ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين، فلا تباعة لأحد على أحد في دم، وإني قد حكمت لقصي بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة دون خزاعة لما جعل له حليل، وأن يخلى بينه وبين ذلك، وأن لا تخرج خزاعة عن مساكنها من مكة.»
وقد نفذ الفريقان هذا الحكم لاحترامهم رأي قاضيهم.
ويندر وجود وثيقة بليغة كهذه تفصل في جميع نقاط النزاع بحكم مستعجل؛ فإنه حكم بالمقاصة في الدماء، فليس لفريق عند فريق دية ولا غرامة، وحكم لقصي بالحجابة والولاية؛ لأن حليلا كان أوصى بهما وأظهر رغبته قبل موته في ذلك فائتمنه وابنته حبى على مفتاح الكعبة، ولو أراد أن يجعل عليها رجلا من خزاعة لفعل، ثم أقر خزاعة في بيوتها، فإن نزع السلطة من أيديهم لا يستلزم أن يخرجوا من ديارهم!
فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا وأطاع له به قومه؛ فكانت إليه السيادة وسمي مجمعا؛ لأنه جمع شمل قبيلة قريش وظهر فيهم وأظهرهم.
وقالوا إن التقرش معناه الاجتماع، وإن هذا الاسم لم يطلق على القبيلة قبل ظهور قصي.
وقيل إن قريشا سميت قريشا لأنها كانت تجارا تكتسب وتتجر وتحترش، فشبهت بحوت البحر الذي يأكل كل شيء في قول الشاعر:
وقريش هي التي تسكن البح
ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تت
رك فيه لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حتى قريش
يأكلون البلاد أكلا كشيشا
أنشأ قصي دار الندوة
2
لتقضي فيها قريش أمورها؛ أي إنه أوجد مقرا للحياة العامة، ولكنه جعل لأهله امتيازا يجعلهم فوق غيرهم من الجماعات التي تقطن الحرم وما حوله، فلم يكن يدخل دار الندوة من غير ولد قصي إلا من بلغ أربعين سنة للمشورة، وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون بغير شرط. وظاهر من ذلك أن قصيا كان يضمن لنفسه ولحزبه بذلك الامتياز أغلبية أو كثرة نيابية، وكان لقصي حلفاء ينضمون إليه عند طرح الآراء على بساط المناقشة . ونبغ من أولاد قصي عبد مناف فشرف في زمان أبيه وذهب صيته كل مذهب، ولم يبلغ أحد من إخوته ما بلغه عبد مناف مع أنه من أصغرهم سنا، وكان عبد الدار محبوبا عند والديه لأنه بكرهم، فأشارت حبى على زوجها أن يختصه بأمور تدنيه من شرف أخيه عبد مناف وتقربه من صيته وشهرته.
تقسيم الوظائف الرئيسية في مكة
فأعطى عبد الدار ثلاثة من المناصب الستة، وهي: السدانة (الحجابة)، ودار الندوة، واللواء.
وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة، وهي بقية الأمور الستة التي كانت تميز بيت قصي، وقد نظمها قصي تنظيما حسنا، وقد اشتركت معه حبى في توزيع هذه السلطات بحكم مبدأ الكفالة وسلطة الأم، وقد أعطت أضعف الأولاد أعظم الوظائف، وتركت لعبد مناف - وهو الولد النابغ - الوظائف الثانوية؛ لأنها تريد أن تسوي الولدين.
وما زال هذا التقسيم محترما إلى آخر أيام قريش، وكان سادن الكعبة عند الفتح المحمدي في العام الثامن الهجري عثمان بن طلحة، وسادنها الآن السيدان عبد الله الشيبي ومحمد الشيبي، وقد زار أولهما مصر من عهد قريب. ومن أعمال قصي غير تأسيس الدولة وتقسيم مناصبها حفر الآبار وتعمير الديار، وقد أقر عبادة الأصنام وحول إساف ونائلة من الصفا والمروة فجعل أحدهما بلصق الكعبة وجعل الآخر في موضع زمزم وكان ينحر عندهما (وعندهما حاول عبد المطلب أن ينحر ولده عبد الله)، وكان الطائف بالبيت يبدأ بإساف فيستلمه
1
فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة؛ فهي من مناسك الحج في الجاهلية!
ووضع قصي نظام الحمس، ولفظ الحمس جمع مفرده الأحمسي، ومعناه ابن البلد وابن الحرم والوطني المقيم والذي ينتمي إلى الكعبة والمقام، فهو امتياز لأبناء الوطن وأهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنيها أشبه الأشياء بحق «حرية المدينة» الذي يمنح في بلاد الغرب للأضياف الشرفاء؛ تمييزا لهم، واعترافا بمكانتهم، كما أنه إظهار لشرف الانتساب إلى البلد الذي يمنح أهلوه ذاك اللقب، فقال المكيون المتميزون: «ليس لأحد من العرب حق كحقنا ولا منزلة كمنزلتنا.» وعلامة الأحمسي أن لا يعظم شيئا من الحل (أي الأرض التي وراء الحرم) كما يعظم الحرم، فإذا فعل ذلك استخفت العرب بحرمته، فترك الحمس الوقوف على عرفة لأنه خارج عن الحرم، والإفاضة منها، مع إقرارهم بأنها من مشاعر الحج، ويرون لسائر العرب أن يقفوا على عرفة وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: «نحن أهل الحرم فلا ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها.»
فأظهروا بذلك شدة تعصبهم لبقعة من الأرض وترفعوا عن أن يخرجوا عنها ولو كان في خروجهم إتمام لمشاعر الحج. كما نرى بعض الملوك في وقتنا الحاضر لا يتركون عواصم ملكهم تعظيما للعواصم، وتفخيما لها، ومبالغة في هيبة الملك.
أقر قصي هذا التقليد في قريش وأدخل فيه كنانة وخزاعة، ومنحوا هذا الحق لمن ولدوا من العرب في الحرم، فاستحق الشرف بحق المولد كما استحقته قريش بحق الدم، والأصل، وفي القوانين الدولية الخاصة الحديثة من يكسب حق الوطنية بالدم، ومنهم من يكسبه بالميلاد في أرض الوطن، ومنهم من يناله بطول الإقامة، ففكرة الحمس إقرار لحق الوطنية بالانتساب للبقعة، وامتياز لمن له هذا الحق. وليس معنى الحمس التحمس في الدين كما في القاموس، ولا يرجع إلى ما بعد عام الفيل كما زعم ابن الأثير، بل شرع في عهد قصي، وكانت فكرة الحمس صائبة لأنها ترمي إلى إعزاز جانب أهل الحرم، وتضمن سلامة القاصدين إليهم، وتحجز ما بين الأعداء، وتشل أيدي المنتقمين والمتربصين؛ فنشأ حق الالتجاء من حق الحمس؛ فكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب، وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يتعرض له. وكان الرجل إذا أراد البيت العتيق تقلد قلادة من شعر فأحمته أي جعلته حمى لا يقرب.
ومن قواعد الحمس أنهم نهوا أهل الحل عن أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم، إلا في ثياب الحمس يستعيرونها منهم للطواف بها، فإن لم يجدوا من يعيرهم طافوا بالبيت عراة؛ رجالا ونساء! وإن أنف منهم أحد أن يطوف عريانا إذا لم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه، وتسمى «اللقي» فلا يمسها أحد.
وجاءت امرأة يوما وكان لها جمال وهيئة حسنة فطلبت ثيابا عارية فلم تجد من يعيرها، فلم تجد بدا من أن تطوف عريانة! فنزعت ثيابها بباب المسجد ثم دخلته عريانة فوضعت يديها على موضع عفتها وقالت:
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحله
2
إشارة إلى أنها عفيفة ولا يضيرها كشف عورتها في سبيل أداء الفريضة، وإشارة إلى أنها ليست ممن استبحن العلاقة الجنسية في الحرم كإساف ونائلة.
ولكن هذا لم يمنع فتيان مكة من النظر إليها! وجاءت امرأة أخرى تطوف عريانة فرآها رجل فأعجبته فطاف في جنبها لأن يمسها، فأدنى عضده من عضدها فالتزقتا؛ فخرجا هاربين على وجوههما فزعين لما أصابهما من العقوبة! ولكن في أخبار التاريخ ما يدل على أن الطواف مع التعري كان مبالغة في التقديس، وبقي منه أن يطوف الشخص حاسر الرأس حافي القدمين، وما الإحرام إلا نوع من التحلل من الثياب وعود إلى عري آدم وحواء!
وطاف أبو جندب الشاعر الجاهلي بالبيت مكشوف السوأة في غير الحج فعرف الناس أنه يريد شرا؛ وهو الانتقام من أعداء له.
وابتدعت الحمس في الحج من باب التزهد والتأله أشياء كثيرة كالتي يمتنع عنها بنو إسرائيل في بعض مواسمهم وأعيادهم.
ومن امتيازهم الوقوف بقزح، فلما حج النبي حجة الإسلام ظنت قريش أنه سيقف بالمشعر الحرام - وهو قزح - كعادتهم ولا يتجاوزه، ولكنه تجاوزه إلى عرفات، فتنازل النبي عما كان امتيازا وحقا لقومه وسوى بينهم وبين غيرهم
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، وما زال حق الحمس يتطور حتى صار دينا. قال الأزرقي (ج1، ص115): «كانت العرب على دينين : حلة وحمس؛ فالحمس قريش وكل من ولدت من العرب وكنانة وخزاعة ... إلخ. وكانت قريش إذا زوجوا عربيا امرأة منهم اشترطوا عليه أن كل من ولدت له فهو أحمسي على دينهم.»
ولكن الأزرقي مبالغ في قوله الحمس دين جديد؛ لأن الحمس قالوا: «لا تعظموا شيئا من الحل، ولا تجاوزوا الحرم في الحج فلا يهاب الناس حرمكم ويرون ما تعظمون به من الحل كالحرام.» فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة.
الكتاب الثاني
تأسيس مكة وعبادتها وقيمة الأوثان فيها
يمكن تقدير الزمن الذي تأسست فيه مكة بالتقريب؛ وذلك بالنظر في أنظمة العرب الاقتصادية والاجتماعية ودرجة الثقافة البدائية التي وصلوا إليها. وفي اعتقاد البعض أن تأسيسها سابق على الإسلام بألف عام على الأقل، وفي مدى هذه القرون العشرة تمكنت القبائل التي استقرت في وادي مكة من تكوين مظاهر حياتهم المادية؛ فجعلوا الكعبة معبدا ومعرضا لأصنامهم، أما كيف نشأت عبادة الأصنام في مكة، فالرأي العلمي المقطوع به أنهم قلدوا في ذلك بعض الأمم المجاورة، بل نقلوا إلى بلدهم بعض أوثانها،
1
وكانت عبادة الأصنام شائعة في بابل وطن إبراهيم الذي بنى الكعبة وكان يقاوم عبادة الأصنام في بلده. ومن عجيب الأمور أن البناء الذي شيده لتمجيد الإله الواحد الذي هداه إليه الله لتوحيده بتفكيره وتضحيته صار بعده وبعد ولده وأحفاده موضعا لتمجيد الأصنام! وفي تاريخ الإنسانية كثير من التناقض! وإذا كان من أصنام العرب اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أفلا ترى في هذا الثالوث المقدس أو في اجتماع هذه الأقانيم تقليدا لثالوث المصريين القدماء إيزيس وأوزيريس وهورس، وفي الهند ثالوث كريشنا وسيفا وفيشنو، وفي المسيحية الآب والابن والروح القدس؟! ولكن كان هناك آلهة أخرى لكل منها اختصاص وامتياز، وكان للآلهة زعيم أكبر هو هبل! فالكعبة كانت أشبه الأشياء بهيكل مصري أو معبد هندي، أو جبل أولمب
2
مصغرا، والذي نراه من مظاهر العبادة الوثنية في مكة أن سدنة الكعبة تمكنوا من استغلال هذه الأصنام وجعلوها تدفع أجر إقامتها واحترامها بطريقة منقولة عن مصر وعن اليونان وبابل والهند؛ فكان على من يأتي ليستقسم بالأزلام أو يستشير الأوثان أن يدفع ضريبة من المال «لمحرك الوحي» كما كانت الحال في طيبة ودلف
3
فيدفع للكاهن مائة درهم ويقدم إليه جزورا. وما كان السادن يقنع من الزائر المستفتي بهذا، بل كان يتقاضى منه رسما على الزيارة ويلزمه بأن يشتري طعامه وشرابه وثيابه من مكة نفسها، فكان الحاج يخرج من ماله كل ما ادخره في سبيل هذا الاستفتاء الوثني الذي كان بمثابة تجارة لمكة كلها.
وكما صار الفلاح الروسي في العهد القيصري والمزارع اللاتيني في كل العهود يشتري تماثيل العذراء والمسيح وجميع القديسين أو صورهم؛ لينزلها منزلا محترما في داره استدرارا للرحمة والبركة، كذلك كان الوثني العربي المقيم في خيام الصحراء يسعى للحصول على صنم صغير لخيمته فلا يناله إلا في مكة وبها الصناع والمثالون لنحتها!
4
وكانت حرفة والد إبراهيم صنعة التماثيل، وكان أهل مكة يبسطون حمايتهم على التجار المنفردين الذين يجوبون الصحراء لقاء أجر، فإذا لبس أحدهم شارة الحماية المكية الدالة على «جوار الله» وقته شر المهاجمين وقطاع الطريق ممن يحترمون «الجوار» ويقدسون الأصنام القابعة في بناء الكعبة، ومن ألفاظهم المصطلح عليها «الجيرة والشفاعة»، وهما قرينتان.
5
وما كان أهل مكة يزرعون قمحا ولا عدسا ولا فولا فكانوا في حاجة لخبزهم يحضرونه من اليمامة في الشمال الشرقي (اشتهرت بزرقائها التي كانت بعيدة النظر)، فمن أراد إذلال مكة فليهاجم قوافلها وليعق تجارتها وليتعرض لإبلها الرائحة الغادية بين الشمال والجنوب والشرق والغرب (أصل وقعة بدر مهاجمة التجارة المكية).
لم يقنع المكيون بجعل بلدهم معبدا ومركزا للمال والتجارة وتكويم الذهب والفضة، بل نقلوا عن الأمم الأخرى نظام الدرجات الاجتماعية والوظائف العامة ونظام الطبقات؛ فكانت الأرستقراطية مؤلفة ممن لهم جدود عظام اشتهروا بالشجاعة في الحرب، أو بالشعر والخطابة، أو حازوا مالهم بالسرقات والجرائم، ويلوح لنا أن جنايات القتل والسرقة بالإكراه كالتي كان يقترفها تأبط شرا وسليك بن سلكة وغيرهما من طغاة القبائل وغربانها
6
لم تكن معيبة، بل كانت ترفع قدر هؤلاء الجناة في نظر القبيلة! كما هي الحال في الجماعات الفطرية أو القريبة من الوحشية؛ فإنه لا يزال في الشرق لعهدنا جماعات تمجد المجرمين، وتعجب بهم، وبعضهم يدفعون لهم الجزية ويحمونهم؛ إما لصداقتهم، وإما خوفا منهم. (بلطجية!)
والناظر في حياة هذه الجماعة المكية يكاد يحكم بأن أهل مكة عاشوا تحت نظام الأبوة - أو سيادة الرجل - وهو المعروف لعلماء الاجتماع باسم «الباترياركا» يتلو عهد سيادة الأم أو «الماترياركا»، ولا يمكن أن تكون الفترة بين النظامين أقل من ألف سنة كما قلنا، ومع هذا فإن بعض بقايا عهد الأمومة «ماترياركا» كانت ظاهرة؛ فمنها احتفاظ المرأة بحق الطلاق (عصمتها بيدها)، كما جاء في قصة أم عبد المطلب التي سنرويها،
7
ومنها اتخاذ القبائل شمالا وجنوبا نساء للكهانة، ومنها استقلال المرأة في تجارتها واستطاعتها استخدام الرجال وجلب المال لحظيرتها، حتى إذا استغنت واشتهرت تزوجت ممن تختار من وكلائها كما حدث للسيدة خديجة - عليها رضوان الله - ومنها نفوذ المرأة في كثير من الأحيان على الرجل حتى في الحياة العامة، وفي أخبار هند وتزعمها بعض الوقائع وتدخلها في الحرب والسياسة ما يدل على ذلك؛ وإذن فظهور المرأة بمظهر العامل المؤثر في حياة عرب الجاهلية لم يكن نتيجة لحرية المرأة التي شرعها العرف أو حصلت عليها المرأة بجهودها في الحياة الاجتماعية، بل كانت آثارا باقية من نظام اجتماعي فطري؛ هو نظام سيادة المرأة أو عهد «الماترياركا». وشتان بين الأمرين؛ فإن هذه المرأة العربية الجاهلية التى تمتعت بهذه الامتيازات كانت مبذولة العرض في أحوال كثيرة، وكان تعدد الزوجات شائعا والتسري مباحا وأنواع الزواج عند الجاهلية متعددة؛ مما يدل على سهولة الحصول على المرأة، وكانت محرومة من الميراث، في حين أن المرأة الأوروبية لم تصل إلى حريتها إلا في القرن العشرين للمسيح! وعند علماء الاجتماع فرق عظيم بين ما هو أثر باق لحالة اجتماعية من عصور الهمجية، وبين ما ينال بالجهاد ويسجل في الحياة العامة ويصير حقا مكتسبا ومعترفا به؛ وإذن ثبت من البحث العلمي الاجتماعي ومن التاريخ أن حالة المرأة الأولى كانت آثارا للماترياركا، فلما جاء الإسلام منحها الحرية وأعطاها الدستور وقرن تلك الحرية بالشرف والصيانة، وجعلها حقا لا أثرا بعد عين من حالة اجتماعية قديمة، وهذا أحد أفضال الإسلام على العروبة والعالم.
نقول : كان أهل مكة قبل الإسلام بقليل يعيشون تحت نظام الأبوة؛ فكان لهؤلاء القوم زعيم كبير مسموع الكلمة يحكم القبيلة بإرادته وكلمته، وهذا النظام باق من عهد إبراهيم الذي هو «الأب الأعظم» أو البطريرك. فكان قصي قبل عبد المطلب زعيم قريش غير منازع، ثم رأينا حفيده يحفر بئر زمزم، ويزين الكعبة بالذهب والسلاح، ويقابل القائد الحبشي في عام الفيل ويفاوضه في أمر الجلاء عن الأرض المقدسة، ونراه مسموع الكلمة في المسجد وفي المدينة لآخر حياته، ولما توفي وترك أبناءه حل أبو طالب محله في رياسة معنوية للقبيلة أو المدينة، وإن كان قليل المال كثير العيال ضعيف الحول والطول حيال فحول قريش، إلا أنه تمكن بكلمة واحدة من حماية محمد ابن أخيه عبد الله من شر الأقوياء وحقدهم وضغنهم وانتقامهم، وأبى على قريش أن يسلمهم ابن أخيه الذي صار بعد ذلك ببضع سنين سيد العالم وخاتم النبيين ومصلح الإنسانية.
وفي الحق أن الترجي أو النصيحة والوعد أو الوعيد لم تكن كافية لحماية هذا الشاب ضد إجماع قريش إن لم تكن كلمة أبي طالب مسموعة في قومه، فإذن كان هو «بطريركهم» على فقره وضعف حوله وطوله، فلم يخرجوا عن طاعته، ولم يفضلوا مصلحة الجماعة التي كانت تقضي بتسليم محمد
صلى الله عليه وسلم
لقريش على مصلحة أبي طالب وابن أخيه.
وكان لأهل مكة ميزانية ودخل وخرج؛ فدخلهم من رسوم الحج وضرائب شبه جمركية، أو مكوس تفرض على الواردات. وكانت تلك الدولة البدائية تجمع بعض المال من السكان لتنفقه في ضيافة الحجيج أو في شراء كسوة الكعبة من الحرير والخز والديباج من صنع اليمن والشام والعراق ومصر، وكانت زعامة البلد تقتضي شيئا من المال، وكثيرا من الشجاعة في الحرب والفصاحة في الخطب.
وإلى جانب الزعيم والرئيس توجد وظيفة سادن أو خادم الكعبة وحامل مفتاحها، وهي وظيفة وراثية بلغ احترامها في النفوس مكانة عظمى، وكانت ضيافة الحجيج وظيفة كبرى، وهي التي قام بها عبد المطلب، وفيها إطعامهم وسقايتهم.
وكانوا في الحروب يخضعون لقائد، وفي السلم يخضعون للشورى وينظرون في أمورهم في دار الندوة؛ وهي جمعية شبه تشريعية مؤلفة من زعماء القبائل وأكابر البلد، والرأي فيها للكثرة من الشرفاء والأغنياء، وهي التي أسسها قصي، ولعلها أقرب إلى المجالس البلدية.
وقد سجل لنا التاريخ بعض مشاهد هذه الحياة النيابية في مناقشة قريش قبل وقعتي أحد والخندق. وكانت هذه الجمعية التشريعية المكية تجتمع أحيانا بصفة سرية؛ للتداول في أمر يقتضي الكتمان؛ كما اجتمعوا للتآمر على حياة محمد
صلى الله عليه وسلم
بعد أن استفحل أمره.
وإذا قام نزاع بين القبائل أو الأفراد يطرح للتحكيم أولا ثم على الكاهن أو الكاهنة ثم يطرح على الأوثان لتفصل فيه، فكان هبل هو الذي يحكم بقوله: «نعم»، أو «لا»، وكان المتخاصمان إذا وقع اختيارهما على رجل حكماه في الطريق كما يحدث الآن في بلاد الحبشة، فيعقد جلسة علنية وينظر في النزاع فورا ويسعى لحله. وكان يختار للتحكيم كل من اشتهر بالعدل والعلم والرحمة، وقد قضى بعضهم في الجاهلية بأحكام اجتهادية، وكان أهل مكة يرحلون أحيانا إلى اليمن - ليفضوا نزاعهم - إذا اشتهر في اليمن رجل بالعدل. وكان اختصاص هؤلاء القضاة المتطوعين يشمل المدني والجنائي، وكانت أحكامهم الجنائية نافذة إذا حكموا بالإعدام، أو بقطع اليد؛ ينفذ الحكم إذا كان المحكوم عليه صعلوكا أو فقيرا أو قليل الأنصار والعزوة! وإذا كان من قوم أقوياء يذودون عنه فقد يعطلون التنفيذ! إلا إذا كانت جريمته تتناول الأعراض وترى قبيلة المحكوم عليه أن بقاءه على قيد الحياة يسيء إلى مركزها بين القبائل ويورث الأحقاد والسخائم.
وكان الأفضل لهؤلاء القضاة أن يحكموا بالدية أو بالغرامة؛ لأن دفع المال أو تسليم الإبل أقل ضررا مهما بلغ من القتل وبتر الأعضاء، وقد عرضوا على امرئ القيس دية أبيه فأبى، وقد أدت روح العدل إلى إنشاء الجماعات لحماية الأفراد الضعفاء، لحفظ النظام وحماية التجارة؛ كحلف الفضول الذي ألفه جماعة كل منهم اسمه فضل، ولهذا الحلف أخبار كثيرة في النثر والشعر، وقد حضره الرسول وافتخر به.
8
انفردت مكة بأن كانت بملتقى الطرق إلى الشام والعراق وإيران شمالا، واليمن والحبشة ومصر جنوبا. ومن يرد الرجوع إلى مصادر مطولة في تاريخ مكة وشأنها قبل الإسلام ومكانتها التاريخية، يجد غايته في مؤلفات كوسان دي برسيفال وموير والآلوسي والأزرقي.
وقد أفادت قبيلة قريش - التي أقامت في مكة - من أسفارها فاتصل رجال منها بالحضارة اليونانية والرومانية في المدن الشامية وغيرها، وقد ارتفعوا بثقافتهم النسبية على مستوى الحياة البدوية قليلا، وعلى أهل يثرب الذين ما زالوا في الطور الزراعي محتفظين بفضائل وغرائز تجرد عنها أهل مكة الذين ينتسبون إلى القبائل البدوية، إلا أنهم استقروا في بلدهم وعاشوا في بيئة شبه صناعية-تجارية، وتعودوا الأسفار ذات الشمال وذات الجنوب شرقا وغربا، واستخدموا إبلهم وهي سفائن الصحراء في نقل البضائع والمتاجر إلى سائر الجهات.
وكانت قلة منهم يقرءون ويكتبون وإن لم يخرجوا عن طور الأمية إلى طور التعليم الأولي؛ ولذا وصفهم معاصروهم وجيرانهم من اليهود بأنهم أميون حكما على الكثرة الغالبية.
أما اليهود والنصارى فكانوا يقرءون التوراة والإنجيل وينقلون عنهما ما شاءوا كورقة بن نوفل أحد أصهار النبي، وكان راهبا أو شبه راهب، يتعيش من نسخ النصوص الدينية للكتابيين.
أما القرشيون
9
داخل أم القرى، فهم بنو كعب بن لؤي، وعلى مقربة من المدينة بنو عامر بن لؤي، وأخص أهل البلد هم المطيبون والأحلاف. أما المطيبون فكانوا أقدم السكان أو أعيان البلدة، والأحلاف هم القادمون لعهد قريب يريدون الإقامة، وكان اسم «المطيبون» يطلق على الأصلاء في كل بلد، كالطائف والحيرة؛ تمييزا لهم عن الأحلاف الذين لم تستقر أقدامهم، ولم يكسبوا حقوق المدينة أو حرية الإقامة فيها، وأصله أنهم طيبوا الكعبة بالعطور.
فالجامعة المكية كانت إيلافا من الأسباط
10
المتجاورة، كل سبط يقيم بحي من الأحياء، وكانت مقسمة في أول أمرها أرباعا حسب ما صنع قصي، ولم يكن في مكة سلطة عامة تحكم البلدة ولا قضاة يقيمون العدل بين الناس؛ فمصدر السلطات الأسباط وشيوخها إذا ما اتحدوا في أمر على عدو أجنبي، ويقع هذا الاتحاد وتلك الرابطة تطوعا لا كرها، وباختيار الأسباط دون إرغام ، بحكم المنفعة المشتركة، وتلبية لدعوة الشرف، ويطلقون عليه اسم العرض يؤيده الرأي العام الذي يمثله العقلاء في كل أسرة شريفة أو ظاهرة النفوذ بغناها أو صيتها، ولم تكن المكانة المعنوية بأقل من قوة المال كما كانت الحال في بني هاشم بالنسبة لبني أمية.
وإنك لتعجب لما طرأ من العداوة بين بني هاشم وبني أمية، وهم بنو عبد شمس (وفي تسميتهم ما يدل على صابئيتهم؛ لأن الصابئين كانوا يتخذون أسماءهم بعبادة الأجرام السماوية والكواكب). وقد روى بعض المؤرخين أن هاشما وعبد شمس ولدا توءمين، فخرج عبد شمس في الولادة قبل هاشم وقد لصقت أصبع أحدهما بجبهة الآخر، فلما نزعت دمي المكان، فقيل على عادة عرب الجاهلية من الطيرة: «سيكون بينهما أو بين ولديهما دم.» فكانت المنافرة بين هاشم بن عبد مناف بن قصي وبين أخيه أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وسببها أن هاشما كانت إليه الرفادة - وهي إحدى وظائف السراة من قريش - يقوم بها في موسم الحج، وهي ضيافة الحجيج وإعانتهم وإكرامهم، وأضاف إليها السقاية لأنه مقيم بمكة. أما أخوه عبد شمس فكان أخا أسفار وجواب آفاق. وأول العداوة أن أمية بن عبد شمس - وهو رأس بني أمية - اكتسب بجده مالا لم يكتسبه أبوه، فتكلف أن يفعل عمه هاشم
11
من إطعام الحجيج والفقراء من قريش فعجز عن ذلك فشمت به ناس من قريش وعابوه، فغضب ونافر هاشما على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة وعلى جلاء عشر سنين، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي جد عمرو بن الأحمق، وكانت إقامة الكاهن بعسفان، فتكهن بما يسر هاشما ويسوء أمية، فنحر هاشم الإبل وأطعم لحمها من حضر، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين؛ نزولا على شرط المراهنة أو المنافرة. (أصلها أنهم يسألون: أينا أعز نفرا؟)
وفي استقراء أخبار أمية في الجاهلية ما يدل على قلة عفته؛ فقد عرض لامرأة من بني زهرة فضربه رجل منهم بالسيف، وصنع في الجاهلية ما لم يصنعه أحد من العرب؛ وهو أنه زوج ابنه أبا عمرو من امرأته في حياة منه! أي إنه مارس نكاح المقت لولده من زوجته. والمقتيون في الإسلام هم الذين أولدوا نساء آبائهم واستنكحوهن بعد موتهم. وأما أن يتزوجها الولد في حياة أبيه ويبني عليها وهو يراه، فإن هذا لم يكن قط! وأمية قد جاوز هذا المعنى ولم يرض بهذا المقدار حتى نزل عن زوجته وزوجها من ولده. وكان بنو أمية يوصفون ببني الزرقاء ويشتمون بأنهم «ملوك ومن شر الملوك» (رواية سفينة عن أم سلمة في النزاع والتخاصم، للمقريزي، ص22).
وفي تاريخ الأمويين ما يؤيد نظرية سيادة الأمومة؛ فإن الزرقاء هي أم بني أمية بن عبد شمس، واسمها أرنب، وكانت في الجاهلية من صواحب الرايات. ولا نحب أن نزيد في هذه العبارة شرحا.
ومن بنات أمية غير أرنب «صاحبة الرايات» هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس التي استأجرت وحشيا وتآمرت معه على اغتيال حمزة بن عبد المطلب عم النبي
صلى الله عليه وسلم
في موقعة أحد، ثم لاكت كبد حمزة ثم لفظتها انتقاما لمصرع أبيها عتبة الذي قتله حمزة في موقعة بدر، وهند هذه هي التي أمر رسول الله يوم فتح مكة بقتلها فأسلمت والسكين على رقبتها رهبة لا رغبة، ورعبا لا إيمانا.
ولما حضرت مع النساء لتبايع النبي بيعة الإسلام كان مما قال لهن الرسول: «ولا تقتلن أولادكن.» فقالت: «ربيناهم يا محمد صغارا وقتلتهم كبارا!»
ومن بنات أمية أم جميل بنت حرب بن أمية وزوجة أبي لهب، كانت تحمل أغصان العضاة والشوك فتطرحها على طريق النبي
صلى الله عليه وسلم ، وقد أسماها القرآن حمالة الحطب، وفيها وفي زوجها أبي لهب نزلت سورة «المسد».
تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد .
وفيها رد على كلمة أبي لهب لمحمد «تبا لك.»
12
لا شك كانت طقوس العبادة في الكعبة أقدم من النصرانية والعبرانية؛ لأنها كانت عبادة الأوثان، ولا شك في أن تأسيس الكعبة يرجع إلى فترة متغلغلة في ظلام العصور السابقة للتاريخ، ونجد من المؤرخين من يحدد هذه الفترة بألفي سنة قبل النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من يزيد على ذلك، ولكننا نحسب الفترة ألف عام. وكان الإقبال على الكعبة والطواف بها عاما من سائر الجهات، وبالغا أقصى حد.
ومن المعلوم أن الفرق بين وثنية عباد الكعبة وحجيجها وتعدد آلهتهم، وبين التوحيد الذي جاء به الدين الإسلامي عظيم جدا، ولكن الفكرة الإسلامية تقتضي أن نعلم يقينا أن الوثنية المكية لم تكن إلا طارئا عرضيا بين حنيفية إبراهيم وتوحيد محمد، وأن عبادة أصنام الكعبة كانت أشبه بعبادة العجل التي اتبعها اليهود في وادي التيه بسينا لغيبة موسى؛ فهي فترة جهالة وترد في حضيض الوثنية لم يلبثا أن زالا بعودة موسى بشريعته، وكذلك كان ظهور محمد مخمدا لأنفاس الوثنية التي رفعت رأسها كالأفعى على يد حاويها عمرو بن لحي بعد أن انطمست معالم الحنيفية التي جاء بها إبراهيم وإسماعيل، ولكن متى تعطلت تلك الحنيفية، ومتى ظهرت الوثنية، وتعددت الآلهة، ونصبت الأوثان في أركان الكعبة؟ هذه أسئلة نجيب عليها في مواضعها.
نعم، لقد عني مؤرخو العرب بتاريخ الكعبة من أقدم الأزمنة ودونوا عنها أخبارا كثيرة غير معقولة، كقولهم: «ذكر ما كانت الكعبة الشريفة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض، وما جاء في ذلك.» وأن الكعبة كانت عثاء على الماء قبل أن تخلق السماء والأرض بأربعين عاما، ومنها دحيت الأرض، وفيه تشبيه الكعبة بعرش الله.
ثم ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم ومبتدأ الطواف كيف كان وزيارة الملائكة للكعبة ... إلخ.
وكل هذه الأخبار المخالفة للمعقول وللتاريخ الصحيح لم يروها إلا رواة ضعاف الحجة مثل كعب الأحبار ومجاهد وأبي الوليد وابن عباس، وكلهم مطعون في روايتهم التي رووها بغير تبصر؛ لأنها ملفقة وموضوعة لتعظيم الشأن والإرهاص والمبالغة .
وقد ألف في تاريخ مكة بعض مشاهير الإفرنج أمثال كوسان دي برسيفال؛ وويلها وزن وسنوك هير جرونجيه الذي أقام فيها حوالي سبع عشرة سنة، وأفرد لها ليون كايتاني فصلا قبل كلامه على أجداد النبي الأقربين، وهم: عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف، وكلاب، وقصي
13 (ص90، نبذة 62) ويرى هؤلاء المؤلفون أن إله الكعبة الأعظم كان هبل، ويتلو هذا الوثن في الشأن الحجر الأسود، وكان أحد أربعة من لونه، في كل زاوية من البناء حجر منها ولكنه وحده بقي محفوظا «حجر الركن»، وهو الذي حلت به قداسة الأحجار الثلاثة. قال أبو الفداء: «هبل أعظم الأصنام كلها في بر الحجاز، وكانت صورته على ظهر الكعبة.» وقال روبرتسون سميث (ص303-304): إن الحجر الأسود والحجر اليماني (الركن اليماني) يمثلان هبل والعزى. ونسي أن هناك أربعة أركان: الركن الأسود، والركن الشامي، والركن اليماني، والركن الغربي.
وفي ابن إسحاق والأزرقي إن عمرو بن لحي هو أول من أدخل الأصنام، وأنه أحضر «هبل» من مدينة حت أو هت من العراق. ويشك ويلهاوزن في هذه الرواية ونسبتها لابن إسحاق؛ لأن ابن هشام لم ينقلها عنه، ويرد عليه بأن الطبري نقل كثيرا عن ابن إسحاق مما لم ينقله ابن هشام؛ لأنه انشغل من أخبار العرب بالسيرة النبوية، ولم يعن بما عداها مما ورد في ابن إسحاق من أخبار مكة والكعبة قبل الإسلام.
إن الذي بنى الكعبة وفقا لنص القرآن هو إبراهيم وابنه إسماعيل، فقد قال:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل .
وتلقى إبراهيم مناسك الحج من ربه بالوحي الملكي عن جبريل
14
وأهم هذه المناسك الطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة والمزدلفة ووادي منى. وتلك المناسك أثبتتها السنة وحفظها المسلمون؛ لأنهم يقومون بها في كل عام، وقد وصفها العرب والإفرنج؛ أمثال: بوركهارت (ألماني)، وشارل بيرتون (إنجليزي)، وبعض المؤرخين المصريين الذين ألفوا في وصف رحلتهم إلى الحجاز.
ولما ترعرع إسماعيل في كنف أمه تزوج من جرهم، وملك أولاده الكعبة من بعده، وما زالوا يعبدون الله على طريقة إبراهيم وإسماعيل حتى هلك، ومن بعده حل فيها الفساد وصارت موضعا لمساوئ خلقية نعف عن ذكرها (قصة إساف ونائلة وما يحيط بهما من الأساطير)، وتغلبت جرهم على بني إسماعيل وطردوهم. واستمرت حالة مكة على ما كانت عليه إلى أن تمكنت قبيلة خزاعة من التغلب على جرهم، وحاربتها حربا شعواء سالت فيها الدماء على جدران الهيكل، وسلب عمرو بن ربيعة بن حارثة سيد جرهم غزالتين من ذهب وحليا أخرى وصفائح كانت زينة الكعبة، وألقى بها جميعها في بئر زمزم التي قيل إنها تفجرت إكراما لظمأ إسماعيل طفلا، وهي الأعلاق التي عثر عليها عبد المطلب أثناء حفر زمزم.
وكان عمرو بن ربيعة آخر من حكم مكة من جرهم، ولم يحكم مكة لبني خزاعة كما توهم الطبري، وأصدق من الطبري في هذه النقطة رواية الأزرقي، وابن هشام أصدق؛ إذن خرج بنو إسماعيل طرداء مظالم جرهم التي اغتصبت الهيكل وأصنامه ووضعت يدها على خيراته. ولم يكن هذا الاستيلاء لغاية دينية، وإنما كان جلبا لمنافع اقتصادية. وقد أفاض في هذه الروايات النصف تاريخية الأزرقي والطبري وياقوت وابن خلدون وغيرهم، على أنها وقعت بتفصيلها وعلى الصورة التي دونت بها، ونحن تقبلنا هذه الرواية بصدر رحب على ما فيها من المبالغة لنخرج منها لحقيقة تاريخية واحدة، وهي أن قبيلة قريش التي تغلبت على خزاعة لم تكن أصيلة في مكة؛ أي إنها لم تكن أولى القبائل التي قطنتها، بل إنها أقبلت عليها من مكان بعيد وانتزعتها من أيدي قبائل كانت سائدة على مكة والكعبة. وبعبارة أخرى: إن قريشا احتلت مكة واستعمرتها، وهذا لا يمنع قوتها وشرفها ولا يطعن في شأنها لبداوتها، وهذا الفتح أو التغلب القرشي على القبائل التي كانت بجوار الحرم لم يكن سوى صورة مصغرة للنزوح والهجوم والغزوات السلمية والحربية التي كانت مستمرة في قلب الجزيرة، ومنها إلى الخارج، ومن الخارج إليها، وحينئذ لا بد أن تكون قبيلة قريش عربية قادمة من وديان العراق وضفاف دجلة والفرات التي كانت خزانة الأمم الفتية ومهد الحضارات، أو عائدة منها إلى وطنها كما عاد اليمنيون من بابل إلى الجنوب بقيادة الزعيم قصي - أي القادم من مكان بعيد - كما يدل اسم قضاعة على الانقطاع؛ أي التخلف.
وهذا الأمر نفسه يفسر لنا كثيرا مما دونه المؤرخون من مناقب قريش الخاصة بها والتي لم تكن في عرب الجزيرة، كالتجارة والتشريع والتنظيم المدني وحماية الغريب وتأسيس دار الندوة وخلق الوظائف المدنية والدينية؛ فإن كافة هذه الأعمال والآراء لم تكن في ذهن القبائل المتوحشة المحاربة التي وصفنا حياتها في كثير من صفحاتنا. ويؤيد هذه الفكرة اسم «قصي» نفسه الذي معناه القادم من مكان بعيد - كما ذكرنا - فقد كان بجسمه وفكره وتكوينه وعقله وخلقه قصيا عن كثير من أمورهم.
وقد بقيت في المناسك ألفاظ وأسماء تدل على أصول هذه العلاقات واقتسام الحقوق بين جرهم وخزاعة وتغلب إحدى القبيلتين على الأخرى، ومنها «الإجازة»، وكانت في بيت الغوث بن مر بن عدوان (ابن خلدون، ج2، ص333)، والنسي، وكانت في بيت القلماس (الطبري، ج1، ص134، والبيروني، ص13-14).
تداعي الوثنية وعقم أديان العرب قبل الإسلام
قد كان دين العرب قبل الإسلام عقيما ومتداعيا إلى السقوط بعد أن دب إليه الفساد وسرى الضعف والانهيار إلى عناصره، ويقول الواقدي: «لقد عراه البلى، وأخنى عليه الدهر.» ولكن أسد قريش لم يسأموا عبادة أربابهم إلا قليلا، ولم تحدثهم أنفسهم باستبدال سواها بها؛ لأن خيالهم مهما كان واسعا، فلم يكن ليدخل في أذهانهم أنه من اليسير عليهم أن يخلقوا نظاما دينيا كاملا يحل محل هذا النظام العتيق، ولم يكونوا يستطيعون إدراك «الإمكان» في هذه المسألة؛ لأن تكوين الآلهة ليس من صنع البشر، ولا وضع القواعد والشعائر والرسوم في طاعة جنس الإنسان؛ فإذن لا سبيل إلى الاستغناء عن هذه الأرباب وإن ملوها وضجروا منها وزهدوا فيها، فلا بد لهم من الصبر عليها لأنها قديمة، ولأنها معبودة آبائهم من قبل؛ فقد ازدادت بالتقدم شأنا، وأفادت بمضي المدة جلالا ووقارا، وكسبت من كر الأجيال ومر القرون عظمة واحتراما، وإذن فهم يصبرون عليها ولو على مضض، وقد يهفو أحدهم في حقها ، أو قد يعتدي عليها فيكون كافرا بها أو حاقدا عليها، ولكن جحود الفرد وإلحاده لا يمس عقيدة القبيلة ولا يزعزع إيمانها، ولا يصرف عنها الخير الذي قد تجلبه الآلهة، ولا يجلب الشر الذي قد تصرفه الآلهة.
ولكن هناك أفرادا يعدون على الأصابع، كانوا يشعرون في أعماق أنفسهم أن القبيلة على باطل، ولكنهم لا يستطيعون المجاهرة ولا يقدرون على حياة سلبية في العبادة، لا يملكون أن يعيشوا بدون الاعتقاد في شيء وهم يرون الباطل في دين القوم ويشعرون بالحق في أنفسهم.
فكانوا يتلمسون عقيدة فضلى، ويلتمسونها في ماضيهم الروحي، في حنايا ضلوعهم وفي قلوبهم المنطوية على ذرات من الإيمان القديم وأشعة من نور ملة إبراهيم الحنيفية والتوحيد.
هذه الفئة تحنفت؛ أي رجعت إلى الحنيفية التي أتى بها إبراهيم؛ ومنهم أمية بن أبي الصلت في الطائف، وزيد بن عمرو في مكة، وأبو قيس بن أبي أنس وأبو عامر في المدينة؛ هؤلاء الأربعة كانوا البقية الباقية من دين إبراهيم وأطلقوا على أنفسهم اسم المتحنفين.
والحنيف إذن هو المتعبد المتطهر الذي يحاول الخلاص من أدران الحياة لتكون له في الحياة خطة عليا؛ حياة الروح قبل حياة الجسم. وربما كانت هناك علاقة لفظية بين التحنف والتحنث؛ والتحنث هو الذي كان يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في غار حراء، ولعل التحنث أدخل في باب العبادة من التحنف؛ فالمتحنث هو المتحنف عندما ينقطع عن أهله وذويه لتطهير نفسه أو تكميلها، وليتصل بالقوة العظمى السائدة على الكون حتى يسعفه الله بالوحي والرسالة.
لا شك في أن أهل مكة كانوا وثنيين، بالفطرة وبالتقليد يقدسون ما كان عليه آباؤهم من العبادة، ولا شك أن أهل مكة والمدينة والطائف - وهي عواصم الحجاز الثلاث - اتصلوا باليهود والنصارى، ووقفوا على كثير من معتقداتهم المنزلة، ولعل بعضهم قلب أنظاره في صحف إبراهيم وموسى وعيسى وزبور داود ومزاميره ومواعظ سليمان وأناشيده، ولعل بعضهم قرأ سفر أيوب وحكمة لقمان.
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم .
وإذن لا بد من حدوث حركة فكرية - ولو ضئيلة - ترمي إلى البحث في الأديان، وتعليل العبادات والتأمل فيها؛ لأن طبيعة بلاد العرب تدفع أهلها إلى التأمل في جمال الطبيعة، ولا شك في أن مئات من السائحين عادوا من مصر أو من الهند أو الفرس أو كنعان يحملون أخبار آلهة أخرى غير أوثان الكعبة، تعبد وتقدس ويتقرب إليها في هياكل ثيبة ومزد وفشنو ... إلخ. ولم نذهب بعيدا وقد رأينا عمرو بن لحي ينقل الصنم هبل من هيت ببلاد العراق إلى الكعبة بمكة؟
ولكن تلك الوثنية العربية كانت عبادة تقليدية أو سنة ورثها الأبناء عن الآباء، كانت آلهة عدة، ولم تكن لها قيمة في ذاتها بقدر قيمتها في نظر عبادها؛ فكانت الأصنام حماة الأسباط، وفي كل بيت صنم تقام له فرائض العبادة من رب الدار في الغداة وفي العشي. وكان المثال أبو بجرات يصنعها ويبيعها للبدو كما كان يصنع أبو إبراهيم في بابل، وصنع الأرباب لبيعها تجارة رابحة حتى في روسيا القيصرية، ولكن مكانة الأوثان في القبائل كانت أرفع من مكانتها في الدور وفي الخيام؛ لأنها تمثل الوحدة المقدسة التي تجمع بين أفراد الأسرة وتربط بين الماضي والحاضر برباط العقيدة؛ فهي في نظرهم عروة لا تنفصم.
وكان فوق رءوس جميع الأصنام «الله» المعبود الأعم الأعظم، والإله الأكبر للكون بأجمعه.
1
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (سورة الزمر).
وكان بمثابة الوالد لجميع الآلهة، حتى إن أهل مكة دعوا الإناث من آلهتهم «بنات الله».
ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى (سورة النجم).
وكان للعرب ثالوث وأنثى، فحسبوا اللات اسما للإلهة التي كانت في عقيدتهم ونظرهم زوجة للإله الأعظم. وجاء وحي القرآن بإنكار ألوهية هذه الكائنات واعتبارها من الجن، وقد جردها القرآن الكريم من صفات الربوبية. وما ورد في الأخبار من خروج جنية من نائلة وغيرها عند كسر صنمها على يد خالد بن الوليد يدل على تأييد هذه الفكرة التي جعلت من هذه الإلهات جنيات؛ أي أرواح شريرة لا خير فيها ولا ربوبية لها، ولكن الوثنيين غضبوا لذلك، كما غضبوا لسب آبائهم وتسفيه أحلامهم واحتقار عقولهم، وقالوا في احتجاجهم إنهم إذا عبدوا الجن فقد عبدوا الشيطان، وهم لم يعبدوا الشيطان أبدا. ولكن احتجاجهم هذا لم يمنع النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يقول في حجة الوداع: «إن الشيطان يئس أن يعبد هنا.» لأن دينهم كان حافلا بالأوهام والخرافات وسخافات المعتقد. غير أن دينهم كان لا يقل شأنا عن غيره من أديان الوثنية - المعاصرة والمجاورة - ولعله يفوق بعضها برسومه ومناسكه وكعبته التي جمعت فأوعت أربابا من كل عقيدة ولون! وكانت ذات كهنة وسدنة ورهبان وقرابين ونذور وعهود ونبوءات ومشاركة دائمة في حياة المجتمع في الحرب والسلم والحلال والحرام والزواج والطلاق والنعيم والبؤس، ولكن هؤلاء الوثنيين ما فتئوا يعتقدون بالله؛ وهو الإله الأكبر، زعيم الآلهة، ويقسمون أحرج الأيمان به، وباسمه (باسمك اللهم) تفتتح المعاهدات والمحالفات وتختم العقود والتعهدات، ولكنه اعتقاد شرك؛ لأنه لم يكن وحيدا ولا منفردا في تدبير العالم، فهو صورة مصغرة أو مشوهة من زفس إله الإغريق الأكبر، بيد أنها وثنية سامية وشرك شرقي، وإذا أقسم أحد به فلا يخطر بباله أن يحنث في يمينه، ولا يخطر ببال أحدهم أن يستغني بإله صغير عن هذا الإله الأكبر؛ لأن الإله الصغير كان معبودا لفريق دون فريق ومقدسا في سبط دون الآخر، ولكن «الله» كان مقدسا عند الجميع، وكان الرجل إذا حدثته نفسه باقتراف إثم أو قسوة وحشية ذكر بالله ليخشاه أو يصده عن الإسراف في الأذى، وأكبر سبة تلحق المرء أن يقال عنه «عدو الله».
ولكن الله هذا كان حاكما ومسيطرا أعلى على الجميع، فلا يحق لفرد أن يتصل به لحساب نفسه، ويحتل في العبادة المكان الأعلى والذروة الرفيعة، والقمة التي لا تنال والمحل الأقصى كما كان زفس رب أرباب اليونان يعتلي صهوة أولمب؛ فكان على كل فرد أن يلجأ في شئونه الخاصة إلى إلهه الخاص، ويطلب إليه - في ذل وانكسار - قضاء حاجته التي لا تبلغ درجة المطالب الكبرى التي تلتمسها الجماعات في أوقات الاضطرار، كالنصر في الحرب أو النجاة من خطر محقق، فكان كل إله من هذه الآلهة قادرا على نفوذ أغراض عابديه في دائرة اختصاصه؛ فلا يتعدى الحدود المعينة له؛ فهو استقلال داخلي في العقيدة!
وقد تناول مؤرخو الأديان العربية البحث فيما إذا كان العرب يقيمون مواسم الحج إكراما «لله» ذلك المعبود الأكبر، أو للآلهة الصغرى. ولكن الثابت أن هبل كان يعبد في الكعبة، وقزح في مزدلفة (الواقدي، ص248)، ويمكن أن نتصور أن هبل كان لله بمثابة «إيل» بالنسبة إلى «ياهوفا» عند العبريين، وكانت القرابين تقدم لكل إله باسمه، وباسم الله، أو «باسمك اللهم» ...
وهكذا تخيل العرب الجاهليون أربابهم على صورة البشر، وجعلوا لها طبقات ودرجات بعضها فوق بعض، وقسموا الاختصاص والنفوذ بينها. ولكن هذا الدين - وقوامه عبادة الأوثان، وعلى رأسها الله - لم يظهر أن هذه الأوثان عبدت لذاتها، أم على أنها بمثابة الوسطاء والشفعاء بين العابدين والمعبود الأكبر، وهذا الغموض لم يكن له أثر معنوي في أخلاق هذه الأمة المغرقة في الجهالة والقصور الذهني.
ولم يكن منهم من يخاف الله أو يخشى الآلهة الأخرى إلا في الندرى، ولم يكن لهذا الدين من ثمرة نافعة سوى الاتفاق على حرمة بعض الأماكن وبعض الأشهر؛ فنظام الحل والحرم - كحلف الفضول - كان سياسيا واقتصاديا قبله العرب لفائدته العملية؛ لأن فترة السلم والأمان في وسط الزعازع لا تقدر بمال للقبائل المشتغلة بالتجارة ونقل البضائع من أقصى الجزيرة إلى أقصاها. وقد دلت البحوث التاريخية على أنه لم يكن عند عرب الجاهلية وازع ديني، ولا رادع خلقي، ولا آداب اجتماعية بالمعنى الذي نفهمه في زمننا هذا أو في أي زمن، بل كانت حياتهم مادية أرضية محضة، لا تحكمها شريعة ولا تكبح جماحها سنة ولا فضيلة، ولا يضبطها ضابط من خصال الاستقامة ولا قاعدة من قواعد الأخلاق التي كانت لليونان والرومان والمصريين والبابليين من الوثنيين؛ فكانت الخمر والخيل والخيلاء، والعشق والثأر والفخر والطغيان، والميسر والحرب والسلب والاعتداء؛ جماع ما يشغل أذهان شعرائهم الذين يمثلون أفكار الشبان والشيوخ. وكان منهم - بلا ريب - قلة يخضعون لمبادئ الشرف - وهو «العرض» - بتأثير الأسرة، أو دفاعا عن «العرض»
2
وحسن السمعة، حتى يكاد الأدب الجاهلي - نثرا وشعرا - يخلو من ذكر أربابهم؛ فهم في غير حاجة إلى تخليدها، وقد يذكرونها ليشتموها، كما فعل امرؤ القيس، أو ليعبروا عن الزهد فيها. وقد يرد اسم أحدها على لسانهم في عرض التغني بانتصار أو التفجع على هزيمة، أو استنجادا في موقعة كما فعل أبو سفيان عندما هتف: «اعل هبل!» في موقعة أحد، فأسقطه محمد رسول الله.
كان العربي الجاهلي الوثني يعتمد على نفسه ويثق بها ويعول في كل أموره عليها. وقد تجلت هذه الثقة العمياء في حياتهم، يمتطي أحدهم صهوة جواده أو يعلو ظهر ناقته ويتمنطق بسيفه أو يتقلد رمحه ويتوغل في الصحراء القفرة بمفرده، لا أنيس له إلا الاعتماد على شخصه وشجاعته واعتقاده في قوة بدنه وثبات جنانه، فإذا وقع في محظور فسيفه ورمحه منقذه، فلا إله يقف بجانبه، ولا ولي يحميه من الشر؛ لأنه لا يعرف التوكل على إله ولا تسليم أمره لكائن خفي عن عينه أو ظاهر لحواسه، ولا يخضع لأحكام القضاء والقدر، بل لا يدرك عقله تلك الأحكام ولا يسلم بوجودها فيثور عليها؛ وتلك نفسية جبارة هوجاء قوامها الأثرة والمجازفة، وغريزة البقاء التي توحي إليه الاحتفاظ بالذات، والخوف من الأخطار، وقد تتغلب عليها روح المجازفة والمغامرة فيضحي بنفسه في سبيل الأسرة أو القبيلة أو القوت الضروري أو سبي امرأة يهواها أو يسترقها، أو ناقة تعقر (حرب البسوس).
ولكن هذه التضحية وتلك النخوة والحمية والعصبية، بل تلك البطولة، لم يكن فيها أثر للعاطفة الدينية، ولا للمستور النفساني
3
الذي يسيطر على المؤمنين بما وراء الطبيعة؛ وإذن لم يكن للعقيدة الدينية أثر كبير في النفسية العربية الجاهلية؛ لأنها كانت ذات طبيعة قاسية، مستقلة على الرغم خضوعها أحيانا للأهواء القوية التي تعصف بالنفوس، كالعشق والفخر والأخذ بالثأر، ولعل العربي الجاهلي لم يشعر بالعاطفة الدينية إلا بعد أن يبرد بركان شخصيته الذي كان يفور ويغلي، فتهبط حرارة حيويته إلى الصفر؛ أي بعد ذهاب الشباب وحلول المشيب محله؛ فيحس الرجل دنو أجله فيعتريه الندم على سعادة الحياة وجمال الأيام التي ذهبت ولن تعود، وحينئذ تخرج من أعماق هذه النفس المحترقة النادمة على الشباب والغرام والمطوحات والخمر والمنافرة والموسيقى ونور القمر وحرارة الشمس صرخة طويلة، بل أنة محزنة كالأغنية الأولى والأخيرة التي يودع بها «الأردف» هذه الحياة، وقد تفرغ هذه الصرخة في قالب شعري فتكون قصيدة كالتي نظمها امرؤ القيس في التفجع على الماضي والشباب، فيذكر الموت وفرقة الأحباب ويندب حظه بعد فراق الحارث وحجر
4
ويترقب اليوم الذي تنشب المنية فيه أنيابها وأظفارها، والقصيدة لا تنطوي على حكمة ولا فن سوى عظمة الندم على عهد انقضى وقدرته على وصفه، ولعل المقيمين في مكة كانوا أكثر اكتراثا للدين؛ لأنه كان يدر عليهم أرزاقا، ولأنهم مقيمون بجوار الكعبة، على مرأى ومسمع من الأصنام والسدنة والكهان، وحياة الاستقرار تورث مخاوف وآمالا لا يعرفها الراحل والظاعن الشارع رمحا أو المجرد سيفا في كل المواطن للدفاع عن الحياة أو الذود عن العرض أو الهجوم للسلب والغنم واقتناص الفريسة واستردادها.
5
وفي اعتقادنا كان الفرق بين البدو والحضر في هذه المسألة يسيرا؛ فكلاهما قليل الدين غير مكترث للأرباب. ولا يخدعن أحد الباحثين المحدثين فيحسب سراب العبادة المكية ماء؛ فقد كانوا يقيمون الحج ويحشدون الأصنام ويزينون الكعبة بتهاويل الآلهة وتصاوير الأنبياء، ويقدمون القرابين، ويطعمون الحجيج ويسقونهم ويرفدونهم ويحمونهم لا حبا في دعج أعين الأرباب والأصنام، ولا إيمانا بقوتها، ولا ثقة باستجابتها للدعاء، ولكن فعلوا ذلك وغيره بقصد التجارة بالدين، وجلبا للمنافع المادية؛ لأن تجارتهم تدور حول موسم الحج، والأعياد التي تسبقه وتلحقه، والأسواق التي تصحبه أو تتلوه؛ فقد كان في مكة الجاهلية أربعون سوقا، عظماها عكاظ، وكانت من أعظم الأسواق التي شهدها العالم القديم، وهي أشبه شيء بالمعارض الدولية التي تقام في العواصم الحديثة؛ لترويج المتاجر والصناعات القومية، واجتذاب السائحين والمستهلكين من كل فج عميق.
ولولا الأشهر الحرم التي لا تقع فيها حرب، والمكان الحرام الذي يكون كل من يدخله آمنا فلا يسفك فيه دم؛ ما تمكنت تلك القبيلة من الحياة المطمئنة والتجارة النافعة.
محاولة شعوبية للتقليل من شأن البعثة المحمدية
ولسنا في حاجة إلى مرجع للتدليل على صحة الرأي بعد الذي وقفنا عليه من تاريخ الجاهلية وأدبها. وقد يخالفنا بعض الباحثين في هذا وينسبون إلى الجاهلية ما لم يكن لهم من علم وفضل وأخلاق وحضارة وشريعة وحكومة وقانون؛ وهؤلاء العرب أبرياء من ذلك. وقد تناولنا نقض هذا الرأي بالإسهاب، وإن كنا لا نجرد العرب من بعض مظاهر المدنية الفطرية، ولكننا ننكر عليهم مؤسسات الحضارة ومظاهر الثقافة، لا رجما بالغيب ولا امتهانا لأقدارهم قبل الإسلام، ولا تعصبا لهذا الدين الحنيف، ولكن لأن علماء أعلاما - أمثال بوكوك وبرسيفال وسبرنجر ووبلهاوزن ونولدكه وستانسلاس جويار - أجمعوا في كتبهم على هذا الرأي بعد البحث والاستقراء، وهو ما وصلنا إليه بدراستنا في مراجع أخرى. وكان هؤلاء المستشرقون أحق بأن يزعموا الفضائل للجاهلية تقليلا من شأن البعثة المحمدية فلم يفعلوا؛ فكانوا أعدل وأعلم ممن أخذوا يدافعون عن الجاهلية؛ فقد قامت في الآخرين نعرة جنسية تتعصب للعرب، وتقلل من شأن الوحي المحمدي في غير وعي. وينسى الكاتبون أو يتناسون أنه بفضل الإسلام استقامت الأمة العربية على نهج الأمم التي كتب لها بلوغ أقصى الغايات من النظام والتوسع واحتمال التبعات العالمية، مما لا يوجد له نظير في الأرض. وبفضل الإسلام يسجل التاريخ للأمة العربية أنها كانت محيية العلوم الدارسة، والفنون الطامسة، وأنها كانت سببا لإيقاظ البشرية من عميق سباتها، ودفعها في سبيل الحياة والمدنية، وفوق هذا كله فالمسلمون أبناء الإسلام، لا أبناء المصريين ولا الفرس ولا الترك ولا الهنود ولا المغاربة، وقد وحد الإسلام بينهم، وإن لم يهدر في سبيل هذا التوحيد قوميتهم وجنسيتهم؛ تذرعا لتكوين أمة عالمية كانت مثلا أعلى للاجتماع الإنساني الصحيح. وإليك مثالا مما كتبه كاتب مقنع في إحدى الصحف، يقول في يقظة العرب الروحية والمدنية: «لا نكير أن العرب لمع شأنهم وتألق مجدهم وذاع ذكرهم بعد الإسلام، ولكن الإسلام لم يكن بدء عهدهم في اليقظة العظمى التي انفتحت فيها عيون الروح العربية في الجزيرة؛ فنحن نعلم ما كان في الجاهلية من مظاهر أدبية وفنية، وما كان فيها من أدب عال بمعانيه وسام بمبانيه، وما أنجبته من الممتازين الأعلام في الشئون الاجتماعية والمدنية، لا سيما في الشعر. ومعلوم أن كل ذلك كان أساسا للنهضة النادرة التي بلغتها العرب بوثبات عظيمة، والتي كان الإسلام عاملا قويا على تحقيقها وإبراز ما فيها من قوة؛ فالإسلام ذو فضل على العرب باستسراع عوامل اليقظة العربية، ولكنه لم يخلقها فيه، وليس من ينكر هذه الحقيقة.
ويذكر مؤرخو الغرب - ونحن نرجع إليهم لأنهم أعمق درسا في تحليل العقلية العربية - أن العرب قبل الإسلام بعدة قرون كانوا على كثير من التحفز للظهور بروح عالية، وكانت عقليتهم على كثير من التنبه، وقد ظهر فيهم ممتازون عديدون أحرزوا شأوا عاليا في حلبات عديدة، لا سيما في الشعر العالي. وإن ظهور أمثال أولئك لدليل مجسم على أن البيئات العربية كانت غنية بالأسباب المولدة التي تسير الأمة في طريق الرقي والعمران بأقدام ثابتة.
في تلك القرون القديمة لما كانت المدنية الإغريقية قد بلغت ما بلغت إليه من العلياء وما آلت إليه في نفوس عواهلها وعظمائها من الميل إلى الرخاء، كان العرب في شبه جزيرتهم كأنهم مواليد أرسلتهم الحياة ليرثوا بعدما يبلغون رشدهم كأمة تحل محل سلفائهم اليونان في العلوم والانتشار في البلدان، وتخطيط مدنية جديدة على أنقاض تلك الإغريقية. يرى العادلون بنظرهم والمنصفون بحكمهم أنه إذا كان اليونان آباء العلم بالتربية، فقد مات أبوه اليوناني، ولكن العرب لم يتركوا العلم يتيما؛ فكانوا له أبا وخيرا من أب، وأحبوه وأحبهم، وادعوه وأحسن الالتصاق بهم، وكان له الشرف الأكبر أن يكنى بهم وأن لا يخرج عن كونه عربيا بالرغم من أصله الغريب.
وجاء الإسلام للعرب فكان لهم فيه عهد يقظة عظيم، عهد وجدت فيه الأمة العربية نفسها تائقة إلى النهوض، إلى العمل، إلى الوثوب، في نفسها أسرار جمة تريد أن تعلنها إلى العالم كله، وفي روحها عوامل حية ترغب في أن تشرك فيها أمم الأرض في ذلك الحين.
ولقد كانت العوامل للنهوض ولكنها قبل أن يجيء محمد كانت الأمة العربية مترددة ومتفككة، فلما ظهر صاحب الرسالة
صلى الله عليه وسلم
وجدت به الروح العربية المترجم لها عما ترغب روحها النازعة إلى التأليف قوة وميلا إلى التوسع - وفي التوسع عظمة - وإلى السير والعمل.
وفيهما العمران ومن نتائجهما مدنية ممتازة، وقد جاءتهم المدنية، بل جاءت العالم حينئذ عن يدهم فأعظمها التاريخ، ولا يزال رسل التاريخ يمجدون تلك المدنية العربية ويغوصون في بحارها، مستخرجين في كل مرة درة من درر تلك العهود الكثيرة العوامل الحية والوفيرة الأسباب الروحية، التي جعلت العرب أمة محسنة أعطت مقابل عزتها التي وهبتها إياها الحياة وزنا؛ فاحتلت بذلك أحسن مقام في التاريخ، ولا يزال المنصفون من أدباء الغرب يشيرون إليها بالبنان والإعجاب.
ولقد أجمع مؤرخو الغرب على أن المدنية الحاضرة قامت على الوراثة السنية التي صاغتها النهضة العربية، وأن هذه المدنية - خلافا لما ذهب إليه نفر كبير - امتدت أفنانها على أرومة الهدية العربية للعالم لا على تلك الأرومة اللاتينية؛ فإن هذه أدخلت إلى المدنية الحاضرة بعد أن كانت العربية قد ازدهرت بعلومها وفنونها، وصح لأهل الغرب الارتواء من معينها، والتغذي من دسمها.»
انتهى كلام الشعوبية.
فهذا الكلام الطويل العريض لا أثر فيه للحقيقة التاريخية، ولكنه تعصب ظاهر للجاهلية، وقد فندناه سلفا في مواضع عدة من هذا الكتاب، وأقمنا الأدلة على بطلانه وصحة نقيضه. وهو إما مقصود به إلى التقليل من شأن الرسالة المحمدية، وإما نتيجة لاطلاع قاصر، وتسرع في الوصول إلى نتائج كاذبة مفتعلة. وكلتا العلتين لا تستحق الالتفات، خصوصا وأنه عندما ولد النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكن في حياة عرب الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها ما يدل على نهضة مقبلة أو مستقبل باهر، ولم يكن أحد من المعاصرين داخل الجزيرة أو خارجها تحدثه نفسه بأن تلك الأمة ستفتح عما قليل عهدا جديدا في تاريخ العالم، أو تقلب صفحة قشيبة في كتاب الوجود ؛ فتظهر دينا عاما، وتظفر بدولتي الفرس والرومان تحت أعلام دين شعاره التوحيد وغايته إعلاء كلمة الحق ورفعة الإنسانية، ولم يكن في الجزيرة كلها دولة مستقلة ذات شأن يعتد بها أو حكومة قوية يعتمد عليها، وإن يكن أمراء كندة حاولوا في أوائل القرن السادس المسيحي تأسيس مملكة وطنية مستقلة تلم شمل القبائل النازلة بأواسط الجزيرة، أما أرض اليمن أو بلاد العرب السعيدة فكانت على عراقتها وخصوبتها خاضعة للفرس.
ومن محاولات السيادة التي فشلت ما صنعه عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي من أجلاء مكة؛ فقد تخيل خطة سياسية ترفعه إلى الملك، فقدم على قيصر، وكان عثمان يطمع أن يكون ملكا على قريش، وكان من أظرف قريش وأعقلها، فأحسن قيصر وفادته فذكر له عثمان مكة ورغبه فيها، وقد رأى موضع حاجة العرب إليه ومتجرهم من بلاده، وقال له: «تكون مكة زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء.» فاقتنع
1
قيصر برأي عثمان المنطوي على الحيلة، ومن ذا الذي يرفض مستعمرة تجارية غنية كمكة بها معبد يحج إليه الناس من كل فج؟! فكتب قيصر كتابا إلى قريش وملك عليهم عثمان، فلما قدم عثمان جمع القبيلة وخطب فيهم قائلا: «يا قوم، إن قيصر قد علمتم أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم، وأنا ابن عمكم وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والأوهاب فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه.» وهي خطبة تدل على ضعف خلقه. فلما سمعوا ذلك خافوا قيصر وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم، فأجمعوا على أن يعقدوا التاج على رأس عثمان عشية وفارقوه على ذلك، ولما طاف عشية ظهر ابن عمه أبو زمعة الأسود بن المطلب بن أسد فصاح في قريش وهم على أحفل ما كانوا في الطواف، وألقى خطبة معارضة قال: «عباد الله، ملك تهامة؟!»
فانحاسوا انحياس حمر الوحش، ثم قالوا: «صدقت واللات العزى ما كان بتهامة ملك قط!» وانتقضت قريش عما كانت قالت لعثمان، فحنق عليهم ولحق بقيصر ليعلمه، وأصدر قيصر أمره إلى عمرو بن جفنة الغساني أن يحبس لعثمان كل من أراد حبسه من تجار قريش بالشام، فنفذ عمرو هذا الأمر .
ولم يلبث أن دبرت مؤامرة لاغتيال عثمان؛ فدسوا له السم في الطعام فمات؛ وهكذا ذهب أبو عفان ضحية أطماعه وفريسة تعلقه بعرش لم ينصب في قوم ألفوا حكم الجماعة المشوب بالفوضى، ولا تخلو القصة على تفاهتها من طرافة تنبئ بمطامع الاستعمار الغربي في الشرق من قديم، وتكشف القناع عن سياسي جاهلي يغري ملكا قويا بقومه ثم يعقد معه محالفة في غفلة منهم. كان ذلك حوالي سنة 520ب.م. وبعد ذلك بخمسين عاما ولد النبي
صلى الله عليه وسلم (570ب.م) وفي 610 بعث، وفي 622 هاجر من مكة إلى المدينة. وقد تدل مقارنة هذه التواريخ المتقاربة على أن فكرة أمراء كندة التي رمت إلى توحيد كلمة عرب الوسط كانت مقدمة حرية أقرب إلى الأماني التي تجول في صدور الشعوب المتطلعة إلى الحياة منها إلى الحقائق التاريخية، ولكن تلك المقدمة لم تعد الأفكار لظهور دولة يبدأ بها التاريخ الصحيح للأمة العربية؛ فقد سقطت أسرة بني كندة، وسارت الفوضى من جديد في قبائل نجد والحجاز الرحالة التي لا تستقر، وتتبع المرعى والماء أينما كانا.
وفيما عدا ذلك سادت الجزيرة إحدى السلطتين الأجنبيتين اللتين كانتا تتزاحمان على الشرق تزاحم دول أوروبا في هذا الزمان، تلكما دولة الفرس ودولة الرومان، فتغلغلتا في قلب الجزيرة العربية، ولكل منهما دويلة تؤيدها وتنشر نفوذها، فهؤلاء الغسانيون في حوران يناصرون الرومان ويؤيدون سلطة عاهل الروم ويحكمون باسمه ويتهددون بني جلدتهم بقوته وجبروته.
وهؤلاء اللخميون في الحيرة والأنبار يستندون إلى دولة الفرس ويشدون أزرهم في الجزيرة. وقد امتد هذا النفوذ وذاك التنافس بين بيزنطة وفارس إلى جنوب الجزيرة، فأوعز اليونان للحبشان أن يسطوا على الدولة الحميرية؛ وهي بقية ضئيلة من دولة السبئيين
2
526ب.م، وأعان الفرس أميرا وطنيا على طرد الأحباش 570ب.م ، ومن تلك اللحظة استتب الأمر للفرس في الجنوب، وما زالوا باليمن حتى طردهم الإسلام وطهر منهم البلاد كما طهرها من الروم وغيرهم من الجاليات والمحتلين والدخلاء، وقد أقبل القرن السادس والجزيرة تعاني الذل من الاستعمار الأجنبي من أعلاها إلى أسفلها وتمزقها الحروب الداخلية، واستمرت سلطة الأجانب إلى أن ظهر محمد - عليه الصلاة والسلام - فنشر دعوته الدينية التي انطوت على دعوة وطنية غايتها تحرير الوطن العربي والاعتراف بسيادته وسلطانه.
وإن فضل الإسلام على الجزيرة - بل على العالم كله - لفضل عظيم؛
3
لأن المهد الأصيل للإسلام، وهو الحجاز وغربي نجد، لم يقعا تحت نفوذ الغرباء وقوع الوسط والشرق والجنوب تحت سلطة الفرس واليونان وعبيدهما الغسانيين واللخميين، ولكن فكرة الإسلام في تحرير الأعناق من الرق الخاص والرق العام كانت فكرة عامة للتحرير المطلق، وقد شملت هذه الفكرة شعوب الجزيرة كلها ففكت رقابهم من ربق العبودية الأجنبية قبل أن تفك رقاب الأمم الشرقية والغربية التي قضت بضعة أجيال في الذل الروماني، ولم تكف المبادئ المسيحية الرقيقة في إنقاذها من قبضة سادتها الظالمين الذين حلوا محل الرومان واليونان وقبضوا من جديد على أعناقها المختنقة باسم الكنيسة تارة وباسم «الحق الإلهي» في الملك والدولة طورا آخر، وإذن كان العالم في القرن السابع المسيحي يريد أن يتنفس وهو يشعر بالضيق ويستثقل ضغط الكمائم، ويريد أن يشم ريحا بليلة تملأ رئاته وترفع الغشاوة عن عينيه. وقد هبت هذه الريح وجاء النور من الشرق من واد غير ذي زرع ...
ومما يؤيد قول القائلين بأن هذه الدعوة المحمدية كانت عامة للعالم أجمع أن أهل هذا النبي
صلى الله عليه وسلم
وقومه وعشيرته وقبيلته لم يكونوا بحاجة إلى هذا الإصلاح بقدر ما كان جيرانهم وأبناء وطنهم الأقربون والأبعدون. لم يكن أعراب مكة - وطن النبي
صلى الله عليه وسلم - يئنون من ظلم ولا يشكون من فقر ولا يتأففون من جهل، بل كانوا في مدينتهم التجارية الغنية بأعيادها وكعبتها وأسواقها ومواسمها وسمرها وأفراحها في بحبوحة من العيش تكاد تكون رومانية النزعة، إباحية الصبغة والمقاصد ؛ فجاء صوت النبي
صلى الله عليه وسلم
صرخة غير منتظرة ودعوة غير مرغوب فيها، وقد ألف القوم راحة ولذة الأسفار، وذاقوا طعم القوة التي يجلبها الغنى، وركنوا إلى النعمة التي يسبغ المال أذيالها على ذويه؛ فكل ما يقال عن يقظة العرب الروحية قبل البعثة المحمدية وظهور الإسلام باطل ولا مكان له من الحقيقة.
عقلية الجاهلية بين الوثنية والتوحيد
كان هبل زعيم آلهة قريش وأوثانها. زعم بعض المستشرقين مثل ويلهاوزن أن هبل ترقى حتى صار الإله الأكبر أو الله، سبحانه وتعالى علوا كبيرا عن هذا الظن الأثيم. وزعم بعضهم أن الله كان ذكرا وكانت أنثاه اللات! وهذا وهم رده علماء المشرقيات أنفسهم، ولكن قريشا كانت كلما عظمت قوتها ضمت آلهتها إلى آلهة القبائل الأخرى السابقة لها في القدم، فتشركها معا كما أشركت اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
وهذا أصل استعمال كلمة «الشرك» في الإسلام.
قلنا إنهم خصصوا لكل إله وظيفة معينة، وقد صح هذا بعد أن رحل العرب إلى مصر واليونان، ورأوا في عبادات هذين الشعبين تخصص الأرباب! ولكن مآل المذهب السابق لهذا الشرك الشرقي كان أن تحصر كل قبيلة سائر الفضائل والقوى في وثنها المعبود، فإذا حالفت قبيلة أخرى ضمت المعبودين فتآخيا تآخي القبيلتين، وحتى آلهة أعدائهم كانوا يقدسونها ويضمونها إلى حظيرة أربابهم استرضاء لها وإن كانوا لا يعبدونها! ولعلهم شعروا شعورا غامضا بالرغبة في توحيد العبادات.
وكانت هذه المعبودات حجارة وأصناما وأشجارا، ولم يكن مصدرها رسالة أو نبوة أو كتابا منزلا، إنما كان مصدرها الوراثة، فقالوا في مواطن شتى إنهم يعبدون ما وجدوا على عبادته آباءهم.
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (سورة الزخرف).
وهبل هو بل والهاء أداة التعريف باللغة الكنعانية.
كان للمصريين كتب مقدسة وأساطير وإلهام واختلاط بين الأرض والسماء، وكان اليونان يعبدون زيفس وجوبيتر وبعض الكواكب، وموضعها السماء أو العلى في قمة جبل أولمب، ولكن قريشا كانت تعبد أربابا سفلية منشؤها الأرض؛ فهي حجارة وأشجار وتهاويل؛ وإذن لم تكن لهم قبل الإسلام علاقة بالسماء، ولكن الإسلام مرتبط بملة إبراهيم، وقد جدد الصلات بالأنبياء المبعوثين إلى عاد وثمود كصالح وهود - وشعيب وإبراهيم وإسماعيل وأسعد بن معدي كرب وصاحب الأخدود - أنبياء بعثوا لبعض القبائل قبل الإسلام، بالدو والدهناء وعالج ويبرين ووبار والحجر ومدين.
ولكن العرب أساءوا إلى بعضهم وحاربوا البعض وعصوهم ونسوا تعاليمهم فمحيت من ذاكرتهم؛ وإذن كانت الديانة السماوية سابقة للأوثان، والوثنية طارئة؛ فهي نوع من الانحطاط الأدبي يصيب الأمم في عاطفتها الدينية. ويرى بعض المستشرقين غير ذلك محتجين بأن الصلة بين الحنيفية والإسلام مصطنعة غايتها تمجيد الإسلام ورفعة شأنه بنسبته إلى دين سماوي سابق، ويدعمون زعمهم بأن الرسالة السماوية أرقى من الوثنية؛ فلا يمكن أن تزول أمامها، ولكنهم نسوا أن اليهود أنفسهم بعد أن خرجوا من مصر متبعين موسى صاحب التوحيد ضلوا في عقيدتهم كما ضلوا في الصحراء، وعبدوا عجلا صنعوه تقليدا للعجل آبيس معبود مضطهديهم! فمن الممكن أن يطرأ على العرب من الضلال ما يطرأ على غيرهم، فعبدوا الأوثان بعد أن نسوا ملة إبراهيم والأنبياء ذوي الرسالة السماوية. بيد أن العرب لم يحرموا الإرشاد الآدمي؛ فكان لهم غير الأنبياء الذين ذكرهم القرآن ومن لم يذكرهم لقمان الحكيم، وقد ورد في القرآن ذكر نصائحه لولده، وإذا حق هذا القول على العرب البائدة كعاد وثمود فلا يحق على قريش، فلم يجئهم قبل محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولم ينزل عليهم قبل القرآن كتاب، والذي ثبت لدينا أن قريشا عبدت الأوثان عن أجدادها واستمرت على تلك العبادات قرونا، ثم بعث إليها بمحمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فمن الوثنية الصريحة الواضحة إلى التوحيد المطلق والتشريع الاجتماعي، شقة بعيدة ومرحلة طويلة وصدمة شديدة لم يقووا على تلقيها؛ فقد كانت عبادة قريش وثنية منحطة ومختلطة، فإذا ضربنا صفحا عن شاعر يسب صنما أو يرجمه؛ لأنه لم يفته بما أراد، رأينا بعضهم يعبد أجداده ويقدم الضحايا للموتى كما ذكر العلامة جولد زيهر في كتابيه «الإسلام» و«السنة المحمدية» (ص230، ج1) أو يضحون بأبنائهم كالإغريق (إلياذة).
وأقرب أخبارهم إلينا شروع عبد المطلب في ذبح ولده عبد الله والد النبي قبل أن يولد محمد، وفاء لنذر سابق. بل إن أكل لحوم البشر لم يكن مبغوضا لديهم بعد أن تذوقوا لحم الضواري غير ناضجة، فزعموا أن من يأكل قلب الأسد يكسب شجاعته، ولكن هندا زوجة أبي سفيان من أرقى نساء قريش في الجاهلية، وهي أم معاوية مؤسس الدولة الأموية، شرعت في أكل كبد حمزة بن عبد المطلب عم الرسول
صلى الله عليه وسلم
جهارا بعد اغتياله في موقعة أحد، ودفعت لهذا التشفي ثمنا غاليا. وأغرب من هذه الفعلة الوحشية ما يروى من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ملك زمام نفسه وكظم غيظه وبشر هندا بالجنة ما دام جزء من دم عمه الشهيد وجد سبيلا إلى جوفها! وكان بعضهم يشرب الماء والخمر ممزوجين بالدم في جماجم أعدائه مبالغة في الانتقام! فمن أين لهذه الجماعة الهمجية بالحضارة والثقافة والديانة والنثر الفني والحكمة التي اصطنعها المؤرخون الكاذبون والملحدون المقلدون.
أما ما وراء الطبيعة فكان علما غامضا في أذهان العرب؛ فكان العالم في رأيهم حافلا بالجن المتدخلين في شئون البشر يحاربونهم أو يؤاخذونهم ويوحون إليهم علوم الغيب على ألسنة الكهان كسطيح وشق، ويصاهرونهم ويؤمنون بمعتقداتهم أو يكفرون بها ويحتالون لهم أو يحتالون عليهم، وكانت عقيدتهم أن الروح البشرية عند فراق الجسد تنقلب طيرا، وما زالوا مشغولين بماهية الروح حتى سألوا عنها النبي
صلى الله عليه وسلم
فأجابهم القرآن بأنها
من أمر ربي
ولم يقتصر جهلهم على الروح بل امتد إلى الكائنات؛ فكانوا يسألون عن الشمس والقمر والنجوم، وتظهر حيرتهم أمام عظمة الكون. ويعد هذا بداية لتفتح أذهانهم لأسرار الطبيعة، فاعتقدوا أن الشمس تغرب في بئر، أو أن تنينا فاغرا فاه يبتلعها في الغروب! وما زالوا على جهلهم الميتافيزيقي والفلكي والجغرافي والطبي حتى ظنوا الشمس كسفت رحمة من الله للنبي
صلى الله عليه وسلم
على حزنه لفقد ولده إبراهيم، لولا أن صدهم - عليه الصلاة والسلام - بحديثه الشريف،
1
وما زالوا يظنون انشقاق القمر نصفين حقيقة راهنة حتى أثبت العلماء أنه قول مجازي وإشارة بليغة (وإن كانت مستورة) لحوادث التاريخ الإنساني.
وما زالوا يعتقدون في السحر الأسود والشعوذة ويقنعون بكهانة الكهان ويقصدون إليهم لفض مشاكلهم وتقسيم مواريثهم،
2
فكانوا ذوي معقولية قاصرة محدودة مضطربة، فلا عجب أن يهولهم بعض ما جاء في القرآن من النظم المحكم والعلوم الصادقة والأوامر الصارمة والنواهي الرادعة، فلم تكن عقولهم لتطيقه أو تصدقه ولو كان هو الحق من عند الله؛ لأن جرعة الإيمان كانت شديدة، وصدمة الإصلاح كانت قوية عليهم، ولكن العجب أن هذه النظم العجيبة حلت محل الفوضى، وبفضلها حل هؤلاء الأقوام محل الأمم العظيمة ونبغ منهم رجال فتحوا العالم ونسقوه ولم يستغلوه، ومدنوه ولم يستعبدوه، وكان منهم أئمة الشرائع وورثة الفاتحين والعلماء فحملوا الشعلة التي حملتها الأمم العريقة في الحضارة.
وكل ما ظنه الأدعياء وكتبه المتخيلون وجهال الملحدين عن نظم اجتماعية وحياة عقلية ونثر فني أو غير فني؛ باطل وسخيف ودليل على عدم الاستقراء والمكابرة في الحق؛ فلم يكن عند هؤلاء العرب كتاب ولا رسالة ولا قانون ولا تشريع، بل يعيشون تبعا للمصادفات وأهواء الحوادث ومطامع الأقوياء. وكل ما يسمى نظاما أو خطة مسنونة إنما سمي بهذا مجازا لأنه كان ضرورة محتمة، وقد نسخ الإسلام تسعة أعشار هذه النظم، وغير صحيح أن كانت لقريش مدنية أو حضارة بالمعنى الذي نعرفه، وغير صحيح أنهم شعروا بحاجتهم إلى عبادة أرقى من عبادتهم أو أنهم تطلعوا إلى «منقذ» كاليهود. ولو صح شيء من هذا لفرحوا بمحمد والدين القيم الذي أرسله الله، والقرآن الشريف الذي أنزل على قلبه، ولكنه لقي منهم أشد العنت وأعظم العناد وأكبر المقاومة على مدى ربع قرن تقريبا؛ فسبوه وضربوه وشجوا رأسه وقذفوه بالحجارة وأسالوا دماءه الطاهرة وتآمروا على قتله في بيته واقتفوا أثره وقاطعوه وأصحابه وأغروا على قتله وأرصدوا لمن يغتاله أو يأسره حيا مالا متعددا،
3
ولم تكن تلك العداوة لغيرتهم منه أو حسدهم إياه أو خوف سلطانه؛ فقد عرضوا عليه المال وحاولوا استهواءه بالملك والنساء فعرضوا عليه بناتهم! ولكن منشأ العداء بغضهم ما جاء به مما يصادرهم في رغباتهم، ومما كانوا في حاجة إليه ليعيشوا عيشتهم التي نشئوا عليها، ولا سيما أغنياؤهم وسادتهم رجالا ونساء شيبا وشبانا، حتى أقارب محمد
صلى الله عليه وسلم
الأقربين كأبي طالب، وهو عمه وحاضنه والوصي عليه بعد جده لم يرض ترك دين آبائه وأجداده ليدخل في الدين الجديد الذي جاء به ابن أخيه وآزره فيه علي بن أبي طالب نفسه - رضي الله عنه.
فالمعجزة في هذا الانقلاب العظيم الذي لم يسبقه ولم يلحقه مثيل في تاريخ العالم، والفضل فيه لله ورسوله ولشجاعته وثباته وبعد نظره وكبر عقله وحسن تدبيره وحذقه السياسي وطاعته المطلقة لربه، وهي مواهب جمله بها ربه كما أحسن تعليمه وتأديبه، وجهزه وأعده للقيام بأعباء هذه الرسالة العظمى. كانت سخرية امرئ القيس من ذي الخلصة حادثة فردية صدرت عن شاعر غريب الأطوار قد يكون ملحدا أو حر الفكر، ولكن سادة قريش وزعماءها كانوا يمجدون الأصنام؛ لأن عبادتها تحصر السلطة في أيديهم وتجعل بلدهم كعبة القصاد من كل فج، وتدر عليهم الخيرات تباعا مساناة ومشاهرة؛ فذهاب هذا الدين ذهاب للسلطان والمال والمصالح الاقتصادية؛ فظنوا محمدا يسعى لخراب بلادهم ليقضي
4
على حياتهم العامة والخاصة في سبيل إله لا يرونه، ثم لا يقبضون لهذا - في زعمهم - ثمنا إلا وعودا ظنوها خلابة عن جنة عدن وجنة النعيم وعاقبة المتقين والآخرة التي قيل لهم إنها خير وأولى ... إنها في نظرهم صفقة خاسرة.
5
قد يعود بعض العرب ممن سافروا إلى مصر والشام وبلاد الفرس والروم ورأوا عبادتهم بعد أن سمعوا في اليمن والشام الهزوء بالأوثان فشعروا بشيء من السخرية في دليجة أنفسهم يخلعونها على آلهتهم في مكة، ولكنهم كانوا قلة ضعيفة لا أثر لها، ولم يأتهم الشك من شعور بالحاجة إلى آلهة جديدة أو عبادة مستحدثة ذلك الشعور الباطني وهو مقدمة للإيمان، ولكنه شعور الغني الذي يخجل لقريبه الفقير، أو العالم الذي يغفل ذكر والده إن كان جاهلا؛ وإذن كانت الوثنية المكية عند ظهور الإسلام قوية مزدهرة محترمة عند ذويها، ولم تكن موضع احتقار أو ازدراء أو ضجر، بل كانت في أعلى مكانة من الاحترام والتقديس.
وإن كان امرؤ القيس قد ضرب صنما بالسهام كما يفعل بعض المجازفين لتشويه جمال المعابد في كل عصر، أو يحطم جزءا من تمثال لعظيم لفكرة عارضة تمر بعقل شاذ. وإن عاد سائح عربي من رومة أو إيران في ذهنه أثر الاستخفاف بمعبوده هبل أو يغوث، فإن الكثرة الساحقة من قريش كانت تعتقد أن هذا الإله أو ذاك قادر على جلب الخير ودفع الشر معا،
6
وكانت الكعبة والمسجد الحرام ملجأ مقدسا لمن يهدر دمه فلا يجرؤ أحد على اعتقاله أو قتله ما دام لائذا أو محتميا، ولو كان في قريش مصلحون أو حكماء كزيد بن عامر أو سعد بن المشمت، الذين كانوا يفدون الأسرى ويفكون القيود عن المساجين بمالهم، أو متعبدون يتحنثون يأبون عبادة الأصنام أو يعكفون على العبادة،
7
فهؤلاء كانوا يبطنون خلتهم ولا يدعون إلى شيء غير عبادة الأوثان سرا أو جهرا مكتفين بالخير الذي يصنعون والبذل في تخفيف الآلام مما لا يخرج عن خلة الكرم والرحمة، ولم تخل منها أمة من الأمم مهما كانت عبادتها ومهما بلغت قسوتها في الحياة (ص194، أديان العرب في الجاهلية).
فلا يمكن القول بأن قريشا قلت في قلوبهم كرامة أربابهم أو محبتها وهم يضحون لها بالأنعام والبشر، ويغدقون عليها هدايا الدر والجوهر والذهب والفضة، ويكسونها بأفخر الحرير والخز، ويعلقون على كعبتهم أغلى وأثمن ما لديهم من التحف والحلي، ويعلقون على جدرانها أبلغ ما نظموا من القصائد - وهي خلاصة مواهبهم وغاية ما وصلت إليه عقولهم وأدبهم - ثم حاربوا في سبيل الأوثان بشجاعة وثبات ودفعوا أعمار شبابهم وشيبهم في الحروب الطاحنة التي قامت بينهم وبين النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأنفقوا القناطير المقنطرة من الذهب في تجنيد الجند وحشد الجيوش لتجهيز حملتين من أعظم الحملات في تاريخهم، وهما: حملة أحد، وحملة الخندق، وأعدوا حملة ثالثة وهي حملة الحديبية، ولكن تعبئتهم انتهت بمعاهدة مشهورة، وأقاموا مناحة دهرية على قتلاهم في موقعة بدر التي حصدت فيها سيوف المسلمين فريقا كبيرا من عظماء قريش وزعمائها حتى فقدت إحدى نسائهم (هند بنت عتبة وزوجة أبي سفيان) ثلاثة من أقاربها، فقالت: «اقرنوا جملي بجمل الخنساء.» التي اشتهرت في العرب برثاء أخيها صخر. وإذن تكون تلك الخسائر والتضحيات في المال والرجال عند قوم مقتصدي المتجر، ماديي المبادئ والنزعات، تدل على شدة إيمانهم بأصنامهم وتعلقهم بأهدابها، ولم يكونوا على استعداد لتلقي ما جاء به محمد حتى روى القرآن على ألسنتهم:
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (سورة الأنفال).
العرب حول الكعبة
الكعبة بيت الله الحرام، بناء مربع وهو مقدس منذ بناه إبراهيم وإسماعيل، تؤمه الأعراب من كل فج عميق، وتحج إليه من كل ناحية وتدعو الله بالخير لأنفسهم ويدعون بالشر على أعدائهم معتقدين أن دعاءهم مستجاب في الحالتين.
1
وقد شاده نبيان من أنبياء الله، وفي صلبه حجر هبط من السماء وحوله طافت ملايين من البشر، ثم دار الزمن دورته على الكعبة فصارت حظيرتها موطنا للأصنام، ولكل صنم أسماء ومواسم وأعياد وألوان من الضحايا، ولا ريب في أن بناء الكعبة سابق لحياة تلك القبائل التي استوطنت مكة، فجاءت - وأعظمها قريش - وانتفعت بالمعبد وفرضت على أفراد القبائل ضريبة يفيدها سدنة الكعبة وأحراسها لينفقوها في شئون الحجيج والغرباء، وما هؤلاء السدنة والأحراس سوى زعماء القبيلة وسادتها من قديم؛ لأن من يخدم الأرباب يسود عابديها وهم المدينون في التزلف من الأرباب إليه، كما كان كهنة المصريين واليونان.
ولأن قليلا أو كثيرا من قوة هذه الأرباب ينتقل حتما بحكم القرب إلى الكاهن والسادن والراهب. وكانت قريش من أقوى القبائل فملكت مكة والكعبة وأربابها، وهم من نسل إبراهيم وإسماعيل وعدنان ولكنهم نسوا نسبهم ودينهم القديم.
قال الإمام علي: «إنهم نبطيون من بلدة كوثا في العراق.» وصدق علي؛ لأن زعيم أوثان قريش كان معبودا في هيت على الفرات، وكوثا بلدة على ضفته، فأطلقتها قريش على بعض أحياء مكة ؛ حفظا لذكراها.
2
وإلى جانب مهارة قريش في التجارة وحنكتهم في تدبير الأمور كانت خيبتهم مطلقة في الحرب مع الحرص على المال، وفي رأي بعض المؤرخين أن خزاعة سبقت قريشا إلى مكة في خبر طويل، ولكن قريشا كانت أقدر وأحذق في الشئون القومية والأثرة وحب المال فتغلبت على خزاعة. وما زالتا تتنازعان، إلى أن رضيت خزاعة بمكانتها الثانوية وخضعت لقريش فانتصرت واستعمرت، ولكن نعرة السلطان القديم كانت تعاود خزاعة فتستثيرها لتنتهز الفرص فتناصر خصوم قريش حتى ولو خالفوها مذهبا. وهذا لون من أحقاد القبائل، وقد ينمو في قلوب الأمم فيبيتوا على الانتقام كما يشاهد في الحضارة الحديثة.
3
وكان لمكة سيد واحد هو هشام بن المغيرة المخزومي، فلما نعي إلى أهل مكة شيعوه عن بكرة أبيهم وإن لم يكن سيدهم؛ لأن مكة كانت قرية يحكمها شيوخها وأعيانها في دار الندوة مركز السلطة البلدية، ومقر الحكومة القبلية، وغرفة التجارة المكية، ومحور السياسة الحجازية، ومقر «أركان الحرب»، ومنبر الخطباء، ومستودع الأموال، ومناخ القوافل ومعقل حلف الفضول وغيره من النظم البدائية.
وفي الكتب العربية القديمة بعض النصوص التي وجدت منقوشة في الكعبة؛ منها في مقام إبراهيم - عليه السلام:
هذا بيت الله الحرام بمكة، توكل الله برزق أهله من ثلاث سبل، مبارك لأهله في اللحم والماء واللبن، لا يحله أول من أهله.
ووجد منقوشا على حجر بخط لم تحقق نسبته، ولعله أقرب إلى المسند وخطوط ثمود الصفوية: أنا الله ذو بكة الحرام، وضعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى تزول أخشباها
4
مبارك لأهلها في اللحم والماء.
وهي نفس دعوة إبراهيم لولده إسماعيل.
قال الأزرقي (ص37): «ولكن لا نعرف أين هذا الحجر المنقوش، ولم يصل إلينا خبر إلا بالرواية عن ابن عباس، وفي رواية مثل هذه عن مجاهد، وأخرى عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد أنه حدثه أنهم وجدوا في بئر الكعبة أثناء نقضها كتابين من صفر مثل بيض النعام أحدهما نصه:
هذا بيت الله الحرام رزق الله أهله العبادة، لا يحله أول من أهله.
والآخر:
براءة لبني فلان حي من العرب من حجة حجوها.
وقيل إن بعض هذه الكتابة وجدت بالسريانية. ولا دليل لنا عليها إلا الرواية، ومعظم الرواة فيها غير ثقات، ولا سيما مجاهد.»
وروى جد الأزرقي عن عثمان بن إسحاق أنه قال: زعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
بأربعين حجة (عام الفيل) - إن كان ما ذكر لي حقا - (كذا بهذا التحفظ) منقوش فيه: «من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة، تعملون السيئات فلا تجزون الحسنات، أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب.» ا.ه.
أقول: وهذا أسلوب إنجيلي محض، ولا يبعد وجوده، أتى به صالح مسيحي وألقى به في الكعبة؛ لأن صورة العذراء والمسيح كانتا بها.
قد وصفنا الكعبة بعد تأسيسها، أما الحجر الأسود أو الأسعد (تفاؤلا) فنوع من النيازك أو الأحجار التي أدركتها الحرارة في جوف الأرض فاحترقت، وقيل (تبركا): إنه هدية جبريل إلى إبراهيم ليكون أدعى لتكريمه وتبجيله، فزعم بعض المتهجمين من علماء المشرقيات إلى القول بأنه «فتيش» أو بقية من بقايا السحر
5
الوثني، ولكن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما حطم الأصنام أبقى على هذا الحجر وتناوله وقلده الصحابة وجهر عمر برأيه، وكان يأبى استلامه لولا أن استلمه الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأصنام دخيلة على بيت الله؛ ولذا أمر الرسول
صلى الله عليه وسلم
بتحطيمها جميعا يوم الفتح، أما الحجر فقد وضعه إبراهيم في صلب البناء بيده، وأعاد النبي
صلى الله عليه وسلم
بناءه وهو شاب.
أما موضعه فهو بحيث يتمكن الرجل الوسط من استلامه لدى الطواف، وليس تقبيله فرضا ولا سنة. وكانت الكعبة قبل الإسلام تستمد قوتها من داخلها لأنه مباءة الأصنام، أما بعد الإسلام فقد أصبح خارجها أهم لأن فريضة الحج تقتضي الطواف حولها، أما فؤادها الذي كان منصب الأوثان فقد صار فارغا. وحول الكعبة أماكن قدسها الإسلام إحياء لذكرى إبراهيم، وهي الملتزم والمعجن والحجر والميزاب، والصلاة في كل منها واجبة أو مستحبة، والدعوة فيها مستجابة؛ ففي الحجر قبر هاجر وإسماعيل، والمعجن الموضع الذي اتخذه الخليل لصنع «المونة» للبناء، والملتزم مكان ركوع إبراهيم أثناء العمارة، وبعد ترى في المسجد الحرام مقام إبراهيم وزمزم، و«المقام» وهو الحجر الذي كان قائما بجوار المعجن، وقد أثرت أقدام خليل الرحمن فيه فبدت ظاهرة كأن الحجر قد استلان لقدمه، وقد نرى مثل هذا الحجر في بعض الأماكن المقدسة في مصر وغيرها، ولكن هذا الحجر يشبه فرن الخزف كما وصفه ابن جبير، وقد رآه وعليه نقوش بلغة لم يحل ألغازها، والمرجح أنها سريانية،
6
وقد أشرنا إليها، ويدعي دوزي أن النقوش بالخط الصفوي الذي كان معروفا في نجد والحجاز؛ وهو أقرب إلى الحقيقة.
ذكرنا المتحنفين في هذا الكتاب بأسمائهم وأوطانهم، ولكن هؤلاء المتحنفين لم يكونوا عشيرة واحدة، بل كانوا أفرادا، ولعل أحدهم لم يشهد الآخر ولم يعرفه، وإن عرفه فلا رابطة بينهما غير الفكرة التي يسعى كل منهم لتحقيقها في نفسه بحيث لا يتعدى سواه. وقد غضوا الطرف عن تعدد الآلهة وضربوا بعبادة الأوثان عرض الحائط وعرفوا الله واعترفوا به ربا ومعبودا واحدا؛ ولو تقليدا لليهود على الأقل الذين كانوا موحدين من عهد موسى، ولكن هذه المعرفة كانت معرفة وجدانية لا معرفة عقلية، فالاعتقاد بالله كان تسليما بإرادته واستسلاما له، وقد كانوا يحسبون للموت حسابا وللآخرة حسابا ويعتقدون في الثواب والعقاب واليوم الآخر؛ فكرهوا الدنيا وزهدوا فيها وعاشوا عيشة المتجردين من خيرات هذه الدنيا لينجوا بأنفسهم التي ملأتها فكرة الناموس والرسالة، وإذن كانت هذه العقيدة هي عقيدة إبراهيم أو دين إبراهيم الذي نزل عليه قبل بناء الكعبة وبعده.
كان المكيون قبل الإسلام يصنعون الأصنام ويبيعونها للأعراب الراغبين في شراء إله ليعبدوه في خيامهم! كما كانوا يعملون في مختلف الصناعات التي تقتضيها حياة المدن في الحرب والسلم، فكان منهم النجار والحداد والجلاد والحباك والحائك والوراق والصائغ والصيقل، ومن المتاجر الزيات والخمار والبزاز والمقرض، وقد عرفوا الضرائب الجمركية فقدروا العشور على واردات بيزنطة، ولكن عمدتهم في التمويل كله كانت على الصادرات أكثر منها على الواردات، وكانت حياتهم في تجارتهم وقوامها المواصلات والقوافل، ومكة في يد من يسيطر على وسائل النقل البري بينها وبين الشام واليمن والعراق والحبشة ومصر والأناضول والفرس.
فصارت جزيرة العرب بسبب المدينة المقدسة مركز الحركة التجارية في محيطها الشرقي؛ ولذا أثرت وأثرى أهلها وادخروا الأموال والمعادن النفيسة، وعرفوا أنواع الترف وتقلبوا في ألوان النعمة والرفاهية. روى الواقدي أن العرب استخرجوا الذهب من مناجم سليم وأحضروه إلى مكة فجعلوه حليا وادخروه سبائك. روت عائشة أن ثروة أبيها سيدنا أبي بكر بلغت أربعين ألف أوقية من الذهب، أو ألف ألف درهم؛ أي كان من أرباب الملايين،
7
وقد أنفقها في سبيل الدعوة، وكانت المنازل في مكة تقدر بالذهب، وكذلك الثياب الغالية والجياد، فمن يملك مائة وخمسين جنيها أو أربعمائة دينار يستطيع أن يشتري دارا، ومن يملك ثلاثمائة درهم يقتني فرسا من كرام الخيل؛ فهذه جماعة جاهلية قوام حياتها الذهب، تعطينا صورة صحراوية للجمهوريات الإيطالية في القرون الوسطى.
8
وروي أن بعض أعيان مكة اشتروا أنفسهم بعد موقعة بدر بأربعة آلاف درهم، وأعتقت هند بنت عبد المطلب من حر مالها أربعين رقيقا في يوم واحد. وبلغ تكريم قريش للكعبة أنهم كسوها بالحرير المذهب والمخمل الثمين والطنافس الغالية المعرقة بخيوط العسجد واللجين، وجلبوا لها الكسوة الرفيعة من اليمن ومصر
9
والشام والعراق. وملك سراتهم القصور الفخمة والحدائق الغناء في الطائف، ولا تزال حتى وقتنا هذا ذات حدائق وأعناب، وتعد فاكهتها من أجمل الثمار وأحلاها، ولما بلغت ثروتهم قمتها في الجاهلية مارسوا أعمال المصارف المالية، ومنها ما تشبه «البورصة»، وكانوا يفضلون أن يستثمروا أموالهم في تجارة الإبل والأغنام والأقمشة والمعادن والجلود والعطور والأفاويه والأصباغ والجواهر والأصواف والحرائر والحلي والحلل والأثواب المنسوجة في مدينة تنيس (الآن جزيرة خربة ببحيرة المنزلة) والبصرة ودمشق، والمصوغ المجلوب من منف وهرموبوليس، والعاج وريش النعام من الحبشة والسودان، والأخشاب الثمينة من صور وصيدا ولبنان، والقراطيس من الشام
10
ونابوليس، وقال شاعرهم الجاهلي يصف قوافلهم:
يمرون بالدهنا خفافا عبابهم
ويرجعن من دارين بجر الحقائب
وكنت ترى زعماء قريش أنفسهم وفيهم الخطيب والقائد ورئيس الندوة وسادن الكعبة ولهم صناعات ومتاجر تدر عليهم الثراء، فكان عبد الله بن جدعان صاحب الجفان الشهير «تاجر رقيق»،
11
وكان أبو سفيان زعيم قريش في الجاهلية زياتا وتاجر جلود، وكان عثمان بن طلحة صاحب مفتاح الكعبة خياطا. وإنك لتكاد تسمع أخبار أرباب الملايين في أمريكا أو أوروبا؛ فهذا فليكس فور رئيس الجمهورية الفرنسية كان دباغا، وفليكس بوتان كان بدالا ومسيو مارتل كان خمارا، وكارنجي كان ملك الزيت، وروكفلر ملك الحديد؛ وهكذا في إنجلترا معظم اللوردات والزعماء ورجال السياسة أثروا من صناعة أو تجارة، فهؤلاء المكيون في تلك الجزيرة القحلاء على جمود قرائحهم وضيق آفاقهم سبقوا الغربيين في حب المال وممارسة التجارة فلم يفدهم مالهم، ولم يغن عنهم كسبهم. بيد أن الحياة الاجتماعية للآدميين واحدة في كل زمان ومكان لا تختلف إلا ضآلة وفخامة
ما أغنى عنه ماله وما كسب (سورة المسد)، واتخذت القبائل أحكاما وعادات خاصة بها كعادات أوروبا في القرون المظلمة، فعرفوا حقوق اللاجئين وأقروها بحلف الفضول، فللقبيلة أن تحمي من ينتسب إليها أو يستجيرها،
12
وكانت عادة الأحلاف معروفة؛ فمن اتخذ له حليفا أو أخا فقد أمن غائلة الاعتداء، ومن لبس شارة معينة أمن شر الهجوم من عدو قوي، ولهذه القواعد استثناء وشذوذ؛ فبنو عامر بن لؤي لا يملكون أن يحموا غريبا إذا طلبته بنو كلب، وبنو عدي بن كعب كانوا يعدون أقل من بني عبد مناف شأنا وكان هناك نظام أشبه بنظام الطبقات يقف عقبة في طريق الزواج أو احتراف بعض الصناعات الشريفة، ومنشأ هذا النظام كفاية المصاهرة؛ ولذا كان بعضهم ينتسب إلى أمه إذا كانت أرفع أصلا من أبيه،
13
ومن مفاخرهم حماية العرض بمعنى الشرف الحديث، لا بمعنى العفة، وهو الذي قصد إليه الشاعر:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
قانون الصحراء يخضع البدو مدى الأجيال
ليست جزيرة العرب كلها صحراء قحلاء ، بل إن فيها سهولا ذات خصب دائم وأنهارا متدفقة وآبارا عميقة ومياها عذبة ونخيلا وأعنابا وأحراجا وأدغالا وبساتين وجنات وسواقي وغدرانا وأشجارا باسقة ذات أغصان وأفنان، ولكن هذه الخضرة اليانعة جد نادرة؛ فهي كالحلي تزين نحر المرأة ومعصمها، وما الواحات النادرة
1
إلا كالخضاب في يديها والكحل في عينيها، وإلى جانب ذلك الجدب وتلك البقاع الخصيبة، بل في أحضان الرخاء المشوب بالعسر وبين يدي الشح المخفف أحيانا باليسر والجود، نشأت مدن وقرى معدودة، كان لكل منها في تاريخ العالم ذكر عظيم وشأن بالغ؛ فهذه مكة أشبه الأشياء برومة القديمة، بل إن مكة في شبه جزيرة العرب كرومة في شبه جزيرة إيطاليا، وقد أوت إليها بضع قبائل بعد أن تعبت من عيشة التنقل والارتحال وتطلعت إلى السكون والاستقرار، فلجأت إلى تلك البقعة المقدسة من الأرض التي كانت وسطا بين الجدب والخصوبة ووسطا بين السهل والوعر وبين البر والبحر، ولم تستطع تلك القبائل أن تأوي إلى مكة أو بكة في أكثر من فصلين من العام هما الربيع والخريف، أما الشتاء فكانت تلك القبائل الحديثة العهد بسكنى «الجدار» تقضيه في جدة على شاطئ البحر كما كانت تقضي فصل الصيف في واحة الطائف، ولم تختر تلك القبائل الإقامة في مكة إلا لأنها كانت مدينة عريقة في قدسيتها ببناء الكعبة التي رفع دعائمها إبراهيم وإسماعيل، وسوقا زاخرة بالبضائع التي تفد عليها من أنحاء العالم كالهند وفارس والصين والشام ومصر، وبعد أن حامت القبائل حول الكعبة وطافت بذلك البيت العتيق بدأ سراتهم يبنون بيوتا بالحجارة والآجر، وقد استعمروا ذلك الوادي وهم يعلمون أنه غير ذي زرع وأنهم لن يستثمروا فيه مرعى أو زرعا يقوم بأودهم أو يغذي أبدانهم، وأن ماءه نادر وليس بالعذب، ولا اعتماد لهم إلا على ماء المطر، ولكنهم أنسوا من أنفسهم القدرة على الكسب من غير الزرع والضرع وتدربوا في الأسواق على مبادئ التجارة وهي آخر درجة في سلم الحياة الاقتصادية. ومن الغريب أن تظهر التجارة في بلد لم يتقن الزراعة ولا الصناعة وهما الخطوتان السابقتان للتجارة، ولا شك عند العلماء الآن في صدق التاريخ الذي يروي نزوح إبراهيم وزوجته هاجر وابنهما إسماعيل؛ لأن هذا العصر الدخيل على الجزيرة ساعد على نمو التجارة بعد أن أسس الكعبة وجعلها محط رحال الحجيج والزائرين من سائر الأقطار، وهو الذي يجري في عروقه حب الترف والرفاه وحب الكسب بوسائل الثبات والاستقرار والاستعمار والاستثمار لا بالارتحال والغزو. وهؤلاء العرب المتعربة هم - بلا ريب - بنو إسماعيل بن إبراهيم، وكانت لغتهم الأولى العبرانية، فلما اختلطت بالقبائل القحطانية كجرهم تعلمت العربية وسميت «مستعربة». وعندنا أن عهد إسماعيل وأمه كان عهد أمومة؛ أي سيادة المرأة في القبيلة (ماترياركا؛ أي الكفالة)، والدليل على ذلك في أخبارهم نفسها؛ فقد قيل إن «جرهم من القحطانية نزل على إسماعيل وعلى أمه بمكة المشرفة فتزوج إسماعيل منهم.» وإن اسم هذه الأم هاجر، وفيه إشارة إلى الهجرة والنزوح والارتحال، بل إن إبراهيم الخليل بعد أن غرس زرعه في وادي الحجاز عاد بعد بضع سنين يزور ابنه فلم يجده ولقي زوجته وهي إذ ذاك ذات الحول والطول، وهي التي تستطيع أن تكرم وفادة حميها المتنكر أو تضن عليه بشربة ماء، فلما سألها عن حالهما تبرمت بالحياة وأنكرت الخير وشكت له عسرها؛ فنصح لابنه في غيبته بلحن - وهو لغة رمزية يفهمها الوالد والولد - أن يبدل عتبة داره فطلقها إسماعيل أو أقصاها عن تدبير بيته في غيبته، فلما أعاد أبوه الكرة وجد وجها أقل عبوسا ورغيفا أقل يبوسا وقدحا مملوءا ماء وإناء يتدفق لبنا؛ فاستبشر بلقائها ونصح لابنه أن يثبت عتبة بيته، ودعا لهما بالبركة في الماء واللحم.
كانت حياة العرب من البدو في البادية من الجزيرة القحلاء حياة جهاد ومغامرة في سبيل الكسب، وكفاح لأجل القوت والتناسل، كانت حياة حرمان وجوع وترصد وتربص واقتناص وسلب ونهب لسد الرمق وإطفاء نار الشهوة؛
2
وهكذا تكون حياة كل بدوي رحال يتبع الماء والزرع ويجري وراء الخضرة والكلأ ويطارد المرعى وراء إبله وغنمه، وما يزال العربي كذلك يطارد الحياة في سبيل الحياة حتى يبغته الموت وما شعر يوما قط منذ مولده إلى ساعة موته بميل إلى العمل العقلي أو البحث العلمي الذي يقتضي حياة الجلوس والاستقرار. وإذا اتجهنا نحو الجانب العملي من حياة البدوي لا نجد شيئا يحركه سوى حب المرأة والحرب والشعر الغنائي، واعتلاء صهوة الجياد وتصويب السهام إلى صدور الأعداء، وحبك أطراف الشباك والحبائل لاصطياد الوحوش الضارية واتقاء أضرارها وأخطارها ودرء الطوارئ عن حريمه وعياله ... حياة معظمها مغامرة ومجازفة، والقليل منها هناءة طارئة وفرصة بالسعادة سانحة. وقد لا ينام البدوي في جو خيمته القاتم إلا ريثما تغمض عينه ويأخذ الكرى بمعاقد أجفانه، فإذا بخطر مداهم يحفزه للنهوض والدفاع عن نفسه وذويه أو دسيسة سوداء تحاك خيوطها حوله من أقرب الناس إليه (راجع تاريخ سلمى بنت عامر وزوجها أحيحة بن الجلاح في الأغاني وغيره). وإن كثيرا من الشعر العربي القديم - مثل المعلقات وديوان الحماسة - لشاهد عدل بصدق هذه الصورة التي كررنا وصفها لنظهر عظيم دهشتنا من نهضة الإسلام، الذي ظهر في هذا الجو القاتم الملبد بالأحقاد والشهوات وحب الحياة والخوف من الموت والكفاح في سبيل القوت للحيوان والإنسان والأثرة، والقوة التي بلغت حد الجنون في وأد البنات ودفن الأحياء.
ولكن المهم في كل هذا أن البدوي حافظ على نظام تلك الحياة طوال القرون من عصور قبل التاريخ إلى وقتنا هذا؛ فهو إلى اليوم يعيش في الصحراء وفي الخيام وفي سبيل الماء والمرعى كما كان يعيش آباؤه وأجداده منذ عشرات ألوف السنين؛ لأن الأحوال الجغرافية والجوية والطبيعية والبيئة الطقسية لم تتحول عما كانت عليه منذ العصور القديمة، وإن العرب الذين كانوا يعيشون في عصور بابل وآشور لا يختلف عنهم العرب الذين عاشوا في عهد محمد بقليل أو كثير؛ فالصحراء هي الصحراء والبادية هي البادية برمالها وأعاصيرها وحرها وقرها وقيظ شمسها وجمال سمائها وتلألؤ كواكبها؛ فعلى كل من يعيش فيها أن يخضع لقانونها ويشكل نفسه بحسبان طقسها، وإلا فيهلك لعدم صلاحيته؛ لأن الذي لا يطيع قانون الصحراء يعاقب بالموت على عصيانه، والذي يحاول الطاعة ويعجز عنها يدفع حياته ثمنا لعجزه عن الطاعة ... الصحراء محافظة كل المحافظة على القديم، لا تعرف التجديد ولا تألفه ولا تتبع قانون التطور والارتقاء، بل هي باقية على ما كانت عليه منذ تحولت خصوبتها جدبا وأراضيها المنزرعة آكاما وهضابا، ومنذ جفت أنهارها ونضبت عيونها ويبس أخضرها. إن خمسين قرنا في الصحراء تمر كيوم واحد، وإن الذي يريد أن يدرس حياة العرب في الجاهلية، وحياة العرب البائدة ليس في حاجة إلى النقوش والرسوم، ولا إلى الآثار المثبتة في الأحجار، إنما يكفيه أن ينظر إلى عرب هذه الأيام؛ فهم هم في مادياتهم ومعنوياتهم لم يتغيروا ولم يتبدلوا ولم يخضعوا إلا لدورة الزمن، ولا فرق بين أبناء اليوم وأجداد أمس إلا تلك الهوة السحيقة من القرون التي
3
كرت ومرت تارة بسرعة البرق، وطورا ببطء شديد، أجيال تروح وتغدو وأعمار تبدأ وأخرى تنتهي، الزمان يجري والأماكن ثابتة، وحتى الزمان نفسه يتشابه حتى يكاد الحاضر يندمج في الماضي لشدة الشبه بينهما ... وغير خاف ما فطر عليه الشرقي من حب التمسك بالقديم والمحافظة عليه، سواء أكان في البدو أو الحضر؛ فقد ضربت الأمثال بما شهده الإفرنج في بلادنا المصرية من استمرارنا على حال واحدة في استخدام أدوات الزراعة ووسائل الري التي كان يستعملها المصريون القدماء منذ ثلاثين أو أربعين قرنا! مع أن مصر في أثناء تاريخها الطويل شهدت من التطور والتحول في الحياة الاجتماعية والسياسية والمعتقدات الدينية ما لا يكاد يحصى ولكنها لم تتحول عن المحراث والشادوف والساقية والنورج والفأس والمذراة.
حلف الفضول، ودار الندوة1
وهما المؤسستان المدنيتان اللتان حاول بهما بعض أهل مكة تنظيم شئونهم في دائرتهما الضيقة. عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول، أما لو دعيت إليه اليوم (أي بعد البعثة) لأجبت! وما أحب أن لي به حمر النعم وإني نقضته.» فقد أدرك بعض العقلاء (وهم من لا يخلو منهم بلد ولا قرية) أن ما كان يقع من المظالم في الحرم، لو لم يقف الحق في سبيلها وترد الحقوق لأصحابها لسقطت هيبة الحرم في نفوس العرب واعتدي على سكان أم القرى، فتكلموا في ذلك ثم تحالفوا على نصرة المظلوم على الظالم، وسموه «حلف الفضول»؛ فكان في الحقيقة حلفا شرطيا اجتماعيا عادت فائدته على قريش خاصة وعلى عملائهم وأضيافهم عامة، فتحالفوا في شهر حرام قياما يتماسحون بأكفهم، وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة على ما يأتي:
أولا:
أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد حتى يأخذوا له بحقه، ويكونوا جميعا مع المظلوم على الظالم حتى يؤدوا له مظلمته ممن ظلمه شريفا أو وضيعا أو من غيرهم أو يبلغوا في ذلك عذرا.
ثانيا:
على أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه.
ثالثا:
على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما بل بحر صوفة وما رسى حراء وثبير مكانهما.
رابعا:
على التآسي في المعاش والتساهم بالمال.
وقد أراد الله أن لا يكون لعبد شمس - رأس بني أمية - نصيب في هذا الحلف الذي أثنى عليه النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى قال عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما انتبه إلى ما فات جده من الخير من فضل الاتصال بهذا الحلف: «لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول.» وهكذا ثبت في التاريخ عدم توفيق هذه العشيرة إلى الخير.
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يومئذ يافعا، وقد حضر المأدبة التي أقامها عبد الله بن جدعان في داره حيث عقد الحلف. أما سبب تسميته بحلف الفضول فحديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها وألا يعز ظالم مظلوما.
وهو نص البند الثاني من الحلف، وإذن كان النبي
صلى الله عليه وسلم
في سن التمييز حتى ذكر ما جرت عليه المعاهدة بعد ثلاثين عاما. وقالوا في التسمية إنها تشبه بحلف سابق لجرهم أعضاؤه الفضل بن فضالة والفضل بن وداعة والفضل بن قضاعة (ابن قتيبة). وقيل أريد به أن يكون حلفا محايدا ليتقوا غضب المطيبين
2
والأحلاف، ولكن السبب الوارد في الحديث أصح وأقرب إلى المعقول.
3
وسبب احترام الرسول هذا الحلف أنه لو قال مظلوم ذلك لأجبت؛ وذلك لأن الإسلام إنما جاء بإقامة الحق ونصرة المظلوم، فلم يزدد به هذا الحلف إلا قوة، وليس المراد بقوله - عليه السلام - وما كان من حلف في الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة، أن يقول الحليف يا لفلان! لحلفائه فيجيبوه،
4
بل الشدة في الحديث ترجع لمعنى التعاطف والتواصل.
وتبعا لهذه السنة المحمدية في احترام حلف الفضول وحسن الظن به هم الحسين بن علي بن أبي طالب بأن يهتف به في نزاع بينه وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان أمير المدينة من قبل عمه معاوية، فتحامل الوليد على الحسين في حقه لسلطانه (على عادة بني عبد شمس أعداء آل البيت)، فقال له الحسين: «احلف بالله لتنصفنني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله ثم لأدعون بحلف الفضول.» وناصره عبد الله بن الزبير والمسور بن مخرمة بن نوفل الزهري وعبد الرحمن بن عثمان التيمي. وهذا الحديث رواه صاحب الأغاني بتعديل طفيف؛ وهو أن الظالم للحسين كان معاوية نفسه! وقد هددوه بالصيلم وحلف الفضول! فقال معاوية بدهائه الشهير: «لا حاجة لنا بالصيلم
5
ولا بحلف الفضول.» وأنصف الحسين مرغما!
ومجمل القول في هذا الحلف أنه كان نوعا من الشرطة المتطوعة في صالح الجماعة، وقد تم والنبي
صلى الله عليه وسلم
في العشرين من عمره في شهر ذي القعدة عام 33ق.ه، عقيب حرب الفجار بثلاثة أشهر. وكان أول ما نفذ حلف الفضول في العاص بن وائل السلمي عندما ظلم رجلا من بني زبيد فانطلق الأحلاف إلى العاص بن وائل فقالوا: «والله لا نفارقك حتى تؤدي للزبيدي حقه!» فأعطاه حقه.
ولكنه لم يتم إلا قبيل البعثة المحمدية. وعلى الرغم من تحالف القبائل - وهم بنو هاشم وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تيم - فإن بطونا وأفخاذا من قريش لم تخضع له في كف الأذى عن المسلمين، بل إن بني عبد شمس خالفوه مخالفة صريحة ففتكوا بمن دخل في دين الله وتآمروا عليهم وأسروهم وأذلوهم وضربوهم وأخرجوهم من ديارهم وتعقبوهم في منفاهم ومهجرهم (في الحبشة والمدينة)، ولعل هذا هو السر في أنه لم يكن لعبد شمس في حلف الفضول نصيب. وإننا نميل إلى الطعن فيما نقل عن عتبة بن ربيعة من التحسر على عدم دخوله، وقد يكون واضع رواية الندم مؤرخ موال لبني أمية.
أما دار الندوة فقد بناها قصي بن كلاب، وهي أول دار بنيت بمكة وجعل بابها جهة البيت، وأمر قريشا أن يبنوا بيوتهم في الحرم حول الكعبة لتهابهم العرب، ولا تستحل قتالهم فبنوا حول البيت وجعلوا أبواب بيوتهم جهته، لكل بطن منهم باب ينسب إليه كباب بني شيبة وباب بني سهم وباب بني مخزوم وبني جمح، وتركوا قدر الطواف.
قال المبرد في الكامل (ص71، ج1): «ثم عزت قريش بعد ذلك بهذا الجوار حتى كان يقال يكفيك من قريش أنها أقرب الناس من بيت الله بيتا.»
وفي دار الندوة كان يكون أمر قريش كله وما أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما ينوبهم، حتى أن كانت الجارية تبلغ أن تدرع فما يشق درعها إلا فيها ثم ينطلق بها إلى أهلها، ولا يعقدون لواء حرب لهم ولا من قوم غيرهم إلا في دار الندوة، يعقده لهم قصي، ولا يعذر لهم غلام إلا في دار الندوة، ولا تخرج عير من قريش فيرحلون إلا منها، ولا يقدمون إلا نزلوا فيها، تشريفا لقصي وتيمنا برأيه ومعرفة بفضله، ويتبعون أمره كالدين المتبع لا يعمل بغيره في حياته وبعد موته، وفي هذا معنى تقديس الأبطال وعبادتهم.
وسميت دار الندوة لأن قريشا كانوا ينتدون فيها؛ أي يجتمعون للخير والشر (انظر طبقات ابن سعد، ص50، ج1، طبع ليدن ومصر). ومن الشر الذي اجتمعوا لأجله في دار الندوة أنه لما رأى المشركون المكيون أن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد حملوا الذراري والأطفال إلى الأوس والخزرج، خافوا خروج الرسول فاجتمعوا في دار الندوة ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجى منهم ليتشاوروا في أمره؛ فتذاكروا أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
فأشار كل رجل منهم برأي ما عدا شيخا كبيرا من أهل نجد مشتمل الصماء
6
في بت؛ كل ذلك يرده الشيخ عليهم ولا يرضاه لهم إلى أن قال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة غلاما نهدا جليدا ثم نعطيه سيفا صارما فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل
7
فلا يدري بنو عبد مناف (العشيرة الأقربون للنبي
صلى الله عليه وسلم ) بعد ذلك ما تصنع. فقال الفتى النجدي:
8 «لله در الفتى هذا! والله الرأي وإلا فلا!» فتفرقوا على ذلك وأجمعوا عليه. وسيرد تفصيل هذه المؤامرة - إن شاء الله تعالى - على حقيقتها التاريخية (انظر بعد سيرة المبعوث بالحق بطل الأنبياء وسيد العالم أبي القاسم محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
في الكتاب الثالث).
أما ما يتصل من تاريخ دار الندوة بالحروب فقد ظهر جليا في وقعتي أحد والخندق؛ فإنه لما رجع من نجا من بدر من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب موقوفة في دار الندوة، فمشت أشراف قريش إلى أبي سفيان فقالوا: «نحن طيبو أنفس أن يجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد.» فقال أبو سفيان: «وأنا أول من أجاب إلى ذلك، وبنو عبد مناف معي.» فباعوها فصارت ذهبا، فكانت ألف بعير والمال 50000 دينار، فسلم إلى أهل العير رءوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارا (مائة في المائة) وفيهم نزلت آية:
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله (سورة الأنفال).
وفي ذي القعدة سنة 5ه أجلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بني النضير - وهم يهود - فساروا إلى خيبر، فخرج نفر من أشرافهم ووجوههم إلى مكة فألبوا قريشا ودعوهم إلى الخروج إلى رسول الله وعاهدوهم وجامعوهم على قتاله، وتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب، فكانوا 4000 وعقدوا اللواء في دار الندوة وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة. وفي سنة 6ه خرج الرسول إلى العمرة فبلغ المشركين خروجه فاجتمعوا بدار الندوة وأجمع رأيهم على صده عن المسجد الحرام، وأعدوا جيشا وعسكروا ببلدح، ولم يجردوا سيفا لأن هذه التعبية انتهت بصلح الحديبية؛ وإذن تكون دار الندوة التي أسسها قصي ولم ينخرط محمد في سلك أعضائها لأنه عندما وافى على الأربعين - وهي سن الانتخاب لعضويتها - بعث للعالمين رسولا، ولم يلج بابها نائبا عن عشيرته بني عبد مناف ولا عن سواهم؛ إذن تكون تلك الدار المكية قد مثلت أدوارا مهمة في مناهضة النبي
صلى الله عليه وسلم
أثناء إقامته بمكة وبعد هجرة أصحابه وهجرته، ولكن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يجعل لها شأنا عندما دخل مكة فاتحا سنة 8ه، ولم يصدر أمرا لأحد من قواده باحتلالها أو هدمها، بل أهملها
9
وتركها يعفي عليها النسيان وتنعي من بناها ومن دخلها وتآمر فيها، ولم يكترث الرسول بعد الفتح إلا لتقرير حرمة البلدة؛ فخطب في 10 رمضان سنة 8ه فقال
صلى الله عليه وسلم : «إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض؛ فهي حرام إلى يوم القيامة، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ شاهدكم غائبكم، ولا يحل لنا من غنائمها شيء.»
وأقام بها خمس عشرة ليلة يصلي ركعتين، ثم غادرها إلى حنين لمواصلة الجهاد في سبيل دين الله.
خلال البدوي التي تجلت في الجاهلية
اشتهر العربي ابن الصحراء - أي البدوي - بالشجاعة والكرم والتقوى وحب الانتقام والأخذ بالثأر والقسوة، ويصفه بوركهارت «بالخمول العقلي ما لم يحركه الحب أو الحرب، فإذا فلت إلى قلب الحضارة فإنه يفتك بها تقتيلا وإحراقا،
1
وأن أعداء العرب يدعون أن سكان الأندلس النبلاء كانت تجري في عروقهم دماء قوطية وتيوتونية، وأن عصر الرشيد لم يزدهر إلا بفعل أسرة البرامكة التي من عباد زرادشت فنظموا في الدولة ما نظموا، فحسدهم هارون وخشي على ملكه من سطوتهم فغدر بهم وقضى عليهم.
وأن العربي عاجز عن تأسيس شيء له استقرار وثبات، ولكنه قنوع قليل المطالب محب لأهله ووطنه، سريع التأثر بهداية الرسل والأنبياء، قريب الطاعة إلى الله، يبادر إلى أوامره وينفر من نواهيه، وهو في الحالتين خاضع بذل إلى خالقه.
لكن تجد الناقد الأوروبي وإن اطمئن إلى قناعة العربي العظيم، فهو يزعم أن معنى تلك القناعة أن الدنيا لا قيمة لها، وليس فيها ما يكترث له؛ أما قناعة الأوروبي العظيم مثل عمانويل كانط فعلتها أن عقله القادر على الإحاطة بكل شيء يملك بجوهره كل شيء، ولأنه يشعر أنه قد انطوى فيه العالم الأكبر، وهذا هو الفرق بينهما.»
ولكن هؤلاء المنتقصين للأعراب وطبيعتهم ومعتقداتهم وخلالهم لا يملكون أن يقللوا من قدر شجاعة العربي حيال الموت
2
واستصغاره لشأن الكوارث التي تحل بساكن الصحراء، أو يحطوا من شأن إيمانه واستبساله في سبيل معتقده، فيستشهد في المواقع ويلقى الردى وكأنه يلهو ويلعب، وأن هذه القوة الإرادية لكأنها قوة سحرية تخلب ألباب من يشهد آثارها من الغرباء والأغيار ممن لا تجري في عروقهم دماء عربية؛ فيبقى الآري أو الحامي حيال العربي مشدوها حائرا كالطير الذي يسحره الثعبان فيفقد قدرة الطيران والتغريد، وبهذه المثابة وتلك الإرادة الخلابة والشخصية الجذابة تمكن العربي من الاستئذان على الدنيا فورد سجل التاريخ وصار قوة شعواء من قوى الطبيعة، وقذف الشعوب الأخرى بشخصيته فقبلته واتخذته واحتضنته فامتزج بها وأفاد منها أشياء ولم تفد منه شيئا؛ لأن متاع الأمم الأخرى مما يكتسب وينتحل أما متاعه فقائم بذاته ولاصق بشخصه فلا يفيد أحدا ولا يملك أن يعطي منه شيئا لأحد.
3
ولكن غاب عن ذهن هؤلاء الناقدين حدة ذكاء العربي وسمو روحه وقوة مزاجه وشدة إرادته وثقته بنفسه واقتداره على تبرير أعماله التي يقنع بصحتها وأثرته التي هي من مميزات الفردية الناضجة، وبالجملة جماع الصفات التي تشق له الطريق في سبيل الأعمال العظيمة التي تحتاج إلى الجرأة.
ولا يتردد لاسين
Lassen
في القول بأن قوة الإرادة هي أظهر صفات السامي؛ لأنها الأصل في كل أعماله. ولكن بعض العلماء يزعمون أن الإرادة توعز بالتقدم كما توعز بالتقهقر، وهي في شخصية السامي في المكان الأول، والعقل في المكان الثاني، والفهم يجيء بعدهما، ويعطل أعمال الثلاثة حب الذات والأنانية والأثرة. ولا عجب؛ فإن قوة الإرادة وحب الذات صنوان، ولا يكبح جماح الأنانية سوى رقة الشعور والفهم والفؤاد الكريم وإدراك نظام الكون والإنتاج الفني والظمأ المقدس للعلم أو فهم المعرفة أو التشوق نحو المعرفة، ولكن إذا تسلطت الإرادة وحب الذات فإن الصفات الكريمة ومواهب الجمال تبقى دفينة وتعجز عن النمو كالطفل الذي يصاب بالكساح، وتهبط الفكرة الدينية إلى مستوى التعصب، ويصير التفكير سحرا أو هواية، ويقتصر الفن على التعبير عن الحب أو البغض في الساعة التي تمر، فهي تعبير لا خلق، وينقلب العلم صناعة لا شبعا للنفس وريا لعطشها وتحرقها (انظر الكلام على الأدب الجاهلي بعده).
وما يقال عن أدب العرب في شعرهم ونثرهم يقال عن الفلسفة؛ فقد انتحلوا فلسفة الهنود الأوروبيين (الآريين)، ويفسر عجز العقل الجاهلي عن الفلسفة بأن عقولهم مشغولة بآرائهم وأفكارهم؛ كالناظر في مرآة لا يحول بصره عنها، فليس لديهم من الفراغ الذهني ما يمكنهم من الخلاص من أنفسهم ليقبضوا على الفكر الخالص أو يفرقوا - ولو مؤقتا - بين الأمور العامة والأمور الضرورية، وبين فرديتهم وما يحيق بهم من الحوادث، ومن هذه الناحية عجزوا عن فهم الطبيعة على حقيقتها، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة الدرس لتفهم قوانينها الخالدة، وإن كانت معروفة في القرآن بأنها سنة الله التي لن يجد لها الإنسان تبديلا.
فهذا الخلود وهذا الاستقرار لم يدخلا إلى العقل العربي إلا عن طريق القرآن، ولكن العربي ما زال بعيدا عن التسامح شديد التمسك بعقيدته، وإن كان القرآن عاتبهم في مواطن شتى وقال لهم:
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (سورة الحجرات)، لأن جمودهم الفكري الموروث عن الجاهلية والوثنية ما زال لاصقا بهم حتى بعد أن أسلموا في الظاهر.
وقال فردريك فون شاك: «إن جهود العرب التي خلقوا بها الأدب تحمل طابعا باطنيا؛ فهم يفضلون حياة التعبير عن روحهم ويدمجون فيها شئون الحياة الخارجية، ويأبون أن يواجهوا الحقائق أو يمثلوا الطبيعة في رسوم واضحة أو يدرسوا شخصيات الآخرين؛ ليتهيأ لهم أن يمثلوا الناس والأشياء وأوضاع الحياة بطريقة محسوسة؛ ولذا كانت صور الشعر التي تتطلب طلاق الذات والتفريق بين الشخص وأدبه وفنه أبعد ما يميلون إليه وأبغض الأشياء إلى قلوبهم» (شعر العرب ونثرهم، ج1، ص99، تأليف المستشرق سايس).
ويعد سايس من أعلم العلماء في العصر الحديث ومن أكبر حماة الجنس السامي، وهو يقول: «إذا اختار البدوي ابن الصحراء حياة الثبات والسكون فإنه يجمع بين معايب الأقوام الرحل والفلاح، فينقلب كسولا مخادعا قاسيا شرها جبانا فتعتبره أمم الأرض كأنه حثالة الجنس البشري وإذن يكون النزوح والارتحال نعمة يمن الله عليهم بها، وهذا الحكم يسري على قبائل بني إسرائيل قبل غيرها.»
مجافاة عرب الجاهلية للمساواة الديمقراطية
شخصية عنترة
لم يعرف عرب الجاهلية شيئا من الديمقراطية بالمعنى الذي نعرفه اليوم أو عرفه العالم قبل اليوم في اليونان. قال الأستاذ محمد جميل بيهم في المناهل (ص45): «كان أمامي أن أعجب بديمقراطية العرب قبل الإسلام وبعده، وأن أتطرق إلى المقابلة بينها وبين أرستقراطية الأمم العظمى المعاصرة للجاهلية، وعلى رأسها الفرس والرومان فتحملني هذه المقابلة على الفخر والمباهاة.»
وهو صادق ومصيب في ذكر ديمقراطية العرب بعد الإسلام، أما قبله فلا؛ فإن عرب الجاهلية لم يعرفوا شيئا من ذلك؛ ففي تاريخ حياة عنترة العبسي - أحد أغربة العرب
1 - أن أباه كان ينكره ولا يدعوه ابنا له أنفة منه؛ لما أنه ابن أمة، وأبقاه عنده بمنزلة العبد؛ إذ كان العرب في الجاهلية إذا ولد لأحدهم ولد من أمة استعبده، فإن نجب اعترف به وألحقه بنسبه. وفي شعر عنترة نفسه ما يدل على أن أهله وغير أهله عيروه بسواده - عن ديوانه طبع أوروبا:
تعيرني العدا بسواد جلدي
وبيض خصائلي تمحو السوادا
ومن قال عني أسود ليعيبني
أريه بفعلي أنه أكذب الناس
واتخذ من عيبه سببا للفخر نكاية في خصومه:
يعيبون لوني بالسواد جهالة
ولولا سواد الليل ما طلع الفجر
فإن كان لوني أسودا فخصائلي
بياض وكفي منه يستنزل القطر
وقال يائسا من انتسابه إلى والد:
نسبتي سيفي ورمحي وهما
يؤنساني كلما اشتد الفزع
فهذا كله يدل على تعصب الجاهلية على الألوان، كما هي الحال في جمهورية الولايات المتحدة، حتى إن اللون كان يدعو إلى تجهيل النسب وإذلال الولد الأسود، وكانت العبودية والاسترقاق مقرونين بالسواد، حتى إن العرب كانت تعني بالعبد الإنسان الأسود وإن كان حرا، ولا تعني به أنه رقيق مستعبد، وجعل العبد الحبشي (لأنه أسود) في آخر درجات السلم الاجتماعي؛ ففي حديث قدسي: «من عصاني أدخلته النار ولو كان شريفا قرشيا، ومن أطاعني أدخلته الجنة ولو كان عبدا حبشيا!» أي ولو كان ذا لون أسود، وكان عنترة من أشهر أبطال العرب وأعظم شعرائهم ومن أصحاب المعلقات، ومعلقته هي التي يقول في مطلعها:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وهي من أعف المعلقات لفظا ومعنى وأحسنها تقسيما، وإن كانت قسوة الشاعر في الحرب مجتمعة فيها إلى رقة إحساسه في الحب.
وهي التي يقول فيها:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
وقيل إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «ما وصف لي أعرابي فأحببت أن أراه إلا عنترة.» وقد توفي قبل الهجرة بثماني سنين. وقال الحطيئة لعمر بن الخطاب: «كان فارسنا عنترة، فكنا نحمل إذا حمل، ونحجم إذا أحجم.» قال عمر: صدقت.
إذن كان عنترة فارس قومه وزعيمهم ومقدمهم وباقعتهم في السياسة، وهو الذي قال: «لا أدخل موضعا لا أرى لي منه مخرجا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأنثني عليه فأقتله.» وقد قارن كاتب معاصر بينه وبين طغاة أوروبا.
2
وكان من فحول الشعراء ومنقذا لقبيلته، ولكن كل هذه المناقب لم تشفع له في سواده فعيروه به باعترافه في شعره. وكان بعض هذه الفضائل كافيا لتمجيده إذا كانت بيئته ديمقراطية، بل إن بعضها في الوقت الحاضر كفيل بتعظيم شأن أي رجل أسود أو أصفر أو أحمر! (انظر شعر عنترة وتاريخه، تأليف
Thorbeck
طبع ليبزيج سنة 1867.) ولم يقف الحال بمعيريه بسواده عند حد إنكار بنوته واستعباده ونبذه حتى يعيش من رعي الإبل، فتعدى إلى السخرية من عواطفه؛ فقد أحب ابنة عمه عبلة وهو العبد الوضيع في نظر عشيرته! فكان حبه مثيرا للهزؤ في أحياء القوم، وتركوه فقيرا لأنه كان يغشى الوغى ويعف عن المغنم، ولم يمض مع عادات القوم في النهب والسلب وهما مورد الجاهلية (راجع الأصمعي وأبا عمرو بن العلاء في قصة غرامه ووصف أخلاقه).
وقد بلغ الذل من نفس عنترة أنه لم يرو عنه في حال رقه من الشعر رديء ولا جيد؛ لأن العبودية ترين على القلب وتطفئ ضرام العواطف، فلما استلحقه أبوه وحالفه الفوز في حربه واستولى حب عبلة على قلبه جاش الشعر في صدره، ولكن هذا الاستلحاق لم يكن إلا مصطنعا في حالة الحاجة إليه - كما فعل معاوية بزياد ابن أبيه - فاستلحقه متلمسا حجة واهية! على أن عنترة لم ينسب إلى أبيه بل إلى جده. قال الكلبي: شداد جد عنترة غلب على نسبه، وهو عنترة بن عمرو بن شداد. وما أضحك ما زعموا من أن عنترة قال لأبيه: «العبد لا يحسن الكر، ولكنه يحسن الحلب والصر.» فقال له: «كر وأنت حر!» خرافات وخزعبلات وأخبار ملفقة وأسجاع منمقة وتعليلات باطلة تدور حول ما قاساه هذا البطل الأسود من جور قومه ما لا يحيط به الكلام، وكل ذنبه عندهم أنه أسود! فأين الديمقراطية والمساواة وأين دعاة الجاهلية الذين ينسبون إليها كل الفضائل من علم وأدب وخلق ورحمة وإخاء وحرية.
ولعل ما قاساه هذا البطل الأسود جعله رجلا مرعبا دأبه سفك الدماء وشن الغارات؛ لأن ما وقع عليه من العذاب بغض إليه الإنسانية؛ فتراه لما لمسه من احتقار قومه إياه وعزوف أبيه عن الاعتراف به قد اندفع إلى المعامع، عابثا بالموت راغبا عن حياة طافحة بالمكر والكره والاستبداد بالعبيد والضعفاء
3
وكلما ذاق الفرد طعم الأذى والجور تحجرت عواطفه وقسا قلبه على بني جنسه، حتى إنه ليقول:
إذا اشتغلت أهل البطانة بالكاس
وقد رشفوها بين قس وشماس
جعلت منامي تحت ظل عجاجة
وكان مدامي قحف جمجمة الراس
وهكذا جعلت قسوة الجاهلية وغشومتها ومظالمها من سيف عنترة لسانا من لهيب فنثر أشلاء قتلاه في ساحات القتال، وخلط دماء صرعاه بأنداء آلامه، وكان يشطر بضربة سيفه عدوه إلى شطرين كأن لكل من حدي سيفه شطرا، وفي ملحمته المعلقة من لحوم الضحايا وفي عظمتها من عظامهم، كأن السيف يمر ويبرق في كل قافية من قوافيها، فهو قطعة من الصحراء خلقت جبالا من الأشلاء.
وتعد قصة عنترة مصدرا جيدا لحياة الجاهلية وما كان بين قبائلها من المنازعات والمناحرات التي قضى عليها الإسلام؛ فقد كان الجاهليون فريسة التنازع والتناحر والتنافر، فقعدت بهم عن الطموح الذي حمل لواءه الإسلام، وانحصرت جهودهم في التغلب بعضهم على بعض غير آبهين لغيرهم من الأمم المجاورة، دستورهم الفرد للقبيلة والقبيلة للفرد، لا يهتمون إلا بشئون القبائل من معادية ومحالفة، كأن العرب هم العالم والعالم هو العرب! وكان أدبهم محليا محدود التخوم؛ لبعده عن الخيال والفلسفة، يدور على محور مادي واحد كوصف جمال جسم المرأة والوقوف على الطلل ووصف الناقة والفرس والخمر والسيف والرمح والثأر. ولكثرة ما انتهكت المعاني المادية وطرقها جميع الشعراء؛ لم يهتد عنترة إلى شيء جديد فاستهل معلقته بقوله المشهور: هل غادر الشعراء من متردم؟
المادية في الأدب الجاهلي وعبادة جسم المرأة والخمر والدم
وأظهر ما كانت عليه المادية في الأدب وصف المرأة العربية في الشعر الجاهلي، ومنه قول الأعشى في وداع صاحبته:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
كما استعان بريح عشرق زجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها
ولا تراها لسر الجار تختتل
وهذه صفات يدور معظمها على الطول والعرض والقامة والضخامة والتراخي ونضج الأنوثة واتخاذ الزينة، وكثيرا ما شبهوا المرأة بالبقرة ونحرها برقبة الغزال وعينيها بعيني الوعل.
لا ننكر أن الحب غريزة بشرية وعاطفة إنسانية أودعها الله - تعالى - في نفس عباده منذ ذرأهم على الأرض. وسأحدثكم عن الشعراء فيه، وعن تعبيرهم عنه وتصويرهم إياه. وأقصد بذلك إلى ما نسميه بالغزل أو النسيب ؛ وهو الشعر الذي يصف حب الرجل للمرأة. وهذا الفن من الشعر قديم في الأدب العربي قدم الأدب العربي نفسه، وقد سلك الإنسان في تعبيره عن هيامه وتغنيه بمحبوبته مسالك منوعة من البيان واستخدم من الصور والخيالات ما أوحته إليه بيئته وثقافته في عصوره المختلفة، ولا يهمنا إلا الجاهلية.
ولدينا فيما يتعلق بالأمة العربية دليل على أسبقية الغزل على سائر فنون الشعر؛ وهو أنهم منذ جاهليتهم يبدءون قصائدهم بالغزل مهما تكن أغراض تلك القصائد بعيدة عن مرح الغزل، أكبر مبرر للشعر، ولقد سنوا بذلك لمن جاء بعدهم البدء بالغزل في قصائدهم لإثارة وجدان السامع والاستيلاء على مشاعره قبل الخوض في موضوعات قصائدهم. وأعجب الأمر أن ذلك التقليد كاد يلازم جميع العصور حتى يومنا هذا؛ فلم يتحرر منه شعراء مصر إلا في السنوات الأخيرة.
1
قلت إن الغزل لون من ألوان الشعر نجده في أدب كل أمة، ولكنه يقل ويكثر نسبيا تبعا لظروف كل أمة ومؤثراتها، كما كان الشأن عند شعراء العرب قبل الإسلام. ولنلق الآن نظرة سريعة في الغزل الجاهلي.
غزل العرب في الجاهلية؛ كانت دواعي الغزل موفورة لعرب الجاهلية؛ فقد كانوا يعيشون في معظم الأحيان في خيامهم التي يقيمونها في مواضع الكلأ حيث ترعى إبلهم، وكانوا يأتون إليها من كل فج في جزيرتهم ويقيمون فيها حتى يجف الماء وينفد الكلأ، فيرتحلون إذ ذاك كل فريق في اتجاه، ويومئذ يفترق المحبون بعد طول لقاء فيتألمون للوعة الفراق ويبكون أيامهم المواضي!
ولأصور لكم الآن تلك المرأة التي فتنت ألباب الشعراء في ذلك العصر وحركت عواطفهم وأوحت إلى خيالهم ما أوحته من الوصف والابتكار، أصورها لكم كما رأيتها في شعرهم، أو على الأصح في شعر أساطينهم الذين وصلت إلينا دواوينهم من أصحاب المعلقات وأضرابهم.
2
هي امرأة طويلة سامقة، حسنة القوام بطيئة الخطى، مشرقة المحيا ساحرة العينين بهما كحل، بضة الجسم لينته، أسيلة الخد منصوصة الجيد طويلة الشعر فاحمته، تستوي على ساقين كالأنابيب الريانة ليونة وكالعاج أو الرخام بياضا، مليئة الصدر مصقولته صقل المرآة، هضيمة الكشح دقيقة الخصر ثقيلة الأرداف مليئة الذراعين رخصة الأنامل، فإذا ابتسمت ابتسمت عن أسنان بيضاء كاللؤلؤ أو كشوك السيال (وهو نبت أبيض مستطيل)، أو كالأقحوان أو كالبرد، وهي لمياء الشفتين أو لعساؤهما (أي سمراؤهما)، وريقها عذب كالخمر أحيانا وكالعسل أحيانا أخرى، وقد يكون مزيجا من الشهد والأترج والتفاح، وإذا تنفست كان لنفسها شذا طيب كأنه العطر المستخرج أو الروضة الأنف، بل إن لهذه المرأة في نفوس الشعراء، رائحة زكية عبقة تفوح من نفسها ومن أردانها ومن مقصورتها.
3
وقلما نجد هذه المرأة متحلية بأدوات من الزينة من أساور وعقود، ولا عجب؛ فقد كانت غنية بحليتها الفطرية عن التحلي، وبجمالها الطبيعي عن يد التجمل، ألم توص المرأة العربية ابنتها قبيل زفافها بقولها: «واعلمي أن أطيب الطيب الماء»؟ قلت قلما نجدها متحلية متزينة؛ فقد وجدت قليلا من وصف الحلي ولا سيما على لسان الأعشى والنابغة، ولكن لذلك سرا سأشرحه بعد.
4
هذه صورة كما ترون مادية حسية لم تتناول المرأة إلا عن طريق الحواس؛ لمسا ليدها الرخصة الناعمة، ونظرا إلى وجهها المشرق الوضاء، وشما لشذاها العبق، وتذوقا لريقها العذب، وتسمعا لصوتها الرخيم، فإذا استنفد الشاعر الجاهلي حواسه الخمس فقد استنفد مجال الوصف في محبوبته ... ولا نكاد نرى شاعرا منهم قد تعمق وراء ذلك فوصف لنا نفسية تلك المرأة، أو ثقافتها أو آمالها وآلامها! على أن هذه النزعة الحسية لم تكن مقصورة على غزل الجاهليين، بل كانت عامة في جميع شعرهم؛ فهو في جملته شعر مادي حاسي، يستمد من الحواس صوره وأخيلته، ويعكس الصورة الفطرية التي كانوا يعيشونها في أحضان الصحراء قبل أن ينبثق عليهم نور الإسلام. ولنستمع الآن إلى بعض هؤلاء الشعراء حين يصفون هذه المرأة؛ ففي قوامها وطولها يقول الأعشى - وهو أعشى قيس، وقد هلك مشركا:
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
ويراها النابغة كاملة الخلق مشربة البياض مصفرة كالغصن الطويل المتأود، وهذا الوصف منتزع من الطبيعة كعاداتهم :
صفراء كالسيراء أكمل خلقها
كالغصن في غلوائه المتأود
أما إشراق محياها فقد كان موضع مباراتهم في الوصف؛ فهي تضيء الظلام بنورها لامرئ القيس «كأنها منارة راهب متبتل»:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل
وهي في نظر طرفة كالشمس المشرقة:
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها
عليه نقي اللون لم يتخدد
5
ويرى لبيد أن ضوءها يشتد بريقه، حتى يعشى دونه البصر:
وفي الحدوج عروب غير فاحشة
ريا الروادف يعشى دونها البصر
ويشبهها العاشق، مرة بالشمس يوم تطلع، في سعد السعود:
بيضاء كالشمس وافت يوم أسعدها
لم تؤذ أهلا ولم تفحش على جار
قامت تراءى بين سجفي قبة
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
وتارة يتساءل: أيرى سنا البرق، أم وجه نعم؛ وهو اسم حبيبته:
ألمحة من سنا برق رأى بصري
أم وجه نعم بدا لي أم سنا نار
بل وجه نعم بدا والليل معتكر
فلاح من بين أثواب وأستار
وأخرى يراها مضيئة يبتهج بها غواصها، بل يسجد أمامها:
كمضيئة صدفة غواصها
بهج متى ينظر إليها يسجد
أو دمية في مرمر مرفوعة
بنيت بآجر يشاد بقرمد
فإذا كان داخل البيت؛ حيث لا يستطيع أن يتصورها شمسا أو برقا، لم يعجز عن أن يتخيلها سراج الموقد، وقد كان محجوبا:
وتخالها في البيت إذ فاجأتها
قد كان محجوبا سراج الموقد
ولا شك في أن تشبيه المرأة بالشمس والقمر والبرق وما إليها قد وصل إلينا من ذلك العهد، وما زال باقيا في شعرنا وعلى ألسنتنا إلى اليوم، حتى وصل إلى الأغاني الشعبية، بعد شعراء العصر الحديث.
6
وأما عيناها وخداها وجيدها فقد فازت بنصيب كبير من غزل الشعراء ، وقد وجدوا في الغزالة جمال العينين وطول العنق، كما وجدوا جمال العين واتساعها في المها وبقر الوحش، فحبيبة امرئ القيس حين تتدلل عليه تصد وتبدي عن خد أسيل وتتقيه بعين كعين الظبية الحنون ذات الطفل التي ترعى في وجرة:
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي
بناظرة من وحش وجرة مطفل
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش
إذا هي نصته، ولا بمعطل
أما محبوبة عنترة؛ فقد كانت أكثر حياء وخفرا، وأطول عنانا، ولعلها كانت فتاة صغيرة السن، قليلة الحيلة:
دار لآنسة غضيض طرفها
طوع العناق لذيذة المتبسم
ويرى الأعشى جيد المرأة كجيد الغزالة ولكنه يراه متحليا بالسموط والعقود
7
على طريقة نساء القبائل التي على الفطرة:
وكأن السموط علقها الس
لك بعطفي وشاح أم غزال
وهذه غدائر شعرها الأسود، قد تدلت على ظهرها، أو رفعت على رأسها، في ضفائر، وعقائص، فأنطقت المحبين بأشعار الغزل.
وشعر المرأة في كل عصر ولدى كل أمة مظهر من مظاهر جمالها، بل هو تاج الطبيعة فوق رأسها، وللشعراء فيه خيالات تختلف باختلاف بيئاتهم، ولأخرج بكم لحظة عن العصر الجاهلي بل عن الأدب العربي، ولنعرض صورتين مختلفتين لشعر المرأة في نظر شاعرين إنجليزيين؛ أحدهما: سونبرن حين يصف شعر المرأة بأنه يتدلى خيوطا كخيوط المطر الغزير في الجو المعتم، فهو يستمد من الجو المطير الذي يعيش فيه صورة لخياله. وثانيهما: روزني؛ وهو شاعر إنجليزي ينحدر من أصل إيطالي، عاش في إيطاليا وقتا طويلا ورأى فيها سنابل القمح تتهادى في الشمس المشرقة، فيصف شعر حبيبته بأنه في لونه الذهبي يشبه سنابل القمح.
8
وشعراء الجاهلية لم يزيدوا على أنهم استوحوا بيئتهم، فأمدتهم بما فيها من سرور، رسموا لنا ما كان شائعا عندهم من الطراز الفاشي في الشعر، من تصفيفه وعقصه أو إرساله خلف الظهر، ومن سواد لونه ورجالته؛ أي كونه بين السبوطة والجعودة، ووصفهم لجمال الشعر نادر لانشغالهم بما هو أجدى ...
وقد شبهه النابغة الذبياني بالفحم في لونه والنبت في أثاثته وغزارته والكرم في طوله وارتفاعه فقال:
وبفاحم رجل أثيث نبته
كالكرم مال على الدعام المسند
ويصف الأعشى فتاته بأنها ترتب بأناملها الرخصة شعرا سخاما أي أسود لينا وتفتله بعيدان الغلال:
حرة طفلة الأنامل ترت
ب سخاما تكلفه بخلال
ولعل أوضح صورة وصلتنا، عن شعر المرأة قبل الإسلام، هي التي صورها لنا امرؤ القيس، حين تحدث عن الفرع الأسود الفاحم الذي يزين الظهر ثم شبهه بقنو النخلة أي سباطتها الكثيرة العثاكيل أي الشماريخ، وقال إن ضفائره مرتفعات إلى العلا وهو غزير بعضه مرسل وبعضه مثني، وبين هذا وذاك تتيه العقائص؛ أي الخصل المجموعة:
وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا
تضل المدارى
9
في مثنى ومرسل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت
علي هضيم الكشح ريا المخجل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوب السقي المذلل
وقد أجمع هؤلاء الشعراء على أن مثلهم الأعلى في المرأة هو البضاضة ونعومة الجسم وامتلاء الصدر والذراعين ودقة الأصابع وجمالها:
تريك إذا دخلت على خلاء
وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدباء بكر
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وثديا مثل حق العاج رخصا
حصانا من أكف اللامسينا
ومتني لدنة سمقت وطالت
روادفها تنوء بما ولينا
ومأكمة يضيق الباب عنها
وكشحا قد جننت به جنونا
وساريتي بلنط أو رخام
يرن خشاش حليتها رنينا
وانظر إلى وصف النابغة للمتجردة إذ يسقط قناعها فتستر وجهها بذراعيها لبضاضتها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
بمخضب رخص كأن بنانه
عنم يكاد من اللطافة تعقد
ثارات العرب في الجاهلية
قد ساقنا حديث الديمقراطية العربية وخلو الجاهلية من آثارها ورائحتها وذكرها إلى ذكر الغزل الجاهلي وماديته وانغماس ذويه في تمجيد الجسد، كما يسوقنا ذكر تنازع القبائل وتناحرهم إلى ثارات العرب قبل الإسلام، ومن أشهرها عهد المهلهل وحرب البسوس ومقتل كليب، فإنه لما قتل التغلبي أرسل بنو تغلب وفدا إلى بني عمهم شيبان يطلبون منهم أن يسلموا إليهم جساسا قاتله ليقتلوه به، فلم يرض أبوه مرة أن يسلمه إليهم ولم يرض كذلك أن يعطيهم ولده هماما، ولا أن يسلم إليهم نفسه ليقتل في ثأر كليب
1
فرأت قبائل بكر الأخرى أن في ذلك بغيا من شيبان، فاعتزل الحارث بن عباد بطل بني بكر الحرب ومالت قبائل أخرى من بكر والنمر بن قاسط إلى نصرة تغلب فأصبحت قبائل ربيعة كلها يدا واحدة على شيبان تحت لواء مهلهل بن ربيعة للانتقام من شيبان قتلة كليب؛ لأنهم لم يرضوا بالإنصاف ولم يسلموا أحد الأكفاء منهم ليقتل في ثأر كليب، وهزمت شيبان مرة بعد الأخرى، حتى اضطرت إلى النزوح إلى أطراف القفر عند «عين واردات» وذهب المهلهل إليها هناك في جيش كبير من تغلب وحلفائها ليقضوا عليها القضاء الأخير، وحدثت هناك موقعة قتل فيها همام بن مرة صديق مهلهل، وهزمت شيبان بعد ذلك هزيمة منكرة، وقتل بعد همام، جساس من طعنة ابن أخته الهجرس بن كليب. وتوسط الحارث بن عباد بين شيبان وتغلب وأرسل ابنه بجيرا إلى المهلهل يستعطفه ويستلين قلبه للصلح بين القبيلتين ولكن المهلهل قتل بجيرا (وهو رسول سلام!) وقال: إنه قتله في ثأر شراك نعل كليب!
2
فلما علم الحارث بن عباد بمصرع ولده ووقاحة المهلهل وغشومته ثار وغضب وشارك شيبان في محاربة تغلب، وغضبت قبائل بكر الأخرى من اعتداء المهلهل فانضمت إلى شيبان وأصبحت تغلب وحدها تحارب قبائل بكر كلها متحدة، وانتصرت بكر على تغلب ففرت إلى حدود بادية العراق عند قضة فتعقبتها بكر ودحرتها وأسر المهلهل، أخذه الحارث بن عباد وهو لا يعرفه، فخدعه المهلهل ونجا بنفسه بعد أن وشى بامرئ القيس بن أبان فقتله الحارث في ثأر ولده بجير، ولما عاد المهلهل بعد الموقعة إلى قومه، وجدهم قد تغيروا عليه وكرهوا سيادته فيهم ولا سيما بعد أن ذاع نبأ خيانته امرأ القيس بن أبان.
وهكذا انتهت حلقة من حلقات الحروب في الجاهلية، وهي صورة مصغرة لما كانت عليه تلك القبائل من الفوضى والوحشية وحب الانتقام والتطاحن في سبيل الدماء، فلم يطهرها من أدرانها إلا الإسلام، فلم يكن لهم في الجاهلية إلا أن يسجلوا تلك المجازر البشرية فينظم تأبط شرا تلك القصيدة المرعبة التي تقطر دما في وصف الثأر:
إن بالشعب الذي دون سلع
لقتيلا، دمه ما يطل
خلف العبء علي وولى
أنا بالعبء له مستقل
ووراء الثأر مني ابن أخت
مصع عقدته ما تحل
مطرق يرشح سما كما أط
رق أفعى ينفث السم صل •••
فادركنا الثأر منهم ولما
ينج ملحيين إلا الأقل
فاحتسوا أنفاس نوم فلما
هوموا رعتهم فاشمعلوا
فلئن فلت هذيل شباه
لبما كان هذيلا يفل
وبما صبحها في ذراها
منه بعد القتل نهب وشل
صليت مني هذيل بخرق
لا يمل الشر حتى يملوا
ينهل الصعدة حتى إذا ما
نهلت كان لها منه عل
حلت الخمر وكانت حراما
وبلأي ما ألمت تحل
فاسقنيها يا سواد بن عمرو
إن جسمي بعد خالي خل
تضحك الضبع لقتلى هذيل
وترى الذئب لها يستهل
وعتاق الطير تغدوا بطانا
تتخطاهم فما تستقل
3
ويقول سعد بن ناشب من بني عمرو بن تميم وكان من «شياطين العرب» - وهم غير الغربان، وغير الصعاليك:
4
تفندني فيما ترى من شراستي
وشدة نفسي أم سعد وما تدري
وفي اللين ضعف والشراسة هيبة
ومن لم يهب يحمل على مركب وعر
وقال الشداخ بن يعمر الكناني، وهو الذي حكم بين خزاعة وقصي في أمر الكعبة، وقد كثر بينهما القتل، فشدخ دماء خزاعة تحت قدمه وأبطلها وقضى بالبيت لقصي، كان من حكام العرب وفحول شعرائهم، يحث خزاعة على الحرب:
قاتلي القوم يا خزاع ولا
يدخلكم من قتالهم فشل
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
وكانت نفسه جبارة وحكمه صارما كما كان نابغا في التهكم والتعريض (ص70، ج1، أسرار الحماسة للمرحوم «محب اللغة والأدب» الأستاذ سيد علي المرصفي).
وقالت امرأة من بني عامر (ص81 من المرجع نفسه):
وحرب يضج القوم من نفيانها
ضجيج الجمال الجلة الدبرات
سيتركها قوم ويصلى بحرها
بنو نسوة للثكل مصطبرات
فإن يك ظني صادقا (وهو صادقي)
بكم وبأحلام لكم صفرات
تعد فيكم جزر جزورا رماحنا
ويمسكن بالأكباد منكسرات
وقال عمرو بن شأس من بني سعد وهو يذكر الدم حتى في وصف الخمر:
وأترك ندماني يجر ثيابه
وأوحاله من غير جرح ولا سقم
ولكنها من رية بعد رية
معتقة صهباء راووقها رذم
من العانيات من مدام كأنها
مذابح غزلان يطيب بها الشم
وقال أحد شياطينهم يصف حياته وفشله في زواج امرأة كان خطبها فخوفوها منه لكثرة جرائمه وطلاب دمه:
وقالوا لها لا تنكحيه فإنه
لأول نصل أن يلاقي مجمعا
فلم تر من رأي فتيلا وحاذرت
تأيمها من لابس الليل أروعا
قليل غرار النوم أكبر همه
دم الثأر أو يلقى كميا مسفعا
يماصعه كل يشجع قومه
وما ضربه هام العدا ليشجعا
قليل ادخار الزاد إلا تعلة
فقد نشز الشرسوف والتصق المعى
يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه
ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا
على غرة أو نهزة من مكانس
أطال نزال القوم حتى تسعسعا
ومن يغر بالأعداء لا بد أنه
سيلقى بهم من مصرع الموت مصرعا
5
حتى إنهم إذا ذكروا احتمال مكارم العشق، لا يخلو شعرهم من ذكر القتل! قال حجر بن محمود من بني بكر بن وائل - وهو كمن سلفوا شاعر جاهلي:
كلبية علق الفؤاد بذكرها
ما إن تزال ترى بها أهوالا
فاقني حياءك لا أبا لك إنني
في أرض فارس موثق أحوالا
وإذا هلكت فلا تريدي عاجزا
غسا ولا برما ولا مغزالا
واستبدلي ختنا لأهلك مثله
يعطي الجزيل ويقتل الأبطالا
حتى عبد الله بن معمر بن الحارث المشهور بجميل بثينة، وإليه ينسب الهوى العذري، يقول لحبيبته باذلا دمه:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي
وهموا بقتلي يا بثين لقوني
إذا ما رأوني طالعا من ثنية
يقولون من هذا؟ وقد عرفوني
وكيف ولا توفي دماؤهم دمي
ولا مالهم ذو ندهة فيدوني
وإن المجال ليطول بنا لو شئنا أن نستشهد على انغماس هؤلاء الجاهلين في القتل والخمر والشهوات، وقد لا ينكر إلا الجاهلون جمال بعض هذا الشعر، وقوته، ولكن الناقد ينكر ما حفزهم إليه من دوافع الجفاء والقسوة وحب الاستمتاع، ولا نزاع في أنه لون من الأدب وإن كان قاتما غشوما، ولكن المرحلة الأولى في طريق نجاح الأمم هي للأدب دون غيره.
6
وذلك لأن الأدب هو ثقاف النفس وصقال الهمة ومثار كوامن العزائم، وهو المشتمل على نواحي الحياة الروحية كلها؛ فالنفس لا تتوق إلى المعالي إلا بالأدب، وهو المهماز الأعظم الذي يبعث النفس على الخبب في ميدان المجد. ومتى أوجد الأدب هذا الشوق إلى المجد نشدت الأنفس ضواله المتعددة أينما وجدتها ومن أي نوع كان؛ فكانت العلوم الكونية والمعارف الطبيعية وجميع الأسباب التي لا تترقى الأمم إلا بها، النظم والنثر والزجل والأمثال والحكم والقصص والتاريخ والأساطير وكل ما يهز النفس ويروقها ويثير فيها الوجد ويشوقها؛ هي ألوان الأدب الذي لا مناص للأمم التي تبغي العلاء وتتقي الفناء من استيفاء شروطه واستكمال أدواته حتى ترقى معارج المدنية وتتسق لها السعادة في الداخل والسيادة في الخارج، كما حدث في حضارة اليونان والرومان.
7
وقد بقي الشعر في العرب يرفع ويخفض وينصر ويخذل، وهو أدب العرب في الجاهلية إلى أن نزل الوحي على محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
فنسخ الأدب الإلهي كل أدب قبله وأقرض الأخلاق ما كان مستحسنا وأبطل ما كان من حمية الجاهلية الجهلاء، فأصبح الأدب مقيدا بالشرع فاعتدل مائله، ودجن نافره، وسلكت به المحجة الوسطى وعدل عن شعاب الانحراف، وترهات الإسراف، فسار الدين مع الدنيا رفيقين، وتجلت الأولى والعقبى توءمين. وبديهي أن أدبا أثمره الوحي وثقافا أنجبه القرآن وفصاحة غذتها فصاحة التنزيل، لمما يفوق كل أدب آخر علما وعملا (جواب أعشى قيس لعمر بن الخطاب).
وقد شهد التاريخ العام للأدب القرآني بخوارق العادة في أسلوبه وتأثيره، ولم تكن هذه الفتوحات التي دهش لها المؤرخون ومكنت الإسلام من نصف المعمورة في نصف قرن لا غيره، إلا ثمرة هذا الأدب المحمدي العالي الذي كان يفعل بالألباب فعل الشراب، وناهيك بآداب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وآله وأصحابه حملة ألويتها وعمار أنديتها:
من ذا يطاول في البلاغة أحمدا
وصحابه وأبا تراب حيدرا
المعربين إذا أرادوا خاطرا
عنه بأعذب ما يكون وأقصرا
والمانعين المسكرات وقولهم
ما خامر الألباب إلا أسكرا
نعم، إن فتوحات الصحابة لم تكن كلها بجوامع الكلم وأوابد الشعر، وكان العامل الأعظم فيها الصارم البتار، وقد يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولكن كم من كتابة أغنت عن كتيبة، وكم من قول أغنى عن صول، وكم من معركة كادت تدور الدائرة فيها على المسلمين لولا شعراؤهم وخطباؤهم وشواعرهم وأديباتهم وفرسان البيان منهم، وقد طالما لعب الشعر الحماسي أدوارا في هذه الفتوحات التي قلبت وجه العالم، وطالما منع عنهم خوف العار واتقاء الأشعار هزيمة شنعاء وداهية دهياء.
ولم تكن فائدة الشعر ومساجلات الشعراء ومحاضرات القصاصين والأدباء منحصرة في إثارة نخوة المقاتلة وتهوين الموت على الغزاة في سبيل الله، بل كان الأدب متغلغلا في كل ناحية من نواحي الحياة الإسلامية، لا يتحرك فيها متحرك ولا يسكن ساكن إلا وللشعر والخطابة والبيان هناك الأثر البليغ والعمل العميق. وما كانت نهضة العرب العلمية في القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة وتطاولهم إلى الفنون والآداب والحكمة التي كانت للأعاجم، إلا من نتائج انتشار الأدب العربي، لا سيما الأدب القرآني الذي فيه قوله العزيز:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا (سورة البقرة).
ولم تعول الدولة العباسية على ترجمة فلسفة يونان ونقل حكم فارس والهند والتبحر في العلوم العقلية والعددية والطب، وغير ذلك من الأسباب التي أسست بها هاتيك الحضارة الباهرة التي كانت الأولى من نوعها طوال القرون الوسطى، إلا بعد أن امتلأ حوضها بشعر أبي العتاهية وأبي نواس ومروان بن أبي حفصة وبشار بن برد وأبي تمام والبحتري وابن الرومي، ثم المتنبي والمعري وغيرهم من فحول الشعراء الذين كانوا يقظة في أبصار الدولة ولقاحا لخواطر الأمة وكهرباء في أعصابها، وبعد أن تدفق بحر ابن بحر الجاحظ وبهر سحر بيان ابن المقفع والصابي وابن العميد وأمثالهم من كتاب العهد العباسي.
8
ومما لا مشاحة فيه أن المدنية الراقية لا بد لها من التحقق بالعلوم الصحيحة والعمل بها والاعتماد على الحقائق الكونية والتجارب الراهنة، مما يعبر عنه اليوم بالمذهب الواقعي، ولكن الأدب هو الذي يصقل الأذهان ويشحذ القرائح، وينبه نائم العزائم ويملأ الحياة نشوة وسرورا، ويجعل للمجتمع الإنساني رونقا وبهاء، ويشق الطريق إلى المجد ويحمل وسائل الترقي والتوقي. وما كثر في الدنيا شيء إلا ابتذل، إلا الأدب، فإنه كلما كثر علا، وهو الذي يحلي صاحبه بحلية الكياسة، وهو الذي يؤمن له طريق الرياسة.
وحسبك في فضل الأدب وشرفه قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «أدبني ربي فأحسن تأديبي، ثم أمرني بمكارم الأخلاق.» فأنت ترى أن مكارم الأخلاق هي من نتائج الأدب، وكفى بذلك للأدب تكريما وتعظيما.
المجتمع الجاهلي في ضوء المباحث العلمية الحديثة
إن أهل الجاهلية لم يكن لهم إمام يجمعهم على دين ويتألفهم على رأي واحد، بل كانوا طوائف شتى وفرقا مختلفين، آراؤهم متناقضة وأديانهم متباينة وذلك الذي دعا معظمهم إلى عبادة الأصنام وطاعة الأزلام، رأيا فاسدا اعتقدوه في أن عندها خيرا، وأنها تملك لهم نفعا أو تدفع عنهم ضرا (ص12، كتاب العزلة للبستي، توفي سنة 388ه، مخطوط بدار الكتب الظاهرية بدمشق).
وفي الحديث الشريف: «من فارق الجماعة، فميتته جاهلية.» نسبة إلى هذه الفرقة التي كانوا عليها، ولم يكونوا كلهم شرارا ولا سفاحين؛ فقد كان بعضهم على نصيب من الخنوع بحكم التفرد فهو لاه بنفسه، خائف من غيره رأى أحد الثقات أعرابيا في عنقه طوق ملتو من فضة وبيده زكرة (وهو وعاء من جلد يوضع فيه الخمر ونحوه كالزق) ومعه قدح نبع (شجر تتخذ منه القسي) فتتبع أثره، فجاء نباذة له في قدح النبع ويشربه ويرجز عليه، فسلم عليه ووقف عنده فقال: «إن في خلالا ثلاثا: إن سمعت منك حديثا لا أنمه عليك، وإن تفلت في وجهي احتملت، وإن عربدت علي لم أغضب» (الأصمعي). نقول: ولو رجحنا أن هذا الأعرابي كان نصرانيا فهو يمثل لونا من الأخلاق في البادية الجاهلية، كان يسكر ويترنم بشعره في عزلة ويصرح بأنه قمين أن يؤتمن على السر ويحتمل الضيم. «ولكن قبيلة قريش التي بعث فيها محمد
صلى الله عليه وسلم
صارت أذكى من سواها وأصلح للاجتماع، وهي فرع من مضر التي كان يباهي النبي بالانتساب إليها (طبقات ابن سعد، ص21، ج2)؛ لأن دار قريش لم تزل موسم الناس في التجارة ومنسك الحاج وكانت العرب تقصد لها في كل عام لحجهم، وتردها لقضاء نسكهم، فهم لا يزالون يتأملون أحوالهم، ويراعونها فيختارون منها أحسن ما يشاهدونه، ويتكلمون بأفصح ما يسمعون من كلامهم، ويتخلقون بأحسن ما يرونه من خلالهم؛ فصاروا أميز العرب من قبل حسن الاختيار الذي هو ثمرة العقل، فلما ابتعث الله - تعالى - نبيه
صلى الله عليه وسلم
منهم تمت لهم الفضيلة وكملت به السيادة» (أبو سليمان الخطابي البستي)، ورأي أبي سليمان يفيد أنهم كانوا خيرا من غيرهم لاجتماعهم واتصالهم واختيارهم، لا لفضلهم أو زكاتهم؛ فقد راعى الله المنفعة في بعثة الرسول فيهم وأبقى الفضيلة إلى الرسالة، وهذا كله يدل على انتشار مذهب التفرد في الجماعة العربية الجاهلية قبل الإسلام؛ ولذا امتن الله عليهم بنعمة الاجتماع فقال:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا (سورة آل عمران).
1
وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم (سورة الأنفال).
وقال سبحانه:
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات (سورة آل عمران).
وفي العرب نشأت نماذج من البشر لا تكون إلا ثمرة التفرد والوحدة يسمونها شياطين العرب، كتأبط شرا وسليك. ومن طريف الحديث المناسب لهذا الوصف قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «فإن الشيطان مع الفذ.» ومن هذه النماذج ما سماه المستشرقون «الصعلوك المتفوق»؛ وهو أشبه الأشخاص بأبطال القصص الخيالي التي تمخضت عنها حياة أوروبا في القرون الوسطى كالحراس الثلاثة؛ فهو بطل الشر صاحب المغامرات والمطوحات، ومن صفاته الإقدام والصبر على الشدائد والالتذاذ بالمخاطر. وهو غير البدوي الميال للانزواء، كذلك المدمن الهادئ الطروب الذي روينا خبره. كل هذا والعربي لم يستل من بيئته ولم يسلخ من محيطه، وإن هذا العربي الذي كان مرغما على الانتساب إلى فخذ وبطن وعشيرة وقبيلة لم يكن في كل الشئون معتزا بوحدته، ولكن هذه الحاجة إلى الرفيق أو العشير كانت معدومة حتى حث عليها النبي بحديثه الشريف: «من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة.» وهذا التفرد نفسه هو الذي دعا الدارمي إلى أن يحث على التواصي بالإخاء في قوله:
أخاك أخاك إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
فالإخاء والرفقة لا تعرض صورتهما للذهن إلا فيما له صلة بالحروب والسلاح، ولعل العربي الجاهلي لم يلق من عشيرته في أكثر الأحوال ما يحبب إليه الألفة والاجتماع. اسمع إلى شعر قريط بن أنيف:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته
سواهم من جميع الناس إنسانا
وهنا نلاحظ أن العصبية غير فضيلة الاجتماع؛ لأنها غريزة شبه حيوانية تقضي ضرورة الدفاع عن كيان الفرد، وهي في الكلاب والسنانير والذئاب، دع عنك القردة العليا (ص251، ج1، كتاب تسلسل الإنسان لشارلس داروين). أما فضيلة الاجتماع التي يكون بها الإنسان إنسانا، فقد كانت مجهولة منهم حتى دعاهم الله إليها بآية تفسح أمامهم آفاق الحياة؛ لأنها تقرير لمذهب عام يشمل الإنسانية كلها، ولا يقتصر على عرب الجزيرة.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (سورة الحجرات).
فهذا الشاعر الذي يندب حظه من تراخي قبيلته في معونته يمثل فريق الناقمين على النعرة القبلية التي لا تثمر شيئا، بيد أنهم وإن عجزوا عن نجدة أحدهم في الضيق، فهم يبادرون إلى البراءة منه إن شابتهم شائبة بسببه ولا يترددون في التخلص منه، ضاربين بعلاقة القرابة عرض الحائط، كما وقع للبراض بن قيس الكناني؛ فقد كان رجلا فاتكا خليعا يجني الجنايات على أهله فخلعه قومه وتبرءوا من صنيعه ففارقهم وقدم مكة فحالف حرب بن أمية
2
ثم نبا به المقام بمكة أيضا ... (المضاف والمنسوب، ص101، ج1) والذي يتبرأ منك لثلمة في شرفه بسببك هو الذي يبادر إلى تعضيدك والهتاف لك ومشايعتك إذا رقيت درجات المجد (حديث حاتم طيء وبني لام، ص99، ج16، الأغاني)، فالدافع له في الحالتين هو المنفعة المؤكدة أو المؤملة؛ فالناجح محبوب مقبول، والخائب مبغوض مرذول.
وكان كثير من مظاهر الفضيلة فيهم مصطنعا مفتعلا مزيفا؛ فلم يطبقوا قواعد حلف الفضول على النبي
صلى الله عليه وسلم
وداسوا في حقه كل مكرمة نسبت بالزور إليهم، وهجاه رجالهم ونساؤهم، ولم يتعرض لهم أحد مع أنهم كانوا يعاقبون الهاجي بقطع لسانه (ص91، طبقات الشعراء لابن سلام).
غير أن هؤلاء الأعراب لم يكونوا يجتمعون إلا على الهجوم والدفاع، أما في السلم فالتمر واللبن والكبد والسنام والخمر التي تعتلج في الجوف والمرأة والشعر تحت الخيام، فلا علم ولا أدب ولا إحسان منظم ولا علاج في مستشفى ولا تعاون ولا جمعية خيرية ولا محاكم ولا سجون ولا إصلاحيات ولا ملاجئ للشيوخ أو الأطفال، بل يجرجر المجذوم داءه، والفقير فاقته، والجريح جرحه، والمرأة الجائعة عيالها، كما روي: فلما تهورت النجوم، إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد، فقال حاتم: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معولا إلا عليك يا أبا عدي! فقال: أعجليهم فقد أشبعهم الله. فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي بجانبها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها (العقد الفريد، ص108، ج1).
ولكن من هذا الجار الكريم؟ هو حاتم طيء أجود كرام العرب، وهو الذي طلقته امرأته ماوية لجوده (ذيل الأمالي، ص153).
وهو الذي يقول مدافعا عن أريحيته:
ولا تقولي لمال كنت مهلكه
مهلا وإن كنت أعطي السهل والجبلا
ولكن هذه الجماعة الجاهلية الشاذة، التي لم يهدها الله قبل الإسلام لمكرمة من مكارم الأخلاق، تراها دائبة على الأخذ بالثأر كأنه دين منزل أو دين واجب الأداء! فأهل الفخذ أو البطن أو القبيلة كلهم مؤاخذون بالجريمة التي يقترفها أحدهم فتقتل الجماعة لقاء الفرد فتحدث الفتن ويشيع الفتك (حرب البسوس، الكتاب الثاني ، فصل: ثارات العرب في الجاهلية)؛ ولذا يقول الله لأولي الألباب منهم:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (سورة البقرة).
فكانوا يجهلون التعاون على البر والتقوى ويعلمون المسئولية القبلية التي لا تتجزأ
Responsabilité collective
فكل فرد مسئول في الجرائم عن جماعته لأنه جزء منها، فيستشفى صاحب الدم بقتل أي فرد من قبيلة القاتل، أو يتعاون قوم القاتل على الدية.
3
ولهذه الوحشية أثر في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
فقد رفع زعماء قريش التسعة إلى أبي طالب حين طلبوا إليه أن يسلم إليهم محمدا بعمارة بن الوليد ليأخذه عوضا عنه (الأغاني، ص56، ج9)، وجعلوه فدى للرسول الذي صحت عزيمتهم على قتله، قاتلهم الله وقتلهم! ومن طريف الشرائع أن الفرنسيين يطبقون على القبائل في مستعمراتهم العربية بشمال أفريقيا (قانون المسئولية المشاعة)، فإذا أجرم عربي عوقبت القبيلة بفعله. ونسي الفرنسيون أن القرآن فيه نص صريح:
ولا تزر وازرة وزر أخرى .
وأن رعاياهم ليسوا من الجاهلية في شيء، فمن الظلم أن يعاملوا بأحكامها. وكما أنك تتصدق مدفوعا بغريزة الخوف من الفقر وأمل الوقوع على من يحسن إليك في حاجتك أو يمرضك في علتك أو يؤنسك في وحشتك، لا تعمل إحدى تلك المكارم لوجه الله بمحض الرغبة في صنع الخير. فهذه نفسها كانت الدوافع التي جعلت بعض أفراد العرب يعملون على إنقاذ الجناة أو يشتركون في الدية، رعيا منهم أن ستكون بهم حاجة إلى مثل هذه المعونة يوما ما؛ فهم يصطنعون المعروف ليوم شدة ليلقوا جزاءه يوما ما، كتهانئ الأفراح وتعزيات الموتى، هذه بتلك والبادئ أكرم! فهي لا تدل على ارتباط أو تماسك اجتماعي (انظر كتاب الدكتور بشر بن فارس، مباحث عربية، ص83). لم تكن الدماء مهدورة لديهم بوجه واحد وهو أخذ الثأر الإيجابي، بل كان هناك ثأر سلبي؛ وهو أن تقتل قاتل قريبك أو من يمت إليه بصلة ما، وتفعل ذلك مضطرا وإلا لحقك عار (انظر قصيدة تأبط شرا اللامية في ص245، ديوان الحماسة) والأشعار في الحث على الثأر لا تحصى، قال دريد بن الصمة (ص245، ديوان الحماسة لأبي تمام):
فإما ترينا لا تزال دماؤنا
لدى واتر يسعى بها آخر الدهر
فإنا للحم السيف غير نكيرة
ونلحمه حينا وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيشتفى
بنا أن أصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
فما ينقضي إلا ونحن على شطر
وكانوا يحرضون على القتل بالثأر وترك قبول الدية، وما زالت هذه الخلة الذميمة في بعض أعراب مصر يأبون أن يرفعوا أمرهم إلى الحاكم؛ بل يضللونه إذا أوشك أن يهتدي إلى المعتدي بمحض اجتهاده، وهم يعرفون أبناءهم ليقتصوا بأيديهم! (قضايا الأشراف والحميدات بمشارف قنا بصعيد مصر وغيرها من بقايا الفصائل البدوية.)
أما بناء المجتمع الجاهلي فتاريخه في ظلام حالك، ولا تخدعنا تقاسيم القبيلة إلى بطون وأفخاذ وعشائر وأحياء؛ فإن هي إلا أسماء سموها؛ لأنهم كانوا ذوي ألسنة طويلة عريضة وثروة لفظية مواتية، وقد حاول المأسوف عليه كارلو ألفونس نلينو المستشرق الإيطالي (توفي في أواخر يوليو سنة 1938 في السادسة بعد الستين بمدينة رومة) أن يستوفي البحث عن نظام القبائل العربية الجاهلية، فبحث من الوجهة التاريخية والسياسية الاجتماعية بحثا عميقا يدل على ذكاء نادر واستقامة في الحكم والتقدير، ولكنه لم يوفق في حل ألغاز تلك الجماعة التي ينسب إليها النظام تعسفا. ويقول الدكتور بشر بن فارس - وهو من تلاميذ نلينو وجود فردا ديمومبيني وغيرهما: «لا جرم أن الأمر مما يضيق به الصدر! فها نحن أولاء لا نقدر أن نفحص عن بناء العرب الاجتماعي في زمن الجاهلية»، ص49، مباحث عربية. وهذا إقرار بالحيرة بعد طول الدرس والبحث يشكر عليه قائله، فليس العالم ملزما بالعثور على حقيقة لا وجود لها، ولا مرغما على ارتجال الواقعات. ولم يجد الباحثين نظرهم في ابن خلدون أو صبح الأعشى أو الأحكام السلطانية أو الأغاني؛ «فإن وراء ذلك قليل رجاء.» وهذه الطريقة في البحث أو تلك «لا تغني شيئا قليلا.»
والواقعات المعاصرة تنقض كثيرا من النتائج المظنونة. ذكر المستشرق جوسين في كتابه عن قبيلة موآب، ص114، أن ثلاثة أحياء من قبيلة واحدة كان بعضهم على بعض حربا، حتى إذا كر العدو الغريب عليهم تحالفوا عليه وثبتوا له صفا، وفي نهاية الأمر وصل الدكتور بشر بن فارس إلى ما ذكرناه قبلا «ومن هنا يتبين أن كل فئة كانت تحيا في ذاتها وبذاتها»، ص91، الكتاب المذكور آنفا.
غير أنه وفق في الكلام على الأسرة البدوية؛ لأنها هي الحقيقة الوحيدة التي وجدت لضرورة التناسل والقوت، وهي بعد الفرد صغرى الخلايا البشرية، أو الوحدة التي لا يمكن اختزالها. وإن كان رأيه لا يزال فيها يروح ويجيء، ويدخل ويخرج ، ويقدم فكرة ويؤخر أخرى «على أني أعترف بأني أجهل هل كانت الأسرة تعدو حدود البيت في زمن الجاهلية ... والنتيجة أن كلا من الأسرة والجماعة يعصى على الحد الدقيق.» فنحن نشكره ونشيد بسعة علمه وعلو كعبه؛ لأنه أعان بمباحثه العلم الحديث على إظهار فضل القرآن والرسول
صلى الله عليه وسلم ، وهما أول من بنى الأسرة والأهل والجماعة وأسس العائلة
4
على جدران أقوى من الصخر، وأوجد الألفة والرحمة والمودة، أما في الجاهلية وحتى بعد البعثة المحمدية وقبل استكمال الدعوة، كان الرجل ينتمي إلى عشيرته الأقربين، قال هشام بن السائب عن أبيه: «لما هلك قصي قام عبد مناف واختلط بمكة رباعا
Quartiers
وعلى بني عبد مناف اقتصر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين أنزل الله:
وأنذر عشيرتك الأقربين (سورة الشعراء).
فخرج حتى علا المروة ثم قال: يا آل فهر. فجاءته قريش، فقال أبو لهب بن عبد المطلب: هذه فهر عندك. فقال: يا آل غالب. فرجع بنو محارب وبنو الحارث ابنا فهر، فقال: يا آل لؤي. فرجع بنو تيم الأردم بن غالب، فقال: يا آل كعب بن لؤي. فرجع بنو عامر بن لؤي، فقال: يا آل مرة بن كعب. فرجع بنو عدي بن كعب وبنو سهم وبنو جمح أبناء عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، فقال: يا آل كلاب بن مرة. فرجع بنو مخزوم بن يقظة بن مرة وبنو تيم بن مرة، فقال: يا آل قصي. فرجع بنو زهرة بن كلاب، فقال: يا آل عبد مناف. فرجع بنو عبد الدار بن قصي وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي وبنو عبد قصي، فقال أبو لهب: هذه بنو عبد مناف عندك فقل. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وأنتم الأقربون من قريش، وإني لا أملك لكم من الله حظا ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فأشهد بها لكم عند ربكم وتدين لكم بها العرب وتذل لكم بها العجم».» (ص53-54، ج1، طبقات ابن سعد).
حياة الجاهلية في ضوء البحوث التاريخية والاجتماعية
حياة الأمم كحياة الأفراد، عبارة عن مسابقة شاقة ينال فيها كل بحسب استعداده وعلى قدر اجتهاده. ومن حيث إننا نتكلم عن الشعوب لا على الأفراد، وعلى الوسائل التي تتوسل بها هذه الشعوب لأجل النهوض من الحضيض الأوهد إلى السنام الأمجد، كان بديهيا أن نقول إن رأس وسائل النجاح في هذه المسابقة هو العلم والأخلاق، ليس في ذلك نزاع.
ولا تكون حضارة بغير علم وأخلاق، ولا مدنية بغير أرزاق مضمونة، ومعايش مكفولة في أرض خصيبة، وأن يكون الشعب على نصيب من الذكاء والفطنة ومكارم الأخلاق والاستعداد للتقدم؛ فكان عرب الجاهلية مضرب الأمثال في الجهل والغفلة وسوء الخلق حتى وصلت أخبارهم إلى الملوك، فتحدثوا بها وأثبتوها في سجلاتهم وجبهوا بها أعيان العرب ورؤساء وفودهم في عواصمهم.
قال كسرى مخاطبا حاجب بن زرارة سيد بني تميم: «إنكم - معشر العرب - غدر، حرصاء على الفساد، فإن أذنت لهم أن يكونوا في حد بلادي حتى يعيشوا ويحيوا، أفسدوا البلاد وأغاروا على الرعية وآذوهم» (انظر بلوغ الأرب، ص123، ج1). وقال كسرى نفسه لغيلان بن سلمة الثقفي الشاعر الجاهلي: «أنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم، فما غذاؤك؟» قال: «خبز البر!» قال: «هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر» (العقد الفريد، ص175، ج1). وقال كسرى للحارث بن كلدة: «فما تصنع العرب بطبيب مع جهلها وضعف عقولها وسوء أغذيتها؟ ولو عرفت الحلم لم تنسب إلى الجهل!» فلم يعترض الحارث على تلك الصفات، بل قال: «إن كانت العرب كذلك فهي أحوج إلى من يصلح جهلها وضعف عقولها ويقيم عوجها ويسوس أبدانها ويعدل أمشاجها» (بلوغ الأرب، ص328، ج3). فهذه شهادة كسرى أعظم ملوك زمانه، بل من أعظم ملوك العالم في حق عرب الجاهلية، أداها عن خبرة.
وقد كانوا من الفاقة وسوء الحال في معظم أوقاتهم بحيث تتوالى الجدوبة والقحط على القبائل سنوات عدة حتى يكادون يهلكون وإن لم يكن الذنب في ذلك ذنبهم، غير أن الجوع والإملاق كانا يحولان بينهم وبين المدنية (نقائض جرير والفرزدق، ص462، ج1). وكانوا طغاة بغاة جناة سراقا شواذ، يقطعون الطريق ويسطون على الضعفاء ويفتخر أحدهم بالجنايات على أهله والخلاعة والفتك فيسير ذكره في القبائل ويفتخر به (انظر «فتكة البراض» في ابن الأثير، ص360، ج1) وكان معظم أدبهم أدب معدة (على حد تعبير الأستاذ أحمد أمين)؛ فقد جاء في الأغاني، ص113، ج9، أن عمة المحلق، وهو لقب عبد العزى بن حنتم بن كلاب بن ربيعة، وكان مفلسا فقالت له: «يا ابن أخي، هذا الأعشى (ميمون بن قيس أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، هلك مشركا قبل الفتح بعام) قد نزل بمائنا، وقد قراه أهل الماء، والعرب تزعم أنه لم يمدح قوما إلا رفعهم ولم يهج قوما إلا وضعهم، فانظر ما أقول لك واحتل في زق من خمر عند بعض التجار وأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردي أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردين ليقولن فيك شعرا يرفعك به.» فكان كما نصحت العمة إلى ابن أخيها، وقال أعشى قيس في المحلق بن حنتم شعرا لم يقل قط مثله، وهو الذي فيه:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق؟
وما بي من سقم وما بي معشق!
لعمري! لقد لاحت عيون كثيرة
إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق
وسار الشعر وشاع في العرب، فما أتت على المحلق سنة حتى زوج أخواته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة فأيسر وشرف (بلوغ الأرب، ص162، ج2)، والفضل في يسره وشرفه وتزويج أخواته يرجع إلى اعتلاج الكبد والسنام والخمر في جوف الأعشى! وشعر أعشى قيس في هذا المعنى من أعف الشعر؛ لأنه أدب معدة، فما بالك بشعر امرئ القيس وطرفة بن العبد؟! وهذا ليس بكثير على أمة كان القوت الضروري همها الأول، يدركها الجهد وضنك العيش حتى توالت عليها سنون تسع في الجاهلية حطمت كل شيء، فيمكث الرجل سبعا لا يطعم إلا ما يناله بعيره أو من حشرات الأرض، حتى ليشد على بطنه حجرا من الجوع (حديث غيلان بن خرشة لزياد في المحاسن والمساوئ، ص99، ج2).
أما حياتهم العقلية وحالتهم الروحية فكانت أدهى وأضل سبيلا؛ لأن عمدتهم في أعمالهم وتوجيه وجودهم كانت على الكهان والكواهن كطريفة الكاهنة في أرض سبأ (المسعودي، ص344، ج1) وعفيراء في اليمن (الأغاني، ص21، ج10) وكاهنة بني سعد في الشام وهي التي أفتت بفداء عبد الله بن عبد المطلب بمائة ناقة (ابن هشام، ص103، ج1) وسطيح الأشهر (الطبري، ص131، ج2)، وكانوا يؤمنون بالسحر الأسود وتقمص أرواح البشر في الحيوان والحشرات والعظايا (الأغاني، ص125، ج4) وسواحر الحبشة اللواتي جعلن من عمارة بن الوليد المخزومي كائنا وحشيا يرد الماء مع الوحوش ويهرب إن وجد ريح الإنس ويعتقد أنه يموت إذا لمسه البشر! وكان شعره قد غطى على كل شيء منه (الأغاني، ص56، ج9)، وهو الشاب الذي قدمته قريش ثمنا لمحمد
صلى الله عليه وسلم .
لقد كان فيهم طبيب واحد هو الحارث بن كلدة، وهو طبيب العرب في عصره، ولكنه ولد بالطائف، وهي أخصب بقعة في الحجاز، يأكل أهلها القمح والفواكه ويرون الماء والخضرة، وكان ميسورا؛ فقد سافر إلى فارس فتعلم الطب وعرف الداء والدواء وسافر إلى اليمن فتعلم الموسيقا، وكان طبه محصورا في الحمية والكي بالنار وتدبير الطعام والشراب واختيار النساء (العقد الفريد، ص341، ج4)، وكان لهم واعظ واحد ولكنه لم يكن مشركا ولا حجازيا، بل كان أسقفا في نجران (ومن هنا اسم قس)؛ فهو مسيحي، وقد وصفه بعض كتاب العرب بأنه خطيب العرب قاطبة والمضروب به المثل في البلاغة والحكمة والموعظة الحسنة، وقد يغشى المحافل العامة ومواسم الأسواق ليعظ فيها على طريقة المبشرين في هذا الزمان في «الموالد»، وقد اتخذ من ناقته الحمراء منبرا! وسمعه النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل البعثة يخطب بعكاظ فلم يحفظ شيئا من خطبته. وكلام الرجل نوع من أسجاع الكهان لا أكثر ولا أقل، ولم يؤثر عنه شيء غير خطبة عكاظ؛ لأنها شرفت باستماع النبي لها، مع أن قسا هذا عمر طويلا ومات قبيل البعثة. وكان هذا الرجل مبالغا في ذكر مصادر تعليمه؛ فقد زعموا أن ملك الروم بعث إليه فسأله عمن حملت الحكمة؟ قال: عن عدة من الفلاسفة (المحاسن والمساوئ، ص351) ولم يذكر اسم واحد منهم وهو لم يتلق شيئا إلا عن الإنجيل الذي استساغ حكمته والكهان الذين انطبع في نفسه أسلوبهم، أما ما نسب إليه من الشعر وجوامع الكلم فموضوع ومختلق، ولا سيما ما نسب إليه من الكلام في زجر الطير كقوله: «نحن معاشر العرب مولعون بزجر الطير.» لأن المولعين بزجر الطير كانوا أهل الوثنية من الحجازيين. وكانت معقوليتهم المحدودة توهمهم بأن الغراب أصدق الطير زجرا لورود ذكره في الأساطير القديمة قبل القرآن في قصة قابيل وهابيل، فإن التاريخ الديني يحدثنا بأن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب الغيرة؛ فهو أول من اقترف جريمة هووية، وما عرف كيف يواري جثة أخيه فحمله في جراب على ظهره وظل مضطربا حائرا قلق النفس ملتاع الفؤاد، وفاحت رائحة الجثة وناء قابيل بحملها، فهبطت رحمة الله إبقاء على آدم وولديه، ولا بد أن يكون الدرس الذي يتلقاه القاتل قاسيا، وما هو بأهل للوحي ولا الإلهام، بل لا بد أن يكون تلميذا للغراب، بل لغراب قاتل، يتضاءل فهمه أمام حنكة ذلك الطير الأسود والنوحي المنبوذ، فبعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما عدوه ثم حفر له بمنقاره قبرا ووارى جثته تحت التراب، فتحركت إنسانية قابيل وقال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟! والمدهش في أمر عرب الجاهلية أنهم لم يتخذوا منذرا ولا بشيرا من الطير غير الغراب الأسحم، فمنهم من يقتل حية ويعثر على كنز بفضل الغراب (نهاية الأرب، ص140، ج3).
ومنهم من يعلم نبأ زواج مخطوبته من غراب يفحص التراب بوجهه (الأغاني، ص34، ج9)!
فقلت له ماذا ترى في سوانح
وصوت غراب يفحص الوجه بالترب
فقال جرى الطير السنيح يبينها
ونادى غراب بالفراق وبالسلب
ولم نذكر هذين البيتين إلا لأنهما من شعر كثير المسكين مفتون عزة، فلما يئس منها وكان عاشقا معدما أحب ثيبا من خزاعة اسمها أم الحويرث فضحكت عليه! ومن أعظم البلاء أن هذه المعتقدات تأصلت في نفوس العرب وتغلغلت في وجدانهم حتى أدركتهم في الإسلام فلم يعرفوا كيف الخلاص منها (ديوان الحماسة، ص31، ج1) وقيل إن غرابا بشر بموت الحجاج (الفرج بعد الشدة، ص114، ج1). ولم يكن الزجر خاصا بالطير إنما هو لون منه، وأصل الزجر العيافة والتكهن، والزاجر بمثابة المنجم والساحر والمنبئ بالغيب والمتحدث عن المستقبل (المحاسن والمساوئ، ص349).
وكانت نفوسهم مشربة بالشر مولعة بالإجرام؛ فمنهم غربانهم وهم صعاليك سود الوجوه اشتهروا بالقتل وسفك الدماء (ورد ذكرهم في الكلام على عنترة) ومنهم قطاع الطرق (أهل الكنيف، ص67، كتاب الشهاب الراصد) ومنهم مشهورو العدائين والسراق (تأبط شرا وأمثاله) ومنهم خاطفو النساء بغير حرب، والخطف غير السبي؛ فإنه لما مات ليث بن مالك أخذت بنو عبس فرسه وسلبه ثم مالوا إلى خبائه فأخذوا أهله وسلبوا امرأته خماعة بنت عوف بن محلم، وكان الذي أصابها شقيان، هما عمرو بن قارب، وذؤاب بن أسماء، وكانت حياة النساء معرة على الأخلاق؛ لأنها ما زالت تستمتع بحقوق الحضانة وسلطان الأم (ماترياركا) حتى مع أفضل الرجال كما حدث لحاتم طيء مع زوجه ماوية؛ فقد لبثت عنده زمنا ورزقت منه أولادا كبارا، ولكنها كانت امرأة لعوبا فاحتال عليها ابن عم حاتم وأغراها فلم يزل بها حتى طلقت حاتما. جاء في ذيل الأمالي للقالي (ص153) ما نصه - وهو يؤيد نظرية الحضانة والأمومة: وكان النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية، وكان طلاقهن أنهن يحولن أبواب بيوتهن، إن كان الباب إلى المشرق جعلته إلى المغرب، وإن كان الباب قبل اليمن جعلته قبل الشام! فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها!
وما زال هذا الحق في الإسلام إلى يومنا هذا، فالمرأة الغنية أو القوية أو الفاجرة تحتفظ بعصمتها؛ أي حق تطليق زوجها متى شاءت. وفي الغالب أن اللواتي يطلقن أزواجهن في هذا العصر يغيرن باب الخباء قبل الطلاق بزمن طويل دون أن يلحظ الزوج المنكوب!
وكانوا أسوأ ما يحكمهم الملوك المستبدون كالنعمان بن المنذر الذي جعل لنفسه يوم نعيم ويوم بؤس ليظهر طغيانه وجبروته ويتصرف في عباد الله تصرف الخالق في مخلوقاته فيسعد ويشقي ويحيي ويميت.
حتى قال: «والله لو سنح لي في هذا اليوم القابوس (وهو ابنه) لم أجد بدا من قتله» (أمثال الميداني، ص46، ج1). فلا يجد من يحاسبه ولا من يردعه أو يزعه، فإذا خاف الرادع أو الوازع من هجاء شاعر أو سوء سمعة (لا من ضمير أو دين وعفة) احتال وغدر، كما وقع من عمرو بن هند الذي آل إليه الملك بعد قتل أبيه وقد ولي إمارة الحيرة من سنة 563-578م، في غدره بالمتلمس وابن أخته طرفة بن العبد، وقد صار حديث «صحيفة المتلمس» مثلا كصفحة من كتاب ماكيافلي، وقد ذهب ضحيتها طرفة بن العبد وهو ما زال في مقتبل العمر وميعة الشباب تغريه الآمال وتزجيه المطامع (بلوغ الأرب، ص374، ج3). وقد يحسد الملك أحد رعيته كما نفس النعمان على سعد بن مالك فصاحته وذرب لسانه فأمر وصيفه بلطمه ثلاثا، وإنما أراد أن يتعدى في القول فيقتله فهو يحرض فردا من الخاضعين لظلمه على جريمة العيب في ذاته الملكية فيعاقبه بالقتل على جناية هو الفاعل الأصيل فيها! فكان يستفزه ليبطش به (الأمثال، ص33، ج1). وهذا قليل من كثير من معرات هذه الأمة الجاهلية.
ومن الحق أيضا ومن النصفة أن نقول إن أفرادا منهم كانوا أوفياء كالسموأل، وكراما كحاتم، وأهل حلم وحكمة كالأحنف، وفصحاء كقس بن ساعدة الإيادي، ولكنهم على كل حال أفراد يعدون على الأصابع، وما وصلنا من أخبارهم مضاف إليه ومضاعف، ومعروف أن السموأل كان يهوديا أخذته نعرة الوفاء لينال صيتا؛ لأن الغدر والنفاق والكفر بالأرباب والنعم وقتل الأنبياء كانت صفات موروثة في العرب وفي الكثرة الغالبة من يهود.
وعندما تعلم أن حاجب بن زرارة رهن قوسه لأنه كفل قومه أن لا يعيثوا في أرض الفرس فسادا ثم وفى للمرتهن، فأي عجب في ذلك ولم يكن حاجب بن زرارة إلا واحدا بين ألف خانوا وغدروا وحنثوا ونكصوا على أعقابهم، وقد تجد دخلاء من أصل فارسي يعبدون النار ويحتقرون العرب ويتملقونهم بالمديح؛ فهذا عبد الله بن المقفع يسأل عن أعقل الأمم (!) فيقول منافقا متزلفا: «أصحاب إبل وغنم وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم (أسواق الذهب، ص400).»
فهذا الرجل قال في المربد وهو مألف الأشراف ونادي الأرستقراطية، وهو الذي فتح الحديث أمام شبيب بن شيبة أحد بلغاء العرب وجليس الملوك ومعه أخدان وأشباه، قال: فلما سمعنا منه هذا ضحكنا جميعا، فقال عبد الله أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة (!).
وقال عن الفرس، وهم شعبه وأمته وقومه وأهل ملته ونحلته: «إنهم ملكوا كثيرا من الأرض ووجدوا عظيما من الملك وغلبوا على كثير من الخلق ولبث فيهم عقد الأمر فما استنبطوا شيئا بعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم لأنفسهم!»
هذا الرجل الذي لا يرفقنا به إلا مصرعه في مقتبل العمر وترجمته كليلة ودمنة نشأ من أبناء الفرس بالبصرة، وكان أبوه مجوسيا، وبقي عبد الله نفسه أكثر أيامه على دين المجوسية ثم أسلم في آخر أيامه (توفي سنة 142ه، وعمره ست وثلاثون سنة، وهو سن النوابغ). أيعقل أن ينتقص قومه إلى هذا الحد؟ فينكر عليهم علومهم وآدابهم وهو بها جد عليم وفنونهم الرفيعة وسيادتهم المحكمة وتدبيرهم الواسع ولا سيما قبل الإسلام، وكان منهم من غزا آسيا وأفريقيا وبعض أوروبا، وكانت دولتهم نموذجا احتذاه العرب في سائر شئونهم.
وهو في مديحه المنثور لم يذكر رأس الخير وسيد العرب والعجم بكلمة، بل اكتفى بقوله: «حتى رفع لهم حباؤهم الفخر وبلغ بهم أشرف الذكر وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر!» زمزه يا عبد الله، ألم يملك الروم والفرس هذه الدنيا قبل العرب؟! لقد كذبت على التاريخ وعلى الحق وعلى نفسك ومستمعيك الكرام!
وتجد في غير أسواق الذهب على لسان رجل من الطائف «أن للعرب أنفسا سخية وقلوبا جرية ولغة فصيحة وألسنا بليغة وأنسابا صحيحة وأحسابا شريفة.» فيسمع كسرى هذا القول باسما؛ لأنه قد كون فكره فيهم قبل أن يسأل الرجل، إنما دعاه للسمر، وليصف له محاسن النساء (بلوغ الأرب، ص327، ج3) فيضحك كسرى حتى تختلج كتفاه، وهو أعلم بأخلاق عرب الجاهلية من مادحيهم.
كان فيهم كرام كحاتم ومعن بن زائدة، ولكن هذا الأخير لم يجد قط بعشر ماله، وقد بزه في الكرم عبد أسود تبعه ليعتقله وهو هارب من وجه الملك، فحاول معن رشوته بجوهر قيمته ألف دينار فقال له العبد: «أنا والله رجل فقير ورزقي عشرون درهما وهذا الجوهر قيمته ألف دينار وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك؛ فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كل شيء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة.» ثم رمى بالعقد إليه وخلى خطام الجمل وانصرف (نهاية الأرب، ص211، ج3). ولم يأت هذا العبد بخير مما فعل حوذي مع فيكتور هيجو وهو هارب من وجه نابوليون الثالث سنة 1851 (انظر ص4، تاريخ جريمة تأليف فيكتور هيجو) فقد خفف لحيته وأخفى وجهه بقبعة سميكة وتزيى بزي عامل وركب عربة إلى محطة الحديد وكان نابوليون وضع لرأسه ثمنا مائة ألف فرنك، فلما بلغ ترجل ودفع للحوذي الفقير أجره مضاعفا فأباه وقال: «مثلي على فقره، لا يقبل من موسيو هيجو أجرا على نقله!» فأسقط في يد الشاعر الثائر، ولكن الحوذي حياه وحث خيله على السير. فإذا كان الأسود قد أخجل معنا حتى قال: «والله فضحتني! ولسفك دمي أهون علي مما فعلت! فخذ ما دفعته إليك فإني عنه في غنى. فضحك ثم قال: أردت أن تكذبني في مقامي هذا! فوالله لا آخذه ولا آخذ لمعروف ثمنا أبدا. ومضى» فقد والله بزهما الحوذي الفرنسي وهو على شفا الجوع وبين يديه جائزة تغنيه وأحفاده، ولكن وطنيته ومروءته وشرف نفسه أبت عليه الخيانة في سبيل المال الذي رصده الإمبراطور المغتصب ثمنا لرأس الشاعر الثائر ودمه. وهذه قصة صحيحة بسند تاريخي، وقصة معن رواية أدبية حبذا لو صدق راويها!
أكان بنو إسماعيل أول من عبد الحجارة؟
في رواية بعض مؤرخي العرب وأهمهم الأزرقي أن بني إسماعيل لما خرجوا من مكة للأسباب الاقتصادية أو السياسية التي ذكرناها، احتملوا معهم من حجارة الحرم تعظيما له وصبابة بمكة وبالكعبة، حيثما حلوا وضعوا فطافوا به كالطواف بالكعبة إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، فلما خلفت الخلوف وتباعدت الأنساب نسوا ما كانوا عليه من دين إبراهيم واستبدلوا غيره به فعبدوا الأوثان، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم، ومنهم جماعة يتنسكون، وقد مزجوا بين عبادة الأوثان وبين بقايا دين إبراهيم فيحجون ويعتمرون ويقفون بعرفة والمزدلفة، وأدخلوا في هذا الدين ما ليس منه. وبعبارة أخرى صار دينهم مزيجا من بقايا دين إبراهيم وشعائر الحج ومن عبادة الأحجار والأصنام؛ فاندثرت الحنيفية شيئا فشيئا إلى أن زالت تماما، ورأى عمرو بن لحي أن يعوضهم عنها عبادة الأوثان فنصبها حول الكعبة بعد أن جلبها من خارج الجزيرة. ومن الصور الطريفة التي وصفها القصاصون واستقى منها دانتي وأمثاله أن عمرا سيكون في جهنم لابسا على رأسه فروة وهو يجر أمعاءه وراءه، ويسأله النبي
صلى الله عليه وسلم : من في النار؟ فيجيب عمرو: «من بيني وبينك من الأمم.» وهذه الصورة تدل على ابتكار العرب وقوة أخيلتهم، وقد روي فيها حديث نبوي (طبقات ابن سعد، ج1).
أسس عمرو بن لحي عبادة هبل في الكعبة، وكان ذلك المعبود الحجري صنما أجنبيا جلبه من هيت بالعراق، كما يجاء إلى بعض الأمم الأوروبية بأمراء من بلاد أجنبية يصيرون ملوكا عليها، ووضعه عمرو على البئر التي كانت في بطن الكعبة واسمها «الأخسف» وهي التي جعلها إبراهيم للهدايا التي تهدى للكعبة، وأمر عمرو أهل مكة بعبادته. فإذا أقدم الرجل من سفر بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت فيحلق رأسه عنده، فالتحليق والتقصير من المناسك القديمة التي أقرها الإسلام لأسباب صحية (انظر صلح الحديبية في سيرة ابن هشام) وكانوا عنده يستقسمون بالأزلام.
وكان عند سادن هبل في الكعبة سبعة قداح، كل قدح منها فيه كتاب: العقل، نعم، لا، منكم، ملصق، من غيركم، المياه.
وكان الأجر الذي يتقاضاه كاهن هبل أو صاحب القداح مائة درهم وجزورا؛ أي ما قيمته الآن ثلاثة أو أربعة جنيهات ، ثم يقول السادن لهبل «يا إلهنا، هذا فلان أو فلان بن فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه.» وهي صيغة وثنية مقدسة!
وبذلك فعل عبد المطلب بابنه عبد الله حين أراد أن يذبحه وفاء لنذره، وهكذا كان يفعل المصريون القدماء واليونان، أما الصنم نفسه فكان منحوتا من حجر العقيق على صورة إنسان، وكانت يده اليمنى مكسورة فأدركته قريش فجعلت له يدا من ذهب وكانت له خزانة للقربان، وقربانه مائة بعير، وكان له حاجب وسادن وكاهن؛ لأنه كان إلها ذا دخل منظم ثابت ومورد يومي لا يستهان به، ومن أناشيدهم أمام إلههم هذا لحثه على الإفتاء كما كان يفعل كهنة طيبة ودلف:
إنا اختلفنا فهب السراحا!
ثلاثة يا هبل فصاحا
الميت والعورة والنكاحا
والبرء في المرضى والصحاحا
إن لم تقله فمر القداحا!
ومن شواهد الاستقسام عند النصب قول طرفة بن العبد، وهو أحد أصحاب المعلقات وصاحب صحيفة المتلمس (بلوغ الأرب، ص374، ج3):
للفتى عقل يعيش به
حيث تهدي ساقه قدمه
أخذ الأزلام مقتسم
فأتى أغواهما زلمه
عند أنصاب لها زفر
في صعيد جمة أدمه
ولما قتل بنو أسد حجرا أبا امرئ القيس أخذ أزلامه وأتى ذا الخلصة وهو صنم آخر وكان في بيت لخثعم يدعى الكعبة اليمانية (وروى المبرد في الكامل أن موضع ذي الخلصة صار مسجدا جامعا لبلدة يقال لها العبلات، ص43، ج1.) فاستقسم امرؤ القيس فخرج له القدح الذي يكره فكسر الأزلام وضرب بها وجه الصنم وقال: «لو كان أبوك قتل ما عقتني!» ثم أنشد شعرا:
لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا
مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
1
ثم خرج فظفر ببني أسد، فلم يستقسم أحد عند ذي الخلصة بعد ذلك حتى جاء الإسلام، فكان امرؤ القيس أول من حقره وأتلف شهرته وزعزع مكانته، فأعجب لعابد يفسد صيت معبوده!
وهبل هذا هو الذي يقول له أبو سفيان يوم أحد «اعل هبل!» أي ظهر دينك! فرد عليه الرسول
صلى الله عليه وسلم : «الله أعلى وأجل!» ولكن أبا سفيان أسلم وهتف في حنين باسم الله.
وفي يوم الفتح كان لهذا الهتاف قصة؛ فإن الزبير بن العوام قال لأبي سفيان في حضرة النبي
صلى الله عليه وسلم
وكان واقفا على حطام هبل بعد أن كسر: يا أبا سفيان، قد كسر هبل، أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم عليك بالنصر! فأجاب: «دع هذا عنك يا ابن العوام، فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان!» أي إنه نسب النصر للرسول نفاقا!
2
وهذا السخف لا يستغرب ممن نزلت في حقهم الآية الشريفة:
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (سورة الأنفال).
فاعترض عليهم اليهود ووصفوهم بالغفلة لأنهم لم يطلبوا الهداية إلى الحق من عنده بعد أن سلموا - ولو جدلا - أن يكون هو الحق، ولكنهم يفضلون عليه الحجارة والعذاب الأليم؛ حبا بما هم عليه من الإباحية والفسوق، وكرها بمحمد - عليه الصلاة والسلام - وهو الذي جعل من عربدتهم حضارة ومن أجلافهم وحفاتهم ملوكا على الأرض.
لقد غاظ قريشا ظنهم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
جعل آلهتهم من الجن، وفي خبر طويل ما يؤيد هذه الفكرة، وإن كانت قصة طريفة فإنه لما كسرت الأصنام كسر إساف ونائلة، فخرجت من أحدهما امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها عريانة ناشرة الشعر تدعو بالويل، وقيل مثل هذا عن العزى
3
فقيل في ذلك: «تلك نايلة قد أيست أن تعبد ببلادكم أبدا.» وكانت اللات والعزى ومناة في كل واحدة منهن شيطانة تكلمهم ويراهن السدنة عيانا، وذلك صنع إبليس (ص75، ج1، تاريخ مكة للأزرقي، وأديان الجاهلية للجارم، وغيرهما).
وهذه القصة تؤيد زعم قريش أن النبي
صلى الله عليه وسلم
جعل أربابهم من أحقر الجن. وأصل الرأي أن السدنة والكهنة كانوا يحسنون السبك والتمويه لترويج حرفتهم، فادعوا أن حجارة الأصنام مسكونة بروح قدسي هو الذي يسمع ويجيب، فأريد تحويل الرأي عن قدسية الأصنام، بأن سكانها من الجنيات أو الأرواح الشريرة المجنونة.
وقد فشت عبادة الأصنام في البادية وفي القرية المكية، فما من رجل من قريش إلا في بيته صنم إذا دخل يمسحه وإذا خرج يمسحه تبركا به! وكانت البدو تشتري الأصنام من مكة فيخرجون بهم إلى بيوتهم في البادية، وإن أعوزتهم بالوا على الرمل وصوروا صنما!
وكان عكرمة بن أبي جهل حين أسلم لا يسمع بصنم في بيت من قريش إلا مشى إليه حتى يكسره، ولما أسلمت هند بنت عتبة - وهي أم معاوية - جعلت (خلة النساء في الغضب الثورة على ما لا يعقل) تضرب صنمها الذي كانت تعبده في بيتها بالقدوم فلذة فلذة وهي تقول: «كنا منك في غرور!» وهي لا تقصد بذلك إلا أن دخول محمد
صلى الله عليه وسلم
مكة فاتحا وإرغامها على الإسلام أقنعاها بأن صنمها لم يغن عنها شيئا، بل إن أصنام الكعبة كلها لم تدافع عن حوضها فدخلها المسلمون ظافرين،. وهند هذه هي التي حرضت على قتل حمزة بن عبد المطلب في موقعة أحد واستأجرت حبشيا لاغتياله، ودفعت مصوغها وحليها ثمنا لدمه، فلما ظفرت بجثته أثناء الموقعة شقت عن كبده وأنشبت فيها مخالبها وأكلتها تشفيا، ثم لفظتها، وكانت امرأة مصابة في أعصابها شديدة الغل تشتعل بالغضب لأهون سبب، قوية الغرائز حتى المرض، ولم تكن تقل عن حمالة الحطب شرا وسوء مغبة (انظر عداوة بني أمية لبني هاشم، ص213، ج5، أسد الغابة).
وكان من سدنة العزى أثناء مبعث الرسول
صلى الله عليه وسلم
أفلح بن النضر السلمي من بني سليم، فلما حضرته الوفاة دخل عليه أبو لهب يعوده وقال له ما لي أراك حزينا؟! (هذا لا ينافي أن ديبة بن حرمي الشيباني كان سادنها) قال: «أخاف أن تضيع العزى من بعدي!» فما أعجب هذا الخوف من عابد على معبود! فقال أبو لهب: «لا تحزن؛ فأنا أقوم عليها بعدك.» وجعل أبو لهب يقول لكل من لقي، وقد كان ثرثارا فوق كونه منافقا وحقودا وفاسقا مفضوحا: «إن تظهر العزى كنت قد اتخذت عندها يدا بقيامي عليها، وإن يظهر محمد
صلى الله عليه وسلم
على العزى (وما أراه يظهر) فابن أخي.» وهكذا أمسك الخبيث العصا من نصفها كالمتشيعين للأحزاب السياسية في هذا الزمان، ولكن خالد بن الوليد هدم العزى بأمر الرسول
صلى الله عليه وسلم
ولم يظفر أبو لهب بخدمتها، كما أنه لم يفد شيئا من قرابته للرسول
صلى الله عليه وسلم
غير جهنم!
وقد تأصلت الوثنية في نفوس العرب وتغلغلت في أفئدتهم حتى إن بعضهم كان يحن في الإسلام إلى مظاهر الحياة الوثنية وما يلازمها من أعياد وسمر وحفلات وذبائح وإباحة؛ وذلك لحداثة عهدهم بالدين الجديد. روي عن أبي واقد الليثي - وهو الحارث بن مالك - أنه كان يسير في صحبة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى حنين، وكانت لكفار قريش وسواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها «ذات أنواط» يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون لديها يوما، فرأى الحارث بن مالك ومن معه شجرة عظيمة خضراء، فقالوا للرسول: «يا رسول الله، اجعل لنا «ذات أنواط » كما لهم «ذات أنواط».» وهذه الرغبة الجنونية وحدها تدل على حقارة عقولهم.
فقال الرسول غاضبا: الله أكبر! الله أكبر! قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة! إنكم قوم تجهلون - الآية - إنها السنن، سنن من كان قبلكم.»
وإن هؤلاء الذين حنوا إلى الوثنية يقولون «كما لهم ذات أنواط» وهم يعلمون أن الإسلام قد محا كل هذه المظاهر وحطم الأصنام، فما بالك لو أبقى عليها كما أبقى على الحجر الأسود وقد تردد عمر في استلامه!
وهذه الأخرى قذى في عين الذين يزعمون أن عرب الجاهلية كانوا ذوي ثقافة وحضارة وتدبير ورفعة في التفكير؛ فها هو بعضهم بعد أن خرجوا من ظلمات الوثنية إلى نور التوحيد يودون لو رجعوا إلى كهوف الكفر والغفلة وأن تكون لهم أشجار يعبدونها!
وليس هنا مجال القول في الأصنام ومن حطمها، ولكن نورده على سبيل المثال، فإن خالد بن الوليد حطم العزى وهي واحدة من الثالوث المقدس، وحطم الطفيل بن عمرو الدوسي «ذا الكفين» وهو صنم بني منهب بن دوس، وحطم سعيد بن عبيد الأشهلي مناة بالمشلل، كما كسر عمرو بن العاص سواعا صنم هذيل.
وهذه قليل من كثير من أصنام العرب التي حطمها الإسلام (راجع كتاب الساق لأحمد فارس الشدياق طبع باريس 1875، وأديان العرب في الجاهلية للأستاذ محمد نعمان الجارم طبع مصر 1923).
يستبين القارئ الفطن من هذه النبذة أن أصل عبادة الأوثان في مكة تعظيم حجارة الحرم وصبابة آخر بني إسماعيل بآثار وطنهم بعد أن خرجوا منه مرغمين؛ فانتهى الأمر بهم إلى عبادتها. ثم جاء عمرو بن لحي فجلب صنما فخما مصوغا من العقيق والذهب فنصبه في الكعبة، وهكذا تنزلق أقدام القبائل والجماعات في مهاوي الرذيلة حتى تتردى. وهذا الأمر مشاهد في كثير من الأمم القديمة والحديثة لا في المعتقدات والأديان وحدها، بل في الاجتماع والأخلاق والسياسة والفنون والآداب. والاندفاع وراء الأوهام والأباطيل سهل وميسر؛ لأن الشعوب أقرب إلى تلبية نداء المخادعين والكاذبين والمنافقين منهم إلى سماع كلمة العقلاء والمصلحين، إلا من عصم ربك من أهل الفطنة والفطرة السليمة؛ فقد اجتمع المهاجرون والأنصار عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال أبو بكر: «وعيشك يا رسول الله ما سجدت لصنم قط.» فغضب عمر بن الخطاب وقال: تقول وعيشك يا رسول الله ما سجدت لصنم قط، وقد كنت في الجاهلية كذا وكذا سنة؟! فقال أبو بكر: ذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة (يعني أباه) بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال لي: «هذه آلهتك الشم العوالي، فاسجد لها.» وخلاني وذهب فلم أفعل (أنباء نجباء الأبناء، ص42) وهذه قصة موضوعة لجعل أبي بكر في مقام إبراهيم.
أما عمر بن الخطاب فقد استلم الحجر الأسود مكرها غاضبا، ولو لم يستلمه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الطواف ما رضي أن يفعل؛ ظنا منه أن في استلامه رجوعا إلى الوثنية وتقديس الحجارة. ولم يكن الحجر الأسود مقدسا، وحديث الحجر الأسود أنه نيزك هوى وبقي ملقى على أكمة لا ينظر إليه أحد حتى اضطلع الوالد والولد ببناء البيت وارتفع البناء وطال الجدار وقصرت يدا إبراهيم عن أن تناله فقال: «يا بني، اطلب لي حجرا أضعه تحت قدمي لعلي أستطيع إتمام ما بدأت وأشرف على ما بنيت.» فذهب إسماعيل يجد في البحث، حتى عثر على الحجر الأسود فنقله إلى أبيه ووضعه تحت قدميه، فقام عليه وصار يبني وإسماعيل يناوله الحجارة والمونة والأدوات، حتى تم بناء البيت فجعل الحجر في أحد أركانه لقوته ومتانته، وتذكيرا بما أدى من المعونة في رفع البناء؛ فلا قدسية للحجر إلا قدسية الذكرى، ثم وضعته قريش في ركن البناء عندما اختلف رؤساء القبائل، فأقبل محمد فاختاروه حكما وهو في ريعان شبابه لأمانته، وإذن لم يكن الحجر الأسود معبودا ولا وثنا، ولا يفيد استلامه شيئا من ذلك، وليس استلامه من مناسك الحج وإن كان سنة، فإن مناسك الحج قد أراها الله إبراهيم وولده وقد سألاه:
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (سورة البقرة).
فلما تم بناء البيت الذي جعله الله مثابة للناس مرتين إلى هدى وجعله الشيطان إلى ضلال دعا إبراهيم بقوله:
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (آية 36 سورة إبراهيم).
وما فتئت الوثنية دين العرب من قديم الزمان، بعد أن نسوا ملة إبراهيم. فلما بلغت الوثنية أشدها عندهم كان سلب بعض هذه الأوثان ونقلها من مقرها أكبر عقوبة تلحقهم. وفي أواخر عهد سنخريب في القرن السابع قبل المسيح وقبل الإسلام بأربعة عشر قرنا أغارت قبيلة عربية على أرض بابل، بإمرة الشيخ قدار خزعل الأدومي، فأراد سنخريب معاقبتها؛ فسلب أوثانها وهي تماثيل أتارساماين وغيره، فحزن العرب لفقدها حزنا شديدا وصبروا على مضض حتى نهاية عهد سنخريب فرحل الشيخ قدار خزعل الأدومي إلى نينوى في عهد خلفه الملك أصار حدون والتمس منه في ذلة وصغار أن يرد عليه أربابه، حتى أشفق الملك عليه وأمر بتقويم ما أصابها من العطب الذي لحق بها في انتهابها، ثم حفر فيها ثناء على إلهه «أسور» ربه ومولاه ومهره بتوقيعه ليدمغها بكفره بها، ثم ردها على عابديها وجعل صداق المكرمة تسويد الملكة «تابويا» التي نشأت في قصور نينوى على العرب فزادت عليهم الجزية وبالغت في إذلالهم (ماسبرو تاريخ أمم الشرق القديمة، ص392، في كلامه على علاقة العرب ببابل).
هذا، وقريش محوطة بالأديان المنزلة، فلبني غسان دولة مسيحية قوية مرهوبة الجانب رابضة على خليج العقبة وحليفة لروم بيزنطة، وفي الحيرة مملكة نصرانية أخرى يمتد سلطانها إلى حدود العراق خاضعة للفرس ومعتمدة عليهم.
وكان الروم والفرس يولون على هؤلاء الأعراب ولاة من أنفسهم كما في الاستعمار الحديث، من اختيار حكام الدولة المغلوبة من أنفسها؛ لأنهم أعرف بأخلاقهم، ولأن الجنس السامي يخضعه للآريين حكام من جنسه، وفي هذا تدبير سياسي واقتصادي، وما دام السيد الأجنبي يملك زمام الحاكم فقد ملك المحكومين، وجعل الرومان والفرس هاتين الدولتين العربيتين المسيحيتين سدا
4
منيعا بينهما وبين القبائل البدوية المتوحشة التي قد تغير على الممالك المتحضرة وتغلبها، وقد صدقت فراسة الفرس والرومان بعد حين؛ فما لبث الإسلام أن ابتلع الدولتين الحاجزتين حتى اكتسح الحدود الرومانية والفارسية.
وإن النصرانية لم تتصل بقريش اتصال الملاصق ولم تؤثر فيها، ولم تدخل إلى قلوب أهلها، ولا نعلم عن مبشرين من النصارى حاولوا هداية هؤلاء الوثنيين ليحكموهم بالدين والسياسة،
5
وسببه أن الاستعمار لم يبلغ قديما من الفطنة ما بلغه في العصر الحديث من السبق إلى الفتح بالدين قبل السيف والنار أو بدونهما بتاتا، وكان في مكة بعض النصارى من أهل الكتاب ضعافا وكانوا قابعين في دورهم، كالمنبوذين أحدهم أعمى والآخر شيخ فان وثالثهم صيقل يصنع السيوف، وثلة شعراء يرتزقون بشعرهم ويرصعون نظمهم بأسماء القديسين والأحبار وحكمة الأناجيل؛ وهؤلاء جميعا أقل وأعجز من أن يحاولوا نشر دينهم خوفا من عبادة الأوثان واكتفاء بالكفاف وقناعة الضمير، وكان في الجنوب نصارى من العرب لهم كنائس وبيع وأساقفة وقسس يقرءون كتاب دينهم بألسنة أجنبية؛ لأنهم لم يقدروا على نقله إلى لغتهم ، وكان من اتبع ملتهم قلة لا تستحق عناء الترجمة، ولعل رجال الدين وحدهم اختصوا بقراءة الكتاب بالآرامية أو اليونانية كما هي الحال إلى يومنا هذا في الكنائس القبطية الأرثوذكسية بالقطر المصري؛ حيث تتلى التكاليل على العرائس وصلاة الموتى بالرومية.
6
وكان في نجران نصارى وفي جزيرة قريبة من عسير كنيسة. أما الدين اليهودي فكان في اليمن وفي بعض بلاد تهامة ونجران وفي يثرب التي صارت مدينة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفي اليمن انتحل ذو نواس أحد ملوك الصابئة اليهودية ودعا إليها بقية النصارى في نجران فأبوا، فأسس محكمة كمحكمة التفتيش
7
وأخذ يحاكمهم ويعذبهم ويحرقهم بالنار، فكان في نجران شهداء للمسيح تحملوا الإرهاق والإحراق، وما زال هذا الملك اليهودي ذو نواس يعذب ويحرق حتى غلبه على أمره نجاشي نصراني فقتله في الميدان. وانتهز النجاشي دخوله جزيرة العرب فملك جنوبها وحكمها.
الكتاب الثالث
السيرة المحمدية واختلاف عناصرها وطرائقها
شغل كاتب هذه السطور منذ عشرات السنين بدراسة التاريخ الإسلامي، ولا سيما تاريخ رجل الإسلام الأعظم، وبطل الأنبياء الأكرم، أبي القاسم محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
فلم يقصر في درس كل ما كتب عنه في اللسان العربي وفي معظم اللغات الأوروبية، وقد واصل هذه البحوث العزيزة على نفسه المغذية لروحه في دور الكتب الغربية، واستعان بجميع المصادر والمراجع التي وضعها كبار المؤرخين ونظموها حتى أصبحت سهلة المأخذ على كل دارس، قريبة المنال من كل راغب. وخرج من الدرس الطويل بعد استقصاء المواد وتحري الدقائق بثمرة المقارنة والمعارضة حتى تمكن من الإحاطة بكل ناحية من نواحي التاريخ المحمدي مما أقنعه إجمالا وتفصيلا بعظم شأن الرسول
صلى الله عليه وسلم
وكانت غايته منذ بداية العمل وأمنيته المحببة، وأمله الغالي، وهدفه السامي، أن يعثر على ترجمة لرسول الإسلام
صلى الله عليه وسلم
تملأ فراغا وتسد ثغرة، وتغني الشباب المثقف وجمهرة أبناء البلاد العربية وتشبع رغبات جمهور القراء في مصر، وفي العالم الإسلامي، ذلك المحيط الذي شعر منذ ثلاثين عاما بالحاجة إلى الإلمام بحياة النبي
صلى الله عليه وسلم
بأسلوب جديد يتفق والعقلية الحديثة، ونسق يلتئم وحاجة العصر. ولم تتولد تلك الغاية في نفسه إلا لاعتقاده أن لكل زمان تفكيرا خاصا، ولكل عهد ثقافة تمثله وتغذيه، تأخذ منه خططه التي اهتدى إليها وألفها ثم تعطيه ثمرتها المنشودة.
1
وإن شخصية عظمى كشخصية محمد
صلى الله عليه وسلم
لجديرة بهذا الاهتمام؛ لأنها أجل الشخصيات وأبرزها، وأكملها وأجملها وأسماها وأعلاها وأنبهها ذكرا، وأحفلها مجدا، وأقواها أثرا، وأوضحها نورا، وأخطرها شأنا، وأعمقها روحا، وأنفذها عملا، وأوسعها علما، وأرقها جانبا، وأشدها جاذبية، وأحلاها ذوقا، وألذها طعما.
اقتنع كاتب هذه السطور واعتقد أن مثل هذه الشخصية المنفردة التي حيرت في تحليلها أكثر العقول وأوسع المدارك وأرسخ الأقدام في الدرس والبحث شرقا وغربا، لا بد أن تختلف الوسائل في دراستها وتلمس الحقائق المحيطة بها وإزالة الأوهام التي تراكمت حواليها، لا عليها؛ باختلاف الأزمان والأماكن والمعقوليات التي تدنو منها سواء في ذلك أرباب العبقريات والنوابغ والموهوبون، وسواء كذلك المؤرخ المؤمن والمفكر الحر، والكاتب المتحيز المغرض والآخر المنصف العادل، وإذن يكون قد آن الأوان لإظهار تلك الصورة المحمدية الكاملة على طريقة أقرب إلى الكمال، كما تمثله كاتب هذه السطور وعلى صورة أقرب إلى أذهان المتعلمين في الأوساط الراقية الذين عليهم المعول في الفهم والإدراك، وتوصيل الحقائق إلى من دونهم.
2
ولما كانت اللغة العربية على غناها في مناحي العلم والأدب أفقر اللغات في تنظيم المراجع والمصادر؛ فقد ترك حبل القراء على غاربهم في كل العصور الماضية وفي عصرنا الحاضر حتى سار قولهم: «أي كتاب تقرأ تستفد.» مسير المثل، وغدا من جوامع الكلم مع مخالفته للواقع والحقيقة؛ فقد تمكن أحد علماء اللغة العربية من أصدقاء كاتب هذه السطور من تقسيم الكتب القديمة والحديثة التي تشرف أصحابها، بادئا بما احتوى منها على سيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
أو ترجمته أو تاريخ حياته، وما هي في الواقع إلا نسخ طبق الأصل من القديم البالي أو صورة مزيفة من الكتب الإفرنجية. وفي كثير منها تشويه للحقائق، وجري وراء الإكثار من المطبوعات، وتقليد غير بصير لما دونه علماء المشرقيات عن علم محدود في النادر، أو عن إعجاب ومحاولة النصفة في الأقل، وعن تعصب وجهل وتعمد للانتقاص والاستهتار والانتقام من نبي الإسلام ومن المسلمين أنفسهم في الغالب. وإن لدينا أدلة علمية وأدبية تثبت رأينا، وتؤيدها أسماء الكتب والمؤلفين ومواضع الخطأ والسهو والغلط المقصود بالسطر والصفحة، ولكن مجال سردها في المقدمة يطول، وقد ورد ذكرها بنصوصها في صلب البيان العلمي
3
ومتنه وشروحه بشكل جامع حتى لا يطمع طالب في الاستزادة.
هل كانت حملة بل حملات مدبرة على رسالة نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم
أم مؤامرة محبوكة الأطراف على ذاته الفذة المقدسة، وحياته المنفردة في سجل التاريخ ... أم كانت فاكهة مرة لشجرة مسمومة، زرعها الجهل وسقاها الغرور، وغذتها الدعاية الظالمة، ونمتها الأحقاد؟! لقد حاول كاتب هذه السطور في العهد الذي أشرنا إليه أن يجيب على هذه السؤالات ليستنير أولا وحتى يرضى بالجواب المقنع، وقد علم بالاختبار أن من أشد العبث ضررا وأعمق الغرور غورا أن يحاول المرء تعليم الغير أو إقناع السوى دون تعليم النفس وإقناعها بالرأي الصائب والفكرة الحق، حتى بدأنا تلك السلسلة الجديدة التي ننشرها إحياء للثقافة العامة بادئين بسيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
ومنتهين بتاريخ الأمم الإسلامية. ومن أغنى الأمور عن البيان وأبعدها عن الحاجة إلى برهان أن الباحث لا يحاول الانتقاص بحال من الأحوال من قدر ما سبق نشره من التآليف والتراجم في أية لغة وبقلم أي كاتب؛ لأن هذه الفكرة بعيدة كل البعد عن مبدأ العلماء وخططهم، بل بعيدة البعد كله عن مبدأ البحث العلمي الذي أساسه احترام الآراء، وتقديس الحرية وتقدير الأعمال؛ فإن أخبث الناس من يبخس الناس أشياءهم، أو يقلل من قيمة جهود الغير ليعظم من جهده، بل يجب الإقرار بفضل السابقين، ولا سيما المخلصين منهم والأقوياء الذين جمعوا بين مؤهلات الذكاء وخصال الصبر على الدرس لاستخلاص البياض من السواد، والحق من الباطل، والصدق من الكذب، والتاريخ الصحيح من الأساطير.
نقول «ما سبق نشره»، ولا نقولها عبثا إنما نقصد إلى كل ما تحمله تلك الكلمة من المعاني، وما تحمله من المدلولات؛ فقد كان للكاتب أثر السبق في إعداد أطروحة الدكتوراه في الحقوق، وموضوعها «دستور المدينة»، وهو بحث من أخص بحوث الترجمة النبوية من ناحية التشريع السماوي، والتقنين الأرضي، وإن يكن كتاب العرب قد مروا به مغمضين لحداثة عهدهم بالبحوث القانونية
4
والاجتماعية حتى ليدهش الناقد الحديث من سلامة نياتهم لدى إسراعهم في التنقل من فترة إلى فترة، في حين أن كل فترة حبلى بالمواقف الكبرى التي هزت العالم هزا، وطالما أفاضوا وأسهبوا حتى أملوا في تفصيل خرافة أو سرد أسطورة أو فكرة مدسوسة، وأوجزوا واختصروا وقصروا حتى أخلوا في ذكر أمر ذي بال، فكأنهم فقدوا - وا أسفاه - تصور التناسب الذي لا بد أن يشمل الأعمال الأدبية والفنية لتظهر بمظهرها اللائق بحذق الكاتب أو مهارة الصانع وقوة المفتن؛ فليس الإبداع في الأدب والفن سوى مراعاة وتناسب، والكتاب كالصورة والتمثال واللحن لا يستحق التقدير الذي يورثه الخلود إلا إذا تناسبت أجزاؤه كالجسم الإنساني لا يحسب على الجمال إلا باستكمال هذه الصفة ما يقرب منها. ولكن لهؤلاء الكتاب والمؤرخين من السابقين والقدامى أو اللاحقين المتساهلين عذرهم؛ فإن القراءة وسعة الاطلاع، وتكديس المواد شيء، والفحص والغربلة والاختيار والتمييز والتكوين على النسق الأكمل شيء آخر، ولكن بعض كتاب الإفرنج لم يقعوا فيما وقع فيه كتاب العرب؛ لاختلاف الزمان والمكان، وتمتعهم بالحرية في الكتابة، وامتلاكهم ناصية طريقة الدرس والبحث أو الميتودة
Mêthode
5
الشهيرة عند الألمان، والمنقولة عنهم إلى بقية الأمم الناطقة بالثاء كالإنكليز، والراء كالفرنسيين، والخاء كالتيوتون، وأخيرا الناطقين بالضاد.
لعل بعض الكتب الطيبة في حياة محمد
صلى الله عليه وسلم
التي نشرت في هذا العقد لم تكن فكرتها قد ولدت في أذهان أربابها عندما كان «بوله» عالم الدانمارك قد سلخ عشر سنين أو أكثر في دراسته، ولعل بعضها كان وليد حالة نفسية طارئة، ولكنها محمودة الأثر، ولعل بعضها كان ثمرة إيحاءة من كتاب شرقي أو غربي ظهر حديثا؛ وإنه - لعمرك - من بضاعتنا التي ردت إلينا، ولكن صنعة الاختصار والتبويب وحسن التقديم وبراعة السبك قد نفت عنه الزغل. ولعل رغبة المنافسة والتسامي قد أوعزتا إلى غير هذا وذاك؛ فلنشكر لهذا وذاك، ولنفرح بهما ونغتبط بكتبهما؛ لأن المورد العذب كثير الزحام، وأي مورد أعذب من مورد ابن مكة، وضيف المدينة، ثم فاتح الأولى، وسيد الثانية، بل سيد العالم كله، ولا نقول سيد الأكوان؛ لأن هذا ليس المقام الذي يقال فيه هذا القول.
وقد كان موقفنا كلما بدا نور أحد الكتب الإسلامية موقف المستبشر بنور الهلال قبيل التمام، حين أن كتاب الإفرنج لم يقف لهم دولاب؛ فقد أخرج في صيف هذا العام (1939) المستشرق العلامة الأستاذ كارل بروكلمان في مطابع مونشن بألمانيا كتابا ضخما عنوانه «تاريخ الشعوب الإسلامية ودولها» في أجزاء عدة:
Der Islamischen Voelker und Staaten Geschichte.
تناول فيه البحوث الآتية: (1)
العرب والدولة العربية، الجزيرة قبل الإسلام، النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، الخلفاء الراشدون، الأمويون. (2)
الدولة الإسلامية. (3)
العثمانيون والإسلام. (4)
الإسلام في القرن التاسع عشر. (5)
حال الدول الإسلامية بعد الحرب الكبرى.
والبحث الأول من هذه البحوث الخمسة هو الذي يهمنا، ولكن الكتاب لم يصل بعد إلى أيدي الباحثين في مصر، وترجع أهميته إلى أنه أحدث البحوث وأتمها، وإليك ما كتبه إلينا أحدث طلاب العلم من المصريين منذ عشر سنوات:
لفتت حياة النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
نظري منذ صباي؛ إذ كنت أسمع سيرته تتلى في مولده الشريف ترتيلا وترنيما، فأعجبت به وعشقته بطلا وقدسته نبيا واتبعته رسولا هاديا، ولكنني شعرت أنه شخصية محفوفة بالتقديس الذي قد يمنع قراءة تاريخ حياته. عندما بدأت أقرأ تواريخ الرجال العظماء شعرت بأنني على الرغم من حبي إياه وتعلقي به لن أستطيع أن أقف على تفاصيل حياته، وأنني لن أستطيع أن أشفي غلتي بالإلمام بكل صغيرة وكبيرة من أقواله وأفعاله، وحوادثه وأعماله خاصة وعامة، ذلك الإلمام الذي يصور لعين نفسي كائنا حيا يتكلم ويعمل ويضحك ويبكي ويأمر وينهى ويروح ويغدو، ويكون حكمه في ذلك كله حكم العظماء الذين بدأت أقرأ أخبارهم في القصص والتواريخ، غير أن جو القداسة والغموض أرهبني وأوهمني بأنني لن أنال هذه الأمنية، وأقصد بالقداسة والغموض إلى الإرهاصات والعجائب التي سبقت مولده الشريف وصحبت طفولته ونشأته، كالتبشير به ونزول الملائكة وتظليل الغمام، وتهدم قصر كسرى وظهور الأنوار الباهرة في المكان الذي ولد فيه وانتشار علامات الفرح في السماء والأرض؛ كل تلك كانت تخالف ظروف المواليد الآخرين ... حتى الذين صاروا في رجولتهم أبطال العالم أمثال الإسكندر الأكبر ونابوليون بونابرت، أو زعماء العلم والحكمة أمثال سقراط وأفلاطون ... وإذن أيقنت في نفسي أن لهذا الرجل شأنا خاصا يختلف عن شئون غيره من الرجال، وكنت في هذه الفترة نفسها متعطشا للتلقي والمعرفة، أسمع القرآن وأدرك بعض معانيه القريبة وأفطن إلى الأعلام وبعض الحوادث الموصوفة بوضوح في السور؛ فأسمع أسماء موسى ويوسف وإبراهيم وعيسى بن مريم ونوح وزكريا ويحيى وهود وصالح، وأفهم من سياق التلاوة أنهم أنبياء ولكل منهم سيرة طويلة، تتخللها وقائع عجيبة وأخرى عادية.
أما محمد
صلى الله عليه وسلم ، أما ذلك البطل الذي سمعت قصته في ليالي مولده فلم يذكر باسمه إلا مرات معدودة.
محمد رسول الله
و
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم .
سمعتهما عرضا بدون تلميح بواقعة ولا تصريح بحادثة من الحوادث العجيبة التي تخللت حياته كما ورد في قصة يوسف ومولد موسى وإلقائه في اليم، ونار إبراهيم وحوت يونس وسفينة نوح ومعجزات عيسى ... كل هذه الأحداث الخارقة للعادة مصورة في القرآن تصويرا ملونا يترك أثرا عميقا في نفس الطفل الذي كنته ... ولم أكن قد تطلعت نفسي لقراءة القرآن وفهمه على حقيقته لإدراك كل ما ورد في حق الرسول
صلى الله عليه وسلم
من الآيات البينات، اللهم إلا جزء عم وجزء تبارك ... فكان علينا أن نحفظهما عن ظهر قلب لنؤدي فيهما امتحانا. أما المعاني، أما التفسير، أما الفهم المباشر من النصوص ... التي كنا نلزم بحفظها فمحرمة؛ لأنه لم يئن أوانه، ولأن علمنا قاصر، ولأننا لا نملك الأدوات التي يملكها علماء التفسير ... هكذا قال لي الشيخ عبد العزيز خليل أول أساتذتي في العربية والقرآن الكريم ... والآن تجدني أتحسر أشد الحسرة على أنه لم يشرح لنا على الأقل سورة «اقرأ باسم ربك» التي كانت ضمن محفوظنا، ليقول لنا: إنها أول ما نزل من القرآن، وليست فاتحة الكتاب أوله، وليشير إلى الوحي ومعناه ومرماه ومقصده، ولو من طرف خفي؛ إذن كنا ننجو (ولو إلى حين) من الحيرة التي لحقتنا، بيد أن هذا الحرمان المؤقت لم يكن ليمنعني عن انتهاز الفرصة للاستزادة من تاريخ محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولكن أين الكتاب الذي يشفي غلتي دون أن يصدم منطق الفتوة الثائرة، ويناقض معقولية اليافع المتطلع؟! فهداني أستاذي إلى سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية ... ورق نباتي، هوامش وحواش، قطع كبير، ملازم ملصوقة لا تلبث أن تتناولها بيدك حتى تتفكك، غلاف أحمر، لون بعيد عن جلال الموضوع، دليل على غلظة في ذوق الناشر والمجلد، ولكن شوقي إلى لب الكتاب تغلب على حاسة الجمال التي تحتم على أن يكون الكتاب على صورة أخرى غير هذه الصورة السوقية، ولا أقول الحوشية، بعد أن تعودنا أن نقرأ الكتب الأجنبية الأنيقة في حجمها وطبعها وورقها وتجليدها!
6
ولكن ألم أقرأ كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه وفصولا من مقدمة ابن خلدون «لأتقوى في الكتابة» كما قال الأستاذ، إذن فلأحاول قراءة «السيرة»؛ لأنها أصبحت علما على تاريخ محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فلا سيرة إلا سيرته، وقد بدأت فعلا، بقلب متلهف وعقل يتفتح ويزدهر، ولكن وا أسفى! لقد غرقت في بحر من النثر المسجوع والشعر المصنوع لمقتضى الحال، والاستطراد الذي لا يعرف أوله من آخره، والذي يشتت شمل الذهن، ويقطع سلاسل التفكير، وينقل العقل من وديان الاسترسال والتتبع للحقائق إلى جبال الأخيلة والأوهام، ومن ميادين الحقائق المعقولة إلى مضايق الأساطير المخالفة لكل معقول ومنقول، والتي مزجت بالحقائق مزجا يضيع معالم الحقائق ويجعلها أثرا بعد عين، ويخلط الحابل بالنابل والتاريخ بالخرافة. والعجيب في الأمر أن هؤلاء المؤلفين يحيطون تلك الأساطير بجو من التقديس؛ بحيث يخيل إليك أنها من الاحترام بمكان لا يتطاول إليه النقد، ولا يطمع إلى تناوله الفحص والتمحيص؛
7
وهكذا شيئا فشيئا وصفحة فصفحة بل جملة فجملة يفقد القارئ ثقته في المؤلف، ويشعر بخيبة الرجاء في الكتاب، ويندم على ما قضاه من الوقت في تصفحه وتقليب أجفانه في أوراقه الصفراء الباهتة، وأحرفه المضعضعة وهوامشه المكتظة المزدحمة التي كأنها - لكثرة ما حشد فيها من حروف وكلمات - صفوف أقزام متراصة في رتل ضيق العطن يقصد بسيره مائلا (وهكذا يكون دائما وضع الهوامش واتجاهها) إلى ميدان القتال.
انتهى ما كتبه إلي أحد طلاب العلم منذ عشر سنوات.
هذه حال القارئ المشوق المتطلع في مقتبل العمر، وهي صورة وفق الحقيقة لا مبالغة فيها ولا إغراق.
لقد حاول المؤرخون من العرب وغيرهم درس سيرة محمد، بسرد حوادث حياته جافة مجردة عن التعليل والتفسير، وكان هم المسلمين منهم إثبات الوقائع بالرواية عن شهود الرؤية والسماع على طريقة علم مصطلح الحديث. وكان أولهم وأشهرهم ابن إسحاق الذي فقدت مخطوطة سيرته بعد أن نقل معظمها ابن هشام، وإن كان بعض الأئمة قد وصفه بالدجل (تعليق الحلبية على ملحوظة الإمام مالك)، وجرى كل كتاب السير بعده على خطة عقيمة؛ هي قبول كل ما يظنونه مؤيدا للرسالة ورد ما دون بغير تمحيص، وحتى دراسة تراجم الأشخاص الذين عاشروه وأحاطوا به سواء كانوا أهلا أم أزواجا أم صحابة، قد اتبع مؤرخو الإسلام فيها تلك الخطة نفسها، واعتبروا الوقائع أمورا مقدسة لا يجوز مسها إلا في حدود القداسة.
8
ولكن المؤرخ الحديث يعلم أن القارئ المعاصر يحتاج إلى تفهم الأشياء على طريقة أخرى، تحتاج إلى درس حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
لا من جهة الوقائع وحدها؛ لأن الوقائع كانت مظاهر لأمور عميقة متغلغلة في نفوس الجماعات والأفراد، نحتاج إلى درس حياته بوصفه رجلا مجردا عن مظاهر القداسة المسلم بها، رجلا ذا عقل وقلب وخلق، على طريقة تحليلية تضمن لنا إدراك حقيقته كما كان إنسانا وفردا عربيا نشأ وترعرع في بيئة معينة وفي زمن معلوم، وعاش عيشة خاصة طفلا ويافعا، ومفكرا في الدار ومتحنثا في الغار، ومجاهدا في ميدان الحرب ومنظما في الدولة التي أسسها، نريد أن ندخله في حوزة التاريخ الإنساني إنسانا شاعرا بوجوده مفكرا بعقله منقادا أولا بالوحي الإلهي ثم بعواطفه وروحه كما يدرس أبطال التاريخ وعظماء الأمم، نريد أن نتخلص هنيهة من قيود العقيدة الراسخة التي تعيرنا أداة معظمة للنظر آنا وآنا نستبدل المجهر بها؛ لأن حياته أجدر بالفحص على هذه الطريقة التحقيقية منها بأية طريقة أخرى، ولأن كثيرا من أعماله وأقواله تشعر بأنه كان ينقاد إلى عقله وتدبيره وفكره، بل وأفكار غيره على الرغم من إيماننا بنسبة كل أعماله العظمى إلى العناية الربانية والقوة الكبرى المسيطرة على نفسه وعلى العالم. وإننا باتباع تلك الطريقة جهد الطاقة نرى وضوحا وجلاء وضوءا أكثر مما نرى في طريقة التقييد والتعليل بأسباب مستورة أو تقليدية؛ لأن حياة محمد
صلى الله عليه وسلم
لم تكن غامضة ولم تكن تكتنفها أسرار ولا خفاء، بل كانت حياة بلورية مكشوفة، وقد أراد أن تكون جميع أقواله وأفعاله سننا يتتبعها أهل عقيدته، ولأنه نجح في تربيته فيلقا من الرجال والنساء جعلهم مستودع أفكاره وأعماله وأقواله، وأمر قومه بتقليدهم وتوقيرهم والسير على خططهم؛ لأنها خططه التي أرادها والتي رأى أنها أصلح النظم للحياة الإنسانية في كل زمان ومكان.
9
كان محمد رجلا يروح ويجيء بين قومه وقد انطوى في صدره عالم كبير من المعاني السامية والمثل العليا للحياة ومكارم الأخلاق، لم يفهمها في بداية الأمر قومه الجفاة الغلاظ الأكباد؛ هذا لأن أكثر ما يكون المصلح في أول أمره جهادا وحيرة وصبرا وشفقة على قومه وعفوا عن ذنوبهم، حتى تلك الجرائم التي كانوا يقترفونها ضد شخصه كان يغفرها لهم، ويحملها على جهلهم، وفي كثير من الأحوال كان يدعو لهم بخير، وهو أجدر الناس علما بأن الناس أعداء ما جهلوا، وأعداء من يريد خيرهم؛ فكانت غايته الأولى والأخيرة تعليمهم وترشيدهم والخروج بهم من ظلام المادة إلى نور الروح، ومن موت الجهالة إلى حياة المعرفة. •••
إذا نظرنا إلى الجماعات الفطرية وجدناها تحس الخوف من الطبيعة فتخشى مظاهرها وظواهرها حينا، وحينا تتوهم معاداة الطبيعة فتستعد للحروب في كل لحظة، وتأخذ أهبتها المادية لمقاومة أحداث الحياة، وينشأ في تلك الجماعات زعماء وسادة من أهل العبقرية والنبوغ يكونون أقوى أفراد جماعتهم تمثيلا لها ولمقوماتها وأشدهم تعبيرا عن إحساسهم في دور اليقظة المادية فتراهم أشد أفراد هذه الجماعات حذرا على أنفسهم وعليها، وأقوى انتباها للخطر إذا أقبل، وللشدائد إذا ادلهمت وللأزمات إذا اشتدت، وأقوى جماعتهم مقاومة للطوارئ واقتدارا على قهرها والتغلب عليها، وهم إلى جنب هذا أكثر الأفراد في المجتمع الذي نشئوا فيه استكمالا للمميزات الملحوظة فيه حتى لا يكون الزعيم منهم عرضة للاعتداء من أحد أفراد شعبه، فإذا كان من مميزات جماعة أحدهم إصابة المرمى وجب على الزعيم أن يكون أحسنهم رماية، وإذا كان من مميزات إحدى الجماعات الفصاحة وجب على الزعيم أن يكون أفصحهم إلى جانب ما امتاز به بقية الأفراد من القوة البدنية والشجاعة والجلد.
10
فإذا تركنا البيئات الفطرية رأينا هذه النظرية تصدق في كل الحالات بقدر ما تتسع لها هذه البيئات أو تضيق، ونحن بصدر زعامة للجنس البشري كله، وهي زعامة الأنبياء والرسل الذين فاضوا بالهدى على الخلق جميعا، وهؤلاء تخلد زعامتهم بعد ذهابهم عن هذه الحياة.
وهناك زعامة لجنس من الأجناس البشرية كزعامة إبراهيم خليل الرحمن وموسى - عليهما الصلاة والسلام - للجنس السامي، ولا سيما بني إسرائيل. وزعامة محمد للجنس الإنساني منذ بعثته إلى آخر الدهر!
وعلى هذا كانت أغلى الزعامات وأعلاها هي أندرها. ولا بد أن تكون أشدها مطابقة لنظم الطبيعة العامة الثابتة ومراعاة تطورها وارتقائها، وهذه الزعامة لم تتحقق على أكمل الوجوه وأشمل الطرائق وأتم الوسائل إلا في حالة واحدة؛ هي زعامة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
شخصية محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي المبعوث إلى سائر الأمم1
كان محمد
صلى الله عليه وسلم
وسطا بين الرجال في القوام، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، كبير الرأس، وكان وجهه أبيض أزهر اللون، حواجبه واضحة سوابغ، بينها بياض ينبت فيه عرق يمتلئ إذا انفعل، وأنفه أقنى، وكان ذا لحية كثة يعلوها فم ضليع دون أسنان مفلجة، وكانت عيناه براقتين تكاد نظراته تخترق نفس من يحادثه، وأجفانه أقرب إلى السعة منها إلى الضيق، وكان عنقه في صفاء الفضة ونقاء البلور، واسع الصدر بعيد ما بين المنكبين. وقال الذين رأوه وعاشروه إنه كان فخما يتلألأ وجهه بنور روحاني يجذب مخاطبه بقوة خفية، فيميل إليه ثم يخضع له ويطيعه ويحبه. وكان بدنه متماسكا، ويداه وقدماه جميلة، دقيقة مع قوة ورشاقة، وتمتاز كفاه بالطراوة والنعومة وهما صفتا أكف الميسرين لخرق العادات. أما شعره فكان وسطا بين الجعد والرجل، وكان يطلق شعر رأسه إلى ما دون أذنيه ويرسل لحيته على صدره، وكان مجموع هيئته يدل على قوة بدنه من الأدواء والعاهات الموروثة أو المكتسبة
2
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
شديد العناية بشخصه، محبا للجمال والتجمل، مشغوفا بالنظافة وحسن المظهر، ولم يكف يوما عن أخذ زينته ورعاية هندامه سواء في بيته أم في الحياة العامة، وكان يتحدث بذلك وينصح به، ويحب مظاهر التنعم والرفاهية ولم يتبع الزهد في مظهره الخارجي أبدا، بل كان محبا للظهور بمظهر الفخامة والعزة والجمال والشباب والقوة والحسن، ليبدو مهيبا في أعين الرجال، ومحبوبا في أعين النساء، وكان يرى من واجب الإنسان أن يحترم شخصه ويبذل جهده في العناية بذاته، وكانت تلك العناية غير مقصورة على الروح، بل كانت تتناول البدن من شعر الرأس إلى أخمص القدم، فكان يصبغ شعره بالحناء، كما كان يحسن تصفيفه، وكانت طبيعة شعره تسهل عليه ذلك؛ لأنه كان رجل الشعر، إن انفرقت عقيصته فرق، وكان هذا الشعر لا يجاوز شحمة أذنيه إذا هو وفره، ولكنه كان يتقي الفرق في وسط الرأس لأنه عادة وثنية.
قلنا كان يخضب لحيته بالحناء أيضا فتبدو شقراء جميلة، وكان يحب التطيب بالعطر ليجمع بين إعجاب النظر والشم لدى من يراه أو يدنو منه. وكل كتب الحديث والسنة تدل على سلامة ذوقه ورقة خلقه ونعومة فطرته البشرية، فكان يبغض الروائح الخبيثة ويستعيذ منها، وقد جعل الاستعاذة منها عند الضرورة الملجئة لشمها، سنة بنص خاص وصيغة بعينها تقال وتتلى. وهذا في نفسه يدل على شدة بغضه لكل ما هو قبيح وخبيث، وذلك لامتلاء تلك النفس الشريفة الطاهرة بكل ما هو جميل وعطر حسن وطيب، وقد امتد بغضه للروائح الخبيثة إلى ذم بعض النبات كالبصل والكراث؛ للأثر السيئ الذي يتركه أكلها في الفم، وكان يكره أن يرى رجلا أشعث أغبر منكوت الشعر، زري المظهر قذر الثياب، وكان يبغض أن يرى إنسانا ذا أسنان صفراء من أثر الإهمال، فجعل السواك والتخلل سنة واجبة الأداء، وما السواك والخلال إلا الأداتين الواقيتين من أمراض الأسنان التي أثبت العلم الحديث أنها من أقوى الأسباب لتدهور صحة الإنسان في المدنية الحديثة. وكتب السنة كالبخاري ومسلم ومسند أحمد بن حنبل حافلة بنصائح العناية بالفم والأسنان.
3
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
لا يتقيد في ثيابه بنوع خاص؛ فلبس الجبة والطيلسان والقباء كما لبس المخطط اليمني والمزركش الشامي وتلفع بالصوف والتحف بالكتان واستعمل اللثام وغطى رأسه بالعمامة وغيرها وكانت عمامته على ألوان، وتذكر كتب السير والحديث أنه يوم دخل مكة فاتحا كان يلبس عمامة سوداء من لون رايته التي كانت تخفق في ذلك اليوم الرهيب. وتراه لم يتقيد بشكل من اللباس ليعلن للملأ من أمته أنه لا يقيدها بهيئة خاصة، كما أنه وهو رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إليها وإلى الإنسانية ونبيها وبطلها وزعميها الوطني ورئيسها القومي وقدوتها في السياسة والاجتماع لم يتخذ ثوبا خاصا ولم يجعل لأتباعه من الصحابة أو غيرهم ثيابا خاصة كما اتخذ زعماء الأديان ورؤساء المعتقدات لأنفسهم ثيابا رسمية يميزون بها أنفسهم من عامة الشعب.
وكان لا يأنف أن يستعمل كل ما يصلح للحياة من أدوات الأمم الأخرى، سواء أكانت مجاورة أم مباعدة؛ فهو يرى دين الإسلام صالحا لكل قوم من الأقوام، ولذا يرى تطبيقا لهذه القاعدة العالمية أن كل ما تنتجه الأمم ثمرة للمدنيات السابقة أو المعاصرة مما قد يستفيد منه الإنسان صالح للاستعمال؛ فهو يحب التوفيق بين أذواق الناس في كل ما كان نافعا أو جميلا، ويحب إزالة الفوارق وهدم العقبات التي تعوق الأمم عن الاختلاط المفيد للحضارة وللحياة الإنسانية في أجمل مظاهرها وبأفسح معانيها، ولذا كان يلبس الثياب المختلفة الأشكال والألوان الآتية إليه من شتى الجهات بغير قيد ولا شرط، وقد غطى رأسه حينا بقلنسوة وحينا بغطاء يشبه القبعة يقيه من وهج الشمس وحرارتها.
ولو كان في زمانه السعيد اختراعات حديثة وكماليات نافعة كالتلغراف والتليفون والمنطاد والسيارة، كان - عليه الصلاة والسلام - أول من يبادر إلى استعمالها والانتفاع بها، ولو كانت الطباعة أو الإذاعة شائعتين لكان اتخذهما وسيلة في نشر رسالته؛ لأن معقوليته تدل على المرونة وسهولة الانطباع على النماذج الحديثة النافعة واستساغة كل ما يثبت للعقل الراجح نفعه وامتناع ضرره؛ فلم يكن محمد
صلى الله عليه وسلم
محافظا ولا محبا للتقاليد ولا محترما لها إلا في حدود خاصة، بل كان مجددا ومحدثا أحداثا نافعة تدل على حسن الذوق وسلامة الفطرة وعظم العقل وسعة الفكر وحب الخير العام للإنسانية بأسرها.
إنني هنا لا أتعرض لوصف أخلاقه ونفسيته؛ فهذه ترد في أبواب أخرى، ولكنني أقصر بحثي على شخصه، وأحاول تعليل بعض عاداته وتحليل الظاهر من صفاته الشخصية.
كان وجهه مستطيلا لا مستديرا، وهو من النوع السامي الذي تنطبع بطابعه وجوه الكثيرين من أهل جزيرة العرب، لا سيما أهل الحجاز الذي هو المقر الأول للمنحدرين من نسل إسماعيل. وكانت مشيته تدل على شيء كثير من قوة الخلق والثقة بالنفس وكمال الصحة وسلامة القلب، فقالوا إنه كان إذا زال، زال قالعا، يخطو تكفيا، ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت بجميع جسمه، ليس في أعضائه - معاذ الله - ليونة الخبثاء والمنافقين، وإنك إلى اليوم إذا عرفت رجلا مخلصا صادقا سليم الفطرة كبير النفس ترى فيه بعض صفات النبي
صلى الله عليه وسلم
البدنية. وكان - عليه السلام - خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة للاعتبار والخبرة والموعظة.
ومن الصفات المعنوية الخاصة بشخصه الجثماني أنه كان جريء القلب، واسع الصدر، صادق اللهجة، لين العريكة، من يراه بديهة يهابه، ومن يخالطه يحبه بإجماع معاصريه ومعاشريه ومؤرخيه.
ولكن هذا الحلم والكرم وذلك التسامح واللين وغيرها من الخلال الكريمة لم تمنعه من أن يحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا كرمه، وكان لا يوطن الأماكن، أي لا يتخذ لنفسه مكانا معينا في المجلس لا يجلس في سواه، وينهى عن هذه العادة الوثنية التي تشعر بالجبروت والكبرياء والطغيان، وكان إذا انتهى إلى مجلس، قعد حيث ينتهي به المجلس، وكان مجلسه مجلس علم وحلم وعدل وحياء وصبر وأمانة وصدق، وكان على كثرة أعماله وجلال رسالته وكبر شأن واجبه دائم البشر سهل الخلق لين الجانب لا يعيب الناس ولا يمدحهم، ولكنه كان يحبذ الحسن ويقبح القبيح ولا يذم أحدا ولا يعير إنسانا ولا يطلب عورة لمخلوق. ويرى مما تقدم أنه كان ذا نزعة ديمقراطية، حتى في إبان عظمته القومية التي ظهرت من عهد النبوة؛ فكان يضحك مما يضحك منه جلساؤه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، وكان لا يقبل الثناء ولا يقطع على أحد حديثه، وكان يكره أن ترتفع الأصوات في مجلسه أو يتزاحم اثنان على الاستئثار بالكلام، وكذلك كان يبغض أن يزعج في خلوته بغير استئذان. والعجيب في أمره أنه كان يطبع أصحابه بطابع أخلاقه الكريمة، ويهذبهم بالمثال والقدوة الحسنة؛ فترى الرجال الذين فتحوا العالم في عشرين عاما بعد موته كانوا كلهم أقرب المقربين إليه، فكأنه أفرغهم في قالب، وألهبهم بنار مقدسة، وكان منهم عظماء الدنيا لعهدهم في العلم والقضاء والتشريع والحكم والحرب والتمدين والاقتصاد والسياسة. وفي الحق أنه لا توجد ثورة اجتماعية أو سياسية حملت في ثناياها جزءا من العظمة والقوة التي انطوت عليها الثورة الإسلامية؛ لأن الرجال الذين أتموا أعمال محمد
صلى الله عليه وسلم
في السياسة والحرب والتشريع كانوا كلهم على وتيرة واحدة، وكلهم محمديون عريقون صميمون يمثلون فكرته ويعملون على تنفيذها .
4
وصف شخصيته على ألسنة المعاصرين
وإليك وصفا جاء على لسان امرأة رأته للمرة الأولى وهو في طريق هجرته إلى المدينة مع أبي بكر اسمها أم معبد الخزاعية، وقد وصفته لزوجها الذي عاد إلى الخيمة على أثر انصراف النبي وصاحبيه، قالت: «ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره وطف وفي صوته صحل، وفي عنقه سطح، أحور أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، إذا قال سمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره محفود محشود لا عابس ولا مفند.» فقال أبو معبد زوجها: «والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا.» أقول فإن صحت هذه الرواية الجميلة، فلا يعادل فصاحة المرأة في الوصف إلا فراسة زوجها في الاستدلال، ولا أخالها إلا صادقة. على أنني لم أذكر هذه النبذة إلا استكمالا لوصف شخصه على لسان امرأة من أهل عصره لم تعرفه من قبل. وسيأتي خبرها بالتفصيل.
وكان أنس بن مالك من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
الذين عمروا بعده طويلا فكان الناس يجتمعون إليه ويقولون له صف لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكان يصفه بقوله: «كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أبيض مشربا بحمرة ضخم الرأس، أزج الحاجبين، عظيم العينين، أدعج، أهدب، شثن الكف والقدمين، إذا مشى تكفأ كأنما ينحط من صبب، ويمشي في صعد كأنما يتقلع من صخر، إذا التفت التفت جميعا، ليس بالجعد القطط ولا السبط، ذا وفرة إلى شحمة أذنيه، ليس بالطويل البائن، ولا القصير المتطامن، له عرف أطيب من المسك الأذفر، لم تلد النساء قبله ولا بعده مثله، بين كتفيه خاتم النبوة كبيضة الحمامة، لا يضحك إلا تبسما، في عنفقته شعرات بيض لا تكاد تبين.» ومن الحسن أن نقف لحظة لنقارن بين الوصفين؛ وصف المرأة التي لم تعرفه، والرجل الذي عاشره أعواما، لقد بدأت أم معبد فوصفت الرسول
صلى الله عليه وسلم
جملة ثم وصفته تفصيلا، فأما الصورة الأولى فقد أجملتها في قولها: رأيت رجلا أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيما قسيما، وأما الصورة الثانية فقد فصلت فيها دقائق جسمه ونظام منطقه ومكانه من صاحبيه، وهذه الطريقة في الوصف تنطبق على طبيعة المرأة.
ووصف أنس بن مالك من رسول الله لونه، وبعض وجهه، وامتلاء كفيه وقدميه، ومشيته، وشعر رأسه، وطول قامته، وريح جسمه، ولم يتخذ له نظاما خاصا؛ فهو يصف وجهه، ثم يعود فيصف شعر رأسه، ثم ينثني إلى طوله؛ فأم معبد أشمل منه وصفا وأحسن نظاما، ثم انظر إلى ما وصفت به قامة النبي
صلى الله عليه وسلم
ترها تقول: ربعة لا تشنؤه من طول ولا تقتحمه العين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدا. ويقول أنس: ليس بالطويل البائن، ولا القصير المتطامن. فهي أبلغ وأوفى بما فصلت من الوصف، وما وصفت من عيوب الطول والقصر، وما مثلت به النبي بين صاحبيه وقد انفردت عن صاحبها بوصف منطق النبي وصفا ساحرا أخاذا حين قالت: «حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم تتحدرن.» على أن أسلوبها كله يكاد يكون قصيدة مختارة بما حوت من حسن نسق وصفاء ديباجة وحلاوة إيقاع.
كان محمد من أفصح أهل الأرض في كل عصر وبقعة، وكان بلا ريب أفصح العرب في كل زمان ومكان، ووصفه معاصروه بأنه كان عذب الكلام سريع الأداء حلو المنطق يأخذ حديثه بالقلوب، وقد شهد بذلك أعداؤه قبل أحبابه، وإذا أردنا أن نتخيله متكلما لرأينا وسمعنا رجلا ينطق بكلام مفصل مبين يستطيع السامع أن يعد كلماته؛ لأنه ليس مسرعا ولا متقطعا تتخلله فترات السكوت. قالت عائشة لبعض محدثيها بعد وفاته تصف حديثه: «ما كان رسول الله يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام يبينه ويفصله فيحفظه من يسمعه.» وكان كثيرا ما يعيد الكلام ثلاثا لينقل عنه، ولم يكن محمد
صلى الله عليه وسلم
يخفي عاطفته أو انفعاله، فإذا كره شيئا ظهر في وجهه، وكان يعجب ويضحك مما يضحك ويتعجب من مثله ويستغرب وقوعه أو يستندر، وكانت طبيعته الهادئة لا تسمح له بالصخب ولا القهقهة، بل كان معظم ضحكه ابتسامة تظهر نواجذه وكان بفطرته حزينا؛ لأن الأنبياء أكثر الخلق هموما وأعظم شعورا بصنوف البلاء التي تنتاب الإنسانية، وليس من دأب المتصلين بالعوالم العلوية أن يستخفوا بالحياة فيفرحوا لها وما زالت «الميلانكولي» من خصائص النفوس المتميزة وحتى بعض الحكماء ممن لم يكونوا أنبياء أذاقتهم الطبيعة لباس الحزن والشعور بتفاهة السرور والإشفاق على الناس من الاندفاع في الفرح؛ فيؤثر عن أحدهم أنه قال: «اضحكوا لأبكي عنكم.» أي إنه لحكمته يكفل نصيبهم في الحزن، كأن الأحزان فرض كفيل يعفى منه المجموع إذا قام البعض بعبئه، ولا يقوم به إلا الأعقل والأحكم والأصبر، وترى روح الحزن والجد والوقار سارية في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
لأنه لم يكن يرى حياة الدنيا مهزلة ولا فرصة لانتهاب اللذات ولا مسرحا للأفراح، بل كان يراها حياة جهد وكسب يؤدي الإنسان عنها حسابا دقيقا وعسيرا، وكل من يدنو من الحقيقة في إدراك الحياة يقل فرحه بها؛ إذ يتفهم بالتدريج أنها دار امتحان واختبار، وهذا يفسر لنا ما ورد في القرآن الكريم من أن الله لا يحب الفرحين، ولا يقصد به أن كل فرح مبغوض، وإنما يراد بهم الطائشون والمستهترون والذين يلهون بأنفسهم عن سواهم ويفرحون بما يصيبهم من مسرات هذه الدنيا دون أن يشاركوا أبناء جنسهم نصيبهم من الشر والبلاء.
على أنني لا أحيد عن رأيي في أن حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
في طفولته وشبابه وكهولته كانت بطبيعتها قليلة الأفراح، أما بكاؤه فكان كثيرا ولم يكن بنشيج أو رفع صوت، وقد بالغ المؤرخون في الدقة فعددوا المرات التي بكى فيها وذكروا في مقدمتها بكاءه عند وفاة ابنه إبراهيم، فرووا أنه قال: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون.» وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض، وبكى لما شيع جنازة جده عبد المطلب، وبكى لما قتل عمه حمزة في معركة أحد، وبكى عندما سمع ابن مسعود يتلو آية من سورة «النساء» خاصة بشهادته على أمته:
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا .
وكان يبكي أحيانا في صلاة الليل، ولكن هذا الإحصاء ليس كاملا، فلا ريب عندنا في أنه بكى عند موت خديجة؛ فقد كانت أعز الناس عليه وأحبهم، وبكى لوفاة عمه أبي طالب، وقد ماتا في عام واحد وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وكيف لا يبكي خديجة وقد عاشرها خمسا وعشرين سنة ورزق منها كل ذريته ما عدا إبراهيم، وجادت له بمالها وروحها وكانت له وزير صدق على الإسلام يسكن إليها ويشكو لها بثه، ويثق بها ويستشيرها، وكيف لا يبكي عمه الهمام الكريم الذي كفله وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه حتى إنه قال: «ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.»
وإذن لا يملك المؤرخون أن يحصروا المرات التي بكى فيها النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها في حياة رجل مثله لا يمكن أن تعد، ولكنهم عددوا ما وصل إلى علمهم عن طريق الرواية الصحيحة في بعض الحوادث العامة، وقد تذكر بعض الحوادث بمناسبات، وإنما يفهم من استقراء تلك الحوادث أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لم يكن بكاء ولا قريب الدموع ولم يعرف البكاء لخور أو ضعف ولم يكن «هستيري» المزاج. وأذكر أنني قرأت أنه بكى لما رأى أهل قريش يأسرون بعض المسلمين، فتأثر ودمعت عيناه وبكى معه أبو بكر وحدث أثناء ذلك حادث طريف دل على صراحة عمر بن الخطاب صراحة لا مثيل لها إلا لدى العظماء أمثاله؛ فإنه لما رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
وأبا بكر يبكيان في شأن أسرى بدر، فقال - وقد عز عليه أن يبقى جامد العين: «أخبرني ما يبكيك يا رسول الله، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت ...»، ص47، ج1، من زاد المعاد لابن قيم الجوزية، ومثل هذه ما رواه أبو هريرة في الإصابة، ج1.
كان محمد
صلى الله عليه وسلم
صادقا حازما إذا قال أو فعل، وكان عازما صارما إذا هم أو مضى، وكان صابرا إذا أتته الشدائد، وكان أبيا إذا سيم الضيم، عصيا إذا دعي إلى الخسف والظلم، عزيزا إذا أريد على الهوان، وكان عادلا إذا حكم وحكيما إذا تصرف أو قضى، جمع الله له عقلا وافرا وخلقا رضيا ويدا كريمة ونفسا عفيفة وأنفا حميا وضميرا نقيا وصدرا رحبا وحلما واسعا.
ولسانا صيرفيا صارما
كحسام السيف ما مس قطع
ثم امتحنه بالأحداث والخطوب، فلم تلن قناته ولا فلت شباته ولا صدعت صفاته ولا صرفته عما رسم الله له من طريق ، ثم رمى به الأحداث والخطوب والأعداء من كل ملة ونحلة وجنس فلم تثبت له وإنما ولت عنه نافرة وانهزمت أمامه ممعنة في الفرار، وليست الخطوب التي تعترض نبيا عظيما مثله شرا كلها وليست الآلاء التي تتاح للأبطال خيرا كلها؛ فهذه النعمة السابغة التي أتمها الله على رسوله لم تغره بالأشر والبطر ولم تزين له الكسل والفتور، كما أن الأحداث والخطوب التي امتحنه الله بها عودته احتمال المكروه والصبر للنوائب والتفوق في مصارعة البلاء، ولم تفل له حدا ولم تضعف له عزما ولم تجعل لليأس سبيلا إلى نفسه العظيمة، أجمع قومه قبل البعثة على حبه وإكباره وسموه الصادق الأمين؛ لأنه كان زعيم صفوتهم وقائد خلاصتهم إلى مثلها الأعلى من الحرية والكرامة ومن العزة والاستقلال.
ثم جاءت البعثة فاختلف العرب فيه فسلمت له كثرتهم الضخمة وعددهم الرائع ونهضت له جماعة من قريش تقاومه وتخاصمه
1
وتحاوره وتساوره فما أطاقت له خصاما ولا حربا، وأغريت به القبائل والملوك فتألبت عليه وحشدت له وجمعت الجموع واستنفرت الجنود فلم تنل منه منالا وارتدت على أعقابها خائبة. وما زال محمد
صلى الله عليه وسلم
طول حياته هادئا باسما للنعمة هازئا بالفتنة قويا جبارا لا يلحقه ضعف ولا وهن، وظل طول جهاده ثابتا لخصومه ساخرا من الخبثاء والمنافقين حتى أعيا أولئك وهؤلاء جميعا وأرغمهم على الخضوع والاستسلام، وإذا أولئك يقبلون عليه ويبايعونه ويضعون أيديهم في يده ويؤمنون له بالزعامة والتقدمة ويعاهدونه على التعاون معه على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا هؤلاء يسعون إليه صاغرين ويعترفون له بالنبوة والرسالة والسلطان على القلوب والأرواح والأبدان، ويسجلون أن ليس لهم إلى الخيرات سبيل إلا بطاعة الله ورسوله، وإذا هو يقضي الشطر الأخير من حياته العظيمة في الجهاد والعبادة والحج، وقد سلم له إجماع الشعب العربي كله على حبه وإكباره لم يشذ منه أحد ولم يند منه إنسان. وإذا هو قد قهر عدوا عنيفا وخصما عنيدا كان لا يزال ثملا بقوة المال وعزة الجانب وعصبية القبائل وحمية الجاهلية وسدانة الكعبة وعبادة أعظم عدد من الأوثان، ولم يقض الرسول حتى طهر الجزيرة كلها من الرجس والشرك وتعدد الأديان، وكذلك بسم الدهر لهذا النبي المرسل فلقي ابتسام الدهر عظيما، وعبس الدهر لهذا النبي المرسل فلقي عبوس الدهر عظيما، وكذلك أدبه ربه فأحسن تأديبه وجعله على خلق عظيم؛ فعرف كيف يكون كريما في المسألة كريما في المخاصمة كريما في الجهاد كريما في الهدنة، وكيف يذوق البغض كأشد ما يكون فلا يفسده البغض، وكيف يذوق الحب كأحسن ما يكون فلا يبطره الحب، وكيف ينصرف عن الحياة وقد ملأ قلوب الأحياء في كل ناحية من العالم، وكيف تمضي الأجيال والقرون على وفاته فلا تنقص من مجده ولا تقلل من مكانته في القلوب بل تزيده، ولا تضعف من سلطانه على النفوس بل تقويه، ولا تغري بذكره النسيان بل تذوده عنه وتجعل شخصه ماثلا دائما أمام شعوب الشرق والغرب كلها تلتمس عنده الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، وتتعلم من سيرته الصبر على المحن والفتن والجد في الذود عن الوطن والازدراء لكيد الأعداء والثبات لمكر الخصوم. وقال علماؤهم ومؤرخوهم الذين درسوا حياته: «كان محمد
صلى الله عليه وسلم
سليم الفطرة كامل العقل كريم الأخلاق صادق الحديث عفيف النفس قنوعا بالقليل من الرزق غير طموع بالمال ولا جنوح إلى الملك، ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر والمباراة في تحبير الخطب وقرض الشعر، وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية ويحتقر ما يتناقشون فيه من الشهوات البهيمية كالخمر والميسر وأكل أموال الناس بالباطل.» وقال ولز في تاريخ العالم: «وكان محمد أنجح الأنبياء وأكثرهم توفيقا.» كما قال الدكتور ماردروس المستشرق الفرنسي الذي ندبته الحكومة الفرنسية لنقل اثنتين وستين سورة من السور الطوال والمئين والمفصل اللواتي لا تكرار فيها ففعل وقال في مقدمة ترجمته التي صدرت في سنة 1926 ما معناه: «إن أكثر الكتاب ارتيابا وشكا قد خضعوا لسلطان تأثيره.» وكتب إدوار مونتيه أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف في مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن: «كان محمد نبيا صادقا يؤتى رؤيا ويوحى إليه، وكانت عقيدة التوحيد وفكرة الله متمكنة منه تمكنها من أسلافه أنبياء بني إسرائيل.» يعني موسى وداود.
إن الله لم يخلق محمدا ولم يبعثه لجيل بعينه ولا لشعب بعينه، وإنما خلقه وبعثه للأجيال جميعا وللشعوب جميعا. يعرف الناس مولد النبي ونشأته ودعوته وهجرته ولكنهم لن يعرفوا آخر أمره إذا عرفوا موته؛ لأن هذا الموت لا يختم حياة الأنبياء، ولعله يبدؤها أو يبدأ خير أجزائها وأعظمها غناء؛ لأن الموت يزيل منها العناصر الفانية ويبقي منها العناصر التي لا تقبل الفناء، وهي الخلود والهدى والمثل العليا.
وقد تختلف الخطوب على الإسلام والشرق العربي وقد تلم بهما الأحداث، وقد يصيبهما الخير والشر ويتناوبهما النعيم والبؤس، ولكنهما والعالم أجمع سيذكرون دائما أن هذا النبي العظيم البطل قد فتح لهما باب الحياة العزيزة الكريمة، وعلمهما كيف يبتغيان لها الوسائل ويسلكان إليها الطريق ويصبران في سبيلها لما يفرض عليهما من تضحية وما يلم بهما من آلام وما يبلغانه من مجد!
لقد كانت عظمة محمد
صلى الله عليه وسلم
في صبره الذي لم يكن يعرف ضيقا بالحوادث ولا إشفاقا منها ولا حرجا بالأعداء مهما عظمت شوكتهم وتكاثر حشدهم واجتمعت كلمتهم، وفي مضائه الذي لم يكن يعرف وقوفا عن السعي ولا التواء عن قصد السبيل، وفي حلمه الذي لم يكن يعرف بطشا بالجاهل حين يقدر على البطش، وفي عدله الذي لم يكن يعرف هوادة في الحق حين يأبى الحق الهوادة على طلابه، وفي عقله الذي لم يكن يعرف كلالا حين يجب التفكير، وفي فطنته التي لم تكن تعيا بحل مشكلة ولا تفتر عن تخليص معضلة ولا تعجز عن النفاذ إلى أعماق ما يعترضها من الأمور.
ليذكر المسلمون والشرقيون محمدا
صلى الله عليه وسلم ؛ فإنهم لا يحسنون بذلك إلى محمد
صلى الله عليه وسلم
بقدر ما يحسنون بذلك إلى أنفسهم، وما أشد حاجة المسلمين في كل يوم وفي هذه الأيام خاصة إلى أن يذكروا محمدا
صلى الله عليه وسلم
ويطيلوا النظر في سيرته؛ ليعرفوا كيف يكون الصبر حين تلم الخطوب، وكيف يكون الجهاد حين يتألب العدو، وكيف يكون البلاء حين يطالب الإيمان ذويه بأن يبذلوا ما يملكون من قوة وجهد ومن مال وروح ليحتفظوا به وليحفظوا عليه قوته وكرامته، وليبلغوا به ما يريدون من سعادة وهناء في الدنيا والآخرة.
الكلام في نسب محمد عليه الصلاة والسلام
اهتم العرب بالنسب اهتماما ينفي التساهل في نسب النبي
صلى الله عليه وسلم
نقلا عن أوثق المراجع العربية القديمة المعتمدة عند علماء المشرقيات، كالكامل لأبي العباس بن المبرد وابن إسحاق وكتب الحديث والسنة الصحيحة.
وقال ابن خلدون في المقدمة، ص78، مؤيدا نظريتنا: «إن الصريح من النسب يوجد للعرب المقيمين في القفر لما اختصوا به من كد العيش وشظف الأحوال؛ فصار لهم إلفا وعادة وربيت أجيالهم فيه حتى تمكنت خلقا وجبلة فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم؛ فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها، ولا تزال بنوهم محفوظة صريحة، واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة . كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط ولا عرف فيهم شوب.» ا.ه. من مقدمة ابن خلدون، ص78.
قال المبرد: حدثني علي بن القاسم عن أبي قلابة الجرمي قال: «حججنا مرة مع أبي جزء بن عمرو بن سعيد، قال وكنا في ذراه وهو إذ ذاك بهي وضي، فجلسنا في المسجد الحرام إلى أقوام من بني الحارث بن كعب لم نر أفصح منهم، فرأوا هيئة أبي جزء وإعظامنا إياه مع جماله فقال قائل منهم له: أمن بيت الخليفة أنت؟ قال: لا ولكن رجل من العرب. قال: ممن الرجل؟ قال: رجل من مضر. قال: أعرض ثوب الملبس! من أيها عافاك الله؟! قال رجل من قيس. قال: أين يراد بك؟! صر إلى فصيلتك التي تئويك. قال: رجل من بني سعد بن قيس. قال: اللهم غفرا! من أيها عافاك الله؟! قال: رجل من بني يعمر. قال: من أيها؟! قال: رجل من باهلة. قال: قم عنا! قال أبو قلابة: فأقبلت على الحارثي فقلت: أتعرف من هذا؟ قال: ذكر أنه باهلي! فقلت: هذا أمير ابن أمير ابن أمير ابن أمير. قال: حتى عددت خمسة ثم قلت: هذا أبو جزء أمير ابن عمرو وكان أميرا ابن سعد وكان أميرا ابن أسلم وكان أميرا ابن قتيبة وكان أميرا. فقال الحارثي: الأمير أعظم أم الخليفة؟ فقلت: بل الخليفة. قال: فالخليفة أعظم أم النبي
صلى الله عليه وسلم ؟! قلت: بل النبي. قال: والله لو عددت له في النبوة أضعاف ما عددت له في الإمارة ثم كان باهليا ما عبأ الله به شيئا. قال: فكادت نفس أبي جزء تخرج! فقلت: انهض بنا فإن هؤلاء أسوأ الناس آدابا!»
المثل الذي استشهد به الحارثي في سطر 12 وهو «أعرض ثوب الملبس» أي أبدى غير ما يراد منه، ص25، ج2، الكامل للمبرد.
وعند ظهور النبي - عليه الصلاة والسلام - كان أقوى الأسباط وأشهرها وأعظمها نفوذا بني مخزوم (الذين صاهرهم عبد المطلب بعد حفر زمزم) وكان بنو عبد شمس أرقى الأسباط وأكثرها تمايزا وأقربها إلى المجد الطارف والتليد، بمثابة الأرستقراطية القرشية الوارثة للشرف عن الآباء والأجداد، وكانت بنو أمية أظهر أسرة في بني عبد شمس، ولأبي سفيان بن حرب كلمة مسموعة وإرادة نافذة في شئون العشيرة كلها، وكان عبد المطلب وابنه أبو طالب وحفيده محمد من بني هاشم، وهم من قبل بني أمية أصحاب الحول والطول في مكة، ولكن قعد بهم الدهر وقلت أموالهم وتحولت عنهم الدنيا هنيهة قبل الإقبال الذي ادخرته لهم الأقدار على يد شبلهم المختار محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.
ويزعم بعض مؤرخي الإفرنج أن هاشما ووالده لم يكن لهم قبل الإسلام شيء من هذه الشهرة ولم يتطلعوا يوما إلى المكانة التي شغلتها بنو أمية، وأن هذه المفاخر انتحلت لبني هاشم بعد أن طلب بنو العباس الخلافة، فنشر أنصارهم دعاية لجدهم هاشم ليكون في صف بني أمية سلطة وشأوا. ولا نعرض لرد هذا الزعم؛ لأنهم قالوا به على أنه ظن فلم يجزموا بصحته، ولأن بعضهم يدأب على التقليل من شأن النبي
صلى الله عليه وسلم
وقرابته، بيد أنهم عندما يعرضون لما وقع بين النبي وكبار قريش في السلم والحرب قبل الدعوة وبعدها يرون الأحاديث والواقعات فتدل على أن هؤلاء الزعماء الجاهليين يعاملون محمدا معاملة الند للند ويواجهونه بالحرمة والتبجيل والتوقير، ولا يغيب عن الذاكرة أن أوائل الصحابة الذين التفوا حوله أمثال أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان كانوا من سادة قريش وأخص الخواص ولباب القوم، فلو قل محمد عنهم مكانة أو رفعة في النسب والحسب لما أعاروه ودعوته ما أعاروا من الالتفات والاهتمام، ولكن مما لا ريب فيه أن محمدا وإن كان من أخلص الشرفاء في قريش أصلا وأطيبهم أرومة وأعلاهم نسبا وحسبا، كان فقيرا بحسب ثروة أغنيائهم؛ لأن الدهر يتمه جنينا، وكان جده وعمه من ذوي الأسر الكثيرة العدد فلم يرث عن أبيه وأمه شيئا يذكر، ولم يتعلم صناعة تنفعه، ولم يؤسس تجارة تغنيه، وإذن كان محمدا ذا شرف عظيم في بيئته، ولكنه كان فقيرا في المال، وهكذا كان الأنبياء جميعا؛ موسى، ويوسف، وعيسى، ويونس، وعلى هذه الحال معظم عظماء العالم يزينهم شرف رفيع ويشد أزرهم عقل راجح وخلق عظيم ويعوزهم المال.
رحل أبو سفيان إلى بيزنطة وهو صخر بن حرب بن أمية رئيس المشركين يوم الأحزاب ويوم أحد، وأشدهم بغضا للنبي
صلى الله عليه وسلم
وعنادا في الشرك؛ لأنه لم يسلم إلا يوم فتح مكة (سنة 8ه) فسأله هرقل إمبراطور دولة الرومان الشرقية عن نسب النبي
صلى الله عليه وسلم .
قال هرقل يسأل أبا سفيان عن محمد: كيف نسبه فيكم؟
قلت (أبو سفيان يتحدث): محض، وهو أوسطنا نسبا (أي خيرنا وأفضلنا نسبا؛ لأن كلمة الوسط تعني الأفضل كواسطة العقد).
قال هرقل: أخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول ما يقول فهو يتشبه به؟ قلت: لا. قال: هل كان له فيكم ملك فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ قلت: لا. فقال هرقل: سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه محض من أوسطكم نسبا، فكذلك يأخذ الله النبي، لا يأخذه إلا من أوسط قومه نسبا (الأغاني، ص345، ج6).
البحث العلمي في نسب أجداد محمد صلى الله عليه وسلم وآبائه وأمهاته على طريقة النقد الحديث
يعد البحث في نسب النبي بحثا علميا من أدق البحوث وأصعبها؛ لأن الأنساب عند العرب كانت محفوظة في صدور أصحابها ولم تكن مدونة في سجل، وهي بلا شك صادقة مائة في المائة؛ لأنها كانت موضع الفخر، وشارة الشرف وعلامة الحسب ورابطة الدم؛ فالنسب المحفوظ في شهادة الميلاد أو تذكرة الشخصية ووثيقة الجنسية، وتلك لعمرك ثلاث أوراق لا يملك رجل في العصور الحديثة أن يستغني عنها، وهي في الجماعات الفطرية كان طلبها أشد، فكان الحاكم والمحكوم والصديق والعدو والجار القريب والبعيد يبتدر كل من يلقاه بسؤال لا مناص منه: «من الرجل، وإلى من ينتسب؟» وكان وراء هذا السؤال في كثير من الأحوال النجاة أو الهلاك، الخير أو الشر، الحب أو البغض، الزواج أو العزوبة، المال أو الفقر ، وإذن كانت الأنساب من أهم ما عني العرب بحفظه وروايته في الجاهلية والإسلام، ولم يكن حفظ الأنساب مقصورا على اختصاصيين في القبائل يوصفون بالنسابين لانقطاعهم لحفظ أنساب الأبناء والآباء والأجداد والأمهات والخئولة والأعمام، بل كان بعض الأشراف والزعماء يحفظون الأنساب ويروونها ويرجع إليهم فيها، ومن هؤلاء العظماء الذين اشتهروا بحفظ الأنساب سيدنا أبو بكر الصديق عليه رضوان الله (ابن الأثير وطبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام والأغاني والكامل).
علمنا أن بعض كتاب الإفرنج؛ ولا سيما الإنجليز منهم أمثال سبرنجر وموير ومرغليوث متعصبون على الإسلام ونبيه محمد؛ فاتخذوا البحث العلمي وسيلة لإشباع عداوتهم، وبعضهم على كثير من العلم بآداب العرب وتاريخهم، ولكن يسيئون استعمال بعض النصوص جهلا منهم بمعانيها، أو رغبة في الانفراد بشذوذ الفكرة، وبعضهم بلا ريب يخدع القارئ ويتغفله فيكذب متعمدا غير محتشم، وغير حاسب حسابا لما يؤاخذ به على تكذيب المصادر التي تناولها.
ومن هؤلاء المخادعين مرغليوث الإنجليزي الذي ألف وصنف كثيرا في تاريخ الإسلام والعرب، وكاد كتابه «محمد» يفتن فريقا كبيرا من أذكياء شبابنا الذين لم يقفوا على تاريخ نبيهم إلا من صفحات كتابه، فحاول هذا المغالط في مواضع شتى أن ينال من شخص النبي
صلى الله عليه وسلم
نيلا بغير حق؛ فغمز ولمز وهمز وراوغ وزاغ وناوش وأخفى أكثر ما يعلم ليقول بعض ما لا يعلم.
ومن تلك المغامز ما سرى إلى ليون كايتاني المؤلف الإيطالي ومن قبله موير الإنجليزي، فادعوا أن كثيرا من نسب النبي موضوع بعد الإسلام، وأن ابن عمه عبد الله بن عباس وضع كثيرا من الأعلام والحوادث التي لم يكن لها مرجع في التاريخ، وأن شجرة الأنساب أو أنهار الأنساب لم تكن في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
بل وضعت في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما طالب المحاربون القدماء في العراق بتقدير العطاء بحسب الوقائع التي شهدوها، وكان واجبا أن يثبت طالب العطاء (المعاش أو المكافأة) أنه مسلم وأنه منسوب إلى بطن أو فخذ من قريش وأنه جاهد في الإسلام؛ فاضطر النسابون إلى وضع «الأشجار والأنهار والسلاسل» النسبية التي تضمن العطاء للمجاهدين. وقد يكون هذا حدث أو لم يحدث.
أما عن نسب النبي فلم يقنع هؤلاء المكابرون بأنه عاش ثلاثة وستين عاما بين أعدائه، ومنهم قومه وعشيرته، يتربصون به الدوائر، ويتحينون الفرص للفتك به، دع عنك إضعاف شأنه وتكذيب دعوته والحط من كرامته،
1
فلو أنهم عرفوا عنه دخلا في نسبه أو ثلمة في حسبه لما تورعوا عن التشهير به والطعن عليه من هذا الجانب، وعاش شطرا من حياته (وهو أخصب الشطرين وأغزرهما خيرا على العالم) في يثرب (مدينة النبي) بين المنافقين واليهود، وأنهم لو وجدوا في درعه خرم إبرة أو سم خياط ما رحموه ولا راعوا في حقه جوارا ولا صحبة ولا ذمة ولا إلا؛ لاجتماع كلمتهم على مقاومته.
دع عنك أن حياة النبي كانت حياة عامة في المساجد والأسواق وميادين الحرب، ولم تكن حياة دير ولا صومعة، وليس فيها خفاء ولا غموض، بل كانت مفتوحة لنور النهار والهواء الطلق، فلم يكن مثل تلك الحياة ليقوم على الدجل أو اصطناع الأجداد وانتحال الآباء مما ليس هو بحاجة إليه، فما ادعى ملكا ولا ميراثا يؤهل إليهما النسب والحسب، ولم يلتمس طوال حياته مالا ولا سؤددا.
ولكن هؤلاء الأوغاد يأبون إلا أن يدعوا أن نسب النبي منتحل لغايتين؛ الأولى: ليتصل بإسماعيل وإبراهيم عن طريق عدنان. والثانية: ليظهر بمظهر الشرف والمجد، وأنه أشرف قريش، وقريش أشرف العرب! وقد جاراهم في الأولى مؤلف كتاب «في الشعر الجاهلي» حين تعرض لإبراهيم وإسماعيل في بناء الكعبة،
2
وتراهم لأجل أن يصلوا إلى هذه الغاية يجرحون المؤلفين في الأنساب أمثال ابن الكلبي.
أما عبد الله بن عباس فقالوا فيه ما قالوا ونسبوا أنه كان إذا ذكر عدنان وأراد النساب أن يصعد وراءه يقول: «هنا يبدأ كذب النسابين» (صبح الأعشى للقلقشندي، وأخبار مكة للأزرقي)، كما سبق للنبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لا ترفعوني فوق عدنان» (طبقات ابن سعد، ج1، والإصابة لابن حجر، والمواهب اللدنية للقسطلاني).
لماذا يكذب النسابون؟ إنما يكذب النسابون ليثبتوا أن إبراهيم وإسماعيل بنيا الكعبة، وأن بناء الكعبة بأيديهما أسطورة تاريخية لأن الكعبة لا يعرف بانيها! وقد غاب عن أذهانهم أن بناء الكعبة وارد في القرآن، سورة البقرة آية 125-127.
3
وهم يدعون أن الأنساب اصطنعت في عهد عمر الخليفة الثاني، فلا يعقل أن شيئا حديثا يخترع؛ ليثبت شيئا قديما! وإذا قيل إن الأنساب وضعت لتؤيد القرآن، فهذه حجة واهنة؛ لأن الذي لا يؤمن بالقرآن لن يصدق النسابين. وإن سلموا هم بحسن نية النبي
صلى الله عليه وسلم
وصدقه كما قال معظمهم في العهد الأخير (نولدكه وهيرجر ونجيه وجولدزيهر وولز) فلا يمكن أن يكون قد كذب في ذكر بناء الكعبة، ولا سيما أن هذا القرآن ليس من كلامه ولكن تلقاه بالوحي الإلهي.
وإذن تكون دعوى انتحال النسب على غير أساس، وإذا ضربنا صفحا عن افتراض سوء النية عند هؤلاء المؤرخين الإفرنج؛ فكيف نعلل صدور هذه التهمة عنهم وفيهم من ينتسب إلى العلم والعلماء؟! والجواب على هذا السؤال سهل وتعليله واضح من تاريخ آدابهم وأديانهم.
إن تاريخ القوم حاشد بالأساطير والخرافات والخزعبلات والميثولوجيا؛ فهذه بلاد اليونان لا يخلو سطر واحد من تاريخها الديني والقومي من أسطورة أو خرافة أو أعلام موضوعة وحوادث مخترعة، ووقائع مبتدعة، فالأرباب - وهم خليط من الجن والإنس والكواكب والوحوش - يسكنون جبل أولمب ويتعاشقون ويتباغضون ويتحاربون ويتنازعون السلطة ويختلطون بالبشر ويخطفون نساءهم ويسبون حريمهم للزواج والتناسل. وأبطال هؤلاء القوم غارقون في الخيال من قمة رءوسهم إلى أخماص أقدامهم.
ونظرة واحدة في ديوان الإلياذة أو الأوديسة كافية لإقناع القارئ، وكذلك الرومان لا يقلون خرافة عن أساتذتهم اليونان؛ فمدينتهم أسسها روميولوس وريموس بعد أن تغذيا بلبان ذئبة كما أن تيزيو أسس أثنيا وهو يصارع الوحش والجن ويواقع بنات الغاب وعرائس البحر ... إلخ. وآلهة الرومان وتاريخ الرومان وأبطال الرومان مستنبطة مما سبق العصور الثابتة في التاريخ من الأساطير والقصص الموضوعة، ولكل شعب من الشعوب الأوروبية مثيولوجيا قائمة بذاتها، حتى إن الشعب الألماني والشعب الإنجليزي - وهما حديثا عهد بالنسبة لليونان والرومان - لهما مثيولوجياتهما يتلقنها الأطفال في المهد وفي البيت قبل المواظبة على المدرسة؛ فقد وضع الشقيقان الألمانيان جريمة وبعض كتاب الإنجليز في قصصهم أكواما مكدسة من الخرافات والأساطير للأطفال. وعاب بعض المؤلفين الإفرنج على العرب والمسلمين أنهم فقراء في المثيولوجيا؛ أي ينقصهم مجد الكذب على التاريخ! بل إن الأدب العربي لا يعرف المثيولوجيا؛ فالمستشرقون إذن مشبعون بالأساطير، فلا يتخيلون أن أمة تنبت في يوم وليلة كما نبتت الأمة الإسلامية من قلب جزيرة العرب فجأة وارتجالا، ولم يكن موضع للطعن في الإسلام بعد أن طعنوا على نبيه ووصفوه بالشعوذة والدجل والخداع (صنعوا كما صنعت قريش قبل إيمانها) فلما خجلوا أمام الحقائق الباهرة، طعنوا في نسبه وفي بناء الكعبة وفي شرف محتده وفي شرف قريش كلها وجاراهم بعض المصريين كما فعل مؤلف كتاب «في الشعر الجاهلي» في مواطن عدة من كتابه تلميحا وتصريحا؛ فطعونهم هينة فاترة لا تجدر بها العناية ولا تزعزع ثقة المسلمين بنبيهم، لم يكن محمد بحاجة إلى علو الحسب والنسب، ولا كثرة المال.
ولو كان محمد من قبيلة ضعيفة النكاية وأسرة وضيعة المكانة ومن صلب والدين معدمين فلم يكن ليمنعه بلوغ الذروة التي بلغها بإرادة الله وحسن توفيقه واجتهاده وثبات جنانه وقوة إيمانه. وغاب عن فطنة هؤلاء - الذين ما زال الناس يرونهم في سمت العلماء - أن الأنساب كانت محفوظة منقولة مروية، وأن الذين رووها ثقات لم تخدش روايتهم بحسب قواعد الإسناد التي حذقها هؤلاء الإفرنج وأتقنوا معرفتها وعلموا أن انتقادها لا يكون إلا برواية تزيد عليها قوة أو على الأقل تعدلها، ولا يمكنهم أن يضعفوا من شأنها بنقد مغرض غير نزيه أو دعوى يكسبونها طلاء ووهما، كقولهم لو أن بين عدنان ومحمد عشرين؛ جدا أي عشرين جيلا وقدرنا أعمارهم بستمائة سنة (20 جيلا × 30 سنة = 600 سنة)، يكون عدنان معاصرا للسيد المسيح! مع أن عدنان مذكور عنه أنه حارب بختنصر قبل المسيح بستمائة سنة إلخ إلخ. بمثل هذا يتسلح المكابرون، وإن مثل هذه الحجة القائمة على حساب افتراضي لا تنهض دليلا على صحة زعمهم، وإنما تصلح لتصحيح خطأ تاريخي لغزوة العراقيين بقيادة بختنصر أو سواه أرض الحجاز بعد الإغارة على فلسطين، وهذا التاريخ دونه الإفرنج أنفسهم فلا يجبه به العرب وهم لم يدونوا تاريخ الغزوات ولا تاريخ الهجرات والنزوحات التي شهدوها، ولأنها كانت بالنسبة لهم متغلغلة في ظلام القرون السابقة لعهد التاريخ، وإن تدوين التاريخ العام غير حفظ الأنساب، والعرب معروفون طوال الأجيال بأنهم أمة أمية حتى لقد عيرهم بها جيرانهم من اليهود والنصارى،
4
وقد لجأ خصومنا من المستشرقين إلى هذه الوسيلة الحسابية نفسها في نقد النسب بين إبراهيم ومحمد
صلى الله عليه وسلم
فعدوا الأجيال بينهما ... وهي لا تقل فسادا عن الأولى؛ لأن عدد الأجيال بينهما غير معروف بالدقة، وقد اعتمد فيها الإفرنج على الرواية والحساب التقريبي، بل إن عبد الله بن عباس الذي ينسب إليه الإفرنج نوعا من المبالغة (أو أكثر منها) قال: «قبل عدنان يبدأ كذب النسابين» فمن يأخذ بالحساب التقريبي - وهو نوع من الافتراض - معتمدا على رواية النسابين، إنما يعتمد على أكاذيب؛ فقد حاول كايتاني في صفحة 58، ج1، اعتمادا على سبرنجر أن يظهر إبراهيم في ثوب المعاصر لقورش ودارا عاهلي الفرس اللذين حكما في القرن الخامس قبل المسيح، فيكون أقرب ما يكون من عدنان! وهو حفيد أحفاده! مع أن عهد إبراهيم أبعد من ذلك بكثير، ولكن عمليات الجمع والطرح والقسمة التي حذقها كايتاني وموير الإنجليزي تنتج التاريخ المرغوب فيه، وهما دائما يحتسبان الجيل ثلاثين عاما! وهذا خطأ؛ لأن عهود البطاركة في تلك العصور المستغرقة في القدم كانت مشهورة بطول أعمار أبطالها. وقد يتجاوز بعضهم المائة سنة.
5
ولم أتمهل عند هذه الخواطر الخاطئة من الجهة العلمية اكتراثا بها بعد أن ثبت لي بالبحث خطؤها، إلا أن بعض الباحثين في مصر، وهم ممن ألموا إلمامة صغيرة بما كتبه الإفرنج، ولا سيما عن التشكيك في تاريخ إبراهيم وبناء الكعبة، أخذوا منه صورة خادعة ووسيلة لتضليل الشبان والبسطاء؛ فزفوا إليهم تلك النظرية كفتح جديد وكشف حديث وصلوا إليه بدرسهم، في حين أنها وعشرات مثلها راقدة راكدة في بطون الكتب القديمة لم يعن بها أحد من أفذاذ الباحثين المحدثين؛ فإن شخصية إبراهيم تمثل الزعامة السامية، وترشدنا إلى لون الحياة في الصحراء التي خضعت لها القبائل الرحل، التي تعتمد في حياة الرعاة على الخصب والماء. ولا يوجد في الأرض ولا في السماء ما يعوق مثل هذا «الشيخ الوالد» أن يؤسس معبدا أو أن يرزق ولدا من جارية أو محظية أو زوجة شرعية، فينزح بها إلى الحجاز فينمو الطفل ويترعرع كما نشأ وترعرع ألوف الأطفال في حضانة أمهاتهم فصاروا بعد الرشد أبطالا، ثم يصاهر الابن النجيب قبيلة عربية فيرزق منها نسلا ينتهي بولد اسمه محمد! ليس في هذه الهجرة ولا في هذا النزوح وذلك النزول بعين ماء أمر خارق للعادة أو مخالف للعقل مثل هاتيك الخوارق التي صحبت حياة موسى وعيسى - عليهما السلام. والعقل الذي يستسيغ ميلاد سيدنا عيسى ابن مريم - عليهما الصلاة والسلام - بغير علاقة جنسية، ويصدق أن بكرا بتولا مشهورة بالفضل والصلاح من أشرف البيوتات وأبعدها عن الدنس والرجس وأعف الوالدين وأطهرهم تلد غلاما زكيا يصير نصفه إلها ونصفه الآخر إنسانا ثم يصلب فلا يموت بل يرفع إلى السماء؛ ذلك العقل الأوروبي الذي يمثله موير وسبرنجر وكايتاني (الكاثوليكي الروماني)، إن هذا العقل الأوروبي المسيحي يؤمن بهذه المعجزة كما نؤمن نحن بها ثم يجادل في حوادث تاريخية طبيعية ليس فيها خوارق للعادات يجعلنا نظن أن ما أورده بعض المؤرخين كان نتيجة حقد وبغض دفين نشآ عن خلة الغلو المتركز في طبيعتهم، فأولدت التعصب الذميم باسم العلم والنقد، وكلاهما من هذا التعصب بريء، وإنما دفعهم إليه ما اشتهر عنهم من المغالاة في دينهم ثم إلى الانتقاص من أديان سواهم، وما أبلغ نظم القرآن وأحكم أسلوب آياته في زجر أصحاب هذا الغلو؛ إذ يقول الله وهو أصدق القائلين:
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، وقال تعالى:
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام (سورتا النساء والمائدة).
لقد دحضنا بكل قوتنا نظرية كايتاني وموير وسبرنجر الخاصة بنسب النبي
صلى الله عليه وسلم
ونشير إلى إعجابنا بالمؤلفين اللذين وضعهما روبرتسون سميث أستاذ العلوم العربية بجامعة كمبردج، وهما «القرابة والزواج في بلاد العرب الأقدمين» و«تاريخ ديانات الساميين» فعالج ما أورده في الكتابين بأقصى ما يمكن من الحذق والنصفة، ودلل على نظرياته بما ينطق بعلمه وفضله مقصيا التعصب الذميم، ومؤثرا الحق ما استطاع. تقوم نظرية روبرتسون سميث في كتابه «الزواج والقرابة في العرب القدماء» على مبدأ سيادة الأمومة، وهو ما يسميه العرب الكفالة. وتعدد الأزواج للمرأة العربية على التعاقب. وغن انتساب الأبناء إلى الآباء يرجع إلى زمن قريب قبل النبي
صلى الله عليه وسلم
بمائة وخمسين عاما وإلى وجود نظام «الطوطم» ونحن لا نعارض الرأي الأول بل نؤيده لما وجدناه من أدلة تدعمه في التاريخ العربي والأدب العربي مما لا يقبل الشك. والرأي يدل على أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
ظهر بعد انقضاء فترة عهد الأمومة والحضانة أو عصر سيادة المرأة، وأن عصره كان عصر إصلاح جديد وتطور اجتماعي ذي شأن خاص جعلا بلاد العرب تسبق الأمم الحديثة؛ فوضعت الأساس للنظم الجديدة التي تقدمت الحضارة العالمية، ومن صحة نظريات روبرتسون سميث إلى الطعن في نسب النبي
صلى الله عليه وسلم
مسافة بعيدة قربها التعصب وبغض بعض الأوروبيين لكل ما هو عربي وإسلامي ومحمدي. ونحن نصارح كل قارئ بأننا من أنصار نظرية «الحضانة» في بلاد العرب في العصور الخالية السابقة على التاريخ الإسلامي، كما أثبتنا أثره في زواج سلمى بنت عامر من هاشم بن عبد مناف وهما والدا عبد المطلب جد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو نسب صحيح صريح لم يدخله اختلاط ولا عرف فيه شوب.
ومهما يكن الأرب الذي يبغيه المتعنتون من نقدهم «الجاهلي»، فمما لا ريب فيه أن محمدا ولد من عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب، وأن هذا الجد الكريم كفل حفيده بعد وفاة والده عبد الله في مقتبل عمره، وأن ولده أبا طالب لم يكن ليكفل محمدا بعد وفاة جده إن لم يكن عمه شقيق أبيه؛ فقد كان أبو طالب كثير الولد قليل المال، وليس من كان مثله ليكفل يتيما إن لم يكن بينهما أشد أواصر القرابة. قال كايتاني وهو من ألد خصومنا (في ص170، ج1): «عبد الله شخص تاريخي، وهو والد محمد
صلى الله عليه وسلم
لا ريب في ذلك، وسواء أكان «عبد الله» اسمه أو أنه سمي كذلك بعد الإسلام تمجيدا لاسم جاهلي كان يعرف به كعبد اللات؛ فإن الشخص الذي عرف بهذا الاسم هو والد محمد.» ا.ه. ويقصد كايتاني بذلك أن عبد الله ربما سماه أبوه عبد المطلب باسم وثني، ظنا من كايتاني أن اسم عبد الله لم يكن معروفا ولم يكن ينسب لله بالعبودية أحد من عرب الجاهلية .
6
ونقل عن ويلهاوزن أسماء عبد اللات وزيد اللات وتيم اللات، وأن هذه الأسماء تطورت إلى عبد الله وزيد الله وتيم الله، ومن هذا القبيل اسم عبد الله بن عبد المطلب، ولكننا قدمنا في كلامنا على الشعوب السامية أن اسم عبد الله واسم «الله» نفسه كانا معروفين عند العرب القدماء، وقد وجدا منقوشين على بعض الأحجار في شمال الجزيرة وجنوبها بالخطوط الصفوية والمعينية والسبئية، وهذا دليل أثري لا يقبل النقض، أما فيما له علاقة بنسبة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى عدنان فلا شك في أن كل المؤرخين مجمعون على أن نسب النبي من عبد الله إلى عدنان صحيح صريح متصل لا شك فيه، ولكن الحلقات من عدنان إلى إسماعيل غير واضحة، وليس معنى هذا أن محمدا ليس من نسل إسماعيل، ولكن معناه أن الشجرة مطمورة، ولا ريب أن جميع العرب المستعربة انحدروا من سلالة إسماعيل بن إبراهيم وأمهم بلهاء بنت يعرب بن قحطان أو المتمطرة بنت عدي من قبيلة جرهم البائدة.
ولكن هذا جزء غارق في ظلام التاريخ، بهذا تعترف التواريخ العربية لابن دريد والطبري وابن خلدون (ابن خلدون، ج2، ص298)، وتذكر تلك التواريخ أن بختنصر ملك بابل بعد أن جاء فلسطين لتشتيت شمل اليهود طاردهم في جزيرة العرب وبلغ مكة، فانبرى له عدنان على رأس بعض قبائل الحجاز وحاول وقف غارته، ولكن بختنصر فاز عليه وهزمه في موقعة «حضور» وأن عدنان قضى بعد عودة بختنصر إلى بابل، وقد يكون بين عدنان وبين محمد - عليه الصلاة والسلام - أربعون أو خمسون جيلا بحسبان الجيل من ثلاثين إلى ثلاث وثلاثين سنة؛ أي عشرة قرون أو أحد عشر قرنا، وإذن نشأت في الحجاز فكرة وطنية ضد المغير الأجنبي وتجسدت الفكرة في الجد الأعلى لمحمد جيشا يقوده عدنان بأمل النصر وطرد العدو الأجنبي، فكانت عاقبته ما أمله الزعيم العربي من ارتداد المهاجم بغضا في الصحراء وخوف الفناء على جيشه، ومثل هذا ما حدث لنابوليون في روسيا.
ومن الإفرنج من يقر بصحة هذا النسب بحذافيره ، وفي مقدمتهم المحقق كوزان دي برسيفال أدق من كتب في تاريخ الجاهلية؛ فهو يعتبر عدنان وأولاده وأحفاده - وهم أجداد النبي - «أشخاصا تاريخيين» لا منتحلين ولا من صنع خيال المسلمين بعد البعثة عندما أرادوا أن يعظموا من شأن النبوة بتعظيم شأن الأجداد وإيصال النسب إلى النبي السامي إبراهيم، وقد فطن كوزان دي برسيفال إلى أن الأنساب قامت على رواية لا على دراية، وليس للمنطق أو الجدل أو الافتراض الخيالي دخل فيها لثبوتها بالنقل، ولا يمكن نفيها أو تفنيدها إلا برواية في قوة التي أثبتتها، ولا دخل للاستنتاج العقلي في ذلك، ولما كان برسيفال مؤرخا بالمعنى الاتباعي لهذا الوصف، فقد وجد إجماع أئمة المؤرخين أمثال الطبري وابن خلدون وخميس، وكلهم يذكرون يعرب وقحطان، ومهداد بنت اللهم، وجلحب بن جديس، ومعد بن عدنان، ويذكرون غزو البابليين لمكة واحتلال اليهود ليثرب وقد انحدروا إليها من أرض فلسطين على أثر انهزامهم أمام الجيوش البابلية التي كانت تطاردهم وتقتفي أثرهم إلى بلاد العرب، كما وجدت نقوش عربية قديمة على قبر امرئ القيس بن عمرو اليمني تثبت أنه كان صاحب التاج وأنه تغلب على «معد» ورجاله. وهذا دليل تاريخي من الحفريات على وجود معد بن عدنان يحدد زمان وجوده بدقة، وترى المتعصبين من المؤرخين الأجانب يخلعون ثوب الأساطير على هذه الشجرة العدنانية ليطعنوا في العلاقة بين إبراهيم ومحمد، وليزعزعوا الصلة بين الحنيفية والإسلام، وليس لهم غرض غير ذلك، ولكن المنصفين منهم يسلمون بصحة هذه الشجرة العدنانية. وكان مؤرخو العرب من أكبر أسباب هذه الطعنات؛ لأنهم ما عدا واحدا أو اثنين يحشدون الوقائع حشدا ولا يبالون إن اتفقت أو تناقضت، ولا يحترمون عقول الأخلاف من القراء، فخلطوا التاريخ برواية العجائب، ولم يكتفوا بالنقل بعضهم عن بعض دون أن يتحروا الحقيقة أو يبذلوا جهدا في الوصول إليها، ففتحوا على الصدق أبوابا ما زالت تتسع حتى استحال غلقها أو كاد، وقد أجمعوا على أن نسب النبي إلى عدنان صحيح، ولكنه فيما فوق عدنان مجهول ومشكوك في تفصيله، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
وعبد الله بن عباس - رضي الله عنه - يقولان بعد عدنان: «هنا يبدأ كذب النسابين.» وقال الطبري: «من فوق عدنان لا يصح فيه شيء، ولا يمكن حفظ النسب فيه منه إلى إسماعيل.»
7
وكان لعدنان ولدان، هما معد وعك. ومعد كان لا شك شخصا تاريخيا، وقد وجد اسمه منقوشا على قبر امرئ القيس بن عمرو. ونص هذه الوثيقة الحجرية بلهجة اليمن الجنوبية «تي نفش امرئ القيس بن عمرو ذو أسر التاج وهرب معد وكله ... إلخ» وتفسيره باللغة العربية بلهجة قريش الشمالية: «هذا قبر امرئ القيس بن عمرو الذي أخد التاج وهزم معدا ومن معه.»
وما زالت قصة اجتياح البابليين لجزيرة العرب بسبب مطاردتهم اليهود تتردد في صفحات أعلام المؤرخين العرب كالطبري وخميس وابن خلدون. وتبدأ الإرهاصات فيقول بعض هؤلاء المؤرخين إن الله أراد أن يحيط معدا بعنايته لأنه كان وقت هزيمة والده عدنان في مستهل العقد الثاني من عمره فيرسل اثنين من أنبياء بني إسرائيل - أرميا وبرخيا - لينقلاه إلى حران في العراق ليكون بمأمن من أخطار الغارة، ثم يعيدانه محفوفا بالعناية إلى مكة، وقد ذكر هذه القصة لفيف من قدماء المؤرخين ونقلها عنهم الإفرنج كنوع من الأساطير العربية أو كلون من القصص الذي تنضح به المعقولية الشرقية، ولا سيما في الأمور الدينية، وهي لا تخرج عن النص الآتي: «لما سلط الله بختنصر على العرب أمر الله - تعالى - أرمياء أن يحمل معه معد بن عدنان على البراق كي لا تصيبه النقمة.» وقال: «فإني سأخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل.» ففعل أرمياء ذلك واحتمله معه إلى أرض الشام فنشأ مع بني إسرائيل ثم عاد بعد أن هدأت الفتن؛ أي بموت بختنصر.
وفي رأينا أن قصة الغارة البابلية لجزيرة العرب في عهد عدنان وإن تمكن من التاريخ الصحيح فإنها على الأقل تحدث في الوقت المذكور في كتب المؤرخين؛ أي في عهد عدنان؛ لأن بختنصر أغار على فلسطين في سنة 606 قبل المسيح، وبين محمد
صلى الله عليه وسلم
وعدنان عشرون جدا على حساب كايتاني ومن معه، فإذا قدرنا لكل جيل ثلاثا وثلاثين كتقديرهم لنتج من ذلك 660 سنة وهو عهد يقارب عهد رسالة المسيح؛ فكأن عدنان كان من أهل القرن المسيحي الأول، وبختنصر من أهل القرن السابع قبل المسيح؛ فبينهما ستمائة عام على الأقل. وتفسير هذا التناقض العجيب هو أن قصة غارة بختنصر أو البابليين على الجزيرة العربية لها أثر تاريخي في ذهن رواة العرب لحوادث وقعت قبل ذلك بكثير؛ لأن ملوكا كثيرين من بابل أغاروا على الجزيرة قبل بختنصر وبعده وأثناء الهجرات التي تماوجت جموعها بين الجزيرة والعراق على مدى أجيال طويلة.
وليس في حياة نزار ومضر وإلياس ما يستحق الذكر سوى تعديل تسمية أولاد إلياس، وهم: مدركة وطابخة وقامعة، بقصة إبل كان يسوقها مدركة للمرعى فجفلت وذعرت لرؤية أرنب بري وهامت على وجهها فأدركها مدركة لشدة عدوه وقوة ساقيه، وتمكن الولد الثاني من الأرنب فذبحه وطبخه، ولزم الثالث خيمته؛ فسمي كل منهم باسم يتفق والحال التي كان عليها؛ فمدركة للذي سبق، وطابخة للذي طهى، وقامعة للذي أقام! ونحن نروي هذه القصة تسلية للقارئ ولنا وتصويرا للحياة البدوية، أما النضر فهو رأس قبيلة قريش التي اختلف المؤرخون في تفسير معناها اللغوي، والأرجح أن بني النضر بن كنانة أحرزوا هذا اللقب لمشابهتهم «للقرش» أو لحبهم للقرش، وهو الحوت البحري الذي يلتهم كل شيء في البحر، وكذلك كانت قريش يلتهمون كل شيء في البر لقوة بأسهم وشدة سواعدهم واتساع مطامعهم وتغلبهم على جميع القبائل، إلى غير هذه من المعاني، ونجدها مسطورة في الطبري والقاموس وتاج العروس والأزرقي (طبع مكة جديد سنة 1934 الجزء الأول) وابن خلدون وخميس ... إلخ.
وقد روينا في مكان آخر تعليل هذه التسمية بطريقة الطوطم. أما فهر فقد اشتهر بحروبه ضد قبائل اليمن التي قادها الملك حسان بن عبد كلال بن مثوب ذو حراث الحميري.
8
وكانت غاية حسان من هذه الحرب أن يلحق أذى بالكعبة؛ فهزم وأسره الحارث بن فهر فبقي ثلاث سنين يعاني السجن في مكة. ومن هنا نرى أن عدوان ملوك اليمن على البيت العتيق لم يكن مقصورا على هجوم أبرهة الأشرم عام الفيل، بل إن له سوابق حاول أصحابها القضاء على الوثنية.
أما كعب فقد ولد سنة 300 للمسيح، وكانت قبيلته تجتمع في كل أسبوع مرة، وسمي هذا اليوم «يوم العروبة» أو يوم الرحمة، وهو الذي صار يوم الجمعة، وجعلته الشريعة الإسلامية يوم الصلاة العامة الجامعة؛ فهو يوم عيد قومي لاجتماع القبيلة، وعيد ديني للأمة؛ لأن فيه مظهر الألفة والوحدة في العبادة، وصاحبه الذي عرف به «كعب». وقد حافظ العرب على تاريخ وفاته وجعلوه ذكرى وطنية يحتفل بها في كل عام لولا أن حدثت غارة الفيل، فمحت كل ما قبلها من ذكريات المجد وتواريخه قبل الإسلام بأربعين عاما؛ إذن كان كعب من أبطال العروبة، بل بطلها الاجتماعي قبل حفيده قصي الذي لم شمل القبيلة حقا وشرع لها ونظم مكة - كما سبق بيانه - وقسمها إلى رباع ووضع قوانين حماية الحجيج والتجار والأضياف وخلف كعبا مرة، وولد لمرة كلاب والد قصي، فصار قصي لمكة بمثابة تزيو لأثينا ورومولو لرومة كما سيأتي. وإذا جاز لهؤلاء القوم أن يحاولوا القطيعة بين النبي وبين إبراهيم وعدنان، مع استحالة ذلك في نظر التاريخ والحقيقة، فكيف يجوز لهم أن يحولوا بينه وبين قصي، وقد كان قصي بطلا من أبطال التاريخ العربي قبل الإسلام؛ فإنه هو الذي أسس مدينة مكة وقسمها أرباعا وقسمها بين قريش وخزاعة وجمع شملهم ولم عزوتهم وربط أواصرهم وكون حياتهم الاجتماعية؛ فقد صنع قصي لمكة أكثر مما صنع تيزيو
Teseo
لأثينا ورومولو لروما، وقد أقر هؤلاء المؤرخون المتعنتون أن قصيا شخص تاريخي وليس بطلا أسطوريا. وقصي هذا هو الذي وصف بأنه مجمع قبيلة قريش، ولم يكن العرب يعرفون كلمة مؤسس ومنشئ ومنظم ومشترع، والحقيقة التي سيكشف عنها للقارئ هي أن قصيا كان ملكا دستوريا ووالدا للمجتمع المكي القرشي الأول ومبدعا للنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدركها النبي محمد وثار عليها وهدم الضار منها ليحل محلها نظما أرقى وأنفع وأعظم وأعم خيرا. غير أننا نميل إلى القول بأن قصيا نفسه لم ينشأ في مكة، وأنه قادم من مكان بعيد أو قاص، وأن قصيا لقب أطلق عليه ليدل على أصل نشأته كعادتهم.
لم تكن مكة قبل قصي سوى معبد بدوي قائم في الصحراء؛ أي لم يكن في المكان الذي أطلق عليه اسم مكة سوى الهيكل أو الكعبة أو بانتيون (مخدع) هاتيكم الآلهة الصخرية التي جلبها العرب من الشرق والغرب ليجلبوا إليهم الحجيج من كل حدب. ولا شك عند المؤرخين في تسلسل قصي من أصلاب عدنان المنحدر من نسل إسماعيل وإبراهيم (شرح سيرة ابن هشام بأمر غليوم الثاني طبع ألمانيا).
نشأة عبد المطلب جد النبي وحفظ تراث الأجداد
كان حفظ الأنساب وصون تراث الأجداد من حسنات العرب، وكان نسب محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
أشرف الأنساب وأطهرها، وأسماها وأظهرها في قبيلة قريش؛ فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد بن هاشم، واسمه «عمرو» بن عبد مناف بن قصي، وقيل إنه مجمع قبيلة قريش في حظيرة ابن حكيم الملقب بكلاب، وينتهي هذا النسب الجليل الفاخر بعدنان وإسماعيل. والذي نراه أن نقصر النسب التاريخي على بني عبد مناف، وهم عشيرته الأقربون كما أفصح عن ذلك قولا وفعلا عندما نزلت عليه آية:
وأنذر عشيرتك الأقربين (سورة الشعراء)؛ لأن قصيا قد يدخل في التاريخ التمجيدي ما دام قد نسب إليه تجميع قبيلته في موطنها، في حين أننا قد نعتقد أن جمع القبيلة والاستقرار بها في وادي مكة يرجع إلى زمن أبعد بكثير من عهد قصي إلى معد بن عدنان. أما بعد ذلك فهي أسماء أعجمية منها ما يوافق العربي في الاشتقاق والتصريف ومنها ما يخالفه، والنسابون يختلفون فيما فوق عدنان اختلافا كثيرا.
قال ابن هشام: «واسم عبد مناف المغيرة، ومناف اسم صنم أضيف لفظ عبد إليه كما يقولون: عبد يغوث وعبد العزى.
وقصي اسمه مريد، ولؤي تصغير لأي وهو الثور الوحشي، والفهر الحجر على مقدار ملء الكف؛ يذكر ويؤنث، والنضر الذهب الأحمر، وإلياس مختلف فيه (ولعله ضد الرجاء) قال رؤبة بن العجاج: «أمهتي خندف وإلياس أبي»، ومضر الأبيض من اللبن الماضر وهو الحامض، ونزار من القلة، ومعد من تمعد إذا اشتد، تمعدد أي أبعد في الذهاب، وعدنان مأخوذ من عدن إذا أقام ومنه جنات عدن أي جنات إقامة وخلود.»
1
وفي هذا النسب العالي مسألتان تلفتان النظر من ناحية البحوث الحديثة في علوم الاجتماع؛ الأولى: اسم القبيلة نفسه وهو «قريش»؛ فقد علله كتاب العرب بخبر غريب، وهو أن فهرا جد القبيلة مسمى قريشا؛ لأنه كان مع غيره في سفينة ببحر فارس؛ إذ خرجت عليهم دابة عظيمة يقال لها «قريش»
2
فخافها أهل السفينة على أنفسهم فأخرج فهرا سهما من كنانته ورماها به فأثبتها، ثم قربت السفينة منها فأمسكها وقطع رأسها وحملها معه إلى مكة فسمي باسمها قريشا.
ومن الظاهر الذي لا يحتاج إلى دليل أن هذا الخبر رواية يقصد بها إلى وصف جد القبيلة بالشجاعة في خوض غمار البحار ومحاربة الوحوش في البر والبحر والتغلب عليها، واتخاذ هذه الدابة العظيمة شعارا للقبيلة، الثانية أن والد قصي الذي قيل إنه جمع القبيلة في وادي مكة
3
كان اسمه «حكيم» ولقب بكلاب، وفسره بعض كتاب العرب بمعنى المجاهرة بالعداوة والمناصبة ظنا منهم أن في اللقب نقيصة، والثابت من بحوث علماء المشرقيات أن بعض الأفراد في القبائل الفطرية في سائر أنحاء العالم كانوا ينتسبون إلى الجماد والنبات والطير والحيوان، للدلالة على اتحاد الدم والنسب فيما بينهم، وهو ما يسمى بمذهب «الطوطم»،
4
ولا تزال بعض الأسماء عند الإفرنج مثل ليون وولف إلى يومنا هذا، ومعناهما الأسد والذئب، فبنو كلب وبنو كلاب ونمير وبنو أسد وثعلبة وبنو ثور وجحش ... إلخ، كلها أسماء أشخاص وبطون من القبائل التي أثبتت وحدة نسبها باتخاذ اسم حيوان ارتضته علما عليها (راجع ابن خلكان والمقريزي ولب اللباب)؛ فقد ذكر ابن خلكان ثلاث بطون تحمل اسم ثور، وجاء في لب اللباب أن حمامة كان بطنا من بني أزد كما كانت حدأة بطنا من مراد (ص77) وقال بعض المستشرقين إن هذه القبائل كانت تعبد تلك الحيوانات وتقدسها. وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى:
وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (آية 23 سورة نوح): إن بعض قبائل العرب عبدت يغوث في شكل أسد. ونضيف إلى ذلك أن ودا كان يعبد في صورة رجل، وسواعا في صورة امرأة، ويعوق في صورة حصان، ونسرا في صورة الطير المعروف، وكانت عبادة تلك الأصنام في أشكالها المختلفة شائعة في قبائل كلب وهمدان ومذحج ومراد وحمير، ومعظمها كما ترى يمانية في جنوب الجزيرة، وعبدوا إساف ونائلة، وهما رجل وامرأة زعموا أنهما بغتا متلبسين بجريرة الزنا حول الكعبة.
وقد سموا أولادهم عبد يغوث وعبيد يغوث وعبد الأسد،
5
وهما سيان ما دام الأسد كان يمثل يغوث، وكانوا يتسمون بأسماء الأشجار (ابن دريد، ص328) كذات أنواط التي عبدوها، وبأسماء الطيور كعقاب ونسر وغراب وصقر - ابن قتيبة «أدب الكاتب».
ولم يعرف الانتساب إلى أسماك البحر إلا في حالتين «قريش» و«عنبر» اسم قبيلة (الكامل، للمبرد، ص264)، وكره النبي أن يسمى رجل باسم حباب وهو اسم الحية أو الشيطان (الدميري، ج1، ص54) كما كان يكره اسم غراب ويغيره،
6
ولعله كان معبودا في بعض القبائل، وإذن تكون قبيلة قريش قد اتخذت لنفسها اسم وحش بحري كما أن في بنيها من انتحلوا أسماء النبات والطير والحيوان للدلالة على وحدة الدم بين أفراد الجماعة التي اتخذت أحد هذه المدلولات شعارا، وبقيت هذه العادة بعد الإسلام ولم تزل زوالا تاما، بل تخلف منها ما لا يشير إلى عبادة الحيوان أو الطير أو تقديسه، وما زالت في أنحاء العالم أثرا تاريخيا لطور اجتماعي مرت به القبائل الفطرية التي انتقلت إلى المدنية فصارت أمما متحضرة وشعوبا ذات معتقدات منزلة ومدنيات دينية.
زواج هاشم القرشي من سلمى النجارية بيثرب
كان هاشم بن عبد مناف - وهو الذي قال فيه حفيده أبو طالب:
إذا افتخرت يوما قريش بمفخر
فعبد مناف أصلها وصميمها
فتى من فتيان قريش، وكان لا يدانيه في الفتوة والمروءة سوى أخيه المطلب، وكان المطلب متآلفا مع أخيه هاشم، وقد سرت هذه الخلة إلى الأبناء والأحفاد بحكم الوراثة، ومن الكلام المأثور: «لم يفترق هاشم والمطلب في جاهلية ولا إسلام.» كان هاشم ابن عبد مناف وأخا المطلب واسمه عمرو سيدا كريما، وكان يهشم الثريد في إحدى المجاعات التي حصلت بمكة في عام من أعوام القحط، فلما قام هاشم بواجب الإسعاف والإغاثة، فأطعم من أطعم من الفقراء والمعوزين قيل فيه شعر غفل لا يعرف صاحبه إلا ظنا:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسلتون عجاف
وبهذا الكرم وهذه النخوة انتهت إلى هاشم سيادة قومه. وكان هاشم يحب أن يرحل في سبيل التجارة، ولا بأس بالمغامرات والمطوحات إذا اقترنت بالسعي على الرزق، وهو بعد شاب طروب في العقد الثالث، وغني كريم لا يكترث للمال كيف أنفقه، وكان خروجه حينا إلى الشام، فاتخذ ما شاءت له الأحوال من الإبل والأعراض، وشد رحاله إلى غزة - وهي مقصد كل حجازي - لأول عهده بالتجارة؛ لأن الشام أقرب من اليمن ولأن طريقها مأمونة وآهلة بقبائل متقاربة متعارفة متجانسة، فلما بلغ هاشم يثرب نزل على بني عدي بن النجار وكانوا من أشرف أهل المدينة وأعرقهم أصلا وأطيبهم منبتا، فرأى هاشم سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن حداس، تزوج منها أحيحة بن الحلاج وخلف منها عمرو بن أحيحة، فعلمت أنه يستعد لمحاربة قومها فجأة فاحتالت حتى أرقته، ولما نام ربطته بحبل ونزلت من الحصن إلى أهلها وحذرتهم، فلما جاءت أهلها استعدوا لمحاربة أحيحة وسموها «المتدلية»، ونسبوا إلى أحيحة قوله شعرا في وصف أخلاقها والتحذير من النساء:
تفهم أيها الرجل الجهول
ولا يذهب بك الرأي الوبيل
إذا أعصابها باتت فنامت
علي مكانها الحمى الشمول
لعل عصابها يبغيك حربا
ويأتيهم بعورتك الدليل
في الأغاني، ج13، ص114-120، يجد القارئ القصة مفصلة، فأحبها هاشم وخطبها وكانت من قبل أن يخطبها زوجا لأحيحة بن الحلاج، فلما رأته يعد العدة لمحاربة قومها فرت إليهم وحذرتهم؛ فكانت وفية لأهلها بأكثر من وفائها لزوجها بعد أن تبينت عداوته لقومها، ولعلها لم تكن تحبه فوق أنه أبعدها عن أهلها ودارها ووطنها، ولما كان فرارها من بيت أحيحة اقتضى تدليها بحبل في سواد الليل سميت «المتدلية». ولم يكن هاشم متعجلا في زواجه؛ فإنه بعد الخطبة ترك دار عروسه قبل أن يدخل بها،
1
وراح يتم رحلته ويقضي واجبه في التجارة، ولعله نذر جزءا من ربحه لزفافها؛ فجعل لحظ عروسه نصيبا في نجاحه، ووسيلة للتفاؤل بحياته الزوجية.
مؤرخو العرب يطلقون عنان الخيال
وهنا يتبسط مؤرخو العرب فيخلقون حول هذا الزواج هالة من الجمال الخيالي فيقولون: إن سلمى لم تكن زوجا شموسا لم يفتنها جمال هاشم وشبابه وماله، وإن احتفاظها باستقلالها أعظم من ذلك في نظرها، فاشترطت قبل العقد أن تلد في بيت أهلها فقبل هذا الشرط ثم مضى، ولما قفل بنى بها في بيت أبيها ثم سافر العروسان إلى مكة موطن الزوج، فلما دنا وضعها خرج هاشم إلى يثرب وتركها حتى تلد، ومضى إلى الشام في تجارته ورجا أن يعود فيجدها قد وضعت، كما رجا حفيده عبد الله والد محمد بعد ذلك، ولكن الحياة لم تصدقهما؛ فقضى هاشم نحبه في غزة وما زال في العقد الثالث، وولدت سلمى «شيبة الحمد» الذي سمي بعد ذلك «عبد المطلب» جد النبي - عليه الصلاة والسلام. ولا نعلم عن سلمى شيئا سوى أن ولدها عبد المطلب تربى في حجرها ومكث في المدينة سبع سنين، وكان يعرف اسم أبيه ويذكره لأترابه مفاخرا أثناء اللعب.
وكان الطفل «شيبة الحمد» لأنه ولد وفي شعره خصلة بيضاء، يلعب مع غلمان بني النجار، فكلما أصاب قال: «أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف» فسمعه رجل من أهل مكة، فلقي المطلب أخا هاشم وقصها عليه؛ فتحرك قلب المطلب لابن أخيه وهو يعلم أنه تربى في حجر سلمى بنت عمرو، ولعله صبر حتى يبلغ الطفل سبعة أعوام فيضمه إليه. ولعلها علة تحديد أجل الحضانة، ثم لا نعلم عن سلمى شيئا. تجشم المطلب مشقة السفر إلى يثرب وبادر إلى رؤية الطفل فوجده يلعب ، فعرف فيه شبه أخيه هاشم، ففاضت عيناه وضمه إلى صدره وقال له: يا شيبة! أنا عمك، شقيق أبيك الذي مات دون أن تراه وهو من تذكر مفاخرا فتقول «أنا شيبة بن هاشم.» فهيا بنا يا ولداه إلى قومك في مكة، فبكى الطفل وأبى أن يترك أمه دون أن تأذن له، وعلمت سلمى بمقدم المطلب فرحبت به وضافته في دارها ثلاثة أيام.
وحاول ابن إسحاق وعشرات بعده أن يعللوا الشروط التي تم بها عقد هاشم وسلمى، فقالوا إنها كانت تأبى الزواج لشرفها في قومها إلى أن يشرطوا لها أن أمرها بيدها، حتى إذا كرهت رجلا أو قضت منه وطرا فارقته باختيارها! وأنها لا تلد ولدا إلا في أهلها، فاحتفظت بولدها شيبة الحمد، وتشددت في أمره في حوار عنيف دار بينها وبين المطلب: الأم: «لست بمرسلته معك.» العم: «إني غير منصرف حتى أخرج به! إن ابن أخي بلغ غريبا، ونحن أهل بيت شرف في قومنا.» فأذنت له في ضمه، وأخذه المطلب ولم يتمكن من تجهيزه وكسوته، وأردفه وعاد عجلا ليجمله في مكة، فبدا الطفل في حالة رثة لوحته الشمس ولم تكن السمرة مما يستحب في مكة، فظنه كل من رآه رقيقا اشتراه المطلب ولم يعلموا أنه ابن أخيه هاشم، فسموه «عبد المطلب»، وفي رواية أن المطلب كان يقول لمن يسأله هذا عبدي حياء. ولنلق الآن نظرة على هذه الرواية؛ أما عن موت هاشم فقيل إنه مات بغزة، فيظهر ضعف رواية صاحب المواهب اللدنية أن هاشما قال لأخيه وهو يحتضر بمكة: «أدرك عبدك
2
شيبة الحمد بيثرب.» فإن ثبت موت هاشم بمكة فتكفي الوصية ولا حاجة إلى رواية المكي الذي رأى الطفل شيبة الحمد بيثرب.
وإن كان هاشم قد مات بغزة، فقد يبعث إلى أخيه بكتاب أو وصية.
كان ابن إسحاق مؤرخا ولم يكن ناقدا، ولم يكن البحث في أصول الاجتماع قد خلق بعد؛ فله العذر إن أخطأ التعليل، ولم يكن الأمر بحاجة لتعليل؛ فإن هذا النوع من عقود الزواج كان معروفا في الجاهلية ومباحا؛ لأن حياتهم كانت تتسع لمثله، وإن كان بعض التفصيل يحتمل المبالغة أو التجميل. ويحملنا على قبول الرواية سابقة سلمى في الزواج وفرارها من بيت بعلها أحيحة واشتغالها بالتجارة قبل زواجها من هاشم وورود شيبة على مكة بهيئة رثة وثياب خلقة.
روى بعض المؤرخين قصة مولد عبد المطلب شيبة الحمد بن هاشم بشيء من الحذر وادعى أن «المطلب» كان اسما لوثن، فإن صح فلا يكون لهاشم أخ اسمه المطلب ولا تكون الوصية ولا كلمة «هذا عبدي»، ولكن لم يكن في مكة معبود باسم المطلب، وكانت سلمى النجارية امرأة ذكية حسناء زاهدة في الرجال، متمسكة بحقها، رآها هاشم تتجر في السوق فعلقها وكانت تشترط أن تبقى عصمتها بيدها وأن تلد في بيت أبيها، فوجدت من يقبل شروطها، ولما علمت بنعي زوجها لم تفرط في ولدها ولم ترسل به إلى أهل أبيه، بل تمتعت بحق الحضانة التي يبيحها هذا النظام، ولم تخف عن الطفل اسم أبيه ونسبه.
ولا نميل إلى ما افترضه مؤرخ عربي أن عبد المطلب ولد في مكة وبعث به للرضاع في البادية كما كانت عادة أشراف قريش ثم رد إلى وطنه، وأن قصة سفر عمه لتعليل اسمه ومحو انتساب جد النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى صنم جاهلي! وهذا بعيد الاحتمال؛ لأن يثرب لا تصلح لرضاع أطفال أهل مكة لبعدها، وإنما كانوا يبعثون بهم إلى ضواحي مكة أو بطحائها.
يرجع زواج هاشم من سلمى النجارية ومولد ابنهما عبد المطلب إلى مائة وسبعين عاما قبل الإسلام؛ فقد عاش عبد المطلب مائة وأربعين عاما وتوفي ومحمد
صلى الله عليه وسلم
في الثامنة، فبين وفاة الجد وبين النبوة اثنتان وثلاثون سنة فيكون زواج هاشم بسلمى قد وقع في أواسط القرن الثاني قبل النبوة، وهو عصر غارق في الجاهلية من حيث عادات الزواج والطلاق والمعاشرة والمتعة والمخادنة والهجر ووأد البنات.
روى روبرتسون سميث أستاذ اللغة العربية في جامعة كمبردج سابقا في كتابه «أواصر القربى والنسب في بلاد العرب القديمة» (ص85) أن زواج هاشم القرشي بسلمى النجارية كان من زواج المتعة الجاهلية وقد محاه الإسلام، وأخذ يؤيد رأيه بكتب الأدب العربي كالأغاني والكامل وغيرهما، ولكنه زعم خاطئ في اعتقادنا.
وفي بعض الكتب أخبار زواج السيد الحميري وأم خارجة
une messaline arabe
وغيرهما ممن عرفوا زواج المتعة. لو صح افتراض هذا المستشرق فقد وقع في الجاهلية وكان مباحا للشرفاء وبنات البيوتات فلا يمس عرض عبد المطلب. بيد أننا نجزم بأنه لم يكن من زواج المتعة المعروف، بل كان زواجا مشروعا تترتب عليه حقوق وتبعات في الجماعات الخاضعة لسيادة المرأة «عهد الكفالة والأمومة» وهو يسبق في سلم الحضارة سيادة الرجل، وقد يجيء عصر خليط من العهدين.
وفي عصرنا هذا تعيش بعض الشعوب الشرقية في أفريقيا وآسيا تحت لواء الأمومة أو سيادة المرأة (انظر قرار المؤتمر العشرين لحزب شركة إسلام إندنوسيا المنعقد من 16 إلى 21 مايو سنة 1934بمدينة بنجر نقارا برياسة الحاج عمر سعيد (شكروا مينوتوا) في حضرة ثمانية آلاف عضو أثناء خمسة أيام)، فاستنكر المؤتمر بعض التقاليد القومية وقال بالنص منقولا عن لسان الملايو ترجمة عبد القاهر مذكر الجاوي:
النظر من حيث التناسل واتصال الأسرة النسبي؛ فبعض الأسر الإسلامية بجاوى (عنصر الملايو) تعتمد على الاتصال النسبي من جهة الأم لا من جهة الأب، ويترتب على ما تقدم أن الرجل إذا تزوج من امرأة من هذه الأسر المتمسكة بهذه التقاليد العتيقة أن يبقى بمعزل عنها فلا يتصل بها اتصال زوجية كما هو المعهود، بل تبقى المرأة لدى أهلها وينفرد الزوج في بيت لنفسه ولا يزور زوجته إلا وقت حاجته ليلا أو نهارا، ولا يتولى الزوج تربية أولاده، بل تنتقل ولايته عليهم إلى أقارب زوجته،
3
ويعمل في المواريث بالقاعدة المذكورة آنفا؛ فالذين يرثون الميت هم المتصلون به من جهة المرأة، فإذا ماتت المرأة فالذي يرثها أبناؤها، فإذا لم يكن لها أبناء فإخوتها وأخواتها، فإذا فقدوا فأبناء أخواتها لا أبناء إخوتها، وإذا مات الرجل فأول من يرثه إخوته وأخواته ثم أبناء أخواته. ا.ه. قرار المؤتمر.
وقد وصف مؤتمر «شركة إسلام» هذه العادات بأنها عادات جاهلية جهلاء، لا تليق بأمة تعيش في هذا العصر متصلة بالعالم المتحضر ودينها دين الإسلام والمؤتمرون يعلمون صلتها بالجاهلية.
وما هذه الظواهر الاجتماعية عادات مستنكرة ولا تقاليد قديمة، كما يقول المؤتمرون، إنما هي آثار النظام الاجتماعي الذي خضعت له الشعوب الإندنوسية في القرون السالفة، وتخلفها في جاوى دليل على انتشاره في العالم؛ لأنه حلقة من حلقات السلسلة الاجتماعية ودرجة من درجات التطور الإنساني. وما رآه ابن إسحاق وغيره في زواج سلمى وظنه دليلا على شرفها وعفتها وما رآه روبرتسون سميث وظنه زواج متعة؛ لم يكن سوى مظاهر عهد الأمومة في جزيرة العرب باقيا في التناسل لوسط القرن الثاني قبل البعثة.
أما رواية روبرتسون سميث، في ص85 من كتابه، فنصها:
ومن أمثلة زواج المتعة قبل الإسلام علاقة سلمى بنت عمرو النجاري بيثرب وهاشم بن عبد مناف المكي؛ فقد تزوج منها وعاشرها أثناء إقامته في المدينة فولدت له ولدا علا بعد ذلك صيته وارتفع ذكره باسم عبد المطلب، وبقي في أهل أمه ثماني سنين، وهو جد النبي.
وقد حاول عمومته وأهل أبيه ضمه إليهم فكان لهم بعد عناء، ولما ترعرع في مكة ظلمته عشيرة أبيه من قريش فاستنجد خئولته من بني النجار بالمدينة وما زالت صلته بهم للغوث عند اللهفة والملمات، وكانت الحال الاجتماعية في العرب تطابق حوادث هذا الزواج. ا.ه.
كلام روبرتسون سميث يصف زواجا يتفق ومبدأ «الأمومة» ويضربه مثلا لزواج المتعة. إن كانت المتعة من لزوم عهد الأمومة فحبا وكرامة، وإن يكن زواج المتعة من أنواع الزواج المباحة في جزيرة العرب فوجب تقريره بلا مواربة، والذي عليه المعول هو أن زواج هاشم من سلمى تابع لنظم الأمومة وسيادة المرأة ولم يكن زواج متعة، ولا يزال سائدا في بعض شعوب آسيا وأفريقيا.
نشأة عبد المطلب بن هاشم بمكة ووظائفه
وإذن نشأ عبد المطلب طفلا يتيما بمكة كما نشأ حفيده الأعظم بعد ذلك، ولكنه وجد في دار أخيه المطلب ما أنساه ألم اليتم، وحرقة البعد عن أمه، وفي الحق كانت أسرة بني هاشم من أبر العرب بأبنائها وأيتامها وأشدهم عناية بصلة الرحم والعطف على ذوي القربى، ولا سيما الضعفاء منهم، وهذه ناحية إنسانية أهلتهم للرسالة.
ومن لطيف العناية بهم أن نال ضعفاؤهم الشأن الأعلى، وبلغوا الغاية القصوى من الخير والمجد والمحامد، وأن الله - سبحانه وتعالى - وقد اختار أحد أفرع هذه الدوحة لرسالته العظمى فأسبغ عليهم النعم منذ القدم، وأقدرهم على الخير والبر والإحسان، وانتقى منهم أشهر العظماء وأضخم الأبطال وأكرم الرجال، وجعله مبعوثا بالرحمة للأمم، ومصباح الضياء الأسنى للظلم، وهو محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم .
نشأ عبد المطلب في مكة بعد أن دخلها مستضعفا وذليلا، فبسط الله له في الرزق وأنشأه على المحبة والفضيلة وجعله مصدر خير عميم لقومه وللإنسانية. وإن القانون الطبيعي الذي حدا هاشما لاختيار زوجه سلمى من يثرب كان منطويا على حكمة جليلة خافية على الذين لا يؤمنون إلا بظواهر الأمور.
وهذه الحكمة هي ارتقاء النسل المختلط إذا تم الزواج بين الأباعد، ولهذا جاء نسل هاشم ذكيا «زكيا» كما هي السنة الطبيعية كلما تزوج رجل من غير قبيلته، وكان الزواج قائما على حسن الاختيار، وقد كان من نصح محمد
صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك أن نهى عن زواج الأقارب الأقربين خشية أن يجيء النسل مشوبا بضعف البدن أو العقل؛ لأن المشاهد أن يجيء نسل الأقارب في أغلب الأحوال ذاويا ضعيفا لخلو الدم من العناصر الغريبة التي تسبب التجانس والقوة والجمال والفطنة، والمشاهد في الأسر القديمة التي حصرت تناسلها في أقاربها ضعف النسل وانحطاط قواه
1
بعد الجيل الثاني أو الثالث؛ فيولد معظم الأولاد بعاهات دائمة في الجسم والنفس. وقد أرادت العناية تنزيه سلالة هاشم عن هذا النقص فاختار زوجا يثربية؛ فجاء عبد المطلب جميلا قويا فصيحا مقداما كريما سمح النفس رضي الخلق حسن العشرة، جامعا بين ذكاء أهل مكة وخبرتهم بالمعاملات وإقبالهم على التجارة وحب الأسفار والتنقل، وبين أخلاق أهل المدينة المعروفين بلين العريكة ودماثة الطباع وظرف الشمائل ونعومة العيش. فلم يكن عبد المطلب بالمكي الشديد الحب للمال، المستهتر بالحياة، المفطور على الشدائد والمصاعب، ولا بالضعيف المسترخي الآخذ بأهداب الفراغ وحب الراحة، بل كان مثال الاعتدال في كل شيء، وكان خليقا به أن ينبت ويشب كأبيه هاشم، فتى قريش وسيدها السند، وزعيمها الذي يعتمد عليه في المواقف كلها، نجدة وشهامة وتضحية في مروءة وشجاعة في لين وحلم، وقد حل عبد المطلب محل أبيه وشغل مكانته الاجتماعية؛ فورث عنه الرفادة والسقاية، وقديما رأينا هاشما يملأ الجفان ويهشم الثريد للجائعين في مكة حتى قالوا فيه الشعر، وكذلك ورث السقاية للحجيج، وناهيك بمن انتهت إليه وظيفة الضيافة في مكة، وهي مورد السائحين والعابدين، ومحط رحال الرائحين والغادين، وملتقى التجار والحجيج من كل فج، وممر القوافل من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.
كان عبد المطلب يرى الأصنام في كعبة مكة كما رآها في المدينة، وكان يرى النصارى واليهود في القريتين ويعرف الفرق بين دينهم ودينه، كما كان يسمع أحاديث الرواة وقصائد الشعراء وأخبار القصاصين عن قصور فارس وملوكها، ومعابد العجم وسدنتها، ونار المجوس المقدسة التي لا تنطفئ، وحراسها المقنعين الذين لا يغمضون عنها، وعن بابل وعظمتها، ونينوى ومعابدها، وعن كلدة ومبانيها وعن سلع ومعابد الشمس فيها، وتدمر وهياكلها، والزباء ومكرها، ويتفكه بأنباء اليمن وأخبار الخورنق ونوادر الشام وقصور صنعاء الشامخة وكنوزها وكنائس الحبشة ونجاشيها، وجمال جواريها، ورقة أهل مصر ونيلها وعجائب آثارها، وقوم الروم ونظمهم، وسلطان الفرس وعدلهم؛ كل ذلك يرويه شهود الرؤية وجوابو الآفاق؛ فكانت طفولته في يثرب وشبابه في مكة بمثابة التخرج من جامعة حافلة بأنواع المعارف تعلم فيها وتهذب، وهو يلهو ويتسلى؛ لأن مكة كانت لعهده مركزا لمدنية الشرق الأدنى وممرا لتجارة الأمم الدانية والنائية، كما كانت بمثابة المعرض الدائم للفصاحة والبلاغة، والتجارة والصناعة. وما كان المكيون يرحلون إلى البلاد القصية عبثا؛ فقد يعودون إلى «أم القرى» بالأدم والخمر والخز والسندس والمعادن النفيسة والجواهر الغالية، وإذا راق لهم إله غريب وأحبوا عبادته جلبوه إلى قريتهم أو صنعوا مثله ووضعوه في مخدع أربابهم وعبدوه معها ليجلبوا إليه وإليهم عباده ولو كانوا في أقصى الأرض، ويعتقدون أنه يجلب إليهم الخير ويدفع عنهم الشر، حتى الآلهة التي كانت تغرق، وتلقي بها الأمواج على شواطئهم يتولون إنقاذها وينصبونها ليعبدوها. كان عبد المطلب وثنيا بحكم بيئته وقريته وأهله، ولكنه كان حر الفكر بحكم نشأته وتعليمه؛ فكان يخضع للدين العام خضوع الفرد لحكم القبيلة، ولكنه كان يشعر في حنايا ضلوعه بعقيدة أخرى أوحتها إليه سماء الحجاز بجمالها وتألق كواكبها، وصحراء بلاد العرب بسعتها وترامي أطرافها وعليل نسيمها، وبروعة تلك الجبال الشامخة التي يكللها الغمام الأزرق فتعتم بألوان البنفسج واللازورد، وتطل على الوديان والواحات، وتشرف على خضرة الأعشاب ورءوس النخيل وأعين الماء الصافية الدائمة الخرير.
هذا فتى قريش قد أنجبه هاشم وسلمى، ورباه المطلب، واحتضنته مكة، وفرح به فتيان قريش وكهولها، ونادمه شبابها، ورمقته فتياتها بأعينهن الدعج، ووراءه ماض جليل وأمامه مستقبل مزهر حافل بعظائم الأمور؛ فهو - بلا ريب - زعيم قريش المدخر وقائدها إلى المفاخر.
وكانت مكة لذاك العهد حكومة فطرية لها مجلس عام في فناء المسجد ومجلس خاص في دار الندوة، فاقتسموا فيما بينهم السلطة المدنية، وجعلوا لكل سيد منهم نصيبا من النفوذ والمناصب؛ فكان لبني عبد شمس ولبني عبد الدار ولبني مخزوم ما لهم من مظاهر المجد والعظمة، ولكل سيد منهم مآثر ومفاخر ولكنها لم تصل قط في سموها إلى ما وصلت إليه مكانة بني هاشم، ولكل سبط من أسباط قريش خلة يعرفون بها وتعرف عنهم؛ فهؤلاء بنو أمية اشتهروا بحب المنافسة والظهور مع ضعف الخلق؛ فنساؤهم أقوى من رجالهم، كما اشتهر بنو مخزوم بالكرم والجمال والتفاني في حفظ الأعراض، واشتهر بنو عبد شمس بحب المال واكتنازه. أما بنو هاشم فاشتهروا بالشجاعة والكرم والفصاحة وحب الدعاية والإقدام والميل للنساء في غير ضعف ولا استكانة. نقيض الذين خضعوا لهند وصواحبها.
استكمل عبد المطلب رجولته فتزوج من سمراء بنت عامر بن صعصعة، ولكنه عقد عليها عقدا غير الذي عقده أبوه على أمه سلمى النجارية. ولم يكن بنو عامر بن صعصعة ممن يقيمون في المدن ويخضعون لنظم الزواج وسيادة الرجل التي لم يتطلع إليها بنو أمية.
فانتقلت سمراء من خيام قبيلتها إلى بيت بعلها راضية بحبه خاضعة لحكمه لا تشاركها فيه زوجة أخرى ولا ينازعها حب سرية ولا عشق محظية على شيوع هذه العادة في بني عبد شمس.
ولا بد أنه كان للوسط الجديد أثره في ذهن تلك العروس البدوية. كان أهل البادية أقل إيمانا بالكعبة وأصنامها من أهل مكة، بل كانوا حينا ينتقدون تماديهم في تمجيد هذا البناء المكعب الذي يضم صورا وحجارة لا تنطق ولا تسمع، ومع ذلك فقد زينوها بالجواهر واليواقيت وحلوها بالمعادن النفيسة وكسوها بالخز والديباج والسندس، ولولا حاجة أهل البادية ومنافعهم لما هبطوا إلى بطاح مكة حاجين ومعتمرين وناحرين متزلفين. وقد ظن أهل البادية أن أهل مكة قوم ضعاف يكبرون ما لا يكبر غيرهم ويعبدون ما لا يعبد سواهم، ويخدعهم أن قلوب البدو والحضر تتهافت عليهم فيحسبون أن هؤلاء المقبلين والمدبرين إنما يقبلون على مكة بالدين ويولون عنها بالطاعة. هذه صورة تقريبية لمعقولية أهل البادية قبل الإسلام بقرن ونصف. وفي الحق كان أهل مكة أكثر فطنة من أهل البادية؛ فقد اتخذوا هذا البناء المكعب معبدا كما اتخذوه وسيلة للترغيب ومعينا للرزق لا ينضب بعد حلول الأصنام محل الحنيفية دين إبراهيم يجذب الحجيج ويجلب السائحين والزائرين، يدفعون لهم عن يد أموالا طائلة، كما تدفع الشعوب المحكومة الضرائب للحكومات المتغلبة، ويقبلون عليهم بما لديهم من عروض، وينصرفون عنهم بما يشترون من البضاعة يحملها تجار مكة من الآفاق النائية.
وكذلك كان القادمون يعقدون في بطحاء مكة تلك المواسم الشهيرة والأعياد المقدسة ويتجشمون المشاق ليفوا بالنذور، فيضحون بالضحايا، وينحرون الذبائح، وتلك خلة أخرى عظيمة النفع وهي إطعام الفقراء، كما رأيناه من فعل هاشم في المجاعات؛ ففي معظم أشهر العام يقبل أهل البادية من كل فج تعج بهم مكة ويقبل الحجيج من البطاح والظواهر، فيتنافس القادمون في تقديم الضحايا للأصنام ويستبقون في تقديم القرابين فتنحر الإبل ويقتسم اللحم الغريض، ويكثر الطعام والشراب فلا يبيت في مكة جائع ولا ظمآن، وهذه الضحايا تباع وتشترى في قريش، وتذبح على مذابح قريش، ويتناهبها فقراء قريش وبائسوها. وإذن لم يكن تمجيد أهل مكة لتلك الأصنام عبثا، ولا تقديسهم الكعبة لهوا ولعبا، ولا تزيين هذا البناء تسلية وترفيها، بل كان لمآرب اقتصادية بعد الغاية الدينية، ولكن أهل البادية لا يفطنون إلى دقائق الأمور التي حذقها المكيون وأدركوا حقائقها؛ لأن في أهل البادية طباعا غليظة ونفوسا تحكمها الظواهر، كما أنهم لا يستشعرون ولا يدركون معنى الغيب المستور أو الغموض الذي تنطوي عليه المعتقدات الدينية، وهم لا يؤمنون إلا بما يرونه رأي العين، ولا يخشون إلا القوى الظاهرة؛ فكان حظهم مما وراء الطبيعة محدودا. قلنا إن عبد المطلب كان صاحب السقاية والرفادة، فما هي السقاية التي تكبده في سبيلها ما تكبد؟ (1) السقاية
كانت السقاية في مكة وظيفة وتكليفا والتزاما وعلامة شرف يعد صاحبها حياضا من أدم توضع بفناء الكعبة، وينقل إليها الماء العذب من الآبار على الإبل في المزاود والقرب، وذلك قبل حفر زمزم، وكان يقذف فيها التمر والزبيب في غالب الأحوال لشرب الحجيج أيام الموسم حتى يتفرقوا.
وقام بالسقاية والرفادة بعد قصي ابنه عبد مناف ثم ولده هاشم وبعده أخوه المطلب، فلما شب عبد المطلب فوض إليه عمه أمر السقاية والرفادة في حياته، فلما مات المطلب وثب على عبد المطلب عمه نوفل، فاستنجد عبد المطلب بخاله أبي سعد بن عدي بن النجار، فأنجده وتنازل نوفل لعبد المطلب، وهذه النجدة التي أشرنا إليها في مقدمة هذا الكلام بالتجاء عبد المطلب إلى خئولته بيثرب. ولما حفر عبد المطلب زمزم صار ينقل الماء منها لتلك الأحواض ويقذف فيها التمر والزبيب يستحضره من بساتين العنب التي كان يملكها ولده العباس بالطائف. ولا ينكر بعض مؤرخي الإفرنج وظيفة السقاية والرفادة على عبد المطلب، ولكنهم يغمزونه عند ذكرها كما صنع مرغليوث حيث يقول:
2 «وليس من المعقول أن يكلف عبد المطلب نفسه كل هذه النفقة وتلك المشقة بدون مقابل، فلا بد أن السقاية والرفادة كانتا في مكة من التجارة الرابحة، ولم تكونا مشرفتين لصاحبهما؛ فإن النبي حرم بيع الماء.» ولا علاقة بين الأمرين كما ترى!
وغني عن البيان أن مرغليوث يقيس على بعض بلاد أوروبا الغربية؛ حيث لا يقام للكرم وزن إلا نادرا، فلا يتصور رجلا يضيع ماله على الجود وصنع الخير؛ لأنه في معظم بلاد أوروبا لا يستطيع الرجل أن يشرب جرعة ماء بلا مقابل؛ دع عنك الطعام! فكيف يصح في ذهن مرغليوث وأمثاله أن عبد المطلب ينقل الماء وينقع فيه التمر والزبيب للحجيج إحسانا منه وتقربا إلى الله أو خدمة عامة للجماعة المكية، ولكن الشرق كريم والعرب، والماء ملك مشاع بين القبائل، والقرى (إكرام الضيف) من الخلال التي سارت مسير الأمثال في البادية، وكان لأهل مكة مصادر كسب غير بيع الماء.
وإن كان بعض ملوك مكة قبل الحكم الوهابي باع للحجيج قربة الماء القراح بدينارين فلم يضره، وكان المثل يضرب بثروته قبل ذلك، ولكن لم ينسب كاتب بيع الماء لعبد المطلب قط! (2) الرفادة
أما الرفادة فهي إطعام الحجيج أيام الموسم حتى يتفرقوا، وكانت قريش على زمن قصي - أحد أجداد النبي
صلى الله عليه وسلم - تخرج من أموالها في الموسم ما تدفعه إلى قصي، فيصنع به طعاما يأكل منه من لم يكن مع سعة ولا زاد كأنه زكاة المال والصدقات، وما زالت هذه العادة إلى أن زالت الخلافة من بغداد ومصر؛ فهي من نشأتها مقصورة على الفقراء من الحجيج وهم في الغالب قليل؛ لأن المسلم لا يحج إلا إذا استطاع إلى الحج سبيلا وتوافرت لديه الوسيلة.
ولم يكن شخص واحد يقوم بالنفقات، بل كانت الرفادة نوعا من التعاون على البر والمساهمة في إكرام الفقراء من الحجيج، وهم ضيوف قريش كلها بعد أنهم ضيف الله. هذا كلام لا يدركه مرغليوث ولا يرضاه! (3) القيادة ثالثة المناصب في القرية المكية
وهي أمارة الركب، وصاحبها يقود الناس في غزواتهم، وكان صاحبها بعد قصي عبد مناف وولده إلى أن تولاها أبو سفيان صاحب راية العقاب الذي قاد قريشا ضد النبي
صلى الله عليه وسلم
في بدر وأحد وفي يوم الأحزاب أو الخندق، وكانت القيادة لا تعقد إلا للأمير الشجاع الداهية المحنك في الحرب والسلم، وكان أبو سفيان قبل إسلامه باقعة قريش ومقدمهم وأقدرهم في المواقع؛ ولذا كانت هزيمته على يد النبي
صلى الله عليه وسلم
مدعاة لإقرار قريش بعجزها، وسببا في اعترافهم بصدق النبوة؛ فقبل أبو سفيان الإسلام هو وزوجته هند ولكن في اللحظة الأخيرة والسيف على عنقيهما. (4) دار الندوة ووظيفة النيابة في بلدية مكة
كانت قريش تجتمع فيها للمشاورة في أمورها لا يدخلها إلا من بلغ الأربعين. وكانت الفتاة إذا بلغت الرشد وظهرت علامة ذلك تدخل دار الندوة ثم يشق عليها بعض ولد عبد الدار درعها ثم يدرعها إياه فتحجب بعد أن تكون برزة؛ وهي سنة قصي، كما كان لا يعقد لرجل على امرأة من قريش إلا في دار قصي التي هي دار الندوة، ولا يعقد لواء إلا فيها، ولما مات قصي كانت قريش يتبعون ما كان عليه في حياته كالدين المتبع، ولا زالت هذه الدار في يد بني عبد الدار إلى أن صارت إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم،
3
ثم اشتراها معاوية بأكثر من ذلك، واختلفوا في كنه دار الندوة أكانت مجلسا نيابيا أم مجلسا للشيوخ أم مجلسا بلديا أم محكمة عرفية أم جمعية سرية أم مجلس إدارة لشركة تجارية تنظم الهيئة الاجتماعية وتفصل في النزاع وتصدر الأحكام، أم مجلس حرب تدبر فيها المواقع وترسم خطط القتال، أم نقابة قومية أم غرفة تجارية؟ الحق أنها كانت خليطا من هذه كلها، كانت بمثابة دار الحكومة المكية أسسها قصي مجمعا قوميا، وكان مكانها في مكة جنوب الكعبة من غرب، وكانت مطلة على الطواف بناها قصي سنة 440م قبل مولد النبي
صلى الله عليه وسلم
بمائة وثلاثين سنة في نفس العام الذي جاء فيه عبد المطلب طفلا؛ فكانت عودته بداية الحياة القومية. وتركها قصي لولده عبد الدار، وقد سماه بذلك الاسم تفاؤلا، ونسبه إلى «دار الندوة» نفسها، وآمنة بنت وهب أم محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
تنتسب إلى عبد الدار؛ لأن أمها برة من بني عبد الدار، فأم محمد
صلى الله عليه وسلم
من أسرة «برلمانية»؛ لو صحت هذه التسمية الحديثة.
وكان من وظائف «الدار» الحجابة، وهي الخاصة بالبنات - وتقدم وصفها - والاجتماع للشورى في الأمور ذات الشأن، وفيها اجتمع المعارضون من قريش ليكيدوا للنبي
صلى الله عليه وسلم
ويتآمرون به، وقد اتخذتها قريش موطنا للمؤامرة ضد النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد أن كانت معقل العظمة القرشية. وفي السنة السابعة للهجرة اجتمع فيها المعارضون وأطلوا منها على طواف النبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار، في طواف العمرة؛ لأنها تطل على المطاف، كما يرقب الناس مرور الملوك والأمراء من أماكن مشهورة في طريقهم في زماننا هذا.
نشأة عبد المطلب وزواجه وحفر زمزم
لم يتذوق عبد المطلب - الذي نشأ يتيما - عطف الوالد، ولم تتفرغ أمه لتغذيته بحنوها بحكم النظم الاجتماعية وأحكام الأسرة التي ذكرناها؛ فكان في أشد الحاجة إلى العطف والحب، ولم تكن امرأة عمه المطلب قد أولته كل ما يحتاج إليه الطفل من حنان الأم وشفقتها وحلاوة العشرة والمودة، فلما وفق لسمراء وبنى بها حظي منها بما كان يشتهي من رقة الجانب ولين العريكة إلى جمال الأنوثة البدوية الطاهرة؛ فوجد فيها عشرة وعناية وودا، فسكن إليها لينعم بالمودة والرحمة اللتين جعلهما القرآن الكريم بعد ذلك خلتين كريمتين من خلال الزواج، يلجأ إليهما فيلقى الأمن والاطمئنان والنعمة والراحة، وكان يرتوي من حديثها وحبها كما ينقع العطشان ظمأه من عين ماء صافية عذبة فيطفئ غلته ويثلج صدره، وأراد الله أن ترزق هذه الأسرة السعيدة بولد مبارك هو الحارث، ففرحا به لأنه ولد ذكرا فلن يوءد، كما توءد البنات، ولن تحرم عليها عشرته وحبه في نهاية العقد الأول من عمره، وإن هي زينته وألبسته أجمل الحلل فلن تكون تلك الزينة ليتلقاها قبر يلقى فيه حتفه حيا بعد أن يحفر بمرأى منه ومسمع كسنة الجاهلية! وفرح به عبد المطلب؛ لأن الولد الذكر ينفع أهله في البادية والحضر، ويشد أزرهم ويذود عنهم، ويعمل في سبيلهم ويربح المال فيغدقه عليهم ويجلب الخير إليهم، ويحفظ ذكراهم ويتحدث عن مآثرهم ومفاخرهم، ويصل حبلهم بالأجيال المقبلة ببيت يؤسسه ودار يبتنيها وبئر يحفرها وشجرة يزرعها وإبل يضحي بها في المناسك والأعياد وتجارة يروح بها ويغدو وأولاد يرزقهم وينبتهم نباتا حسنا، يتمون سيرته، وينشرون ذكره؛ حيا وميتا.
كان عبد المطلب على نصيب من مكارم الأخلاق، يكره القتل ولو كان واقعا على غريب، حتى إنه ترك منادمة صديقه حرب بن أمية - وكان لا يصبر على فراقه - لأنه قتل يهوديا. ولكنه لم يتركه حتى أخذ منه مائة ناقة، دفعها دية لابن عم اليهودي حفظا لجواره، فجعل من نفسه وليا لدم القتيل حتى أصاب التعويض المدني من أعز أصدقائه فنصب نفسه خادما عاما، وكان يكره الزنا ويحرمه ويبغض الخمر ويحرمها، ولعله من استقامة خلقه لا إرهاصا. وقيل إنه رفض في آخر أيامه عبادة الأصنام وكان هذا شأن بعض حكماء العرب وعقلائهم، ولا يخفى أن عبد المطلب مات وحفيده الأعظم محمد بن عبد الله في كفالته وعمره ثماني سنين، فلا شك في أنه مات على دين آبائه كما مات ولده أبو طالب وابنه عبد الله وكنته آمنة، وفي حقهم نزلت الآية الكريمة:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى (سورة التوبة)؛ ردا على استئذان النبي.
وكان أول من خضب شعره من العرب، واقتدى به حفيده، ولكنه
صلى الله عليه وسلم
كان يخضب بالحناء لا بالسواد.
ويظهر أن أبا الحارث (كنية عبد المطلب) كان يحب الطيب والتجمل، وقد أورثهما حفيده الأعظم؛ ففي القصص عن شبابه أنه نام ليلة في الحجر وانتبه مكحولا مدهونا قد كسي حلة البهاء والجمال، تفوح منه رائحة المسك الأذفر، وأن السماء أذنت له بالزواج، وكان يتقرب به في الاستسقاء فيستجاب! كل ذلك تشريفا له؛ لأنه يحمل في صلبه نور النبي
صلى الله عليه وسلم
وقد يعلل هذا بأنه إرهاص، ونحن نعتقد أن المعجز لا يتقدم على الدعوة بل يكون مقارنا لها، ولكن هذه الحسنات الظاهرة أضيفت بعد ونسبت إلى الجد وإن لم يضف منها لعبد الله نفسه وهو الوالد، أو لأبي طالب وهو العم الحاضن؛ وفضلهما في ميلاد النبي وكفالته لا يقل عن فضل جده عبد المطلب.
يزعم بعض كتاب السير والناقلون عنهم نقلا أعمى ممن حشدوا الغث إلى السمين، وجمعوا الروايات بغير تمحيص، أن عبد المطلب كان يرى الأشباح والأخيلة فتتمثل له الأصوات بمطالب ورغبات، وإن خفت وطأة الهاتف تواترت عليه الرؤى في ظلام الليل وهو في غيابة النوم، حتى كان يفزع إلى امرأته فيروي لها بعض ما رأت عين خياله فتشير إليه بتقديم القرابين للأوثان! فيأتيه صوت يقول له: «احفر طيبة! احفر زمزم!» فيقول: وما زمزم؟ فيعود الصوت قائلا له على أسلوب الكهان: «لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم.» ويقصد من ذلك إلى أن الأمر بحفر بئر زمزم جاء إلى عبد المطلب بالإلهام، وهذا في نظرنا اصطناع منكر؛ لأن السقاية كانت من الوظائف التي انتهت إليه بحكم مركزه الاجتماعي بعد عمه المطلب ووالده هاشم وجده عبد مناف، ولا بد أن دعته فطنته دون سواها إلى حفر البئر، وهي بئر تاريخية حفرها إبراهيم وإسماعيل وأوحى إليه شعوره وإقدامه هذا العمل النافع؛ فالحاجة تفتق الحيلة، وقد ظن أن إعادة حفر البئر في حضن الكعبة تسهل نقل الماء للحجيج، وكان موضع البئر حتما معلوما، ولعل وصف المكان متوارث في العشيرة، فأعاد عبد المطلب حفرها.
فلما حفرت وجدت بقاعها تحف مطمورة، منها سيوف وحلي من ذهب ودروع وأدوات حرب، ولكن من كانت لهم السقاية قبل عبد المطلب لم يفكروا فيها، أما الذي غمر الكنز في بئر زمزم وطمرها فهو عمرو بن الحارث الجرهمي لما أحدث قومه بالكعبة الحوادث وقيض لهم من أخرجهم من مكة، فعمد عمرو هذا إلى النفائس فجعلها في زمزم وبالغ في طمها ليكشف عنها بعد ذلك، وفر إلى اليمن بقومه فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة إلى أن رفعت عنها الحجب وشرع عبد المطلب في حفرها للمصلحة العامة لا بأمر الهاتف.
وكان عبد المطلب قليلا بنفسه، وما لديه من يعينه على حفر البئر سوى ولده الحارث، وهو غلام في عنفوان الفتوة لا يتحمل أعباء الحفر بالفأس والجرف بالمسحاة والنقل بالمكتل في وهج الشمس في ساحة المسجد، ولكن الوالد والولد تحملا هذه المشقة أياما طوالا إلى أن عثرا على الذهب والسلاح، فلما شاع الأمر أقبلت قريش وقالوا: «هذا كنز! هذه غنيمة! وإنما هي لقريش لأنها وجدت مدفونة في مسجدنا، وكل ما وجد في الحرم فهو لقريش.» شنشنة نعرفها من أخزم وغريزة في السلب والنهب والسطو على كل مال ونشب، واشتدت الخصومة بين هشام بن مغيرة وحرب بن أمية ورفع عبد المطلب صوته بأن الكنز للأرباب؛ فرفعوا أمرهم لسادن الكعبة، فاستقسموا بالأزلام ثلاثا فخرج القداح للكعبة ثلاثا؛ فعلقت الصفائح والأسياف على الكعبة، ولكن كان بين العرب شطار وملحدون ممن يهزءون بالأصنام في سبيل الذهب كما يوجد الآن ألوف ممن يسرقون ذخائر الكنائس وأعلاق المعابد وتماثيل الآلهة وصناديق النذور في المساجد! فتآمرت تلك العصابة من لصوص الظلام وانتهزت فرصة الليل والناس نيام فجردت الكعبة مما علق عليها من ذهب وأسياف ودروع وصفائح وكذبت الأزلام وأربابها؛ لأن الذهب والسلاح كانا من نصيب اللصوص لا من نصيب الكعبة ولا من نصيب قريش.
ولكن العثور على الذهب وفقده، وخلو يد عبد المطلب وابنه من المسجد والنضار والدروع والأسياف والغزالة الذهبية الدقيقة الصنع التي كانت مطمورة في بئر زمزم أو طوى إسماعيل لم تقلل من همة عبد المطلب ولم تفت في عضده؛ لأنه لم يكن يبحث عن ذهب وسلاح، ولكن عما هو أغلى من الذهب في نظر كل عربي يسكن ذلك الوادي الجاف المجدب، ألا وهو الماء، لأجل هذه الغاية السامية نسب إلى عبد المطلب أنه قال:
لاهم قد لبيت من دعاني
وجئت سعي المسرع العجلان
ثبت اليقين صادق الإيمان
يتبعني الحارث غير دان
جذلان لم يحفل بما يعاني
لاهم فلتصدق لنا الأماني
ما لي بما لم ترضه يدان
1
وإن يكن هذا الشعر منسوبا إلى عبد المطلب إلا أن عليه مسحة المناسك في تركيبه وألفاظه «كالتلبية والسعي» و«ثبت اليقين» و«صادق الإيمان»، ولكنه يصور نفسية عبد المطلب؛ إذ كان يحفر البئر، وقد أشرك بكره الوحيد في عنائه وتعبه، وقد وصف الولد بأنه «جذلان، لا يحفل بما يعاني» وفي الحق أنها مبالغة؛ لأن الولد لم يكن على صغر سنه ليشعر بما يشعر به أبوه من الدوافع ولا يحس إلا ألم التعب والجوع والعمل المستمر في وهج الشمس وشدة حرها، وهو قيظ يذيب مخ الضب ويفتت الحجر الصلد، ولم يكن كل الجهد الذي صرف في العثور على الذهب إلا مضيعا بعد السرقة.
وكان عبد المطلب بمعزل عن هذه المعركة التي نشبت بين اللصوص والأوثان، كما كان لا يحفل بما يعاني في سبيل غايته، وما زال كذلك بعد سرقة الكنز وضيعته وحرمانه الثروة التي عثر عليها حتى وجد الماء بفضل جهده وجهد ولده. وقد أحس عبد المطلب ضعفه وقلة أهله وإن تظاهر بنو عبد المطلب بمعونته وشد أزره في بعض المواطن، وقد حاولت قريش أن تضع يدها على البئر كما حاولت وضع يدها على الكنز فأبى عبد المطلب، واحتج وأقسم لئن منحته الأرباب من الولد عشرة ذكورا يشدون أزره ويغنونه عن الناس ليضحين بواحد منهم، أما هذا الماء الذي لقي في سبيله ما لقي فلن يكون لأحد غير الحجيج يستقون منه حتى يتفرقوا، ومن تلك اللحظة تحركت في نفس عبد المطلب رغبة جديدة، هي الإكثار من النسل، ولم تكن سمراء العامرية عاقرا، ولكنها كانت ضنينة فلم تلد له إلا الحارث الذي أعانه على إحراز المجد في إسالة ماء زمزم. ولكن عبد المطلب أصبح وهو يريد مجدا أعظم ويبغي فخرا أكبر وقد رأى بعينه تكاثر الأسرة بالأسباط والأولاد والأحفاد، فسعى إلى عمر بن عائذ المخزومي فخطب إليه ابنته فاطمة فبنى بها ورزقه الله منها ما شاء من الأولاد، ومنهم عبد الله أبو محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكبرت أسرة عبد المطلب منذ صار له من الأولاد الحارث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد الله، ومن البنات صفية وبرة وعاتكة وأم حكيم وأحيحة وأروى، وكانوا جميعا أقوياء البنية طوال القامة كأبيهم، وروى الجاحظ في إحدى رسائله (في تفضيل السود على البيض) أنهم كانوا جميعا سمر الوجوه.
هجوم أهل اليمن والحبشة على الكعبة عام الفيل
عندما التفت أهل اليمن والجنوب إلى مكة، بدءوا بالارتحال والهجرة إليها، وفكر بعضهم في الاستيلاء عليها جلبا لمنافع الكعبة التي يؤمها العرب من كل فج، واختلفت خطط التبابعة؛ فبعضهم يقصد إلى هدم الكعبة فتصده القبائل المحيطة بالحرم - خزاعة أو قريش - ويدنو بعضهم من الكعبة فيعظمها؛ ليستولي عليها بالحيلة.
ونقل قوم من هذيل من بني لحيان إلى تبع أن بمكة بيتا تعظمه العرب جميعا وتفد إليه، وتنحر عنده وتحجه وتعتمره، وأن قريشا تليه؛ فقد حازت شرفه وذكره وأنت أولى «أن يكون ذلك البيت وشرفه وذكره لك، فلو سرت إليه وخربته وبنيت عندك بيتا ثم صرفت الحاج إليه كنت أحق به منهم.»
وسواء أكان الجاسوس الهذلي اللحياني رسم هذه الخطة لعداوة بين قومه وبين أهل مكة، أم جلبا للمنفعة على يد تبع، أم كانت صياغة القصاصين والرواة، فإنها تثبت أن سيادة قريش على مكة والكعبة وإثراء المقيمين بجوار الحرم قد أثارت غيرة العرب وحدهم حتى حدثتهم أنفسهم بالقضاء على البيت العتيق، وقنعوا باستحالة مزاحمته وهو قائم؛ ففكروا في هدمه وبناء بيت في الجنوب يحل محله، ويسلب قداسته، وهو القليس (كاتدرائية).
فحاول تبع الهدم فلم يتمكن، وتأثر بقدسية البيت العتيق فكساه ونحر عنده. والمؤرخون يعللون الانقلاب بظهور عواصف وهبوب رياح على المعسكر التبعي فتشاءم الرجل وخشي العاقبة، وقد تكون هذه العاصفة مصادفة ولكنها كفت المكيين المشركين القتال، ولعل هذا التبع عجز عن الحرب لبعد جيشه عن عاصمة ملكه، فحاول أن يتودد إلى أهل البيت بالحيلة والإحسان فكسا البيت، وجعل له بابا يغلق بضبة فارسية، ولما لم ينل من الحملة غايته صب جام غضبه على جواسيسه الهذليين فقتلهم، وعاد أدراجه إلى اليمن، وكان هذه هي المحاولة الأخيرة قبل واقعة الفيل.
أما بطل حملة الفيل فأبرهة الأشرم، وكان قزما مشوها، حازم الرأس واسع الحيلة، وقد اغتال أحد أقيال الحبشة أرياط، فتوعده النجاشي وأقسم أن يطأ أرض اليمن ويجز رأس أبرهة، فلما خشي الهلاك من النجاشي أرسل أبرهة إليه تراب اليمن ليدوس عليه وشعر رأسه ليتخيل أنه جزه، وكتب إليه: «أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك اختلفنا في أمرك وكلنا طاعته لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة منه وأضبط وأسوس، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت به إليه مع جراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر بذلك قسمه.» فرضي النجاشي عنه وكتب إليه: «اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري.»
وعندنا أن هذه القصة صحيحة؛ لأنها تكاد تكون صفحة من رسائل الآجر التي اكتشفت في تل العمارنة بمصر، وذكرها إسكندر مورية الفرنسي في كتابه «في عهد الفراعنة»:
Aux Temps des Pharaohs, paris 1908 .
فقد أظهر «الخازانو» - وهو أحد الحكام في البلاد التي كانت خاضعة للإمبراطورية المصرية - عبوديته في ألفاظ ومعان ليست مألوفة لأبناء العصور الحديثة ؛ فقال وإن كان بأسلوب الرسالة الأشرمية: «أنا خازانو مدينة ... خادمك وتراب قدميك والأرض التي تدوسها وخشب المقعد الذي تجلس عليه وكرسي قدميك وحافر جيادك، إنني أتمرغ سبع مرات بطنا لظهر في تراب قدمي الملك مولاي وشمس السماء.»
وهذا الخازانو من الجنس السامي، وملك مصر في عهد الأسرة الثامنة عشرة من الجنس السامي، وأبرهة الأشرم والنجاشي كلاهما من الجنس السامي، وهذا الأسلوب من التذلل المنطوي على الحيلة والمطمع في رضى الملوك والسادة لا يصدر إلا من أمثال هؤلاء العبيد، وقد يكون أحدهم أقوى من الأسد وأخبث من الثعلب!
فكر أبرهة في فتح مكة وهدم الكعبة ليجلب إلى بلاده الحاج والتجار من كل فج؛ فبنى القليس في صنعاء (اقرأ
Eglise ) إلى جانب غمدان - وهي كاتدرائية فخمة - وكتب إلى النجاشي وهو مسيحي يقول : «بنيت لك بصنعاء بيتا لم تبن العرب ولا العجم مثله، ولن أنتهي حتى أصرف حاج العرب إليه ويتركوا الحج إلى بيتهم.» ثم ساق الجيش والفيل، وليس هذا بمستغرب؛ لأن الساميين اتخذوا الفيلة في مقدمة الجيوش؛ لإرهاب العدو، وقلدهم الفرس في حروبهم، والرومان في إخضاع إسبانيا وفي تدمير قرطاجنة (ص20، ج3، تاريخ رومة، لمومسن، ترجمة إنجليزية مجموعة مكتبة كل رجل).
كانت الكعبة مقدسة عند العرب كافة، فدعا رجل يقال له ذو نفر سائر العرب إلى حرب أبرهة ومجاهدته عن البيت الحرام؛ لأنه في خطر يوجب الاستنفار العام، فهزمه أبرهة. ولما بلغ أبرهة أرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في جيش من قبائل خثعم شهران وناهس وغيرهما، فهزمهم أبرهة وأسر زعيمهم ثم أعفاه وخلى سبيله، ولما دنا جيش أبرهة من الطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف فلم يحاربوه وقدموا له فرائض الطاعة وقالوا له: «أيها الملك، نحن عبيدك سامعون لك مطيعون.»
ولعلهم فرحوا لهدم الكعبة ليقضي أبرهة على منافسة مكة إياهم، ويزيل جبروتها من طريقهم؛ ولذا قال أهل الطائف لأبرهة؛ تزلفا واستعداء: «ليس بيتنا هذا (يعنون بيت اللات) بالبيت الذي تريد، إنما تريد البيت الذي بمكة، فنبعث معك من يدلك عليه.» فتجاوز الملك عنهم وبعثوا معه أبا رغال يدله على الكعبة ليهدمها، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزلهم بالمغمس فمات هناك،
1
فرجمت العرب قبره. وفيه يقول جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه
كرجمكمو لقبر أبي رغال
فعسكر أبرهة بالمغمس على مسيرة ثلاثة أيام من مكة، وبعث برجل من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود مستطلعا في كوكبة من الفرسان، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، فأصاب الحبشي فيما غنم مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم.
وكان أهل مكة كأهل الطايف لا يقدرون على القتال بعد أن ألفوا الراحة وتعودوا الربح بالتجارة، فأحبوا السلم حتى ولو هوجموا في عقر دارهم، وتدل رخاوتهم على حالهم قبل الإسلام بأربعين عاما، ثم ما صاروا إليه من الشجاعة والإقدام والرغبة في القتال والغزو بعد ظهور الإسلام بعشرين عاما، ويدحض قول من قال إن قريشا كانت على أتم استعداد للمجد والسؤدد، فجاء الإسلام متوجا ومتمما.
فإن قريشا وخزاعة وكنانة وهذيلا هموا بقتال أبرهة (كذا هموا!) ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك ... أما أعراب الصحراء الذين استنفرهم ذو نفر وقبائل خثعم شهران وناهس، فقد حاربوا أبرهة حتى هزموا، ولكن أهل الحرم نفسه وأهل مكة وهم أحق الناس بالذود عن البيت العتيق رضوا بالقعود فكانوا «دعاة التردد والهزيمة» وإن جملنا خنوع الطائف على منافسة مكة لينفردوا بالتجارة والنقل والحاج، فبم نعلل خضوع أهل مكة وهم أصحاب الشأن وحراس البيت العتيق الذي يراد هدمه؟!
وصلت مكة والطائف وغيرهما من المدن العربية إلى الحضيض الخلقي بسبب الترف والدعة وخنوثة ساداتهم وحب الحياة وخشية الموت والمخاطرة في القتال فليصنع أبرهة ما يشاء، دأب كل جماعة شاخت في الترف وتراخت أوصالها فتمسي طعاما سائغا للقوي الجائع. وقد جعل المؤرخون عبد المطلب لسان حال الجماعة المكية في الكارثة.
المفاوضة بين أبرهة الأشرم وعبد المطلب
أرسل أبرهة مفاوضا يمنيا - هو حناطة الحميري - يحمل إلى قريش بمكة الرسالة الآتية: «إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لي بقتال فلا حاجة لي بدمائكم!»
1
ألم يكن في هدم الكعبة سبب للحرب! ولكنه استضعفهم وظن أن لن يعترضوه حتى ينال بغيته، ثم قال لرسوله: «فإن لم يرد زعيم القوم حربي فأتني به ...» ولا نريد مواقف الذل لعبد المطلب بن هاشم الذي ادخرته الأيام، ولكن مؤرخي العرب يقدمون المقدمات ويستهينون بالمبادئ والمقامات ليطلقوا كلمة عبد المطلب الدالة على ثقته برب الكعبة! ويرون في هذه الكلمة - إن صحت الرواية - مبررا لكل ألوان الخضوع والمذلة. وشيئا آخر أرادوه؛ أن يكون كبير قريش وسيدها وممثلها لدى الغزاة. كان عبد المطلب من أعقل أهل مكة ومن زعماء دار الندوة، ولعله كان أشبه الناس بشيوخ أثينا أو رومة هيبة ووقارا، وهو بعد طويل القامة ذو قسامة ووسامة وحسن هندام، فكان لعبد المطلب عند مدخله على أبرهة الأثر المرتقب، فأعجب به وأحبه وقربه، وكان جواب عبد المطلب لحناطة الحميري الوزير المفوض اليمني: «والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة! هذا بيت الله وبيت إبراهيم خليله، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بين العدو وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه ...»
هذا الاستسلام والتواكل المطلق وإعلان العجز الحربي والضعف الوطني، هي التي تعجب مؤرخي العرب، فيتحمسون لقوله: «فإن يمنعه فهو بيته ... فوالله ما عندنا دفع عنه.» ويرون في هذه الصيغة الخانقة منتهى التوكل على الله والتسليم له وتفويض الأمر إليه! مع أن هؤلاء المؤرخين يعلمون أن أصحاب الكعبة كانوا مشركين والكعبة مخدع الأوثان، وما يلحقون هذا التعظيم بعبد المطلب إلا لأنه جد النبي
صلى الله عليه وسلم
فينبغي أن يكون كلامه مقدسا ودعوته مجابة. ولكن هذا الرد لم يكن يرضى به محمد
صلى الله عليه وسلم
لو سمعه؛ لأن دين الإسلام الذي بعث به حفيد عبد المطلب لن يكون دين استسلام وتواكل، بل شعاره «أعدوا لهم ما استطعتم من قوة.» وإذن دعا حناطة صاحبنا أبا الحارث للقاء أبرهة، فانطلق ومعه بعض بنيه حتى أتوا المعسكر فتركوه يخالط الأسرى ليرى عاقبة الذين يقاومون الفاتح، فاجتمع بذي نفر المجاهد الأول في سبيل الوطن والدين الوثني - وكان حميما لعبد المطلب - فدخل عليه في محبسه ودار بينهما الحديث الآتي:
عبد المطلب :
يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟
ذو نفر :
وما غناء رجل أسير في يد ملك ينتظر أن يقتله بكرة أو عشية؟! ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائق الفيل صديق لي، فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك وتكلمه فيما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. وأنيس هذا هو الذي يركب الفيل المعد لمهاجمة الكعبة وهدمها.
عبد المطلب :
حسبي ذلك يا ذا نفر.
ويظهر أن الصفة التي كان عبد المطلب مشهورا بها هي أنه «صاحب عير مكة»؛ أي صاحب الإبل التي تحمل الميرة، كمدير إحدى شركات النقل في العصر الحديث. فقدمه أنيس صاحب الفيل إلى مولاه أبرهة فأذن له، فلما رآه أبرهة - وهو على ما وصفنا من الوسامة والعظمة والجلال - نزل عن سريره وجلس على بساطه وأجلس عبد المطلب معه ودار بينهما الحوار الآتي على لسان الترجمان.
أبرهة :
ما حاجتك؟
عبد المطلب :
حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي.
أبرهة :
قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني! تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك وقد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه؟!
عبد المطلب :
إني أنا رب إبلي، وإن للبيت ربا سيمنعه. أبرهة: ما كان ليمتنع مني!
عبد المطلب :
أنت وذاك (أي أنت وشأنك).
وإذن لم يكن لجواب عبد المطلب الأثر المنتظر في ذهن أبرهة، بل قال: «ما كان ليمتنع مني!» كما قال سنخريب لوفد اليهود مستهزئا بياهوفا. فكافأ عبد المطلب على جماله ووقاره وفخامة مظهره برد الإبل التي كانت أصابتها طلائع جيشه. وكان عبد المطلب على رأس وفد من زعماء العرب منهم يعمر بن نفاثة بن عدي سيد بني بكر، وخويلد بن وائلة الهذلي سيد هذيل، وإنهم عرضوا عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم. وعادوا إلى قريش وأخبروهم بحبوط المسعى وأمروهم بالخروج من مكة والتحرز في شعب الجبال خوفا عليهم من معركة الجيش، مع أن أبرهة قال لهم: إنه لا يقصد محاربة القوم. ودعا أبو طالب بباب الكعبة طالبا من رب البيت أن يدفع عنه.
موقعة الفيل الشهيرة
وفي اليوم التالي لفشل المفاوضات تهيأ أبرهة لدخول مكة وهيأ فيله وعبأ جيشه وبينه وبينها مسيرة ثلاثة أيام. ونحن نؤمن بحديث الفيل؛ لأن القرآن جاء مؤيدا للتاريخ، قال الله - سبحانه وتعالى:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول
1 (سورة الفيل).
ولكن السبب الظاهر لمخالفة الفيل أمر سائسه هو وجود نفيل بن حبيب الخثعمي الذي كان أسيرا في جيش أبرهة، فعله كان عارفا بترويض الفيلة، أو تلقن من السائس ألفاظا مصطلحا عليها يطيعها الفيل، أو أنه دربه أثناء أسره على طاعة أمره؛ فقد رأينا ذا نفر - الأسير الآخر الذي خالطه عبد المطلب - صديقا لأنيس سائس الفيل، فلا يبعد أن يكون نفيل الخثعمي قد صادقه لعلة؛ وهي الاستيلاء على إرادة الفيل لبلوغ الأرب المشترك؛ وهو صد هجومه عن الكعبة.
وإذن تجري القصة بأنه لما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل فالتقم أذنه فقال: «أبرك محمودا وارجع راشدا.» وليس «محمودا» اسم الفيل كما زعموا ولكنها صفة تقابل «راشدا»، أي تحمد إن بركت، وترشد إن رجعت، ثم أرسل أذنه وانتهز نفيل فرصة الاضطراب الذي يسود جبهة الجيوش في مثل هذه الأحوال ولاذ بالفرار حتى أصعد في الجبال وبرك الفيل في جيش أبرهة «وانتشرت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام.»
2
وهلكت الكثرة من رجال أبرهة ونجت القلة، وممن نجا أنيس سائس الفيل وخادمه، وقد لجآ إلى مكة وعاشا بها إلى أن شاخا وعميا ورأتهما سيدتنا عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - يتسولان في شوارع مكة.
3
ولما رد الله عن مكة الحبشة وأصابهم ما أصابهم من النقمة، أعظمت العرب قريشا وقالوا: «الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم.» فجعلوا يقولون في ذلك الأشعار قبل نزول السورة الكريمة بأربعين عاما؛ إذن جاءت هذه السورة لتأييد التاريخ وإظهار محبة الله للبيت الحرام حتى قبل البعثة المحمدية، وما زال البيت في أيدي الوثنيين، وكان مثابة للأصنام؛ لأنه رفع بأمر الله لإحياء كلمة التوحيد، بناه إبراهيم وإسماعيل، وعما قريب يعيدها محمد، ولا يعقل أن الله أهلك جيش أبرهة وأظهر معجزة الفيل على يد نفيل بن حبيب الخثعمي غيرة على الكعبة التي كانت مخدعا لهبل وإساف ونائلة! ولكنها كانت في أول أمرها معبدا لتوحيده بناها نبيان بأمره وسوف تكون بعد أربعين عاما كعبة المسلمين وقبلتهم، وإذن لا بد من إنقاذها وصيانتها والدفاع عنها ولو هلك جيش أبرهة القوي المسيحي على دين عيسى بن مريم وهو دين منزل وله كتابه المقدس، وهو بالطبع مفضل على عبادة الأوثان.
كان أبرهة يحارب الوثنية، يريد هدم معبد الأصنام لأن المسيحية خير من الوثنية، فعسى أن يكون سعيه مقبولا عند الله؛ لأن الأعراب أهملوا ملة إبراهيم وانتحلوا دين عمرو بن لحي الذي جلب لهم الأصنام، ولكن خطة أبرهة فشلت وجيشه تبدد وفيله عصى سائسه وقائده، مع أنهما ضربا رأسه بالطبرزين وأدخلا المحاجن في مراقه، فبزغوه لأن الله أمهل البيت الحرام وحماه ولم يعن عدوا على هدمه، ولو كان البيت مخدعا للأصنام، حتى يظهر الرجل الذي يحطمها ويبطل عبادتها ويبقي على الكعبة ويتخذها قبلة لألوف ممن يتبعون دينه. وكان محمد
صلى الله عليه وسلم
يوشك إذ ذاك أن يولد؛ فقد ولد في عام الفيل كما هو معروف ومشهور، وهو سنة 570 مسيحية، فنشأ وهو يسمع حديث الفيل: كان أبرهة وزير النجاشي على اليمن ومندوبه السامي، فأحب أن يحول العرب عن مكة إلى صنعاء ليعبدوا إله النصارى بدلا من الأوثان، فبنى في صنعاء تلك الكاتدرائية العظمى (القليس) وظن أنه يحول التجارة عن مكة إلى صنعاء بتحويل العبادة من الكعبة إلى القليس التي أنفق على بنائها الملايين.
وكان مولد محمد
صلى الله عليه وسلم
في هذا العام نفسه، وهو عام الفيل، وتاريخه 570م، فحملة الفيل هي «حرب السبعين» في جزيرة العرب التي باء فيها الأحباش واليمنيون بالخسران. وكان عام النهضة بمولد نبي المستقبل، وفوجئ عبد المطلب في هذا العام بكوارث عدة؛ منها: موت ولده عبد الله، وهجوم الأحباش على وطنه، وانزعاجه بضياع إبله التي كافح لدى أبرهة في استردادها حتى أعادها إلى قوافل الميرة. وإنك لتحس في سورة الفيل بروح الوعيد لأعداء نبي المستقبل.
فإن الله حمى الكعبة لا حبا في الأصنام، وقد كانت النصرانية التي يمثلها أبرهة، والكاتدرائية التي بناها أبرهة ليعبد فيها، أحب إلى الله من هبل وشركائه؛ لأن دين المسيح دين منزل ولم يكن مضى عليه أكثر من خمسة قرون، ولم يرسل الله نبيا بين عيسى ومحمد؛ فما زال دين عيسى قائما حتى يظهر التوحيد على يد محمد، وليظهر شدة غضبه على أعداء النبي من قريش التي اختار أن يصطفي من بينها خاتم أنبيائه، وإذن فهذه السورة تتوعد قريشا وتمتن عليهم وتنذرهم بالويل والثبور؛ لأن الله لم يصبر على أبرهة الذي أراد السوء بالكعبة؛ وهي بيت من حجارة؛ فكيف يصبر على قريش يكيدون لمحمد وهو نبيه ورسوله؟! فهذه السورة للإنذار والوعيد والعبرة لا للتاريخ والوصف. وفي قوة نظمها وإيجازها دليل على ذلك.
وقد هلك جيش أبرهة لما وقع من الارتباك في صفوفه، ثم انتشار الجدري والحصبة والحميات بسبب المستنقعات والعفونة والقمامات المتراكمة لاجتماع الجنود في أماكن تعوزها وسائل العناية الصحية، وفي مجمع الأمثال للميداني «تبدد بلحمك الطير»، وفي الشعر العربي للنابغة الذبياني في وصف ممدوحه:
إذا ما غدا بالجيش حلق فوقه
عصائب طير تهتدي بعصائب
وقول أبي الطيب في وصف جنود سيف الدولة:
وإذا لقوا جيشا تيقن أنه
من بطن طير تنوفه محشور
ولم تكن تلك الحادثة الأولى من نوعها في حماية أحد بيوت العبادة؛ فقد دفع إله اليهود ياهوفا عن معبدهم في أورشليم جيشا عرمرما قوامه 185 ألفا، كان يقوده سناخرب الذي ولد عام 705ق.م وهلك سنة 681ق.م، وهو ملك آشور وأحد أعداء اليهود الألداء (انظر صفحات 504-509 من كتاب تاريخ أمم الشرق القديمة لجاستون ماسبرو طبع فرنسا).
وفي سفر الملوك الثاني من التوراة (إصحاح 19: نبذة 33-35): لذلك هكذا قال الرب عن ملك آشور: لا يدخل هذه المدينة (أورشليم) ولا يرمي هناك سهما، ولا يتقدم عليها بترس، ولا يقيم عليها مترسه، في الطريق الذي جاء فيه يرجع، وإلى هذه المدينة لا يدخل! يقول الرب: وأحامي عن هذه المدينة؛ لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي.
وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش آشور مائة ألف وخمسة وثمانين ألفا، ولما بكروا صباحا إذا هم جميعا جثث ميتة، فانصرف سنخريب ملك آشور وذهب راجعا وأقام في نينوى، وفيما هو ساجد في بيت نسروخ إلهه ضربه أدرملك وشر آصر ابناه بالسيف ونجوا إلى أرض أراراط وملك آسر حدون ابنه عوضا عنه.
ا.ه. وانظر أيضا قصيدة بيرون وعنوانها هلاك سنخريب في عشرين بيتا
The Destruction of Sennacherib .
ويحب المؤرخون أن يظهروا عبد المطلب بمظهر الرياسة على الوفود التي تقصد إلى اليمن بعد هزيمة أبرهة لتهنئة سيف بن ذي يزن، ومنهم أمية بن عبد شمس (وهو لم يظهر في وفد قريش لأبرهة بأبواب مكة) وخويلد بن أسد وغيرهما من وجوه قريش، فلما دخلوا على سيف وهو غارق في مظاهر الترف والرفاه والأبهة لم يكن عبد المطلب معروفا عنده ولم يقدمه بين يديه أحد، فقال له: «إن كنت ممن يتكلم بين أيدي الملوك فقد أذنا لك.» فتكلم بخطبة طويلة، ورد عليه الملك سيف بخطبة مثلها.
هذان مظهران من مظاهر عبد المطلب في الحياة العامة بعد حفره بئر زمزم وشروعه في ذبح ولده عبد الله وفاء بنذره، وإقامته الحق في المطالبة بدم جاره اليهودي.
ولحكمة ظاهرة دافع الله عن هيكله في بيت المقدس ورد سنخريب ملك آشور الوثني على أعقابه بعد أن أهلك مائتي ألف جندي بضربة ملك من السماء في سواد ليلة، ولحكمة أخرى أهلك جيش أبرهة - وهو مسيحي - ليحمي بيتا آخر تعبد فيه الأوثان منذ دهور وكانت فيه كلمة التوحيد، وعما قليل تعود إليه على لسان نبي جديد هو محمد بن عبد الله من آمنة بنت وهب!
الكتاب الرابع
الطفولة
نشأ محمد يتيما من والديه؛ مات أبوه عبد الله وهو حمل مستكن، وقضت أمه بعد ميلاده ببضع سنين؛ فهل كانت طفولته مرحة، يشعر خلالها بسعادة الأطفال الذين يترعرعون في حجور والديهم ويدرجون ناعمين بعنايتهم وتدليلهم ورعايتهم، وهي لعمرك أثمن وأغلى وأحلى ما يستمتع به الطفل في نشأته الأولى؟
كانت عناية عبد المطلب بن هاشم جده لأبيه به عظيمة، وحب الأجداد الأحفاد غير منكور، وقد يربو على حب الوالدين. كان الجد شيخا جليلا كريما، ذا حنان وعطف على الغرباء فضلا عن القرباء، فما بالك بالحفيد الجميل اللطيف الأمين اليتيم؟! وقد حرم في استهلال وجوده حنان الوالدين وعطفهما، فكفله وانحنى عليه انحناء المرضع على الوليد، وبذل وسعه وطاقته وأكثر منهما في تنعيمه وتطمينه والترفيه عنه، وحباه محبة ورحمة لعله يعوض بعض ما شاءت العناية لأسباب مستورة
1
أن تحرمه، ولشد ما كانت حاجة الطفل البريء محمد
صلى الله عليه وسلم
لهذا الحب، وهو من تكشفت حياته حنانا مجسما وحبا خالصا ورحمة لا حد لها، ومثالا للبر والرأفة «يشفق على البهيمة المثقلة ويبكي على الطفل في حجر الأرملة.» ومن يبلغ الرجولة رحيما ألوفا محبا عطوفا، لا بد أن تولد معه تلك العاطفة التي تنمو مع الزمن؛ لأنها من العواطف التي تخلق ولا تكتسب.
فتح محمد عينيه فلم يجد والدا يداعبه، ولم يشعر - على الرغم من حنان الجد وحبه - بيد الأب الرءوف يحمله بين يديه، ويتلقى ابتسامته الأولى فيناغيه ويناجيه، وهو ولده من صلبه، من لحمه، ومن دمه، فيرى فيه صورته، ويتبين ملامحه في مرآة نفسه، موقنا أنه يرى بعينه شخصية غضة بريئة تمتد بها شخصيته ويعيش فيها عمرا ثانيا. لم يكن للأعراب علم بالتصوير رغم وجود بعض التصاوير بالكعبة، فيرى الطفل - وقد صار فتى - صورة أبيه الذي قضى في ريعان الشباب دون أن يراه، فتصير صورة الوالد على مر الزمن طيفا مبهما في ذهن الصبي، فيعلم أنه كان له أب وإن لم يره، وإن حاول تخيله فقد لا يجد في عالم الحقيقة ما يعين الخيال على تخطيط تلك الصورة السابحة في عالم الأبدية إلا هيئة الشيخ الكريم الكفيف المشرف على أبواب الفناء، أو أحد الأعمام وقد يشبه من قرب أو من بعد ذلك الحبيب الذي لم يمهله الموت حتى يرى فلذة كبده. ولعل عمه أبا طالب - وقد بادر لحضانة ابن أخيه بعد وفاة جده، وكان واحدا من ستة عشر ولدا وبنتا - أقرب الناس إلى عبد الله شبها؛ لأنه شقيقه، فانكب على الطفل يرعاه ويكفله، ويحميه ويذود عنه، ويخاطر بحياته وراحته وماله (وإن كان قليلا)، ليكمل تربيته، فيصطحبه في حله وترحاله، ويحرص على إسعاده بأكثر مما يحرص على إسعاد أولاده.
بل تراه يغرس حب الطفل محمد في قلوبهم حتى يشبوا، وعلى رأسهم علي، على مناصرته فيتخذه محمد ابنا وأخا ووليا ويجعل منه خطيب دعوته، وبطل عقيدته، وقائد حركته الناشئة، ويخاطر علي بحياته ليكون فداءه في بيته وفراشه، ثم يصبح علي في مقدمة المهاجرين والمستبسلين في الدفاع عن بيضة الإسلام في مكة والمدينة والمشاهد كلها، وما يزال رافعا العلم الذي حمله من الساعة الأولى عاملا بعلمه وقلبه ولسانه وسيفه إلى أن يقع مخضبا بدماء الغدر والخيانة، وهو رابع الخلفاء - رضي الله عنه.
أما عن آمنة أم الطفل محمد
صلى الله عليه وسلم
فقد كانت فتاة جميلة ومن أشرف العرائس حسبا، ولم تكن فتاة أقل منها قدرا أو جمالا لتطمع أن تكون لعبد الله عروسا، ويريد الرواة أن يدخلوا في روع الأجيال أن عشرات من خيرة بنات مكة حسنا ومنبتا قتلن أنفسهن ليلة الزفاف غيظا وحسدا؛ لأن واحدة منهن غير آمنة لم يسعدها الحظ بعبد الله بن عبد المطلب عرسا! أهي حقيقة تاريخية، أم قصة ظريفة؟! لا ريب أن عبد الله كان جميلا محبوبا، كما كانت آمنة حسناء طاهرة.
كان عبد الله أصغر بني أبيه، وكان أحسن فتى في قومه، وما بلغنا من وصف النبي وجده وأعمامه يقرب إلى أذهاننا صورة والده؛ لأن قوانين الوراثة لا تشذ ولا سيما في البيئة البدوية، وقد يكون أصغر الأولاد وآخر النسل أكثرهم جمالا وذكاء وفطنة، وأغلب الرأي أن عبد الله كان آخر ولد عبد المطلب - كما قدمنا.
كان طويل القامة مترفا رزقه عبد المطلب بعد أن تكونت ثروته، ويكون أصغر الأولاد أبدا مدللا وقيل إن نصف نساء قريش شغفن به فلقي منهن عناء! وما هذا بالمستغرب في الجماعة المكية التي كانت لذلك العهد شبه إباحية تعددت فيها أشكال الزواج حتى بلغت عشرة، فلا يبعد أن تكون فتيات قريش؛ أي من بني مخزوم وعبد شمس وعبد مناف، قد مرضن أسفا على فوات الفرصة! قال جيبون في وصفه زواجه: «إن نساء البلد قتلن أنفسهن حزنا عليه.»
2
وكان زواج عبد الله بآمنة عن إيجاب وقبول، وكان عقدا معروفا عند العرب، تتقدمه الخطبة من ولي الأمر؛ ولذا قال محمد: «خرجت من نكاح غير سفاح.» وقال: «ما ولدني بغي قط منذ خرجت من صلب آدم، ولم تزل تتنازعني الأمم كابرا عن كابر حتى خرجت من أفضل حيين من العرب: هاشم، وزهرة» (المواهب اللدنية وابن سعد وابن إسحاق ومسند أحمد والإصابة وأسد الغابة). وكان عقد الإيجاب والقبول يستدعي أن يقصد الزوج الزوجة في مقر أهلها، فتخير عبد المطلب آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة وخطبها، وهناك قصص يراد منها وصف تكالب النساء على عبد الله أثناء الطريق يعرضن أنفسهن عليه ويراودنه عن نفسه، أولاهن قتيلة أو رقية، فقالت له: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي. فقالت: «لك مثل الإبل التي نحرت عنك يوم أراد أبوك ذبحك، وقع علي الآن.» وهي دعوة فاضحة؛ ولذا أجابها: «أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه.» ورووا أن المرأة التي عرضت نفسها على هذه الصورة الفاضحة هي ليلى العدوية، والمعنى المقصود أنها قدمت إليه بائنة وطلبت إليه الزفاف فورا فأبى، ثم مر بكاهنة من أهل تبالة اسمها فاطمة الخثعمية، وصفها الكلبي بأنها من أجمل النساء وأعفهن! فقالت له: يا فتى، هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل (وقيمة البائنة لم تتغير)؟ فقال لها: أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه ...
وكان الأولى قتيلة أو رقية
3
واقفة عند الكعبة، وقولها: «مثل ما نحر عنه من الإبل» يقصد به إلى تعزيز رواية الذبح، ويدل على أنها كانت تعرفه، وأنها كتابية؛ لأنها أخت ورقة الكتابي، وقد لمح المرأتان نور النبوة في وجه عبد الله، وهذا الإرهاص هو المقصود، فلم مرضت نساء قريش أو انتحرن أسفا على الحرمان منه؟! أكان ذلك لنور النبوة أيضا، أم لأنه كان جميلا رشيقا ذا حسب ونسب ومستقبل باسم؟
وما انفك الرواة مؤيدين ما زعموا من أن عبد الله بعد أن دخل بعروسه خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه، وقد زعموا أنهما اثنتان لا واحدة، ولم يذكروا من هي أو من هما، فأعرضت عنه، فسألها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت علي بالأمس؟! فأنكرته وسألته: من أنت؟! فأجابها في خجل وتعجب وهو لا يصدق عينيه وأذنيه: أنا عبد الله بن عبد المطلب، من رغبت فيه أمس! - ما أنت هو! لقد رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن! ماذا صنعت بعدي حتى فقدت ذلك النور الذي بهرني؟
فقال لها: تزوجت بآمنة بنت وهب. فلحقتها غيرة شديدة وقالت: ما أنا بصاحبة ريبة، ولكن رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في، وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، فاذهب فأخبرها (أي أخبر عروسك) أنها حملت بخير أهل الأرض!
وإذن يكون هذا خير تفسير للمراودة وعرض البائنة وطلب الدخول فور الساعة التي نطق بها لسان إحدى النسورة (قتيلة أو رقية أو الكاهنة فاطمة الخثعمية) فالمقصود بالخبر ذكر البشرى على لسان المرأة الطموح، وليس هذا من التاريخ في شيء؛ لأنه لم يقع في وقته المقول به، ولكنه بشرى رويت بعد ظهور النبوة.
عندما بلغ عبد المطلب وعبد الله دار أهل العروس خطبها من عمها وهيب الذي كفلها بعد وفاة أبيها وهب، فتم الزواج وكان الزفاف الذي أثمر تلك الثمرة المباركة في ضيعة قريبة من مكة «شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى» كان يملكها أبو طالب شقيق الزوج، وكان يسكنها في غير أيام منى، وهو المكان الذي نفت إليه قريش بني هاشم وبني المطلب وحصرتهم بعد ظهور الدعوة المحمدية في حلف مشهور كتبوه وعلقوا صحيفته على الكعبة، وسيأتي الكلام عليه. ويظهر أن أصهار عبد الله كانوا يقيمون بجوار تلك الشعب، فأقام العروسان فيها ثلاثة أيام، وفي أثنائها حملت آمنة بولدها الوحيد محمد
صلى الله عليه وسلم . وقيل كانت إقامتها في دار الزفاف ثلاثة أشهر ، وهي الفترة المعروفة بشهر العسل.
وحين تزوج عبد الله من آمنة كان أبوه يطيق الزواج، فخطب لنفسه «هالة» بنت وهيب عم آمنة وتزوج الرجل وولده في يوم واحد وأولما وابتنيا بهما؛ أي دخلا بالعروسين، فولدت هالة لعبد المطلب صفية وحمزة عم النبي وابن خالته وقرينه في سنه وبطل حروبه في بدر وأحد. وبسبب اغتياله سميت هند أم معاوية آكلة الأكباد.
وأراد المؤرخون أن يعللوا زواج عبد المطلب وولده في يوم واحد ومن بيت واحد، فرووا أن ذا يزن صاحب اليمن وأحد أحبار اليهود قالا لعبد المطلب: «نرى الملك والنبوة في بني زهرة فتزوج منهم.» وهكذا ترى خطوات عبد المطلب وعبد الله ومحمد
صلى الله عليه وسلم
في طفولته مصحوبة ببشرى أو خبر من الكهان أو الحزاء أو المنجمين بأنه سوف يولد في مكة من صلب عبد المطلب ولد يكون له شأن عظيم في النبوة والملك (انظر فصل التبشير به).
وينسب إلى آمنة أنها رأت أثناء حملها رؤى كثيرة وسمعت بشريات متعددة في المنام، ويروى أن أحد الملائكة بشرها - كما بشرت العذراء مريم - بأنها تحمل خير البرية وسيد العالمين، ويأمرها صوت آخر أو هاتف بأن تكتم أمرها وأن تسميه محمدا، وكانت آمنة منذ حملت انتقل إلى وجهها من عبد الله ذلك الكوكب الدري أو ذلك النور الذي بهر أبصار الكاهنة فاطمة الخثعمية أو سواها من النساء حتى عرضت نفسها على عبد الله مقابل مائة بعير، لتتلقى منه ذلك النور، وتلد له ذلك الولد العجيب، ولعل المؤرخين لا يعلمون أن الطبيعة تخلع على بعض الحوامل مسحة من الجمال الروحاني، وهذا أمر مشاهد من قديم، وهو تفسير قولهم: إن نور عبد الله انتقل إلى آمنة، أما البشرى فلا نسلم بها جملة ولا نردها جملة، ونميل إلى الاعتقاد بأن طفلا صار شأنه ما صار إليه شأن محمد
صلى الله عليه وسلم
من النبوة والعظمة في سائر ناحيات الحياة، لا بد أن يصحب حمله وولادته وطفولته شعور أمه بالسرور والتفاؤل. ولما كانت حالة الحمل تكليفا للبنية الأنثوية فوق طاقتها، يصحبها الوحم فتحس بمشقة شديدة ويعتريها دوار، وضعف وخمود متقطع واشتهاء ما لا يخطر على البال؛ فيضطرب الجهاز العصبي، ولا يبعد - والحال هذه - أن ترى أحلاما جلية تجعلها في شبه حالة الوسيط الصالح للتنويم فتستبين أمورا، قد تكون مستورة عن سواها، كما يجوز أن تتوهم ذلك كله أو بعضه. ومما يؤيد هذا الرأي قول آمنة: «أتاني آت وأنا بين النائمة واليقظانة فقال: هل شعرت بأنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها؟ وأمهلني حتى دنت ولادتي فأتاني وقال: «قولي إذا ولدته: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا؛ فإن اسمه في التوراة والإنجيل أحمد».» وفي كلام آخر أنه لم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا وهذه كناية جميلة بحسب ما سيكون.
وقيل أيضا إنه ولد عند وجود المشتري؛ وهو دليل السعد والمجد. وإن سنة ولادته كانت سنة الفتح والخير؛ لأن قريشا كان قبل ذلك في جدب وضيق فاخضرت الأرض وحملت الأشجار وأتاهم الرغد من كل جانب، وهاتان حقيقتان ماديتان يجب فحصهما؛ الأولى من اختصاص الفلكيين، وإن صحت تكون من قبيل التنجيم والطوالع وتعيين حظ كل مولود بالكوكب الذي يولد في دورته! وليس هذا من بحثنا في شيء، وإن اعتقدنا أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان أسعد الناس حظا، وأكثرهم نجاحا وتوفيقا.
أما انفراج أزمة قريش وخصب أرضها بعد الإجداب وحدوث اليسر بعد العسر، فلا يمكن تحقيقه في جماعة لم تكن على شيء من علوم الإحصاء وتسجيل التقلبات الجوية، حتى إن مولد محمد
صلى الله عليه وسلم
لم يحدد بالدقة، لولا جهود بعض علماء الإفرنج؛ فقد روى عبد الله الكلبي أن عبد الله بن عبد المطلب ولد في سنة 24 من حكم كسرى أنوشروان، وأثبت كوسان دي برسيفال أن ولادة محمد
صلى الله عليه وسلم
كانت في اليوم الخامس والخمسين بعد هزيمة أبرهة الأشرم في موقعة الفيل، وكان المسلمون على أنه ولد في صباح اليوم الثاني من شهر ربيع الأول عام الفيل، إلى أن حقق المرحوم محمود الفلكي المصري بأنه ولد في صباح اليوم التاسع من ربيع الأول سنة 571 ميلادية.
4
ولا غرابة في الجمع بين الشهر العربي والسنة المسيحية؛ لأن التاريخ الهجري لم يبدأ به إلا بعد ذلك بأربعين عاما، لكن الأشهر العربية كانت معروفة، والثابت أيضا أن أمه حملت به في الربيع ووضعته في الخريف وقد دلت البحوث الحديثة أن الخريف فصل مواليد النوابغ.
ولما ولد محمد - عليه الصلاة والسلام - قال جده عبد المطلب: «ولد لي الليلة مع الصبح مولود.» وما روي من تدلي النجوم فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلا، وولادته كانت نهارا.
وقد ولد في الدار التي كانت لابن عمه عقيل بن أبي طالب، وما زالت بيد أولاده بعد وفاته إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، فأدخلها في داره وسماها البيضاء؛ لأنها بنيت بالجص ثم طليت به، وجاء في بعض السير أن محمد بن يوسف اشتراها بمائة ألف دينار، وهذا غريب لأن الدار التي تركها عبد الله بن عبد المطلب، قومت بعشرين دينارا، وتلك الدار التي ولد بها محمد
صلى الله عليه وسلم
عند الصفا بنتها زبيدة زوجة الرشيد مسجدا عام حجها، وقد تكون الدار - وهي مسقط رأس النبي
صلى الله عليه وسلم - بلغت هذه القيمة تقديرا لمكانتها وشرفها.
ومما يؤسف له كثيرا وينعى على قوم في هذا الزمان لا يحترمون أعظم ذكرى في العالم ولا يدركون قيمة أكرم الآثار، وقد حققوا مكايد الأغيار بأن خربوا هذه الدار وهدموها في سنة 1345ه؛ بدعوى أن بقاءها من الوثنية! وفي هذا الجرم الغاشم دليل على عقولهم ونفوسهم وتقدير التاريخ المحمدي في نظرهم، فما أشبه العرب في القرن العشرين بقبائل الفندال في القرن الرابع وما قبله! ومهما طالت أعمارهم فسوف تبقى تلك الكبيرة وصمة في جبينهم أبد الدهر!
أما القابلة التي ولد محمد
صلى الله عليه وسلم
على يديها فاسمها الشفاء، قالت: «لما ولدت آمنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقع على يدي.» وحضنته أم أيمن فكانت مربيته الأولى فأرضعته أمه آمنة بضعة أيام ثم أرضعته ثويبة جارية عمه أبي لهب، وهو من صار بعد البعثة أبغض الناس إلى الله ورسوله.
وأرسلت الأم إلى جده عبد المطلب، وكان يطوف بالكعبة فجاء إليها فقالت له: يا أبا الحارث، ولد لك مع هذا الصبح مولود.
وقد مرض المولود ثلاثة أيام ثم عوفي، وأعتق أبو لهب جاريته ثويبة حين بشرته بولادة محمد
صلى الله عليه وسلم
ومن لطيف التندر أن أبا لهب المشرك المهجو في القرآن هو وأنثاه يخفف عنه كل ليلة إثنين في جهنم فيمص بين أصابعه ماء بإعتاقه ثويبة عندما بشرته بولادة النبي
صلى الله عليه وسلم
وبإرضاعها إياه، فماذا يكون نصيب حليمة؟!
5
وكانت رضاعته من ثويبة أياما قلائل بلبن ابنها مسروح، وكانت ثويبة ظئرا محترفة أرضعت بضعة أطفال منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وأبو سلمة بن عبد الأسد ابن عمة النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فهؤلاء إخوته في الرضاع. ولم يثبت أنها أسلمت أو أن ابنها مسروحا ترك دين آبائه، ولكن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان يصلها من المدينة، ولما فتح مكة سأل عنها وعن ابنها فعلم أنهما ماتا. أما الظئر التي خدمته واحتضنته وغذته بلبنها وحرسته، وعنيت به في السنين الست الأولى من عمره المبروك المبرور، فهي حليمة بنت أبي ذؤيب أم كبشة، وهي من هوازن من بني سعد، وكان زوجها الحارث بن عبد العزى، وكنيته أبو كبشة.
6
وكانت عيلتها مؤلفة من زوجها وبنيها عبد الله وأنيسة والشيماء (كبشة) التي كني أبوها باسمها، وهم إخوة النبي
صلى الله عليه وسلم
في الرضاع، وكان يكرم الأحياء منهم ويصلهم ويلقاهم مرحبا فرحا، وكان عطفه عليهم عظيما، فيقول للرجل والدي، ولحليمة أمي. ودعوه أحيانا بابن أبي كبشة نسبة إلى أبيه في الرضاع، وروي أنه كان جالسا على ثوب فأقبل أبو كبشة أبوه من الرضاع فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه من الرضاع فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاع فقام محمد
صلى الله عليه وسلم
فجلس بين يديه ليكون أخوه هو وأبواه جميعا على الثوب.
ويزعم مرغليوث أن بعض أعداء النبي
صلى الله عليه وسلم
كانوا يعيرونه بابن «أبي كبشة»، ولكن مرغليوث لا يدلنا على موضع التعيير من هذه النسبة، ثم يزعم أن أحد أجداد النبي
صلى الله عليه وسلم
من قريش يكنى بهذه الكنية، وذكر مرغليوث أن الزمخشري والبيضاوي أشارا إلى ذلك في تفسير الآية الخمسين من السورة الثالثة والخمسين وهي سورة النجم، والآية الخمسون منها:
وأنه أهلك عادا الأولى (سورة النجم).
ولم نر بين هذه الآية وكيد مرغليوث رابطة إلا بإشارة خبيثة، وهي أن أبا كبشة كان صابئا يعبد النجوم؛ وهي بدعة في الجاهلية، فلما جاء محمد
صلى الله عليه وسلم
بالتوحيد شبه بجده. أما حليمة فكانت امرأة فقيرة من بني سعد فخرجت هي وعشر نساء يطلبن الرضعاء في مكة، وكانت من عادة العرب أن يلتمسوا للأولاد مرضعات في غير قبيلتهم ليكون ذلك أنجب للولد وأفصح. وهذه العادة متبعة الآن في بلاد أوروبا؛ حيث ينبت الأطفال في الريف مبعدين عن أجواء المدن وزحمتها وأوزارها وأوبائها؛ سواء في ذلك الأغنياء والفقراء منهم.
عرض محمد
صلى الله عليه وسلم
على المرضعات العشر فأبينه؛ لأنه يتيم، والمرضعات يلتمسن الأجر من الوالد، فكن يقلن: «ما عسى أن تصنع أمه وجده؟ فكنا نكره أخذه لذلك.» وهذه القصة تنفي الثراء العظيم المنسوب إلى عبد المطلب؛ لأنه لو كان من كبار الأغنياء، مع عطفه المأثور على حفيده لتقدم إلى إحداهن كفيلا يرجون رفده وأجره، ولعل خبرهن لم يصل إلى علم عبد المطلب لأنهن بلغن مكة فجأة، ولعله لم يعلم أن كنته تريد أن ترضع ولدها في البادية ظنا منه أن ثويبة أو غيرها من جواري العائلة تكفيها مئونة إرضاعه، أو لعله ظن آمنة لا تفرط في الطفل حنانا عليه وتمسكا به لقرب عهدها بموت أبيه، وليس لديها ولد آخر. على أن مثل هذا التعليل ليس ذا شأن يذكر، والذي يهم في سياق الخبر أن كل ظئر منهن أخذت رضيعا ما عدا حليمة، فلما عزمن على الانصراف قالت حليمة لزوجها أبي كبشة: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن على ذلك الرضيع فلآخذنه! فقال: لا بأس عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة.
7
وهذه الرواية تجعل الفضل في أخذ الرضيع لغريزة المنافسة عند حليمة وعاطفة الاستبشار في قلب زوجها، أما عبد المطلب فبمعزل عن الواقعة، وليس هذا طبيعيا! ولعل ما رواه القاضي عياض في الشفاء أقرب إلى ما وقع؛ فقد قالت حليمة: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ - أنا امرأة من بني سعد. - ما اسمك؟ - حليمة. فقال: بخ بخ، سعد وحلم، خصلتان فيهما خير الدهر وعز الأبد! يا حليمة، إن عندي غلاما يتيما، وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلنه، وقلن: «ما عند اليتيم من الخير؟! إنما نلتمس الكرامة من الآباء.» فهل لك أن ترضعيه فعسى أن تسعدي به؟ - ألا تذرني حتى أشاور صاحبي؟ فوافق أبو كبشة؛ فعادت حليمة إلى عبد المطلب فوجدته في انتظارها، فقالت له: هلم الصبي. فتهلل وجه الجد فرحا وأدخلها بيت آمنة، فرحبت بها وأدخلتها الغرفة التي فيها الطفل محمد
صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض وتحته حريرة خضراء، راقد على ظهره يغط، فأشفقت أن توقظه من نومه لحسنه، فوضعت يدها على ظهره فتبسم ضاحكا وفتح عينيه إليها، فقبلته بين عينيه وأخذته، وما حملها في الحقيقة على أخذه إلا أنها لم تجد غيره رضيعا؛ فما أعظم «ورقة البخت» التي سحبتها ساعة أن قبلته وحملته بين يديها! وتروى قصص جميلة عن امتلاء ثدي حليمة باللبن لمحمد وأخيه في الرضاع ضمرة وامتلاء ضرع غنمها وخصب أرضها وما حل ببيتها من البركة بسبب هذا الرضيع وأن زوجها قال لها: «والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة!»
تمام الرضاع وحادث الملكين وشق الصدر
ولا نعلم إن كان عبد المطلب تشارط على أجر يدفعه لحليمة أو أن آمنة هي التي كانت تصلها من مالها؟ والأول مرجح لدينا. كذا لا نعرف عن حياة محمد في السنتين الأوليين شيئا سوى أن حليمة أرضعته عامين ثم فطمته، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، ولم يقطع العامين حتى صار غلاما غليظا شديدا، وربما نطق قبل غيره من الأطفال لشدة ذكائه وقوة بنيته التي ورثها من آبائه وأمهاته، ولعله أيضا تمكن من المشي مبكرا، وقد يكون مارس ألعاب الأطفال قبل غيره ممن هم في سنه، كعمه حمزة وعمته صفية. وكان بالجملة طفلا سابق الأوان في النمو والحركة والنطق واللعب والإدراك، وهذا كله راجع إلى أسباب طبيعية، وإلى العناية الربانية العليا، ونترك جانبا ما روي من أنه تكلم بعد تسعة أشهر، أو أنه كان يرمي السهام مع الصبيان لما بلغ عشرة أشهر؛ لأنه ما يزال رضيعا من ثدي حليمة؛ فقد أتمت رضاعه حولين كاملين، وهو ما نص عليه القرآن بعد ذلك في سورة «البقرة»:
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين .
وفي ختام العامين عادت به حليمة إلى مكة أحرص ما تكون على مكثه في بيتها لما رأته من الخير والبركة، وهو جائز عند العرب المفطورين على الطيرة والفأل، فقالت لأمه: «حبذا لو تركت ابني عندي حتى يغلظ!» ودعمت حجتها في استبقائه بالخوف عليه من وباء مكة ووخمها وقيظها، فترددت الأم ثم وافقت على عودته إلى البادية لما رأته من حسن صحته وكمال نموه.
وبعد رجوعه بثلاث سنين أو أربع حدث له دوار أزعج أخاه من الرضاع ضمرة فأدركته حليمة وزوجها فوجداه منتقعا وجهه؛ أي بلون النقع، وهو لون الموت فالتزماه وسألاه عن حاله، وهنا سردا قصة الملكين وشق الصدر وغسل القلب ... إلخ.
1
ونحن لا نتعرض لهذه القصة لتعدد الروايات بشأنها، ونعتقد أن مثلها كمثل بقية القصص التي تصف خوارق العادات والإرهاصات، وقد نسبت إليه وعمره سنتان وقالوا أربع سنين، وقالوا ست سنين. وهذه الحادثة زعم المدعو مرغليوث أنها نوبة صرع أصابت محمدا
صلى الله عليه وسلم
وحماه الله من كيد الكائدين وحسد الحاسدين حتى في القرن العشرين؛ حيث كذب مرغليوث نفسه، في ص46 من كتابه «حياة محمد» تكذيبا صريحا، ونفى عن النبي العلة التي نسبها إليه اختلاقا.
أما أبو كبشة، فعندما رأى انتقاع وجه الصبي قال: «أخشى يا حليمة أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك.» أي يستفحل مرضه، وعلل الإصابة بأنها حسد من جماعة من جيرانه لما يرونه من جمال الولد وصحته وعظيم بركته، ويظهر أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لم ينزع لما جرى له؛ فإن حليمة وزوجها وجداه قاعدا على ذروة الجبل شاخصا ببصره يتبسم ويضحك.
ونحن نقطع بأن دوارا أصابه حوالي الخامسة أو السادسة.
لأنه صادف يوم خروجه مع أخوته في الرضاع يرعون غنما، وقد ذهب معهم برغبته، وكان يخرج ويعود مسرورا، وكان قبل لا يخالط الأطفال، بل ينظر إليهم يلعبون فيتجنبهم، فكان في خروجه مع إخوته من الرضاع - وهم ضمرة وأنيسة والشيماء - ما يسليه ويصرفه عن العزلة والانفراد وما يصحبهما من كآبة وغم.
ومن أنواع اللعب التي تسلى بها محمد
صلى الله عليه وسلم
في صغره لعبة العظمة البيضاء؛ وهي أن يجاء بعظمة شاهقة البياض ثم يرمى بها في الظلام إلى أعظم بعد في الطاقة، فمن يبصر بها - على بعدها - يكن رئيس الجماعة.
يريد بعض مؤرخي النبي
صلى الله عليه وسلم
من العرب أن يقنعونا بأن ملائكة في صورة رجال جاءوا يحملون أواني من فضة وجوهر وشفرة ليشقوا بها جسم محمد
صلى الله عليه وسلم
من الصدر إلى العانة ليطهروا قلبه، ونحن نأبى التصديق، لا لأنه مستحيل الوقوع، بل لأن الله - سبحانه - قادر على تطهير قلب نبيه بلا عملية جراحية تعمل على أيدي الملائكة في ظرف حرج بصورة مزعجة، ولأن ينفوا انفراد محمد برواية ما جرى جعلوا أخاه من الرضاع ضمرة يقول لأمه وهو يعدو فزعا وجبينه يرشح باكيا: «يا أبت، ويا أماه، الحقا أخي محمدا، فما تلحقانه إلا ميتا!» ويصف الأطفال الإبريق بأنه من فضة والطشت من زمرد. ولعل أطفال حليمة أو محمدا لم يريا في بيداء بني سعد وفي هذه السن شيئا من الفضة أو الزمرد حتى يصفوهما بالدقة، وأنى لهم رؤية المعادن النفيسة والجواهر في البادية وهم يرعون الغنم؟!
ولم تستطع حليمة الاحتفاظ بالطفل خوفا على حياته، أو حذرا من كارثة متوهمة؛ فكانت مضطربة حزينة لفراقه، خجلى من رواية ما أصابه من الدوار أو الإغماء بسبب ضعف طارئ أو فقر دم بعد أربع سنين من فطامه، ولعل التغذية في البادية لم تكن كافية، ولعله من حرارة الشمس، أو من برد أصابه، وهذه طوارئ بشرية.
ويرجح ظن ضعفه قول أبي كبشة لزوجته: «رديه على أمه لتعالجه.» فلو أن أبا كبشة صدق رواية الملائكة والإبريق والطشت والعملية الجراحية، ما خشي على الطفل خطرا من حالته، ولم ير أحد من أهل الحي الملائكة أو الأواني أو السلاح سوى الأطفال الصغار، وهم لا يصلحون للشهادة التاريخية!
ومما يعزز افتراض الضعف في بنية محمد
صلى الله عليه وسلم
في طفولته أن حليمة هتفت وهي قادمة لإسعافه: «وا ضعيفاه! استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك؟!»
2
حار أهل الحي في حالته فقال بعض المتهوسين أو المتطفلين على الطب: «إن هذا الغلام قد أصابه لمم - أي طرف من الجنون أو طائف من الجن - فانطلقوا به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه.» فأفحمه محمد
صلى الله عليه وسلم
برده: «يا هذا، ما بي مما تذكر شيء؛ إن أعضائي سليمة، وفؤادي صحيح، ليس به قلبة يقلب بها إلى من ينظر فيها!»
إن زعم إصابة محمد بالصرع في صغره أو في كبره باطل، وأول من قال به نولدكه في «تاريخ القرآن» صفحة 18، وعززه بعض مؤرخي الإفرنج المتعصبين، وفي طليعتهم مرغليوث، ولكن جريمة وسانت هيلير وموير ونيكلسون ودرمنجهايم لم يذكروه، ومنشأ الأكذوبة في كتب العرب التي أسهبت في وصف العملية الجراحية لتطهير قلب محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فهم الذين فتحوا الباب على مصراعيه للأعداء والمتقولين، على أن قصة شق الصدر ليست جديدة، ولم تكن مقصورة على محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد جاء (في ص104 من طبقات الشعراء لابن سلام) عن عيسى بن عمر من أهل الطائف عن أخت أمية بن أبي الصلت قالت: «إني لفي بيت فيه أمية نائم، إذ أقبل طائران أبيضان فسقطا على السقف فسقط أحدهما عليه فشق بطنه، وثبت الآخر مكانه، فقال الأعلى للأسفل: أوعى؟ قال: وعى. قال: أقبل؟ قال: أبى! ويقال زكا، قال: خسأ. فرد عليه قلبه وطار والتأم السقف!» وهذا الخبر مطول في كثير من كتب الأدب العربي. وقد ظهر بطلان مزاعم مرغليوث وأمثاله؛ فإن ما اعترى محمدا
صلى الله عليه وسلم
من الإغماء في موقعة بدر ويوم حجامته وهو صائم (مسند أحمد، ج1، ص148) خلو من أعراض الصرع، كما عرفه جورز العالم الاختصاصي في هذا المرض (ص70 من كتابه، وص46 من كتاب مرغليوث) وكذلك ما كان يظهر عليه لدى هبوط الوحي، وأهم أعراض الصرع العض على اللسان، وانفراط الأنامل بحيث يفلت منها ما كانت منطبقة عليه، وانحطاط القوى العاقلة بالتدريج، وهذا لم يحدث للنبي قط لا من قريب ولا من بعيد. وكان المشاهد في حياته نقيض ذلك؛ كانت عبقريته ومواهبه وسائر قواه المعنوية في صعود وارتفاع كلما تقدم في السن، وكان كل ما له علاقة بالتفكير والتدبير خارقا للعادة ولو كره المتعصبون. وقد ألحق النبي بالرفيق الأعلى وهو صحيح البدن والرأي، ولم يمرض سوى ثلاثة عشر يوما بحمى طارئة.
3
عملت حليمة بنصح زوجها وحملت الطفل إلى مكة لترده إلى أمه، غير أن اضطراب حليمة وحزنها قد أعقباها ذهولا، فلما شارفت على مكة تفقدت الطفل فلم تجده، وذهبت إلى جده وأخبرته بأنها أضلته ولا تدري أين هو! فقام عبد المطلب يبحث عنه ويقول:
يا رب رد لي ولدي محمدا
اردده ربي واصطنع عندي يدا
فوجدوه عند وادي تهامة عند الشجرة اليمنى، والطفل قائم تحتها يجذب غصنا من أغصانها؛ أي إنه كان يلهو ويلعب. وآمنة لا تدري من أمره شيئا، فلما دخلت عليها حليمة قالت لها: ما أقدمك يا ظئر، ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك ؟! - لقد بلغ والله، وقضيت الذي علي، وتخوفت عليه الأحداث فأديته إليك كما تحبين. - ما هذا شأنك، فاصدقيني خبرك. فروت لها حليمة قصة الإغماء وما إليها. ولا نعلم أثر تلك الرواية في ذهن والدته.
وقد زارت حليمة محمدا بعد ذلك مرتين؛ الأولى: بعد زواجه من خديجة، تشكو إليه ضيق العيش فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرات من الإبل. والمرة الثانية: بعد موقعة حنين فبسط لها رداءه. وفي ذلك اليوم رفع ثوبها ووضع يده على صدرها ولمس بيده الكريمتين ثدييها الكريمين اللذين أرضعاه، وهذا الخبر رواه موير الإنجليزي في ترجمته الكبرى للنبي، ولا نرى به بأسا. وقد أخذت الشيماء - أخته في الرضاع - من جملة السبي من هوازن فقالت للمسلمين: أنا أخت صاحبكم. فلما قدموا بها على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سألها: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك (أي حاملته على ظهرها) فعرف العلامة فقام لها وبسط لها رداءه وأجلسها ودمعت عيناه.
وقد اتخذ مرغليوث من حديث العضة دليلا على أن محمدا كان هوويا
قوي المزاج، وهذا يناقض ما عرف عنه في سائر أدوار حياته من اللطف والدعة ولين الجانب. ولو أن الشيماء أرادت أن تذكر محمدا بإخائها كان لديها كثير مما تذكره به غير كشف الظهر وإظهار أثر تلك العضة، ثم ما العضة التي يعضها طفل فيبقى أثرها أربعين عاما؟! إنها إذن لعاهة مستديمة! ولكن ماذا نقول لمؤرخي العرب وكتاب السير وهم لا يغربلون ما يكتبون، بل يحشدون الأقوال حشدا كالأشلاء، فيسقط عليها العقبان والغربان والجوارح تنهشها وتتغذى بها، وصدق من قال: لكل ساقطة لاقطة!
أخطاء بعض كتاب السيرة النبوية من مؤرخي العرب
ومن أجل هذا حاولنا في هذا الكتاب أن نتنكب الطرائق التي سلكها الأقدمون الذين أشرنا إليهم ممن تشرفوا بالتأليف في سيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
كعروة بن الزبير (23-94ه) وإبان بن عثمان (22-105ه) وابن إسحاق وابن هشام بعد أن ثبت لنا كثرة الأكاذيب والخرافات التي وضعت كذبا على أخبار الرسول
صلى الله عليه وسلم
وتسرب بعضها إلى المؤرخين. ولم يكن وضع علوم الحديث - وهي ألوان من النقد العلمي النظري - سوى الوسيلة الوحيدة لوضع حد لاستمرار تلك الأكاذيب. ولعل الفضل الأكبر في التعديل والتجريح وفي تقويم الاعوجاج يرجع إلى أصحاب الكتب الستة الصحيحة.
لم يستطع مؤلفو سيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
أن يفرقوا بين رواية الحديث وبين ترجمة النبي - عليه الصلاة والسلام - لأنهم نسوا أو تناسوا أن وظيفة كاتب السيرة هي وظيفة الواصف المحلل الذي يتغلغل بعد الماديات إلى المعنويات من خلق ومعقولية ومشاعر ومواهب نفسية، ويجب أن يكون الوصف من دقة الحس ويقظة العقل وحسن التقدير لما يهم وما لا يهم، ولطف الذوق على الإبانة بحيث يستطيع أن يصف لك الشخص الموصوف كأنك تراه، وما كان أسهل هذا العمل على الأتقياء الذين أسعدهم الله بمعاصرة الرسول
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد رأوه وعاشروه ودرسوه وخبروه ومحصوه، وما كانوا يتركون له لحظة يعيشها بمفرده إلا فرصة عبادته ونومه، وكان من السهل أن تجتمع في أذهانهم صورة كاملة متناسقة لهذا الإنسان الكامل، تؤلف وحدة يستطيعون إبرازها بأقلامهم فيشركون غيرهم في رؤية ما رأوا، وهم الذين اهتموا بتدوين آيات القرآن وحفظها وأسباب نزولها وحفظ الحديث ووصف المغازي وأسماء أبطالها وشهدائها وذكر أعدائهم. ولكن المعاصرين لم يغفلوا شيئا من هذا - وهم الصحابة - وقد أحصيناهم في أحد فصول الكتاب، وقام به بعض التابعين من عهد الدولة الأموية فنازلا، ولكنهم تصيدوا ما سمعوا دون أن يمتحنوه بوسائل الامتحان؛ فاقتصرت سيرهم على وصف الرسول
صلى الله عليه وسلم
وذكر الحقائق الخارجية والواقعات التي حدثت للرسول من غير أن يصحبها الكتاب بشيء من أفكاره ومشاعره، فهذه السير لم تكن إلا ثبتا للحقائق مشوبة بالاستطراد والأساطير والخرافات والتكرار، أما تحليل الحقائق وإبداء الرأي والدلالة على مواضع العبقرية المحمدية، وبحث أسباب العظمة ونتائجها، وثروة المواهب التي غمره الله بها وخطط سياسته ووسائل خروجه من المآزق واتقاء المواقف الحرجة، وسبل تسلطه العقلي على نفوس الرجال حتى يسلس له قيادهم من أكبر كبير كعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد إلى أصغر صغير كعبد الله بن مسعود وأبي هريرة؛ فلا شيء من هذا قط.
ولذا نرى هؤلاء المؤلفين قد قصروا في أهم ركن من أركان السيرة، دع عنك أنهم لم يسلكوا طرائق البحث العلمي؛ فقد وضعوا فيها الأساطير والخرافات بجانب الحقائق من غير تمحيص، حتى لكأنهم فقدوا ملكة النقد وسلموا بكل ما روي لهم، وهو أمر لم يفعلوه في تقييد السنة، كأن أقوال النبي
صلى الله عليه وسلم
وأفعاله أهم في نظرهم من تاريخ حياته! ودع عنك أن هؤلاء المؤرخين للرسول
صلى الله عليه وسلم
يكثرون من حشد النقائض والمخالفات، ثم يتركونها على عواهنها دون أن يبذلوا جهدا في تحقيقها والخروج منها بنتيجة يرتضونها أو يرتضيها قراؤهم. هل كان هذا التأليف مقصورا على التبرك والتطلع إلى الثواب والجزاء؟ أم كان المقصود به إلى غمر الأوراق بأنهار من المداد؟ وإلا فكيف تسرب الضعف إلى ملكة النقد عندهم فلم يحذقوا امتحان الواقعات والأقوال وتخليص جيدها من رديئها؟ نعم، إننا نعثر في كتاب الشفاء للقاضي عياض الأندلسي على محاولات محمودة في الفحص والنقد وحسن التعليل والتسليم بأن ما لا يقبله العقل لا يقابل بالترحيب عنده، ولكنه واحد من عشرات سبقوه ولحقوه ولم يهتدوا إلى طريقته. نعم ، إن علم الاجتماع وعلم النفس وعلم اللغات المقارن لم تكن علمت لابن إسحاق وابن هشام والقسطلاني والعسقلاني وابن قيم الجوزية، ولم تكن الأذهان تفتحت كتفتحها في عصر ابن خلدون. ولكن كان عندهم القرآن والحديث وكانت عندهم شخصية محمد
صلى الله عليه وسلم
ماثلة أمامهم؛ فأي عذر لهم بعد ذلك؟! إن بعض الإفرنج المنصفين الذين لم يدركوا عصر الرسول
صلى الله عليه وسلم
فتنوا بسيرته بعد وفاته باثني عشر قرنا؛ فجمعوا أخباره وحوادثه وقصصه وحروبه وأخلاقه وأقواله، وامتحنوها بكل ما أبدع من وسائل الامتحان. ولا أكون مبالغا قيد أنملة إذا قلت إنهم خدموا الرسالة المحمدية بأبلغ من كثير من كتاب العربية! ولا أكون منصفا إذا لم أذكر منهم وشنجتون أرفنج الأمريكي وتوماس كارليل الإنجليزي وجولد زيهر النمساوي وبارتلميه سانتهيلر الفرنسي وجريمه الألماني ونولدكه الهولندي ومونتيه السويسري وبوله الدانمركي، وهم في الحق كثرة بالنسبة إلى المتجاهلين المضللين أمثال مرغليوث وسبرنجر وموير.
فقد تابع بعضهم الكتابة على هذه الخطة، متمشين مع القارئ في الرقي الفكري حتى إذا شاركهم المطالعة والدرس فكأنه لقي الرسول - عليه الصلاة والسلام - وعاشره وحدثه واستقصى أخباره.
أميته وصفاته النفسية في صغره
لم يتعلم محمد
صلى الله عليه وسلم
في طفولته شيئا من القراءة؛ فكان على التحقيق أميا، وإن كانت القراءة والكتابة شائعتين لعهده في مكة نفسها، وقد حذقهما عدد من أقاربه وأنداده ومعاصريه، وحتى جده عبد المطلب كان يكتب الصكوك التي تحفظ ديونه على التجار في الحجاز وغيرها، ولا بد أن يكون اليتم وحده سبب ذلك الحرمان من التعليم مقترنا إلى مشيئة الله في بعثته أميا، فإنه قضى خمس سنين من عمره في حضانة مرضعته السعدية، وسنة في حراسة أمه آمنة، ولما توفي جده وكفله عمه كلفه برعي الغنم ولم يتخذ له معلما، ولم يكن للنبي
صلى الله عليه وسلم
أذن للشعر، فلم يحفظ الأوزان، ولم يرو شيئا من أخبار العرب، حتى خطبة قس بن ساعدة التي سمعها في سوق عكاظ لم يحفظها ولم يستطع إعادتها في كهولته، وكان بلا ريب يكره الشعر والنثر المسجوع، ويبغض أن ينطق بأساليب الكهان السخيفة، وكان أعظم همه أن لا يصير شاعرا ذا جنة ولا كاهنا:
وما علمناه الشعر وما ينبغي له (سورة يس آية 69).
وفي سورة الحاقة:
وما هو بقول شاعر .
وفي سورة التكوير:
وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم .
وبذلك نفيت عنه
صلى الله عليه وسلم
الكهانة كما نفيت الشاعرية التي تلازم أصحابها الجن، وكما نفي علمه بالقراءة والكتابة بنص مبين:
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك (سورة العنكبوت).
وعلى الرغم من أميته ومخالطة معاصريه ومواطنيه من البدو والحضر، كان طليقا من أوهامهم وهواجسهم، معاديا كل خرافة؛ فقد أمر أمته بعدم الطيرة؛ فلا فأل ولا شؤم، ونهى بأمر ربه عن الموبقات والمنكر وأمر بمكارم الأخلاق.
فكيف خلص هذا الصبي من تأثير محيطه؟ وقد رأينا أعقل عقلاء هذه الأمة الجاهلية يستشيرون الأصنام ويضربون بالقداح، ويفزعون إلى الكهان والعرافين في الصغيرة والكبيرة، ولم يعلم عن محمد
صلى الله عليه وسلم
أنه لجأ إلى أحدهم أو ضحى بضحية لآلهتهم. لا ريب كان عقله أعظم من تصور حلول القدرة الربانية في تلك الأحجار المشوهة! وتراه - وقد ثبتت حقائق العالم في ذهنه منذ الساعة الأولى - يرد كسوف الشمس إلى أسبابه الطبيعية ولا يجاري قومه في أنها كسفت حزنا على موت ابنه إبراهيم! ولم يؤمن بالحسد إلا بأمر القرآن؛ لأن بعض حوادثه كانت شائعة في زمنه
ومن شر حاسد إذا حسد .
وما زالت بعض الأمم الأوروبية الحديثة تعتقد بالحسد (كتاب رينيه بازان عن سياحته في إيطاليا)، ويمكن تعليل الحسد بنظرية الرغبات المكبوتة على مذهب بعض علماء النفس (سيجموند فرويد)، وعلى الرغم من سكونه وهدوء طبعه وحبه العزلة وفراره من عشرة الناس في طفولته وشبابه، فقد وهبه الله نعمة كبرى؛ وهي معرفة الرجال والقدرة على وزن أقدارهم؛ فلم يخطئ مرة واحدة.
قال مرغليوث (23): «لقد حبته الطبيعة موهبة يحسد عليها (كذا) وهي حسن تقديره الرجال، وأحكامه بالغريزة على الشعوب والجماعات والأفراد لم تخطئ مطلقا.» فما أعظم هذه الشهادة وأقيمها على لسان هذا الرجل «وخير الفضل ما شهدت به الأعداء.» فإن عداوة مرغليوث للحق وتعمده الاختلاق والتشويه أمران لا شك فيهما.
وعلى الرغم من بساطة شأنه في صغره؛ فقد شب مرموقا بعين العناية ينتظر منه كل من حوله أمورا ذات شأن، ولا عجب في ذلك؛ فإن رجلا انطوت نفسه على العبقرية التي تجلت في كهولته وشيخوخته، لا بد أن تشع من شخصه أنوار تأخذ بالأبصار، وأن تبدو عليه مخايل النجابة وحسن الاستعداد في صباه:
ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك (سورة الانشراح).
نزلت هذه السورة وما زال محمد مستضعفا في مكة، ولكنها كانت وعدا جليلا، وبشرى تحققت، فلم يرتفع ذكر أحد في العالمين من يوم الخليقة إلى الآن كارتفاع ذكره.
1
ولم يكن محمد
صلى الله عليه وسلم
يرمي في صغره إلى شهرة زمنية، أو مجد حائل وله نفس ملأى بالعظمة الصادقة، فلم يكن رجل اعتداء ومجازفة، ولا أليف مغامرات يزج بنفسه في المخاطر، ولا أخا صيت باطل، بل على النقيض يرمي إلى أهداف المجد المؤثل الدائم، لا لنفسه أو عشيرته الأقربين بل لعامة قومه ثم للإنسانية بأسرها، ولكن هذه الخصال السامية لم تعقه عن أن يخوض غمار الحروب أو يستهدف للموت كلما حمي وطيس المواقع كما حدث في معركتي أحد وحنين الفاصلتين، ولم يكن كل ما لقيه محمد في غير سبيل الله، والإنسانية.
2
فقد تميزت نفسه بالقناعة والتواضع والإقدام على التضحية لخير العالمين، لا لخير نفسه، ولم يستطع أحد من ألد خصومه أن يوجه إليه شيئا مما نقرأ في القرآن الكريم:
فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (سورة المؤمنون).
أي في حق غيره من الأنبياء والمرسلين.
3
وأراد محمد وهو صبي أن يسمر بمكة وهو إذ ذاك يرعى الغنم ، فترك القطعان في حراسة أحد الصبيان من إخوانه، ولكن أدركه نعاس في كل مرة؛ فنام ولم يتمكن من الذهاب إلى أماكن اللهو في المدينة الوثنية، وأعانه الله بالنوم على النجاة من لهو مكة فكتب له الطهر والعفة وأعانه ببساطة القلب وسلامة النية وبغض الفحشاء والمنكر.
يتيما وعائلا ...
ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى (سورة الضحى).
من الآيات البينات في سورة «الضحى» التي ذهب بعض المفسرين ومؤرخي النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى أنها نزلت في حقه؛ لأنها بصيغة الخطاب للمفرد، ولأنها ذات دلالتين على حاله؛ وهما: اليتم، والعيلة، وذهب البعض إلى أنها نوع من الخطاب إلى مجموع الناس؛ لأنها تشمل غير النهي عن قهر اليتيم ونهر السائل، وتأمر بالتحدث بنعمة الله، وهذا الأمر وتلك النواهي غير مقصورة على شخص محمد، دع عنك أن الضلال لم يكن في وقت من الأوقات من صفات النبي
صلى الله عليه وسلم
في الإيمان أو الأخلاق أو المعرفة. أما عن اليتم وإيواء الله نبيه وصيانته من متاعبه ومذلته، فمما لا ريب فيه أن محمدا كان يتيما، ولكن يتمه لم يكن موضع إذلال ولم يجئ مصادفة، بل كان مقصودا، وقد كتب عليه ثلاث مرات أو أربعا؛ الأولى: عند ولادته ونشأته لا يرى والدا، ثم ماتت أمه وهو في السادسة، ومات جده وهو في الثامنة، ومات أبو طالب بعد البعثة؛ فشعر النبي
صلى الله عليه وسلم
باليتم من جديد، وسمي عام موته عام الحزن، كان هذا اليتم الثلاثي أو الرباعي مقصودا؛ لأن الله أراد أن يثبت لمحمد ولبني الإنسان جميعا أن عنايته بمرسليه أقوى وأفضل من عناية الآباء والأمهات، وأن الذي يتعهده بها لم يعد في حاجة إلى الأهل والمال. وقد كان كل الأنبياء أيتاما، ولم يكن منهم يتيما جعله الله في حكم اليتيم، كإبراهيم وإسماعيل ويوسف وعيسى وموسى؛ فإذن لم يكن اليتم نقمة ولا نكبة ولا بلاء، بل كان نعمة على الذين يختارهم الله لنفسه، ليجعل منهم مرشدين وهداة وأعلاما للإنسانية. وعندي أن قوله سبحانه وتعالى:
وأما بنعمة ربك فحدث
قد تنصب مباشرة على نعمة اليتم الذي صحبته عناية الله، ونعمة الهداية بعد الحيرة، ونعمة الغنى بعد العيلة. قال المفسرون: إنها نعمة القرآن، ونعمة السيادة والملك على العرب، ونعمة الزعامة. وقالوا: إنها نعمة الاطمئنان الذي نزلت بسببه هذه السورة:
ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى .
فهناك تطمين وتهدئة روع وبشرى بخير عميم وعطاء جزيل،
1
ولكن أساس هذه النعمة كلها، سواء أكانت القرآن أم الاطمئنان أم العطاء المقبل، هو اليتم الذي صحبته المعزة، والحيرة التي أعقبها الاستبانة، والحاجة التي تلاها الغنى بقوة الخلق وقوة الصبر على الحرب وتمام النصر على أعدائه وأعداء دينه وربه.
ألم يجدك يتيما فآوى
أي نعم، ولكن الله قد سبق في علمه يتم محمد وغيره من الأنبياء والعظماء في كل الأقطار وكل الدهور، فلا مجال هنا للامتنان على النبي بالمأوى الذي هيأه الله له؛ لأنه لم يكن يتيما بالمصادفة، ولولا ما هيأه الله له من الخير لما تمت البنوة، وهي إحدى غايات الله العظمى في حياة الإنسانية، لقد كان اليتم مقصودا؛ لأنه حدث ثلاث مرات قبل أن يتم ثماني سنين؛ ليشعر النبي بأنه لا حاجة له بأعوان من عشيرته وأهله، وأنه كلما ركن إلى أحدهم أخلاه الله منه ليظهر له بنفسه معينا ووليا ومهذبا ومؤدبا ونصيرا، وإن كان محمد قد عرف اليتم من اليوم الأول في حياته وقد عرفته أمه من قبل؛ فقد مات عنها أبوها وهب فكفلها عمها وهيب، وبقيت عنده إلى أن خطبت إلى عرسها عبد الله، وقد كان في تيتم الأم ما خفف مصابها عند وفاة زوجها الشاب وترملها قبل الأوان! فقد ذاقت اليتم مرة وتكرار المصائب يهون وقعها؛
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وجزى الله الشدائد كل خير. آية كريمة، تعقبها كلمة حكيمة «وما أحلى ثمار البلاء!» قالها شاعر عبقري، وقد تأيدت صحة الآية الشريفة بما أضفاه الله من النعم على اليتامى في القرآن؛ فلم تشمل أحكام دين من الأديان من العناية باليتامى والتوصية بهم والحض على إكرامهم والتحذير من الإساءة إليهم والاعتداء على حقوقهم بمثل ما شملته نصوص القرآن وأحكام الإسلام وأقوال النبي عليه الصلاة والسلام.
فقال سبحانه وتعالى:
فأما اليتيم فلا تقهر ،
ويتيما وأسيرا ،
يتيما ذا مقربة ،
ولا تقربوا مال اليتيم ،
فذلك الذي يدع اليتيم ،
فكان لغلامين يتيمين ،
في يتامى النساء ،
وأن تقوموا لليتامى بالقسط ،
واليتامى والمساكين ،
ويسألونك عن اليتامى ،
وآتوا اليتامى أموالهم ،
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ،
وابتلوا اليتامى ،
يأكلون أموال اليتامى .
أما قوله سبحانه وتعالى:
ووجدك ضالا فهدى
وهي آية طالما رددها المبشرون وطبلوا ورقصوا وزمروا، وتمنطقوا للكذب في تفسيرها وشمروا؛ فقد ظنوها في ضلال عماهم غاية الاعتراف بذم الرسول والقدح فيه بنص من القرآن؛ فتراهم يسارعون للإيمان بها وتصديقها - لأنها في زعمهم تنطبق على هواهم - مسارعتهم للكفر بغيرها من الآيات. ومرجع ذلك تعصبهم وجهلهم وتجاهلهم وسوء نيتهم وخداعهم وانخداعهم وتضليلهم في معنى لفظ «ضالا»، أيعقل أن يتخذ الله لنشر دينه رسولا ضالا؟! وهل يرسل الضال رحمة للعالمين؟! وهل يأتمن الله على رسالته رجلا يشوبه الضلال؟! وهل يتمكن الضال من هداية غيره؟! كل هذه الأسئلة لم تخطر للمبشرين ببال، وقد أعمتهم كلمة «ضالا» عن كل هدى، وما لهم لا يصدقون بقية القرآن ويجزئون ما لا يقبل التجزئة من الأدلة على صحة الرسالة؟! ويضربون مثلا أبديا لمن قال لا تقربوا الصلاة، وخرس عن قوله: «وأنتم سكارى» لقد صدق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين قال: «الساكت عن الحق شيطان أخرس.» وما هؤلاء البائسون سوى شياطين أخرسهم الله عن الحق وأضلهم ضلالا مبينا، لقد حار المفسرون، وما كان أن يحاروا، لأنهم تعلقوا بأحد معاني الضلال، ولم ينظروا في سائر معانيه، وهم الذي يلعبون بالألفاظ، ويلجئون إلى كل تعليل ويحتالون على المعاني. تراهم في هذه الكلمة دون سواها فتحوا بابا واسع النطاق للمبشرين والمضللين، وكان تغليق الأبواب ميسورا بأن يقولوا إن الضلال في هذه الآية ليس هو الكفر، وليس احتجاب النور عن القلب، وليس عبادة الأوثان، بل حيرة الفكر البشري في العثور على السبيل التي يسلكها الرسول لإبلاغ رسالته وهو في بداية أمره؛ فقد نزلت سورة «الضحى» في مكة عقيب فترة انقطاع الوحي وحزن النبي
صلى الله عليه وسلم
وشعوره بالألم والخوف من الحرمان من نعمة اتصال الرب بعبده ورسوله، فهداه الله إلى النبوة وطمأنه وبشره بشرى الحبيب الموالي، ولم ينذر إنذار الغاضب القالي، وجده بين أهل الضلال فعصمه من ضلالهم، وهداه للإيمان، وإلى إرشاد أهل الضلال، ووجده أميا فهداه إلى العلم بما لم تحط به الأوائل والأواخر، وكشف له عن أسرار الكون والحياة الأولى والآخرة. قال سبحانه وتعالى:
وعلمك ما لم تكن تعلم (سورة النساء).
ورفع له القناع عن أسرار النفوس وخفايا الأفئدة ومكر الرجال وحيل النساء. لقد كان صعود محمد
صلى الله عليه وسلم
إلى غار حراء أساسه الحيرة التي يبعثها الاستعداد للنبوة، فكان يخلو في طلب ما يتوجه به إلى ربه ويتشرع به حتى هداه الله إلى الإسلام. أما غير ذلك فمستحيل عليه؛ فلم تكن له ضلالة معصية، وتاريخه ناصع البياض، حتى إنه لم يستطع أن يسمر ليلة واحدة في مكة؛ تلك المدينة الفاسقة في شركها وجاهليها وعبثها، كما كان يسمر غيره من الشبان، ولو أراد ذلك ما استطاع إليه سبيلا؛ فهدايته جمة الوسائل والأسباب كالبراهين التي أقامها والحجج التي نقض بها مزاعم خصومه، وهداه إلى الهجرة وسلوك الشعب في طريق الفرار من مكة إلى المدينة، ولولا تلك الهجرة ما ظهر الإسلام. فإذا كان أعلم الناس في بلده يقصد إلى مكان فيه فلا يهتدي إليه فقد ضل الطريق، وقد يهديه إليه طفل أو من كان أقل منه علما، ولا يضره هذا ولا يقلل من فضله ولا يلصق به صفة الضلال إلى الأبد، وفي القرآن:
فقد ضل سواء السبيل
وليس معناه دوام البقاء على الضلال، وقد يكون الضلال بمعنى التعلق بعاطفة؛ فأبناء يعقوب يقولون عندما قال:
إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (سورة يوسف).
أي تعلقه بحب يوسف ولده المفقود، ولكن يعقوب لم يكن في ضلال بل كان على حق، فبالله لم لم ير المبشرون واحدا من هذه المعاني؟ لقد وجد الله محمدا
صلى الله عليه وسلم
متحيرا في بيان ما أنزل إليه فهداه لبيانه بدليل قوله:
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (سورة النحل).
قد يكون الضلال بمعنى الحيرة وعدم الاهتداء إلى الطريق والخطأ بغير قصد والنسيان. أما الضلال عن الإيمان بعد نزول الوحي فلا، وقبل ذلك فلا يهمنا فتيلا، إلا من قبيل التكريم لشخص النبي
صلى الله عليه وسلم
بحسب ما سيكون؛ ولذا ترانا نفهم قول الله:
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان (سورة الشورى).
وهذا صحيح؛ لأن محمدا قبل البعثة لم يعرف قراءة ولا كتابة ولا درى كيف يدعو الخلق إلى الإيمان؛ فقد كان الإيمان كامنا في نفسه من مولده إلى البعثة، ولكنه إيمان بالتوحيد، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل فزاد بالتكليف إيمانا، وإلا فما معنى اختيار الرسول الأمي للأميين، أما الضلال فلا يقبله العقل؛ لأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان يبغض الأصنام وينفر منها ويرعبه أن يراها أو يرى عبادة القوم إياها، ولم يعرف عنه أنه عبدها أو احتفل بها أو تقرب إليها بقربان أو استقسم عندها، وأما الضلال بمعنى ضعف الأخلاق والانقياد للهوى فلا! وأما الضلال بمعنى الغفلة فلا ثم لا! فلا يقول عاقل - ولو كان عدوا: إن محمدا لم يعلم شيئا من أمور الدنيا. فإن ذلك يؤدي إلى الغفلة والبله، وهو منزه عنهما، بل قد أرسل إلى أهل الدنيا وقلد سياستهم وهدايتهم والنظر في مصالح دينهم ودنياهم، وهذا لا يكون مع عدم العلم بأمور الدنيا بالكلية وأحوال النبي
صلى الله عليه وسلم ، وسيرته في هذا الباب معلومة، ومعرفته بذلك كله مشهورة؛ لأنه لا يخلو أن يكون حصل عنده ذلك عن وحي، فهو ما لا يصلح الشك فيه، أو يكون ذلك باجتهاده فيما لم ينزل عليه وحي على مقتضى حديث آبار الطريق في موقعة بدر، وأنها من تدبير الحرب واجتهاد النبي
صلى الله عليه وسلم
وصحابته، ومثل حديث أقضيته وسماع مرافعة الخصوم بين يديه: «إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء.» وكقصة أسرى بدر ورأي عمر - رضي الله عنه. وعلى كل حال فلم يكن محمد
صلى الله عليه وسلم
في حاجة إلى أحد من الخلق لتلقينه وتعليمه كما حدث لموسى - عليه السلام - في حاجته إلى الخضر، ثم إلى شعيب بعد تخرجه عن جامعة عين شمس وكفالة فرعون إياه بضع سنين، ولم يقل أحد عن موسى إنه كان ضالا، وقد قتل مصريا في الذود عن بني جلدته أو ملته، وقضى مدة التقادم العشري في مدين حتى سقطت القضية بمضي المدة القانونية.
2
أما محمد
صلى الله عليه وسلم
فقد حاز ما علمه الله شيئا فشيئا حتى استقر عنده علم الحقيقة والشريعة، إما بوحي من الله وإما بإذن أن يشرع ويحكم بما أراه الله من رأي. ولم يمت حتى استتم على الجميع وتقررت المعارف لديه على التحقيق ورفع الشك والريب وانتفاء الجهل؛ لأنه لا يصح منه الجهل في شيء من تفاصيل العقيدة والشريعة والحقيقة التي أمره الله بالدعوة إليها؛ إذ لا تصح دعوته إلى ما لا يعلمه، فكيف لمن كانت هذه بعض عصمته وبعض مواهبه وعلومه ونزاهته أن يوصف بالضلال بالمعنى الذي يريده أعداء الحق وبعض ضعفاء العقول من الأصدقاء الجاهلين.
أما قوله:
ووجدك عائلا فأغنى ، فتقول بعض معاجم اللغة إن العيلة والعالة بمعنى الفاقة، والعائل بمعنى الفقير، ومثله:
وإن خفتم عيلة
فيكون المعنى: «ووجدك فقيرا فأغنى.»
ولكننا نحتج بإعجاز القرآن الكريم وإحكام نظمه، ولو شاء الله أن يقول وجدك فقيرا لقالها، ولكن اختيار لفظ العائل مقصود إليه بالتخصيص. والعائل في رأينا صاحب العيلة؛ لأن عيال الرجل هم من يعول، وأعال الرجل: كثرت عياله. قال الرازي والأخفش: المعيل هو ذو العيال. ولكن هذه المادة لا تذكر دون صلة وثيقة بالمرأة والأولاد، والميزان يعول إذا نقص وجار كالرجل ينقص ماله بالعيال وتجور عليه الحاجة، وعال أمره اشتد وتفاقم وغلبه وثقل عليه وأهمه، ومرجع هذا علاقته بالعيلة. وعال اليتيم: كفله وقام به، وعول علي بما شئت أي احمل علي ما أحببت. والتعييل مأخوذ من العيال، وعيال الرجل هو الذي سكن معه وتجب نفقته عليه، كغلامه وامرأته وولده الصغير، فإن كان المعنى عائلا ذا عيلة فليس بمعنى الفقر الناشئ من كثرة الأولاد؛ لأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان طوال حياته في يسر ورخاء وسعة من الرزق وإن لم يكن من أصحاب الألوف المؤلفة، وكانت زوجته خديجة من أغنى نساء قريش قبل الزواج وبعده، وكان صديقه وخليله أبو بكر من أرباب الملايين، فوضع ثروته تحت أقدامه إلى الدرهم الأخير من ماله، وكذلك كان عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وقد مات الأول وهو أمير المؤمنين والثاني وهو من أغنى الأغنياء، وقد عرض أبو جهل وأبو سفيان على محمد
صلى الله عليه وسلم
المال والملك والسيادة فأباها، ولم يشعر محمد
صلى الله عليه وسلم
في وقت من الأوقات بحاجة ملحة، وكان طوال حياته يهب المال ويقسمه ويتصدق به ويؤلف به القلوب، ويغني أصحابه وأتباعه والمجاهدين من المهاجرين والأنصار، وليست هذه صفات الفقير المحتاج. فإن كان النبي
صلى الله عليه وسلم
عائلا، فلعل عيلته كانت جمهرة المسلمين الذين حمل همومهم ودبر شئونهم؛ كالأرقاء الذين أذلهم المشركون وعذبوهم، والأسرى الذين سجنوهم وقتلوهم، والضعفاء الذين اضطهدوهم حتى أخرجوهم من ديارهم فهاجروا بأمر النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى الحبشة أولا ثم إلى المدينة، فكان - عليه السلام - رئيسهم ووالدهم وزعيمهم وقائدهم ومرشدهم، وقد أثقلته همومهم وشغلته محنتهم، فأغناه الله في تحريرهم وافتدائهم وإيوائهم والعناية بهم والعمل على إنقاذهم، كما فعل في خلاص بلال والاقتران بأم حبيبة.
ثم أغناه الله بالأنصار الذين بايعوه ودعوه إلى مدينتهم، والتفوا حوله وحاربوا دونه وسودوه عليهم وسلموه زمامهم، وحشدوا له جيوشا حارب بها وأعدوا له سلاحا وعتادا وخيلا وجنودا خاضوا بها غمار المواقع، وأطاعوه في ازدراء عير قريش - وقيمته خمسون ألف دينار - ليتمكنوا من محاربة جيش قريش والتغلب عليه في بدر وهو الغنى الحق، هذا إن كان الخطاب في الآية موجها إلى محمد
صلى الله عليه وسلم
بذاته، وفي رأينا أنه موجه إلى العالمين، وليس في هذا مخالفة للنص ولا خروج على المعنى؛ فقد جاء في السورة وصية باليتيم ونهي عن قهره، وهو ترشيح لتوجيه الخطاب إلى محمد
صلى الله عليه وسلم
ولكن ما القول في النهي عن نهر السائل، فإن كان الله نهى محمدا عن نهر اليتيم لأنه شب يتيما، فهل نهاه عن نهر السائلين؛ لأنه كان سائلا أيضا؟ وهل كان أسيرا حتى أوصاه الله بالأسرى؟ وهل شهد محمد
صلى الله عليه وسلم
والديه وعاشرهما ونعم بعنايتهما وشعر بحنانهما حتى أوصى الله بالوالدين إحسانا في آية تعد من أمهات القرآن ومن أجمل آياته وأحكم نظمه،؟! أستغفره سبحانه، لا تفضيل بين آياته، وليس العبد بأغير على النبي من ربه، فلم نرد بهذا القول دفاعا عن محمد
صلى الله عليه وسلم
في أمر أراد الله نسبته إليه، ولكننا نعتقد بأننا في جانب الحق ما دام أعداء الله ورسوله يتمسكون بنقيضه.
صورة إنسانية للوالدين والولد
كان عبد الله - لا ريب - من أجمل شبان قريش، وإن المرء ليحزن لأن هذا الشاب الجميل المحبب، قضى نحبه في نصف العقد الثالث، وهو في شرخ الصبى وريعان الشباب، ولما يتمتع بشيء من طيبات الحياة سوى زفافه إلى عروسه وقضاء شهرين قصيري المدى سريعي الخطى في عشرتها؛ فقد سار إليها في ربيع سنة 570م، وبعد الدخول بفترة يسيرة مرت كحلم ليلة الصيف الجميل سافر إلى غزة في تجارة له، ولدى عودته مرض في الطريق وتخلف عن القافلة في المدينة عند أخواله من بني النجار، فبقي طريح الفراش في بيتهم شهرا قضى في ختامه، مبكيا على جماله وشبابه وحسن خلقه، بعيدا عن أهله وعروسه التي لم توشك أن تسعد بمعاشرته، وكانت القافلة قد بلغت مكة، وعلم عبد المطلب من زعيمها أن ابنه عبد الله تخلف عن السير لمرضه؛ فبعث إليه بالحارث ولده الأكبر، ولكن عبد الله قضى قبل وصول أخيه ودفن في بيت «تابعة» في حي بني عدي بالمدينة، مات وولده محمد لا يزال حملا مستكنا في أحشاء أمه آمنة، فلما بلغها نعيه نال منها الحزن الشديد، ولم تطب لها الحياة بعده، وأدركتها المنية وهي تزور قبره بعد بضع سنين من وفاته.
وقد قضت تلك السنين الست في البكاء والحداد عليه، وكانت مدة الحمل لا أمل لها إلا في رؤية المولود المنتظر وهي تعلم أنه سيولد يتيما، وسوف يرى نور الدنيا ولا يرى وجه أبيه، وما أقسى هذه الفكر الطاحنة في نفس عروس لم تتمتع بالحياة!
أكرم عبد المطلب مثوى امرأة ابنه المتوفى، وأحسن إليها بقدر ما أساء الدهر إليهما معا بخطف زوجها وولده، وهما أحوج ما يكونان إلى حنانه وعطفه، ومواساته إياها في أشهر الحمل ولدى الوضع والرضاع، وأباه في شيخوخته وضعف بصره، ولا شك في أن حزن الأم يؤثر دائما على الجنين، وليست صدمة الترمل على عروس بهينة، وقد بكت آمنة زوجها الذي أحبته وتعلقت به أشهرا أضعاف ما قضته مسرورة بقربه. والطفل الذي تلده الأم الحزينة يميل إلى الحزن بفطرته، في مزاجه البعد عن اللهو، وهو أبدا حساس دقيق الشعور، سريع التأثر، رقيق العاطفة، ينظر إلى الحياة من جانبها الجدي، ويعطف بقلبه على كل من تقتضي حاله الشفقة والحنان، وقد كانت هذه صفات محمد
صلى الله عليه وسلم
في جميع أطوار حياته، حتى قيل إنه لم يضحك إلا تبسما، وكان إذا فرح غض طرفه. وقد أوصى باليتيم والمسكين والسائل والمحروم والمظلوم، وأمر بالصدقة والإحسان والعفو في أكثر الأحوال، وما نهر خادما ولا مولى ولا رقيقا ولا أسيرا، وما ضرب بيده شيئا قط، ولا تأفف من إنسان. وعلى الرغم من أنه ولد يتيما من أبيه، وفجع في أمه في السادسة من عمره، وفي جده الحنون في الثامنة أو التاسعة من عمره، فقد أوصى الله بالوالدين أجمل وصية وأحسنها وأكرمها.
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (سورة الإسراء).
إن هذه الأم الرءوم لم تتمتع بعشرة ولدها إلا عاما واحدا، وهو العام السادس من عمره قضاه في حضانتها. وقد أرادت أن تزور المدينة بحجة زيارة خئولة أبيه، والحقيقة أنها أرادت أن تزور قبر زوجها الحبيب عبد الله فسافرت من مكة وفي خدمتها أم أيمن الحبشية جارية عبد الله التي تركها بعد وفاته - واسمها الآخر بركة - وكان عبد الله بن عبد المطلب لم يترك سوى خمس من الإبل وقطيع من الماعز ودار ثمنها عشرون دينارا وتلك الجارية الحبشية. وهذه التركة لم تكن بالقليلة في زمنه، ولا سيما أن أباه ما زال حيا.
نقول: خرجت آمنة من مكة في ركبها الصغير وقطعت المسافة بين مكة والمدينة إلى أن نزلت بحي بني عدي، وهو الذي لجأ إليه عبد الله مريضا، وهناك تذوق الطفل محمد حياة اللهو واللعب لفترة قصيرة مع صغار الحي من بني خئولة أبيه، فآنسوه حينا أطفال بني سعد وإخوته في الرضاع ممن كانوا يلاعبونه وهو في حضانة حليمة، ولم يحفظ لنا التاريخ اسما من أسمائهم سوى طفلة تدعى أينسة أو أنيسة (؟) فكان يشاركهم في مطاردة الطير على سطح الدار، وهي نوع من محاولة الصيد وتسلية بريئة بالرماية لا تؤذي ولكنها تجلب السرور للأطفال، وفي تلك الفسحة التي دامت بضعة أسابيع تعلم محمد السباحة في بئر هناك، ولعلها بركة صغيرة ذات ماء آسن، وإن كانت الغاية الظاهرة من تلك السفرة زيارة أخوال أبيه كما قدمنا، إلا أن الأم كانت تقصد إلى زيارة قبر قرينها المحبوب، وهو مدفون بدار تابعة، فطالما خرجت إليه وبكت وعادت مثقلة بالهم والحزن والأسى. ولكن محمدا لم يكن في حداثة سنه ونعومة أظفاره من الإدراك بحيث يشاركها حزنها على أبيه، ولعلها لم تخبره قط بموته ولم تصحبه يوما في زيارة القبر؛ فإنه لما كبر وعاد إلى المدينة مهاجرا بعد هذه الزيارة القصيرة بسبع وأربعين سنة، تذكر كل ما رآه في طفولته، ونظر إلى الدور والجدران التي بقيت على حالها وتعرف عليها وصار يتنقل بين تلك الذكريات التي ما زالت قائمة في قلبه الحي ويقول: «ها هنا لعبت مع أولد خالي، وها هنا تعلمت السباحة، وهنا كانت تقيم أمي معي.» فلو أنه زار قبر أبيه في طفولته لم يكن لينساه مطلقا وكان يذكره؛ لأن محمدا لم يكن من ذوي النفوس التي تنسى مثل هذه الذكريات الفاجعة.
هل أحسنت آمنة بإخفائها تلك الحقيقة المريرة عن ولدها الطفل، وبخاصة لأنه لم ير أباه قط؟ هل أشفقت عليه من الحزن وهو بعد لم يدرك جمال البنوة، ولم يشعر بالحاجة إلى عطف والد لم يره؟ لقد كان حزن آمنة شديدا؛ فإن إقامتها في المدينة لم تتعد شهرا واحدا، ولكن حزنها على زوجها كان فاجعا فلم تكد تبرح المدينة في صحبة ولدها وجاريتها حتى شعرت بالضعف والمرض، أشبه الأشياء بالحنين إلى الحبيب، ذلك الحنين الذي حرك قلبها فتجشمت لأجله مشقة السفر من مكة إلى المدينة على ظهور الإبل، مرضت في نصف الطريق واشتد عليها المرض، وهناك في الأبواء في منتصف الطريق بين المدينة ومكة لقيت هي الأخرى حتفها كأن تلك البقعة تكفلت بمواراة جثة الوالد والوالدة. لقد كانت سفرة محزنة، وإن كانت فكرتها مباركة، فما أعظم البلاء الذي يصيب طفلا في السادسة من عمره عندما يرى أمه تمرض ثم تموت أمامه وكانت بالأمس تحنو عليه وتداعبه. ماتت أمه التي كانت تعطف عليه وتحبه وتضمه إلى صدرها وترى فيه أملها الأوحد بعد وفاة بعلها الذي لم تهنأ بعشرته، في تلك الصحراء الجافة المجدبة بين سقيا ورابغ.
طفل صغير لم ير الموت ولم يعرفه، يرى أعز الناس عليه تفارق الحياة وتنقطع عن الحركة والنطق إلى الأبد! وليس بجانبه من يواسيه غير تلك الحبشية أم أيمن، وما هي بالجدة ولا الخالة ولا العمة التي تحل محل الأم لتعوض بعض الشيء من حنانها، لقد حرصت عليه أمه فلم تفاتحه في موت أبيه، ولم تشأ أن تدخل الحزن على قلبه، فها هي الأقدار بقسوتها تفتح الباب الذي أغلقته الأم بحنانها، وتضع نبي المستقبل للمرة الأولى وجها لوجه حيال الموت القاسي الذي لا يرحم ولا يمهل ولا ينتظر، تجلت آية:
أينما تكونوا يدرككم الموت
في أقوى مظاهرها؛ فالموت قد أدرك البقية الباقية من الحنان والرحمة الإنسانية في الطريق. وقد دفنت آمنة في الأبواء حيث ماتت وتركت ولدها العزيز على الرغم منها، أمانة غالية بين يدي تلك الجارية الحبشية المباركة، التي لم تهن ولم تضعف فحملت الصغير وواصلت به السير إلى مكة. هذه سياحته الأولى، تحمل صدمة شديدة تلقاها الطفل في مستهل الحياة، فإن كان قد تأثر جنينا في أحشاء أمه بحزنها، فلشد ما تأثر الآن برؤية وفاتها بعينه، فأدرك أقسى حقائق الوجود وأشدها غضاضة على النفس، ولكن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لم يكن مخلوقا للضعف والهزيمة، ولم يكن قلبه الكبير الحي موضعا لليأس والاستسلام للألم، بل كان مخلوقا للصبر والكفاح والمقاومة ولقاء الشدائد والصبر عليها، ولعل ما يؤثر في الأطفال تأثيرا سيئا كان يكسبه مناعة وعزما، قد يدركه الحزن لدى موت الأحباب والأعزة، فيقول: «إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع.» ولكنه كان مهيئا ليعتقد اعتقادا وثيقا بأن القلب ليس مقرا للفرح وحده ولا للحزن وحده، بل إن القلب والفؤاد إنما هيئا للإيمان، كما أعدهما الله للعقيدة الثابتة، والعزيمة التي لا تتزعزع، والإرادة التي لا تضعف، وجعلهما مظهر الحق الذي لا يتغير ولا يتبدل.
الأبواء مكان أقرب إلى المدينة منه إلى مكة، وهو واد منخفض تحل فيه السيول. وقيل تتبوؤه أي تعلوه وتغمره؛ لأنه محاط بجبال من الشرق والغرب، وأظن اشتقاق الأبواء من التبوؤ منتحل؛ فهو اسم، والأسماء لا تعلل. ولما مر النبي في عمرة الحديبية بالأبواء قال: «إن الله أذن لمحمد
صلى الله عليه وسلم
في زيارة قبر أمه.» فأتاه وأصلحه وبكى عنده وبكى المسلمون لبكائه. ولكن الله لم يأذن له في الاستغفار لها
ما كان للنبي والذين آمنوا ... الآية.
التبشير بالرسول من طفولته إلى نبوته
كانت الأخبار والبشائر عن نبي المستقبل تصدر عن أحبار اليهود ورهبان النصارى وكهان العرب. وقد قيل إن أخبار الأحبار والرهبان عن صفته وزمانه كانت في كتبهم، وأما الكهان من العرب فجاءتهم به الشياطين فيما استرقته من السمع من السماء، أما أحبار اليهود فمنهم يوسف الذي ذكرته السير، وهو الذي أغمي عليه لدى رؤية خاتم النبوة! ومنهم يهودي من بني الأشهل، وثالث من أهل تيماء - وهي قرية بين المدينة والشام - ومنهم يهودي من أهل الشام اسمه ابن الهيبان قال: «إنه يبعث بسفك الدماء وبسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعكم ذلك منه.» وإذن كان بعض اليهود يحذرونه ويخشون بعثته، وبعضهم يحسده ويندب حظ إسرائيل لفقد النبوة منهم، وفريق ثالث يبشر به ويحب أن يتبعه ويوصي به، ومنهم يهودي من اليمن غير الذي تنبأ لعبد المطلب بالملك والنبوة، فكان ذلك سببا في مصاهرته بني زهرة، ومعظم الأحبار والرهبان نكرات، لم تذكر أسماؤهم أو ذكرت في صيغة الشك والتردد، وقد تذكر مواطنهم أو جيرتهم.
وللمرة الأولى يذكر أمية بن أبي الصلت الذي كان من المنافسين في النبوة؛ لأنه كان يترقبها لنفسه؛ فقد قيل إنه روى لأبي سفيان ما يأتي:
إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا، فكنت أظن أني هو، وكنت أتحدث بذلك، ثم ظهر لي أنه من بني عبد مناف، فنظرت فلم أجد فيهم من هو متصف بأخلاقه سوى عتبة بن ربيعة إلا أنه قد جاوز الأربعين ولم يوح إليه، فعرفت أنه غيره.
قال أبو سفيان: «فلما بعث محمد
صلى الله عليه وسلم
قلت لأمية، فقال أمية: أما إنه حق فاتبعه. فقلت له: وأنت؛ ما يمنعك؟ قال: الحياء من نساء ثقيف؛ لأني كنت أخبرهن أني هو، ثم أصير تبعا لفتى من بني عبد مناف!» والمأثور أن هذا الشاعر المتنسك الذي لم يشبه سوى الحسد والكبرياء هاجر وانزوى إلى أن قضى.
ثم ذكروا ملك الروم (؟) في الشام في رواية حكيم بن حزام؛ فقد زعم حكيم أن ملك الروم (ولعله حاكم روماني على الشام من قبل رومة ) أمر بكشف ستور في قصره، فإذا صور رجال كثيرة بينها صورة رجل قال ملك الروم لحكيم ومن معه من العرب: «أتعرفون من هذه صورته؟» فقالوا (أي حكيم بن حزام ومن معه): هذه صورة محمد بن عبد الله صاحبنا. فقال لهم: «إنها مصورة منذ أكثر من 1000 سنة (أي قبل المسيح بأربعة قرون!) وإن صاحبكم لنبي مرسل فاتبعوه، ولوددت أني عبده، فأشرب ما يغسل من قدميه.» وهذا الخبر على أهميته؛ لوروده على لسان حاكم أجنبي، ولأنه معزز بدليل مادي وهو صورة النبي وصور غيره من مشاهير العالم، إلا أننا لم نر هذه الرواية في غير السيرة الحلبية، ولم يذكرها أحد ممن كانوا مع حكيم في الشام . وكان حكيم هذا ابن أخي خديجة بنت خويلد؛ فهو صهر محمد
صلى الله عليه وسلم
وقد ولد في الكعبة، وكان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، ولم يسلم إلا بعد الفتح، وشهد بدرا مع أعداء محمد، ونجا منهزما، فكان إذا اجتهد في اليمين قال: «والذي نجاني يوم بدر.» وكانت بيده دار الندوة، فباعها من معاوية بمائة ألف درهم، فقال له الزبير وهو ابن عمه: بعت مكرمة قريش؟!
فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى. وتصدق بثمنها. وظاهر من رواية ابن الأثير في أسد الغابة أن الرجل كان ثقة وكان تقيا، ولكن ابن الأثير الذي ترجم له بإسهاب لم يذكر حديث الصورة التي ما رويناها إلا لغرابتها (انظر ترجمة حكيم في ج2، أسد الغابة).
ونسبوا إلى سلمان الفارسي أنه سمع أحد رهبان النصارى يقول: «يا سلمان، إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من جبال تهامة، علامته أن يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، وهذا زمانه، فصدقه واتبعه، وإن أمرك بترك دينك (النصرانية) فاتركه!» وهو الخاتم الذي رآه حبر اليهود فأغمي عليه!
وهذا الخبر غريب على لسان سلمان - المصدر ثقة - والخبر ضعيف مثل خبر حكيم بن حزام. أما المصدر الثاني للبشريات فهو الكهان، وسوف نذكر معظم أخبارهم، ولكن هناك رجلا ذكر العرب أنه كان حكيما وتقيا في الطليعة، رآه النبي وسمع مواعظه وخطبه في سوق عكاظ، وهو قس بن ساعدة الإيادي؛ (نسبة إلى قبيلة إياد)، كان يمتطي جملا أحمر، جعل منه منبرا متنقلا، وحفظ بعض الصحابة خطبته، وروى النبي كليمات منها، وفي رواية أن محمدا قال لجارود وهو يروي بعض أخبار قس: «على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه الآن.» أما الخطبة فهي الشهيرة، وهي التي براعة استهلالها: «أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا!» ومنها مما نسب إليه: «إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيا قد حان حينه وأظلكم زمانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه فعصاه.» كما نسب إليه: «كلا، بل هو الواحد المعبود ليس بوالد ولا مولود.» وهو كلام غريب على لسان أسقف نجران!
وفي بعض كلامه ما يشبه نظم القرآن، تعالى الله علوا كبيرا عن التقليد «أين من بغى وطغى، وجمع فادعى، وقال أنا ربكم الأعلى؟!»
ونحن نقبل كلام قس في الوعظ، ونتردد في تبشيره بنبي جديد؛ لأن المنسوب إليه كان واضحا وضوحا يدعو إلى الدهش؛ كقوله: «سيأتيكم حق من هذا الوجه (وأشار بيده نحو مكة) رجل أبلج أحور من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش ونعيم لا ينفدان، فإذا دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه.» ولكن قسا لم يدركه.
ومن قبيل قس، سواد بن قارب الذي كان يتكهن في الجاهلية، وكان شاعرا، ثم أسلم؛ فقد رآه عمر بن الخطاب وقال له: «أنت الذي أتاك رئيك (رائيك) بظهور النبي؟» قال: نعم. قال عمر: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟
سواد (غاضبا): ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين!
فقال عمر محتدا: سبحان الله! ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك! وعمر بصراحته وحدته في هذه الكلمة!
ومن الكاهنات غير من ذكرنا حطيمة، وكانت كاهنة بالمدينة، جاءها تابعها من الجن فوقف على جدارها فقالت له: ما لك لا تدخل تحدثنا ونحدثك؟! فأجابها عفريتها: إنه بعث بمكة نبي يحرم الزنا!
ولا ندري العلاقة بين الكاهنة والتابع، فهل كانت بينهما مخادنة؟!
1
ثم بالغ بعض المؤرخين فذكروا أن الدواب والأشجار تكلمت وبشرت بالنبي، حتى الأصنام نظمت شعرا ينبئ بظهور محمد
صلى الله عليه وسلم !
ويستوقفنا بعض ما ورد على لسان حبر أو راهب؛ لأننا نجد في القرآن نصا يؤيد فكرة التبشير بنبي جديد يأتي بكتاب منزل. كان أهل الكتاب يتحدثون بها وينتظرون ظهور نبي لينقذهم، فلما جاءهم كذبوه وأعرضوا عنه وحاربوه. وإليك النص الكريم:
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (سورة البقرة الآية 89).
وتؤيد هذه الآية آية أخرى في سورة الأعراف:
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون .
2
وهاتان الآيتان تدلان على أن أهل الكتاب - ولا سيما اليهود منهم - كانوا إذا نال منهم العرب في وثنيتهم قالوا لهم: «قد تقارب زمان نبي يبعث الآن! يقتلكم قتل استئصال.» وهم يظنون أن هذا النبي يظهر في إسرائيل، فلا يحتاجون إلى تغيير عقيدتهم في اتباعه! وكذلك رهبان النصارى كانوا ينتظرون مخلصا وبشيرا اسمه المواسي البيراقليط أو كثير الحمد «إيفادوكيا» واسم النبي «محمد وأحمد ومحمود» ويظنون أن النبي الجديد يظهر فيهم وعلى عقيدتهم فلا يحتاجون في طاعته إلى تغيير حياتهم!
فكل قوم في جزيرة العرب كانوا ينتظرون منقذا ومخلصا ما عدا عرب قريش وأهل مكة المشركين الوثنيين! فظهر النبي الجديد، ولكنه ظهر في هؤلاء الذين لا يرغبون فيه ولا يريدونه ولا يشعرون بحاجة إليه! وجاء بشريعة جديدة تحرم كثيرا مما كان أهل الكتاب وعباد الأصنام يستبيحونه لأنفسهم، فنظرت تلك الطوائف إليه بعين القلق والبغضاء؛ كالجيش الذي يترقب معينا، فيبرز له جيش الأعداء! إنه لجيش حقا، ولكنه خصم لدود! هذا الرأي أساس البشريات ومصدر القصص، وتفسيرها في الآيتين الكريمتين اللتين اقتبسناهما.
نصوص التوراة والإنجيل في التبشير بمحمد عليه الصلاة والسلام
جاء في كتاب «الإنجيل والصليب» تأليف الأب عبد الأحد داود الآشوري العراقي مطران الموصل في عهد السلطان عبد الحميد في ص33 في الباب الثاني «أن المبشر لوقا يبشر بالإسلام وبأحمد»؛ فقد جاء في لوقا أنه ظهر في الليلة التي ولد فيها المسيح - عليه السلام - جمهور من الجنود السماوية للرعاة الذين كانوا في البرية يترنمون بهذا النشيد (لوقا 2: 14):
الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد!
وفي الترجمة العربية لهذه الآية: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة.» والمؤلف يعلم هذا وقد نقله، ولكن يقول إن الأصل الصحيح هو ما قاله: «إسلام»، و«أحمد».
وما جاء في كتاب أشعيا بعد أن ذكر في أواخر الإصحاح 41 بعثة المسيح بقوله: «لأورشليم جعلت مبشرا» شرع في الإصحاح 42 يذكر عبد الله ورسوله محمدا
صلى الله عليه وسلم
ويعدد صفاته، فقال: «إنه عبد الله ومختاره، لا يرفع صوته في الشارع قصبة، لا يقصف، وفتيلة لا تطفأ، حتى يضع الحق في الأرض فيخرج الحق للأمم، تنتظر الجزائر شريعته، وأن يغنوا للرب أغنية جديدة وتسبيح، دعاه الرب بالبر (أو بالنصر) وأمسك بيده وحفظه كالجبار أخرجه كرجل حروب أنهض غيرته، يهدف ويصرخ ويقوى على أعدائه، ترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع يهتفون ويعطون مجدا للرب ويخبرون بتسبيحه في الجزائر جعله عهدا للشعب ونورا للأمم؛ ليفتح عيون العمي، ليخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.» ا.ه.
وهذه الصفات كلها تنطبق على محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد قال إنه عبد الله ولم يكن قصبة مقصوفة ولا فتيلة مطفأة؛ لأنه لم يتمكن منه أعداؤه ولم يمت قبل أن يتم عمله. وقد جاء محمد
صلى الله عليه وسلم
بشريعة جديدة كاملة، ولم يجئ الأنبياء من قبله بمثلها، ولم يقولوا إنهم جاءوا بدين جديد، والسيد المسيح نفسه قال: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء! ما جئت لأنقض بل لأكمل» (متى 5: 17). ومحمد
صلى الله عليه وسلم
هو الذي كان رجل حرب، وقد قوي على أعدائه، وهو الذي كان يهتف ويصرخ فيهم فيزلزل أقدامهم، والبرية هي جزيرة العرب، ومدنها هي التي سكنها قيدار بن إسماعيل (سفر التكوين في التوراة 25: 13).
وكان محمد
صلى الله عليه وسلم
مصداق العهد الذي أعطاه الله لإبراهيم - عليه السلام - بقوله في سفر التكوين (17: 4): «أما أنا فهو ذا عهدي معك وتكون أبا لجمهور من الأمم.» وجعل علامة العهد الختان.
وأما كون محمد
صلى الله عليه وسلم
نور الأمم، فهم مشركو العرب وغيرهم، كانوا عميا وجالسين في الظلمة فأثارهم بالقرآن العظيم، وفتح عيونهم، وكذلك أخرج الأسرى للأصنام والمشركين وأهل الكتاب المأسورين للأحبار والرهبان والكهان وسدنة الأوثان وجبابرة المستعمرين بقوله:
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله (سورة آل عمران).
كما أخرجهم من ضيق العيش إلى الرغد، ومن الذل والاستعباد والاستعمار إلى العز والحرية والاستقلال وعظمة الملك وفسحة السلطان، ومن الجهل إلى العلم، ومن الظلمات المعنوية إلى نور الحق، ومن التنازع والخصام إلى المحبة، وهكذا يبقون ما لم ينكثوا عهد الله وميثاقه.
واستطرد المؤلف المطران عبد الأحد داود في الفصل الثالث وما بعده (ص45) إلى ترجمة كلمة «أيادوكيا» التي معناها أحمد، وقد ساعده علمه باللغات السريانية والعبرية واليونانية القديمة.
ومعلوم أن اسم أحمد هو صيغة تفضيل من الحمد وهو الذي يقع منه الحمد أكثر مما يقع من غيره، واسم محمد صيغة مبالغة من التحميد ومعناه الذي يحمده غيره كثيرا. واسم محمود صيغة مفعول من الحمد، والثلاثة من أسماء النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فهو أحمد خلق الله لله، وهو الذي حمده الله أكثر مما حمد غيره من رسله، وكذلك حمده ويحمده بحق كل من عرف فضله - عليه أفضل الصلاة والسلام.
وجاء في ص86 من الكتاب نفسه: «يقول يوحنا (16: 29): إن المسيح إلى آخر ليلة كان يكلم تلاميذه بالأمثال، ووعد أن البارقليط المرسل من طرف الله والذي سيأتي بعده سيفسر ويبين كلامه وإنجيله الحقيقي.» وكلمة بارقليط أو فاراقليط يونانية قديمة ومعناها المعين والمدافع والنصير والمواسي.
وقد كان لظهور هذه الكلمة شأن يذكر عند نشر إنجيل برنابا الذي طبع في القاهرة منذ عشرين عاما. وقيل إن فيه بشرى صريحة بظهور النبي العربي؛ ولذا أخفاه الرهبان أجيالا طويلة!
1
ولهذا فقد صدق الله العظيم إذ أنزل الآية السادسة من سورة الصف:
وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين .
وظاهر من نص هذه الآية الكريمة الصريحة أن سيدنا عيسى - عليه السلام - مبعوث لبني إسرائيل دون سواهم، وأنه جاء مصدقا لما سبقه، وهو نبوة موسى وشريعة التوراة، ومبشرا برسالة محمد
صلى الله عليه وسلم
وقرآنه؛ فهو حلقة اتصال بين بني إسرائيل ومحمد خاتم الأنبياء الذي بعث رحمة للعالمين.
وبديهي أن المسيح لم ينطق بهذه الألفاظ بنصها لأنها عربية، وهو كان يتكلم بالعبرية، أضف إلى هذا أن الألفاظ التي نطق بها المسيح ضاعت، وكل اعتمادنا على ترجمة يونانية للإنجيل، وقد ذكرت كلمة باراقليط وإيفادوكيا التي يراد بها اسم أحمد في حين أن الترجمة الحرفية لكلمة براقليط هي - كما أسلفنا - النصير أو المواسي، والثانية تدل دلالة صريحة على معنى الحمد عن طريقي الحقيقة والمجاز، ولأن النصير والمواسي يستحق الحمد والثناء.
غير أن الذي يدعم التفسير ويدل على أن المقصود بالباراقليط هو محمد رسول الله استقراء الصفات التي وردت في إنجيل يوحنا (14: 6 و16: 7)؛ فإنها تنطبق على صفات النبي العربي، ويؤيد هذا الرأي أن المسيح كان يخاطب حوارييه بالرموز والأمثال؛ فقد جاء في وصف الباراقليط أنه سيبقى إلى الأبد، وهذا هو المشاهد في رسالة محمد وشريعته، فإنه على التحقيق خاتم الأنبياء ولم يأت ولن يأتي بعده رسول بتشريع عالمي، وموصوف بأنه يعلم أمته كل شيء، وقد جاء محمد بدين كامل وتشريع تام، وأوضح من هذا كلمات يوحنا (16: 12-14) على لسان سيدنا عيسى نفسه: «لا تزال عندي أشياء كثيرة أقولها لكم، ولكنكم لا تحتملونها أو لا تطيقونها. عندما يجيء روح الحق فإنه سوف يرشدكم إلى الحق ويدلكم عليه؛ لأنه لن يتكلم عن نفسه، ولكنه سوف يمجدني.»
فظاهر أن روح الحق والبارقليط هو شخص واحد، ومقطوع بأن هذا الوصف لا ينصرف إلى المسيح ولا ينطبق عليه؛ لأن المسيح لم يرشد إلى الحق كله؛ لأن رسالته كانت مقصورة على إصلاح بني إسرائيل؛ فقد كان مبعوثا إليهم دون سواهم، وتتلخص أعماله وأقواله في تقريعهم وتقويم اعوجاجهم ونقد عيوبهم. ولكن رسالة المواسي (الباراقليط) ستؤدي إلى إرشاد العالمين إلى الحق، وهي رسالة كاملة، والقرآن هو الكتاب المنزل الوحيد الذي انطوى على شريعة كاملة، وإن المواسي أو الباراقليط لن يتكلم بنفسه أو عن نفسه، ولكنه سيقول الذي يسمعه ويتلقاه؛ أي يوحى إليه. وهذا بالنص ما جاء في التوراة (18: 18) على لسان الله - سبحانه وتعالى: «وسأضع كلماتي في فمه.» وهذه الصفة هي التي اختص بها محمد
صلى الله عليه وسلم
دون سواه، وأنه سيمجد عيسى ابن مريم، وقد أدى النبي العربي هذه الرسالة خير أداء فمجده وعظمه وكرمه ونفى عنه كل المعايب التي ألصقها خصومه به وبأمه السيدة مريم الصديقة العذراء.
ولكن النصارى لا يقبلون هذا التفسير ويعترضون عليه بأن المواسي أو الباراقليط موصوف بأنه «روح الحق»، وهذا الوصف لا ينطبق على شخص إنساني، ولكن ينفي هذا الاعتراض أن المسيح دعاه «المواسي الآخر» كما جاء في يوحنا (14: 16) منبئا بذلك أن المواسي سيأتي في صورة إنسان كما جاء المسيح نفسه، فضلا عن أن جميع الهداة والمرشدين إلى الحق كانوا بشرا، ولا يمكن أن نتصور روحا لا يتكلم بما يوحى إليه أو يتلقاه! ويؤيد هذا ما جاء في التوراة من أن المرشد المقبل سيكون مثل موسى، إلا أنه ينطق بكلمات الله التي يضعها في فمه، وقد وصف القرآن محمدا
صلى الله عليه وسلم
بأنه الحق، كما ورد في سورة «بني إسرائيل» (آية 81):
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
والحق من الأسماء التي ذكرها القاضي عياض للرسول، ومما تحسن الإشارة إليه قول ابن إسحاق: إن الله بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
للعالمين وكافة الناس أجمعين (كذا) وكان الله قد أخذ الميثاق على كل نبي قبله بالإيمان والتصديق له والنصر على من خالفه وأن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم. وقد استند ابن إسحاق في ذلك على السبكي.
وأريد أن أقول إن اعتقاد المسلمين بأن الباراقليط هو النبي العربي ليس حديثا كما يتبادر إلى الذهن، خصوصا بعد نشر إنجيل برنابا منذ عشرين عاما في مصر، وإنما هو قديم؛ فقد روى الجلال السيوطي أنه ورد إلى مصر عالم نصراني من الفرنج وقال للعلماء لي شبهة إن أزلتموها أسلمت. فعقد له مجلس بدار الحديث الكاملية (كلية علوم الحديث) ورأس العلماء إذ ذاك الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقال له العالم النصراني والناس يسمعون الجدل وقد اجتمعوا له من كل فج: أي أفضل عندكم، المتفق عليه أو المختلف فيه؟! فقال شيخ العلماء: المتفق عليه طبعا!
فقال النصراني: قد اتفقنا نحن وأنتم على نبوة عيسى بنصوص القرآن، واختلفنا في نبوة محمد، فيلزم أن يكون عيسى أفضل من محمد! فأطرق الشيخ عز الدين ساكتا ثم رفع رأسه وقال: «عيسى قال لبني إسرائيل:
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ؛ فيلزمك أن تتبعه فيما قال، وتؤمن بأحمد الذي بشر به.» •••
وفي 21 أغسطس سنة 1933 نشر العالم المحقق المرحوم أحمد زكي باشا المشهور بتدقيقه وسعة اطلاعه قبل وفاته بعام (4 يوليو سنة 1934) في جريدة البلاغ أنه استطاع أن يصل إلى نسخة قديمة من التوراة ذكر فيها اسم محمد رسول الله. وروي أن شلبي سامري من طائفة «السمرة» عنده نسخة من التوراة منقولة عن أقدم نسخة من التوراة تحتفظ بها طائفة السامريين المتوطنة في مدينة نابلس، فاشتراها المرحوم نور الدين بك مصطفى. وأن زكي باشا ذهب إلى جبل جرزيم بنابلس في سنة 1922 واجتمع بشلبي سامري وبكبير كهنة الطائفة إسحاق بن عمران الذي ينتهي نسبه إلى هارون الأكبر. وفي سنة 1926 اشترى زكي باشا في فلسطين نسخة من التوراة مكتوبة بخط رئيس الكهنة إسحاق بن عمران وهي التي أشار إليها أحمد باشا وقد رآها شاهد عيان ووصفها بأنها مجلد يحتوي 615 صفحة من قطع الورق الصغير لا يشتمل سوى الأسفار الخمسة من التوراة التي يعتقد السامريون أنها من وحي الله دون سواها، وأن الله أمر الناس بالعمل بها، ولم يبق من يعمل بها إلى اليوم سواهم، وأنهم وحدهم على الحق ، أما غيرهم فعلى خلاف ذلك، وهم في نظرهم أنجاس ومنبوذون؛ فالسامريون لا يتناولون منهم شيئا إلا الماء.
وفي الصفحة الأخيرة من هذا المجلد ما يأتي: «كان النجاز من كتابة هذه التوراة المقدسة في نهار الأحد الموافق إلى أربعة خلت من شهر صفر الخير، من شهور سنة 1320 عربية، الذي هو الشهر الثاني عندنا الموافق إلى خمسة عشر من الخماسين المفروض عددهم على بني إسرائيل على يد عبده وابن عبده إسحاق بن عمران بن سلامة بن غزال بن إسحاق بن إبراهيم هكهن (كاهن) هلوي بشكم عفا الله عنه وغفر له ولمن أحسن إليه ولمن علمه آمين. وسلام الله على من هو سيد الأولين والآخرين. آمين آمين.»
وكل صفحات الكتاب مكتوبة بلغة عربية، وقد تخللتها كتابات باللغة السامرية. ومن هذه العبارات جملة في الإصحاح السابع عشر، أي في الصفحة ال 39 من الكتاب، وقد كتب الكاهن السامري الأعظم بخط يده على هامشها عبارات رتبها كما يأتي:
92
بمادماد
أي محمد
أي جدا
جدا
لجوي
جدول
400
43
أي شعبا عظيما
أي محمد
92
ثم وضع في ذيلها الجملة الآتية: انظر يا زكي كيف أن الله في كل كلمة من كلامه تعالى فيها أسرار مدموجة وآيات عظيمة. حرره العبد الفقير إسحاق الكاهن السامري.
ونحن في حيرة أمام هذه النصوص المبهمة والأعداد الجفرية. ونكاد نجزم بالتلاعب فيها من ناحية الكاهن الأعظم ؛ وذلك لأن النسخة التي اشتراها نور الدين بك مصطفى كانت بلغة لا يفهمها زكي باشا؛ حيث قال: «ولما كانت مكتوبة بلغة لا أفهمها أوصيت صديقي نور الدين بك مصطفى بشرائها. وقد اقتناها فعلا ولست أدري الآن ما فعل الله بها.»
ثم إن الكاهن أرخ بشهر عربي وسنة عربية، وكان يجب عليه أن يؤرخ بشهور ملته وأعوامها! وفي الختام يسلم على سيد الأولين والآخرين، ولم يقل لنا من هو، مع أن الاصطلاح ينصرف عند العرب والمسلمين إلى النبي محمد
صلى الله عليه وسلم !
ثم يقول الكاهن في الختام «انظر يا زكي»، فهل يقصد زكي باشا، فتكون النسخة مصنوعة لأجله وباسمه وعلى حسابه؟!
ويغلب على ظني أن كهنة هذه الطائفة - ومنهم شلبي سامري وإسحاق بن عمران - يتاجرون بهذه النسخ بمهارة، بدليل النسخة التي بيعت لنور الدين بك، وبدليل ما جاء على لسان زكي باشا نفسه من أن رئيس الكهنة سعى لبيع نسخة التوراة القديمة الأثرية التي تحتفظ بها طائفته إلى صاحب الجلالة ملك الإنجليز، ولكنه عدل عن ذلك لا احتفاظا بحرمتها ولا أسفا على التفريط فيها، ولكن لأن الملك جورج الخامس لم يدفع له فيها أكثر من خمسمائة جنيه! وزاد كبير الكهنة على هذا أنه حضر إلى مصر لعله يجد فيها حظا أكبر مما وجد في إنجلترا!
فهذا كله ناطق بأن المسألة كانت تجارة ومساومة. وقد نجح في بيع نسختين!
وإذا عدنا إلى «بمادماد أي محمد وأعداد 400، 43، 92» فلا نفهم منها شيئا، ولا نراها تدل على شيء.
وإنما ذكرنا هذه العبارة لنلم بأطراف موضوع البشرى، وأنها لثبوتها في الأذهان وجدت مروجين في كل زمان ومكان حتى من الكاهن الأعظم السامري!
الكهان والتبشير بالرسول
(1) الكهان في الجاهلية
حيثما نظرنا في سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
منذ الطفولة إلى الشباب نقع على أخبار كهان وكاهنات وأحبار وقسس، يتنبئون بمستقبل رسالته ويبشرون بالعجائب والمعجزات التي تتم له. وأولاهم تلك المرأة أو النسوة اللاتي عرضن أنفسهن على عبد الله بن عبد المطلب قبيل زفافه إلى آمنة ؛ لأنهن رأين نور النبوة في وجهه يسطع مثل كوكب دري. وآخرهم سطيح خاتم الكهان.
ويبدو لنا أن جانب الكهانة في تاريخ العرب وأخبارهم أشبه الأشياء بمعتقدات قدامى الإغريق في وحي الأرباب بدلف وغيرها.
ويكفي وصف الكاهن سطيح في أساطيرهم لنعلم أنه أقرب إلى مخلوقات الخيال منه إلى عالم الحقيقة؛ فقد كان - على زعمهم - جسدا ملقى لا جوارح له، لا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب، فإنه ساعتئذ ينتفخ فيجلس! وكان وجهه في صدره، ولا رأس له ولا عنق ولا عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفين! لا يتحرك فيه إلا اللسان؛ لأنه مخلوق من نطفة امرأة! وكان ميلاده ليلة موت طريفة الكاهنة اليمنية زوجة عمر مزيقية التي تكهنت بكارثة سد مأرب في اليمن، فأحضرته هو وشقا عند احتضارها وتفلت في فمهما لتنقل إليهما علم الكهانة وقوة السحر فخلفاها وحلا محلها!
1
وكان شق هذا كاسمه، نصف إنسان، يدا واحدة، ورجلا وعينا وأذنا. وذكر بعضهم أن التي تفلت في فم سطيح كاهنة بني سعد بن هذيم بأعالي الشام، وهي التي احتكم إليها عبد المطلب وقريش في حفر زمزم. ولكن الرواة أجمعوا على أن الكاهنة اليمنية هي مربية سطيح وحاضنته ومعلمته إلى أن ماتت.
كان سطيح في غسان وله سرير من الجريد يشبه «العنجريب»، إذا أريد نقله إلى مكان يطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب، ويوضع على السرير ويذهب به حيث يشاء! تذكر أنهم قالوا: لا رجل له! ولكنك لن تحصي هذه النقائض وإن حرصت!
وأبى الرواة إلا أن ينسبوه فسموه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب وأوصلوه إلى بني أزد في غسان!
وكل هذا بالطبع حبة من حقيقة في قبة من الخرافة فكيف يولد من غير أب ومن نطفة امرأة ثم يوجد له نسب؟!
2
وكذلك شق، جعلوه من بني صعب من باجلة.
لقد كانت كهانة سطيح واسعة النطاق؛ فمنها التحكيم والتوريث والاستخبار عن المغيبات وتفسير الأحلام!
والكهانة جاهلية قضى عليها الإسلام، وكان الكاهن من أهل العلم الغامض والمستور ، ويعرف العرب الكهانة بأنها الإخبار عن الغيب وأنها من خواص النفس الإنسانية باستعدادها للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها. والكاهن قبل كل شيء منجم يصاحب جنيا - اسمه التابع أو الرائي - ينقل إليه ما يسترقه بالسمع من أخبار السماء.
وأول مراتب الكهانة معرفة الطب والعلم بالأرباب والسحر، فهو الطبيب الروحاني. ونسبت الجاهلية إلى الكهان قوة خارقة في علم الغيب؛ لأنهم يرون في الليل ما يكشفون به عن حقائق الحياة في النهار وينبئون بالمستقبل، ولا تأتيهم تلك القوة من فتوح رباني ولا من إشراف نفوسهم على المستقبل، ولكن من شياطين تنطق بألسنتهم، ولكل قبيلة كاهن كما كان لها شاعر وبطل ، وقد يجمع الشاعر بين صفتي الشعر والكهانة، وأحيانا قيادة القبيلة في الحرب! ويطلق على كلامهم المسجوع وصف «الزمزمة».
وكان لهم شأن عظيم في الحياة العامة والخاصة فتستفتيهم القبائل في السلم والحرب قبل أن تخوض غمار المواقع والغزوات. وقد استخار عتبة كاهنا يمنيا عند اتهام بنته هند زوجة أبي سفيان بالزنا فبرأها. وكانوا يفسرون الأحلام ويكشفون عن خفايا الجرائم فيخضع الناس لأحكامهم. وكانوا جميعا من طبقة الأمراء والأشراف «أرستقراطية دينية»، وللكاهن العظيم سلطة تتعدى قبيلته، حتى إن الجاحظ قدمهم في البيان والتبيين على سائر الطبقات فقال: «أسماء الكهان والحكام والخطباء والعلماء من قحطان»
3
فجعلهم في الصف الأول!
ومن أشهر مشاهيرهم سطيح وشق خليفتا طريفة، والمأمور الحارثي، وعمرو بن دريد الأفكل سيد ربيعة، وسودة بنت زهرة القرشية، وزرقاء بنت زهير القضاعية.
فلما جاء الإسلام محا الكهانة ونسخها؛ لأن التوحيد قضى على الخرافات وعلى التنجيم ودعوى علم الغيب والإنباء بالمستقبل، ونظمت الحياة الاجتماعية بأحكام الشريعة وحدودها فصار التوحيد والفقه بمثابة الحرز للنفس البشرية يحفظها من الأهواء ويسكنها إلى حاضرها ومستقبلها
ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم
ويرفع عنها غمة الغموض والخفاء التي كانت تحيط في الجاهلية بالنفس المتطلعة للحياة في دياجير الوجود الإنساني لدى الجماعات المتأخرة عن الحضارة والثقافة.
لقد كان الكاهن عند عرب الجاهلية بمثابة المتنبئ؛ فتعددت وظائفه في شئون الدين والدنيا، وكان له حتما اتصال بعالم الخفاء والغموض؛ ولذا ترى بعض الرواة يصفون الكهان بأهل العلم الغامض ويعدون منهم مسيلمة الكذاب في بني حنيفة
4
وسجاحا كاهنة بني تميم وغيرها في بني سعد. فكان الكاهن هو من تفزع إليه القبيلة جماعة وأفرادا في الملمات لقراءة كتاب الحياة وتفسير ألغازه المستورة وحل المشكل والمعقد من صفحاته، وإن كان الإسلام قد قضى على الكهان إلا أن أخبارهم قد اتصلت بفجره، فإن ربيعة بن نضر اللخمي رأى رؤيا أزعجته فلجأ إلى سطيح ففسرها سطيح بأن الحبشان يهاجمون العرب ثم تسود الفرس حينا ثم يظهر نبي عربي. فبادر ربيعة بن نضر بإرسال ابنه على رأس وفد إلى ملك الفرس فعينه أميرا من قبله على الحيرة.
ولما حدثت في بلاد الفرس حوادث غريبة في ليلة ولادة محمد
صلى الله عليه وسلم
سأل كسرى منجميه عن تعليلها فعجزوا، أو لعلهم خشوا عاقبة تفسيرهم فامتنعوا؛ فأرسل كسرى إلى النعمان بن المنذر فسأل عبد المسيح بن بقيلة الغساني فعجز أيضا، ولكن قصد إلى خاله (كذا) سطيح في الصحراء، وكان على وشك الموت فلم يجب، فخاطبه بالسجع وهو أسلوب الكهان في الكلام فأجابه! وهنا نثبت كلام سطيح لأنه يدل على أسلوبه وينطوي على الحوادث التي قيل إنها حدثت بإيران: عبد المسيح، على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد وافى على الضريح، بعثك ملك ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها. يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاما، ولا الشام لسطيح شآما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
قضى سطيح مكانه ومات لساعته.
وزعم سطيح أنه تعلم من نفر الجن الذي استرق السمع من السماء وسرق الحديث الذي جرى بين الذات العلية وموسى الكليم في طور سينا. ويزعمون أن سطيحا عاش سبعمائة سنة، وهم بذلك التقدير يزيدون على عمره مائة سنة؛ لأنه على زعمهم ولد يوم وفاة طريفة التي تنبأت بكارثة سد مأرب، وفات بين ولادة النبي وبين الحادثتين ستمائة سنة لا سبعمائة. فما أعجبها أسطورة!
وإن الإنسان ليدهش لكثرة العلوم الخفية في بلاد العرب، فإنه بجانب الكاهن كان يوجد الحازي والعايف والزاجر والقايف والحازر والحزار؛ وكلهم يدعون استخراج المجهول من المعلوم. (2) الكهان والتبشير بمحمد عليه الصلاة والسلام
وإذا نظرنا إلى تاريخ طفولة محمد
صلى الله عليه وسلم
والفترة التي سبقتها نجد عددا لا يحصى من الكهان والعرافين يتنبئون عنه أو يبشرون به أو يحذرون قومهم من ظهوره.
فأولهم سودة بنت زهرة كاهنة قريش التي سبق ذكرها، وهي عمة وهب والد آمنة أم النبي، قالت يوما لبني زهرة: «فيكم نذير، أو امرأة نذيرة، أو تلد نذيرا، له شأن وبرهان منيرا.» - كذا ليستقيم السجع - فاختار عبد المطلب آمنة لابنه لهذا السبب، وكان عبد المطلب في اليمن فرآه أحد أحبار اليهود وفحص منخريه وقال له: «أنا أشهد أن في إحدى يديك ملكا وفي الأخرى نبوة، وإنما نجد كلا من الملك والنبوة في بني زهرة فكيف ذاك؟» ونصحه بالتزوج منهم فعمل عبد المطلب بنصيحة الحبر وتزوج من هالة وزوج ابنه عبد الله من آمنة، وكلتاهما من بني زهرة.
ولما ولد محمد
صلى الله عليه وسلم
كان في مكة يهودي اسمه يوسف، فقال في مجلس من قريش: هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقال القوم: والله ما نعلم. قال: احفظوا ما أقول لكم، ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، وهو منكم على كتفه شامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس، وتلك هي خاتم النبوة. فذهب الكل إلى بيت آمنة وقالوا لها: أخرجي إلينا ابنك. فأخرجته وكشفوا عن ظهره، فرأى تلك الشامة فخر مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا: ويلك، ما لك؟! قال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل، أفرحتم به يا معشر قريش؟ أما والله ليسطون عليكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب! وهذه القصة تمثل اليهودي الحاقد على الإسلام الآسف على ضياع النبوة من بني إسرائيل والمحرض للوثنية على عقيدة التوحيد.
ولكن راهبا مسيحيا اسمه عيص كان يترقب مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وقد تنبأ قبل ولادته وبعدها بكل حياته فقال: «تدين له العرب ويملك العجم أرضها وبلادها، هذا زمانه، فمن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن خالفه أخطأ حاجته، وإن نجمه طلع البارحة.» فلما ولد قال لعبد المطلب: احفظ لسانك؛ فإنه لن يحسد حسده، ولن يبغى على أحد كما يبغى عليه، وإن طال عمره لا يبلغ السبعين يموت في إحدى وستين أو ثلاث وستين.
وذهبت حليمة بمحمد
صلى الله عليه وسلم
وهو طفل إلى عراف من هذيل يريه الناس صبيانهم، فلما نظر إليه رأى حمرة في عينيه وخاتم النبوة في ظهره فصاح: يا معشر العرب، اقتلوا هذا الصبي؛ فليقتلن أهل دينكم، وليكسرن أصنامكم، وليظهرن أمره عليكم، إن هذا لينتظر أمرا من السماء!
فما هذا التناقض في قول رجل يقر بأن محمدا ينتظر أمرا من السماء ثم يحث على قتله أو يغري به، فلم يلبث أن وله العراف فذهب عقله حتى مات!
وروت حليمة بنت أبي ذؤيب - وهي المرضع السعدية - أن نفرا من نصارى الحبش رأوه
صلى الله عليه وسلم
فنظروا إليه وقلبوه؛ أي رأوا خاتم النبوة بين كتفيه وحمرة في عينيه، فقالوا لها: هل يشتكي عينيه؟ قالت: لا، ولكن هذه الحمرة لا تفارقه. فعرضوا عليها أن يأخذوه إلى ملكهم وبلدهم (فإن هذا الغلام كائن له شأن نحن نعرف أمره)، فانفلتت لتنجو به من خطر اختطافه. •••
ولم يقتصر التكهن عن رسالة النبي على الكهان والعرافين وأحبار اليهود والنصارى، بل تعداهم إلى الملوك؛ فقد دونوا أن سيف بن ذي يزن اجتمع بعبد المطلب وقال له: «ولد ولد اسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، يخمد النيران (أي نار المجوس) ويكسر الأوثان، فاحتفظ بابنك واحذر عليه من اليهود؛ فإنهم أعداؤه، واطو ما ذكرته لك عن قريش لئلا تدخلهم النفاسة فينصبون له الحبائل وهم فاعلون ذلك وأبناؤهم، ويثرب دار ملكه واستحكام أمره وموضع قبره ... إلخ.»
فكيف نعلل ذلك أو نفسره ؟ وهل نصدقه جملة واحدة أو ننكره جملة واحدة، ولا سيما أن جعبة البشائر لم تفرغ؟ فإن هناك شخصين مهمين سيرد ذكرهما ولهما وجود تاريخي؛ وهما ورقة بن نوفل خال خديجة بنت خويلد، وبحيرا الراهب، ولكل منهما وجود تاريخي، والحوادث التي تلت تؤيد اتصالهما بمحمد
صلى الله عليه وسلم
وإذا صدقنا أخبار ورقة وبحيرا فلماذا نكذب أخبار البقية من الأحبار والرهبان والكهنة والعرافين والملوك؟!
ولو أن المؤرخين أو الرواة اقتصروا على حادثة أو حادثتين، إذن لافترضنا صحتهما، ولكن تلك الأخبار المتواترة المدموغة بختم المبالغة تذهب بكثير من قيمة الرواية. وإذا دخل الشك في قصة واحدة تسرب الشك إلى الجميع على مذهب أصحاب الحديث الذين وضعوا أسس علم الرواية والإسناد ونقد الرجال والسلاسل.
ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن أخبار التكهن بحياة النبي ومستقبله ترجع كلها إلى مصدر واحد، فلعل كاهنا أو راهبا أو حبرا أخبر عنه بخبر من قبيل العرافة، فتواتر وانتشر وتحور وحرف وزادوا عليه وحسنوا فيه، وكل مؤلف يحليه بجملة أو سجعة من عنده ويغريه التحمس لعقيدته، وهو واثق بأن معظم القارئين من الجهل بحيث يطمئنون لهذه الأخبار الخرافية التي تثبت في نفوسهم صدق الرسالة المحمدية، باعتقادهم أن شخص النبي ومولده وأقواله وفعاله مدونة في كتب الأقدمين قبل ظهوره أو في علم الطوالع أو في صحف الكواكب، فتارة تكون التوراة والزبور مصدرا، وطورا في الكتاب الناطق والعلم السابق.
ولا شك أن جو اليهود والمتنسكين في بلاد العرب كان مشبعا بالتطلع إلى منقذ عظيم ينقذ أرواحهم وعقولهم. (3) بشرى الكاهن سطيح
وإذن كانت الكهانة وعلم الكهانة شائعين في جزيرة العرب، فكانوا يهرعون إلى الكهان والكاهنات ويفزعون متشوقين إلى تعرف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومة. ولم يكن تعلق العرب بالكهان والعرافة مقصورا على البدو في خيامهم ومرابطهم ومراعيهم وحلهم وارتحالهم وانتجاعهم في سبيل القوت لأنفسهم ولأنعامهم، بل شمل المتحضرين الذين تذوقوا طعم المدنية الرومانية وخالطوا الفاتحين والمستعمرين في مشارف الشام وبني جنسهم العرب الذين استمرءوا ثقافة الفرس وحضارتهم في سواد العراق. فإذا حدث خلاف بين قبيلتين احتكمتا - والتحكيم قديم عند العرب - إلى كاهن أو كاهنة أو عراف.
ولم يشذ العرب في الميل إلى فض الخصومة أو رفع النقاب عن المستقبل عن جميع الأمم الفطرية؛ فلم يكن المصريون القدماء ولا البابليون واليونان والرومان بأقل ميلا في تلك الناحية من العرب. وإننا لنجد تلك الميول تصاحب الأمم في بداوتها وحضارتها، حتى المصريين واليونان والرومان اتخذوا من هياكلهم في عين شمس ودلف ونينوى أماكن للإلهام وكشف الحجاب عن الغيب في حياة الأفراد والجماعات؛ فكان طبيعيا أن تروج الكهانة في العرب قبل الإسلام، وهم قوم لم يتأدبوا بآداب الدين المنزل ولم يطمئنوا إلا للغرائز والتقاليد والعادات الموروثة والنظم التي وجدوا عليها آباءهم. دع عنك ما ركز في فطرتهم ومازج دماءهم وسرى إليهم من طبيعة بلادهم القاسية الجافة، فكان للكاهن العربي وسادن الوثن الجاهلي في بيئته ما كان لأنبياء بني إسرائيل في أقوامهم وأسباطهم، فإن النبي الإسرائيلي كاهن تزين بصورة وحي هابط من السماء. والكاهن الوثني وصل إلى علمه عن طريق الاستعداد الفطري والتلقي عن روح الكون بوسائل شتى؛ أهمها إيحاء الذات والتعمق بمحض الاجتهاد في وحدة الوجود، فيرتفع عن معاصريه في التفكير المجرد ويسطو على بعض الأسرار التي تؤهله إليها إرادته التي تصبح نافذة بعض النفوذ المحدود بفضل الصناعة.
ولا بد لسواد الأمة من الخضوع بحال من الأحوال؛ فالأمة التي تحرم من وحي السماء، أو ينقطع عنها بعد انحداره لا غنى لها عن الخضوع لوحي الفكر الإنساني الذي يحيط بالأشياء إحاطة لا تملكها الدهماء والبروفان (العلمانيون) ولم تخرج العرب عن قاعدة ذلك الخضوع، ولكن الإسلام أنقذ الأمم التي اعتنقته من ويلات ذلك الخضوع، وما زال اليونان والرومان مستسلمين إلى آخر دولتهم؛ لأن الراهب المسيحي الذي جاء مع النصرانية تسلم زمامهم بعد الكاهن الوثني بتعديل طفيف في المشارب، ولكن الإسلام قضى على الكهانة ولم يعقب وسطاء.
وعندما نتكلم عن خضوع الدهماء لا نقصد إلى سواد الأمة وحسب؛ فقد رأينا سطيحا - وهو أعرق كهان عصره - تهافت عليه ملوك الشام والعراق واليمن ليستضيئوا في زعمهم بأنوار علمه، فكانت له في قصورهم من المنزلة الرفيعة والمكانة السامية ما كان له في قبائل العرب.
كان لسطيح شأن كبير، ومما يزيد في شأنه أنه بشر بالنبي العربي قبل مولده وقبل بعثته بعشرات السنين. وقد أجمع المستشرقون على حقيقة وجود هذا الكاهن وذكروا صفاته ومواهبه وفحصوا نظام الكهانة فحصا عميقا مسهبا (انظر مادة كاهن في دائرة المعارف الإسلامية، طبع ليدن)، كما أجمع من قبلهم مؤرخو العرب وعلماء التاريخ (الأغاني، ج3، ص181، 183، وبلوغ الأرب للآلوسي، ج3، ص280، والطبري وابن هشام ... إلخ).
وكان الحديث عن سطيح لمن لم يره كفيلا بأن يشغله الأيام والليالي بإحداث الهواجس التي تتنازع العقل والخيال، وقد تخلق الأثر الرائع في ذهن السامع لغرابتها وشدة وقعها في نفسه، هل كان سطيح راهبا في صومعة! أم كان مقيما في كهف من كهوف الجبال؟! هل أوى إلى خرائب النبط، أم كان كالطائر لا يحلق في أفق حتى ينزع إلى التحليق في آخر؟
قالوا إنه كان يبدو للناظرين شبحا في الظلام، وأنه يظهر للوثني في مخدع للأصنام، وللمسيحي في كنيسة، كما ظهر لأمية بن أبي الصلت؛ فقد انبعث إلى الشام وكان معه نفر من قريش، فلما انحسر الليل صعد في كثيب فرفعت له كنيسة فانتهى أمية بن أبي الصلت إليها، فإذا شبح جالس، فقال له الشبح حين رآه: إنك لمتبوع، فمن أين يأتيك رائيك؟
فقال أمية: من شقي الأيسر.
قال سطيح: فأي الثياب أحب إليك؟
قال أمية: السواد.
قال سطيح: كدت تكون نبي العرب ولست به، وإن نبي العرب صاحب هذا الأمر يأتيه من شقه الأيمن، وأحب الثياب أن يلقاه فيها البياض (الأغاني، ج2، ص81، وعبد ربه في العقد الفريد).
ماذا نرى في هذه القصة التي رواها الأديبان الكبيران؟! أنصدقها، أم نلحقها بما جرى من الحديث بين أبي سفيان بن حرب وأمية بن أبي الصلت؟! ... شبح في الظلام! في ظلال كنيسة في كثيب، مخلوق غريب له وجه وعينان ورأس ويدان وليس له قلب خافق في صدر مائل للعيان، بل له قدمان يحملانه من مكان إلى مكان!
ولكن هذا الكاهن العجيب كان ذا أثر في حياة العرب، فكان يبشرهم بالخصوبة والرخاء وهبوط الغيث وانهمار الأمطار، وكان إذا ظهر للجماعات ارتدوا على أعقابهم وغشيهم صمت عميق ولم يستروا وجوههم بأطراف ثيابهم كما يفعل اليونان في دلف، وإنما تعلقت حدجاتهم بباب الكهف الذي يفتح على مصراعيه فينبعث منه رجلان بينهما محفة صغيرة في وسطها إنسان يوشك أن لا يبين للناظرين، ثم ينبعث وراءه أخوه وحواريوه شق بن أنمار بن نزار! وهو أغرب في تكوينه من صاحبه الكبير، وفي اسمه دليل على حقيقته المرعبة، عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة ...! لو صدقنا رواية الرواة لرأينا سطيحا ذلك المسيخ المتفوق كائنا يدرج كما يدرج الثوب ولا عظم فيه إلا الجمجمة، وجهه في صدره ولا رأس له ولا عنق؛ فكان وشق يؤلفان منظرا من أروع المشاهد وأملئها رعبا وفزعا، ولكن ملوك البلاد وأمراءها كانوا يهرعون إليهما يسألونهما في لهف وحيرة عن المستقبل وحوادثه، فكانا يكشفان ويتكهنان بالتحديد لا بالتقريب، وبالتحقيق لا بالأوهام، ويرفعان اللثام عن حوادث لا تلبث أن تقع. كان شق فوق كهانته داعية سطيح والمشيد بقدرته فيصفه لسامعيه وصفا خلابا، وينعته بالرحمة والشفقة وأنه وسيط الخير بين عالم الحس وعالم الأرواح، وأنه يريد لقاصديه نجاتهم من القنوط، ويبشرهم بأن الأرض التي أقحلت وأمحلت في الأعوام الماضية سوف تخصب وتجود وتؤتي أكلها ... ساحر وكاهن وخطيب ... فلما بشر سطيح بالنبي الجديد سألوه: ممن هذا النبي؟
قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
فسأله سائل: وهل للدهر من آخر يا سطيح؟
قال: نعم، يوم يجمع الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.
وتشجع سائل ثالث: أحق ما تقول يا سطيح؟
قال: نعم، والشفق، والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أخبرتكم به لحق! •••
هذه صورة نادرة من حياة القوم لا تزيد ولا تنقص عما رواه مؤرخو الأمم في فترة البداوة وفترة التطلع إلى المستقبل والشوق إلى تحقيق الأماني والأحلام.
الحق أن العالم القديم كان يريد أن ينقض وينهار ليحل محله عالم جديد،
5
سوف تنهار صروح الإنسانية القديمة في جزيرة العرب وفي بلاد الرومان واليونان والفرس ومصر والعراق والهند والصين وبعض ممالك أوروبا. ستشتعل نار جديدة حامية لتحرق الخرق البالية وتطهر أعراق الحضارة من الشهوات والأوهام منبعثة من شرارة مستصغرة انطلق زنادها من أفقر بقعة في بيداء الجزيرة، فتنهار صروح الحضارات القديمة، وترتجف عظام المدنيات النخرة في بابل وآشور وصنعاء اليمن، وتشيد صروح جديدة قويمة على قواعد الحق ومكارم الأخلاق وفضائل النفوس المعذبة؛ فتعم المدنية تلك الأطلال التي وصفها لامارتين وفولني أفخم وصف ناعيين ماضيها السحيق الغارق في ظلمات التاريخ. ومهما كانت قيمة الأسرار المقدسة التي احتوتها تلك الهياكل ذات العرصات الرحيبة والأفنية الواسعة والعمد الغليظة الرفيعة والأسقف الشاهقة، فإن النور الذي سينبثق من مكة سيخفت جميع الأنوار السابقة ويعلو عليها، كما يخمد النيران المشتعلة في مواقد الضلال القديم. لن يكون بعد الغد القريب المرتقب غموض ولا خناء، ولا سلطان للجن على نفوس البشر ولا قوة للسحر الأسود على القلوب البيضاء والأرواح العلوية الطاهرة؛ فقد طال أمد المهازل وآن ظهور الجد والحق على مسرح الحياة.
وأعجب العجيب أن موكب المستقبل السعيد الفخم يبدأ مسيره من تلك القرية الآثمة الخامدة الغامضة عاصمة ذلك الوادي المجدب التي صارت أم القرى - مكة المكرمة - وسوف يسير في مقدمة الموكب العظيم الذين لم يشهد الكون له مثيلا هؤلاء البدو الرعاة الذين ساخت أقدامهم في رمال الصحراء عشرات ألوف السنين ومئات الأجيال، وخبت قرائحهم وخمدت أذهانهم في الجبال الجرداء والوديان السحيقة، وأوشكت الشمس القاسية أن تذيب عقولهم كما تذيب ذرات الراديوم اللحم والعظم! سينهضون نهوضا مرعبا بعد ذلك الرقاد الطويل الذي غشى على أعينهم وأفئدتهم وحجب عنهم آفاق الحياة.
سوف يفتح هؤلاء البدو والرعاة الحفاة العراة الجياع القساة أعينهم لهذا الفجر الذي تمتد ظلاله من بادية الحجاز إلى بادية الشام فالعراق فمصر فالشرق فالجنوب فالغرب فالشمال، وتفتح آذانهم فيطرقها صوت رنان لم يسمع مثله في الماضي والحاضر، ولن يسمع مثله في المستقبل ممزوجا بأنغام اليقظة وتغريد أطيار الصباح المشرق بنور الآفاق، وسوف يبصرون في تورد الفجر ولمعانه وزخرف ألوانه طلائع زحف إنساني جديد إلى سهول فاتنة وحقول خضراء نضرة وبساتين فينانة وحواضر حالية بالنعيم، وأمصار باهرة زاهية آهلة عامرة غنية زاخرة لا تحجبها الظلمات ولا تغشاها الغيوم.
وسيكون هؤلاء البدو الرعاة أصحاب ذلك الزحف الميمون حين يرفلون في الأرض ويرثون العالم ويملكون ما احتواه من خير عميم وعز مقيم. إلى متى؟
إلى آخر الدهر يوم يجمع الأولون والآخرون ويسعد فيه المحسنون ويشقى المسيئون. نعم، والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أخبرتكم به لحق! لن تقتصر أقدار هؤلاء البدو الرعاة على تلك النعم، بل سوف يمعنون في الغلبة ويمعنون في الطلب فيصيرون أحرارا كالنسيم المنسجم العذب، وتضاء قصورهم بالأنوار التي لا تخبو، لا يتحكم فيهم ظالم ولا فاتح غاشم ولا تضرب عليهم الذلة والمسكنة كما ضربت على غيرهم، ولن يستعبدهم الملوك ولا الأمم، ولن يساقوا سوق الأنعام إلى الاغتراب في هجرات مكرهين، ولن يذوقوا طعم السياط على ظهورهم خانعين، ولن يدفعوا لغاصب جزية عن يد وهم صاغرون، لن تتحكم فيهم ظلمات الليل كما تحكمت في خيامهم، ولن تتسلط ظلمات الجهل على عقولهم فيسجدوا لصنم من حجر أو تمثال من خشب كانوا له بأيديهم صانعين. وسوف يكون لهم في كل بقعة - مهما نأت - علم يرفرف وراية تخفق وحصن متين أو جيش حاشد وعرش وطيد وظل ممدود وملك مهما طال المدى لا يبيد.
أهذه بشرى سطيح؟ أم روح الكون الذي يتكلم؟ بل روح العالم المنبعث من تلك الصحراء المطمئنة إلى قيظها وهجيرها، الغارقة في صمت جبالها وسكون وديانها صمتا وسكونا أشد من الموت، الموت الذي لا يتلوه بعث ولا نشور. سوف تنحسر الصحراء عن أسمى روح تجلت للإنسانية تسير بهم إلى مسارح الحياة، فيكون لهم في البر والبحر الملك الضخم والدولة العظمى والمجد الذي لا يفنى والسلطان الذي لا يبلى والفضائل التي تطهر أعراق النفوس، وسيسير بهم روح الحق الأعلى إلى دين جديد يعرفون به إلها واحدا رحيما عادلا، تنقذهم عبادته من جحيم الشقاء الذي اصطلوا بنيرانه على مدى أجيال طويلة في ظل الأصنام، ثم يقودهم ذلك الروح الأسمى إلى آفاق الطمأنينة والراحة والرخاء؛ حيث يتسق لهم العقل والذكاء فيلمع ويضيء بعد انطفائه وخموده فتبدو لهم الطبيعة السائدة، فتسلس لهم قيادها في الأفلاك والأرضين بعد فهم أسرارها ومقاصدها، سوف يفتح الأعراب أعينهم ليحدقوا في الصحراء، ليروا ذلك الروح الأسمى يسير في موكب فخم من الجلال والرونق والعظمة والجلال والأبهة والجمال، بل إنه ليمشي فوق رءوس العصور الغابرة ليطل من وراء شمسها الغاربة على فجر العصور الجديدة التي سيخلقها بقلبه وعقله ويده خلقا. وإنه ليشرف على مصر التي باحت له بأسرارها وخفاياها، وبابل التي فتحت له أبواب هياكلها على مصراعيها فازدراها، وعلى تلك المدينة العريقة في القدم والحكمة، أثينا، فتنحني أمامه بطولتها وعبقريتها وشعرها وفلسفتها وحروبها ومنابر خطبائها. وتلك الأخرى التي حكمت العالم بمشيختها، وساسته بعد الفتوح والغلبة بقوانينها وشرائعها؛ تلك المدينة التي وصفوها برومة الخالدة!
وها هو حمورابي المشترع الأول وصولون وليكرجوس وسيسرون بعد فيثاغوراس وجحافل العلم والقانون تلقي أمامه قيادها وتسلمه زمامها؛ ذلك القادم من بعيد.
حتى آمون رع الذي شيد المصريون والفرس والإغريق الهياكل والمعابد باسمه، ذلك الإله المنفرد والذي مجده الإسكندر في لوبيا، وبطليموس في الأقصر والكرنك، ودارا في هيبيس: لقد أقمت هذا البناء تذكارا لأبي آمون رع سيد مدينة هيبيت الإله الأعظم ولآلهة بلاد تمرا وإلاهاتها. أنا ملك مصر العليا والسفلى ابن رع من صلبه، دارا حبيب الإله آمون رع سيد مدينة هيب الإله الأعظم عاش إلى الأبد، عابد يدعو لمعبوده بطول العمر والخلود!
سوف يكون حظ آمون رع وأوزيريس وهورس وإيزيس ومئات مثلهن حظ تلك الأصنام السامية، يمنية وحضرمية وحبشية وكنعانية ويونانية ورومانية، حظ تلك الأصنام والأوثان التي خيل إلى تلك الأمم القديمة البائدة والباقية المعاصرة أنها تحمي أحياءهم وتتعهد موتاهم في قبورهم وأنها تمنحهم الصحة والشباب والمال والحب والمرح؛ ستنهار تحت قدميه لأنها لا تملك تلك القدرة التي نسبت إليها ولا تملك حتى قوة الدفاع عن نفسها.
وسيمشي العالم تحت لوائه إلى عبادة نظيفة طاهرة لا تصدم العقل ولا تناقض المنطق ولا تتقهقر أمام العلم والتجربة. هذا النور سوف ينطلق فجره عما قريب في مكة، واسم صاحب هذا الموكب الفخم محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم .
هل هذه كهانة سطيح، أم بشرى التاريخ على ألسنة الملهمين؟ وأي عجب منها وقد تحققت! وطالما كررها صاحب الشأن نفسه - عليه الصلاة والسلام - عندما دعا قومه إلى الإسلام ووعدهم بالسيادة على العرب والعجم فصدق وعده في عشرين عاما. وقبل أن ينتهي القرن الأول امتد ظل سلطانهم من أقصى الصين شرقا إلى أقصى أوروبا غربا، ومن إيطاليا وسويسرا شمالا إلى مجاهل أفريقيا جنوبا.
كفالة عبد المطلب للرسول عليه الصلاة والسلام
لنعد إلى سياحة النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو طفل في حراسة جاريته أم أيمن من الأبواء إلى مكة بعد أن ووريت أمه التراب.
كانت أم أيمن حبشية، وولدها أيمن من عبد حبشي اسمه عبيد، وسماها النبي بركة، وتزوجها بعده زيد بن حارثة، فولدت له أسامة، وكان زواجها الأخير بأمر النبي وهي في بيت خديجة.
وكان محمد
صلى الله عليه وسلم
شديد البر بها لمكانتها عنده، وبعد وفاة خديجة كانت أم أيمن في بيت محمد فقالت له: يا رسول الله، اسقني! وكانت تشارف على السبعين.
فقالت لها عائشة: ألرسول الله
صلى الله عليه وسلم
تقولين هذا؟!
قالت أم أيمن: ما خدمته أكثر!
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : صدقت! فسقاها.
وهذه الحادثة تلقي شعاعا على عواطف السيدة عائشة أم المؤمنين نحو أحباب النبي الأقدمين، وكان أولى بها أن تسقيها من أن تؤنبها! وقد جعل رسول الله الحق في جاريته التي حضرت ولادته ووفاة أمه وعنيت بحراسته من المدينة إلى مكة وخدمته في بيت أمه كما خدمت أولاده في بيت خديجة وتزوجت بأمره رجلا من أحب الناس إليه، ولدت له بطلا من أبطال الإسلام هو أسامة بن زيد؛ فهي من أقرب الناس إلى آل البيت.
فلما بلغت أم أيمن مكة، بعد وفاة آمنة ودفنها بخمسة أيام، دخلت على عبد المطلب وروت له ما وقع فضم الطفل إلى صدره ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكفله من تلك الساعة. •••
وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد من أهل بيته ولا من أشراف قريش إجلالا له، فكان محمد
صلى الله عليه وسلم
يأتي وهو غلام صغير حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه؛ ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب - إذا علم ذلك لأنه كان ضريرا: دعوا ابني ! ويمسح ظهره، ويسره ما يراه يصنع.
وحدث مرة أن جذبه رجل، فبكى محمد - عليه الصلاة والسلام - وكان عبد المطلب كفيفا فسأل: ما لابني يبكي؟!
قالوا: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه.
فأنب الرجل ولامه، فكانوا بعد ذلك لا يردونه عنه.
وكان عبد المطلب إذا أتي بطعام أجلس محمدا إلى جنبه وربما أقعده على فخذه فيؤثره بأطيب طعامه، وكان يصطحبه في الحفلات العامة وفي الطواف والدعاء للاستسقاء. •••
ولما شاخ عبد المطلب فقد بصره، ولكن تلك الكارثة لم تقلل من مكارم أخلاقه؛ فإن ركبا من جذام فقدوا رجلا منهم غالته بيوت مكة، فلقوا حذافة بن غانم فربطوه وأخذوه أسيرا بدلا من رجلهم المفقود، فالتقى الركب بعبد المطلب وهو شيخ ضرير يقوده ابنه أبو لهب، فلما بصر به حذافة هتف به، فقال عبد المطلب لابنه: ويلك! ما هذا؟!
أبو لهب: هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب!
عبد المطلب: الحقهم واسالهم ما شأنهم.
فلحقهم وسألهم وعاد وأخبره فقال له: الحقهم - لا أم لك - وأعطهم ما بيدك من مال وأطلق الرجل.
فلحقهم ورهن رداءه ووعدهم بفدية حسنة فأطلقوا حذافة، وسمع عبد المطلب صوته وقال له: ها أنا ذا بأبي أنت يا ساقي الحجيج، أردفني.
فأردفه خلفه حتى دخل مكة، وكافأه حذافة بقصيدة مطلعها:
بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه
يضيء ظلام الليل كالقمر البدر
وبعد عامين من وفاة أمه - عليه الصلاة والسلام - مات جده عبد المطلب في الثمانين من عمره، وكان محمد في الثامنة. وفي هذه المرة أدرك محمد معنى الموت، وشعر بالحزن الشديد على جده، فسار في الجنازة خلف النعش وهو يبكي إلى أن دفن عبد المطلب بالحجون عند جده قصي، وقد بكته بناته الست: صفية أم الزبير بن العوام، وبرة، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء جدة عثمان بن عفان لأمه، وأميمة، وأروى. •••
وكان عبد المطلب حين حضرته الوفاة أوصى ابنه أبا طالب بحفيده، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، وكان يخصه بأحسن الطعام، وكان أبو طالب يشفق عليه ويحبه في حياة جده.
وكان العم مقلا من المال؛ فكان عياله إذا أكلوا جميعا أو فرادى لم يشبعوا، فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم يقول لهم: كما أنتم حتى يأتي محمد. فيأكل معهم.
وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان يصبحهم أول البكرة للإفطار فيجلسون وينتهبون فيكف محمد يده لا ينتهب معهم تعففا وحياء، وكانت هذه خلته منذ الطفولة، فلما رأى ذلك أبو طالب عزل له طعامه على حدة.
كفالة أبي طالب للرسول عليه الصلاة والسلام
كان أبو طالب نبيها شهما نبيلا صادق المروءة، ماضي العزيمة منتصرا لمبادئ العدل، محبا للنصفة، وقد كلف نفسه أقصى ما يستطيع في كفالة ابن أخيه وحمايته والسهر على تربيته والعناية بعافيته وتهذيبه حتى أنبته نباتا حسنا. وله الفضل الأكبر في تعهده بعد جده عبد المطلب؛ لأنه ولي أمره في الثامنة من عمره، ولم يفرق بينهما إلا وفاته قبيل الهجرة بقليل، وقد قضى وخديجة في عام واحد سمي لاجتماع المصابين بعام الحزن.
ولقد كان في استعداد ذلك العم الكريم لكفالة رسول المستقبل من مظاهر العناية الربانية به، عني أبو طالب أول ما عني بتربيته الجسدية؛ فجاءت قوته البدنية وصحته البشرية وسلامة بدنه - عليه الصلاة والسلام - لا نظير لها؛ فصار على صورة من الجمال لم يشهد الناس مثلها، ولا يكون الجمال إلا بتمام العافية واعتدال المزاج والتكوين السوي نتيجة لتربية جثمانية فائقة، أهم مظاهرها حسن التغذية ، وعيشة الخلاء والمرح في أحضان الطبيعة، والمران على فنون الحرب وركوب الخيل والسباحة، وقد أتقنها محمد جميعا وتفوق فيها على أقرانه؛ فكان يصارع أقوى معاصريه فيصرعهم (القاضي عياض).
بيد أن أبا طالب كان فقيرا وكان عائلا ولكنه كان نبيلا وكان محترما وزعيما في بلده، وكل ما وفره العم من وسائل العيشة الراضية لابن أخيه لم تكن لتكلفه شيئا استثنائيا؛ لأن حياة الجماعة كانت تقتضيها وتسهلها وتمهد السبيل إليها.
وقد علمنا أن الخير والبركة كانا يصحبان الرسول
صلى الله عليه وسلم
في طفولته وفتوته وشبابه، فلم يعرف الضيق إلا نادرا وباختياره، ولكن مشقة الكفالة انحصرت في الخصومة الشديدة التي بدأ بها طغاة قريش وأوغادها، وعلى رأسهم بنو أمية لعداوتهم الكامنة لبني هاشم.
نشأ أبو طالب محمدا على تربية عقلية جديرة بالإعجاب، أهم عنصر فيها الغرائز الطيبة التي ورثها النبي عن آبائه وأجداده والمثل العليا التي تلقاها بالخبرة والمعاشرة عن عمه النبيل أبي طالب، والترقي في مدارج العمل.
نشأ محمد على يد ذلك المربي العظيم أبي طالب الذي سخرته العناية مهذبا وكفيلا، فكان أبلغ مثال للمهذب والكفيل، وأشرف نموذج للعم الكريم، فأعان الطبيعة على عملها الذي أراده الله بمحمد؛ فجاء أحسن الناس خلقا وخلقا، وأذكاهم عقلا وأطيبهم نفسا وأزكاهم قلبا، وأصدقهم طبعا وفؤادا ولسانا؛ فكان كريما رحيما شجاعا سديد الرأي بعيد النظر شديد الإقدام، لين الجانب سريع العفو أمينا في القول والفعل، كامل التكوين في غير كبرياء، واسع الآمال في غير طمع، واسع الخيال دون طيش، صادق العزم بلا رعونة، ثابت الجنان في الملمات، مالكا زمام نفسه وعواطفه، لا تستخفه الشهوات ولا تشغل لبه الصغائر، ولا يجد الشر إلى نفسه سبيلا؛ فصار بحق وعاء مستعدا لتلقي الحكمة الإلهية والوحي الرباني والقيام بأعباء الرسالة.
رحيل الرسول مع أبي طالب إلى الشام وبشرى الراهب بحيرا
تهيأ أبو طالب للرحيل إلى الشام في تجارته، فكانت رحلته الأولى منذ كفل محمدا
صلى الله عليه وسلم
بعد موت جده، وقد شب محمد عن الطوق وأخذ يدرك ألم الفرقة بعد أن ذاقها بوفاة أمه وجده، وتعلق بعمه - وهو أليفه وأنيسه وحاضنه - فرق له قلب أبي طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا.
فكان عهدا مسئولا وكلمة نافذة حققها الله فلم يفرق بينهما إلا موت أبي طالب.
فلم يكن أبو طالب البادئ بفكرة اصطحاب الطفل المكفول، بل جاءت الصحبة لمحبة الطفل وتعلقه بعمه؛ فقد أمسك بزمام ناقة عمه وقال: يا عم، إلى من تكلني؟! لا أب لي ولا أم!
وكنت سنه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وهي سن الإدراك وتفتق الذهن وظهور العواطف، ولا سيما في البلاد الحارة كجزيرة العرب، وناهيك بنبي المستقبل وقد تفجرت في قلبه ينابيع المحبة والحنان والإشفاق من الوحدة بعد فراق العم الذي صار له أبا وأما وجدا وعما في آن.
فلما رق قلب أبي طالب لابن أخيه - ومن ذا الذي لا يرق قلبه لتلك الكلمات العذبة الجميلة؟! - أردفه وسار به في القافلة.
وترى المؤرخين لا يحرصون على ذكر تفصيل السياحة وما وقع فيها من الحوادث اللاصقة بها، كعدد الأيام التي استغرقتها وتاريخ سفرها وعودتها وشخصيات المسافرين وأصناف متاجرهم وما مروا به من الأماكن؛ لأن هذه كلها في نظر المؤرخين من العرب وكتاب السير لا قيمة لها بجانب الأساطير والخرافات والقصص التي تدور حول الأديرة والرهبان والأحبار والكهان الذين تنبئوا بظهور نبي في بلاد العرب وعرفوا في محمد علامات النبوة، وذكروا حوادث مستقبلة بالدقة كأنهم يقرءونها في كتاب مفتوح، بل ادعى بعض هؤلاء المؤرخين أن الراهب نظر في وجه محمد ثم عاد إلى ديره وبيده كتاب يقرأ فيه طالعه عن ماضيه وحاضره ومستقبله، ذاكرا الأسماء والألقاب والمواطن والواقعات. والفرق في التقدير عظيم بين تدوين الحوادث وبين التمشي مع الخيال!
والأعجب من ذلك أن هؤلاء المؤرخين لا يذكرون أسماء الرهبان ولا أماكنهم بشيء من الدقة أو ما يقرب من الدقة، بل كل صومعة دير، وكل لابس مسوح راهب متعبد ومطلع على الغيب ومتنبئ لا يخطئ!
وهؤلاء المؤرخون هم الذين عودونا التدقيق والتحقيق فيما لا يفيد حتى الإغراق، فإذا ذكروا كتب الرهبان قالوا: «الكتب القديمة» ولم يدونوا اسم كتاب ما عدا الزبور أو ما في حكمه، ولو كان الكتاب القديم هو التوراة أو الإنجيل فلم لم يذكروا نصه؟
ولكن المذكور هو البشرى وحدها «وجهه وجه نبي، وعينه عين نبي، يبعث لهذه الأمة الأخيرة.» فكان جواب أبي طالب على تلك البشرى المبهمة أو الذي وضعه المؤرخون على لسان أبي طالب أن قال للراهب: سبحان الله! الله أجل مما تقول. أي إنه قادر على أن يصنع من ابن أخي هذا نبيا.
ثم التفت إلى الصبي وقال: يا ابن أخي، ألا تسمع ما يقول؟!
محمد: أي عم، لا تنكر لله قدرة.
وحينئذ يكون محمد قد سمع من فم راهب صاحب دير وهو في الثانية عشرة من عمره بحضور عمه بشرى بأنه النبي المنتظر للأمة العربية.
وسند الراهب في ذلك الكتب القديمة.
ولم تقتصر البشرى على ذلك الراهب المجهول، بل جاءت على لسان بحيرا الشهير الذي كان ثالث ثلاثة هم خير أهل الأرض، ولعل المؤرخين وصفوه بذلك بعد الإسلام؛ لأنه بشر بمحمد
صلى الله عليه وسلم .
والثلاثة هم رباب بن البراء، وبحيرا الراهب، والثالث المنتظر يعني محمدا.
وفي القصة الطريفة أن بحيرا أدب مأدبة للركب الذي كان فيه أبو طالب وابن أخيه، ولم يكن ليولم لهم إلا إكراما لمحمد، ولكن العرب تقدموا ليأكلوا وليمة القسيس، وتركوا محمدا تحت شجرة، فعاتبهم بحيرا لتخلف بعضهم، وهو يقصد محمدا، فانبرى له واحد منهم وقال: يا بحيرا، ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنا.
وهذه عادة العرب؛ أنهم لا يثقلون على مضيفهم بحشد الجماعة حول القصاع، ولكن محمدا كان المقصود بالمأدبة، فقال بحيرا: لا تفعلوا! فليحضر هذا الغلام معكم، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم. فعاب عليهم قسوتهم في حرمان الطفل، ولم يكن أبو طالب ليقدمه، فقال المعترض: هو والله أوسطنا نسبا وهو ابن أخي هذا الرجل (مشيرا إلى أبي طالب) وهو من ولد عبد المطلب.
ومعنى هذا أن أبا طالب كان يسمع هذا الحوار صامتا.
فقال رجل من قريش، ولم نعرف اسمه، وقد فطن إلى ما في ترك الطفل بعيدا عن الطعام من القسوة: واللات والعزى إنه كان للؤما منا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا!
ثم قام إليه فاحتضنه وجاء به.
وخلا بحيرا بمحمد بعد الغداء وحادثه وفحصه وناقشه وسأله عن أمور كثيرة، ثم قابل أبا طالب وقال له: سيكون لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا، فأسرع به إلى بلده؛ فإن اليهود إذا رأوه وعرفوه قتلوه.
فعمل أبو طالب بنصيحة الراهب وبعث بمحمد مع بعض غلمانه إلى مكة.
وقيل إن الراهب زوده بكعك وزيت هدية ومئونة للطريق.
وقد اعتبر بعض المؤرخين قصة بحيرا تاريخا، وقالوا إن اسمه جرجس، وإنه وصف خاتم النبوة بأنه قطعة لحم مثل التفاحة في أسفل من غضروف كتفه. وعده الذهبي في تجريد الصحابة صحابيا؛ لأنه رأى النبي وأكرمه وآمن به قبل النبوة. •••
غير أن الذي يهمنا في تلك السياحة الأولى ومحمد في الثانية عشرة من عمره أنه وقف على ما تبطن الأرض وتظهر من أنواع الأقاليم المتغيرة وطبائعها المختلفة وأحوال العالم المتحولة بين الماضي والحاضر.
ففي الطريق من مكة إلى الشام منازل وديار كانت لأمم بادت وفنيت، كانت على الأرض زينة لها وجمالا، فزادوها حسنا بعمرانهم، وتفانوا في فنون حضارتها، وتسابقوا في إتقان مظاهر مدنيتها، فأقبلت الدنيا واتخذت زينتها كاملة، وغرتهم حوادث الدهر في إقبال ونعيم وعز مقيم ففسقوا وضلوا، وحادوا عن السنن التي تحيا بها الشعوب فتحولت عنها النعمة، وزال المجد وتضعضعت القوة واضمحلت، وسادها الأجنبي والدخيل وظلم فيهم بقدر ما كانوا يظلمون أنفسهم، ثم زالوا من الوجود جميعا وأصبحوا كأن لم يكونوا
فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا .
وفي مثل تلك السياحة ورؤية أرض الشام بين وادي الأردن وبصرى، ثم بين بصرى وغوطة دمشق وضفاف البحر الميت والأراضي الخصبة المزدانة بأشجار الرمان والصفصاف وأغراس الأزهار، وبساتين الورد والرياحين، والقافلة تمر بالمدن والقرى الزاهرة.
وعندما تتوارى المدن الآهلة بالسكان، الحافلة بأسباب العمران وراء كثبان الرمال وتتغلغل الإبل بأحمالها في الصحراء، تبدو مناظر جديدة تأخذ باللب وتستهوي عقول الناظرين؛ فمن جمال الطبيعة إلى آثار التاريخ إلى حياة الحضارة.
ما أعظم العبرة وما أجمل الموعظة!
وقد كان فيما أنزل عليه
صلى الله عليه وسلم
بعد أن صار نبيا قوله تعالى:
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
أليست هذه البلاد شرق الأردن وفلسطين التي ورد ذكرها في التوراة والإنجيل؟ وتلك المدن المتحضرة بأراضي بني عذرة؛ حيث تتراءى للمسافر تلك المعاني المرحة الوادعة التي تفجرت فيها ينابيع الشعر والخيال تارة، وطورا انبعثت منها أنوار الحكمة الإلهية على ألسنة الأنبياء والمرسلين؟
ثم تعرض لأبي طالب وابن أخيه وقافلتهما أشجار النخيل وكروم الأعناب في وادي القرى، وقد امتدت أمامهم الضواحي الفينانة والغياض الناضرة والرياض المثمرة والواحات الحالمة والبساتين النائمة في أحضان حياض الماء المتدفق والأنهار المنهمرة.
وتمر القافلة بمن فيها وفي مقدمتهم أبو طالب وابن أخيه، بالصوامع والأديرة المنتشرة في رءوس الجبال وعلى سفوحها المخضلة، فيلقى رجالها الأعراب في الرهبان والمنعزلين لعبادة الديان نفوسا كريمة يطمئن إليها العربي الظاعن في تنقله بين الصحراء المقحلة والحواضر الآهلة.
وكانت نفس محمد الصغير مقسمة السرور بين تلك المناظر الجذابة الحديثة الورود على نظره، الجديدة الأثر في ذهنه، الغريبة الطروء في طفولته، وبين سماع أحاديث رجال القافلة الذين يملئون الفضاء بإنشاد أشعارهم والأشعار التي حفظوها يرتلونها ويترنمون بها. وقد امتلأ الجو بأنغامها وأوزانها، والطفل الصغير يصغي في براءة وسكون لذلك الشعر الذي لن يأذن الله له بتعليمه ولن ينبغي له أن ينظمه أو يستظهره
وما علمناه الشعر وما ينبغي له
وقد صدق حين قال: إن امرأ القيس قائد الشعراء يوم القيامة ... إلى ... العذاب؛ فقد كان في الشعر الجاهلي أدلة مثالية على الميل إلى التماجن المتطرف، وفي امرئ القيس وحده مثل جد موفق، وفي كثير من حياة الجاهلية وشعرها ما يحمر له وجه العذراء، وتخجل لسماعه الزوجة والأرمل والأيم. ومعظم الشعراء الذين أنشدوا قصائدهم في سوق عكاظ أو علقوها على أستار الكعبة حتى استحقت الوصف الذي لزمها، كانوا شبانا خفافا مستهترين، يحذقون تمثيل الأفذاذ والأبطال ويتقدمون مثال دون جوان بمئات السنين ويحسدهم معاصروهم على محاسن حظهم. وهكذا يمتزج في الجاهلية وأثناء طفولة النبي وحتى ظهور دعوته تمجيد الشعر بتفخيم المدمنين، وتباع الملذات، أمثال امرئ القيس والمهلهل والأعشى وطرفة بن العبد ،
1
ولكن هؤلاء الركب المجد في السفر بين مرابط البدو ومساكن الحضر، كان لا بد لهم من أن يأنسوا ويمرحوا عندما تحط القافلة رحالها، فيستريحون في ظلال الأشجار الرطبة حيث يميل السكون على البطاح وتهيمن الطمأنينة على الوادي، ثم يتبادرون في إنشاد الشعر ورواية القصص الطريفة المسلية، فيجد الصغير السعيد محمد متعة وسرورا في الإصغاء إلى القصص بقدر ما ينفر من الشعر النابي. إن أخبار القرون الخالية تستهويه وكذلك حوادث الفروسية وتواريخ الحروب السالفة ونوادر العصور والأمم وسرد الأسفار التي تجشم مشقاتها رجال أصحاء الأجسام والعقول؛ فهذه نتف من تاريخ النبط والروم، وتلك أخرى من حياة الفرس والهنود، وأحدوثة ثالثة عن صنعاء عاصمة اليمن وما بها من آثار مجد طارف وتليد، أو أوصاف مصر وما فيها من آثار مجد قديم ونزاع طويل عميق بين آلهة فرعون وإله موسى الكليم، وفرار هذا النبي باليهود ... اليهود! ألم يقل بحيرا الراهب لأبي طالب وهو يبشره بمستقبل محمد: «ما أقول لك خيالا ولا حلما، بل هو الحق الذي لا ريب فيه، فاحفظ ابن أخيك من اليهود فإنهم قوم تعودوا أن يصمدوا للأنبياء ... ارجع بابن أخيك إلى بدلته واحذر عليه اليهود؛ فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغونه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم.»
لم تكن القصص التي ينصت إليها الطفل مقصورة على تاريخ الأمم السالفة، أو حروب الشعوب المعاصرة ، بل كان عمه وأبناء عمه يصفون له غارة الأحباش وحملة الفيل.
غير أن هذا الدور من الطفولة لم يكن مقصورا على سماع القصص والتلهي بالسياحة في كنف أبي طالب؛ فقد رعى محمد الغنم وهو صغير مع إخوته في الرضاع، وحتى بعد عودته وحضانة عمه لم يخلص من هذه الوظيفة اللازمة لمثله في سنه؛ فكان يجتاز البادية ويصعد في الجبال ثم يعود إلى مسكنه في المساء. وأية غرابة في هذه الوظيفة اللازمة لمثله؟! فقد عاش موسى وعيسى أمدا يرعيان الغنم في البادية وكانا من أزهد الناس في الدنيا. إن حياة الراعي ليست بدعا في الصحراء، ولكن لا بد منها للأنبياء والمرسلين. وقد عاش النبيون إبراهيم ويعقوب وأيوب وغيرهم بين الرعاة في شوامخ الجبال أو في بطون الوديان، وقد أرادت العناية أن يرعوا الغنم والأنعام، حتى إذا تم نضجهم وتفتحت مواهبهم أهلتهم لرعاية الإنسان، فالنبي قائد على كل حال، والقائد راع ومسئول عن رعيته وقيادته، فلا بد أن يمارسها من درجاتها الأولى حتى الوصول إلى القمة. وما زال شيوخ العرب في غير قريش الضالة المضللة يتسامرون بأخبار هؤلاء الأنبياء القادة الذين ساروا بالشعوب إلى الأغراض النبيلة السامية حتى بلغوا صميم الحياة المبدعة المنشئة، فلم يلقوا عقبة أو فارقا أو فاصلا أو حاجزا بين حياتهم الخاصة وبين تلك الحياة الكبرى التي تخترق العالم؛ لأنهم متصلون بعناصر الحياة والطبيعة.
منذ سمع محمد وهو صغير اسم اللات والعزى ويغوث ومناة وغيرها وهو يتساءل عنها في غيظ ونفور قيل إن وجهه امتقع حين أقسم عليه بحيرا ببعضها. وهكذا قيل عن إبراهيم، ولكن إبراهيم اعتدى عليها وحطمها؛ لأن أباه كان سادنها وصانعها، أما أبو طالب فلم يكن على شيء من الاتصال بمخدع الآلهة أو ذلك «البانتيون» العقيم. ولكن لعل محمدا سأل عمه فيما سأله: أتؤمن بهذه الحجارة يا عماه؟! ولعل أبا طالب بهت من هذا السؤال بعد الذي رآه من نفور الصبي منها.
وفي تلك السفرة الأولى رأى الفتى القرشي نبي المستقبل بلاد الشام وقراها ومزارعها ومصانعها ، وأنظمتها العامة والخاصة، ورأى كيف يعمل الناس جميعا ليعيش نفر منهم بعرق جبينه وكدح يمينه، ويتمتع آخرون بثمار الأرض ونفائس ما تعمله الأيدي وهم في دورهم قابعون، وكيف يعمل هذا لذاك في المجتمع ليتم نظامه ويحفظ قوامه، وكيف أن الظلم متغلغل في الحياة تغلغل السقم في البدن، وأن ظاهر الوجود المتحضر رحمة وباطنه نقمة، يخفي الفساد والإرهاق ويعلن الحنان والمحبة، وقد تمكن الدهاة من سادة البشر من إتقان الطلاء والتفنن في الصباغة بالألوان الزاهية، فإذا ما سقط الطلاء أو انجلى عن وجه الحقيقة المختفي وراءه تكشفت عن دمامة وعن شر عميق.
وقد كان القليل كافيا لتنوير الصبر، الذي اختاره الله لرسالته، فكان من ذوي العقول التي تكفيها الإشارة، وتقنع بالمثال، ولا تحتاج إلى التكرير والإعادة.
وفي تلك السياحة تدرب محمد على أساليب التجارة واطلع على أصناف البضاعة وضروب الأدوات والمواعين التي يتبادلها التجار، وكيف ينقل كل تاجر من بلده ما لا يكون في غيره ثم يحمل إلى بلده ما ليس فيه، وكيف ينتفع التجار والوسطاء من عمليات التبادل، وما يكون لهم من الفضل في خدمة الإنسانية وترقية الحضارة.
وقد امتلأ ذهن محمد في هذه السياحة التجارية من صنوف المعارف وأنواع التجارب، وفي درس كهذا من فوائد التربية العملية ما ليس في ألف درس من التربية الكتابية أو النظرية، كما أفاد من معاني الطبيعة وجمال الخلق لدى مرور القافلة بالأراضي المعشوشبة بين أشجار الرمان الدانية القطوف كثمار من الذهب اللامع في وهج الشمس، وأشجار الصفصاف وأغراس الورد والسهول إذ ذاك في بهاء ونضارة، والقرى في زهاء وازدهار. فما أعظم الفرق بينها وبين رمال الصحراء المحرقة ووديانها الجافة! وكان محمد في طفولته يرى الكعبة والأصنام ويجلس في ظل بيت الله مشمولا بحنان جده ورحمته، ولعله أدرك معاني هذه العبادة الوثنية، ولعل قلبه السليم قد نفره منها، وبغض إليه الطواف بها. ولعله نظر إليها نظرة عجب واستغراب، ورنا نحوها بعين الاستنكار، فلما كانت سياحته الأولى مع عمه إلى ربوع الشام مرت قافلتهم على البيع والصوامع والكنائس والأديرة؛ حيث يعبد الله على طرائق تخالف طريقة أهل مكة، وحيث ينقطع جماعة من الرجال عن المزاحمة في هذا الحطام الزائل، متوجهة نفوسهم إلى الوطن الأسمى الذي يليق بالروح التي تشعر وهي في البدن أنها غريبة عن ذلك الهيكل الجثماني، غير متطلعة نفوسهم، وغير ممتدة أيديهم إلى شيء من هذه الدنيا وما فيها، إلا إلى ما يقي البدن من جوع وعري فيشبعون بأقل الطعام ويكتسون بأبسط الثياب وينفقون على عيشتهم أبخس الأثمان، وهذا نوع من الرجال لم يره محمد الناشئ في بيئته التي كانت بيئة تجارة ونضال وحرب وعبادة أصنام ومباهاة بالأنساب، واستقسام بالأزلام ومعاقرة للخمر ومسامرة وغناء وقمار، واحتكام إلى القوة ومفاخرة بالشعر، واعتزاز بالآثام وحرية مطلقة في الشراب والطعام وتطاحن على المال واكتناز كل مرتخص وغال. وإن كان محمد قد رأى بحيرا حقا فقد رأى رجلا تجرد عن زخرف الدنيا وراح يلتمس سعادة الروح بتعذيب الجسد، أو على الأقل بحرمانه من معظم ما يشتهي، ورأى منه كرما يشبه كرم العرب؛ فقد زعموا أن بحيرا صنع في هذه المرة طعاما لقريش وقال في دعوتهم إليه: ما أحب أن يتخلف عنه صغير وكبير، عبد وحر!
وقد زعموا أيضا أن أبا طالب قال لبحيرا بأسلوب الصديق القديم: والله يا بحيرا إن لك لشأنا اليوم، ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟!
2
وفي الحق أن الأسطورة قد أفرغت في هذا القالب الخلاب؛ لتدل على رغبة بحيرا في مشاهدة الصبي وفحصه ومحادثته، وعندي أن هذا الراهب سواء كان جرجيوس أو بحيرا أو نسطور أو غيرهم، قد كان على حظ من الفراسة والكهانة، فلما رأى الغلام أدرك ما سوف يكون له من الشأن العظيم وأوصى أبا طالب بزيادة العناية به.
وسواء أعاد محمد على جناح السرعة في حراسة العبيد، تبعا لنصيحة الراهب الذي حذرهم عليه من اليهود، أم عاد مع عمه بالطريق المألوفة بعد أن أتم العم وأنجز تجارته؛ فقد عاد إلى مكة فتى جديدا وقد امتلأ ذهنه بالمناظر والآثار والأخبار، وترددت في نفسه آمال لم يكن يعرفها، وملكت عليه قلبه عواطف جميلة وجهت نظره نحو آفاق جديدة في الوجود؛ الجمال والحكمة والكفاح، الخير والمجد والحياة! •••
وإننا لنتصور شخصية محمد في ذلك العهد عهد الطفولة. لقد كان طفلا جميلا ذكيا، أميل إلى النحافة منه إلى البدانة، ذا عينين براقتين ولفتة يقظة، كأن روحه الأسمى يطل من وراء أجفانه التي كانت أقرب إلى الضيق منها إلى السعة، وله شعر مستفيض على كتفيه، تشع من شخصه تيارات قوية، وتخفيها للاحتفاظ بها وداعة نادرة حتى ليأنس إليه كل من يراه، وكان أميل إلى الصمت منه إلى الكلام، فلا ينطق إلا إذا فاضت عواطفه بما لا يستطيع كتمانه، كعاطفة الحب الشديد الذي كان يكنه لعمه عبد المطلب؛ ألم تر كيف تعلق به لما أراد المضي إلى الشام وخرج أهله إلى وداعه وأقبل على الصغير العزيز يضمه إلى صدره، فابتسم الطفل وهو يحتبس دموعه الغالية ويقول له: يا عم، إلى من تكلني؟! لا أب لي ولا أم! كان أبو طالب رقيق القلب كبير النفس فوق رابطة الدم؛ ولذا كان كلما احتضن الطفل محمدا، اغرورقت عيناه بالدموع ولا سيما إذا حدق في ملامحه فيرى في صورته شمس حياة جديدة، ويلمح في نضرة جبينه وبريق عينيه نضرة جبينه في فتوته وصورة والده عبد المطلب، وفي نغمات ضحكه مرح شبابه الذي ودعه. لقد كان يتم محمد روعة في قلب ذلك الكهل الجليل. لقد جعل النبي العربي أجرا للوالد البار الذي ينهض في سواد الليل يتفقد أولاده في نومهم فينشر الغطاء على هذا ويعدل من فراش ذاك، وإن هذا الأجر ليربى على غيره؛ فقد كان أبو طالب يغادر فراشه والكرى العميق يطوي في سكونه أحلام بنيه فيدلف إلى حجرة الطفل في كثير من الرفق والتؤدة حتى إذا ألفاه نائما راح يرسل نظراته إلى وجهه وجسمه الصغير وهو يذوب حنانا وعطفا، ثم يعود إلى مرقده وكل خطوة يخطوها تنم عن حدب وحب وإكبار حيال تلك الوداعة الراقدة التي تظل جبينه والنور الرباني الذي يملأ وجهه. ولم يكن أبو طالب هو البادئ بذلك الحب، بل ورثه عن والده عبد المطلب الذي كان شديد الكلف بحفيده يرعاه في المسجد ويخدمه في الدار ويناغيه في السوق ويداعبه في الطريق وهو يحمله، وقد أتقن الجد فن الأبوة الجميل الكامل.
ولعل جمال محمد
صلى الله عليه وسلم
في طفولته كان من أعظم أسباب حمايته؛ فقد كان أهل الخير يتعلقون به وأهل الشر يهابونه، وقد صحبته تلك النعمة طوال الحياة وقد نمت حتى صار تعلق الناس به جلالا ورهبة يمازجهما التقدير والحب، فما كانت أعذب نظراته طفلا وأقواها رجلا وأعمقها كهلا! صباحة وسماحة وصفاء وعذوبة؛ تلك كانت صفات محمد صغيرا عندما اصطحبه عمه أبو طالب إلى الشام.
في هذه السن الصغيرة الناعمة يقول المؤرخون إن الله أنعم على الراهب بحيرا بلقائه وسماع صوته ودعوته إلى طعامه. وإن كان هذا حقا فقد كان حظا لبحيرا عظيما. قيل إن حديثا دار بين النبي الناشئ والراهب المسيحي الراحل، ونحن لا نستبعد حدوث الحوار؛ فقد كان محمد من أفصح خلق الله، كما دلت واقعات المستقبل، والطفل والد الرجل! ولم يكن به ما يعوقه عن إدراك السؤال وسرعة الجواب. قيل إن بحيرا أقسم عليه باللات والعزى إلا ما أخبره عما يسأله عنه، لا لأن بحيرا يؤمن بهذين الوثنين الآفنين الآفلين، ولكن لظنه أن محمدا يؤمن بهما، فحدجه الطفل طويلا وقال له هادئا: لا تسألني باللات والعزى؛ فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. يحدثنا ابن إسحاق بهذا وهو خبر غريب، فلم يكن محمد في حداثة سنه ليدرك الفرق بين الوثنية والتوحيد، وإن كان اسم الله معروفا له وهو الذي نسب والده إلى عبوديته. وكان هذا الجواب جديرا بأن يلفت نظر الراهب ويقنعه بصدق فراسته، أو ما جاء في الكتب القديمة عن نبي التوحيد، ولعل محمدا لو كان مميزا لا ينطق بهذا في حضرة عمه وبقية الركب من أهل قريش، وكلهم يمجدون اللات والعزى ويعبدونها. ولعل بحيرا سأل الطفل عن أشياء من حاله ونومه ويقظته ومولده، ثم قال لأبي طالب: إن ابن أخيك هذا يكون نبيا. فدهش العم وسأل الراهب: وما النبي يا بحيرا؟!
فقال: هو الذي يوحى إليه من السماء فينبئ به أهل الأرض. فذعر أبو طالب وهو الذي قال له أبوه عبد المطلب وهو يوصيه بالطفل خيرا: إن لابن أخيك هذا شأنا. لم يذعر أبو طالب وحسب، بل أخذته رعدة، وكأن هذا الهاشمي النبيل قد حدث له في لمحة عين ما يحدث أحيانا في التاريخ عندما يشرف العقل بدهشة وحماسة على حقيقة باهرة، فيكشف له عن سير الحوادث المقبلة ليرى أن ما يشهده بداية لحوادث كبرى سينشر الدهر ما انطوى منها في ثنايا الوجود، ولعل هذه الرعدة هي التي درعت نفس أبي طالب في مستقبل الأيام حيال هجمات قريش على ابن أخيه، فحرص عليه وأمسك عليه بالنواجذ واستهان بالفقر والنفي والموت في سبيله إلى أن أدركته الوفاة. ولعل هذه الرعدة هي التي أورثها عليا أبوه فصار أشد تعلقا بابن عمه منه بوالديه وأحب الناس إليه، وهي التي ربطت بين قلبي العم وابن أخيه حتى وصف عام وفاة العم ووفاة خديجة بعام الحزن. ولو علم أبو طالب في تلك اللحظة أن محمدا لن يكون نبيا وحسب، بل نبي ورسول ومبشر ونذير ورحمة للعالمين، فلشد ما كانت تكون رعدته! وإن بعض هذا لكاف باقتناعه بعظم شأن الطفل. ولعل بحيرا حاول تقريب الأمر إلى ذهن محدثه القرشي فقال له: إنه سيكون عظيما في إحسانه إلى الناس، قويا في جلب الخير ومكافحة الشر، داعيا إلى دين ليس بالجديد وليس بالقديم، ولكنه ينطوي على عقيدة تصقل الأذهان والنفوس فلا تضيء إلا لفهم الحقيقة والفضيلة والصدق والوفاء والأمانة وعفة الرجال وصون النساء وإقامة العدل والقضاء على الوثنية التي غمرت العقول بظلماتها، ويكون من أتباعه من يحملون القيثارة التي تطرب أنغامها الإنسانية الفاضلة في المستقبل بعد أن يكونوا قد حملوا السيف الذي يطهر الأرض من أدرانها. ولكن هذه البشرى لم تكن لتطمئن أبا طالب ما دام أبو طالب لا يضمن حياته ليوفر له سعادته ويصحبه إلى ظهوره. ولكن بحيرا الذي قرأ التوراة والإنجيل وكتبا أخرى يصفونها بأنها كتب الحكمة القديمة، كان يعلم علم اليقين أن الأنبياء الذين تقدموا محمدا عاشوا أيتاما أو في حكم اليتيم. ولكن العالم على رحبه وامتداده ما لبث أن أصبح أسرة لهؤلاء الذين مشوا في الظلام حينا ليطلوا على النور، ولكن أبو طالب لم يكن من قراء الأسفار ولم يعنه يوما زبور داود ولا إنجيل يوحنا ولا نبوءات بني إسرائيل، ليرى ويقنع بأن الأنبياء والمرسلين لا يلقون في طريقهم تلك العقبات التي تفصل بين تكوينهم الإلهي وبين القوة الروحية التي تخترق الكون؛ فهم مثال الانسجام حيال الطبيعة كأنهم جزء منها، وكأن الطبيعة بعض مشاعرهم وإدراكهم؛ فقد انطوى فيهم العالم الأكبر منذ مولدهم إلى آخر يوم في وجودهم الأرضي.
وقد تمر بذهن بحيرا مرور البرق صور إبراهيم ويوسف وموسى وعيسى، وقد عاشوا في بداية أمرهم مروعين مضطهدين، ثم ما لبثوا أن انسجموا وانتصروا بقوة الحب والنور.
لقد كان نصيب بعض الأنبياء من الفوز والغلبة ضئيلا، فلم يسودوا حتى شعوبهم، ومنهم من فتكوا به وقتلوه، أو أرغموه على الفرار من بيته بليل، لا ليعود أبدا، إلا هذا الفتى الساهم الحالم الوادع المتواضع المطيع؛ فسوف يدين له العرب ويملك الروم والعجم.
قيل إن بحيرا حذر أبا طالب من اليهود. ولكنه تحذير مبهم غامض ولا شأن له في ذهن أبي طالب في تلك اللحظة؛ فلم يكن في مكة يهود ولم يكن لليهود في العالم دولة، وإن كانوا ذوي قوة وبأس وسلطان في يثرب وفي صنعاء، ولكن أنى لواحد من هؤلاء الأعداء البعيدين أن يصل إلى مكة أو إلى بيت أبي طالب لينال من ابن أخيه الذي لا يزال طفلا؟ ومن منهم يصل إلى رؤية خاتم النبوة بين منكبيه وهو الذي رآه بحيرا أثناء فحصه ومحادثته؟ إن أبا طالب يحمي ابن أخيه الذي يعيش تحت كنفه وفي ظلال رعايته وفي قدرته أن يرد عنه عادية اليهود بسيفه، كما يرد عنه عادية قريش، ولكن ذلك كله كان في حنايا المستقبل البعيد، سوف تمضي ثلاثون أو أربعون سنة كاملة قبل أن يصير هذا الإنذار حقيقة واقعة.
ولم لا يكون بحيرا صادقا؟ ولم لا يشغل باله بما ثبت في التوراة والإنجيل من التبشير بنبي جديد يظهر في جزيرة العرب بالتلميح تارة وبالتصريح مرات متعددة؟ ولم لا يرى بحيرا في الطفل تلك العلامات الواضحة التي تتفق ووصف الرسول المرتقب؟ ألم يكن العالم كله متطلعا إلى نور الآفاق المبعوث لإقامة الحق وإتمام مكارم الأخلاق، ما عدا قبيلة قريش وقرية مكة اللتين أسدل القدر على بصرهما وبصيرتهما غشاوة سمكها كالحجارة والأخشاب التي يعبدونها؟!
وها هو أبو طالب يرجع بذاكرته إلى عشرة أعوام؛ ليلة أن ولد ذلك الصغير، ألم تفرح به العشيرة كلها حتى غلب فرحهم به حزنهم على أبيه؟ حتى أبي لهب الأحول الأحمر الأعرج «عدو الشمس» وعدو الله ورسوله - وإن يكن عمه - فقد خرج ليلة مولده وأعتق جاريته ثويبة التي بشرته بمحمد وسمح لها بإرضاعه أياما إلى أن يفيض لبن أمه.
أخذ أبو طالب يذكر ذلك اليوم الذي ولد فيه محمد وكانت مكة كلها، بل جزيرة العرب، مذعورة مروعة لغارة الأحباش الذين تجمعوا بجيوشهم لهدم الكعبة، وكيف هرع سادة قريش إلى بيت الله ضارعين متوسلين وأبرهة يقود جحافله وفيله، ثم كانت هزيمته وارتداده وهلاك جيشه، فكان نصرا مؤزرا وإن يكن سلبيا لم تهرق فيه دماء العرب غير ما أهريق من دماء الجواسيس الذين قادوا أبرهة إلى المدينة المقدسة. وصادف ذلك مولد محمد؛ فهو بشرى النصر، وبداية الظهور، وعلامة صادقة لحماية البيت إلى آخر الدهر. وإذن لم تخطئ الكتب القديمة ولا حكمة المتنبئين التي دلت بحيرا وكشفت له القناع عن المستقبل؛ فهذا النصر الذي أدركته قريش يوم مولده أو حواليه أقطع في الإثبات من كل شيء؛ ففيه أخذ نجم هذا الطفل يتألق في آفاق جزيرة العرب. هذه بشرى أوضح وأقوى من كل ما عداها من البشريات، ولا تزال في ذهن أبي طالب ماثلة، ولم يمت أبوه عبد المطلب الذي قام بواجبه في مفاوضة أبرهة إلا منذ عامين، وزادت مكانة محمد في عين عمه رفعة؛ فقد كان أبو طالب يرعاه للماضي وللذكرى؛ أما الآن فهو يرعاه للمستقبل وللمجد. عواطف رحيمة جياشة لا يشوبها الطمع في خير أو الخوف من شر، وإننا لنراه بعين الذهن وقد أقبل على الطفل يضمه إلى صدره ويقبله، ويروي ابن عساكر في تاريخه (ج1، ص253) أنه سأل محمدا: ألا تسمع يا ابن أخي ما يقول «الراهب»؟! فأجاب الطفل: أي عم، لا تنكر لله قدرته! •••
أما بحيرا ذلك الراهب الصالح فلعله كان يتحرق على ذبول حياته وهبوب ريح الفناء على شيخوخته التي أذنت بالمغيب؛ فلن يدرك نبوة هذا الفتى ولن يستمتع بالخير والنعمة اللذين يفيآن على أول من اكتشفه وبشر به حقا وهو يراه أمامه لحما ودما، كما يتحرق بعد ذلك بثلاثين عاما ورقة بن نوفل عندما رآه وسمع روايته في رؤية الملك فقال له: هذا هو الناموس الذي نزل على موسى، ليتني أدركه فأكون من تابعيه! أما قولهم إن بحيرا آمن به وبرسالته فليس في حدود المنطق أن يكون قد وقع، وإن يكن قد قيل، فمن الأزهار التي تزين مأدبة التاريخ وهي كثيرة ومختلفة ألوانها وعطورها!
لم تكن سياحة محمد في طفولته إلى ربوع الشام في كنف عمه أبي طالب الأولى والأخيرة. وسوف يشد رحاله مرة أخرى في رجولته الناضجة إلى تلك المدائن؛ ليستمتع مرة أخرى بجمالها وآثارها؛ ولذا تراه لما توارت أشباح المدن المتحضرة وراء الرمال وتوغلت القوافل في صحراء الجزيرة ظلت عيناه ناظرتين إلى الأفق، فتتبعته نظرات عمه الحنون، وتذكر بشرى الراهب فأدرك في لمحة عين بفطنته الأصيلة الموروثة عن آبائه وأجداده النبلاء من بني هاشم أن الصحراء بدأت تنتعش وأن روحا علويا قدسيا أخذ يشرق في نواحيها منذ ولد هذا الطفل العظيم ووطئت رمالها أقدامه.
ولم تكن روح محمد وإدراكه بأقل من روح إبراهيم وموسى؛ فصدف عن عبادة الأصنام في طفولته وفتوته وصباه كما صدف هذان النبيان، وجفا مخادعها فلم يدن منها ولم يستمدها قوة ولم يعرها احتراما، ولم يخدع بها ولم يستدرجه شيء من عبادة قومه إياها شبانا وشيبا، رجالا ونساء. ولم يكن محمد في صباه وفتوته بحاجة إلى البحث عن الحقيقة في أعماق نفسه، حتى إذا تراءت له اطمأن إليها ورأى في حلاوتها ونورها سلام نفسه وسلام العالم؛ لأن هذا البحث بعيد عن مثله، أو مخالف لطبيعته وتكوين فطرته، بل لأن هذه الحقيقة سوف توحى إليه كاملة في موعد محدد، وهذا الوحي مربوط بوقته، فلا يستعجله أحد ولا تستقدمه الحوادث.
غير أن شيئا واحدا كان محتوما وأن ينصب لأجل تمامه شخص ممتاز لا يستهان بقوته وخلقه ونفوذه كأبي طالب، وهذا الأمر المحتوم، أن تسلم طفولته
صلى الله عليه وسلم
وفتوته وشبابه من خبائث الجاهلية ومفاتن الشرور في القرية المكية، لتظل نفسه على صفائها وطهارتها ونقائها ونضارتها إلى أن تستتم نضجها فتخرج من عزلتها إلى العالم حاملة إليه دين العصر الحديث وفضائله ومبادئه.
حرب الفجار
في السنة الأولى من مولده
صلى الله عليه وسلم
صدت مهاجمة الأحباش وردت حملتهم عن مكة وكعبتها.
وفي السنين الأولى من عمره مات أبوه وأمه وجده وكفله عمه، وفي العاشرة اصطحبه عمه إلى مشارف الشام ومدنه، ولدى عودتهما تغير نظر أبي طالب في الحياة وازداد حرصا على ابن أخيه الذي صار أعز عليه من ولده. وانتهت فترة رعي الغنم أو كادت، فأخذ محمد
صلى الله عليه وسلم
يتدرب على الرماية وضرب السيف والرمح، وغيرها من وسائل الحرب، فلم يكن عربي ليستطيع العيش دون أن يحذق تلك الصنعة. وحسنا فعل أبو طالب؛ إذ كان يدرب صغيره على ضرب النبال وشحذ السهام وتصويب الأهداف والرمي عن القوس. ولم يكن ذلك التدريب عبثا؛ فقد كانت حرب الفجار
1
تكاد تشتعل نارها، وهي إحدى معارك الجاهلية التي دارت رحاها في الصحراء بين القبائل.
ولم تكن قبيلة قريش لتنجو من خوض غمارها، ولم يكن أهل مكة ليدفعوا عن أنفسهم عار المذلة، أو معرة الغدر دون أن يصطلوا بنارها.
وكان محمد قد ترعرع ونما واستهل العام التاسع عشر، فشهد تلك الحرب التي دامت خمسة أيام: يوم نخلة، ويوم سمطة، ويوم العبلاء، ويوم عكاظ، ويوم الحريرة.
وقد شهد محمد الأيام الأربعة الأخيرة من هذه الحرب وفاته اليوم الأول. ولم يشهدها من بني هاشم غير أبي طالب والزبير وحمزة والعباس وهما من أولاد عبد المطلب.
وكان محمد يساهم في الحرب فيناول عمه وأهله النبال. وكان حمزة أكثر انهماكا في الحرب وإن كانت سنهما واحدة؛ فقد ولدا معا في سنة 570 ميلاديا. وقال محمد بعد ذلك: «ما سرني أني لم أشهده، إنهم تعدوا على قومي، عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبوا.» وقد سر محمد بمشاركته وقومه في تلك المعركة الجاهلية، كما سر بعد ذلك بحلف الفضول، وفي كل منهما مظهر جميل لعبد الله بن جدعان.
لم تشذ حرب الفجار عن غيرها من حروب الجاهلية وثاراتها؛ فإنه في سنة تسع وثمانين وخمسماية نزل البراض بن قيس أرض بني الديل، وكان سكيرا فاسقا خلعه قومه، وليس هذا الشخص مجهولا لدى القارئ؛ فقد ذكرناه من قبل (في الكتاب الثاني، فصل: المجتمع الجاهلي في ضوء المباحث العلمية الحديثة) وسبب براءة قومه منه، فلما فسق في بني الديل خلعوه وأقصوه فلم يلق أرحب صدرا من قريش، ولا أقدر على حمايته من حرب بن أمية، ولا أفسح مجالا لمجانته وعبثه من مكة، فقبله حرب وحالفه وأحسن جواره، ولكن البراض كان عربيدا مدمنا لا يرعوي ولا يتوب ولا يتستر، فشرب بمكة وتهتك حتى توعده حرب بن أمية أن يخلعه ويقصيه، وكان ذلك السكير ماكرا فاحتال على حرب قائلا: إنه لم يبق أحد ممن يعرفني سواك! فإن خلعتني لم ينظر أحد إلي بعدك، فدعني على حلفك وأنا خارج عنك. فانطلت على حرب هذه الحيلة وآثر الصمت على الفضيحة، وتركه العربيد وخرج ولحق بالنعمان بن المنذر ملك العراق وأحد ملوك غسان في أواخر عهدهم وولي الحكم في أواخر القرن السادس الميلادي.
2
كان البراض مغامرا فاجرا، وقد أطمعته ثروة النعمان وأغرته لطيمته، فأمل أن يكل إليه النعمان خدمته أو وكالة ملكية ترد إليه اعتباره وتغنيه وتعيد إليه شيئا من كرامته في نظر حرب بن أمية الذي حماه وأجاره؛ لأن النعمان كان يتجر كل عام في جزيرة العرب فيبعث في ذي القعدة إلى سوق عكاظ بلطيمة يجيزها له سيد مضر فتباع بضاعته ويشترى له بثمنها الأدم والحرير والبرود والوشي - نوع من المقايضة النقدية يتفق وعادة التجارة في زمنه. وعكاظ تلك السوق الآهلة المهولة التي كانت معرضا شبه دولي تعقد - ولا تزال قائمة - من ذي القعدة إلى أول موسم الحج.
فلما أعد النعمان لطيمته في تلك السنة (589م)، كان البراض قد وجد طريقه إلى القصر وصار من جلساء الملك بما له من الجرأة والفجر وقوة الإرادة في الشر، فقال الملك: من يجيز هذه اللطيمة ويحميها؟ أجاب البراض: أنا أجيزها على بني كنانة، قال الملك: إنما أريد رجلا يجيزها على أهل نجد، فانبرى عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب - وهو حينئذ رجل هوازن - وقال: أنا أجيزها أبيت اللعن!
فغضب البراض ولحقه الغيظ ورأى في كلام عروة تعرضا له واستخفافا بشأنه ومصادرة له في رزقه وربحه وقطعا لعلاقته بالملك، وتفويتا للفرصة التي كان يرقبها ويرجو من ورائها أن يسترد اعتباره وكرامته. فلما تجمعت لديه كل تلك الدواعي قال لعروة: أتجيزها يا عروة؟! قال: نعم، وعلى الناس جميعا! أفكلب خليع يجيزها؟!
فكلف النعمان عروة بإجازة اللطيمة فتبعه البراض واقتفى أثره، وعروة يراه ولا يخشاه، وكان البراض العربيد الغادر المجرم العائد الذي جمع بين الخلاعة والفتك يتربص بعروة الدوائر وينتظر الفرصة لينتهزها ليقضي على الرجل الذي تعرض له واختطف رزقه وربحه وكرامته. ولكن عروة كان يسخر من متابعة البراض إياه، ولا يكترث له ولا يحتاط بحرس أو غيره، حتى إذا كان بين ظهري غطفان إلى جانب فدك بأرض يقال لها أواره، قريب من وادي تيماء، نام عروة في ظل شجرة، ووجد البراض غفلته فقتله وهرب باللطيمة.
إن الذي وقع بعد الجريمة والفرار يهم تاريخ النبوة المحمدية؛ لأنه يلقي أشعة هادية على معقولية العرب وحيلتهم ومبادئهم وتقاليدهم ومدى اتساع أفكارهم وأفعالهم، وكانت هذه الواقعات وما سبقها وصحبها وتلاها مجالا للسياسة والحرب، وقد فهمها النبي ووقف عليها وكان له فيها رأي ومشاركة قبل بلوغ العشرين، في ذلك الشباب الحافل بالحوادث. وكانت حرب الفجار التي دارت رحاها بين القبائل ميدانا للدرس والاعتبار. إن الرجل الذي وصفه عروة الرحال بالكلب الخليع، كان خليعا حقا، ولكنه لم يكن على كل حال كلبا، كان غادرا؛ إذ قتل عروة نائما غير محترس، وكان طريدا شريدا عربيدا، ولكنه لم يكن كلبا.
لقد طلب البراض إلى حرب بن أمية أن يحميه وأن لا يفضحه ففعل، فلم يجحد البراض هذا الجميل، فكان أول فعله بعد القتل والسرقة أن بعث برسول مأجور أجرا غاليا إلى حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وهشام والوليد ابني المغيرة ليخبرهم أنه قتل عروة، وهو يحذر هؤلاء السادة من قريش لئلا يسبق الخبر إلى قيس وهم أهل عروة الرحال فيكتموه حتى يقتلوا واحدا من هؤلاء السادة القرشيين؛ لأن حرب بن أمية ما زال حاميا للبراض ومجيره. وقد أحسن البراض اختيار الرسول فهو بشر بن حارم؛ لأنه من قريش ويغار على قومه ولا سيما العظماء منهم. فلما قبض القلائص وهي أجره الغالي على اللحاق بالعظماء لتحذيرهم قبل أن يفتك بهم أهل عروة سأل البراض: وما يؤمنك أن تكون أنت ذلك القتيل؟!
وهنا يتجلى العربيد في ثوب من الفطنة والتواضع ويدل على أنه من الذكاء بحيث يعرف قدر نفسه، قال يرد على سؤال بشر بن حارم: إن هوازن لا ترضى أن تقتل بسيدها (يعني عروة الرحال) رجلا خليعا طريدا من بني ضمرة. إن ولاء البراض لقريش، ومبادرته إلى تحذيرهم لدفع السوء عنهم ومعرفته قدر نفسه وأن هوازن يخطئونه قصدا؛ ليصيبوا رأسا كبيرا؛ لدليل على أنه لم يكن كلبا كما سبه عروة الرحال. وقد شهد حديث البراض وبشر شاهد من قريش هو الحيس بن يزيد أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذ سيد الأحابيش، فأخبراه الخبر ثم ارتحلوا وكتموا النبأ على اتفاق منهم.
كل هذه الحوادث كانت تحاك بين القبائل، ومحمد
صلى الله عليه وسلم
في أواخر العقد الثاني، وهي تعطي صورة جيدة من حياة ذلك الشعب الغارق في الغزو والقتل والثأر، والسلب والحيلة والحرب. وقد اتخذ كل رجل منهم إلهه هواه، ووضع لنفسه قانونا يسير بمقتضاه، ويرغم الآخرين على اتباعه، لا يرعى من الحقوق إلا ما كان فيه نفعه، أو يرى فيه عدلا ينطبق على دخيلة نفسه ... نفوس طليقة لا يقيدها إلا الشهوة والصالح الخاص، وأعمار مهددة لا يحددها إلا الأحقاد، وأخلاق مفككة لا يردها إلى روابط المجتمع سوى الخوف من الفضيحة بين الأمم.
ينتقل بنا سير الحوادث إلى مسرح آخر بعد انفصال الفرسان الثلاثة: البراض وبشر بن حارم والحيس بن يزيد.
كان البراض من بني ضمرة، وبشر من بني كنانة، والحيس من بني الحارث وقد تواطئوا على تحذير سادة قريش، فانتقل الملعب السياسي إلى فرسان ثلاثة آخرين من صميم قريش، هم: عبد الله بن جدعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة. أما حرب فقد عرفناه وهو حامي البراض ومجيره، وهو إذ ذاك من زعماء قريش، وهو والد أبي سفيان بن حرب وجد معاوية ورأس عشيرة بني أمية وعبد شمس، وكان عبد الله بن جدعان سيدا حكيما مثريا من المال، واختلف المؤرخون في مصادر ثروته ولكنه من ذوي الفضل في حلف الفضول الذي أعجب به الرسول، وكان في قريش موضع أمانة ووفاء كما كان السموأل في يهود. وكان العرب إذا قدمت سوق عكاظ دفعت أسلحتها إلى عبد الله حتى يفرغوا من أسواقهم ثم يردها عليهم إذا ظعنوا. ولعله جعل من بعض بيوته مخزنا ومستودعا للسلاح يتقاضى على حفظه وتخزينه أجرا يضيف إلى ثروته، فإن سلاح القبائل يبقى في حيازته شهرا أو أكثر مصونا منسقا معينا بمفرداته، لا بد أن يكلفه مالا ينفق على حظفه والأمكنة التي يحرس فيها أشبه الأماكن بما يسمى في عصرنا هذا
Consigne
أي مستودع الأمتعة التي يتركها المسافر لدى وصوله عن طريق السكة الحديد أو في الميناء. ويخطئ من يظن أن عبد الله بن جدعان كان يصنع هذا مجانا؛ فقد عرف عرب الجاهلية بعض قواعد القانون وتعاملوا بها، ولم يكن التزام ابن جدعان برد السلاح أو تعويض ثمنه في حالة فقده ليصح ما لم يكن بينه وبين المودع عقد وديعة ولو مشافهة، وأن إيداع السلاح كان إجباريا؛ خشية الحرب في الأشهر الحرم التي تسبق الحق وتصحبه. وإنك لا تجد في كتب التاريخ القديم ما يدل على أن عبد الله بن جدعان كان يتقاضى أجرا (الأغاني ، ج19، ص73-83)؛ لأن العرب لا يذكرون ذلك ويحبون أن ينسبوا هذه الأعمال إلى فضيلتي الأمانة والوفاء، مع أن أهل مكة كانوا من أكبر النفعيين في جاهليتهم. وعلى كل حال فإن حرب بن أمية والد أبي سفيان وجد معاوية ومجير البراض ورأس العشيرة التي ناصبت بني هاشم أشد العداء، جاء إلى عبد الله بن جدعان - الذي ما زال في نظرنا نظيفا - فقال له: «احتبس قبلك سلاح هوازن.» إن حرب بن أمية كان يخشى على حياته؛ لأنه حامي البراض وينتظر أن تقصد إليه هوازن لتقتله في رجلها عروة كما تكهن البراض؛ فأول ما يفكر فيه احتباس سلاح تلك القبيلة حتى لا يتمكن أحد من مهاجمته، ولسنا نحن الذين ننسب الغدر إلى هذه العشيرة، بل ينسبه إليها عبد الله بن جدعان وهو معاصر وسيد وحكيم، أجاب حربا: أبالغدر تأمرني يا حرب؟! والله لو أعلم أن لا يبقى منها سيف إلا ضربت به ما أمسكت منها شيئا!
ولكن حربا كان ينتظر الحرب فعلا، ولعله لم يطلع عبد الله بن جدعان على حقيقة الأمر، وفي ظني أن عبد الله لو علم ورأى الخطر ما تردد في رد الوديعة وقد صرح بذلك وأتبع التصريح بالصياح في الناس: «من كان له قبلي سلاح فليأت وليأخذه!» فأخذ الناس أسلحتهم وسار الفرسان الثلاثة من قريش راجعين إلى مكة من عكاظ، وكان قيامها فيما بين النخلة والطائف عشرة أميال، وبها نخل وأموال لثقيف.
ولم يفت فرسان قريش الثلاثة (حرب وعبد الله وهشام) أن يبعثوا إلى أبي براء - وهو أول من يهمه الطلب بدم عروة الرحال - رسالة غامضة جاء فيها: إنه قد كانت بعد خروجنا حرب وقد خفنا تفاقم الأمر، فلا تنكروا خروجنا.
وكان خروجهم من عكاظ غريبا ... فلما كان آخر النهار نعي عروة إلى أبي براء وأن الذي اغتاله البراض، فقال: خدعني حرب وابن جدعان!
وقد أخطأ في نسب الخديعة لابن جدعان حقا؛ لأنه لولا عبد الله بن جدعان ما وصل سلاح هوازن إلى أيديهم.
وركب أبو براء فيمن حضر عكاظ من هوازن في أثر حرب وعبد الله، وهشام والوليد ابني المغيرة وغيرهم، فأدركوهم بنخلة فاقتتلوا (وقد سمي هذا اليوم الأول بيوم نخلة، وهو الذي لم يشهده النبي لأن نبأ المعركة لم يصل إلى مكة) حتى دخلت قريش الحرم وجن عليهم الليل فكفوا.
لم يكن يوم نخلة مناوشة أو ملاحقة، بل كان معركة حامية بين جيشين، جيش قريش وجيش هوازن، وكان حرب بن أمية في القلب، وابن جدعان وهشام بن المغيرة على الجناحين (المجنبتين) عن قريش، وكانت راية قصي بن كلاب التي يقال لها العقاب مع حرب بن أمية (حامل العلم)، أما هوازن فقد كان قادتهم ملاعب الأسنة عامر بن مالك وكدام بن عمير والصمة بن الحارث (والد الشاعر الجاهلي المشهور) فلما بلغ القتال سواد الليل ودخول قريش نطاق الحرم، نادى الأدرم بن شعيب أحد بني عامر من فريق قيس وهوازن: «يا معشر قريش، ميعاد ما بيننا هذه الليلة من العام المقبل!»
ثم كان اليوم الثاني من حرب الفجار وهو يوم سمطة، وتجمعت كنانة وقريش بأسرها وبنو عبد مناة والأحابيش، وأعطت قريش رءوس القبائل أسلحة تامة وأداة كاملة، وكان على بني هاشم وعبد المطلب الزبير بن عبد المطلب وأخوه أبو طالب وعبد يزيد بن هشام ومعهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهو ابن سبع عشرة سنة، وعلى عبد شمس حرب بن أمية ومعه أخوه، وعلى بني تيم ابن مرة وعبد الله بن جدعان.
وقد سبقت هوازن قريشا فنزلت سمطة من عكاظ بخيلها ورجلها ودارت رحى القتال من أول النهار إلى آخره.
وكان محمد بن عبد الله لا يصير في فئة إلا هزم من يحاذيها، فرمقه زعيما قريش حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وكانا يعرفانه ويعلمان شرفه ونسبه وشجاعة جده ووالده وأعمامه، وقد بهرهما إقدامه وحسن حظه وعلو نجمه وصعود سعده فقالا: ألا ترون إلى هذا الغلام، ما يحمل على فئة إلا انهزمت (الأغاني، ج19، ص87)، وكان هذا المظهر الأول لمحمد
صلى الله عليه وسلم
في ميدان الوغى، وكان كل من جاوره يربح وينتصر.
وها هي نبوءة الراهب بحيرا بدأت تتحقق بعد خمس سنين أو ست من تاريخ التصريح بها.
وتوالت أيام الفجار إلى تمامها يوم الحريرة حتى عرض عتبة بن ربيعة الصلح على قريش بشروط حسنة مشرفة لها فقبلتها. ولم يشهد حرب الفجار من بني هاشم غير أسرة النبي وأقاربه الأقربين أبي طالب والزبير وحمزة والعباس ابني عبد المطلب.
وكانت نظرية الرسول في هذه الحرب أن الحق في جانب قريش؛ لأن هوازن وقيسا تعدوا على قومه وعرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبوا، فإلى هذا المدى كانت غاية الجوار والحماية والمحالفة ولو بغير إخاء والانتساب إلى الزعماء، وقد تحمل حرب بن أمية تبعة حرب دامت خمس سنين بعداء متصل بين القبائل؛ لأنه أبى أن يخلع البراض فقتل من أهله ومن قريش أخوه أبو سفيان بن أمية، كما قتل العوام بن خويلد وحزام بن خويلد (وهما أخوا خديجة بنت خويلد أول أزواج الرسول) ومعمر بن حبيب، وجرح حرب نفسه جرحا شديدا.
وقد تهمنا هذه الحرب بعض الشيء بأنها إحدى الحروب الثابتة التاريخ في الجاهلية، وفيها الكثير من مشاكل القانون الدولي والقبلي والجرائم السياسية التي تؤدي إلى قطع العلائق بين القبائل، ثم إلى الحرب، وتصف لنا طرائق الهدنة وبداية المفاوضات للصلح ونظام الرهائن وأثر صلة الأرحام في الحرب والسلم.
وإن جريمة البراض الشهيرة في التاريخ العربي لتهمنا؛ لأنها سببت عن طريق غير مباشرة حضور الرسول تلك الحرب الأولى، التي أعجب فيها حرب بن أمية بمهارته وحسن حظه. ولو أشرفت نفس حرب على المستقبل لرأى الحروب الدامية التي سوف يفوز فيها هذا الذي سماه «غلاما» على أولاده وأحفاده وجميع عشيرته، لقد حارب محمد في صف بني أمية هو وعمومته من بني هاشم وما زال ينصرهم ويصفهم بأنهم قومه، إلى أن تغير محور الحوادث وصار أبو سفيان بن حرب هذا يؤلب عليه القبائل والأمم والملوك. •••
لقد تدرب محمد بن عبد الله في معارك الفجار على طرق الحرب ووسائلها، وكان وجوده في فئة سببا لانتصارها وانهزام من يحاذيها، كما أقر بذلك حرب بن أمية في حديثه لعبد الله بن جدعان يوم السمطة - وهو الثاني من أيام تلك الحرب - فكان النصر حليفه دائما، وكان يحارب في صفوف عبد شمس أعداء عشيرته الألداء من قديم الزمان. وفي الأخبار أن سنه كان تسع عشرة سنة أو سبع عشرة سنة، وعلى كل حال فهي سن النضج الحربي واستهلال الرجولة الكاملة التي كان يدرج في النمو إليها بعقله وجسمه وخلقه؛ فمن اليتم والرضاع إلى سياحته في كفالة أمه إلى قبر أبيه في تلك المدينة التي سوف يحكمها ويملكها وينشر منها أنوار شريعته، ثم حضانة جده الكفيف بطل المفاوضة مع أصحاب الفيل، فكفالة عمه فالتنقل بين البادية والحاضرة في رحلته إلى الشام ولقاء الراهب بحيرا، فحرب الفجار التي أبلى فيها بلاء حسنا.
عبد الله بن جدعان
كان عبد الله بن جدعان من بني تيم، وكان لماله وقوته ما جعل بني تيم في حياته كأهل بيت واحد يطعمهم وينفق عليهم، وكان يذبح في داره كل يوم جزورا، وينادي مناديه: من أراد الشحم واللحم فعليه بدار ابن جدعان، وكان يطهى عنده الفالوذج فيطعمه قريشا ويرسل إلى بصرى الشام فيحمل إليه البر والشهد والسمن، وجعل ينادي مناد: «ألا هلموا إلى جفنة عبد الله بن جدعان.» وقد مدحه أمية بن أبي الصلت، وكان ذا شرف وسن وممن حرموا الخمر على أنفسهم، وإن صحب بعض بني عبد شمس. ولكن تحريمه الخمر على نفسه لم يكن لفضيلة فيه كفضيلة الكرم، وإنما لأنه كان مدمنا فشرب ليلة ورأى القمر فمد يده ليقبض على ضوئه ويمسكه فضحك منه ندماؤه ثم أخبروه بعد ذلك حين صحا؛ فأقسم أن لا يشرب شيئا يذهب عقله ويضحك به من هو أدنى منه ويحمله على أن يعقد على كريمته لمن لا يريد! وبر بقسمه شأن العاقل الشريف.
وكان الرسول يعرف عبد الله بن جدعان معرفة حقا؛ لأنه شهد معه حرب الفجار. وكان عبد الله قائدا على أحد الجناحين، وقبل ذلك ازدحم الرسول وهو صبي هو وأبو جهل عمه وكان غلاما على مائدة لابن جدعان، فدفع محمد بأبي جهل فوقع على ركبته فجرحت جرحا أثر فيها - وكانت تلك الوليمة في وقت الظهيرة واشتداد الحر، وحديث الرسول يؤيد ما روي من أخبار جود عبد الله وكرمه نهارا وليلا، وقد يقبل الغلمان بدعوة المنادي وفيهم من أهل الشرف والبيوت الكريمة، وعلى الرغم من أن ابن جدعان كان في ابتداء أمره صعلوكا وشريرا فتاكا يجني الجنايات كالبراض بن قيس، فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته وطرده أبوه وحلف لا يأويه، أبدا فخرج هائما في شعاب مكة يتمنى الموت ويطلبه فلا يجده، فرأى شقا في جبل ووجد وراءه كنزا فنقله وبعث إلى أبيه بالمال الذي دفعه في تعويض المجني عليهم في جناياته، ثم وصل عشيرته كلهم فساد عليهم وجعل ينفق من الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف وتوج حياته بحلف الفضول. ونحن لا نعتقد في أسطورة الكنز الذي عثر عليه عبد الله في شعاب مكة ووجد على حراسته ثعبانا من ذهب وعلوكا وألفاه زاخرا بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد ... إلخ، وإن حاول القصاصون أن يبرروها بعثور عبد الله على لوح من المرمر مكتوب فيه: «أنا نفيلة بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله، عشت 500 عام وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك؛ فلم يكن ذلك ينجي من الموت.» وإن كان المكتوب على لوح يشبه ما أمر قورش ملك الفرس بنقشه على قبره: «أنا قورش مؤسس دولة الفرس فلا تحسدوني على الأرض التي دفنت فيها!»
ويجوز أن يكون أحد الناس قد عثر عليها، ويصح أن يكون عبد الله هو الذي وجدها في الحفائر، ولكن لا علاقة لها بالكنز ما لم تكن هذه الثروة ثروة نفيلة هذا. ولا يعلم المؤرخون أن في بطحاء مكة أو ضواحيها كنوزا غير كنز زمزم وقوامه سلاح وذهب قليل؛ إنما أثرى عبد الله من مصدر غامض، وجاءه المال الكثير من خفاء لا نحب أن نذكره؛ فقد عرف الرجل كيف يمحو السيئات بالحسنات وكيف يؤلف القلوب بالكرم ويطلق ألسنة الشعراء بالثناء، وختم حياته بمعاهدة شبه دولية غايتها نصفة المظلوم وحفظ الحقوق وصيانة السمعة المكية بين القبائل. ولعل هذا الجانب الاجتماعي والنزعة الإنسانية هما اللذان حبباه إلى رسول الله؛ فقد روت عائشة أنها قالت للرسول: كان ابن جدعان يطعم الطعام ويقري الضيف ويفعل المعروف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟
كانت عائشة ذكية وتنتهز الفرصة للاستنارة في كل صغيرة وكبيرة. وكثيرا ما يخطر ببال الناس هل الخير الذي يصنعه الناس بغير دافع من الدين ينفعهم في آخرتهم؟
ولا يكون الجواب واضحا أو مقنعا في كثير من الأحوال تبعا لشخص المسئول وعقله. والحديث صحيح؛ فقد رواه مسلم. قال رسول الله: لا (أي لا ينفعه بره يوم القيامة)؛ لأنه لم يقل ساعة من ليل أو نهار: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. لقد كان عبد الله - وكنيته أبو زهير - مشركا، وأدرك البعثة ولم يسلم. ولنا أن نسأل لم عدل رسول الله عن قوله: لأنه لم يؤمن بي أو لم يكن مسلما، واكتفى بتخصيص الاستغفار من الخطيئة؟ ألو قالها مشرك محسن نفعته؟! أولم يقلها عبد المطلب وأبو طالب؟!
لعل رسول الله علم أن الاستغفار بهذه الصيغة لا يأتي إلا على لسان مؤمن، ولا يمكن أن يكون غير ذلك؛ فقد نهي عن الاستغفار لوالديه بنص صريح في القرآن؛ فلا يعقل أن يشتد الشرع في محاسبة عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب ثم يلين في محاسبة عبد الله بن جدعان!
لقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعد البعثة ذاكرا لشخص عبد الله مكرما لخلاله، يود لو يستطيع أن يرد له جميلا أو يكافئه على فضله؛ فقد عرفه قائدا وهو - عليه الصلاة والسلام - جندي، وعرفه مضيفا وهو ضيف، وعرفه شيخا كبيرا ومحمد شاب لا نبات بعارضيه، وعرفه في حلف الفضول الذي دعا إليه في الجاهلية، وسمع قصة الكنز فيما سمع من أساطير مكة في ظلال الدور والقصور وفي أركان الحرم وأعالي الجبال، فتركت حياة عبد الله في نفسه أثرا طليا لم يفارقه حتى موقعة بدر، وكانت عائشة تحدثه عنه كأحد أبطال التاريخ الحديث المعاصرين لبعثته، ومن لم يقبلوا عليها لأسباب ضئيلة كالخجل أو التمسك بالقديم ثم يأسف عليهم الرسول وأهل بيته.
أما في بدر وفي أول خطوات المجد الحربي، فقد تذكر محمد حرب الفجار وقيادة عبد الله وسماحته في داره، فقال وهو ينظر إلى أسرى بدر: «لو كان أبو زهير أو مطعم بن عدي حيا فاستوهبهم لوهبتهم له.»
ما أعظم عرفان الجميل في نفسه
صلى الله عليه وسلم
وما أكبر إعجابه بالرجال ولا سيما الأبطال منهم! ولم يكن محمد معجبا بعبد الله بن جدعان لهذه الأسباب النبيلة وحسب، بل كان كل من في بيت عبد الله يحب محمدا ويذود عنه؛ فإن جارية من جواري ابن جدعان كانت سببا في إسلام حمزة بن عبد المطلب والانتقام لمحمد من أبي جهل.
رعاية أبي طالب للرسول عليه الصلاة والسلام
لقد كان أبو طالب مرغما على البحث عن وسيلة تخرجه من مأزق الفقر؛ فقد كان جاه بني هاشم في عهد عبد المطلب يداني جاه عبد شمس، فكان غنيا وجيها وكان زعيما مسموع الكلمة ومحسودا من البيت المنافس لبيته على السيادة وهو بيت عبد شمس، الذين عرفوا بعد ذلك ببني أمية. وكانوا قساة القلوب محبين أنفسهم متكالبين على المال حتى ألهاهم التكاثر وأطغاهم المال، فلا تعثر على أحدهم إلا وله نقيصة خلقية تغطي على ما يجوز أن يكون له من حسنات. وتكفي المقارنة بين أيتامهم وأيتام بني هاشم؛ فقد كان لحرب بن أمية والد أبي سفيان وحامي البراض، ابن أخ مات عنه أبوه هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فأمسى عتبة يتيما في حضانة حرب، فلما وقعت حرب الفجار ضن به حرب وأشفق من خروجه معه إلى ميدان القتال كما خرج محمد بن عبد الله! وكان هذا الإشفاق ممزوجا بالجبن المأثور عن رجال هذا البيت كما أثر الفجر عن نسائهم في الجاهلية! ولكن الولد عتبة خرج بغير إذن عمه فلم يشعر به إلا وهو على بعير بين الصفين. وله خبر طويل وضعه أنصار الأمويين زعموا به أن حرب الفجار انتهت على يديه وأن عتبة هذا توسط في الصلح بين هوازن (قيس قوم البراض) وكنانة وقريش، وأملى شروطه فوضعت حرب الفجار أوزارها تبعا لهذا الصلح. ولكن على الرغم من ذكاء هذا الولد وإقدامه (إن صحت رواية أنصار الأمويين)، فقد تركه أهله يعاني آلام الفاقة طول حياته ولم يجودوا عليه بشيء من مالهم الذي كدسوه واكتفوا بأن يذيعوا عنه عبارة أليمة، وهي «أنه لم يسد مملق إلا عتبة بن ربيعة.» وكان أفلس من أبي المزلق، وهو رجل آخر من بني عبد شمس لم يكن يجد مؤنة ليلته، وكذا أبوه وجده وجد جده كلهم يعرفون بالإفلاس، أليس عجيبا أن تضم أسرة واحدة هذين النقيضين من ثراء البعض وفاقة البعض ولو شاءوا لأغنوهم؟ والأدهى أنهم شهدوا إفلاس أقاربهم جيلا بعد جيل وصاغرهم عن صاغر ولم تتحرك فيهم نخوة، وعتبة هذا قد ولد هندا أم معاوية وزوجة أبي سفيان (آكلة الأكباد!) ومات في غزوة بدر مشركا طبعا!
فانظر الآن ما صنع بنو هاشم لقرة عين العالم، وسيد البشر الذي وصفه حاسدوه وشانئوه من عبد شمس بأنه يتيم أبي طالب وما بذلوه في سبيله من الحب والحدب والعناية الوالدية والمال فصار نبيا. ولو ترك عتبة لفطنته التي ظهرت في التوسط في الصلح لآمن بدين محمد كما آمن حفيده معاوية، مع أن عتبة هذا كان من المرشحين للنبوة في زعم أمية بن أبي الصلت ولكنه تجاوز الأربعين فعدل أمية عن زعمه فيه كما عدل عن زعمه في نفسه!
لقد تغيرت أحوال بني عبد المطلب بعد وفاته تغيرا محسوسا، ولو لم يكن أبو طالب على رأسها لهوت من عليائها كما تهوي في كل مجتمع عشيرة نبيلة قليلة المال، ولكن حزمه وشممه وقوة إرادته حفظت كيان الأسرة وأعانت على تعهد محمد حتى بعث.
ولعل محمدا وهو مقبل على الحياة العظمى فاجأ عمه أبا طالب جالسا في شرفة داره مطلا على مكة في إحدى الليالي المظلمة، وقد أخذت أنوار جديدة تتأهب لتغمر تلك الظلمة، ولكنها لم تكن من تلك الأنوار المتلألئة في قصور عبد شمس وعبد الله بن جدعان وغيرهما من سراة القرية وسادتها، وقد كانت مكة على صغر شأنها بين قرى الأرض أشبه البلاد بمدن أمريكا الحديثة من حيث أخلاق ساكنيها وأعمالهم وأذواقهم، ولعل مرارة الحياة وقسوتها كانت في مكة أشد وأقسى، وقد كان للمكيين في أواخر القرن السادس الميلادي قواعد عرفية تقوم مقام القوانين؛ فقد رأينا عبد الله بن جدعان يستبين غدر حرب بن أمية وهو صديقه وشريكه وينهره ويقول له: «والله لو أعلم أنه لا يبقى منها سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئا.» ثم يعين قريشا بمائة درع ومائة رمح ومائة سيف ليستعينوا بها في محاربة قيس، ويتولى قيادة أحد الجناحين، وهو يعلم أن الذي جلب تلك الكارثة على قريش هو حرب بن أمية بحمايته ذلك الشقي الخليع البراض بن قيس الذي عاث في الأرض فسادا وتقتيلا وسلبا، حتى لطائم الملوك لا يتركها، فهذا الوفاء من ابن جدعان لا يقل عن وفاء السموأل مع امرئ القيس وإن كان السموأل فضل أن يرى مصرع ولده على أن يرى مصرع الأخلاق في شخصه. إلا أن عبد الله وفى وأدى الأمانات إلى أهلها وبذل سلاحه وماله وساهم في الحرب بشخصه ورجاله، ولكن هؤلاء الأفراد كانوا يعدون على الأصابع، أما الكثرة الغالبة من المكيين فقد كانوا على أخلاق لا ترضي، وعلى رغم المظاهر اللينة الهينة، ومناعم اللقاء بالبشر والوداع بالتحية، كانت البواطن مملوءة بالأحقاد والضغائن والمطامع الأشعبية والجشع في سبيل المال والانغماس في الشهوات. ولعل أبا طالب - وهو فرع تلك الدوحة الهاشمية المبادرة للفضائل - فكر وهو جالس في شرفة داره في تلك النقائض التي كان بها جد عليم، وتلك العصبية العمياء التي كانت سلاحا ذا حدين تنفع مرة وتضر مرات، وحماية الأوغاد والأشرار والسفاحين شوكة من أشواك تلك الزرعة المريرة.
ولكن تلك الحماية التي يهبها عاهل من عواهل البلدة في ساعة سكر أو ورطة أو تواطؤ للانتقام أو تأميل في استخدام المجرم المحمي؛ قد تجلب حربا ضروسا وتؤدي إلى القتل وسفك الدماء. ولكن بني هاشم كانوا أبعد الناس عن هذه المخزيات قانعين بشرفهم ونجدتهم وقليل مالهم وجهادهم في سبيل وطنهم وقومهم، حتى قال محمد بعد النبوة لمن سأله عن حرب الفجار: «إنهم تعدوا على قومي؛ عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبوا!» فناصر قومه الذين سوف يخذلونه ويضطهدونه ويعذبون أتباعه ويتآمرون على قتله!
ولم يكن في تلك الفترة من حياته يفكر في نبوة أو وحي أو هداية للعالم يوم كان بعد ذلك بعشرين عاما، يرسل إلى صميم الليل نفثات صدره الحرى ويصلي إلى ربه ضارعا ويدعو الله لأن تتعرف قريش إلى الحق، فلا تمنعها كبرياؤها الاستشراق بذلك النور.
إذن كان أبو طالب كبيرا في شرفه وفي خلقه، ولكنه كثير العيال قليل المال. وكان للفقر آثار ظاهرة في حياة الدار، وما أشد آلام النفس الغالية حيال دناءة الدنيا وصغارها؛ فإن هؤلاء الأوغاد من أغنياء قريش، لم يكونوا ليخفوا مظاهر ثرائهم أو النظر إلى من هم أقل منهم بعين لا تخفى معاني نظراتها على اللبيب. وقد ينظر العائل القنوع الذي لم يشأ أن يدنس نفسه بقاذورات الكسب الحرام أو التزلف لذوي الغنى والجاه، إلى ليل الحياة المقتم، فلا يبصر في ناحية من ناحياته قبسا من رجاء، خصوصا إذا كان رب أسرة كبيرة ووالد أطفال صغار تعدهم الأقدار لجلائل الأعمال كعلي بن أبي طالب؛ فهو لا يستطيع أن يحمل إلى هؤلاء الصغار الأبرياء نصيبا مشروعا من متع الحياة ليتذوقوها، في حين يرى بعض المكيين والقرشيين غارقين فيها إلى أذقانهم، آخذين منها بأكبر نصيب وأوفره بطرق أقرها العرف، وقد لا يقرها الضمير؛ فهذا عبد الله بن جدعان الذي طالما أولم الولائم وأدب المآدب الرداح لا يعلم أحد شيئا عن مصدر ثرائه، فطورا يقال إنه عثر على كنز مدفون، وطورا أنه مارس السلب والنهب عشرات السنين ثم قنع فآوى إلى قصره إلى جانب هؤلاء العتاة من عبد شمس. أما أبو طالب فكان أهم ما يهمه أن يكون محمد سعيدا؛ فإنه ابن أخيه وضيفه منذ عشر سنين، وكان محمد رغم رزانته وثباته وقناعته وفرط حيائه فرحا طروبا، قد يعاني هذه الآلام ولكنه يصبر عليها ويكتمها، وكذلك كان عمه أبو طالب شديد الحياء وشديد الحب لمحمد والحدب عليه، فلا يملك أن يفاتحه في أمر من أمور الدنيا والهموم يعانيها؛ فما كل كفيل ولا وصي يملك أن يبوح بالحقيقة. ألم يكن في وسع أبي طالب أن يقول لمحمد بعد حرب الفجار، كما يقول أي والد لولده الذي يحب له أني يخوض غمار الحياة، ويبدأ بالتعويل على نفسه: هيا ولدي قد غدوت شابا وآن لك أن تفكر في غدك وأن تعمل لحياتك؛ لأنني لا أملك بعد اليوم أن أضمن لك رغد العيش وأنا رب أسرة كبيرة ولا أنعم بالثراء ... وهذا كلام لا غبار عليه لو قاله أبو طالب؛ فهو بحسن نية يقال وبحسن نية يصغى إليه وينفذ، ولكن محمدا فطن إلى ما يجول بخاطر عمه.
1
عفته عليه الصلاة والسلام
كان محمد في تلك الفترة شابا جميلا ناضجا ناضرا، قوي البدن قد لوحته الشمس وأكسبته الحرب ليونة في العضل وحدة في البصر ونشاطا في الحركة. وكان شعره الأسود الجميل ينحدر على أذنيه وقد نمت لحيته واستدارت، وما زال ذلك العرق النابض يبدو في جبينه كلما احتد، وتملأ الحمرة وجنتيه إذا أدركه الحياء من شيء.
وما زال هذا الحياء ملازمه منذ يفوعه؛ فكان يعتقد أن الله يراه ويسمعه ويغار عليه كل هنة ولا يؤخر عتابه، شأنه سبحانه مع من كتب له العصمة والنزاهة؛ فقد قال: «رأيتني في غلمان من قريش تنقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراها لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك! فأخذته فشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتني وإزاري علي من بين أصحابي.» طبعا يقول كتاب السيرة إن اللاكم من الملائكة. ولكن نقول إنها من الضمير. لقد نسي محمد ثم تذكر أن لا ينبغي أن يكون كغيره من الغلمان عاري البدن، وقد تجسم الخجل من الله في خياله حتى أحس كأن وخزه لكمة شديدة. وفي مرة أخرى أخذ تأنيب الضمير صورة إنسان يلبس البياض وينهاه قائلا له: «استتر» فما رؤي بدنه من يومئذ.
وقد كان هذا النهي عن التعري بدعا في بلدة كمكة وقبيلة كقريش تعيشان عيشة إباحية، ولئن كان أهل أثينا وإسبرطة قد ألفوا التعري والتسامي في تجميل البدن وتقويته، فقد كانت عبادة الجسد لونا من العبادة عندهم صحبتهم في حلهم وترحالهم، في هياكلهم وفي حروبهم، حتى إن الإسكندر وأصحابه خلعوا ثيابهم وطافوا عراة حول عمود في قبر آخيل بمدينة طروادة، وكانت هذه عادة التكريم لمدافن الأبطال (بلوطارخوس، حياة الإسكندر). وكان هذا القائد يخلع ثيابه كلما سمحت له فرصة الاستحمام في نهر بحضرة قواده وجنوده (نهر سيندوس). ولم يكن صونه
صلى الله عليه وسلم
من التعري كل ما تعهدته به العناية في بلد كان يطوف أهله بكعبتهم عراة وهي ما زالت مخدع الأوثان حتى النساء منهم. وفي بعض السير أن حضرة النبي نهى عن التعري وكشف العورة قبل أن يبعث بخمس سنين (136، ج1، علي بن برهان) ولم يكن ستر البدن مظهر العفة الوحيد في خلقه، فقد حكى علي بن أبي طالب بسند صحيح أنه قال:
ما هممت بقبيح مما هم به أهل الجاهلية ويفعلونه إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله عز وجل منها؛ قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها (ولم يقف الرواة على اسم هذا الفتى) أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان. قال نعم. فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير فقلت ما هذا؟ فقالوا فلان قد تزوج بفلانة. فلهوت بذلك الصوت حتى غلبتني عيناني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال ما فعلت؟ فأخبرته ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك.
لا بد أن الفتى القرشي الذي وكل إليه محمد رعي غنمه أثناء سمره المزمع ضحك غداة الليلة الأولى حتى استلقى لبساطة محمد وسلامة قلبه، ولعله أقنعه بإعادة الكرة والتجربة فلم يملك محمد مخالفته؛ فقد ظن الفتى القرشي أن السهر والسمر بمكة من متممات الرجولة! ولكن العين الساهرة هي التي عقدت أجفان رسول المستقبل بالكرى مرة ثانية فاقتنع بأن باب هذا اللون من المسرات مغلق أمامه وإن كان مفتوحا لغيره على مصراعيه.
ولكنه لم يفطن إلى الغاية العليا إلا عندما حدث عليا بهذا الخبر الذي يلقي شعاعا هاديا على حياة البادية والحاضرة؛ فهؤلاء الفتيان بأعلى مكة الذين كانوا يرعون غنم أهلهم كانوا يعرفون مكة معرفة جيدة ويسلكون سبلها، وقد ينغمس بعضهم في حمأتها، إلا من عصم ربك كما كان شأن محمد
صلى الله عليه وسلم .
إن محمدا قال: «عصمني ربي.» وهذا قبل البعثة بعشرين عاما أو أقل، ولا منافاة بين هذا القول وبين يقظة الضمير؛ فإن الضمير إذا تيقظ أغمض العين التي تقود بعض أقدام الشباب إلى الحتوف، فكأن عصمة الله لمحمد قبل بعثته كانت كمعجزة يوسف حين رأى برهان ربه، ولا محل للمقارنة بين العصمة والمعجزة؛ فإن الفتنة واحدة ولا تتفاوت إلا بالمقدار.
بغضه للأوثان وإعراضه عنها
كان محمد يعتبر في عهد الجاهلية حر الفكر، معرضا عن عبادة الأوثان، وليس في هذا ما يدل على النبوة المقبلة؛ فقد كان كثير من العقلاء والحكماء قد طلقوا تلك العبادة من زمن طويل. ويكفي أن يكون الرجل على شيء من صدق النظر وسلامة المنطق ليتحرر من ربقة الوسط سواء كان من العقيدة أم من الخضوع لنظم المجتمع السائدة والسخط على الحاضر والتطلع إلى مستقبل أجمل وأكثر موافقة للعقل والسعادة، وبدون هذه الشذوذ وذاك السخط لا يكون الرجل عظيما ولا تتكون معقولية الزعيم.
وما الراضون بالواقع القانعون بما وجدوا عليه سادتهم وآباءهم إلا قطعانا من الغنم، لا يرجى لهم خير ولا تحفظ لهم كرامة، وقد جرت العادة في تراجم الأنبياء أن يذكر المؤرخون نفورهم من أديانهم (إبراهيم وموسى وعيسى) وأنهم كانوا ثائرين عليها وعلى سدنتها، حتى ولو كانوا أولي قربى، وإنك لترى صورا مصغرة من هذه الحال في الحضارة العصرية؛ فيخلف رجل الدين ولدا غير مؤمن، ويلد أحد الملوك أميرا يميل إلى الحكم الجمهوري أو ينزل عن العرش لسبب تفه. وفي إنجلترا الحديثة يجيء نجل المحافظ حرا متطرفا! وكل هذا محتمل يطاق، وقد يدعو إلى الإعجاب أحيانا! وقد خالف الإسكندر المقدوني والده في كل شيء من سياسة الجواد الجامح إلى الإعراض عن حياة مقدونيا واليونان ونقل جهوده كلها إلى فتوح في الشرق؛ ليبني مجدا بعيدا عن الوطن على أنقاض المجد الذي شاده أبوه لوطنه.
وقد فعل محمد
صلى الله عليه وسلم
أعظم من كل ما فعله هؤلاء الأقدمون في بيئة ضيقة مغلقة متعصبة جاحدة جامدة القلوب قاسية الأفئدة، لا تعرف في باطنها هوادة ولا تريد أن تقتنع بالمنطق السليم، وتود قبل كل شيء أن تحتفظ بسلطتها وسطوتها وشهوتها وثروتها. أين الرجعية الحديثة والمحافظة على التقاليد في عصرنا الحديث، بل في القرون المظلمة من رجعية القرية المكية وتشبعها بكل قديم وعتيق؟!
وقد رأينا محمدا في ضيافة بحيرا يأبى على هذا الراهب الشيخ أن يستحلفه باللات والعزى، وقد تعجب لهذه الصراحة من فتى في أوائل العقد الثاني من عمره، وتعجب بها ولكن الخبر صحيح لا شك فيه، فما زال النبي على بغضه لهذه الأصنام حتى حطمها أولا في قلوب عابديها ثم حطم كيانها الصخري في مخدعها. وتلك قدرة لا تتهيأ إلا لقوة الإرادة والثبات ووحدة القصد والتشبع بالفكرة من الصغر، وما وجدنا في سجلات التاريخ عبقريا إلا وقد بانت عليه مخايل النجابة وظهرت أدلة تلك العبقرية في أقواله وأفعاله، والحياة الإنسانية من اليفوع إلى الرجولة تكاد لا تكفي لتركيز الفكرة التي تولد مع الطفل حتى تنفيذها. وبغض تلك الأصنام واحتقارها فكرة ولدت مع محمد كما ولدت عقيدة التوحيد؛ ولهذا وحده اختاره الله واصطفاه لحمل عبء الرسالة؛ فإن الله أعلم أين يضع أمانته.
غير بحيرا ومدوني حديثه وقسمه، لدينا أم أيمن وهي الجارية الأمينة التي حضرت مولده وخدمته ووالدته طفلا وصبيا، وصحبتها في زيارة يثرب وشهدت وفاة والدته ودفنتها وعاشرته في بيت أبي طالب وقامت على خدمته في بيت خديجة وفي بيوت زوجاته بعد وفاة أم المؤمنين، وقد نقل عنها المؤرخون وأصحاب الحديث واعتبروها ثقة. قالت: «كانت بوانة صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له وتحلق عنده وتعكف عنده يوما إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله (بحسب ما صار إليه) أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك، حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا! ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا! فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ثم رجع مرعوبا فزعا فقلن ما دهاك؟! قال إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: «وراءك يا محمد لا تمسسه!» فما عاد إلى عيد حتى تنبأ.»
ونحن نروي خبر أم أيمن بغير تحفظ؛ فإن هذا الرجل الأبيض الطويل أو خياله وراءه لا يتركه كلما هم بأمر يعطل خطة الرسالة أو ينقص استعداده لها حتى ولو كان الدافع له خارجا عن إرادته؛ فإنه ذهب هذه المرة إلى بوانة وأخواتها مدفوعا برغبة إرضاء أقاربه وعلى رأسهم أبو طالب أحب الناس إليه. ولم يكن هؤلاء الأهل ليعتبوا عليه، إلا إذا كان في سن تقضي عليه بمشاركتهم في عبادتهم وأعيادهم.
على أننا لا يذهب بنا الظن بعيدا في تقدير عقيدة أبي طالب، هل كان متشددا حقا في عبادة الأصنام حتى يغضب على محمد غضبا شديدا ويلومه على كفره بها والنفور منها؟! ما نظن ذلك كما زعموا. لو كان أبو طالب شديد الشغف بتلك الأصنام، لتخلى عن محمد بعد البعثة ورعايته، وعذره واضح في عقيدته وموافقة قريش في حملتها على ابن أخيه، ولكنه على النقيض عاداهم لأجله، وضحى بكل شيء في سبيله، وقبل النفي والتهديد بالقتل والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية وإعلان الحصار عليه وعلى عشيرته بسبب مناصرته، ولم يكن كل هذا تمسكا برابطة القرابة والكفالة، بل كان بعضه - بلا ريب - لضعف إيمان أبي طالب بهذه الأوثان الملونة المزوقة التي كانت لا تعقل ولا تنطق. إنما دفع أبا طالب إلى الحدة والغضب في غياب محمد قولهم: إنك لا تكثر لقومك جمعا، ولا تحضر لهم عيدا؟! ثم إلحاح النساء من عماته وذوي رحمه؛ فالدافع لأبي طالب كان اجتماعيا وعائليا إن هؤلاء الناس في مكة كانوا يحبون الكثرة؛ لأن العزوة كانت مظهرا كريما، فلا يكون الرجل وحده لئلا يستهان به ويحقر شأنه، والنساء دائما شغوفات بالأعيان والحفلات في كل عصر ومصر، تهمهن الزينة والحفلات والمآدب التي تقام في الأعياد. ولقد عددن محمدا نفورا من المجتمع فأردن تأليف قلبه ولا سبيل إلى ذلك خير من مناسك الأوثان، ولكن هذا لا ينفي شدة تعلق قريش بأصنامهم ما عدا شيئا من التحلل يسمح به لأسرة النبي؛ فقد كانت أسرة ممتازة ولا يمكن أن يخلو أبو طالب - وهو زعيمها في عصره - من شرارة من نار السخط عليها، وهي التي تعاظمت حتى حملته على سلوك خطة تخالف قريشا وتؤلبهم عليه وعلى عشيرته ناسين فضل تلك العشيرة في اندحار أبرهة وفي حرب الفجار.
ولم يكن أبو طالب منفردا بهذه الحرية في شباب محمد؛ فقد روت عائشة - رضي الله عنها: «عن رسول الله قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذبح لغير الله؛ فكان يقول لقريش: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم تذبحونها على غير اسم الله. قال النبي
صلى الله عليه وسلم
فما ذقت شيئا ذبح على النصب حتى أكرمني الله برسالته.» ا.ه. الحديث.
وإذن يكون ما زعمه ابن الكلبي في كتاب الأصنام (ص25) من أن النبي في زمن الفترة السابقة للوحي ضحى بشاة لأحد الأوثان موضوعا، ما لم يكن حدث قبل حديث زيد بن عمرو بن نفيل. وقبل هذا الحديث رأينا نفوره منها على لسان بحيرا وأم أيمن. ويروي بعض المؤرخين أن محمدا سمع هذا القول من زيد عندما قدم الرسول قبل الرسالة إلى زيد سفرة فيها شاة ذبحت لغير الله فأبى أن يأكل منها. وأخذ الإمام السهيلي ينفس على زيد هذه النعمة في حسن النية ومنطق واضح وغيرة على الرسول محمودة قال: «كيف وفق الله عز وجل زيدا إلى ترك ما ذبح على النصب، ورسوله كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت من عصمة الله له!»
رحم الله هذا الإمام الفاضل! أي خير في ذلك؟! فإنه لم يثبت أن الرسول أكل من تلك الشاة، ولو أنه أكل قبل ذلك مما ذبح على النصب فتحريم ذلك لم يكن قد نزل، والحديث كله قبل البعثة في شباب النبي، ولو رجعنا إلى الماضي فلم يكن من شرع إبراهيم وإنما كان تحريم ذلك في الإسلام، ولم يكن أحد مقيدا بشرع إبراهيم في الفترة، وأهم من التقيد به تخليص الأمة من الأوثان التي عفت على شريعة إبراهيم وغيرها، بيد أن زيد بن عمرو بن نفيل لم يكن فذا في هذه الخطة، بل كان رابع أربعة من قريش فارقوا قومهم فتركوا الأوثان والميتة وما يذبح للأوثان، وهؤلاء الأربعة هم: زيد، وورقة بن نوفل صهر النبي، وكان من حملة التوراة والإنجيل ، وعبيد الله بن جحش ابن عمة الرسول أميمة، وهو أخ لزينب بنت جحش التي صارت من زوجات الرسول، وعثمان بن الحويرث الذي أراد الملك على مكة؛ وكلهم من أكبر الأسر؛ فقد كان زيد بن عمرو ابن أخي الخطاب والد عمر. ولكل واحد من هؤلاء الأربعة المعاصرين للرسول مغامرة دينية طريفة لا تقل عن مغامرة أمية بن أبي الصلت الذي كان طامعا في النبوة طامحا إليها مستعينا عليها بمواهبه وشعره وصحبة الكبراء. وإن ذكر هذه المغامرات أو المطوحات الدينية ليلقي نورا على الحياة العقلية في مكة بين ظهراني فئة من أذكيائها ونبلاء ساكنيها. أما زيد بن عمرو بن نفيل فكان معتزا بوصوله إلى الحقيقة اعتزازه بعمومته لعمر بن الخطاب الذي كان مهيبا مرهوب الجانب في جاهليته وإسلامه، فكان زيد يقول الحق ولا يخشى شيئا، تحميه عصبيته العمرية، وكان يعنف أهل مكة وبقية قريش ويقول لهم مفاخرا: والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري. وكان زيد قويا بعقيدته ولكنه كان مشاغبا يظهر على خصومه ولا يخشاهم، وقد جنى ثمرة الثورة على دين آبائه الاضطهاد والنفي من مكة؛ فقد ظن في أول الأمر أن الخطاب أو ابنه عمر يحميانه، ولعلهما حمياه إلى حد، لم يبلغ أبدا حد حماية أبي طالب ابن أخيه العظيم. غضب الخطاب لدينه فأخرج زيدا من مكة كراهة أن يفسد عليهم دينهم، وأسكنه حراء ووكل به من يمنعه من دخول مكة، أي وجه إليه تهمة العيب في حق الآلهة! ثم نفاه نفيا إداريا ووضعه تحت مراقبة البوليس السياسي، و منع الإقامة
interdiction du sejour
عقوبة تبعية في القوانين الحديثة.
على هذا القدر كانت المحافظة على كرامة الأوثان وعلى نفسية عابديها، وفي هذا ما يفسر شدة الاضطهاد التي لقيها المسلمون بعد الدعوة، ويعلل خطة الحذر التي اتخذها الرسول وأتباعه من كتمان أمرهم في بيت خديجة ثم في بيت الأرقم؛ فقد أضرت الصراحة بزيد بن عمرو، ولم يستعن في قضاء حاجته بالكتمان، وفي هذا الدليل على استمساك قريش بعقيدتهم الوثنية وعلى أنهم لم يكونوا على كثير أو قليل من الاستعداد للتوحيد. وما أربعة نفر من المرتابين في الأصنام بالعدد الكبير الذي يدل على تأهب قريش للرسالة المحمدية، لم تفلح رقابة البوليس في مطوحة زيد طويلا؛ فقد تغفل حراسه «وخالف شروط المراقبة» وخرج يطلب الحنيفية ويسأل الأحبار والرهبان، نفس حائرة وقلب مشغول لحر طريد، حتى بلغ الموصل والشام وأراد العود إلى مكة فعدوا عليه وقتلوه! ودفن بمكان يقال له ميفعة، ولم يدرك البعثة، ولكن أدركها ولده سعيد بن زيد بن عمرو، وأسلم وكان من أصحاب النبي للصداقة القديمة التي كانت بينه وبين أبيه. وسيرة زيد في كتب الحديث والسيرة عطرة؛ لأنه كان من الرواد وإن لم ينعم بعقيدة الإسلام كاملة. وصار ابن عمه عمر من أعظم الصحابة ومن أكبر الخلفاء الراشدين إن لم يكن أكبرهم بعد أبي بكر. لو اطلع الخطاب وولده على الغيب ما اختارا الواقع، بل إذن لخالفاه وتريثا في اضطهاد ابن عمهما!
أما عبيد الله بن جحش فأدرك البعثة وأسلم وهاجر إلى الحبشة، فكان في الصفوف الأولى من أبطال الإسلام، ولكن كان ضعيف الخلق فخضع لتأثير القسس والنساء ورجال البلاط عند النجاشي، وكان حديث العهد بدين التوحيد فاستهوته قوة الأحباش وخشي على نفسه عاقبة النفي وظن الهجرة ضعفا للمسلمين لن يفارقهم فتنصر! وكنا لا نسخط عليه لو وقف عند ذلك؛ فدين المسيح في زمنه أرقى بكثير من الوثنية في كل زمن، ولو انتحله في وطنه ما أضر به شيئا، ولو أنه سكت عن المسلمين، فلا لوم عليه، ولن ينسى أن إسلامه سبب هجرته وهجرته سبب نصرانيته. فلو اعتقد أنها خير من الإسلام فقد كان للإسلام فضل توسله ووصوله وكفى! ولكن عبيد الله بن جحش كان ابن عمة الرسول؛ أميمة. وكان قرشيا، وكل قرشي مشاغب ومعاند، وكثير منهم سخفاء وسفهاء، وما عهدنا بأبي لهب ببعيد، ماذا يصنع عبيد الله بن جحش الذي تفوق على أبيه، لم يقنع بالارتداد، معتزا بسطوة الملك الأسمر؛ فكان يمر على المسلمين من المهاجرين وهم رفاقه بالأمس في الهجرة وهم ما زالوا ضعافا، وقد ظن نفسه قويا لحماية الأحباش. ولعل القساوسة اتخذوه آلة ليجذب بقية الجالية العربية المسلمة إلى دينهم بنوع قديم من التبشير، فكان عبيد الله يقول لهم: «فتحنا وصأصأتم!» أي فتحنا أعيننا على الحق والنور المسيحي وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا! وكان هذا الكلام جميلا وقريبا من الصواب لو أن دين الإسلام أقدم عهدا من المسيحية؛ لأن النور يفترض فيه أن يأتي مع الجديد، ولو أنه تنصر في وطنه قبل أن يسلموا هم. وكان أجدر به أن يقوله للوثنيين في مكة؛ لأنهم ما زالوا في ظلام دامس! وهناك كانت تفيده الشطارة وطول اللسان وتعيير قوم من أهله بدينهم الذي كان بالأمس دينه وترك وطنه وملة آبائه في سبيله؛ فإنه بلا شك هاجر أول ما هاجر في سبيل الإسلام.
ولم يطل عمره في الحبشة فمات بعد قليل، ولعل للنبيذ والتسري يدا في تقصير أجله!
أما عثمان بن الحويرث فمات على الحق؛ لأنه لم يدرك البعثة وقدم على قيصر ملك الروم وتنصر عنده، والمسيحية إذ ذاك أحد الدينين المنزلين.
أما ورقة بن نوفل فمطوحته من اختصاص السماء لا من اختصاص الأرض، وسيأتي الكلام عليه عند حديث زفاف خديجة بنت خويلد إلى حضرة الرسول
صلى الله عليه وسلم .
نحن لا نحقد على عبيد الله بن جحش ولا نقلل من قدر المسيحية؛ فقد ولد الرفق يوم مولد عيسى على حد قول أحد الشعراء وإن كان الرفق والحنان والرحمة خلالا ملازمة للرحمن وهو لم يولد ولم يلد، وقد بجلنا صاحبها عثمان بن الحويرث لأنه اعتنقها في إبانها، ولكن لنظهر لونا من ألوان العقلية المكية التي لم يكن كل أهلها مستهترين ولا مضحين بأنفسهم وعقولهم في الشرك والشهوات؛ فهؤلاء سادة أربعة من قريش وغيرهم نفر آخرون أقلقهم التفكير في السماء وفي الأرض وفي الحق والباطل والخير والشر والإيمان والكفر، واستطاعوا أن ينتزعوا أنفسهم من براثن البيئة الخانقة التي كانت محصورة في دار الندوة والأخذ بالثأر ووأد البنات وترقت إلى حلف الفضول، كما كان فيها رجال كثيرون حرموا الخمر على أنفسهم قبل الإسلام، ولعلهم حرموها بعدما شربوها كما فعل حكماء اليونان والهند والمصريين.
وفي كتاب الخصائص الصغرى للسيوطي: «حرمت عليه الخمر من قبل أن يبعث قبل أن تحرم على الناس بعشرين سنة.» وكان محمد
صلى الله عليه وسلم
قبل بعثته يضع الأوثان والخمر والشعر في مكان واحد من البغض (حديثه لخديجة).
قس بن ساعدة
قيل إن الرهبان الذين لقيهم الرسول ثلاثة: بحيرا ونسطور وقس بن ساعدة، لقي الأولين في وطنهما وتحدث إليهما وعرفا أنه النبي الذي بشر به عيسى، كما بشر موسى بالمسيح، وأنه الذي وصف في التوراة. ولقس الإيادي شأن في نظر التاريخ المحمدي؛ لأنه كان ناسكا متنقلا، وكان خطيبا فذا قبل الإسلام، ولأن النبي اكترث له، وخلة رابعة لطيفة وهي أن محمدا وأبا بكر اجتمعا في شبابهما حول منبره ولم يكونا قد تعارفا، وسمعا خطبة قس الشهيرة ولم يع النبي منها شيئا وإن كانت شخصية الرجل قد تركت في ذاكرته أثرا كالذي تركته صورة عبد الله بن جدعان في حربه وكرمه.
كان محمد - عليه الصلاة والسلام - طلعة فيما يتصل بعظماء الرجال في الجاهلية؛ لأنه كان يلمح فيهم شعاعا من نوره الفياض، فلما صار أخطب الخطباء وأفصح الناطقين بالضاد ونزل عليه أبلغ الكتب، عادت ذاكرته إلى من كان لهم قبس من نور العقل وفصوص من جواهر الحكمة ولو لم يدركوا بعثته، وقد لازمه إعجابه بالمتميزين إلى حدود الكهولة، فكان يقول: «اللهم انصر الإسلام بأحد العمرين.» وما زال واضعا عينه على خالد بن الوليد، حتى بعد موقعة أحد وحتى ضمه الله إلى حصن الإسلام فسماه سيف الله.
الثابت أن محمدا لم يتعلم في صغره وكان أميا بكل معاني هذه الكلمة، ولكن يظهر أنه كان ذا ذاكرة قوية وكان يحضر أحيانا أسواق الأدب ومجامع الشعراء والخطباء، وفي خبر أنه حضر سوق عكاظ وسمع قس بن ساعدة يلقي خطبته المشهورة، وهذا دليل على أنه كان في شبابه يقضي بعض أوقاته في سماع الشعر والخطب، ولكنه عندما أراد استعادته لم يتمكن.
ومن غريب ما يروى أن اليوم الذي سمع فيه محمد خطبة قس في سوق عكاظ كان كثير من الشبان من جيله وسنه وطبقته حاضرين فسمعوا الخطبة ووعوها، ومنهم أبو بكر الذي صار فيما بعد أعظم أصدقائه وأقرب الناس إليه. فما أغرب هذه المصادفة؛ فقد كانا على قيد ذراع أو ربما تجاورا في الموقف أو تبادلا كلمة تحية أو نظرة احترام، ولم يكلم أحدهما أخاه، ولا يعلم أحدهما أنه سوف يكون للآخر نصيرا ومعينا لمدة عشرين عاما ، ولم يعلم أبو بكر أنه سيلي ملكا وسلطانا بسبب اعتقاده في هذا الرجل وثقته به، وأنه سوف يصاهره ويرافقه في هجرته ويلذع من أفعى يسري سمها في بدنه، ويخاطر بحياته المرة بعد المرة في سبيل محمد ونصرة محمد ودين محمد، وقد تعرف إليه في التاسعة والثلاثين من عمره قبل المبعث بعام واحد.
ولم ينس الرسول هذا الموقف ولم ينس قسا طول حياته، وعلامة تلك الذكرى كثرة سؤال الرسول عن قس بعد البعثة؛ فإنه لم يره إلا مرة واحدة في عكاظ، ولا يعرف أحد مكانا من الأمكنة التي تنقل فيها قس أو تنقلت فيها قبيلته (إياد) وهل كان يعيش بينها أو كان يعيش بين قبيلة أخرى غيرها أو كان يعيش هائما متنقلا لا يقر في مكان؟ وكما قيل إنه كان أسقف نجران. كذلك قيل إنه لم يكن تكنه دار ولا يقر له قرار، ويتحسى في تقفره بعض الطعام ويأنس بالوحوش والهوام، ويعيش أحيانا في رءوس الجبال وفي ظل الأشجار، ويفد على الملوك زائرا كما ورد على قيصر وكسرى فيسألانه في الحكمة والطب ويكرمانه ويعظمانه. وعلى الرغم من تناقض الأخبار وإبهام حياة قس في نسيج من الأساطير، فقد نقدر له السنة التي توفي فيها حوالي 600م؛ أي قبل الهجرة باثنتين وعشرين سنة، ولكن الذي يهمنا أن الجارود بن عبد الله لما وفد في وفد عبد القيس سأله الرسول: يا جارود، هل في جماعة عبد القيس من يعرف لنا قسا ؟ قالوا: كلنا نعرفه. وسأل في مرة أخرى: ما فعل قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: مات يا رسول الله.
وفي مرة ثالثة سأل: ألكم علم بقس بن ساعدة؟ قالوا: مات يا رسول الله.
وفي كتب الحديث ذكر قس وسماع النبي إياه في سوق عكاظ من طرق متعددة (انظر الطوالات للطبراني، والإصابة لابن حجر العسقلاني)، وإن تكن كتب السير وأمهات الأدب قد اغترفت من بحر هذه الرواية، إلا أننا نثق بالإصابة كل الثقة، والعسقلاني صاحب الإصابة يذكر أن طرق الحديث الخاص بقس كلها ضعيفة ولا تصلح للاحتجاج بها.
غير أن حديث قس وسماع خطبته ووصفه وسؤال النبي عنه لا تقدم في الرسالة ولا تؤخر، ولو حرص المؤرخون على إنكار لقاء الرسول لهؤلاء الرهبان والمتألهين والناسكين لما أبقوا على ذكر واحد منهم، وإنما ذكر هؤلاء الرهبان دليل صدق المؤرخين، وإنما في تاريخ قس طرافة كتلك الطرافة التي تحيط بحياة الغامضين في التاريخ. وكانت حياة قس محاطة بالغموض من بدئها إلى نهايتها. إن الجارود بن عبد الله لم يقصر في وصفه للرسول من أنه كان يلبس المسوح ويتبع السياح على منهج المسيح لا يغير الرهبانية، مقرا بالوحدانية، تضرب بحكمته الأمثال وتنكشف به الأهوال وتتبعه الأبدال ... إلخ.
ولم يكن النبي في حاجة إلى التعريف بقس؛ فقد رآه ولكنه كان يسأل عما جرى له بعد خطبة عكاظ، ونحن نشك في كلمات الجارود؛ لأنه لم يكن يجرؤ على قولها أمام النبي لثلاث؛ الأولى: أنه لا يجمع بين الرهبانية والإقرار بالوحدانية؛ فإن كان قس نصرانيا فليست هذه عقيدة النصارى، ومن أهم أصولها عقيدة التثليث وألوهة المسيح وعقيدة الصلب والفداء، والقرآن يذكر ذلك:
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين . وينكر الصلب ولا يقر نظرية الفداء ولا الخطيئة الأولى. والثانية: أي أهوال تنكشف بقس. والثالثة: أن كلمة «الأبدال» منسوبة إلى الجارود، وهم طبقة من أولياء الباطن صوفية حديثة بالنسبة لزمن النبي، ولم تكن من المتداول على الألسنة في عصره! ولكن هذا لا ينفي أن الجارود كان على حق في نسبة التوحيد لقس؛ لأن الآثار التي وردت فيما كان يدعو العرب إليه لا تفيد أكثر من أنه كان يدعوهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث والحساب، ولم يرد فيها أنه كان يدعو إلى عقيدة التثليث والصلب والفداء ونحوهما؛ وهي العقائد التي لا تثبت النصرانية إلا بها، بل لم يرد فيها أنه كان يدعو إلى الإيمان بعيسى - عليه السلام - وإنما ورد أنه كان يبشر العرب بدين جديد قرب ظهوره بينهم. أما كلمة «الأبدال» فلعل الذي كتبها مشيرا بها إلى ولاية قس وقدرته على التصرف في الكائنات ومنها خضوع الوحوش كما خضعت لبوذا في خلوته تحت شجرة التين! وكما خضعت لدانيال في سجنه ببابل، فلعل مصدره حكاية رواها قصاص أو مؤرخ أنه رأى قسا على عين ماء تقصد إليها السباع لتشرب، فكلما زأر منها سبع على صاحبه (كما يختلف البشر على بئر عند ورود الآبار) ضربه قس بعصا وقال له: كف حتى يشرب الذي سبق! فكأنه كان يفهم لغة الحيوان ويفهم السبع لسانه! ونحن نعلم أن هذه المعرفة لم يؤتها الله إلا نبيه سليمان (سورة النمل)، ولكن الله قدير على أن يؤتي علمه وحكمته من يشاء ...
إن لم يكن قس نصرانيا ولا أسقفا في نجران ولا وليا واصلا هائما متصرفا تنكشف به الأهوال وتتبعه الأبدال، فماذا كان؟ هل كان من قدماء الحنفاء الذين ظهروا في بدء انحراف العرب عن ملة إبراهيم إلى الوثنية فكان يدعوهم إلى العود إلى الحنيفية السمحاء ويحارب فيهم بدعة الوثنية التي أدخلها عمرو بن لحي؟ وإذن وجب ضمه إلى هؤلاء الحنفاء ومنهم أمية بن أبي الصلت في الطائف، وزيد بن عمرو بن نفيل في مكة، وأبو قيس بن أبي أنس وأبو عامر في المدينة، وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي الذي أراد ملكا على مكة ولحق بقيصر.
والواضح من تراجم هؤلاء المتحنفين أنهم لم يكونوا وثنيين، ولم يكونوا يهودا أو نصارى كما أراد أن يلحقهم صاحب كتابي «النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية» و «شعراء النصرانية»،
1
بل كانوا وثنيين ثم ألحدوا وكفروا بالوثنية ورجعوا بأقوالهم وفعالهم إلى ملة إبراهيم، وذهبت مطامع بعضهم إلى ارتقاب النبوة تهبط عليه؛ لشدة ما وثق من مخالفة دين آبائه للمعقول؛ فكانوا رواد عقيدة التوحيد ولكنهم لم يدركوها، إلا واحدا أو اثنين أكل الحقد قلوبهم فانتحلها واحد ثم ارتد، ونفى آخر نفسه باختياره من مكة حتى قضى نحبه!
وأقرب إلى الحق والعقل والتاريخ أن قسا كان أسقفا ثم عدل عن المسيحية لأسباب مجهولة كالتي ألجأت المتحنفين إلى العدول عن الوثنية. ولكن قسا لم يستطع أن يتهود لتعلقه بالتوحيد الذي جاء به موسى؛ لأن دين المسيح كان أحدث عهدا، ولأن عادة العقلاء في العرب إذا تركوا الوثنية أن يتهودوا أولا ثم يتنصروا، كما فعل ورقة بن نوفل الذي لو أدرك الإسلام لآمن به، لا أن يتهودوا بعد النصرانية! فاختط قس الذي كان نسيج وحده لنفسه هذه الخطة؛ وهي أن يمجد التوحيد ويدعو إليه ويحبذ ظهور نبي جديد ويبشر به ولو تبشيرا مبهما أو واضحا، ويضيف إلى دعوته نتفا من المواعظ العامة التي لا يأباها أي دين. وقد سار في سبيله في العصر الحديث هياسنت لوازون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ فتحرر من دينه وكان قسيسا كاثوليكيا شهيرا (انظر مجلة مركور دي فرانس سنة 1920) وساح وخطب متنقلا بين لندن وباريس ولوزان وجنيف والقاهرة، وفي خطبه تحبيذ كبير لعقيدة التوحيد. وإن الذي يحدث له ذلك ويأنف أن يعلن تغيير عقيدته لروابط الأسرة أو حرصا على المكانة الاجتماعية أو خشية الاتهام باللوثة؛ ليشعر بقلق عظيم واضطراب مؤلم، ولعلهما سبب تنقل قس حتى إنه ليخطب على ناقته وقد اتخذ من ظهرها منبرا متجولا. وقد أعان قس كما أعان هياسنث لوازون
Hayasinthe Loyson
قدرته في الخطابة وشعره الذي كان يزين به خطابته، وقد ضربوا بفصاحته المثل وتهكموا على من يحاول مطاولته؛ قال المعري في نعي صروف الدهر في لاميته الجميلة:
وعير قسا بالفهاهة باقل!
ونسبوا إليه الحكمة حتى تغنى بحكمته أعشى قيس فقال:
وأحكم من قس وأجرأ م الذي
بذي الغيل من خفان أصبح خادرا
وقال الحطيئة:
وأقول من قس وأمضى إذا مضى
من الرمح إذ مس النفوس نكالها
ويؤيد الرأي في هذا التحليل لقس أنه كان يعنى بالخطابة الدينية أكثر من غيرها كما عني هياسنت لوازون بالخطابة الدينية بعده بثلاثة عشر قرنا، وكما عني رجل من طراز آخر في سعة العلم وأفق المعرفة، وهو إرنست رينان بالكتابة الدينية، فإنه بعد أن تحول عقله عن دينه لم يرق في نظره بحث غير حياة المسيح وأعمال الرسل وتاريخ بني إسرائيل، وساح في الشرق لزيارة هياكل اليونان وقبر المسيح. الفرق بين هؤلاء مئات السنين ودرجات من العلم قد لا تقاس ولا تقدر، ولكن الميول واحدة والنفسيات واحدة والطرائق واحدة، فقس أكثر خطابته في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالبعث والحساب. قد يقال إن رينان رمى إلى الهدم! فنقول بل رمى إلى التحرير والتبسيط ومقاومة الإبهام والتعقيد، وكذلك حاول لوازون الذي قيل إنه دعا يوما إلى الجمع بين العقائد في حيرة ويأس من استدراج الناس إلى سماع صوت العقل؛ ولذلك كان قس يؤثر في خطابته الألفاظ السهلة على غيرها ويختار السجع القصير الفواصل ويلجأ إلى الرقة والعذوبة في ألفاظ تتجلى فيها معاني الموعظة الحسنة. وكل شيء لأمثال قس في عصره كان بديهة وارتجالا وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ومكابدة؛ فكانت خطبه تارة طويلة وطورا موجزة. والكلام عليه أسهل وأيسر من أن يفتقر إلى تحفظ أو يحتاج إلى تدارس، ولم يكن كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله، وهكذا كان لوازون، وعلى نقيضهما في هذه الخلة وحدها إرنست رينان الذي كان متعمقا في علمه متأنقا في أسلوبه، دقيقا في تدليله، رشيقا في رمايته فتمكن أن يستر حقيقة فكره بمحاسن عبارته وسحر تنسيقه:
يرمون بالخطب الطوال وتارة
وحي الملاحظ خيفة الرقباء
ولعل هذه الناحية هي التي أعانت على رسوخ صورة قس في ذاكرة النبي حتى سأل عنه كما يسأل السيد السند البالغ قمة العظمة، عن صديق قديم رآه فعرفه وأكبر خلقه أو أعجبته فصاحته: ما فعل الله بقس؟ أو ما فعل قس بنفسه؟ وكان قس على شيء من الحكمة القديمة كتلك التي أبقت على ذكر سقراط. ألم ينسبوا إليه أنه قال في بعض خطبه: «أفضل العلم معرفة الرجل بنفسه وأفضل العقل وقوف المرء عند علمه وأفضل الأدب استبقاء الرجل ماء وجهه وأفضل المروءة قلة رغبة المرء في إخلاف وعده وأفضل المال ما قضى به الحق»؟ ألم يرد ذكر لقمان في القرآن الكريم لأنه كان حكيما وسرد الكتاب الكريم جملة من حكمه ؟ ولكن قسا لم يرق في نظر أهل عصره إلى درجة لقمان.
ولكن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم ينس لون ناقته الأحمر كأنها منبر حي يرفع علم الثورة على الوثنية ومساوئ الأخلاق والشهوات والتهافت والتكاثر في سوق عكاظ وقبيل البعثة، وإن لم يع الرسول خطبته فقد وعى صورته، وإن لم يستظهر حديثه فقد أنصت إلى صوته وبقيت بعض نبراته في ذهنه، فإن نغم صوت جبريل - عليه السلام - لم يمح من ذاكرته غيره من النغم؛ ولذا أخذ - عليه الصلاة والسلام - يسأل الوفود أتعرفون قسا؟ ما فعل الله به؟
ما أشد وفاءك يا سيدي! وما أعظم تقديرك للرجال!
الكتاب الخامس
الشباب
شاء الله أن يقبض عبد الله بن عبد المطلب والد الرسول وهو جنين، وآمنة بنت وهب أمه وهو في الخامسة من عمره فولد يتيما، وكان كلاهما قوي البنية شديد الأسر معافى من الأمراض التي يرثها الأبناء؛ فجاء قوي البدن عظيم الاحتمال، وقد أفاد من الأعوام التي قضاها في الخلاء رضيعا وفطيما، ومن تلك الأخرى التي صرفها في قمم الجبال راعيا، ومن الأسفار التي تنقل فيها في أطراف مكة؛ فقد بلغ أحيانا قرابة جدة جنوبا وحدود الشام شمالا، تارة في صحبة عمه أبي طالب، وطورا يتبعه ميسرة خادم خديجة الأمين. وكانت حياة مكة وبطحائها وعيشة الصحراء والأسفار في فيافيها ومفاوزها ونشأة الفتى؛ كفيلة جميعها بتعوده الصبر على الشدائد؛ فهي أشبه بحياة الرواد التي يتدرب عليها شبان هذا الزمان جاءت بمناسباتها، دع عنك الحروب التي مارسها يانعا، فشب مفتول العضل ظاهر القدرة على المقاومة صالحا للصراع والدفاع عن شخصه إذا هوجم، ثابت القدم إذا دعا الأمر للوقوف حيال عدو، يستطيع دفع الجوع والظمأ بالقليل من القوت والماء، وقد لازمته هذه الخلال طوال حياته فلم يهن ولم يشعر بضعف العزيمة ولم ينهكه الجهاد ولم تفت في عضده الشدائد، اللهم إلا في يوم ثقيف ويوم أحد، وإنهما ليومان لهما شأنهما في تكوينه وتقويته. وإن حديثنا عن تمام صحته وكمال نموه وقوته يعد زيادة لا تنفع إلا البادئ في درس سيرته؛ لأن الدليل المحسوس قد قام عليها بتاريخ حياته، فلم تكن مشوبة بعلة أو داء ولم يحتج إلى علاج أو تمريض إلا في الأسبوع الأخير من عمره، ولكن ضرورة السرد وسياق الترجمة يقتضيان مساس الموضوع. وقد جاءت شهادة على لسان محمد نفسه وهو في صغره؛ إذ قال لمن أشار على حليمة بعرضه على طبيب أو كاهن: يا هذا، ما بي مما تذكر شيء، إن أعضائي سليمة وفؤادي صحيح ليس به قلبة يقلب بها إلى من ينظر فيها. وقد قامت أدلة طبية وعلمية وتاريخية على كذب ما زعمه مرغليوث من نسبة الصرع إلى الرسول، وإن كانت قوة الرجل في الحياة الجنسية دليلا على حيويته؛ فقد ثبتت له هذه القوة بما تم له من البناء بأمهات المؤمنين وبما شهدت به جاريته أم أيمن (طبقات ابن سعد) من أنه كان يقوم بحقوق أهله بين النوم والتهجد، وما كان يغزو غزوة طويلة أو يسافر سفرا يقتضيه أياما إلا معه بعض أزواجه، وليس هذا شأن رجل عليل أو ضعيف. وقد دخل محمد في حضانة جده منذ ولادته؛ لأن آمنة لزمت بيت زوجها الذي ولد فيه ولدها ولم تغادره إلى دور أهلها في بني زهرة وكانوا من خيار القوم، وكانت لها أخت في بيت عبد المطلب هي التي ولدت له حمزة. وهذا البيت الذي ما يزال بمكة؛ فهو مكان ارتفع عن الطريق بنحو من متر ونصف متر، وينزل إليه بسلم من الحجر يوصل إلى باب يفتح إلى الشمال ويدخل منه إلى فناء يبلغ طوله نحوا من اثني عشر مترا في ستة أمتار عرضا، وفي جداره الأيمن (الغربي) باب يدخل منه إلى قبة في وسطها (بميل إلى الحائط الغربي) مقصورة من الخشب داخلها رخامة مقعرة الجوف لتعيين مولد الرسول، وهذه القبة والفناء الذي خارجها لا تزيد مساحتهما عن ثمانين مترا مربعا، وهما يكونان الدار التي ولد فيها الرسول في شرق مكة، وقد ولد النبي وارثا لها، فلما كبر وهبها لعقيل بن أبي طالب فباعها ولده لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج، فلما بنى داره المشهورة بدار ابن يوسف - وكان بجوارها - أدخلها فيها إلى أن اشترتها الخيزران أم الرشيد والهادي العباسيين ففصلتها وأعادتها إلى ما كانت عليه وجعلتها مسجدا ومزارا.
ولا شك عندنا في أن أسرة النبي كانت أشرف قريش وأشرف أهل مكة نسبا وحسبا وأطهرهم سيرة وأعراقا وإن لم تكن أكثرهم مالا وجاها، ولكن لم تكن تقل عن بني أمية وجاهة، وإن كانت بيوت بني هاشم لم يبق لها كبير أثر حيال دار أبي سفيان البارزة بروز الطغيان في شوارع مكة إلى يومنا هذا! إلا أن معظم مال بني أمية أو بني عبد شمس لم يصل إليهم عن طريق الشرف والتجارة، بل عن طرق أخرى يفطن إليها القارئ من مراجعة تاريخهم، وقد يصور بعض المؤرخين أسرة بني هاشم في صورة أسرة قعد بها الدهر وقل مالها واحتفظت بتراث المجد القديم، وأنها كانت مهيبة الجانب بسبب ماضيها على حد إكرام أعزة قوم ذلوا بضياع المال واحتفظوا بكرم الأصل وطيب الأرومة وعراقة الجدود، وأن محمدا ولد في الوقت الذي آذنت فيه شمسهم بمغيب فرفع من شأنهم وأعلى من مكانتهم بعد انخفاضها ... فهذه صورة آثمة خاطئة؛ لأن أسرة بني هاشم وإن اشتملت على أبطال وعظماء وفحول، وإن أنجبت رجالا لهم مكانتهم، فإنها لم تتكالب يوما على المال ولم تسع إلى الإكثار منه في مجموعها وإن شذ بعض أفرادها كأبي لهب والعباس؛ فقد ثبت أن أبا لهب كان ذا مال بنص القرآن
ما أغنى عنه ماله وما كسب
وثبت أن العباس كان من أغنى أغنياء قريش بالربا (خطبة الوداع)، وثبت أن عبد المطلب نفسه كان تاجرا غنيا ذا زعامة في الندوة وفي المسجد وفي السياسة الخارجية، وكان رجل أسفار تصل به رحلته إلى اليمن تارة وإلى الشام طورا.
ولم يعش عبد الله أبو محمد عمرا كافيا ليرى الناس قدرته على كسب المال، غير أن هذه الأسرة لم تكن مفطورة على تكديس المال وتكوينه كما كانت تفعل بنو أمية أولاد عبد شمس أو أولاد الزرقاء، وقد جرت في عروقهم دماء تحفزهم على الخطف والنهب والسلب، ولم تتجه نفس أحدهم إلى الخير المحض أو المجد المجرد لا في جاهلية ولا في إسلام. كانت أسرة بني أمية ترى النجاح في المال وترى المال في كل سبيل ولا تأنف أن تناله بأي طريق، ولعل التجارة لم تكن إلا الوسيلة الظاهرة أو الستار الذي أخفت وراءه الوسائل الأخرى. كان أبو سفيان هذا من نوع الرجال الذين عرفوا في القرون المظلمة باسم «الكونديتوري»؛ أي الذين يقودون الأشداء من شرار القوم ويحمون المجرمين (انظر واقعة البراض التي سببت حرب الفجار ص...) كان في جاهليته لونا من مشايخ العصابات المسلحة الذين عرفوا في الولايات المتحدة في العصر الحديث باسم «البوص»؛ أي رئيس العصابة أو المنسر أو «جانجستر»، ولسنا أبدا مبالغين في الوصف؛ لأنه أسلم فيما بعد، ونحب أن نسجل جهاده، ولكن التاريخ يقتضي قول الحق، وكان الغدر من صفاتهم، وسببا لتعيير بعض خلفائهم بجدتهم الزرقاء.
وليس عجيبا أن ينشأ هؤلاء القوم على اعتبار المال أصل النجاح وأداته ومظهره وغايته، وأن يبرروا كل خطة في سبيل الوصول إليه، وأن تلازمهم تلك الصفة وما يتبعها من حب الشهوات والاستبداد والقسوة والإفراط في التماس السيادة، كما فعلت عائلة مديتشي أو بورجيا في عصر الظلمات، وكما تفعل عائلات كثيرة في هذا الزمان، ولكن العجيب حقا أن تعيش بجوارهم وترتبط بأواصر النسب معهم أسرة أخرى فتخرج الأبطال والكرماء والشهداء والأحرار والمنافحين عن الحق والخير ولا تتأثر بأخلاقهم ولا تغرق في خلالهم ولا تندفع في تقليدهم؛ وهي أسرة بني هاشم التي أنجبت عبد المطلب وأبا طالب والعباس وضمرة، وعلى رأس الجميع، بل على رأس قريش ومكة والعرب والعالمين محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم ؛ هذا هو الغريب حقا. وكما كان رجال بني هاشم شجعانا فضلاء بررة أنقياء مهيئين للملك والسيادة فلا يعترفون لأنفسهم بشيء منهما، كانت لهم نساء عرفن بالكمال والجلال والفضيلة، على نقيض إناث بني أمية ونسوتهم اللواتي تركن صحائف سوداء، كالزرقاء التي ذكرناها، وهند بنت عتبة وزوجة أبي سفيان. وكان النساء لا تقل عن الرجال في القسوة والطغيان والجموح وارتياد كل أمر مريب، والطمع في الملك والمال واقتناص الثروة من أي سبيل.
فكان من طبيعة الأشياء أن تنشأ عداوة في قلب الأمويين على الهاشميين في الجاهلية وبعد الجاهلية، في الجاهلية لأنهم يرون لبني هاشم أمجادا ليست لهم على قوتهم ومالهم، وفي الإسلام لظهور النبي في هذا البيت الذي يحسدونه ويحقدون عليه ويهابونه ويخشون مجاهرته بالعداء، وإن كان أبو سفيان قد نجح في التجميع والحشد والتحريض لمحاربة الرسول من فجر الرسالة إلى فتح مكة وأشرك أهله ونساءه في الكيد له ولمن يمت إليه بصلة متواريا خلف المصلحة العامة؛ وهي الوثنية المكية والأرستقراطية المالية؛ ولذا لا نعجب إذا كان من بين أغراض محمد القضاء على عظمة الأفراد المستمدة من الأنساب، وكذلك نبوه عن ألقاب التعظيم والتفخيم التي كان يتقرب إليه بها بعض المسلمين مخلصين وبعضهم متملقين أو متزلفين، فيوقف كلا منهم عند حده؛ فقد أسكت رجلا قال له: «أنت سيدنا وابن سيدنا» (المسند، ج3، ص241). وقوله عن نفسه لرجل تهيبه: «أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد.» هذا لأن قلبه كان مفعما بهيبة الله وحبه والخضوع له، وكذلك لأن طبيعته الإنسانية السامية كانت تأبى الكبرياء ولا تطمع في إذلال الناس أو الظهور أمامهم بمظهر العظمة الكاذبة ولم يكن بحاجة إليها (انظر رسالة الجاحظ في بني أمية).
قلنا لم يكن عبد المطلب فقيرا وهو رأس أسرة بني هاشم، ومن أدلتنا على ذلك سند مخطوط على تاجر من صنعاء يقر فيه بدين لعبد المطلب قيمته ألف درهم فضة، والسند بخط عبد المطلب نفسه، وهو خط يشبه كتابة النساء، مما يدل على رقة جانبه ولين عريكته، وقد عثر على هذا السند في بيت مال المأمون العباسي في سنة 812 م (انظر كتاب القرابة والزواج عند العرب، تأليف روبرتسون سميث، ص60)، وإذن لا يكون الرجل الذي يقرض دراهم الفضة بالألوف خارج وطنه بالمعوز أو الفقير . ولا يعقل أن جدا حنونا كهذا الجد الكريم يشعر حفيده الأعز بألم اليتم أو مرارة الحاجة. أما زعامة عبد المطلب وتمثيله لقومه فقد ثبتت بنيابته عنهم في مفاوضة أبرهة الأشرم، وبانفراده بمجلس الصدارة والشرف في المسجد وفي دار الندوة. ولم يكن الثراء مقصورا على عبد المطلب، بل كان ولده العباس من السراة المقرضين، وله أموال طائلة في الطائف لبني ثقيف، وليس صحيحا أن مال عبد المطلب عاد عليه من وظيفة السقاية؛ فإن نبلاء العرب لا يبيعون الماء؛ فقد كان أبوه هاشم تاجرا كبيرا تمتد به أسفاره إلى أطراف الجزيرة العربية، وقد تزوج في أحد أسفاره بسلمى مطلقة أحيحة أحد ملوك العرب، فورث عنه ابنه (شيبة الحمد) ثروته وتجارته وأضاف إليها تجارة في العطارة من بلاد اليمن، فلما كثر ماله جارى أهل زمنه في عقد القروض. وكان أبو طالب الذي كفل محمدا بعد جده بزازا وعطارا يبيع الطيب ويشتريه، واشتغل الزبير بن عبد المطلب بحركة النقل وهي في مكة من أهم مصادر الربح بالنظر إلى موضعها الجغرافي، وما تزال أعظم الأرزاق تعود عليها في المواسم كلها. وكان حمزة صيادا ماهرا ومقاتلا، ومات عبد الله والد محمد أثناء رحلة إلى المدينة في تجارة، وقد دفن بها في بيت بني النجار أخواله.
فهذه أسرة نامية ناجحة عاملة رابحة غارقة في النعمة موفورة الكرامة طويلة النجاد رفيعة العماد، لا تعرف الخنا ولا تركن إلى الغدر ولا تؤاخي قطاع الطريق ولا تتعهد بتوريد القتلة ولا تحمي المهربين، ولا تلجأ إلى كهان اليمن للاستفتاء في عفة نسوتها لتثبت تلك العفة بحيلة مكشوفة! ولا تؤجر الجناة لاغتيال الأبطال في ميادين القتال، ولا تعد نساؤها رجالها بالوصل والعناق وفرش النمارق إذا هم أمعنوا في إهراق الدماء، وتتوعدهم بالفراق والشقاق إن هم أعطوا أقفيتهم لأسياف الأعداء.
هكذا كان موقف الأسرتين عند ميلاد محمد. وليس بعجيب أن نتخيل ميل إحداهما للرجعية والمحافظة على القديم المجدي والركون إلى الدعة كشأن الأسر الغنية في البلاد المتعفنة، والدفاع عن نظام الطبقات وبغض المساواة والتعلق بالملذات التي يضمنها المال والأهواء، والأخرى للتقدم والحرية والإخاء. وكل ما يقال عن فقر بني هاشم واصطناع الأمجاد لهم بعد ظهور الإسلام كذب ونفاق وعداء، صنع كثيرا منه بنو أمية في دولتهم البائدة التي لم تعمر قرنا كاملا بعد أن ملأت العالم الإسلامي بالويلات، ولم يكد عبثها وخبثها ينتهي في الجاهلية بإسلام جرثومتي الشر أبي سفيان وهند (رضي الله عنهما؛ لأنهما أسلما فيما بعد!) حتى بدءوا في لون جديد من العبث والخبث منذ ولاية سيدنا عثمان - رضي الله عنه - أو على الدقة من النصف الثاني من إمارته بعد سقوط خاتم النبي من خنصره في بئر أريس في السنة السادسة من خلافته، ونحن لا نتعلق بالطيرة لسقوط خاتم أو سوار، ولكن الذي بذله عثمان من الجهود الجبارة لاسترداد الخاتم يدل على شعوره الباطن بأن عهدا قديما قد ذهب بذهابه وآخر جديدا بدأ، لم يكتف بنو أمية بجهر العداء لمحمد
صلى الله عليه وسلم
بعد رسالته، بل حرضوا أفراد أسرته عليه وضموهم إلى حزبهم وحولوا قلوبهم عنه؛ فكان عمه أبو لهب الذي نزل في حقه قرآن من أقسى النذر له ولزوجته من أفرح الناس به عند مولده، فأعتق جاريته ثويبة التي بشرته بميلاده، وكافأها لأنها أرضعت ابن أخيه اليتيم بضعة أيام، ولا شك عندنا في أن محمدا عاش سعيدا في كفالة جده وعمه؛ فقد دامت الأولى ثمانية أعوام والثانية إلى عام الحزن الذي مات فيه أبو طالب وخديجة بعد الرسالة ببضع سنين، وإن كانت كفالة العم قد انتهت عند بلوغ الرشد ولكنها استمرت إلى أن زوجه من خديجة، ولكنه لم يهمل في العطف عليه والولاء له؛ لأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
احتضن عليا وجعله من أفراد أسرة خديجة لقاء جميل عمه. أما رعي الغنم الذي نسب إلى الرسول فلا غبار عليه، وإن كان المؤرخون يستنبطون له أعذارا واهية كقولهم: إن الأنبياء كلهم رعوا الغنم ليتدربوا على رعاية الأمم، ويتمثلون بموسى وشعيب ... إلخ، ونسوا أن بيئة الصحراء تقتضي هذا العمل، وهي خير ما ينشغل به فتى في مقتبل العمر؛ ففيه صحة ونشاط وربح ويقظة، وقد صحب محمد إخوته في الرضاع في بني سعد أثناء رعيهم، ورعاها لعمه أبي طالب في ضواحي مكة، ولم يختصه عمه بالرعي ليتمه أو فقره؛ فقد كان ابنه جعفر يرعى غنم أبيه في بدر (الواقدي، ص73).
وما زال محمد حتى بعد رسالته يشفق على الإبل والغنم ويعالج مرضاها ويتعهد ضعافها فيما يرد عليه منها من زكاة المسلمين (الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، ج1، ص525)، وأثناء رعيه الغنم حذق ألوان حياة البداوة إجمالا وتفصيلا، فيدهش أصحابه وهو ذلك الحضري المولود في مكة مدينة الملاهي والتجارة وسكنى المنازل والقصور والمباهاة بالمال والقيان وشرب الخمور. ولكن محمدا كان بمعزل عن هذه الناحيات من الحياة، وقد أبى عليه ربه وخلقه أن ينغمس فيها أو يتذوقها.
ولم يكن في شيء من هذه المظاهر الفطرية ما ينبئ بفاقة أو فقر أو اضطرار للعمل لكسب الرزق؛ لأنه ما كان يعمل إلا ما يعمله أترابه من أولاد الأعيان أو المتوسطين والفقراء، فإن فوارق الحياة لا تظهر في المراهقة، ولكن محمدا رأى فوعى وحفظ، وغيره رأى ولم يع ولم يحفظ، ومحمد
صلى الله عليه وسلم
عندما شب وكبر وصار رسول الله لم يأنف أن يعمل ما فيه تخفيف آلام الحيوان، وغيره أنف واستكبر، وما هذا الحنان على الحيوان إلا شعاعا من نور الحب الإلهي الذي ألقاه الله على قلبه. ومن هذا القبيل حب محمد الخيل وتضميرها وشهود سباقها والمراهنة عليها والفرح بسبق خيله فرحا لا ينقص الكرامة، وقد قال فيها حديثه الشريف: «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة.» وقد لعبت الخيل في حروبه لعبا كان يوما له ويوما عليه، فإنها أتاحت الغلبة لفرسان خالد بن الوليد في أحد (انظر عن حبه الخيل المسند، ج5، ص27، والواقدي، 402 و184). كانت الخيل المسومة التي ورد ذكرها في القرآن في ملك كثير من كبار مكة، وقد اتخذوها للزينة والحرب؛ لأن في الإبل غناء عند الرحيل؛ فكانت الجياد تحفا تقتنى، يباهي بها أصحابها ويدخرونها لأيام الوغى، يشترونها من نجد التي اشتهرت من قديم الزمان بكرام الخيل، ويفتن من قديم شعراء الجاهلية في وصفها والتحدث بمحامدها (معلقة امرئ القيس). لم يكن محمد صيادا فيحتاج إلى عشرة الكلب، ولكنه لم يكره أن يقتنيه من يحتاج إليه في صيد أو حراسة أو تنبيه لقدوم ضيف أو عابر سبيل قد يكون في حاجة إلى القرى، ولكنه أحب القطة وأشفق عليها وسمح لها أن تنام على قميصه واختار أن يقصه من أطرافه على أن يقلق راحتها في نومها وأنذر من يحبسها ويجيعها بعذاب النار.
وقد أهلته حياة البداوة والعزلة في قمم الجبال أو على سفوحها وركوب الخيل وأعمال الفروسية للحرب، فاشترك في حرب الفجار (وقد وصفناها بالتفصيل في موضعها، في الكتاب الرابع، فصل: حرب الفجار). وسبب هذه الحروب انحراف حرب والد أبي سفيان عن جادة الحق والشرف؛ بأن نشر لواءه ومد فرشه وغطاءه للبراض قاطع الطريق ليقاسمه ثمار نهبه وسلبه، ولو كان في ذلك معاداة الملوك.
وقد ينفعنا أن نعلم تاريخ هذه الحرب وهو الربع الأخير من القرن السادس المسيحي 584-588م، وأن النبي حضرها في أواخر العقد الثاني، وقد أسهبنا في وصف هذه الحروب، لا لأنها دلت على لؤم حرب وبني أمية وتورطهم في الإجرام الذي يؤدي إلى القتال وإهراق الدماء، ولا لأن محمدا ساهم فيها بإعداد السهام لعمه الزبير بن عبد المطلب، ولكن أولا: لأن محمدا كان أثناءها يقظا إلى العبرة والموعظة ونتائج الأعمال؛ فقد آثر طوال حياته أن يحل المعضلات بالمسالمة والمصالحة إن تمكن؛ تفضيلا منه للسلم على الحرب وويلاتها كما وقع في صلح الحديبية. وهذه النزعة إلى السلم التي تردد ذكرها في القرآن الكريم وتكرر صداها في الآيات البينات والأحاديث الشريفة تقضي قضاء مبرما على تهمة الإسلام باللجوء إلى السيف والرمح لقطع دابر أعدائه، وكانت حجة من حجج المبشرين أن محمدا دعا للإسلام بالسيف، وأن عيسى دعا إلى دينه بالسلام. وقد شهد بتلك النزعة السلمية المحمدية ألد خصومه الأستاذ مرغليوث؛ حيث يقول: «وقد رأى محمد ضرورة التسوية في كل المعضلات بطريقة ناجعة سريعة أقل ضررا وأكثر ثمرة من الحرب، وثبت على هذا المبدأ الذي أفاده من مشاهدة حرب الفجار.»
وثانيا: أن محمدا لم ينظر إلى الحرب على أنها لعبة تلعب على أمد طويل كأنواع الرياضة، بل يحب أن تعتبر الحرب واقعة اضطرارية ذات نتيجة حاسمة في تاريخ البشر. وقد كانت حروبه كلها على هذه الوتيرة، وكان في أهمها مدافعا لا مهاجما (أحد والأحزاب) وحتى في الحرب الدفاعية التي قام بها، كان خصومه - سواء منتصرون أم منهزمون - يتوعدونه بحرب أخرى في العام المقبل (كما فعل أبو سفيان في بدر وأحد) ولكنه لم يستعد مطلقا لحرب انتقام؛ بل خرج إلى أحد نفسها مرغما.
ولم يقلد أحدا من أبطال قريش الأقوياء كما فعل عبد الله بن جدعان في توفير السلاح والذخيرة لأعداء قومه الناقمين (حرب الفجار)، على الرغم من أن عبد الله بن جدعان كان موضع الأنظار من فتيان قريش ومحل الإعجاب والمفاخرة لقوته وغناه وكرمه الذي تجلى في بيته المفتوح ومائدته الممدودة، يطعم الطعام لكل من ورد جفانه، وإن كان سر ثرائه غامضا، وقد عللوه تارة بالعثور على كنز من الجواهر، وطورا باغتيال المال بالغزو في شبابه، فإن صاحب الملايين المكي لم يقصر في إنفاق الكثير مما وصل إلى يده سواء باللقية أو بطريقة أخرى، ولكن على كل حال لم يكن شحيحا كبني أمية ولم يكن حسودا ولا غادرا. قد كان نهابا وهابا ولكنه لم يكن دنسا ولا حقيرا وسط الغنى ولا دساسا، ولعله أعطى السلاح لأعداء قومه لعهد قطعه على نفسه، وقد رأينا يهوديا شهما هو السموأل يشهد قتل ولده بعينه ولا يفرط في أمانة امرئ القيس وهو ليس من جنسه ولا دينه، فلا عجب إذا رأينا ابن جدعان يفي بكلمته، ولا سيما أن مسبب الشر الذي أنتج الحرب لم يكونوا بني قيس خصوم قريش، بل كان حرب بن عبد شمس ووالده أبو سفيان العرقاء في القرشية! وقد يقسو الرجل على قومه إذا كانوا في جانب الباطل تأديبا لهم ومتابعة لضميره، وقد جاء القرآن مؤيدا لهذه النظرية بآيات كثيرة نذكر منها:
كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين
والثانية:
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون . ولا ننس أن لعبد الله بن جدعان شأنا آخر وفضلا لا ينسى؛ فقد دعا في بيته إلى حلف الفضول، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول، أما لو دعيت إليه اليوم (أي بعد البعثة بعشرين عاما) لأجبت! وما أحب أن لي به حمر النعم وأني نقضته.» أضف إلى قوة عبد الله وشجاعته وكرمه سمو فكره وبغضه الظلم وإهراق الدماء، وتجد أسباب تفخيمه على ألسنة الشعراء الذين نالوا من رفده، ولم يكن في مكة صبي لم يأكل من جفان ابن جدعان حتى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقد كانت منصوبة تلمع في ضوء الشمس حافلة بألوان الطعام، يردها أولاد السادة وغيرهم ولا يعترضهم أحد. ولكن عبد الله لم يقد جيشا ولم يرأس جندا؛ فقد ترك القيادة لحرب والد أبي سفيان؛ لأنه رأس الضلال والفتنة وحامي البراض الذي سبب القتال، ومن شهامة بني هاشم أنهم لم يتخلوا عن بني أمية في هذه الأيام العصيبة فحاربوا خصومهم وأخذوا بناصرهم في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل! ولم يكن أحد منهم في خطر؛ فقد رأينا محمدا نفسه يشد أزر عمه الزبير بن عبد المطلب الذي وقع عليه واجب القيادة القرشية يوما، وقد ذكرناه هنا وهو عم النبي وأحد سادة بني هاشم؛ لأنه لم يكن محاربا مغوارا وحسب، بل كان شاعرا وكان كريما وإن قل عن ابن جدعان، ولكن كرمه استطال وامتد إلى قبائل غير قبيلته فأعطى شعراءها وأجازهم جوائز كبرى على قصائدهم واصطحب محمدا في أحد أسفاره إلى اليمن (رحلة الشتاء)؛ فقد كان يتردد إلى الجنوب أحيانا كسالف عهد والده عبد المطلب، وكان يأبى أن يقر لحرب بشيء من نعرة السيادة التي ادعاها حينا كذبا ومينا، وينازعه إياها ولا يعترف بها إلا لوالده عبد المطلب (المحاسن والأضداد للجاحظ، ص154). •••
فإن تعجب لشيء فاعجب لهذا الفتى المكي الحضري المولود بها والناشئ في بطحائها وضواحيها، والمستقر استقرار كل مواطن مدني بين جدرانها وفي حاراتها وأزقتها، كيف يصير محاربا ومشاركا في الحياة العامة، يحضر خطبة قس بن ساعدة في سوق عكاظ، ويشترك في حرب الفجار، ويشهد حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان، ويلتف حوله أبناء الأعيان كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وتسير به الصدف إلى الشام واليمن، وينبغ في الفروسية والرماية ولا يجد به حاجة لتعلم القراءة والكتابة، وكان جده يجيدهما؛ كل هذه وتلك وهو بمعزل عن حياة اللهو والفساد التي حفلت بها مكة في كل عهودها. كانت لديه مواهب حب الجمال وسماع الغناء ولكن لم يقع في شبابه في فتنة النساء ولم يشرب الخمر ولم يلعب الميسر، فإن كان بعده عن هذه المعاصي لسبب ضيق ذات يده فأنعم به من ضيق! وإن كان بعده عنها بفطرته السليمة التي تقصيه عن النقائص بدون حاجة إلى المواعظ فحبا وكرامة، وإن كان بعده عنها بإرادة الله الذي جعله على خلق عظيم وأدبه فأحسن تأديبه فألف نعم وزيادة نعم الخالق ونعم المربي. وقد ثبت بما لا شك وراءه ولا ريب فيه أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان أبعد الشباب عن اللهو؛ وهذا النوع من الشباب لم ينقطع من الدنيا حتى في عصور الانحطاط والاضمحلال، وكانت مكة منحطة ومضمحلة، وكانت مدينة فاسقة فاسدة تخرج فيها المغنون والقيان وأهل المجون طوال عصور الجاهلية إلى عهد الهادي صاحب المنشور الشديد، بل إلى ما بعد ذلك بمئات السنين!
ألا نجد في القاهرة وبغداد وبابل وباريس في وسط مفاسقها ومفاجرها شبانا وشابات على أتم استقامة وعفة وترفع؟ وقد وصلت المفاسد والمفاسق في عصرنا هذا حدا يعجز القلم عن وصفه! ولكنك لا تدهش إذ تشهد شابا لا يعرف غير العمل والجد! فلم إذن يدهش الأغيار لاستقامة محمد في شبابه ويزعمون أن ما قيل في مكارم أخلاقه من المحامد مصنوع ومنحول ومخترع بعد الإسلام؟! هل جاء الإسلام في حاجة إلى تمجيد صاحبه بعد القرآن وبعد النجاح وبعد الفتوح؟ وهل كان صاحبه أعوج أو ملتويا؟ وهل كانوا يسمونه الأمين لو لم يكن أمينا وأهل مكة أحد من السيف في النقد وأقذع من المرارة في توجيه اللوم وأدق من مفتش الجمارك الأمين في التنقيب على معايب خصومهم؛ ولم يعرف عن أمه وأبيه وجده وأعمامه وأخواله سوء حتى يرثه أو يقلده؟ وهل كانت خديجة العاقلة الحازمة البالغة الرشيدة التاجرة الحاذقة لتسلمه زمام مالها ثم زمام دارها ومالها لو رأت منه اعوجاجا أو عزوفا عن الحق؟! وقد كان خلقه القويم ثمرة لعقله الراجح، وقد كان هذا العقل تام النضج عبقري المواهب، ومن هذه المواهب سعة الخيال ودقة المنطق وسرعة انطباع الصور والمعاني في جوهره، ومنها أيضا حب الاستطلاع والشوق المحرق للمعرفة بمعناها الفلسفي؛ تلك المعرفة التي تنطوي على المادة والروح الظاهر والباطن؛ فكان يكفيه أن يرى طرفا من أرض الشام أو بر اليمن ليدرك ما فيها من جمال وفتنة وخصوبة ورخاء ويسر، وكان يكفيه أن ينظر إلى الرجل أو يرى سيره أو يسمع صوته ليحكم عليه حكما صادقا كما لو أنه عاشره عشرة طويلة.
وهو أول نبي مصلح أمر الناس بمخاطبة الناس على قدر عقوله. لقد رأى بصفاء جوهره العقلي اختلاف المواهب كاختلاف الرماية؛ فمن يكون إدراكه كرمية العاجز لا يعامله معاملة العقل البعيد المرمى. وإن يكن أهل مكة قد جاسوا بحكم تجارتهم خلال الممالك البعيدة حتى امتدت أسفارهم إلى بلاد الروم وبلاد فارس ومصر، فضلا عن شواطئ الخليج الفارسي وعمان والحبشة والعراق وأقصى اليمن وحضرموت، فلم تكن أسرة بني هاشم ممن توغلوا في هذه الأقطار البعيدة. ولا جدال في أن محمدا لم تتجاوز أسفاره في شبابه حدود الشام واليمن، ولم يصل قط إلى شواطئ البحار؛ لأن أهل مكة أنفسهم لم يكن لهم حظ في الملاحة ولم يفكروا في تأسيس مجدهم على الماء واكتفوا بأن تكون إبلهم سفائن الصحراء، وإن يكن بعضهم قد ركب البحار في سبيل التجارة، ولكن الممالك التي رحلوا إليها كانت سبلها برية ما عدا الحبشة التي تحتم عبور البحر الأحمر في ساعات محدودة. أما مصر فكانت طرقها البرية معبدة.
ولعل محمدا كان من أزهد الناس في ركوب البحار؛ ولذا نرى آية كبرى في صدق الوحي بما جاء في القرآن الكريم من وصف الطوفان ورحلة نوح وفي انشقاق البحر لعبور بني إسرائيل وفي وصف سير السفن وهبوب الرياح والعواصف وصفا يكاد يكون واقعيا؛ فلو كان محمد أبحر مرة واحدة لزعموا أنه رأى فوعى فوصف من عنده! ولكن الواقع ينفي عنه الإبحار نفيا باتا، وليس وصف البحر في القرآن هو وحده الذي يدهش، ولكن وصف مصر الذي ورد في القرآن عشرات المرات في عرض الكلام على رسالة موسى وحياة فرعون؛ يعد وصفا واقعيا كأنك تراهم.
ومن الثابت ثبوت نسبة الأمية إلى الرسول أنه لم تطأ قدمه أرض مصر، وإلا ما أخفاها أحد من كتاب السير الذين لم يخفوا رحلته إلى الشام واليمن، ولم يكونوا في وقت تدوين هذه السيرة (ابن إسحاق في القرن الأول وابن هشام في الثاني) يحسبون حساب نقاد مكرة ينبشون كل زاوية وخفية وخبيئة أمثال نولدكه وجولدزيهر ومرغليوث. والرحلة إلى مصر أهم وأضخم وأكثر كلفة من رحلة الشام واليمن، ولو أنه زار مصر لذكرها في الحديث؛ لأنه مع صدقه الرباني لم يعهد فيه إخفاء شيء من حياته الخاصة، وقد جهل حتى زراعة النخل واعترف بذلك لأهل المدينة عندما لم يفلح نصحه إياهم، ولم يتردد في قبول رأي الصحابة في مسألة آبار الطريق من المدينة إلى بدر، ولا في العمل بإرشاد سلمان في حفر الخندق. ولا شك في أن الفترة التي تلت زواجه واستقراره وامتدت من بنائه بخديجة إلى البعثة اقتضت اتصاله بكثير من السائحين والوافدين على مكة في مواسمها المعهودة، ولكن هذا الاتصال لم يتجاوز الساعة أو الساعتين كوقوفه بحانوت سياف رومي بمكة لا يتكلم إلا لسانه ولا يتعامل إلا في بيع السلاح وإصلاحه، فأي علم روحاني أو وحي رباني أو تاريخ عالمي يمكن لهذا الرومي العامي أن يلهمه أو يلقنه لمحمد في شارع عام لا ينقطع منه الأقدام
لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ؟! وهل يعقل أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
يترك الأحبار والرهبان ونساخ التوراة والإنجيل وقساوسة نجران ويتلقى العلم والدين على حداد أو نجار وهو الذي نزلت عليه آية
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ؟! وقد خفي على بعض المستشرقين أن ابن العشرين والثلاثين لا يقتفي أثر علم أو فن أو صنعة إلا إذا كان هاويا ومتطلعا إلى إتقانها بعد ذلك. والنبوة ليست حرفة ولا صناعة ولا هواية بل أمانة وعبء وتبعة كبرى، فإن قالوا بأنه تلقى علما ومعرفة من البشر ليتقن النبوة كذبهم الواقع؛ وهو أن الوحي أتاه فجأة وعلى غير انتظار أو استعداد سابق، وكان أقرب إليه من الاختلاف إلى حداد أو نجار أن يحاول القراءة والكتابة ليسهل عليه درس الأخبار في كتبها، وكانت ميسورة له في مكة نفسها؛ فلم يرو أحد من خصومه أو أنصاره أنه قرأ أو سمع ما يملأ صفحة واحدة من أي كتاب، بل لم يفك عقدة سطر واحد في حياته. وقد يكون إهمال تعليمه (وقد جاء نعمة عليه لتمام إعجاز القرآن) بسبب وفاة والديه وفرط حرص وتدليل من جده وعمه، كما قد يكون أحدهما حاوله فلم يستجب الغلام لرغبته ، ولم يتشدد أحد لأن مدار الحياة كان على المشافهة دون التدوين إلا في الندرى؛ فالذاكرة كانت تغني عن التحبير والتحرير.
وقد زعم كاتب فرنسي
Mayeun
أن بلاغة القرآن الذي ألفه محمد (كذا) نشأت عن ميل البدو لدرس البلاغة وإتقانها والحذق في تأليف الخطب الفصيحة وإلقائها، فلعل محمدا مارس هذا الفن في صغره حتى أتقنها وجنى ثمرات دروسه في كبره. وهذا المؤرخ الذي تعوزه الفطنة والبصيرة لم يدرك أن العرب إنما اشتهروا بالفصاحة لقدرتهم على الارتجال (البيان والتبيين للجاحظ)، وأن فحول خطبائهم حتى بعد ظهور الإسلام وتوغله كانوا المرتجلين، ومنهم من كان يرتج عليه؛ أي يغلق ذهنه ويعصيه لسانه وجنانه فلا يتكلم، فلو كانت الخطابة بالممارسة والتحضير ما عجز أحد؛ فإن الاستظهار والكتابة جعلا من الأفدام خطباء في عصرنا هذا وفي العصور الماضية، وإن التحضير والتدوين وفنون الإلقاء كانت خصوصية للغربيين من عهد اليونان والرومان؛ ولذا نجد خطب ديموستين وشيشرون مسجلة، ولكن هذا لا يمنع أن كان فيهم مفوهون يرتجلون أمثال سقراط وكانيلينا؛ فالخطيب الذي يتصف بالخطابة في العرب هو المرتجل، والشاعر الخليق بالشعر كالخطيب، ولو أن محمدا درس واستعد ألف خطبة لم تكن لتفيده إصبعا ولا مترا، فإن معظم القرآن منصب على واقعات الأيام وحوادث الحاضر وصفات المؤمنين والمنافقين وتشريع الحلال والحرام ومقارنة المعاصرين بالأمم البائدة، وهي ألوان من الحقائق التي استجدت ولم يكن لأحد بها علم من قبل، كسورة «الأنفال» في موقعة بدر، وسورة «الفتح» بعد صلح الحديبية، فلو أن أديبا نابغا قضى نصف عمره في إعداد المقولات وتنميقها، ثم اشتغل بتحرير صحيفة يومية مدار العمل فيها على الحاضر والمستقبل، والاستشهاد بسياسة الدول في الماضي، والتعليق على كل واقعة وحادثة، ووصف كل خصم وكل مناصر، والخوض في حقائق الكون والتشريع؛ لم تفده المقولات التي أعدها ولم تنفعه الفصول التي عقدها ولم تغنه المحفوظات البليغة التي دبجها. وهذا القرآن كائن حي يتحرك كالطير في السماء أو كالسمك في الماء، عليه علائم الجدة وليس عليه مشابهة القديم الموضوع.
من أين لمحمد
عبس وتولى * أن جاءه الأعمى
ما لم تحدث حادثة معينة؟
ومن أين له
تبت يدا أبي لهب
وهو عمه الذي أعتق جاريته ثويبة عندما بشرته بميلاده؟ ومن أين له
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار ؟ ومن أين له سورة «الحجرات» وصفات المنافقين والقرآن يصفهم بأعظم ما يصفهم أعظم علماء النفس في العصر الحديث
allons donc Mr. Meyeun ! وهي جملة تقال بالفرنسية نخاطب بها موسيو مايو، ومعناها: هيا انصرف يا صاح أو فتش لك عن قطة تغمض عينيها؛ فإنك محدود الفكر حتى توهمت أن مكة والحجاز مدرسة ثانوية في باريس يتقن طلابها دراسة الأدب اللاتيني أو يترسمون خطوات لابرويير وبوسويه، حتى أنت يا مايو تجتهد وتكد فلا تخجل من إبراز بضاعتك لتكسب أجرك من محاربة النبي في رسالته فتلتمس المحال وما وراء المحال!
هل أفاد محمد شيئا من حديث القادمين على مكة والنازحين عنها وهم بين مقيم أياما وظاعن؟ إن أمثال هؤلاء إذا تحدثوا لأهل البلدة لا يكون حديثهم لذيذا أو منتجا إلا إذا طال، ولا يطول الحديث إلا إذا كان في خان أو حان ولم يعرف محمد أحدهما، وقد حاول السمر مرة فغشاه النوم حتى أصبح فلذعته أشعة الشمس على باب أحد البيتين الذي كان فيه الهرج والمرج والغناء واللهو. وقد يستفيد من الأحاديث لو كان ذا حرفة أو صناعة أو كان دائب السفر في التجارة ولم يكن محمد حدادا ولا نجارا ولا غزالا، ولم تظهر له موهبة في شيء غير التفكير والتأمل، حتى التجارة لجأ إليها مرغما وتخلى عنها بعيد الزواج بقليل، وأغلق باب دكان شارك فيه بزازا أو تاجر جلود. كان محمد من أواخر العقد الثالث لحدود الأربعين كسولا متراخيا يركن إلى الراحة والتأمل، قليل الكلام جدا منطويا على نفسه شاعرا بغناها عن الاتصال بالغير، ولم يشعر قط بحاجة إلى الإفضاء بشيء مما يحس إلى أحد من الناس، وهذه الخلة المعنوية التي سببها فرط حيائه وتردده في اقتحام المواقف وغشيان المجالس امتدت معه إلى ثلاث سنين بعد الرسالة، وهي الفترة التي كان فيها المسلمون بمثابة جمعية سرية مع أن الأمر قد صدر إليه:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر .
كانت نفسه
صلى الله عليه وسلم
منطوية على الجمال والجلال لا يعوزها أن تسمع لغير صوت الله ولا أن تنظر لغير بهائه وهو نور السموات والأرض.
إذا كان الأنبياء يتعلمون نبوتهم ويتلقون رسالتهم ويتلقفون الآيات من أفراد الراحلين والنازحين وينتظرون في مواقف القوافل ومبارك الإبل ليلتقطوا نادرة أو نكتة أو لفظا غريبا أو خبرا طريفا فأية نبوة هذه تكون؟ وهل كان محمد وحده يسعى لهذا التعليم في شوارع مكة؟ فإن كان معه غيره - ولا ريب في ذلك الافتراض - فكم نبي تخرج من تلك الشوارع ولم لم يصر الحداد أو النجار أو الرحالة أو المغامر الذي لقنه هو نفسه نبيا ما دام هو الأصل؟ هذه حيلة العاجز عن نقض الحق يتحكك بالصغائر ولا يجد الحبة ليجعل منها قبة.
وإن رأيتم أن تجاروا أخيلتكم لتثبتوا أن محمدا انتحل واقتبس وادعى وزعم فلا تصدقوه بتاتا وأريحوا أنفسكم وأريحوا سواكم، ولكنني ما لي أراكم تتخبطون؛ فتارة هو نبي لا شك فيه ولكنه مبعوث للعرب دون سواهم! وطورا تقولون إن لهجته لهجة صدق ولم يعرف عنه غير ذلك! وتقرون وفي مقدمتكم مرغليوث «مما لا شك فيه أنه لم يتلق أي تعليم وإن قل، ومن المؤكد أنه لم يتعلم في طفولته القراءة والكتابة (ص59 من كتابه)، وإن كانت القراءة والكتابة معروفتين في مكة لحاجة التجارة إليهما، وقد اعترف محمد بأنه تيتمه من والديه وجده كان سببا في إهمال تعليمه، وكذلك كان معدوم الأذن للشعر؛ أي فاقد موهبة الأوزان والنظم، ومن هنا كان محروما من الحفظ عن ظهر قلب، الذي تعودته العرب في النثر والشعر.» فإذا كان الرجل أميا يتيما مهملا فاقد الميل للشعر، فكيف يعي حقائق الكون والعالم والحياة التي تعد بالملايين، ثم يحشدها ويرتبها بعد صياغتها صياغة أعجزت الإنس والجن، ثم يبرزها على صورة كتاب منزل، وبعضها يصفه أصحابه وتابعوه بأنه حديث شريف وتقضى الأعمار في درسهما وفهمهما وتأويلهما للعمل بهما في أقطار العالم؟
وهذا القرآن يتحدى المعاصرين وفيهم الشعراء والبلغاء والقادة والساسة وألد الخصوم؛ فلم يتقدم واحد منهم ليقول آية واحدة على مدى ثلاث وعشرين سنة، فإن أقررتم بأن هذا وحي الله على أية طريقة يقبلها العقل ويقرها العلم الحديث فحبا وكرامة وانحلت القضية، وإن زعمتم أنه كلام محمد التقطه والتقفه وخطفه من أفواه الناس فاعترفوا معي بأنه مخلوق فوق طاقة الإنسانية، وحق عليكم أن تتخذوه إلها كما اتخذتم عيسى ابن مريم وأمه أيضا إلهين! ولا نحب أن نفضل نبيا على نبي، ولكن عيسى في باب الإنتاج الروحي والعلم اللدني لم يأت بشيء من هذا، بل أتى بمعجزات أخرى وصفها القرآن بالإسهاب.
وما لي أراكم لا تجادلون في رسالة موسى وتقرونها مهللين مكبرين وتضمون كتابه (على ما بنصوصه المعلومة) إلى كتابكم باسم العهد القديم والعهد الجديد، كأن الإنجيل وحده لا تقوم له قائمة فشددتم أزره (كما شد هارون أزر موسى) بالتوراة، وهي نسخة طبق الأصل مما بين أيدي اليهود، مع أنهم ألد أعدائكم وأعداء أربابكم الثلاثة، وفي عزمكم وعقيدتكم أنهم صالبوه وقاتلوه حقا ويقينا وصدقا، وأن ديانتكم لا وجود لها إلا إذا آمنتم بصلبه على أيديهم، فهل كانوا على حق ولذا قدستم كتابهم، فلم إذن تبغضونهم وتذبحونهم، أم كانوا على باطل؟ ولم إذن تعتزون بكتابهم وتجعلون كتابكم جزءا منه لا ينفصل عنه؟!
الحق أن هذا تناقض ضخم وأفضح وأفظع وأغلط مما يستطيع ابتلاعه واستساغته غيركم.
بل ما تقولون وأنتم تحاسبون محمدا الأمي باعترافكم على أحاديث خيالية توهمتم أنها جرت في شوارع مكة، ومن حسن الحظ لم يكن بها مقاه ولا أندية ولا مدارس ولا جمعيات تلقى فيها محاضرات ولا صحف ومجلات ولا كتب مطبوعة، فما قولكم في موسى - عليه الصلاة والسلام - وهو الذي تلقى العلوم العالية في قصر فرعون وكلية عين شمس وعاشر كهنة إيزيس - وهم جماع العلم والأسرار - عشرة التلميذ لأساتذته، ولم يجئ بآيات محفوظة تلقاها عن الوحي بل جاء بأحجار وألواح حفرت فيها الشريعة حفرا. فلم لم تكذبوه ولم لم تتهموه بتأليفها وتلفيقها وقد غاب موسى عن مصر عشر سنين في مدين قضاها في مصاهرة شعيب ومعاشرته فلم تنسبوا إليه أنه تعلم عليه أو استحضر النبوة والرسالة؟!
وعيسى - عليه الصلاة والسلام - خرج من وطنه صبيا وفرت به أمه الصديقة وزوجها المكرم يوسف النجار إلى مصر وقصدا به إلى المطرية (ميتاريا)؛ حيث كانت مدرسة عين شمس الكبرى ، وحيث تلقن موسى العلم قبله بمئات السنين، وكانت مقصد كبار الفلاسفة من اليونان، ولم يظهر في وطنه إلا في نصف العقد الرابع، فلم تسألوا أين كان وماذا صنع وهل أضاف إلى علم اليهود وهم شعبه علم المصريين وهم أساتذة العالم في علوم الدين والدنيا؟ إني أقسم بالحق لا أكتب لكم فلستم بالمقتنعين، ولكني أكتب إلى من يقرءون كتبكم مغرورين بزخرف القول ومخدوعين بحسن السبك ومجذوبين إلى ما لا يدركون! إلى هؤلاء الأحداث الذين يستهويهم كل ما هو مطبوع بأحرف إفرنجية، ويفتنهم كل اسم له رنين أجنبي، وإلى كل كهل شاب قرناه دون أن يتحقق من بسائط الأمور حتى صارت أباطيل المأجورين والمزيفين في نظره القاصر كلاما مقدسا، فما قيمة أقوال هؤلاء الناس حيال هذه البراهين الناصعة التي لا تكلفك في إقامتها فوق التفكير الفطري والمنطق السهل القريب؟! لو كان محمد نابغة في الحفظ فلم لم يستوعب إحدى المعلقات؟ ولم لم يتمثل بشعر؟ ولم لم يع خطبة قس؟ ولم يعد على الأسماع مثلا فارسيا أو روميا أو حبشيا أو كلمة هندية أو نادرة مصرية أو اسم ملك واحد غير كسرى وفرعون وتبع والنجاشي وقيصر أو هرقل؟ وهذا القرآن له أساليبه المتعددة المذهلة المرقصة حينا والمرعبة والمخشعة حينا. وهذا الحديث المحمدي وقد عقدنا فصلا طويلا للمقارنة بينهما لنثبت أنهما ليسا من بحر واحد ومن وعاء واحد ولا من خطة واحدة ولا من نفس واحد ولا انفصلا عن جبل واحد ولا نسجا من غزل واحد ولا صيغا من معدن واحد ولا رصعا بجوهر واحد، بل إن القرآن لا يشبه الشعر الجاهلي ولا أسجاع الكهان ولا يشبهه حديث النبي، بل كان محمد يبغض الشعر والنثر المسجع كليهما، ولا يعي الخطب الطوال، والمرء لا يقتبس مما يبغض ولا يصوغ على أسلوب ينفر منه، ولو أن القرآن يشبه أحدهما لكان مجال القول ذا سعة وطول وعرض لدى المستشرقين والمقلدين. وهل إذا كان محمد التقط والتقف وانتحل واقتبس من النصارى واليهود - وهم طبقة الراحلين والنازحين في شوارع مكة - كان يمكنه أن ينظم تلك الجواهر في عقود مع انطباقها على الحق والواقع بإقرار أحبار اليهود وقساوسة النصارى فلم يخطئ مرة ولم ينس ولم يحذف ولم يزد ولم ينقص ولم ينقح كلمة ولا حرفا! لا بد أن هؤلاء المسافرين والحدادين وأضياف الحانات والخانات كانوا أنبياء أو على الأقل ملائكة! إن العلماء الذين يدونون علومهم بلغاتهم في أوطانهم بعد إتقانها يخطئون، ومؤلفو دوائر المعارف والمعلمات يسهون ويقدمون ويؤخرون ويجعلون مسارد لتصويب الأخطاء وينقحون المطبوعة تلو المطبوعة ويجادلون الناقدين، فكيف لهذا الرجل أن لا يخطئ ولا يحتاج لتصحيح فكرة أو حقيقة أو واقعة أو برهان؟ والقرآن كما يعلم العالم متواتر منذ ستين وثلاثمائة وألف عام. وإن كان محمد لقط وانتحل فمن أين مواهبه الخارقة في تعرف الرجال وفهم طبائعهم وأخلاقهم بنظرة فاحصة؟ ومن أين هدايته في المواقع وتدبيره في السلم والحرب وتشريعه الواسع البعيد وأجوبته الحاضرة في كل مسألة وبعده عن الربا والنفاق وبغضه التمليق؟ ومن أين صلاته ودعاؤه يوم ثقيف وحله معضلة الحديبية ومسلكه الحاذق الباهر بعد هزيمة أحد؟
لقد أثبت موقفه في حرب الفجار أنه من فجر شبابه خير الشباب، وأنه مسير لغير ما خلق له حرب وأخو حرب وأبو سفيان وابن أبي سفيان وامرؤ القيس وإن يكن في شبابه شديد الحرص على حياته (لما يعلمه الله من قدره ومستقبله)؛ فقد خاض غمار الحروب بشجاعة فائقة في بلاد كانت شجاعة المرء فيها جزءا كبيرا من رأس ماله وجاهه ووجاهته، ولكنه لم يكن مجازفا مجازفة خرقاء، وكانت عنايته بشخصه ومظهره وهندامه ونظافة بدنه وطهارة ثوبه وعفة ملمسه مضارب الأمثال، حتى لقد حرم على نفسه أن يتذوق طعاما تفوح منه رائحة غير مقبولة يتلقاها مخاطبه من أنفاسه، وكانت عنايته بفمه وأسنانه ونصحه لقومه بالسواك تنبئ بإشرافه على مستقبل الحضارة التي جعلت من نظافة الفم قانونا لصحة البدن كله. أليس الفم موضع الطعام والشراب والحديث والتنفس والابتسام والتقبيل، وأي وظائف أشرف وأغلى من هذه الوظائف الست التي هي خلاصة حياة الرجل وعقله وخلقه، بل هو مقر اللسان الذي عرف الإنسان به؟
وقد عرف محمد في شبابه كيف يكبت جماح الشهوة والضرورة الطبيعية للزواج، وأمثاله يعقدون على بنات وهم دون العشرين، فماذا عليه لو اختار فتاة يعقد عليها ومكة كلها زواج محلل ومحرم واستمتاع مباح ومخادنة مشروعة! وقد روى التلمود أن تسعة أعشار الميل إلى الزواج منحت للعرب ووزع العشر الباقي على سائر أنحاء العالم؛ فلا يملك العربي أن يصبر بلا زواج بعد الثامنة عشرة. وهذه الكلمة التلمودية صادقة ومشاهدة في كل العصور، وهي إحدى مبررات تعدد الزوجات في بلاد العرب، وإحدى أسباب انتشار العرب والإسلام في أنحاء العالم على قلة عددهم في جزيرتهم قديما وحديثا، والأدلة عليها ظاهرة في حياة المكيين وغيرهم. وقد ثبتت في حياة عبد المطلب نفسه؛ فإنه خطب آمنة بنت وهب لولده عبد الله وعقد لنفسه على أختها، وهي التي ولدت له حمزة عم محمد ومثيله في السن، وقد كان عبد المطلب عندئذ كبيرا؛ فقد مات وخلف محمدا وحمزة في الثامنة، وكان حمزة من الطفولة والرعونة حتى عير محمدا باليتم مرة! ولم يؤمن بدعوته إلا بعد أن تحركت نخوته على أبي جهل الذي سب محمدا في الطريق العام، وكفر حمزة عن مزاحه مع ابن أخيه بالإسلام فالبطولة النادرة فالاستشهاد في أحد، وأثبت محمد تمتعه بتلك القدرة التي أشار إليها التلمود فعقد على ثلاث عشرة زوجة كلهن أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن وأرضاهن - والتحق بالرفيق الأعلى تاركا تسعا، ولم تسبقه إلى نعيم الجنة غير سيدتي خديجة - رضي الله عنها .
ولكن محمدا صبر على طبيعته القوية سبع سنين بعد السن المحددة لزواج الرجال، قضاها كما قضى سوابقها في العفة والطهر والصون والصبر الجميل. وهناك رواية تشير إلى أنه خطب أم هانئ بنت عمه أبي طالب فلم يتم الزواج؛ لأن محمدا كان يراها في طفولتها بحكم العشرة الأخوية في بيت أبيها، والعرب تحرم الزواج الذي يسبقه الميل، يؤيد ذلك حديث ليلى وصاحبها وبثينة وعاشقها، وما تزال هذه العادة مرعية في عصرنا هذا . ولعل أم هانئ (التي توجد باسمها مئذنة في الحرم المكي يؤذن من عليها شيخ المؤذنين في الأوقات الخمس) أرادت ولم يرد والدها حبا في قوة النسل الذي يؤثر فيه زواج الأقارب.
أو لعل محمدا لم يكن إلا مشغوفا بالحنان يبادر إليه لتعويض ما فقده بوفاة أمه، ولعل موقفه كان يقتضي الانتظار حتى يتسع رزقه لزوجه وأولاده، والحق في كل هذا أن الله احتفظ به لخديجة التي بدأ نجم الإسلام يعلو على يديها ويتألق في بيتها فتكون أول مؤمنة بزوجها الكبير. قد يبدو هذا الرد ليده عن يد ابنة عمه مؤثرا في شخصية حساسة رقيقة كشخصية محمد. وقد يكون الرد قد أشعره بألم اليتم أو قصر اليد عن التوسعة على عروسه. وقد يكون الرد مجرد إرجاء، ولكن الله ألهمه الصبر فادخر له السعادة والعز والزوجة المهذبة الكاملة التي نبض قلبها وفقا لنبضات قلبه، والتي لم يئن أوان اتصاله بها، وفي هذا التأخير خير كبير؛ فما أضر شيء بالنابغين والمستعدين لتلقي كبريات التبعات مثل الزواج الباكر، فإنه يهد القوى ويعطل المواهب ويستنزف ماء الحياة، والشاب في أشد الحاجة إلى النمو، والذين يهرقون حياتهم في عرائس طائشات قل أن يبلغوا رشدهم مستجمعين ما يحتاجون إليه من عناصر المقاومة والكفاح عندما تكشر الحياة عن أنيابها، وهي لا ريب مكشرة إن قريبا أو بعيدا؛ فكانت هذه هداية الله وكلمة أبي طالب الذي ننزهه عن طمعه في صهر أغنى أو أفضل من محمد وعن رغبة في إدخال الحزن على قلبه الفتي. أما أم هانئ نفسها - رضي الله عنها - لأنها ابنة عمه ولأنه أحبها، فقد فقدت بعلها بعد قليل وتمنت أن يعيد محمد طلبه فأبى واعتذر؛ وواحدة بواحدة! ونحن لا نشمت بأم هانئ، عفا الله عنها وعن والدها الذي بذل ما بذل في خدمة ابن أخيه وخدمة الإسلام حتى منحهما عليا أحد أبطال الجنس البشري، ومات على عقيدة أبيه وجده. •••
وإذن كان محمد في وسط العقد الثالث شابا سوي الخلقة، مشرق الطلعة، نبيل المظهر طاهر السيرة كريم المخبر يعيش عيشة لعله لم يكن يعيشها بمكة أحد غيره؛ زاهدا في الناس عزوفا عنهم إلا ما اقتضته ضرورة المعايشة والمساكنة، نزوعا إلى التفكير، محبا للعزلة، قادعا للشهوة رادعا للنفس؛ فأوشك بذلك أن يستغني بنفسه عن غيره، قبل أن يستغني بربه عن نفسه، وغدا أنسه في وحشته وانبساطه في انقباضه وغناه في إقلاله، قد حد ما بينه وبين الناس بحد واضح المعالم، ثم لم يأذن لعلاقته بهم أن تتجاوز هذا الحد فتنغص عليه نعمة باله وتفسد عليه هدوء سربه.
هذه حقائق أثبتها التاريخ فلا سبيل إلى الجدال فيها؛ ولذا ترانا نبتسم ابتسامة التهكم والازدراء إذا وقع بصرنا على قول رجل مثل مرغليوث بعد أن أكد أميته أن معظم مصادره سماعه إلى أحاديث الشاربين في الحانات وحوانيت النبيذ وقصص القصاصين وإلى تجار الأقمشة من اليهود وغيرها من البضائع؛ فهؤلاء في نظر مرغليوث ماء الأخبار وطينتها، وكنز تاريخ الأديان ومدنيتها، أطلعوا محمدا على دفائنهم، وفتحوا له دون سواه من أهل مكة أغلاق خزائنهم، فاغترف من بحور علمهم ما اغترف، وأخفى من أسماء معلميه من أخفى واعترف بمن شاء أن يعترف! كيف لا نضحك ولا نزدري، وهذا الرجل الذي يعيش في القرن العشرين في ظل حضارة من أعظم الحضارات يتوهم أن مكة في القرن السابع المسيحي كانت تضارع لندن بعد ثلاثة عشر قرنا، بل تفوق عليها مذ كان رواد مقاهيها ورواد حاناتها يصلحون لتعليم الأنبياء وتخريج الرسل، وهذه لندن وباريس ورومة بكل ما فيها من المعاهد والجامعات والمقاهي والأندية وتجار اليهود والهنود ، لم تخرج نبيا واحدا ولم نعلم أن رجلا ألف كتابا أو نظم ديوانا جمع مواده ولبابه وصاغ قوالبه وأبدع بيانه على مناضد المقاهي أو في زوايا الحانات، اللهم إلا أن يكون ناظما مفلوكا أو مدمنا هلوكا لا يغني إنتاجه ولا يسمن، وحتى هؤلاء المفاليك المهاليك أمثال ألفريد دي موسيه وبول فيرلين وإرتور ريمبو؛ كانوا مثقفين معروفين بلون من النبوغ وميل إلى الأدب وانطباع على النظم والنثر، وكانت لهم بيوت وكتب وأنصار ومريدون محبذون؛ فاتخذوا من سمر المقاهي والحانات محرضا على شهوة الشعر، واستحثوا بالخمر والتخدير قرائحهم الراكدة وأذهانهم الراقدة، وألهبوا بسياط المرئيات ظهور جياد الخيال، وأشعلوا بنيران الشهوات كوامن المواهب العليلة كمن يحرق أجزاء سفينته ليبلغ مرفأ النجاة.
لم يكن محمد أحدا من هؤلاء، ولم تهيئه الطبيعة لهذا النوع من الحياة، وليس بين حديثه وبين هذه المخزيات المحكية على لسان مرغليوث صلة أو رابطة أو شبه؛ فتلك التي يتوهمها مرغليوث أذهان مريضة وأشعار هي أزهار شجرة الانحلال في نفس الشاعر والكاتب ونفوس قومه ومعاصريه، ولو لم تبلغ تلك الأمم التي مجدت أوسكار وايلد وجورج مور ولورانس وفيرلين وموسيه وبودلير درك الاضمحلال ووردت مدرجة الفناء ودقت في آذانها نواقيس الهلاك؛ ما رحبت بأشعار هؤلاء ونثرهم وما أصغت يوما أو بعض يوم إلى أدبهم إصغاء الجثث إلى وسوسة الديدان أو العظام النخرة إلى دبيب السوس. ولكن الحسد والبغض والحقد الموروث وحب الممالأة تملي على أمثال هذا الرجل أكثر من هذا وأدهى وأمر؛ فلنمر بقوله مر الكرام، وهنيئا لمحمد
صلى الله عليه وسلم
أنه ما زال محسودا بعد موته بألف وثلاثمائة عام.
الرسول وبناء الكعبة
ومما يساق مساق الكلام في تكوين أخلاقه
صلى الله عليه وسلم
أنه كان يعرف بالأمين، وكان يحتكم إليه فيحكم بالحق ويفض الخصومات؛ ففيه سجية العدل والاستعداد للقضاء، وهما من صفات الزعماء في الجماعات الفطرية، وقد ورثتها الحضارة الحديثة فصار معظم رؤساء الحكومة في الأقطار ممن درسوا الشرائع ومارسوا صنعة القضاء. وفعله في بناء الكعبة الذي حسم به النزاع بين العشائر كان حكما أصدره وقام بتنفيذه فورا، وإن كانت تلك الواقعة وقعت في نصف العقد الرابع من عمره إلا أنها تنصب على تكوينه وتظهر ناحية من عقله وخلقه؛ فما زال بعيدا عن البعثة بخمس سنين وعن النجاح الذي لقيته دعوته بثمانية عشر عاما؛ لأن نجاحه في رأينا يبدأ بالهجرة إلى المدينة.
فقد حدث في العام الخامس من القرن الثامن المسيحي وقبل الهجرة بثمانية عشر عاما أن جاء سيل من فوق الردم الذي صنعوه لمنع السيل عن الكعبة، فدخلها الماء وصدع جدرانها بعد توهينها من الحريق الذي أصابها من نار بخور أطلقته امرأة، فطارت شرارة في ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها، فخافوا أن تذهب بها السيول بالمرة. وكل حريق يحدث في ريف مصر منذ ألوف السنين سببه شرارة تطير من فرن امرأة فلاحة أو من قدر تغليه! وحتى أستار الكعبة وجدرانها لم تسلم من رعونة أنثى من بنات حواء، سواء أكانت تخبز رغفانا أم تطهى طعاما أم تقدم بخورا في معبد ... وكان ارتفاع الكعبة عند حدوث الغرق والحريق تسع أذرع؛ أي نحوا من سبعة أمتار، ولم يكن لها سقف، وكان بابها بمستوى الأرض فيدخلها من شاء ويلقي فيها الناذرون نذورهم من حلي ومتاع وطيب وقراريط (اسم النقود في عهدهم)
1
فتقع في خزانة الكعبة (صندوق النذور) وهي بئر عند بابها على يمين الداخل، وطالما سرقها اللصوص كما فعلوا بالسلاح والحلي التي عثر عليها عبد المطلب عند حفر زمزم، فأرادت قريش هدم الكعبة وإعادة بنائها وأن يشيدوها ويرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا؛ وإذن تعد سنة 605م بداية عهد جديد للكعبة؛ لأن أصحابها أرادوا أن يقيدوا الدخول إليها ويمنعوا كل طارق، ولعلهم جعلوا على الدخول أجرا ولو قليلا ليزيدوا كسبهم، فربطوا فكرة التقييد بالتجديد والتعلية، وأعدوا لذلك نفقة اشترط أبو وهب خال عبد الله أبي محمد وهو من أشرافهم وعقلائهم أن لا يدخل النفقة مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس. وهذا يدل على أنهم ترقوا درجة في تقديس الكعبة ببنائها بمال مما وصفه الإسلام بعد ذلك بأنها مال حلال، وقد يكون لحلف الفضول بعض الأثر في التمييز بين السحت والحلال؛ لأنه أول عهدهم بالعدل القومي الذي يشمل قريشا وغيرها، ولا سيما الغرباء والوافدين.
وقد جمعوا المال بالاكتتاب في دار الندوة شأنهم في كل ما كان له مساس بالمال الذي ينفق في المنافع العامة. واجتمعت القبائل، والمعقول أن القبائل أوفدت أفرادا تمثلها؛ لأنه لا يقبل أن تترك القبائل بأسرها أعمالها لتنقطع لهذا العمل؛ فكانوا يجمعون الحجارة، وبلغ منهم رغبة التفرد وإبراز الشخصيات أن كل قبيلة كانت تجمع الحجارة على حدة، وكان محمد
صلى الله عليه وسلم
ينقل معهم الحجارة، شأنه في التعاون مع قومه في السلم والحرب، ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر؛ لأنهم هابوا هدمها وفرقوا منه خشية أن يغضب رب البيت فيسبب لهم بلاء، حتى زعموا أن الله أرسل إليها أفعى كبيرة تحرسها! وهو من الوهم وتمسك الجاهلية بمبدأ «لا مساس» تابو (انظر كتاب سيجموند فرويد الطوطم ولا مساس عند الأمم القديمة).
ولم تكن الكثرة فيهم تميز بين الهدم للإزالة وبين الهدم للإصلاح، حتى تقدم الوليد بن المغيرة أحد أذكيائهم وقال لهم عندما بدا رعبهم وجمدت أيديهم دون المعاول: «الله لا يهلك المصلحين، أنا أعلوها وأنا أبدؤكم في هدمها.» وقال يخاطب الكعبة وهو يضرب بالفأس: «اللهم لم ترع فلا نريد إلا الخير.» ثم هدم من ناحية الركنين وقد بهت الجمع من جرأته، وما زالت المخاوف تساورهم فتربصوا تلك الليلة وقالوا ننظر، فإن أصيب الوليد بن المغيرة بسوء فلن نهدم شيئا ونردها كما كانت.
فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله، فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى بهم الهدم إلى الأساس الذي وضعه إبراهيم.
فكان حذرهم أكبر من أن يزول بالمشاهدة، بل صبروا ليلة ليروا أثر «المساس» في الاقتصاص من الوليد أو العفو عنه، فيكون علامة على الرضى من رب البيت. وروى المؤرخون أنهم عثروا في أساس الكعبة بمكتوب ومحفور على حجارة فدعوا رجالا من يهود وحمير لفك الخطوط التي كانت عبرية وثمودية ويمنية؛ فترجموا بعضها وكتموا البعض، وقال أحد الكاتمين: «إن فيها لحرفا لو حدثتكموه لقتلتموني.» فكتموه ولعل الرجل جهل الخط فاخترع العذر لينجو من تهمة الجهل، أما قول من قال إن فيه ذكر محمد، فبعيد.
وجدت قريش في البحث عن الخشب حتى وجدت سفينة جانحة بساحل الشعبية - وهو أقرب السواحل إلى مكة قبل اتخاذ جدة ثغرا - فابتاعوا الخشب واستخدموا يواقيم الرومي النجار أو البناء الذي وجدوه على قيد الحياة بجوار السفينة المحطمة، وما زال شاطئ البحر الأحمر طوال أرض الحجاز قاسيا حافلا بالشعب والصخور التي تصدم السفن فتحطمها، وكان إدخال الخشب في البناء بدعة؛ لأنهم أرادوا تسقيفها وجعل بعضه يتخلل مداميك العمارة. ولا ندري ما يصنع المكيون لو لم يعثروا على الخشب والنجار الرومي، فطاوعهم وقبل مقاولة العمل، ولا ريب أنه كان يعرف العربية أو أن فيهم من كان يتكلم الرومية كصهيب، ثم عاد أبو وهب عمرو بن عائذ خال والد النبي عبد الله بن عبد المطلب فقال: أرى أن تقسموا أربعة أرباع. فكان شق الباب لعبد مناف وزهرة وما بين الركنين الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل قريش، وظهر الكعبة لبني جمع وبني سهم ابني عمرو، وشق الحجر (الذي فيه الحجر الآن) لبني عبد الدار وبني أسد وبني عدي. ويفيدنا هذا التعداد أمرين: رغبة القبائل في تقسيم الشرف والبركة والنفوذ في بناء الكعبة كما ساهموا بالمال والعمل، وسرد العشائر والبيوت والأسباط ذات النفوذ في مكة وبطحائها في أوائل القرن الثامن الميلادي قبل بعثة النبي بخمس سنين، وقد أورد المقريزي بيانا آخر فقال: ما بين الحجر الأسود إلى ركن الحجر: لعبد مناف.
والحجر كله: لأسد وعبد الدار.
دبر البيت: لمخزوم.
ما بين اليماني إلى الركن الأسود: لسائر قريش.
وأمروا يواقيم أن يجعل البناء على طراز الكنائس؛ لأن له عهدا بتلك المعابد المسيحية في بلاده، ولكن لا من حيث التصميم وشق المحراب على هيئة صليب له قائم وجناحان، ولكن من حيث نوع بناء صميم الكعبة، فجعلها مدماكا من خشب الساج وآخر من الحجارة، وزادوا فيها تسعة أذرع فصار ارتفاعها أربعة عشر مترا بارتفاع بيت حديث من ثلاث طبقات. وكان في جزيرة العرب مبان أرفع منها كالحصون والقصور وبعض الكنائس، ولعل قصر بني عبد شمس وقصر عبد الله بن جدعان كانا يدانيانها في العلو، وصنعوا لبابها سلما فلا يصعد إليها إلا في درج. ثم ظهر شح قريش؛ فقد ضاقت بهم النفقة عن بنيانها على تلك القواعد فأخرجوا منها الحجر، وهم الذين جمعوا ألف دينار دفعة واحدة ليعدوا جيشا لمحاربة محمد
صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك ببضع سنين! ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا؛ كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى أعدوا للقتال، مفخرة تجمعهم وأخرى تفرقهم! فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم وقد حدث مثله في حلف المطيبين. ولعق الدم ولعق النار والاحتكام إلى البشعة وهو الحديد المحمي؛ كلها من خصائص الأمم المتوحشة! وذكر سبنسر الدم في توثيق العرى بين المتوحشين وفي تقديمه قربانا للأرباب وشربه ولعقه (ص265، ج6، من كتابه في فلسفته التحليلية فصل الاجتماع، طبع لندن 1893)، وقد سميت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية آكلة الأكباد، كما سمي بنو عبد الدار وبنو عدي «لعقة الدم». ودام النزاع بين القبائل أربع أو خمس ليال، ثم اجتمعوا في المسجد الحرام وكان أبو أمية بن المغيرة زعيم السن في قريش وهو والد أم سلمة إحدى زوجات النبي ومن عقلائهم وكرامهم ومات مشركا فقال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم (وهو باب بني عبد شمس في الجاهلية والآن باب السلام)، فعلق قضاءه على النصيب والحظ والمصادفة المحض، وجعل الفصل في الخلاف مكتوبا لمن يسعده الحظ بحسمه، فكان أول داخل منه محمد
صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا: «هذا الأمين رضينا به، هذا محمد!» لأنهم كانوا يتحاكمون إليه لأنه كان لا يداري ولا يماري، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: هلم إلي ثوبا. فأتوا به فأخذ الحجر الأسود ووضعه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بزاوية من الثوب ثم ارفعوه جميعا. ففعلوا، فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وفي الثاني زمعة، وفي الثالث أبو حذيفة بن المغيرة نفسه، وفي الرابع قيس بن عدي، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه محمد. وإن لم يكن محمد صاحب الاقتراح في التحكيم إلا أنه أظهر بديهة نادرة كما فعل كولومبوس في لغز وقف البيضة على عقبها! ولم يخطر الحل ببال أحد من دهاة العرب، لا الوليد بن المغيرة ولا أخوه أبو أمية الذي وكل القضاء لأول من يدخل من باب المسجد. وكان الحق في شرف لمس الحجر وتركيزه لصاحب التفكير في الحل، وهكذا فاز محمد
صلى الله عليه وسلم
باعتراف قريش بأمانته وذكائه وعدله، وارتبط اسمه بالكعبة من ذلك الوقت. وهنا يذكر الرواة قصة إبليس الذي تجسد في صورة شيخ نجدي ليلقي بالفتنة بين القبائل بعد فوات الفرصة كما فعل في دار الندوة بعد ذلك بثماني عشرة سنة، والدليل على أن هذا الخبر موضوع أنه لم يكن موفقا في إحدى المرتين، ولعل سبب وضعه حديث منسوب للنبي قيل في نجد «هناك الزلازل والفتن وفيها يطلع قرن الشيطان» (ج1، ص162، سيرة برهان الدين). والله أعلم بمكانة هذه النبوة من التحقيق؛ فإنها تشمل بقعة كبيرة من الجزيرة ولها في التاريخ شأن يذكر.
فلما فرغت قريش من البناء أعادوا الصور التي كانت في حيطان الكعبة وهي صور الأنبياء بأنواع الأصباغ، ومن بينهم صورة إبراهيم وفي يده الأزلام وإسماعيل وهو يستقسم وصور الملائكة وصورة مريم وعيسى. وكساها زعماؤهم أرديتهم وكانت من الوصائل.
لو لم يكن بناء الكعبة على أيدي قريش خبرا تؤيده التواريخ والأسماء وتبادل الآراء وجنوح السفينة الرومية وشخوص يواقيم إلى مكة واختلاف القبائل وتعدادها، لزعم المبطلون أن كل هذا الوصف الطويل وسرد الواقعات إنما وضعه المحبذون والمادحون بعد الإسلام ليفوزوا بوصف النبي بأنه «الأمين » بإقرار الزعماء، وبأنه صاحب الفكر الوقاد الذي حل معضلة الحجر الأسود وشرف وضعه بيده. وهؤلاء المبطلون يعرفون الحق أو يمارون فيه ويشككون الناس أو يتعالمون عليهم ويناقضون الواقع لغاية أو غير غاية ولكن يخونهم المنطق وتفلت من بين أيديهم قرائن قوية ترقى أحيانا إلى درجة الأدلة التاريخية، من ذلك ذكر القبائل وتعدادها والتدقيق في وصف مخاوف العرب من لمس الكعبة والتعدي عليها بالهدم وإقدام أحد شجعانهم في الرأي (الوليد بن المغيرة)، ولو كانت غاية المحبذين مدح النبي
صلى الله عليه وسلم
ورفع ذكر ما وصفوه في نفس الخبر بأنه «أقلهم مالا» في بلد يتفاخر أهله بالمال، ولم يكن الفقر فيه موضعا للمجد أو الإعجاب حتى لو كان صاحبه عبقريا. ولا ننسى أن محمدا كان إلى هذا الوقت مفترضا في نظر قومه أنه على دين آبائهم وإن يكن يضمر نقيض ذلك ويستره، ولم تكن نشبت بينه وبين قومه تلك الخصومة الأبدية على تغيير المعتقدات والتضحية بماضيهم في سبيل الدين الجديد؛ فقد حدث ذلك كله بعد عشرين عاما. ولو أن النبي بقي على هذه الصورة لما ناصبه العداء أحد، ولعلهم كانوا يسودونه لعقله وشرفه، وكان لا شك يخلف أبا طالب على زعامة بني هاشم أو بني عبد المطلب. فالخبر في رأينا صحيح، وإن كانت تنقصه المدونات، وما كان أسهل أن توضع في جدار الكعبة لوحة بتاريخ تجديدها وأسماء من اشتركوا في بنائها بعد هدمها، ولكن الجماعة كانوا أميين بإجماع المؤرخين ولم نعثر لهم على سجل لتقييد حساب متاجرهم أو قوانينهم العرفية ولا تاريخ حروبهم، إلا ما حفظوه في صدورهم من أنسابهم وأخبارهم، حتى بنود حلف الفضول ونصوصه لم تدون في ورقة، مع أن الورق والكاغد كانا معروفين لهم بدليل وصف طرفة بن العبد خد ناقته بقرطاس الشامي؛
2
فلا قيد للمواليد ولا للوفيات ولا للقضاء ولا رصد للمال أو الضرائب ولا كتب مخطوطة البتة؛ فلا غرابة إذا هم لم يتركوا دليلا كتابيا على هدم الكعبة وبنائها، وحتى الحجارة أو الألواح أو الكاغد التي عثروا عليها في أساس الكعبة وفيها كلمات على لسان لها لم يحتفظوا بها دليلا على قداسة معبدهم. نعم، إنها تخالف دينهم الجديد لأنها من آثار الحنيفية دين إبراهيم، ولكنها لا تزيد عن كونها إثباتا لوحدة الله وبناء الكعبة وقسمة أرزاقها وتعيين اللبن واللحم والماء بالبركة والوفور، وهو ما دعا به إبراهيم لأهل الحجاز من نسل ابنه إسماعيل، ولو أن المعاصرين عثروا عليها وأرادوا الاحتفاظ بها لدرست وعفى عليها القدم بمضي الزمن، ولكن العنعنة ما زالت محفوظة لديهم كما كان شأن جواهر الشعر والنثر التي أدلى بها الرواة والحفاظ إلى الأجيال اللاحقة. وإن شككنا في صحة الأقوال والأفعال لشككنا أيضا في شخصيات الجاهلية، مع أن أمثالهم يقولون ويفعلون مثل ما قالوا وفعلوا. ونؤكد أن كثيرا مما ورد في أخبار العرب وجدنا ما يؤيده في كتب المؤرخين القدماء من اليونان والرومان والمصريين والبابليين واليهود، وقد أشرنا إلى كل حادث في مكانه. ومن أهم المراجع غير سترابون وبلين وبلوطارخوس، كتاب جيبون الذي لم يدخر وسعا في غربلة المراجع ونخلها وتنقيتها وتصفيتها.
إن المكذبين والمرتابين ينسبون وضع الروايات عن الرسول زيادة في فضله أو رفعة في قدره ولا يقصدون إلا مؤرخي العرب وهم مسلمون، وهؤلاء المؤرخون المسلمون يعلمون أن الرسول قال: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.» فليس من العقل والمنطق أن يتزلف مؤرخ لمقام الرسول بخبر كاذب أو رواية موضوعة ليتبوأ مقعده من النار، وإن نسوا الحديث الأول فإليهم الحديث الثاني «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين.» وإذن يكون المكذبون والمرتابون وهم يعلمون مداخل الأمور ومخارجها إنما يراودون الناس فيها عن عقولهم وإيمانهم لينقادوا لهم في الرضى بها والمتابعة عليها. وإننا حين نتناول أصغر صغيرة في سيرة الرسول لنفعل ذلك بتدقيق نرجو أن يصحبه التوفيق، ونحن نشعر بأننا نتناول إنسانية وحدها لم يخلق الله على غرارها قد جعلها الله بمنزلة فوق منازل سائر البشر، ويمنعنا أن نقول فوق سائر الأنبياء ميل القرآن الكريم إلى المساواة بين المرسلين وذكرهم على لسان الرسول بوصف الإخوة مهما تفاوت عهدهم. وإن هذه المنزلة العليا لم تخرج عن منزلة البشر في أعراض الحياة، وما يكون فيها وما يأتي منها كالفقر والغنى والضعف والقوة والصحة والمرض والحب والبغض ما عدا الخلال التي نزهه الله عنها وعصمه منها. وتزداد ضرورة التدقيق والتحقيق لدينا لأن إنسانية الرسول ومن سبقه من الرسل هي التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها؛ لأن نقيض ذلك كله أو بعضه يخرج بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الذي عملوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدا وتزهر دائما وتبقى على امتداد الدهر روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذا العالم وما يتلوه من العوالم.
ديمقراطية محمد صلى الله عليه وسلم
المقصود بهذا اللفظ الأعجمي حب المساواة والتواضع وقلة الطمع وتفضيل الروح على المادة والأخذ بمكارم الأخلاق والعدل والنصفة والإحسان. وقد كان محمد أستاذا للفضائل؛ فلم يرو عنه حديث ولم تنسب إليه خلة إلا كان دليلا على تأصل هذه الخصال النبيلة في نفسه الكريمة؛ فقد كان حليما شفوقا محسنا، وقد سئلت عائشة أم المؤمنين عن خلقه فقالت: خلقه القرآن.
وإنك لعلى خلق عظيم .
ومعنى هذا أن الله أدبه بأحسن الآداب فقالها: «أدبني ربي فأحسن تأديبي.» وأمره بقوله:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين . فلما وعى رسول الله تأديب ربه واستحق تمام الوظيفة وأحسن القيام بهام متكملا متجملا ناضجا راسخا، فوثق بتهذيب نفسه ثقته بجلال رسالته، أطلق الله يده في تعليم الأمة وتثقيفها، فصار جديرا بتلك المهمة مستحقا إياها لا يقدر أحد من عباد الله على مكافحته أو منافحته ومدافعته، قال الله تعالى:
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله .
وإن تلك الأخلاق العالية لتبدو في الأفعال والأقوال؛ أي في الرأي والقدوة. وقد كان محمد بعقله وقلبه وخلقه خير جامعة تخرج فيها فطاحل الرجال؛ فقد رسم لهم خطط المجد والعظمة وشق لهم دروبا أبكارا في السياسة والشجاعة والفضائل، وأضاء لهم سبلا كانت من قبل مظلمة فاحمة، وعلمهم الصدق والأمانة والعفة والقناعة، وأثبت لهم بحياته وجهاده وكفاحه وصبره وعفته أنها أجدى وأكرم وأدوم وأنفع. وهو لم يكن مخدوعا في طبيعة البشر ولا جاهلا بحماقتهم وأطماعهم وقلة الصالح بين سوادهم، فقال: «الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة.» مدللا على عمق معرفته بهم فلم يخف عليه أن المرضي المنتجب من الناس في عزة وجوده كالنجيب من الإبل النادر الذي لا يوجد في كثير منها.
فقد عانى ما عانى في سبيل دعوتهم، واختبرهم قديمهم وجديدهم، قريبهم وبعيدهم، ولكن هذا النبي الذي يكاد يبحث عن الرجل في دياجير الجاهلية بمصباح ديوجين وينتزع تشبيها من صميم الحياة البدوية باستعارة الإبل - وهي عماد حياة الصحراء - التي يفهمها العربي شاكيا قلة النابغ النابه والمخلص الأريب، تراه يشبه الناس عند ذكر المساواة بأسنان المشط، ويحكم بينهم بالعدل؛ فلا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود، وهو يصفهم بالإخاء حين يقول المؤمنون إخوة، وقد آخى بينهم فعلا حين هاجر إلى المدينة، فإذا قتلوا تكافأت دماؤهم.
ولم تغب عنه الناحية المادية من شئون الحياة؛ فأوصى بثلاث أدوات من النبات والحيوان والجماد، أوصى بالنخل حتى لقد ربط بينها وبين البدوي برابطة القرابة مبالغة في تقدير قيمتها وتكبير نعمتها: «نعمت العمة لكم النخلة، المطعمات في المحل.»
وأوصى بالخيل؛ بطونها كنز، وظهورها حرز، ومعقودة في نواصيها الخير. وأوصى بالسيف فقال: الخير في السيف، والخير مع السيف، والخير للسيف.
والتفت إلى التجارة فلما دخل عليه السائب بن أبي صيفي - وكان شريكه في تجارة الجلود بعد زواجه من خديجة وركونه إلى حياة الهدوء قبل الرسالة - قال له: أتعرفني يا رسول الله؟ ظنا منه أن محمدا قد كبر وتعالى فنسي صحبته وشركته كما يحدث للعظماء الذين يجهلون إخوان الصبا أو يتجاهلونهم، أو أن ذاكرة الرسول قد تخونه؛ لطول الزمن! فقال محمد: كيف لا أعرف شريكي الذي كان يشاريني ولا يماريني ؟! وقال: ما أملق تاجر صدوق. وقال: ثلاثة أرباع الرزق في التجارة.
وكان يعتبر الإنسان وكيلا أمينا على نعمة الحياة، ترعاه عين الأصيل ورب المال ويترقبه المالك بعين ساهرة فقال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستعملكم فيها فناظر كيف تعملون.»
فهو بين التحذير والتعذير والوعد والوعيد وضرب الأمثال من قريب أو بعيد، يحاول الهداية ولا يغفل عن طبيعة الإنسان ولا يجهل ما ركب في فطرته من الأهواء والشهوات، ولكن نقائص البشرية لا تيئسه ولا تثني من عزيمته؛ فيخاطب المؤمنين الذين يحبونه في الحياة ويودون أن يكونوا في صحبته في الآخرة: «أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون.» ويريد أن يطهر نفوسهم من الأدواء والعلل التي قضت على أخلاق الأمم القديمة، فيقول: «دب إليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء، حالقة الدين.» ويصف الدواء سريعا فعالا نفاذا بقوله: «لا تؤمنون حتى تحابوا، أفشوا السلام بينكم، إذا فعلتموه تحاببتم.»
وماذا أدل على علم النفس وقواعد التطور وتغير الطباع والعادات بتحول الأزمان من تغليبه تطور الزمان وخضوع الإنسان لتغير الأجيال بأقوى من قانون الوراثة فيقول: الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم. وانظر إلى كرمه وشرفه وعطفه وإنسانيته وحسن ذوقه عندما يقول: «من لم يقبل عذرا من متنصل صادقا كان أو كاذبا لم يرد على الحوض.» •••
اشتهر بعض الملوك والزعماء وقلة من الأقيال العباهلة بشيء من التواضع والعدل والزهد في نعيم هذه الدنيا والرأفة بالرعايا؛ فخلد ذكرهم على كر الدهور وأحبتهم الأمم؛ فضرب المثل بعدل كسرى، وإيمان أخناتون بالتوحيد إيمانا ملأ قلبه بالرحمة على قومه، وعدل عمر بن الخطاب وورع مارك أوريل وبساطة الرشيد وحلمه. وفي هذا العصر يأبى بعض الزعماء أن يتقاضوا مرتبا من بيت مال الدولة أو خزانة الحكومة مبالغة في العفة؛ فيرتزق بعضهم من التأليف والتحرير. ولكنك إذا رأيتهم في بلادهم أو سمعت خطبهم وقرأت مقالاتهم، فلا تجد أمامك سوى جبابرة تتكلم، ورعدا يقصف، ونفوسا طاغية تريد أن تتحكم في مقدرات الأمم وتخضع الشعوب والحكومات لصولتها! فهم الملوك والقياصرة يسيرون في الجحافل وتلتف حولهم المحافل وتعنو لهم الرقاب ويخشى جانبهم الأعداء والأصحاب لا يأنفون أن يقتلوا رفاق الأمس، أو يقضوا عليهم بالسجن المؤبد أو النفي الذي ليس بعده عود أحمد في سبيل الاستئثار بالسلطة، تارة باسم المبادئ المريبة، وطورا بحجة نهضة الشعب ويقظة الأمة.
وقد اتخذوا من مظاهر العفة وقصة الزهد قناعا للنفاق وستارا للرياء، كما فعل قيصر وهو يرفض التاج ونفسه تطير إليه شعاعا! يحيون للظلم القديمة والرسوم الوثنية والمذاهب البائدة باسم التجديد والشخصية والوحدة! وحتى الذين اتخذوا الحكم وسيلة للإباحية والمشاعية لم يقلوا عن أشباههم ظمأ للدماء ولا ولوغا في حمأة القسوة وتشبثا بالمظالم وتقتيلا في الخلائق باسم حماية الوطن واستمساكا بالمثل العليا، وقد جعلوا من ورائهم خونة وأوغادا ووسطاء سوء يدفعون عنهم بأقلامهم في صحف سوداء قد ألبسوها ثوب الحرية!
فأين هؤلاء وأولئك جميعا من محمد
صلى الله عليه وسلم
الذي لم يكن ملكا ولم يقبل سطوة الملك؟ وقد أجمعت الأخبار الصحيحة على أنه كان يأكل على الأرض ويجلس على الأرض ويجالس المساكين ويدعو الله أن يحييه مسكينا ويميته مسكينا ويحشره في زمرتهم يوم القيامة! وهو الذي مات ودرعه مرهونة، ولكنه أوصى الناس بالادخار لأولادهم حتى لا يتكففوا الناس بعد موت عائلهم. وكان يمشي في الأسواق ولا حرس له، ويتوسد يده، ويوصف في القرآن بأنه عبد:
سبحان الذي أسرى بعبده .
ثم يقولها عن نفسه مباهيا: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب العبد.» وكأنه يتلذذ بذكر العبودية، ولم يأكل قط وحده، ولا ضرب عبده، ولا أنب خادمه، ولا أساء إلى امرأة قط، وهو القائل: «اتقوا الله في النساء.» وكان يكره البغي: «إياك والبغي؛ فإن الله قد قضى أنه من بغي عليه لينصرنه الله.» ولم يأنف أن يطمئن المقبل عليه المتهيب لعظمته بقوله: «أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد.»
أما شرار الناس عنده فهم العلماء إذا فسدوا والثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون والذين لا يدارون الناس، والولاة الذين يعاقبون فوق ما أمر الله ومن لا يقبلون أعذار الناس، والذين يمنعون الرفد ويعذبون الرقيق والبخلاء على الضعفاء بأفضال الجاه وفصاحة اللسان والقوة والعلم لمن أوتيها.
وانظر بساطته وسلامة فطرته عندما يقول للسائب بن أبي صيفي: «كيف لا أعرف شريكي؟» ولمعاذ بن جبل فقد رآه ساهما بعد أن أفضى إليه ببعض حوادث التاريخ المترتبة بعضها على بعض؛ فإنه ضرب بيده الشريفة على فخذ معاذ أو منكبه ثم قال: «إن هذا لحق كما أنك ها هنا ...» أرأيت البساطة في العظم والكرامة في رفع التكليف، وتنبيه السامع المدهوش، كأن محمدا ملم بعادات هذا العصر الذي نحن فيه، فإن أحدنا يقول لصاحبه: «صدقني يا فلان، فإني واثق مما أقول ثقتي بأني أراك وأسمعك.»
وهذا الذي يقول كيف لا أعرف شريكي ويضرب على منكب سامعه أو فخذه؛ إنسان لبق ظريف، يقظ خبير بالحالة النفسية، واقف على دقائق العقليات، وهو الذي يغري الأمة بالحسنات من باب دفع الأذى: «حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة واستقبلوا البلاء بالدعاء.» وهو الذي يكره قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ويندد بالإنسان الطامع الحريص في غفلته، فيعظه ويردعه ويزعه: «تقول مالي مالي! وإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو وهبت فأمضيت.»
ولم يأنف أن يتسلى بسباق الخيل؛ فلما جاء فرسه الأدهم سابقا، جثا على ركبتيه وقال: ما هو إلا البحر. فأراد إظهار حب الخيل وتعظيم شأنها؛ لأنه وإن شارك العرب في عادة المسابقة - وقد دلت الحوادث على أنها متعة العظماء والكبراء في أنحاء العالم وفي هذه الحضارة، وما زالت مصدر كسب وخير لأصحابها ووسيلة لتحسين نتاجها وترقية أجناسها - فإنه لم يستفز بسبق جواده، وإن استفز فلا حرج فقد كان بشرا مثلنا يسره النصر، وإن كان لا يخرجه عن ثباته ورزانته ويسوءه ضده ولا يفسد عليه صبره وحلمه وتجمله بالرضى.
وقد خرج الحطيئة عن حدود البشرية حين قال مفتخرا، مدعيا هدوء الأعصاب إلى أقصى درجة:
وإن جياد الخيل لا تستفزنا
ولا جاعلات العاج فوق المعاصم
كان - عليه الصلاة والسلام - صادق الفراسة في الرجال، لا عن طريق النبوة بل عن طريق الفطنة؛ فقد جاء إليه قيس بن عاصم المنقري فلما نظر إليه محمد ولم يكن قد رآه من قبل قال: هذا سيد أهل الوبر. جاء يسأله تحديد الثروة لأمثاله وهو استفتاء شديد الصعوبة، ومسئوليته على الشارع ثقيلة، وكل ما يقوله النبي يفرض أن يطاع ويتبع، وقد جاء الرجل مفاجئا ووجب على محمد أن يجيبه مرتجلا، وكان لا يبطئ في الجواب ولا يعجل ولا يسهب ولا يحصر، وهو الأمي الذي ليس لديه مراجع يطلب الإمهال ليرجع إليها ولا نصوص يتأملها ويستشيرها؛ فهو المفتي الذي يفتي السائل فورا، فاسمع ما أجاب به سيد أهل الوبر: قيس - يا رسول الله، خبرني عن المال الذي لا تكون علي فيه تبعة من ضيف ضافني، أو عيال إن كثروا علي.
محمد - نعم، المال الأربعون والأكثر الستون وويل لأصحاب المئين، إلا من أعطى في رسلها ونجدتها وأطرق فحلها وأقفر ظهرها ونحر سمينها وأطعم القانع والمعتر. فقال السائل: يا رسول الله، ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها!
ولم تتجل مكارم الأخلاق في محمد
صلى الله عليه وسلم
بأبهى وأجمل من العفو عند المقدرة؛ فقد ظهر في فتح مكة من كرمه ورجاحة حلمه ما يغطي على فضائل الفاتحين في تاريخ العالم مهما أوتوا من السياسة والعقل وبعد النظر؛ فقد كان الغزاة يبطشون بالمغلوبين أي بطش، يستبيحون دماءهم وأعراضهم وأموالهم ولو لم يكن بينهم ثأر، وليس إلا مطامع الجند ونشوة الانتصار. إلا محمدا
صلى الله عليه وسلم
فإنه لما سمع صارخا من جيشه يقول: «اليوم يوم الملحمة.» قال: «كلا! بل اليوم يوم المرحمة.» وفي الحقيقة لم يكن داخلا برضاهم، بل دخلها عنوة وله كل حقوق الفتح وعليهم كل واجبه وخضوعه. عدا ما سبق للوثنيين منهم من السيئات؛ فقد قتلوا أعمامه وأولياءه وقادة أنصاره بعد أن حصروه في الشعاب وعذبوا أصحابه بأنواع العذاب وجرحوه في بدنه وآذوه في نفسه وسفهوا عليه وأجمعوا على كيده ودبروا مقتله في فرشه وتآمروا عليه عائدا من غزواته ، فلما دخلها بغير حمدهم، وظهر عليهم على صغر منهم، قام فيهم خطيبا، فقال مستشهدا بالقرآن:
لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .
وذلك معنى لم يجئ به ملوك المدائن الإغريقية حين فتحوا إسبرطة وأثينا وغلبوا أهلها على أمرهم وهم جيران وأقارب، ولا الإسكندر الأكبر في مصر وفلسطين، والفرس والهند، ولا غزاة الرومان عند فتح قرطاجنة (القرية الحديثة)، ولا قياصرة الرومان في غزوة إنجلترا وبلاد الغال، ولا قمبيز وقورش ولا غليوم الفاتح، ولا هنري الرابع ولا نابوليون بونابرت، بل إنه حادث مفرد في تاريخ الفتوح الحربي في العالم منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا. كان الفاتح مرهوب الجانب من المغلوب المهيض الجناح، حتى لقد دبر اليهود مقتل هولفرن، ودعوا على سنخريب ونبوخذ نصر.
وقد يقال إن محمدا رعى حقوق القرابة والجوار وهي لعمرك لم يرعها أوغاد قريش من الوثنيين في قوتهم وضعفه وجماعتهم ووحدته، فكان أحرى به أن لا يرعاها، فلم يقدموا بين يديه جميلا يرده، ولم يسدوا إليه معروفا يقابله بمثله. وكانت بين جدران مكة وفي أحد قصورها المشيدة تلك المرأة القاسية هند التي اغتالت حمزة عم النبي واستأجرت على قتله في موقعة أحد، ولم تكتف بمصرعه بل مثلت به وأكلت من كبده! فاحتلبت به دما لا تطير رغوته ولا تسكن فورته ولا يموت ثائره ولا يكل طالبه، وهو أحد أبطال الإسلام ومن أعظم شهدائه، ولم يسلم زوجها أبو سفيان إلا منذ هنيهة وهو في الرمق الأخير من الكفر واليأس والخوف على عمره.
والسر في ذلك أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لم يكن ملكا وإن كان غازيا، ولم يكن فاتحا وإن كان هاديا، ولم يكن منتقما وإن كان قادرا، ولم يكن جبارا وإن كان قويا، ولم يكن موتورا وإن كان مظلوما، ولم يكن قاسيا وإن كان فيما مضى مقهورا.
بل كان نبيا وكان حليما وحكيما، ومن كان كذلك لا يهرق الدماء، ولا يفضح النساء ولا يسمح باستباحة الأموال والديار، بل إنه جعل من دار ألد خصومه أبي سفيان وهند، مأمنا للاجئين وموئلا للخائفين، فها هو يشرف أعداءه ويجعل بيتهم - وقد كان وما زال عش زنابير - حصنا منيعا لمن يريد التسليم في ستر وكرامة.
الملوك
كان المسلمون يحبون الخلافة ويبغضون الملوك؛ الخلافة بالمعاني التي خلعها عليها النبي والخلفاء الراشدون، ويبغضون الملوك الظالمين. وقد وردت آيات من أمهات القرآن وبينات الأحكام في ذمهم والتحذير منهم، وقد حذر الرسول من الطغيان ووصف الإمارة بسوء الخاتمة كما حذر من السلطان.
1
وقال سعد بن جمهان لسفينة: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. فقال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من أشد الملوك؛ وأول الملوك معاوية. وذكر معاوية يفسر المعنى المقصود بالملك في نظر الصحابة الذين تخرجوا في مدرسة القرآن ومحمد
صلى الله عليه وسلم . لقد فهمنا من ذكر معاوية المعنى المقصود وذكرنا العام الذي سموه عام الجماعة، وهو الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا، والخلافة غصبا قيصريا.
وقال إبراهيم الأنصاري: الخلفاء والأئمة وأمراء المؤمنين ملوك، وليس كل ملك يكون خليفة وإماما. وقال أبو بكر - رضي الله عنه: إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك! وكان يخطب فلما نطق بهذه الكلمة رفع الناس رءوسهم دهشة، فأدرك أبو بكر ما اعتراهم من الذهول بسبب العجلة فقال: ما بالكم أيها الناس؟! إنكم لطعانون عجلون، إن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما عنده ورغبه فيما في يدي غيره، وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل وينسخط الكثير ويسأم الرخاء وتنقطع عنه لذة الباءة، لا يستعمل العبرة ولا يسكن إلى الثقة؛ فهو كالدرهم القسي والشراب الخادع، جذل الظاهر حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحى ظله حاسبه الله فأشد حسابه، وأقل عفوه.
وخير الملوك من آمن بالله وحكم بكتابه وسنة نبيه.
فأي كلام في وصف الظالمين من الملوك أبلغ وأقوى وأصدق من كلام أبي بكر تلميذ محمد وصديقه وخليفته؟ ومن أي نبع فياض بالحكمة والمعرفة استقى هذا الرجل غير القرآن والسنة؟ وأي التاريخ قرأ ودرس سوى الآيات المحكمات والسور الملأى بالحكمة الإلهية المضيئة بالنور المحمدي صاحب وحيها ووسيلة تبليغها؟
بل ماذا قال بعده بمئات السنين فلاسفة الشرق والغرب والمؤرخون والشعراء؟ إنهم لم يأتوا بعشر بديهته ولا بظل من دقة وصفه، وعميق فهمه؛ لقد وصفهم كأنه يراهم وكأنه عاشرهم وابتلاهم وجربهم واختبرهم وذاق مرارة ظلمهم، وقد خطب أبو بكر هذه الخطبة وهو أمير المؤمنين ويخشى أن يخلط الناس بين الملك والخلافة، فأراد أن يضع الأشياء في مواضعها ويبين الحدود للرعية، فأسهب في وصف الشرار من الطغاة، وأوجز في صفة الخيال من الملوك. •••
كان في الجاهلية ملوك من العرب، كملوك الحيرة وغسان واللخميين، وكان حول الجزيرة قياصرة في الروم والفرس ومصر والحبشة واليمن، وكانت التوراة تعج بأسماء الملوك حتى أفرد لهم سفر خاص بهم، ودعا النبي على الظالمين من ملوك العرب فقال: اللهم أذهب ملك غسان وضع مهور كندة. ولكنه لم ينس أنه ولد في عهد الملك العادل كسرى أنوشروان، فلما بعث ووعى خاطبهم بأقدارهم، فكتب لكل منهم بما يليق به ويؤثر عليه ويجتذبه للإسلام.
حتى أمراء العرب خاطبهم على قدر عقولهم مفتتحا دعوته بتطمينهم وتأمينهم، فكتب لوائل بن حجر الحضري ولقومه: «الأقيال العباهلة» أي المقرون على ملكهم فلم يزالوا عنه.
التجارة والزواج
قلنا في الكلام على زواج هاشم من سلمى إنه تم على عهد الكفالة أو سيادة المرأة في عصر الأمومة ماترياركا، وإن هذا العهد كان متحكما إلى ما قبل ظهور الإسلام بمائة وسبعين عاما، وقد أخذ نظام الأسرة يتحول في حواضر الحجاز عامة ومكة خاصة إلى النحو الذي أقره الإسلام فيما بعد؛ فقد كانت سلمى النجارية نفسها زوج هاشم وأم عبد المطلب تتجر في أسواق المدينة، فرآها هاشم وأعجب بها وخطبها وهي الشاردة من أطم حليلها أحيحة. وقد بدأت تتلاشى ضروب الزواج القديمة التي اعتبرها الإسلام سفاحا، ويحل محلها نظام الزواج القائم على التراضي والتعاقد. ومن علائم عهد الأمومة أو الكفالة حق التملك للمرأة وحق الإرث، فأصبحت في ظل عهد الأمومة تملك وترث وتتصرف في مالها، وتفارق زوجها عند رغبتها وتضم أولادها من رجال مختلفين تحت سقفها؛ فصارت عاملا فعالا في الحياة المكية قبل الإسلام وفي عصر النبوة. ومن تلك العلائم بل أظهرها قدرة المرأة الحسناء النبيلة الغنية أن تختار الزوج الذي تشاء، كما فعلت خديجة بنت خويلد مع محمد بن عبد الله. وإن كان الإسلام قد حد نوعا من حرية المرأة بفكرة الحجاب وضرب الخمار على الجيوب.
ولدت السيدة خديجة بمكة حوالي منتصف القرن السادس المسيحي؛ فهي من مواليد عصر الإحياء أو النهضة المحمدية، من والدين من الطبقة الراقية؛ فأبوها خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي (وهنا تلتقي بالنبي في الجدود)، وكان خويلد ممن قادوا قريشا في حرب الفجار؛ فهو رفيق سلاح لبني هاشم، ولعل محمدا حارب تحت لوائه في أحد الأيام، وأمها فاطمة بنت زائدة بنت الأصم من بني عامر بن لؤي (وهو أحد أجداد النبي)، وكان جد فاطمة عمرو بن خنثر أحد أبطال الجاهلية؛ فخديجة تنتمي إلى بيت من أعز بيوت قريش هو بيت عبد العزى بن قصي، وإلى قبيلة من أمجد قبائل مضر هي قبيلة عامر بن لؤي، وعمها عمرو بن أسد وأبناء أعمامها حكيم بن حزام وورقة بن نوفل وقتيلة بنت نوفل، وأخو خديجة العوام بن خويلد والد الزبير بن العوام حواري رسول الله، وثلاثة من هؤلاء العشيرة الأقربين أدوا للإسلام خدمة جليلة أولهم ورقة الذي بشر خديجة بنبوة بعلها وطمأنها وهنأها، وكان في مقدمة العصبة المنورة من شيوخ قريش، ترك الوثنية وتحنف وتنصر وقرأ التوراة والإنجيل وكتب العبرانية، وحكيم بن حزام كان صاحب مروءة وعاطفة كريمة تجلت في صنيعه لبني هاشم والمطلب عندما حصرتهم قريش في الشعب، والزبير كان من أنصار الرسول وأبطال الإسلام. وهذا الزواج نفسه رد مفحم على من ادعوا وضاعة أصل النبي وضآلة شأن بني هاشم! فلو كان الأمر كما زعموا لما أقدمت خديجة على محمد في حياة عشيرتها؛ فقد كانت من أوسط نساء قريش نسبا؛ أي من أعلاهن؛ فالتوسط هنا بمعنى واسطة العقد ودرته اليتيمة وجوهرته الفريدة ، فورثت عن والديها مزايا السؤدد العربي من نبل وكرم خلق ووفاء وشجاعة وحزم وصبر على الشدائد وتدبير وحصافة رأي، كما تلقت عن أعمامها تلك الاستنارة العقلية وذلك السمو الروحاني الذي أعدها لتقدير الدعوة الإسلامية وقبولها عن طيب نفس وبذلها ما تملك في سبيل الدين الجديد.
كانت خديجة أرمل وأيما، تزوجت في فجر شبابها من عتيق بن عائد بن عبد الله بن مخزوم، فلما توفي تزوجت من أبي هالة هند بن زرارة التميمي؛ فورثت من زوجها ومن والديها ميراثا حسنا، فقامت على استغلاله في التجارة التي كانت مرتزق قريش في زمنها وكل زمان؛ فكانت تستأجر الرجال في الاتجار لها بمالها لقاء نصيب تسهمه لهم من الربح وتجعل معهم خادمها الأمين ميسرة.
لقد أخطأ من قال إنها بلغت الأربعين وإنها توفيت في الخامسة والستين. كانت تكبر محمدا
صلى الله عليه وسلم
بضع سنين لا نظنها تزيد على الثماني أو العشر، وكانت وسيمة ذات جمال وروعة وملاحة وفطنة، وخطبها كثير من كبار قريش حبا في جمالها ومالها ونسبها، ولكنها كانت تعتذر إليهم لا رغبة في العزوبة ولكن رغبة عن ذل الرجال! ولم يكن أحد يعجبها لأن عادة من يتقدمون إلى الأرامل الثريات كهول ذوو مطامع وأبناء وبنات وأصهار، وكانت خديجة سيدة ذات عقل ناضج وقلب كبير في مجتمع خشن كثيف غليظ، ولا بد لها من شاب في ربيع حياته يخرجها من ظلام هذه التقاليد الجاهلية وفوضى البداوة؛ فهي إذن كانت في أزمة نفسية بين قلب شاب وجمال نضر وبين احتمال الحياة الجديدة في صبر وعفة.
وبينما هي في هذه الحيرة إذا بقلبها قد أخذت تنطبع فيه شيئا فشيئا صورة نجم شارق في أفق الحياة المكية الكثيفة الغليظة الخشنة لا شك أن يتكشف عن كوكب وقاد يملأ الكون نورا وهديا؛ فقادتها غريزتها وفطنتها ونجم حظها وسعد طالعها إليه.
كان المجتمع المكي ينحدر إلى الحضيض وكانت برودة الموت تمتد إلى أطرافه، ولا حرارة تبعث فيه الحياة إلا حياة اللهو والفسوق والأغاني والخمر والسمر والميسر، وهذه حرارة لا تلبث أن تشتعل حتى تخبو وتنطفئ؛ لأنها غير حرارة الحياة والقوة التي تصهر وتنضج وتعد الشعوب للحياة العالية. ولم تخف تلك الحقيقة عن بصيرة خديجة والدة اليتامى وصاحبة المتاجر في البلاد البعيدة، ولا بد أن عشرتها لسيدات البيوت الكريمة وأحاديثها مع جيرانها ووكلائها زادتها نورا وعلما بالحوادث، فلم تكن بمكة صحف ولا مجلات ولا برقيات ولا مقالات، ولكن لا ريب كان فيها قاعات استقبال ومضايف تدور فيها كئوس الأحاديث على نقيع التمر المعطر بماء الورد أو أطباق الحلوى المفعمة بالأفاويه، ولا بد أن ورد على بعض الألسنة وصف ذلك الشاب الذي ما يزال مغمورا مطمورا ولكن مخايله كانت تؤذن في سمع خديجة ونظرها بعد أن رأته بأنه سوف يأخذ بزمام تلك الحياة المنحدرة فيوجهها توجيها جديدا. وغريزة المرأة قل أن تخيب في مثل هذه المواقف؛ فإن لها في الرجال نظرة فاحصة مدققة وفراسة يندر أن تخطئ، فلا تسلم قلبها ويدها ومالها إلا واثقة من الدقة الناجحة والصفقة الرابحة، وإن ضاربت المرأة بكل مالها في التجارة فلا تخاطر بقلبها في الحب والزواج.
ذلك الشاب الذي وقعت عليه عين خديجة واختيارها كان محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فكانت أوفر حظا ممن تربح الجائزة الأولى في أغلى سباق.
كانت خديجة تعيش في بيت ابن أخيها حكيم بن حزام في شارع الحزامية؛ نسبة إلى أخيها، وما تزال أرض هذا البيت معروضة للأنظار في محلة الشامية بعد هدم القبة التي كانت عليه، وقد رأيتها بعيني وما شعرت بحكمة الشعراء في بكاء الدار والجدار ودار مي وهند بمثل ما شعرت به حياله! وكان للدار مدخل مظلل بأغصان الشجر وحديقة تنفتح منها خوخة إلى بيت العوام زوج إحدى عمات النبي.
كان قلب خديجة يخفق خفقانا شديدا عندما تلمح هذا الشاب العجيب يروح ويغدو في طرق مكة وأسواقها، وأدركت بعد تكرار اللقاء ومحمد لا يدري من أمرها شيئا لفرط حيائه وانشغاله بنفسه أنه حاجة قلبها ومهوى فؤادها، ولكن كيف تفضي إليه بدخيلة نفسها وتبثه لواعج حبها! إن الحسب والنسب والخفر والحياء كل هذه تمنعها أن تكون هي البادية بالخطوة الأولى التي تكلف صاحبها فوق طاقته.
لم لا تستأجر محمدا وتضاعف له الجعل الذي كانت تجعله لسواه؟ فوسطت إليه من عرض عليه رغبتها فقبل محمد
صلى الله عليه وسلم
ما عرض عليه وسافر إلى الشام في صيف 595م متجرا في مال السيدة، وسافر معه غلامها ميسرة ليرقبه عن كثب، وينهي إليها عند عودته جملة حاله في سفره؛ فتقف على حقيقة حاله في الحل والارتحال. وباع محمد واشترى ولقي التجار والراحلين ولقي من لقي في بادية الشام من حكام ومحكومين وخاصة وسوقة، كما يرى كل تاجر عربي يشد رحاله إلى الشمال والجنوب، ثم عاد وقد ربحت التجارة ربحا وفيرا، «وقدم ميسرة تقريره» بما رأى من محمد في السفر من الرجولة والصبر والجد إلى رقة الشمائل وسهولة الخلق وصدق المعاملة وأمانة الأخذ والعطاء؛ فاطمأن قلبها أو علمت أن فراستها لم تكذبها. وقد جاز محمد
صلى الله عليه وسلم
عقبة الاختبار ونجح في الامتحان؛ فقطعت كل تردد وأجمعت أن تخطو الخطوة الأولى؛ فمالت إلى نفيسة بنت منية إحدى صواحبها التي تثق بها وتأمنها على سرها، وأفضت إليها برغبتها، وجرى بينهما الحديث المعروف المدون في كتب السير، فدعته إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة فأجاب الدعوة بعد أن أصبح يشعر نحو خديجة بمثل شعورها نحوه، ولم يجعل لفرق السن حسابا بالقياس إلى محاسنها وفضائها، ووافق الأعمام على الزواج وأصدقها عشرين بكرة ولم يكن هذا الصداق في الواقع إلا رمزا؛ لأن خديجة لم تكن بحاجة إليها وهي مهما كثرت لا تعد شيئا بالنسبة لقدرها. •••
كان هذا الزواج أهم حادث في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل البعثة، والخمس عشرة سنة التالية، وهي فترة الاستعداد للوحي، أعظم فترة في حياة محمد، ولا يعدلها في ميزان التاريخ إلا العشر سنوات التي قضاها في المدينة، وكانت خديجة أعظم إنسان في تاريخ الإسلام قبل أبي بكر وعمر.
كان هذا الزواج ضرورة محتمة وسعدا وتوفيقا وخيرا جاءت في وقتها، وخطا محمد الخطوة الأولى في سبيل الرسالة؛ فقد كان يعوزه الاطمئنان والراحة والفراغ وضمان الرزق وكفاية مئونة الدنيا التي بدون توافرها لا يتم عمل عقلي أو روحاني منتج؛ فإن الهلع والجزع والعناء بسبب السعي كلها تعطل المواهب وتقيدها بسلاسل الاضطرار وتشغل النفس عن الصعود إلى العلا. فلم يكن زواج محمد وخديجة فاتحة حياة زوجية هادئة وادعة هنيئة وحسب، بل كان فاتحة الاستعداد للدعوة المحمدية. وإن أعظم أعمال الرجال حتى الأنبياء منهم لا تقوم إلى على كاهل امرأة حنون، سواء أكانت أما أم زوجا أم أختا أم بنتا، وهذه المرأة الحنون لا تغذي الرجل إلا إذا كان بينهما حب متبادل وإخلاص واحترام وتقدير، وقد اجتمعت هذه الشروط كلها وذاق محمد
صلى الله عليه وسلم
طعم السعادة البيتية من ليلة الزفاف إلى أن ماتت خديجة - رضي الله عنها - بعد ذلك بخمس وعشرين سنة، حتى على ما عانياه معا في العشر السنوات الأولى للبعثة من المتاعب والمشقة؛ فإن كل ألم يهون وكل عذاب يعذب إذا تمت الشروط السالفة.
كانت خديجة تقدر في محمد كرم الخلق وشباب السن وقوة البنية وسلامة البدن وروحانية النفس وجمال الرجولة وكمال المواهب، وكان يقدر فيها رجاحة العقل والجمال وكثرة عطفها عليه وإعجابها به وتوفير أسباب راحته في داره وموافقته فيما يحب وما لا يحب ومطابقته على ما يروقه وما لا يروقه.
ولم يكن محمد كغيره من الرجال يعيش كما اتفق؛ فقد كان كثير العناية بأمر نفسه، ليس كل الطعام يطعم ولا كل الشراب يشرب ولا كل الثياب يلبس ولا بكل الزينة يزدان، ثم هو ميال بطبعه إلى العزلة مؤثر للصمت مطيل للفكر؛ فعلى جليسه وعشيره أن يعرف فيه كل ذلك ويرعاه له، وقد عرفت خديجة ذلك ورعته له أتم رعاية.
فكانت تعد له ما يستطيبه من الدباء والعسل والتمر المنقوع في الحليب أو المخلوط بالقثاء، ولا شك أنها كانت تقل في طعام من البصل والثوم اللذين كانت تعاف كثرتهما نفسه، كما كانت تعنى بنظافة ثيابه وأدوات طيبه وأدهانه، فكان يحب أن يبرز للناس عطر الجسم نظيف الثياب.
ولا شك أنها كانت توفر له الهدوء في المنزل، وإذا جنح إلى الخلوة أو التحنث في الغار لم تقطع عليه سكونه، بل أعانته على ذلك بإعداد الزاد الذي يحتاج إليه، فإذا طالت غيبته افتقدته في غير إزعاج ولا تكدير لصفو نفسه.
هذه هي في الواقع صفات الزوجة التي تنضج في ظلالها العبقرية ، ويتم فيها تخريج الرجال المختارين من العناية لخدمة الإنسانية، وهذه الحياة السعيدة اللينة هي مدة الحضانة والحصانة اللازمتين لظهور البعثة المحمدية.
إن التشجيع وتوافر الاطمئنان أعظم ما يحتاج إليه الرجل المخلوق لجلائل الأعمال، وهما لا يوجدان إلا حيث يوجد الحب الصحيح. وأهل هذا الزمان من النساء خاصة يستغلون الرجال؛ فالمرأة تظهر الحب وتوقع الرجل الذي تظن فيه الخير في حبائلها لتستثمره! وهذا يقود إلى خراب الاثنين معا. وكان في قريش وفي مكة نساء من هذا القبيل، وفي مقدمتهم هند زوجة أبي سفيان، وقد لعبت بزوجها الأكر وسخرته في الانتقام لأبيها وأقاربها الذين قتلوا في بدر. وهؤلاء النساء شبيهات بمغامرات هذا الزمان.
ولكن خديجة كانت فريدة في خلقها ونبلها، ولكن هذا لا يمنع أن تكون قد ظنت كل الخير بمستقبل محمد على صورة مبهمة؛ لأنها رأت أنه مخلوق لأعاظم الأمور، ولكن صورة العظمة التي تواتيه لم تكن واضحة في ذهنها، وهذا الزواج كان موفقا حقا، حتى لكأنه مراد العناية الإلهية وغاية الرغبة الربانية وليس توفيقا سعيدا ولا حسن حظ لمحمد أو خديجة. نعم كانت خديجة تجتمع وإياه في قصي ولعلها أقرب زوجاته لحما ودما، ولا يشاركها هذا الفخر إلا أم حبيبة، أما غيرهما من أمهات المؤمنين فمن غير عشيرته. أما مؤرخو العرب الذين لديهم مراجع تاريخية حسنة فلم يعنوا بجانب الجد من الحياة ولم يصفوا خديجة إلا بأنها «امرأة حازمة جلدة شريفة النسب.» مع أن حياتها من مولدها إلى وفاتها كانت على مرأى ومسمع منهم؛ فلم يدونوا منها شيئا ولم يفهموا هذا الزواج المبارك إلا أنه تم بدسيس من نفيسة بنت منية وأن خديجة أسكرت أباها خويلد بن أسد وألقت عليه حلة وضمخته بطيب خلوق على عادة تزيين آباء الزوجات ليلة الزفاف؛ لأنها استشعرت من أبيها أنه يرغب عن زواجها من محمد (كذا!) كما فعلت رقاش مع أخيها جذيمة عند زواجها من عدي نديم أخيها في قصة الزباء! فكل زواج في عرف هؤلاء المؤرخين السالفين بين امرأة ذات قدر وشاب أصغر منها سنا أو أقل مالا لا يتم إلا بالحيلة والدسيسة!
ولو كلف هؤلاء المؤرخون أنفسهم قليل عناء، لعلموا أن خويلدا مات قبل زواج ابنته وابنه! وأنه لو كان على قيد الحياة لقبل هذه المصاهرة مسرورا؛ فلم يكن محمد
صلى الله عليه وسلم
نديما له ولم يكن ممن يختلسون النساء الثريات ولم يكن ليرضى الدخول بها على أنقاض الخمر والحلتين والطيب المزعفر، وهو الذي من قبل أبى أن يتزوج من ابنة عمه أم هانئ وهي التي عرضت نفسها عليه. ولكن ما الحيلة في هذه الآراء العبرانية التي سرت إلى كتاب السيرة من التوراة؟! فإن صورة ابنتي لوط اللتين أسكرتا والدهما لا تبرح أذهانهم. ويستمر هؤلاء المؤرخون المختلقون فيزعمون أن خويلدا لما أفاق من خماره قال: ما هذا؟! قالت له خديجة: زوجتني من محمد بن عبد الله! قال: أنا أزوج يتيم أبي طالب؟! لا لعمري! فقالت له خديجة: ألا تستحي؟! تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبرهم أنك كنت مخمورا! فلم تزل به حتى رضي.
وفي هذه الرواية الآفنة ما فيها من الباطل والتلفيق، وقد عرضنا له لنظهر القارئ الحديث على لون من تدوين التاريخ الأبله، فإن وصف محمد بيتيم أبي طالب أو يتيم قريش غير معقول ولا مقبول بعد أن صار رجلا رشيدا! واليتم لا يمتد إلى ما بعد بلوغ الرشد، واليتم ليس معرة، وكان محمد إذ ذاك تاجرا يربح وفتى من فتيان قريش ذوي المكانة والقدر والنسب والعقل، فمن يكون هذا الشيخ الهرم حتى يعترض على مصاهرته ولم يعترض عليها أعمام خديجة وهم حكيم والعوام وورقة، ولأجل أن يقيموا لوصفه بيتيم قريش وزنا جعلوا خديجة أيم قريش كأن لم يكن في قريش ولا في مكة يتيم ولا أيم سواهما! وهذا المؤرخ نفسه الذي يورد خبر السكر والحلة والخلوق (الطيب المخلوط بالزعفران) هو الذي يثبت بعد بضعة أسطر ما نصه: «خطب ورقة بن نوفل فقال: نحن وأنتم سادة العرب وقادتها (مخاطبا أبا طالب وإخوته ومحمدا وعشيرته) لا ينكر العرب فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، ورغبتنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا علي معشر قريش أني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله. وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وهذه أول وليمة أولمها رسول الله ... إلخ.»
وأردنا أن نثبت من كلام ورقة ما أثبته المؤرخ «ورغبتنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم»، وهو الذي يقتضيه سياق التاريخ من أن خديجة كانت الراغبة، والراغبون لا يختلسون رضى الآباء بالسكر والعربدة!
وأحب أن أقرر هنا أن كل مؤرخي الإفرنج لم ينازعوا في شرف محمد
صلى الله عليه وسلم
وعظمته وجدارته وحذق خديجة في انتقائه بعلا، وكانوا أكثر عدلا ومنطقا وتحقيقا من أسلافهم العرب الذين كان تعرضهم للسيرة المحمدية بلاء على الثقافة العربية والتاريخ الإسلامي! •••
بعيد الزفاف شعر محمد بأن عبئا ثقيلا قد انحط عن كاهله، فلم تعد به حاجة إلى أسفار الشام واليمن، وعادت خديجة إلى تأجير الرجال على تجارتها في صحبة ميسرة. ولم يبق محمد
صلى الله عليه وسلم
عاطلا، بل شرع في تجارة بمشاركة قيس بن الصائب، وكان شريكا موافقا شاد النبي بفضله بعد الإسلام ولم ينسه قط، وكان النبي يبيع ويشتري وأكثر ما رئي شاريا.
وإنك إذ تسير في طرق مكة الحديثة ليخفق قلبك إذا تحسب أنك تطوف بالحانوت الذي اتخذه الرسول لتجارته، وتكاد تراه بعين الخيال بمحاسنه ومكارم أخلاقه واقفا أو جالسا يساوم أو يجتهد أو يأمر بالقسط أو يفض نزاعا أو يحل معضلا. فهذه مكة ما تزال على حالها لولا تهدم بعض المباني وحلول غيرها محلها لضيق رقعتها وحاجة أهلها إلى كل ذراع من فضائها، وهذه لذة السير في طرق مكة، فإنك توشك أن تلتقي بمسلم من الصدر الأول أو بمضطهد من كفار قريش أو بشاعر يشتري الخمر ويغذ السير ليدرك موعد لقاء أو مجلس أمير ليمدحه، أو قافلة تسير على مهل ثم تقف لتستدير وتلتوي في طريقها إلى محلة القرارة أو جرول أو المسفلة أو المدعى لتنيخ جمالها وتحط رحالها، فليس هناك كبير فرق بين مكة الوثنية ولا مكة الإسلامية إلا في قلوب المؤمنين الذي يلقونك ويحيونك بتحية الإسلام، وفي اتساع رقعة المسجد الحرام ودعوة المؤمنين إلى الصلاة في أوقاتها وخلو بيت الله المعظم من الأصنام والأوثان. أما الديار والحوانيت والتجار والبضائع والأعراض فلا فرق بين اليوم وأمس، وهؤلاء الغرباء يطلعون عليك من كل فج.
ولكن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان بلا ريب ممتازا على غيره من أهل بلده؛ فلا هيئته هيئتهم، ولا حديثه حديثهم، ولا عقيدته عقيدتهم، ولا ميله من ميولهم، وها هم الآن يتطلعون إليه بعد زواجه وفيهم الحاسد والناقد والمهنئ الجهير والحاقد المنافق، وفيهم من ينظر إليه طمعا في ما سوف يكسبه غدا من المجد فيشركه فيه سواء أكان مالا أو شهرة، ولكنهم لا يعلمون على التحديد نوع هذا المجد ولا يخطر ببالهم أنه سوف يقلب كيان مجتمعهم وسوف يقوض أركان حياتهم ليبني لهم بأمر الله وإذنه بناء جديدا. إنهم لا يرون فيه إلا شابا نشطا وعرسا جديدا وتاجرا أمينا وسيدا حسيبا يتسلسل من أعرق الأصلاب، وسوف يستمر نظرهم إليه على هذه الصورة وبهذا التقدير خمس عشرة سنة. وما كان محمد نفسه يدري ماذا تخبئ له الأقدار، ولكنه كان بلا شك فرحا بما أصاب من خير راجيا أن يوفق إلى رضى هذه التي كانت مثال الزوجة الحفية بزوجها؛ فكانت مثال الأم المعنية بأولادها؛ فقد رزق منها محمد
صلى الله عليه وسلم
كل أولاده ذكورا وإناثا غير إبراهيم؛ فولدت له القاسم، وكان به يكنى، ثم ولدت له زينب ورقية وفاطمة وأم كلثوم، وقد ولدوا جميعا في الفترة السابقة على البعثة، ثم ولد له في الإسلام عبد الله الذي عرف بالطيب والطاهر. ومما يؤكد قولنا أن خديجة لم تبلغ الأربعين عند زواجها أنها ولدت بعد الإسلام أي بعد خمس عشرة سنة من زواجها، فلو كانت سنها عند الزواج أربعين لأربت عند مولد عبد الله على الخامسة والخمسين، وهي سن لا تلد فيها المرأة، وهي تبلغ سن اليأس في الخمسين، ولا عبرة بما يقول مخرفو المؤرخين من أن نساء قريش يلدن بعد الستين ويحتفظن بجمالهن ونضارتهن إلى المائة!
وقد انضم إلى هؤلاء علي بن أبي طالب.
أما الدار التي جمعت تحت سقفها هذه الأسرة الطيبة الطاهرة في حارة الحزامية، والتي رأينا أرضها فضاء في آخر سنة 1359 هجرية؛ أي بعد الزفاف بألف وثلاثماية وثمانين وسبع سنوات؛ (لأن الزواج تم سنة 28 قبل الهجرة)، فكان بابها يوصل إلى طرقة على يسارها شبه مصطبة مرتفعة عن الأرض بنحو ثلاثين سنتيمترا، وهي عبارة عن عشرة أمتار طولا في أربعة عرضا، وعلى يمينها باب صغير يصعد إليه بدرجتين يدخل منه إلى طرقة ضيقة عرضها متران وفيها ثلاثة أبواب؛ الذي على اليسار لغرفة صغيرة يبلغ سطحها ثلاثة أمتار طولا في أقل منها عرضا، وهذا المكان كان معدا لعبادته
صلى الله عليه وسلم ، وفيه كان ينزل الوحي عليه، وعلى يمين الداخل إليه مكان منخفض عن الأرض يقولون إنه كان محل وضوئه. والباب الذي في قبالة الداخل إلى الطرقة فيه مكان واسع يبلغ طوله ستة أمتار في عرض أربعة، وهو الذي كان يسكنه مع زوجته. أما الباب الذي على اليمين فيوصل إلى غرفة مستطيلة 4 × 7,5 أمتار وفي وسطها مقصورة صغيرة أقيمت على المكان الذي ولدت فيه السيدة فاطمة - رضي الله عنها - أكثر بناته نجاحا وأعظمهن شهرة، وفي جدار هذه الغرفة رف موضوع عليه قطعة من رحى قديمة يدعون أنها من رحى السيدة فاطمة، وعلى طول هذا المسكن والطرقة الخارجة والمصطبة من جهة الشمال فضاء مرتفع بنحو متر ونصف يبلغ طوله نحو ستة عشر مترا وعرضه نحو سبعة أمتار ويظن أنه المكان الذي كانت خديجة تخزن فيه تجارتها.
وهذه الدار التي كان يغدو
صلى الله عليه وسلم
منها ويروح إليها على مدى خمس عشرة سنة، وينتظره ساكنوها بفارغ الصبر ليأنسوا إليه ويفرحوا بلقائه، وكانت مثابته ومستقره الأمين وركنه الركين ومبعثه إلى الخلق ورحمة للعالمين، إذا أنعم الزائر بها نظره وفكره لا يرى إلا البساطة والقناعة، تحتوي على أربع غرف؛ ثلاث داخلية منها واحدة لبناته والثانية له ولزوجه والثالثة لربه وله، والرابعة بمعزل عنها له ولأضيافه وعموم الناس. هذا بيت النبي وبيت الأمة الذي شهد أفراح محمد وأتراحه، وشهد زفافه ووفاة ولديه وتعذيبه وتشريده وخروجه لهجرته ومرض خديجة ووفاتها بعد أن حط الحصار في شعاب مكة قواها - يا لله! ما هذا الترتيب الجميل وهذا النظام البديع والآداب العليا والكمال الإنساني صيغت في بساطة متناهية وقناعة وزهادة لا مثيل لها ولا تكونان إلا لنبي! - تأمل تره النظام بنفسه الذي قضت به الحضارة الحديثة لولا أنه يتم الآن بصورة تعددت ألوانها وكثرت أنواعها، هذه دار الرسول الأمي المبعوث لكافة الأمم وهذا النظام في بيته، فهو مجرد من مظاهر العظمة وخلو من خلابة الفخفخة والفخامة؛ فقد اكتسى بحلل الجمال والكمال وتحلى بحلى الفضيلة والكرامة.
وعلى هذه الصورة أو قريب منها كانت حياته وداره في المدينة بعد أن صار نبيا وسيد المرسلين، فلم يتخذ دينه ورسالته ومكانته عند الله والناس وسيلة إلى عيش الأغنياء وحياة العظماء، بل كان حسبه من عيشه ما كان يقوم بحياته، وكلها خير وبركة ويمن وسعادة للناس أجمعين. أين هذه اليقظة وهذا المجد الروحي من سخافة أبي سفيان في داره التي ما تزال قائمة كأنها هيكل وثني تكشف عن بوابتها وعمدها كالمرأة الغانية التي لا تستحي أن تظهر آثار محاسنها الزائلة، إنها مسبة ومفجرة وفضيحة صامتة في عرض الطريق. لقد كانت مصدر المظالم والمغارم والجرائم وبؤرة المؤامرة ومباءة الفتن ومسقط رأس الفجار من الرجال والنساء ومهبط وحي الشيطان ومجلس إبليس، ولكنها لم تندثر كما اندثرت دار خديجة ولم تتهدم كما تهدمت جدران البيت الذي شيد على التقوى وصدرت عنه أنوار الهدى.
أرجع إلى دار خديجة فإنه بعد الهجرة سنة 13 من البعثة استولى عليها عقيل بن أبي طالب؛ لأن الرسول كان وهبه إياها، وقيل أخذها عنوة وليس وارثا فيها، ولكن كفار قريش - ومنهم عقيل الذي أسلم بعد الفتح - نهبوا ديار المهاجرين وسلبوا أموالهم ولم يخجلوا أن ينكبوهم في حريتهم ووطنهم ثم في عقارهم ومنقولهم وأثاثهم! واشتراها منه معاوية المشهور ابن هند فجعلتها مسجدا وعمرت في زمن الناصر العباسي، ثم عمرها الأشرف شعبان ملك مصر، ثم المظفر صاحب اليمن.
هذه هي الدار المباركة التي درج فيها أولاد محمد
صلى الله عليه وسلم
وبناته من خديجة التي كانت تعولهم وتنشئهم خير تنشئة. وكل ما ورد من الأخبار على لسان أم أيمن أو فاطمة أو علي بن أبي طالب يدل على عقل خديجة ونظامها وتدبيرها؛ فقد كانت قابلتها سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب، فإذا ولدت غلاما عقت عنه بشاتين وعن البنت بشاة واحدة. وكانت ولودا بين كل ولدين لها سنة، وكانت على عادة أشراف مكة تسترضع لهم وتعد ذلك قبل وضعها، وقد توفي الوالدان، وتزوج البنات من خير الأزواج؛ فعثمان بن عفان تزوج من رقية فلما توفيت ورأى النبي تفجعه عليها زوجه من أم كلثوم؛
1
ولذا كان يسمى ابن عفان بذي النورين؛ لأنه استمتع ببنتين من بنات رسول الله، وعقد لفاطمة على علي بن أبي طالب، وزوجت خديجة بنتها الرابعة زينب من سعد بن الربيع، ولهما قصة تدخل في باب الروايات الممتعة ليس هذا مكانها.
ولسنا نعلم عبادة أهل الدار قبل البعثة ولا نصدق أن أحدا منهم عبد الأوثان، ولم يرو أحد إن كان في بيت خديجة وثن كما كان في بيت سادة قريش، ولكن محمدا
صلى الله عليه وسلم
ضاف في داره بعض المتحنفين، زيد بن عامر وورقة بن نوفل، فبغضاه في أكل اللحوم التي ذبحت على الأنصاب أو ضحي بها للأوثان. وقد روى البعض أن خديجة كان لها ولد من أحد الفراشين الفارطين في التاريخ. وها قد رأينا عطف خديجة وحدبها على زوجها وأولادها.
أما محمد نفسه فكان شديد الحب لبناته، وكان لا يملك أن يخفي حنانه؛ فقلبه أبدا فياض بالحب لا يأنف أن يقبلهن ويدللهن ويداعبهن ويدخل السرور على أنفسهن، ولا يضن بشيء من ذلك على ربيبه وابن عمه علي ولا على مولاه زيد بن ثابت، وكان يبغض أن لا يقبل الرجل أولاده وإن كثروا ؛ فكره أن رجلا رزق عشرة أولاد لم يحتضن أحدهم ولم يقبله (الترمذي، ص345). وقد أبى أن يشعر زيدا بذل الولاء فتبناه وزوجه من زينب بنت جحش إحدى قريباته، كما زوج أم أيمن جاريته، وما زال يعطف على أولاده وأحفاده إلى أن كبر، فكان يضع الحسن والحسين على كاهله حين يصلي، ويسجد فلا يقوم حتى يأخذا قسطهما من اللعب على كتفيه، فإن إدخال السرور على قلوب الأطفال عبادة، وقد يحتضنهما قائما ويركع بهما (النسفي، ج1، ص132) وفي المدينة سلم قياده لطفلة تسير به حيث شاءت (مسند أحمد 3 : 174). أما أولاد زوجاته اللواتي عقد عليهن ولهن ذرية، فقد ألقى عليهم محبة لا تقل عن محبة أولاده، وقيل إن أحد ولدي خديجة من زوجيها السابقين نافح عن النبي في جدال عنيف حتى ناله السوء.
وهكذا درجت الأعوام على بيت محمد وخديجة في هدوء وعمل واستعداد، واشتهر محمد بالأمانة والفضيلة ونال احترام كل من عرفه، ولكنه لم ينجح في التجارة نجاحا باهرا، ولم يعلم له رأي خاص في العبادة، ولم يتجه بذهنه إلى دعوة أو رسالة.
بيت النبي عليه الصلاة والسلام في مكة والمدينة
هدانا الله - سبحانه - إلى تدوين القليل من الكثير في هذا البحث الجليل عن زواج الرسول بالسيدة خديجة ووصف حياته العائلية، وقد قدمنا النظر في زيجة خديجة بسبب شأنها الكبير في البعثة والدعوة والتمهيد للرسالة وحسب سياق حوادث التاريخ.
أما وقد بنى الرسول بعد وفاتها بغيرها من كل مختلف القبائل والأجناس، فوجب أن نتناول البحث من ناحية الأسرة العربية من قديم الزمان.
لم يخف علينا ونحن نشير إلى عهد الكفالة وسيادة المرأة أما وزوجا أن بلاد العرب لم تكن في الجاهلية على نسق واحد في النظم الاجتماعية؛ فقد كان الخلاف والمفارقة والتفاوت ظاهرة جلية بحسب فترات التاريخ الجاهلي القديم؛ فلكل فترة منه نظام وعرف وعادات تتبع التطور وتلاحقه وتعين على حدوثه، وبحسب اختلاف الأماكن في الجزيرة العربية وتباين البقاع خصوبة وجدبا، وسهولة ونجدا، وديانا وجبالا، شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، وتباين القبائل والأمم التي سكنت في كل بقعة وما طرأ عليها من التحول والنزوح والعود إلى مهادها؛ فهذا كاختلاف الأزمنة كان له أثره. ثم في كل بقعة وشعب وقبيل كان اختلاف الطبقات وتنوع درجات المجتمع؛ فمن الأقيال والأشراف والزعماء إلى أوساط الناس ثم الطبقات النازلة، ومن أهل الحصون والآطام والقصور وسكان الدور الثابتة البناء (الجدار) في الحواضر والمدن الآهلة العامرة إلى سكان الشعر والخيام. فلا عجب والحال هذه أن كانت حالة المرأة والزواج والمصاهرة والحب والغيرة وعلاقة الجنسين تختلف بحسب الوقت والبيئة والدرجة الاجتماعية.
جاء الإسلام ثورة على هذا التباين والتقاطع، وقضى على شذوذ الجاهلية ورمى أول ما رمى إلى الوحدة والتوحيد في العبادة والتوحيد في اللغة والتوحيد في الجنس والتوحيد في الغايات، وربما كانت بلاد العرب الأولى في نوعها من حيث اجتماع النقائض فيها؛ فبينا كانت في عزلة عن العالم عشرات ألوف السنين، فقد كانت على جدبها وجفافها سوق العالم القديم ومركز حركة النقل والانتقال فيه، وفي تلك الصحراء المقحلة اجتمعت حضارات العالم القديم كلها؛ فهذا إسماعيل قد انتقل إليها مع أبيه وأمه من الشمال، وهنا بلقيس ملكة سبأ التي رحلت إلى سليمان في فلسطين، ثم مجوس الفرس يجوسون خلال الديار للتجارة وحمل الأحجار الكريمة وبيع نفائس الطنافس للملوك والمترفين والأمراء، فيجتمعون في الطرق والأسواق على ظهور الإبل بفرسان الأحباش وسياح مصر؛ فالجزيرة مهجورة لجدبها، آهلة لمواصلاتها، فقيرة بعقم أرضها وجفاف وديانها، غنية بتجاراتها، قانعة بواحاتها.
ومن قديم الزمان لم تكن علاقة الرجل بالمرأة فوضى ولا منكرا كما نرى في حياة الأمم المتوحشة وقبائل الهمج، بل نرى الأسرة العربية وحدة ظاهرة مستقلة في حضن القبيلة.
لا جرم أن الحجارة ووديان مكة كانت مهد العروبة ومنبت الجنس العربي غرس بذوره إبراهيم وإسماعيل، وأن إسماعيل بن إبراهيم من هاجر كان جد ذلك الجنس ومؤسسه، وقد وصف المسعودي (في مروج الذهب، ج3، ص97) مصاهرته للقبيلة التي نزلت بعين زمزم بجوار البيت الذي شاده هو وأبوه. وفي الأساطير القديمة التي تصور تلك الأسرة العربية الأولى نبأ إبراهيم وقد جاء يزور ولده إسماعيل فلم يجده ولقي زوجته فسألها عنه فأجابت أنه في الصيد وضنت عليه بالطعام والشراب، فأوصى ولده على لسانها برمز بينهما أن يطلقها قائلا: صفيني له وقولي غير عتبة دارك. ولما عاد وألفى الزوجة الجديدة مذاذ بنت الزعيم الجرهمي فأكرمته وقدمت له الحليب واللحم والتمر فأكل وشرب واستراح من وعثاء السفر، ثم دعا لهم بالبركة فيما قدمت له، وأوصى ولده على لسانها باستبقاء عتبته وتثبيتها، فأبقى إسماعيل عليها ورزق منها النسل الذي ملأ الجزيرة بأبنائه وأحفاده.
فهذه سلطة الوالد نافذة على ولده في غيبته، ووصيته يعمل بها الولد ولا يحيد عنها، وهذه بركة الوالد الراضي تصيب أهل الوادي بعد أن أطاعه ابنه وأكرمته زوجته، وهذه سلطة الوالد يزوج ابنه وابنته، والرجل رب الأسرة وسيدها المطاع، ولكن هذه السلطة الوالدية التي اختص بها الرجل نفسه لم تكن قاضية على المرأة؛ فها هي تشاركه في الحرب (طبقات ابن سعد، ج8، ص 237-301، وكذلك مقدمة البستاني في ترجمة الإلياذة، ص312) فللمرأة الحق أن تنتحل الدين الذي تشاء دون اعتراض أهلها أو إكراه عليها من بعلها، ولها أن تتصرف في مالها فتتجر به أصالة لنفسها وتعامل الرجال، وبالوكالة عن ذاتها فتبعث الرجال؛ فهي المتكلمة المفكرة العاملة المدبرة في دارها.
بل كانت المرأة في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
أرقى وأفضل وأعف وأهنأ بالا مما وصلت إليه في عهود الإسلام الأخيرة (أرنست رينان، مجلة العالمين، سنة 1851، ص1095، من مقال له بعنوان محمد ونشأة الإسلام)؛ فقد كانت المرأة في صدر الإسلام ذات حياء وعقل وخلق ولسان مما لم يكن لها بعد ذلك بألف عام عندما ذلت وهانت وصارت متاعا إلى حين في مخادع الملوك وقصور الأمراء والأغنياء؛ فالذنب في تدهورها ليس عليها ولكن على الذين جعلوا منها أداة لشهواتهم، وإذن كل ما كتبناه عن شخصية خديجة كان حقا وصدقا لا مبالغة فيه. ولم يكتب مؤرخو العرب عنها وعن زوجات النبي تحسينا وتنميقا بعد الإسلام إعلاء لشأنها ومجاملة أو تعصبا، بل هو الحق الذي شهد به كبار العلماء أمثال رينان؛ فالله أوحى إلى محمد كرامة المرأة، ولكن مظالم الرجال طغت فتحكمت فيها وأخضعتها وأفسدتها، فلما تحررت أخذت بثأرها وطغت في عنفوانها وأعانت على هدم الأسرة وتسخير الرجال، وما زالت المرأة في الجاهلية تنظر إلى أهلها نظرة إعزاز واستنجاد عند الضرورة، وهو ما كان ينفخ في روحها ويبقي على بقية من شخصيتها وعدم اتكالها تكلانا مطلقا على زوجها، وفي هذا لون وأثر من عهد الكفالة، فكانت تقول في انتياب الشدة القول المشهور: «الزوج موجود والابن مولود والأخ مفقود.» أي إنه لا يعوض ولا يقوم مقامه مخلوق؛ لأن فيه ضمانا إذا جار الزمان أو تجنى الزوج، وفيه معزة إذا قسا قريب أو غريب أو جنح إلى الظلم ابن أو ربيب؛ فالمرأة الجاهلية قد تخذل زوجها لتنقذ عشيرتها الأقربين كما فعلت سلمى والدة عبد المطلب مع زوجها أحيحة لتنذر قومها بحربه (انظر الأغاني، ج13، ص102، أخبار المتدلية). وقسا الرجل على بنته حتى بلغت تلك القسوة جريمة الوأد التي نعاها عليهم القرآن الكريم. وقد أراد الرجل أن يتصرف في المرأة إلى أقصى حدود الاستبداد في التصرف؛ فجعل حياتها نفسها معرضة لخطر الدفن بالحياة، ويردون أصل هذه الخلة الجاهلية إلى رجل من يشكر سبا فتاة تميمية فذهب خالها يفتديها بماله فخيرها الذي خطفها بينه وبين خالها وكانت فتنت به ففضلته على خالها وأبت العود إلى ظلال الأسرة فعاد التميمي حاقدا على جنس النساء؛ فوأد بنتين له وأقسم بأربابه أن يئد كل بنت تولد له! فهذا المصاب الذي أدى إلى وأد البنات لم يكن خاليا من الخير؛ فقد أعان على تقلص نفوذ أسرة الزوجة وانحيازها شيئا فشيئا إلى أكناف زوجها كما كان افتداء إسماعيل بالكبش السماوي قضاء على عهد الضحية البشرية. وهكذا كل إصلاح اجتماعي إنساني لا يصل الإنسان إليه إلا بإهراق الدم وطول الألم وبذل أعمار. وإنك تلمس تقلص ظل النفوذ الوالدي في زواج البنت بما رأيته من أساطير أحاطت بزواج خديجة؛ فقد زعموا أن أباها كان مخالفا، فأسكرته لتنال رضاه وهو مخمور. وهكذا نجد قصة زواج رقاش أخت جذيمة من نديمه وخادمه عدي، نالته رقاش بإسكار أخيها حتى رضي بمصاهرة من لم يكن كفؤا لها. وقد بقيت في الشريعة الإسلامية آثار من تلك السلطة الوالدية تبيح للوالد المغلوب على أمره في زيجة لا ترضيه أن يطلب التفريق لعدم الكفاءة، وهو سيف مسلط على أعناق كل بنت تخرج على إرادة أبيها وكل طامع في شرف مصاهرة لا تنبغي له أن يتطلع إليها، ومنذ أربعين عاما قامت ضجة حول زواج قيل فيه بعدم الكفاءة بين الزوجين فانبرى الأدباء يسمونه عام الكفء، ونثروا ونظموا ما شاء لهم النثر والنظم، فقال محمد حافظ إبراهيم:
وقالوا لصيق ببيت الرسول
أغار على النسب الأنجب
وزكى أبو خطوة قولهم
بحكم أحد من المضرب
وهؤلاء الشعراء المحدثون ساروا على نهج القدامى الذين تمسكوا بفوارق الطبقات حتى صموا وعموا وتوهموا أن خويلدا والد خديجة أبى زواجها من محمد بن عبد الله فأسكرته لتنال رضاه بعد الإفاقة. ومعنى هذا أن آثار الجاهلية ما زالت متحكمة في بعض بلاد الإسلام كمصر والعراق والشام إلى ما بعد النبوة بثلاثة عشر قرنا وبعد أن نال النبي رذاذ من شرها، وهذا كله أثر من سلطة الوالد على نسله حتى بعد بلوغهم سن الرشد، ولا مجال للإفاضة في هذا البحث إلا من ناحية التاريخ؛ فإن هذه السلطة قد زالت وتقلصت في العصر الحديث وأصبحت أثرا من بعد عين، ولم تكن كلها شرا؛ فإن الشرور التي حلت محلها بتقلصها أكبر وأدهى وأمر.
وهكذا في كل أدوار الحياة الجاهلية نعثر على آثار من نظم وعهود متناقضة؛ فبينا كانت سلطة الزوج في نمو نلقى للمرأة حق طلاق نفسها منه واحتفاظها بعصمتها، ولها في عنفوان قوتها أن تختار من يحلو لها من الأزواج كما فعلت خديجة نفسها مع سيد المرسلين
صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن حجاب المرأة عاما «ولا إلزاما»، وإنما كان للشريفة والجميلة، أما الدميمة والوضيعة فمبذولة، وقد تضرب المرأة خمارها إذا كان زوجها غيورا وتتخذه المرأة تحريضا للرجل وإغراقا في اجتذابه عن طريق الغموض الذي يستهويه، كما فعلت المرأة أسيازيا في أثينا وبعض نساء اليهود كيهوديت عندما عزمت على قتل هلفرن؛ فالمرأة العربية في الجاهلية والإسلام هي المرأة في كل جنس وزمن ووطن، والحب هو الحب، والكيد هو الكيد. وإن كان القرآن الكريم قد ذم التبرج الجاهلي وحتم الحجاب على زوجات النبي لأنهن لسن كغيرهن من النساء، ولكنه لم يسايرهن في اتخاذ الحلي والحلل؛ حدا من طغيان المرأة ومبالغتها في اتخاذ الزينة، وفي عرفي أن كل تشريع وكل إصلاح خاص بالمرأة لا ينال منها إلا بقدر ما تريد أن ينالها، ولا حكم لأحد عليها إلا بحكم قلبها وحاجتها الاقتصادية. وكانت المرأة في الأجيال الأولى عرضة للسبي؛ فجهد الرجل نفسه في حمايتها والذود عنها، ولعل الحجاب كان من بعض وسائل التغمية ليخفيها عن خاطفيها أو ليصرف أنظارهم عنها إن كانت ذات جمال وشباب وحسب. وكان في السبي إذلال للمرأة ما لم تكن ذات جمال وشباب وحسب؛ فكن عندهم في جملة المتاع، ولا يقول فارس ظفر بسبية إنها خير من زوجه الحليلة. ولم يرفع قدر السبيات عند العرب إلا في صدر الإسلام بعد أن كثر السبي من الروم والفرس وكان منهن نساء محمودات ولدن أولادا نبغوا في الإسلام كالفارسيتين اللتين ولدتا لولدي أبي بكر وعمر، وكالتي ولدت للمهدي ولده إبراهيم، وللرشيد ولده المأمون، وقبلهما تزوج الحسين إحدى بنات كسرى أخذت سبية.
وإذن لم تكن غيرة الذكر على الأنثى سبب الحجاب، ولكن خوف الرجل على المرأة وشهامته ومروءته أدت إلى ابتكاره، ولا سيما لمن صحبن الرجال في الحروب، ولا نظن امرأة كهند زوجة أبي سفيان رضيت بالحجاب ولو كان فيه نجاتها من السبي، وكانت المرأة اليهودية متحجبة في أول أمرها تقليدا للعربية (المشناة 24 حرف ا-1-24). ولم يقل النصارى عن العرب في اتخاذ الحجاب غير أنهن اتخذنه لأن رجالهم كرهوا أن يروهن سافرات لسببين دينيين؛ الأول: أن حواء كانت أصل البلاء والمحنة لآدم وذريته. والثاني: اتقاء الاستهواء الذي جعلته الطبيعة قرين المرأة؛ فكلما أبدت محاسنها اهتاجت شهوة الرجل فانتشرت فرق الرهبان وبالغ أهل الأديرة في الابتعاد عن الإناث. •••
إن سرد أسماء الأزواج وتواريخ عقد النبي عليهن وتراجم أمهات المؤمنين وأنسابهن والإلمام ببعض واقعات الحياة التي مررن بها؛ لا يدل على شيء سوى تسجيل أمور مادية تسجيلا سبقنا إليه مئات المؤرخين من العرب والإفرنج، ولكن غايتنا الأصيلة أن نحاول جهد طاقتنا إبراز صورة يترقرق فيها ماء الحياة لهذا الرسول العظيم وبيئته. وإن الشئون الأخرى إن حف بها الجفاف عند من قرأنا كتبهم، فلا يجوز أن تكون حياة البيت جافة أو خشنة، خصوصا إذا انتقل القارئ بذهنه إلى البيئة العربية قبل الإسلام وبعده؛ فأول ما يبدو لنا أن زوجات النبي اللاتي يلقي عليهن القرآن أشعة مضيئة في كثير من آياته كانت أولاهن خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وقد أوفيناها بعض حقها، وأقر العالم بفضلها على البعثة، وقد قضى الرسول في عشرتها خمسا وعشرين سنة كاملة، منها ثلاث سنين في شعاب أبي طالب ذاقت فيها هذه المحسنة الجليلة أم المؤمنين بحق مرارة العيش حتى تأثرت صحتها كما تأثرت صحة أبي طالب؛ فقضيا نحبهما في عام واحد هو العاشر من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين.
وكان للنبي من حق بدنه ودينه وكرامته أن يتزوج؛ فبدأت سلسلة التعدد بعد مضي عشر سنوات في الحياة العامة وبعد وفاة اثنين من أهم شخصيات الإسلام هما خديجة وأبو طالب، وقد أقبلت أعوام أشد مما مضى؛ لأن قريشا كلما علا شأن الرسول واتسع نطاق دعوته ضاعفت أذاها؛ فكان لا بد لهذا الرجل من حياة خاصة يطمئن إليها، خصوصا وقد تزوج كل بناته ومات له ولدان وأصبح بيته خاليا إلا من الخدم؛ فكان عليه أن يتزوج ليخدم في بيته الخدمة التي تطلع عليها الحليلة لا الخادم والجارية، وكان شديد العناية بشخصه، وهذه العناية بالثياب والطعام والشراب واليقظة والنوم لا تعرفها إلا امرأة سبق لها خدمة الرجال في الزواج، وكان عليه أن يتخذ أصهاره الجدد - إن وجدوا - أعوانا يقللون بعزوتهم أو شأنهم من غلظ الاضطهاد، خصوصا وأن المكيين المشركين لا يتعففون أن يكمنوا له في داره أو يلقوا عليه الأذى، وكانوا يضعون روث البهائم على عتبته، فما يقول إلا ما هذا الجوار يا بني عبد مناف؟! لأن بلاءه كان في جيرانه وأقاربه وفي طغاة مكة وأقويائها، وهؤلاء قوم وإن امتنعوا عن القتل فخوفا من إهراق الدماء ولكنهم تجرءوا في النهاية عليه في المسجد وتآمروا على قتله في فراشه. والزوجة بحبها واحترامها تكون أشد يقظة من الخادم والجارية؛ فهي ترعى وتحرس وتتسمع وتصل إليها ثرثرة الرجال والنساء، وإذن كان واجبا على الرسول أن يبني بامرأة تقوم بهذه الواجبات، وقد أثبتت تجارب الرجال أن من كان ذا بيت وماتت زوجه أو طلقها، لا يستطيع أن يعيش بدون امرأة مهما كانت محبته للسابقة قوية؛ فإن حكم العادة أقوى من الغريزة، ومهما تكن محبة محمد
صلى الله عليه وسلم
لخديجة، فقد توفيت والذكرى في القلب لا في الأعمال، وقد وصل إلى الخمسين وليست قوته واحتماله قوة العشرين والثلاثين، وقد فعل به الغم والكدر والنضال فعلها، ولولا نبوته وقدرة الله والغاية التي يعمل لها لظهر ضعفه.
فماذا يصنع الرسول؟ لم يتقدم إليه في خطبته زوجة سوى اثنتين ثيب وبكر، أما الثيب فهي سودة بنت زمعة. وقد بادر بعض المستشرقين إلى لومه على أنه تزوج ولما يمض على خديجة عام! ولكن هؤلاء لا نلتفت إليهم ونعلم سبب أحقادهم، وقد خطفوا واختلقوا المعاذير عليه لا له من هبوب الرياح ومن فروض الخيال وتحدثوا إلى قرائهم عن محمد كما يتحدثون عن شارلمان أو بونابرت أو يوليوس قيصر! وإن كان أعظم منهم، إلا أنه لم يكن له بلاط ولا حاشية ولا قصر، وتكلموا عنه كما لو عاش في لندن وباريس في القرن التاسع عشر، فدلوا بذلك على ضيق أعطانهم وحماقتهم؛ فقد ضللوا القارئ وخدعوه في الزمان والمكان والشخصية، وتعمدوا إغفال الفوارق بل أعدموها إعداما.
تزوج بعد شهر يا لعدم الوفاء! يا لحزن خديجة في قبرها ! زه زه، نحن لا نعرض لحياة سادتكم تنزيها لمحمد
صلى الله عليه وسلم
عن المقارنة.
وممن تزوج؟ من سودة التي صبر على عشرتها ثلاث سنين لأنه لم يدخل بعائشة إلا في المدينة، وإذن كانت له زوجة واحدة من سنة 10 إلى سنة 13 من البعثة.
وحلت سودة بنت زمعة محل خديجة في الدار لا في القلب، وتمتعت بقرب الرسول وخدمته. فقال مستشرق إنها أرملة حسناء بادنة مكتنزة لحما وشحما، خبيرة بإدخال السرور على قلوب الرجال! قالها ولم يخجل! وقال آخر حثا أخوها التراب على رأسه عندما سمع الخبر؛ لأن سادتنا العرب كابن الأثير أثبتوها في كتبهم، فليس شيء أسهل من أن يحثو الرجال ترابا على رءوسهم، حتى إن ابن الأثير نفسه في أسد الغابة نسب هذا الفعل النسوي إلى عمر بن الخطاب عندما طلق ابنته حفصة طلقة واحدة مرتجعة! ولكن المؤرخ العربي ذكرها؛ ليبالغ في وصف كفر شقيق سودة وجحود قلبه وخوفه من سادة قريش، وإلا فما هو هذا الأحمق المكي الذي لا يفرح بمصاهرة الرسول حتى ولو كان مشركا؟! وهذا المؤلف نفسه (ابن الأثير) يذكر أن أبا سفيان لما علم بزواج النبي من ابنته رملة أم حبيبة قال إن محمدا لفحل لا يقدع أنفه! وهو زعيم الأعداء في الحرب والسلم، فكيف لا يقبل أخو سودة واسمه عبد بن زمعة بن قيس بن عبد شمس مصاهرة الرسول؟! وقد ندم بعد أن أسلم وقال: «إني لسفيه يوم أحثو التراب على رأسي أن تزوج رسول الله سودة.» هذا الندم والاستدراك والتوبة لا يذكرها المستشرق «الصادق المخلص الأمين»، ولكن ينقل نصف الخبر عن المسند ويترك النصف الآخر، ولكن ما يضرنا لو حثا ألف عبد بن زمعة بن عبد شمس تراب أرض مكة على رأسه؟! إنما ننظر إلى صبر الرسول على سودة وهي الثيب المسنة التي طاقها ولم تكن على شيء مما كانت عليه خديجة.
زعموا أن الرسول تزوج من نساء عدة لأنه كان يحب النساء، ولو أنهم صدقوا وزادت حقيقة حاله عما صدقوا فيه مائة ضعف فلا يقام لكلامهم وزن؛ فهذه حياته الخاصة وهؤلاء زوجاته بالشرع لم يسط على امرأة رجل ولم يرغم ولم يطمع في مال ثالثة ولم يفتن بجمالها. وقد رأينا الرسول يرق لرجاء سودة أن لا يطلقها فأبقى عليها، ورأيناه يبشرها بأن تحسب من آل البيت بقوله «إن شاء الله» جبرا لخاطرها (وقد عمرت بعده ثلاثين أو أربعين سنة)، مع أنه أراد أن يعين أهل بيته بالحصر؛ أي الذين من دمه ولحمه لا اللواتي دخلن عصمته، وإلا لكانت عائشة وأم حبيبة وأم سلمة أحق بهذا الحسبان، دع عنك خديجة - رضي الله عنها.
ولكن هكذا كان دأب محمد
صلى الله عليه وسلم ، وإن ظن أحدنا أن الرسول لم يجد أنسا ولا سلوى في عشرة هذه الأرملة الناضجة التي وصفها أحد كتاب الإنجليز وصفا ينطبق على «كارمن» أو «كلوبطرا» من نساء التمثيل ليزيد من أضغان القارئ، ويبالغ في شهوة الرسول للنساء؛ فقد قامت بحق بواجبها نحو زوجها العظيم خير قيام، فحرست حياته وبيته وكانت يقظة، وسارت في خطوات سالفتها العظمى خديجة وقضت السنين الثلاث الأخيرة من حياتها في مكة كما تقضيها عاقلة أريبة حسنة التفكير عارفة قدر رجلها ورجل الإنسانية، وكافأها الله ببقائها في خدرها ورفع درجتها، واستمرت طوال خلافة أبي بكر وعمر تقبض اثني عشر ألف درهم؛ وهي التي جعلها أمير المؤمنين لكل من زوجات النبي، فوصل إلى يدها خمسة عشر ألف درهم؛ أي ستة آلاف جنيه بتقدير هذا العصر وهي تعدل أضعافها، وإن قتر الخلفاء الراشدون على أنفسهم فقد أغدقوا على أمهات المؤمنين ليشعروهن بالمعزة بعد الرسول، خصوصا وأنه لم تكن له تركة تورث، ولأن القرآن منعهن من الزواج بعده، ونحن لا نعتقد أنها تمسكت برابطة الزواج طمعا في المال الذي تقبضه، فإنها لم تكن تعلم أن النبوة ستورث خدامها هذه المقادير من المال، غير أنها تمسكت بنعمة الصلة وشرف الرابطة فكافأها الله.
أما بقية نساء النبي فإما بنت ملك أو زعيم كبير كجويرية وصفية، وإما بنت صحابي جليل كعائشة وحفصة، وإما أرملة مكرمة أسلمت قديما وهاجرت الهجرتين واستشهد زوجها في الجهاد كأم سلمة وأم حبيبة، وقد اتخذهن الرسول ليقيهن شر العوز ونفقة الصبية من فراش سابق، ولله على كل منهن فضل، وللرسول على كل منهن يد. وقد كن جملة وفرادى ذوات فضيلة ووفاء وعفة وإخلاص وشرف، وقد امتاز بعضهن بكثرة الخير والصدقة وصلة الأرحام كزينب بنت جحش، وحتى الحسناء اليهودية - بحسب ما كانت - أسلمت وحسن إسلامها وكانت مثال الرفعة والشرف.
وفي العهد الأخير اعتدل ميزان التقدير في أذهان بعض المستشرقين بعد أن مال عن جانب الحق قرونا طويلة؛ فقال مرغليوث وهو من ألد الخصام: «نسب كثير من كتاب أوروبا تعدد زوجات محمد بعد وفاة خديجة إلى ضخامة شهوته للنساء! ولكن ظهر أن التعدد كان لأسباب بعيدة عن هذه الغاية؛ فإن كثيرا من مصاهراته كان سياسيا لأنه أراد أن يرتبط بأتباعه ارتباطا قويا؛ فكان هذا بلا أقل شك الدافع له على زواج عائشة بنت أبي بكر، كما أنه ارتبط لأسباب سياسية من نوع آخر ببنات أعدائه «أم حبيبة بنت أبي سفيان» وجويرية بنت بني المصطلق وصفية بنت حيي اليهودي؛ فمن ناحية يتم له النصر على عدوه المنهزم، ومن ناحية أخرى يضمن عدم قيامه، وقد يكون عقد على واحدة أو اثنتين ليولد له منها ولد ذكر؛ فقد كانت ذرية الذكور من أهم النعم التي يسعى إليها العربي ذو المكانة» (ص177، حياة الرسول باللغة الإنجليزية). وهذه الكلمة التي جرى بها قلم مرغليوث رغم أنفه لكثرة ما حمل على النبي بغير حق؛ تغنينا عن صفحات، لا لأننا نكتب لندافع عنه حيال مثله، ولكن لنظهر الحق المطلق.
إذن كانت حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم
في مكة في السنوات الثلاث الأخيرة لا تطاق، وقد وصفناها بالتفصيل، فوجب أن تكون سودة بطلة في الصبر وفي المواساة حتى أخرج الله رسوله من تلك البلدة الجاهلية الفاسقة الجاحدة قديما التي لم يشرفها الله إلا بالبيت الحرام ومولد الرسول وزوجاته وأولاده وأحفاده.
ومن عجب أنك تجد لدى الفحص لكل زوجة نبوية رسالة أدتها لتدعم بها رسالته؛ فخديجة وعائشة وأم سلمة وسودة وبنت جحش أمرهن معلوم، أما ميمونة فلم تلبث أن دخل بها حتى توفيت في قبة كانت لها بسرف، وهي زوجة العمرة والطواف اللذين سمح بهما المكيون، ولعل وظيفتها لم تتم لأن الرسول كان ينوي أن يطيل الإقامة في مكة ويولم طعاما يدعو إليه كبارها بعد صلح الحديبية بعام، ولعله فكر في تأليف قلوبهم وسل أحقادهم من قلوبهم فيدخلها بفتح هذه القلوب لا بفتح الحروب، ولعله أراد أن يمكن للمسلمين من لقاء المشركين فينالوا منهم بالدعاية والتخذيل فيكفي الله المؤمنين القتال؛ ولذا غير اسم عروسه وسماها ميمونة تفاؤلا، وقد كان في السنة 7 بعد الهجرة، ولم يبق على الفتح الأكبر إلا عام واحد، وكان دخول النبي لهذه العمرة المنصوص على السماح بها في عهد الحديبية دخول الفاتحين، وقد اتفق الطرفان على إخلاء مكة ثلاثة أيام لمحمد يحظى هو ومن معه خلالها بالكعبة بغير عاذلين، ولعل طرفي المعاهدة لم يكن أحدهما آمنا جانب الآخر، وها نحن في هذا العصر نكاد نرى أن دافعا سياسيا قد يغري المسلمين باحتلال مكة بعد الوصول إليها، وكان يحف بالرسول مئتا فارس احتياطا للطوارئ، ويتقدمهم الهدي ولم يقل عن ستين بعيرا، وكانت هذه العمرة مظهرا للمال والقوة وشدة البأس وشباب الرسول الذي لم يمنعه اعتذار المكيين عن حضور الوليمة متمسكين بنص المعاهدة في عدد الأيام التي يقيمها؛ فاضطر للدخول على ميمونة بسرف، وهو مكان يبعد عن مكة بخمسة أميال.
وكانت ميمونة آخر زوجاته، وهي خالة خالد بن الوليد فارس العرب وقائدهم الأمهر في الجاهلية والإسلام.
وقال اثنان من الصحابة إنها هي التي وهبت نفسها للنبي فأنزل الله - تعالى:
وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي .
وبعد وفاة الرسول عادت إلى مكة وعاشت بسرف؛ حيث دخل بها الرسول في الثلث الأخير من القرن الأول الهجري.
وكان زفاف عائشة مقترنا بموقعة بدر التي انتصر فيها الإسلام وكانت حاسمة في تاريخ الإنسانية.
جعل الرسول لكل زوجة بيتا على حدة يفتح على المسجد، وما تزال أبواب هذه البيوت ماثلة في الحرم المدني يمثل كل باب منها لوح من المرمر. أما عائشة فكانت في البناء الذي يضم آل البيت عليا وفاطمة وأولادهما.
وكانت عائشة تتيه وتفخر بعناية الرسول بها وتزهو بزوجها ووالدها وتعجب بمكانتهما، وهي إن أمنت غيرة الضرائر - لأنهن بشر لا ملائكة - فلا تأمن غيظ الأغيار، وقد وقعت الواقعة التي وصفت بحديث الإفك بعيد غزوة بني المصطلق وزفاف جويرية إلى الرسول، ولم تكن المدينة تخلو من المنافقين والخصوم من المشركين واليهود والدخلاء والحاسدين والأصدقاء في ثياب الأعداء وشياطين الإنس، وما أكثر هؤلاء!
فقد اصطحب الرسول عائشة في إحدى غزواته بدورها الذي حكم به الاقتراع، ولدى العودة إلى المدينة تخلفت عائشة لتلتقط حبات عقد كان في عنقها وانفرط على غرة في الظلام، وكل سيدة شديدة التعلق بزينتها وإن هانت! فقام الركب وهي ساهية لاهية تبحث في الرمال، وهيهات أن ترد الرمال ما دفنت، فعثر عليها صفوان بن المعطل فاصطحبها إلى المعسكر يقود جملها من خطامه، كما فعل طلحة بن عثمان مع أم سلمة عند هجرتها إلى المدينة، وكما يفعل كل مسلم في عروقه دماء عربية وفي قلبه نخوة إسلامية مع أية سيدة، دع عنك أم المؤمنين وبنت الصديق.
وكل المستشرقين (وهذا موقف يحمدون عليه) بالإجماع يحسنون الظن ويقيمون الأدلة على براءة عائشة وشرفها، وفي مقدمتها موير ومرغليوث، وكانوا أعقل وآدب وأعف من بعض المعاصرين والمعاصرات من أهل النميمة والفتنة ونهش الأعراض والمنافقين، وفي مقدمتهم حسان بن ثابت الشاعر الجبان الذي لم يخل من عداوة عائشة وتعييره بأنوثته في حرب اليهود، ولعل بعضهم حاول شفاء غلة ضرة ظنها تشمت بعائشة ، والبعض أراد أن يخلق أزمة سياسية تشفيا في الرسول، وأولهم رأس النفاق عبد الله بن أبي.
وقد أتقنوا حساب العواقب فافترضوا أن النبي يقسو على عائشة فيغضب والدها أكبر سند له وأخلص أصحابه وأوفى أصدقائه من الساعة الأولى؛ فتحدث ثغرة في جبهة الإسلام، فإذا صمت الرسول عرض نفسه للعيب في حقه وأطلق ألسنة السوء لشاعر بذيء أو مأجور، وكانوا في حسابهم موفقين مثل أهل الشر في كل زمان ومكان، وأخذ الشيطان بيدهم فترة قصيرة انطلقت فيها نيران الفتنة والوقيعة، وأطلت النميمة والغيبة والإفك بقرونها، وخيم الغسق على المدينة قبل أن تندلع نار حرب أهلية، فلم يكن في العرب أشرف من العرض، فما بالك بعرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ووزيره وصديقه أبي بكر؟! وكان البادئ بالهمس الجارح حمنة أخت زينب بنت جحش؛ وهذه السيدة زوج مصعب بن عمير من خيار المسلمين، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة الرسول، وقيل إنها تكلمت؛ حمية لأختها زينب، إلا أن زينب لم تقل في عائشة شيئا، وقد أثنت عائشة على زينب ثناء مستطابا؛ فكانت حمنة متجنية بغير علم وهي لم تر شيئا ولا تصح شهادتها، ولكن سوء طالعها زج بها في هذه الفتنة وهي بنت عمة الرسول وأخت زوجته وسيرتها من قبل حسنة؛ فقد كانت في أحد تسقي العطشى وتحمل الجرحى وتداويهم، وللنبي عليها يد يوم شفاها الله بنصيحته من نزيف كانت تثج فيه ثجا، فلم تحمد له قرابته ومصاهرته وعلاجه إياها. ولعل اقتحامها هذا البلاء كان لعيب خفي في خلقها، أو نتيجة استحاضتها الشديدة فجف دمها وضعف عقلها. وقد شد أزرها حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي. ومن سوء الطالع أبدى علي بن أبي طالب رأيا بالطلاق لما رآه من حزن النبي مع انشغاله بعائشة وهي في دار أبيها نحوا من ثلاثة أشهر.
ولكن أشراف المهاجرين والأنصار - وخاصة الأوس - دافعوا عن عائشة دفاع الأحرار الأطهار، وقد شهدوا في صفوان بن المعطل خيرا وما علموا عليه من سوء؛ فاضطر الرسول قبل نزول الوحي أن يتخذ لنفسه موقفا؛ فخطب في المسجد وقال: أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت عنه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا معي.
وهذه الكلمة على قلتها كبيرة الدلالة؛ ففيها شهد الرسول مقسما بالله مرتين - وهو الصادق الأمين - بطهارة عائشة ونقاوة صفوان.
فنهض أسيد بن حضير من سادة الأوس وقال: «يا رسول الله، إن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم.» (يقصد أصحاب الإفك)، ورسول الله أبعد الناس عن الأمر بالقتل.
أما عائشة فكانت في بيت أبيها مريضة وهي بريئة متهمة حزينة لحزن بعلها وأبيها، ولا تملك من الأمر شيئا؛ فكانت أمها تراها باكية فتنصحها بالتخفيف: «لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.» وهي نصيحة أم خبيرة بالحياة، واستشار النبي عليا وأسامة بن زيد في دار أبي بكر فنفى أسامة السوء عن عائشة وقال: إنه الكذب والباطل. وقال علي: يا رسول الله، إن النساء كثير.
وسئلت جاريتها. وسئلت عائشة نفسها فقالت: «صبر جميل والله المستعان على ما تصنعون.»
فكانت حيرة ومحنة ودرسا لعائشة لعلها تكف عن التنافر والمباهاة، فجاءت آية البراءة من حديث الإفك، وجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش كل ثمانين جلدة.
قال سير جون موير الإنجليزي في ترجمة محمد: «إن حياة عائشة قبل الفتنة وبعدها تدعونا إلى القطع ببراءتها وعدم التردد في دحض أية شبهة أثيرت حولها.»
ومن أجمل ما كتبه الكاتبون السيد عبد القادر الجيلاني قال: «حركت الإرادة الأزلية، العذبة المحمدية، للخروج في بعض أسفارها؛ فأصبحت الدرة اليتيمة معه في قرارها. ووكل بخدمتها ورفع قبتها حين أمسى وأصبح عبده مسطح. فنزل القوم منزلا لإصلاح عيشهم، وسكن النوم حركات بطشهم، واستولت على العبد في السرى، سنة الكرى؛ فأثارت المشيئة الأحدية، حركات عائشة الصفية، للخروج من حصارها، إلى بعض أوطارها، ونزلت من قبتها ، لقضاء حاجتها؛ فحلت يد القدر عقدها، وانتثرت قلادتها من جيدها؛ فاشتغلت بنظم نثرها، إلى صدرها. فنادى القدر يا جبريل إنها فقدت من قلادتها جزعا، فاجعل مكانه جزعا. فانتبه مسطح وساق جمله، ولا علم له بمن حمله. فلما وصل المدينة ولم يرها عاد يطلب أثرها، والقدر يثير دفين الأسرار، ويقدح شرار إفك الأشرار. فلما بلغ ذلك رضيع ثدي الوحي، وحامل سر الأزل، وحافظ ودائع الغيب، ورافع لواء الحمد، فطن لرموز عيون إفكهم، وتراءت له إشارات شركهم؛ فألم قلبه، وجرح نصل الكآبة لبه، وانصدعت زجاجة سره، وانقسمت مجتمعات أمره. فقال لها بلطف شفقته قولا معنويا، ولوح لها برمز محبته تلميحا خفيا: انصرفي إلى بيت أبيك، فسيأتي الخبر فيك. فأظلم نهار فرحها، واسود ليل ترحها، وانحبست عبراتها، واستولت عليها زفراتها، وتصاعدت أنفاس وجدها، وعدم الصبر من عندها. فقالت: علام أهجر وما تعديت، وأبعد وما جنيت؟ أمن جهة شكوى الضرائر، أم من دلائل الحبيب الهاجر؟ قيل لها أيتها الصديقة، والسيدة على الحقيقة، البلاء بقدر الولاء، والنصر في ضمن الصبر. فلما علمت القصة، وتبينت الغصة، محق بدر صبرها، لشياع أمرها، وهوت أنجم حواسها، بتصاعد أنفاسها، وانحنى ألف قامتها، على لوح انكسارها، وطالت عليها مدة هجر محبوبها، وعدم رضاع ثدي مطلوبها، وانتثرت عبرات عيونها، وانتظمت حرقة شجونها، فقالت: إلهي، بك يستنصر الذليل، وإلى جناب عزك يلجأ المظلوم، ومن سواك يجيب دعاء المضطر المكئوب، ومن غيرك ينفس خناق كرب المكروب؟ أنت أخبر بطهارة عصمتي، وأعلم مني بمسألتي. فاتخذت قبة يعقوبية، وجعلت الفرقة لها حالة يوسفية، فصارت ظلمة قبتها، سجن يوسف حزنها، مر بها من جانب الحبيب هبوب نسم، كيف تيكم؟ فقالت أنا ربيبة خدر الفصاحة، وقرينة أفصح من نطق بالضاد؛ التاء مخاطب القريب، والكاف للغائب البعيد، أين تاء أنت من كاف ذاك؟ وأين هاء هذا من تاء تيكم؟ ميم الجمع لا توجب اختصاص أحد من المذكورين، لما كنت سواد عين الهاجر وسويداء قلب الغائب، وريحانة أنسي المعرض، ولكن للزمان أحوال تحول، وفصول تصول، يا ربي، يم همي أغرقني، وحر حزني أحرقني، وتحول حالي أنحلني، وتبلبل بالي بلبلني، فضجت الملائكة في الصفيح الأعلى، واختلفت تسابيح سكان حضائر القدس، وانزعجت صوامع رهبان النور، فقالت الأشباح النورانية، والأرواح الروحانية: إلهنا، طاهرة فراش النبوة قد تكدر صفاء قلبها، درة بحر الشرف قد تشظى جوهر لبها، ريحانة مشم الرسالة، قد ذبلت بإفك الفاسقين، رضيعة ثدي الوحي قد فطمت بكذب المنافقين.
قيل لبريد المملكة، ومقدم عساكر الملائكة: يا جبريل، خذ من لوح غيب الأزل سبع عشرة آية براءة من العيب، بألسنة الغيب، فإني تكلمت بها في الأزل، وقديم القدم، وجعلتها طرازا لكم ثوب عائشة إلى يوم القيامة، فهبط بريد الأزل على السيد المفضل، بآيات السرور، في سورة «النور»، فلما سمعت الصديقة منها الآيات، ولاح حولها إشارات البشارات، قالت سبحان من يجبر الكسير، وينصف المظلوم، ويصرف الغموم، والله ما كنت أظن أن ربي - عز وجل - ينزل في قرآنا ولا يذكرني لنبيه فيما يوحى إليه، وإني رجوت أن يرى المصطفى
صلى الله عليه وسلم
في منامه ما يقضي ببراءة ذمتي، وطهارة عصمتي، فلا ييأس المظلوم من الانتصار، ولا يعول المقهور إلا على الاصطبار، فإن في مطاوي الأقدار، تقليب ما في الليل والنهار.»
ولكن أجل من هذا وأكمل وأغلى وأعلى وأفضل وأخلد على الدهر وأبقى وأجلى من بلاغة الإنسان وأنقى بما لا يقاس وتنقطع دونه الألسن وتذهب الأنفاس؛ آيات سورة «النور»، سبحان موحيها وتعالى شأنه وجل جلاله! وهي من بركات عائشة فليتلها من يشاء؛ وقد جاءت فيها آية من أمهات القرآن وهي آية:
الله نور السماوات والأرض ، وتخللتها أحكام ربانية سداها العدل ولحمتها الرحمة؛ فسبحان الخلاق العظيم والغفور الرحيم جل شأنه وتعالت كلماته وفوق كل ذي علم عليم.
ومن أهم الأمور عند كاتب هذه الأسطر أنه وفق إلى كتابة هذا الكلام العاجز الضئيل حيال ما كتبه الأجلاء المتقدمون وهو على يقين وبصيرة بما يكتب، وثقة تامة واقتناع عقلي؛ فالضمير والوجدان والمنطق ودليل التاريخ كلها ماثلة أمامي، وقد حماني الله أن أخط حرفا في فترة جهالة أو ريب أو حماقة طائشة قد أكون تلوثت بها من قراءة كاتب مأفون أو سمعتها من ملحد ملعون؛ فالحمد لله الذي هدانا إلى هذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فما أجمل انطباق ما يخطه اليراع على ما يردده القلب والعقل! وما أصدق ما ينطق به اللسان موافقا لما يجول في الفؤاد والوجدان.
ولو نظرنا إلى الحادث نظر رجال القانون إلى المتهمين في هذا العصر، وهو عصر الحضارة، لرأينا التهمة باطلة لا مشكوكا فيها وحسب؛ لأنه لم يبرز أحد من الأفاكين بدليل أو قرينة واكتفوا بالهمس، وكما تكون خطورة التهمة كذلك تكون قوة الدليل على ثبوتها؛ فلو أن قضية كهذه قدمت لمحكمة لما وسع قضاتها إلا الحكم فيها بتهمة البلاغ الكاذب على الأفاكين، وكيف تقدم وليس فيها دليل؟
وقد زعم بعض المستشرقين أن آيات الإفك (من 10-27 سورة النور) جاءت لتسدل ستارا على عائشة، وهذا باطل لأن في إحداها ضرورة سماع أربعة شهود إثبات، وهذه القضية ليس فيها شاهد واحد؛ فلو كان فيها شاهد واحد وحتم القرآن أربعة لفهمنا أساس فكرة المنكر، وكل الذين همسوا مجرحون لضغائن ثابتة كحمنة بنت جحش وعبد الله بن أبي ابن سلول، أما مسطح خادم عائشة فلا يخلو من حقد؛ لأنه من أقارب أبي بكر الأبعدين، وفي إحدى الآيات وصف لأبي بكر بالفضل ونهي له عن الانتقام من أي مجرم نفذت فيه العقوبة، وقد أنعم الرسول على حسان في آخر حياته بقصر منيف ولم يجعل لماضيه حسابا.
لا يسعني قبل أن أختم الحديث عن السيدة عائشة أن أغفل بيان أمر ذي شأن أوجز فيه، دون إخلال بحق التاريخ وحق هذه السيدة العظمى.
معلوم أن الرسول خطبها بمكة في السنة العاشرة للبعثة وهي بنت ست سنين، وزفت إليه بالمدينة بعد الخطبة بثلاث سنين وعمرها تسع سنين، وقيل في تفسير ذلك إنها كانت فارعة نامية تبدو أكبر من سنها، وتوفي النبي بعد ذلك بعشر سنين، فتأيمت أم المؤمنين (وإن لم تلد ولدا) في التاسعة عشرة من عمرها ومدة عشرتها الرسول ومصاحبتها إياه لم تتجاوز عقدا من السنين، ولكن الذي جاءت به من الحديث والسنة والتاريخ الخاص والعام وروته من القرآن والحديث والنثر والشعر والأخبار لا يعدلها فيه عشرات الرجال من الصحابة ومئات من التابعين، ولم تكن تروي أو تتحدث رواية المشاهد البسيط التفكير أو ناقل القول على عواهنه، كما يظن في بنت التسع عشرة سنة، ولكن رواية الحصيف اللبق العاقل المدرك الحازم الصادق من الرجال، ولها في ذلك حوادث وواقعات مع الصحابة والرواة في إكمال حديث أو وصف سنة أو تصحيح خبر خرجت منها عائشة دائما فائزة، فكيف تهيأ لهذه الفتاة في هذه السن المبكرة أن تلم هذا الإلمام كله في بحر عشر سنين، وأن تكون بجوار الرسول في أهم فترة في حياته وهي فترة المدينة التي انطوت على أعظم أحداث الإسلام، ولم تقصر ولم تهن ولم تهف ولم تخطئ؛ فكانت وعاء علم وأخلاق وإيمان وهداية وصبر على مكاره كثيرة ينوء بحملها الرجال الأشداء الخلق، الأقوياء التكوين؟
إن هذا الأمر يلفت نظر المؤرخ حقا، ولكن قليلا ما يفيض فيه أحد خشية الوقوع في هفوة تمس العقيدة أو تخرج على العرف، وفي نظرنا أن هذا التحقيق والفحص لب التاريخ وفلسفته.
لقد فجئت بالخطبة في السادسة وبالزفاف في التاسعة، وبوقعة أحد في الحادية عشرة وبحديث الإفك في الخامسة عشرة، وبغيرة النساء من تكرار زواج الرسول في كل مرة عقد فيها على امرأة، ولا سيما الجميلات منهن مثل صفية وجويرية وزينب بنت جحش، وعند مولد إبراهيم بن محمد بن عبد الله من مارية القبطية، وفجئت بمرض الرسول ووفاته في حجرها، وبما حدث من الجدال والنقاش العنيف وجثمانه الطاهر ما يزال بحجرتها، وبوفاة والدها بعد ذلك بسنتين، مع هذه الأحداث كلها لم تهن ولم تضعف ولم تغب بديهتها ولم يختلط عليها أمر بأمر ولم يعترها اضطراب وارتباك يحجب صدق نظرها في الحوادث، بل كانت أبدا يقظة متحفزة مستعدة شاعرة بمقامها ومكانتها من العشيرة والأمة، مساوية بخلقها وحسن تصرفها شرفة الرفعة التي اختارها القدر لها بأن تكون زوج النبي وأم المؤمنين، وهي في أثناء هذه الأحوال تحتفظ بأمرين في أعلى درجة من الأهمية؛ الأول: عبادتها حتى كانت لها أسطوانة (عمود) تجلس بجوارها في المسجد - ما تزال حتى اليوم تحمل اسمها - لتخلو وتعبد. والأمر الثاني: حفظ كل ما سمعته وشهدته من أقوال الرسول وأفعاله، وسواء أكان حديث: «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» صحيحا أو ركيكا، فإنه يدل على الحقيقة، ولعل عائشة وعت أكثر من النصف، وإنما المقصود المحفوظ بنصه كما قيل، والموصوف بعضه كما تم. وقد عاشت بعد زوجها العظيم سبعا وأربعين سنة هجرية؛ لأنها توفيت في السادسة والستين وما عرف عنها أنها حادت قيد أنملة عن تلك الصفات وما انحرفت قيد شعرة عن المثل الأعلى.
وقد جرت عادة المؤرخين أن يعتمدوا على الدليل التاريخي في تفسير الحوادث، فإن أبهم عليهم لجئوا إلى التعليل العقلي والنفساني، وفي حالة عائشة لدينا المصدران: أدلة التاريخ، والتعليل العقلي. والحقيقة المطروحة أمامنا هي أن عائشة احتلت أكبر مكان في تاريخ الإسلام من الناحيتين الدينية والسياسية. ولا ننسى مطلقا مكانة خديجة التي ما نزال نعتبرها صاحبة الفضل الأول والدرجة الرفيعة، حتى إن مشيئة الله بظهور هذا الدين اقترنت بأمرين؛ الأول: استعداد النبي، بل إعداده. والثاني: زواجه من خديجة. فقد كانت خديجة أمينة الله عليه من الزواج إلى البعثة وبعدها بعشر سنين وخلفتها عائشة في عشر سنين أخرى هي أهم أعوام هذا الدين.
جوابنا على السؤال الخاص بنجاح عائشة وتوفيقها ينصب أولا على وراثتها؛ فأبوها أبو بكر كان أول مصدق بالرسول بعد خديجة وعلي وزيد بن ثابت، وكان ثقته بالرسول لا تحد، وقد تجاوز المعقول أحيانا، وكان على هذا الخلق الذي يحسبه الغافلون بساطة أو سلامة نية داهية في التفكير والتدبير وبعد النظر وقوة الإرادة وحضور البديهة والفطنة وقوة الذاكرة؛ فورث ابنته هذه الصفات، وها هي الذخيرة الأولى، والذخيرة الثانية عشرتها الرسول نفسه؛ فإننا نضرب صفحا عن الخير والبركة التي تصيب معاشر النبي ونعتبر محمدا بشرا، فلا شك عند ألد أعدائه في عظمته الضخمة، وكان هذا العظيم الضخم شديد الحب لعائشة؛ فهذا الاتصال وهذا الحب الفياض إذا انتفع به فدم أو جاهل، فلا بد أن يترك فيه أثرا كبيرا، فما بالنا بفتاة ذات ذكاء خارق واستعداد عجيب، ولها أكبر نصيب من حياة النبي في بيته ومسجده وحروبه، فوق أن سنها تواتي سعة المدارك وسهولة انطباع المرئيات، وهي أفضل سن تنمو فيها المواهب في عقل خصب يشهد صاحبه المقدمات والنتائج ويشعر بالتبعة في كل خطوة من الخطوات. ولا عبرة بأنها عند وفاة الرسول كانت لم تبلغ درجة الأنوثة الكاملة في عرف العصور الحديثة؛ فإن بيئة العرب غير بيئة العصور الحديثة، ومكة التي ولدت فيها كانت مدينة متحضرة وسوقا دولية وعاصمة حاوية كل عناصر الحياة.
لقد شبهت عائشة بكبريات ملكات أوروبا في كل العصور؛ فقال أحدهم إنها لا تقل عقلا وتفكيرا وسعة حيلة عن أجربين وإليزابث، وهن من بانيات مجد دولهن وممن اشتهرن بالاستقامة، ونحن لا نتخذ من هذا التشبيه إلا رغبة المؤرخ الذي ذكره في أعظم وصف يمكن أن يخلعه على سيدة المدينة، وعندنا أنه لا يقصد سوءا؛ لعلمنا بمكانة هاتين الملكتين؛ فالأولى كانت زوجة إمبراطور وأم إمبراطور في رومة، والثانية أسست مجد دولة بريطانيا في البر والبحر، وعاشت وماتت بكرا بتولا، وكان عقل كل منهما كعقل عشرة رجال. ولم تفز امرأة من زوجات النبي أثناء حياته بزعزعة مكانة عائشة، ولم يفز رجل أو عصبة رجال بعد وفاته بالتقليل من شأنها، ولا ننس أن فاطمة بنت الرسول وزينب بنت جحش حاولتا التدخل بين النبي وزوجه، وأن علي بن أبي طالب لشدة حبه محمدا وإشفاقه عليه في حديث الإفك قال كلمة لم تنسها عائشة، ولكن هذا وذاك لم يؤد إلى شيء سوى ازدياد مكانة عائشة عند الرسول؛ فإنه كان ممن لم تجد لديه السعايات والوشايات حتى ولو صدرت من أحب أحبابه في حق ألد أعدائه.
فنصح رسول الله لفاطمة أن تحب عائشة لأنها أحب زوجاته إليه، ورد زينب بنت جحش على أعقابها بعد أن حجها بأن عائشة أحسن الناس رأيا فيها وأبقاهم على مودتها، وظاهر سعي السيدتين أن يعطف الرسول على بقية زوجاته عطفه على عائشة، وهو لو سمع إليهما أو وافقهما لكان اعترافا منه بأنه لا يعدل بين زوجاته وهو رسول الله! ولم تمتلك عائشة قلب رسول الله؛ فقد كان هذا القلب مشغولا بغير هذا، وإنما حركت عطفه بصباها وذكائها ونالت إعجابه لدى نضجها بحسن تدبيرها ولم تبذل شيئا مما يبذله النساء كالتمليق والرياء، أو النميمة والغيبة؛ فكان هذا الاعتدال منها أدعى إلى تقديرها.
وسوف يرد اسمها مقترنا بالحوادث التي ساهمت فيها بحسب ترتيب الوقائع، ولكن يحضرنا حادث واحد أعجبنا به وحرنا في تحليله كحيرتنا في واقعة الجمل التي دعت إليها السيدة عائشة، وهو أنه لما اشتد المرض على الرسول نصحت عائشة (ابنة التسعة عشر) لأبيها أن يكف عن الصلاة بالمسلمين مكان الرسول وأن يبتعد عن المدينة لئلا يتطير به المسلمون (تعني - وإن لم تقل - في حالة وفاته عليه الصلاة والسلام) وهي تخشى بلا ريب أن مثل هذه الطيرة إذا حدثت تقف حجر عثرة في سبيل خلافته التي كانت بلا ريب تجول في خاطرها أو قد علمت بها من أحاديث الرسول أو مناجاته؛ فعمل الصديق برأيها حتى لقد قبض الرسول وهو خارج المدينة ولم يحضر إلا وصديقه وسيده وزعيمه وحبيبه مسجى على الفراش. •••
كانت عائشة جميلة الوجه والجسم دقيقة الخلقة حسنة التقسيم وسيمة الطلعة قوية النظرات ذات عينين براقتين خارقتين، تدل سيماها على الرفاهية والرقة والنعومة، تشبه الغزلان في تركيب بدنها عالية الجبين بسامة، سريعة النطق تحسن السماع والإصغاء، حادة اللسان في غير غلظة، سريعة الغضب أحيانا، سريعة الرضا دائما، تغفر لخصومها إلا رأيا واحدا لم تغفره لصاحبه. وكانت شديدة الغيرة على الرسول، ولكنها لا تتحكم فيه ولا تتسلط على إرادته ولا تسعى في تقليل مكانته كما تفعل أية امرأة غيور، وكانت صائبة النظر دائما فيما له مساس برضاه أو بالحياة العامة أو بنشر لواء الطمأنينة على بيته وحياته. والحادثة التالية تؤيد ما ذهبنا إليه بعد تمحيص التاريخ والتدقيق فيه؛ فإنه لما نصر الله - تعالى - رسوله ورد عنه الأحزاب وفتح على يديه قريظة والنضير في آخر سنة 5ه، وكانت قريظة والنضير قبيلتين من أقوى قبائل اليهود وأغناها تحتلان حيين من أكبر أحياء المدينة المنورة، تحدث بعض أزواجه تبعا للظنون والشائعات التي تجري على ألسنة الخدم والأتباع وبعض المنافقين أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم من جوهر وذهب وفضة وأعلاق وعروض! وكن في تلك الفترة تسع نسوة: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة، وسودة بنت زمعة (التي عاشرها الثلاث سنوات الأخيرة في مكة)، وأم سلمة (صاحبة هجرة الحبشة والرأي الصائب)، وصفية بنت حيي اليهودي، وميمونة (التي عقد عليها بمكة وبنى بها بسرف في عام العمرة التالي لمعاهدة الحديبية)، وجويرية بنت ملك بني المصطلق (وهي الغزوة التي حدث في طريق الرجوع منها حديث الإفك)، فقعدن حوله
صلى الله عليه وسلم
وقالت إحداهن - ولعلها زينب بنت جحش: «يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق!» يعني المؤرخ أنهن قد تدبرن فيما بينهن وعقدن مجلسا عائليا واتحدن في خطتهن وصممن على أن يقدمن إليه شكوى ظنتها كل واحدة منهن عادلة معقولة، وهي أنهن يشبهن أنفسهن بزوجات الملوك؛ لأن الهمس قد دار على أن محمدا ملك عظيم وإن لم يدع الملك ولم يقبل أن يدعى به، وأنهن صبرن على الفاقة والضيق أثناء الجهاد والصبر على الفتح، فلما وافى النجاح وحلت البحبوحة وجاء اليسار وأمطرته السماء ذهبا وفضة فلا مجال للصبر على الفاقة والرضى بالضيق! وإن كان الرجال يقتسمون الغنائم بعد النصر في الحروب فما أحراهن أن يطلبن بأنصبتهن مما أفاء الله وأغدق على رسوله من أموال أعدائه وأعداء الله اليهود، فآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا وعباد المال أزواجهم، ففطن الرسول إلى أنهن قد أخطأن فهم الرسالة وأنها لم تكن بسبيل الكسب المادي ولا تحلية النساء حتى ولا توسيع نطاق العيش، وأنه لو فعل ذلك لخالف أوامر الله وخرج عن حدود وظيفته، دع عنك تحريك الأحقاد وتصديق أقوال الأعداء المتربصين الذين يتلهفون على هفوة كهذه فيزعمون أن محمدا قد اتخذ النبوة والفتح تجارة، والمؤمنون يبيعون أرواحهم ليشتروا الجنة، والرسول يضحي بهم لا في سبيل الله وحده بل في سبيل الغنى وتحلية النساء بالعقود والأساور والأقراط والخلاخيل! فأمره الله - تعالى - أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن من تخييرهن في فراقه، وذلك قوله تعالى:
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما .
لم تكن عائشة زعيمة هذا التدبير ولا الناطقة به، ولكنها كانت أحب نسائه إليه وكان بقية الزوجات يحسبن أنه لا يرد لها طلبا وأنها أكثرهن دلالا عليه ولو أنتج حوارها ما تريده، عمم الرسول الإجابة؛ عملا بمبدأ العدل ولم يختصها، ولو كان رسول الله يريد حيلة أو مكرا أو تفريقا لصفهن المتراص لبدأ بأضعفهن أو أحوجهن إلى العيش في كنفه التي سبق لها تهديد بالطلاق وهي سودة بنت زمعة، ولكنه أخذ الثور بقرنيه وجابه المسألة مجابهة الرجل الذي وصف في شبابه بأنه الفحل الذي لا يقدع أنفه، وبدأ بعائشة نفسها سيدة الحريم وقائدته إلى الجنة فقال لها: إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك.
قالت: ما هو؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك أستأمر أبوي؟! بل أختار الله - تعالى - ورسوله. ثم تتابعن كلهن على ذلك فسماهن الله أمهات المؤمنين؛ تعظيما لحقهن، وتأكيدا لحرمتهن، وتفضيلا لهن على سائر النساء.
كانت هذه الحادثة واحدة من اثنين أو ثلاث، وقد أظهرت كل منها فضل عائشة وحبها الرسول وشدة تعلقها به ورضاها بأحكام الله وحسن فهمها المواقف كلها بلا تعنت أو ضعف، وكانت الأخريات يعلمن أن تهديد القرآن بالطلاق قول جد لا مزاح فيه وأنه متى وصل الأمر إلى الوحي فلا مناص من الرضوخ، فإن الله ينفذ أمره بلا هوادة. وقد سبق أن غضب الرسول لأمر فنزلت آية:
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (سورة التحريم).
كانت حفصة سيدة شديدة الخلق سريعة الغضب كأبيها سيدنا عمر بن الخطاب، وكانت شديدة الغيرة كعائشة، ولكن لم يكن لها عقل بنت الصديق ولا تدبيرها ولا كبر قلبها وسعة فكرها وبعد نظرها؛ فجادلت حفصة رسول الله في زوجته مارية القبطية كما كانت عائشة وزينب تجادلان في صفية اليهودية، وظنت حفصة أن جدالها يغير من خلق النبي أو يبدل من معاملته مريم، والنبي لم تكن له محظيات ولا سراري ولا ملك يمين؛ فمريم زوجة وأم مؤمنين كغيرها، بل كانت والدة ولد هو إبراهيم بن محمد بن عبد الله؛ فهي الثانية التي ولدت له بعد خديجة. فماذا تعني حفصة بوصفها بالقبطية كما كانت أم سلمة وزينب تصفان السيدة صفية باليهودية؟! وماذا تقصد هذه أو تلك بتحريم اتصال الرسول بهذه أو تلك من زوجاته؟! (ومن هنا اسم سورة التحريم) ولذا عاتبه الله في أول هذه السورة:
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم ، فلما غضب رسول الله هجر نساءه كلهن ولزم بيتا بعيدا، وعلم أبو بكر وعمر بما جرى بعد أن طال هذا الهجر شهرا؛ فبادرا إليه وروى عمر للرسول تأديبه لزوجته أم حفصة، وقال أبو بكر إنه لا يألو جهدا في تأديب عائشة إن لزمها. ولكن عائشة كانت بريئة كعادتها.
والمخطئة حفصة التي لم تذكر أن الرسول أخذها إكراما لوالدها بعد أن فقدت زوجها في بدر على عادته في جبر خاطر أيامى الجهاد الكبرى. حقا لقد كان في خلق النبي أن يعدل بين زوجاته وأن لا يفرق بين تلك التي كانت قبطية أو يهودية وبين بنات الصحابة.
فإن أغلظت إحداهن عليه فما عليه إلا أن يطلب العوض من الله فيبدله منهن هؤلاء النسوة اللاتي وصفهن القرآن، كذلك لو تمسكن بالمال والزينة لكان عليه أن يسرحهن سراحا جميلا. لقد زعم الأغيار أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
استكثر من النساء لأهواء نفسية محضة وشهوات كالشهوات، ولو كان الأمر على ذلك لما كانت هذه القصة التي أساسها نفي الزينة وتجريد نسائه جميعا منها، وتصحيح النية بينه وبينهن على حياة لا تحيا فيها معاني المرأة المطلوبة للشهوة، وفي جو لا يكون أبدا جو الزهو والمباهاة، وأمره من قبل ربه أن يخيرهن جميعا بين الطلاق فيصرن كالنساء ويجدن ما شئن من دنيا النساء وبين بقائهن فيعشن معه في طبيعة أخرى تبدأ حيث تنتهي الدنيا وزينتها.
عائشة! لقد أدركت فور الساعة جلال الموقف ولم تندم على مشاركة زوجات النبي؛ فلعلها لم توافقهن من أول الأمر على هذه المطالبة، وعلى أي افتراض فقد بادرت بالبراءة من الاستمساك بالطلب المرهق المتلف لأمر النبوة الموجد ثغرة في جوهر الرسالة. لقد كان جواب الرسول هو نص القرآن؛ فإرادة النبي هي إرادة القرآن؛ فانظر إلى النص وأمعن وأصغ إلى نصح النبي عائشة باستشارة والدها قبل أن تقدم على الخطاب. كيف يكلم الله ورسوله زوجات النبي في هذه المفاوضة، لا تمليق ولا إطراء ولا نعومة ولا حرص على لذة ولا تعبير بلغة الخواص. لم يكتف بنفي الدنيا والزينة عنهن، بل نفى الأمل في ذلك إلى آخر الدهر، ولم يبق لهن إلا ثلاث: الله في أمره ونهيه، والرسول في شدائده ومكابدته وجهاده، والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها. ثم تخيير صريح رنان طنان بين ضدين ونقيضين لا ثالث لهما ولا وسط ولا مصالحة، ثم هو عام شامل لجميع زوجاته لا يستثني منهن واحدة. ولو كان النبي غير محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولو كان ما يقوله القرآن غير ما يقوله الله، ولو كان الأمر يحتمل وجهين ورأيين؛ لكان الجواب على طلب النساء التسع مشبعا بالأخيلة والتوكيد والرجاء والوعود وتقريب الزمن والمداورة والاعتذار إلى حين هو أقرب من شروق الشمس بعد الفجر، ولكن النبي لم يتزوج نساءه ليلهو بهن وليجعلهن عرائس الخيال وأشباح الشهوات، ولم يكن بيته «حريما» بالمعنى البغدادي أو الأندلسي أو التركي كما يريد بعض المستشرقين أن يصموه به، ولو كان ذلك كما زعموا أو وهموا لكان هو المبادر إليهن بالزينة والنعومة في الثياب والمصوغ فيمشين كالممثلات في هذا العصر، أو كنسوة الملوك وسراريهم، ومحظيات «خلفاء الشؤم» الذين أضاعوا دولة الإسلام، أو خواجات السلاطين الذين بددوا ملك آل عثمان.
هنا مسألة جوهرية؛ لم يكن الرسول ليضن بالمال والحلي لأنه شحيح أو لأن بيت مال المسلمين في حاجة إليها؛ فطالما رأينا ملوكا وزعماء يفضلون أن يبددوا أموالهم وأموال شعوبهم في مرضاة نسائهم حتى ولو كانت الأمم في أشد الضيق، فإن مطالب بيت الإمبراطور أو الملك أو الأمير لا تقل ولا تختصر، وكذلك المال الذي ينفق على أبعد الأشياء عن الضرورة كتنسيق بستان أو تأثيث بيت للخلوة أو شراء جواهر بأفحش الأثمان لتوضع على عنق مآله التراب، ولكنه يبرق ويلمع لحظات في حضرة المنافقين والمنافقات والداعرين والداعرات من رجال البلاط ونسوته! وهذا الإسراف وأقل منه صرف للمرأة إلى حياة الأحلام والأخيلة والأماني والطيش والبطر والفراغ والفساد حتى الخيانة، ألم نقرأ أن امرأة تبتز مال رجل في زينتها لتغري بها رجلا آخر؟ لأن اندفاع المرأة في هذا السبيل يفسد طبعها ويشوه عاطفتها ويخضعها للتصنع فتضعف في نفسها المقاومة للرذيلة؛ فلا تقنع بإبداع الجمال من حقيقتها وعملها وتلتمسه في مظهرها وشكلها، فلا تتحقق الفائدة من شخصيتها وهي التي تهز المهد وتحوط الفرش بيدها، إلا أن رسول الله علم أن حيف الغريزة على العقل إفساد للعقل، وتعدي الشهوة على الإرادة هلاك للإرادة وضياع لمبادئ الشرف والاستقامة، وهما دعامتا المجتمع. فإذا أعطى الرجل المرأة حظ الغريزة فقد استجاب لجنونها ونفخ في ناره الكامنة فاستطار اللهب. إلا أن حياة المرأة ليست كلها حرمانا وصبرا واحتمالا، ولكنها الإيثار والفضيلة وحسن المعونة في حمل أعباء الحياة. فما بالنا بمن يغير هذه المكارم بحب الذات والغرور والبطر والضجر والتبرم والإلحاح والإزعاج، كما نشاهد في النسوة اللواتي يبدلن مصوغهن في كل عام مرتين وثيابهن في كل عام اثنتي عشرة مرة، وسيارتهن ثلاث مرات في كل سنة، ويعلن عن فقد عقود وفصوص وأقراط ودبابيس من الماس والزمرد والياقوت عقيب كل ليلة راقصة أو مأدبة فادحة حتى أصبحت تلك الحلي الثمينة في أيديهن وأعناقهن وآذانهن وأصابعهن كأقلام الرصاص في أيدي صغار التلاميذ! وهن بلا ريب لجنون الرجال قد ذهب حياؤهن وإخلاصهن وكثر طمعهن!
لقد سبق الرسول ملوك أوروبا بألف وثلاثماية سنة؛ فقد أرغم الملوك على أن تنزل نساءهن في أبسط الثياب إلى شوارع المدن وأزقة الأحياء الفقيرة ومصانع العمال وأكواخهم لتراهن نساء الطبقات المتعسرة عن قرب؛ لتطمئن إلى حياتها كل امرأة شريفة قائمة حياتها على الصبر والمجاهدة والإخلاص والعفة والقناعة، ثم تنشر صحفهم أن كريمة الإمبراطور فلان تجيد الطبخ الرخيص، وزوجته ذات التاج والصولجان ترقع بعض ثيابها البيتية، وتغير غلالتها بقماش جديد احتفظت به، وتخيط زرايرها بيدها، وتعد وجبة الإفطار لأولادها وزوجها بيدها. كذلك صنع الرسول
صلى الله عليه وسلم
في ذلك المجلس العائلي؛ فقد أراد أن تكون زوجاته جميعا كفقراء المؤمنين؛ ليكون منهن المثل الأعلى للمرأة المؤمنة العاملة الشريفة التي برعت البراعة كلها في الصبر والمجاهدة والحياء والقناعة، فلا تكون امرأة زينة وحلي وحلل، ولكن امرأة إنسانية وزوجة النبي لتتم إنسانيتها ويتم النبي رسالته. ولأجل هذا المعنى الدقيق السامي أسماهن الله عقيب المجلس بأمهات المؤمنين، لأجل هذا وفي ضوء هذا نفهم زهد النبي وظهوره بالعجز أمام ربه وفرط قناعته وإعراضه عن الدنيا وهو يلعب بها، ولأجل هذا وفي ضوء هذا وعلى أساس هذا نفهم أخبار جوعه واكتفائه بخبز الشعير وقول عائشة إنها لم توقد النار في بيتها ثلاثة أشهر مكتفية هي وزوجها بالتمر والحليب، لأجل هذا وفي ضوء هذا وعلى أساس هذا ندرك معنى حديث عمر بن الخطاب وهو من انطبع على هذا الغرار نفسه، وكانت حياته في الخلافة مضرب الأمثال في العدل والشرف ومجانبة السرف والتفريط في حقوق الله والمسلمين، ولكنه كان يشفق على الرسول؛ فقد دخل عليه فإذا هو على حصير وعليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، قال عمر: «وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي.» فقال النبي: «ما يبكيك يابن الخطاب؟!»
قال عمر: «يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزائنك!»
أترى إلى عمر بن الخطاب وهو الرجل الشديد القوي الجبار العنيد في الحق المؤمن الخالص الإيمان، لقد ذكر هو الآخر كسرى وقيصر كما ذكرت بنته وصواحبها زوجات الرسول نساء كسرى وقيصر؛ فقد كانت محبتهم للرسول ومشاهدتهم لما قد يناله ويتمتع به لو طلبه، وخوفهم على حياته من المبالغة في التقشف وهو القائل إن لبدنك عليك حقا؛ تخفي عنهم حقيقة ذاته وتكاليف وظيفته وواجبات رسالته، لم يكن محمد يقول: «واحشرني في زمرة المساكين» تواضعا ولا رياء، ولكن صدقا وحقا؛ لغاية عليا يفهمها ويعمل لتحقيقها.
هذا محمد «الشلبي» المدلل الشديد العناية بشخصه في شبابه، ومن بذلت خديجة حياتها ومالها في تنظيم حياته قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وعنيت به عناية أطوع الخدم بأبناء الملوك في ثيابه وطعامه وفراشه وعطوره وكل ما يقع عليه نظره وشمه وسمعه، ها هو ينام في إزار على حصير ولم يذكر عمر أنه هزل أو ضعف بدنه، ولكن محمدا الذي رضي بهذا كله وأقبل عليه حتى ليظن الناظر إليه أنه من أقل الناس مكانة إذا حكم بظواهر الأمور المادية، كان في أعلى درجات الجمال والكمال وكانت رسالة قد شارفت على التمام.
دخل على فاطمة فرأى على بابها سترا وفي يديها قلبين من فضة (غويشات) فرجع، فدخل عليها أبو رافع فوجدها تبكي فسأل أباها، فقال الرسول من أجل الستر والسوارين، فأخبرها فهتكت الستر ونزعت السوارين فباعها بلال وتصدق بثمنها على أهل الصفة، والستر والسواران لا يبلغان ثمنها جميعا عشرين قرشا بعملة هذا الزمان!
فلم يكن النبي مازحا ولا هازلا ولا متظاهرا، ولكن هذه طبيعته وخلقه، فإن كان فعل مع زوجاته ما فعل بسبب الزينة وأموال اليهود فلم فعل هذا مع ابنته فاطمة وهي زوجة في عصمة رجل وله الحرية والحق في أن تأخذ سترا وسوارا (كثرت قيمتهما أم قلت) إن لم يكن له غرض ومبدأ يخشى من نقضهما على ابنته وهي التي قاست في الحياة ما قاست في مكة والمدينة.
تعالوا أيها الاشتراكيون فاعرفوا نبيكم الأعظم!
تعالوا أيها المنادون بالإخاء والمساواة ومحاربة التضخم والتكاثر فاركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم الذي أرسل هذه الرسالة بالحق والحب والإخاء والمساواة.
تعالوا أيها الصارخون من العصر المادي، المنذرون بالويلات والثبور، المهولون بفناء الحضارة وتهدم أركان المدنية بسبب ما انبث فيها من أسباب المظالم والمغارم ومجدوا شخص محمد وسبحوا بحمده وإن لم تكونوا من أهل دينه وملته؛ فقد جاء للإنسانية كلها.
تعالوا أيها المطالبون بالتشريع وسن القوانين لترجعوا الحق إلى نصابه؛ لتعلموا أن الأمم لا تصلح بالقوانين والشرائع والأوامر والنواهي، ولكن بعمل عظمائها وقدوتهم، وأن حكامكم وممثليكم ونوابكم ووزراءكم فشلوا وسيفشلون ويخيبون ويتخبطون؛ لأنهم حكموا وهم يحسون في أنفسهم فتنة الدنيا إحساس الخاضع لا المتسلط، والمغلوب لا الفائز، والمحكوم لا الحاكم.
فليس أمر الرسول فقرا ولا زهدا ولا تقشفا، ولكنه جرأة الروح الكبرى في تقرير حقيقتها الفعلية.
أنا أكتب هذا وأعلم أن الملايين تناقضني وترد قولي إذا علمته وسمعته، وأنها تحجني بالتمسك بالأوهام والأخيلة، وأن هذا الزمن قد تولى وذهب، وأنني وأمثالي نعيش في الأجيال الماضية، وأننا على الأقل نصلح لحياة الريف لا لحياة العواصم، وأن جمودنا خليق بأن تضرب به الأمثال ما دمنا نرى ونسمع ولا نخضع لقوانين تطور الزمان، ولكنا نرى الحق في جانبنا وفي صفنا، ولا نريد أن ندلل عليه ارتكانا على حياة النبي؛ لأن حياة الأنبياء ليست كحياة غيرهم من الرجال، ولأن لهذا البحث مجالا آخر بل أي مجال. •••
بقيت حادثة تافهة كنا نحب أن نعرض عن ذكرها كما أعرض القدماء عن بعض الحوادث، ولكن هذا العصر عصر تحليل وتنقيب وفحص وتدقيق، ونحن لا ينقصنا الدليل التاريخي، وليس في سرد هذه الحادثة ما يعيب أحدا غير الطبيعة الإنسانية التي لا تتغير بالزمان والمكان، وإن أدركتها حسنات تلطف من حيوانيتها فلا تبدل غرائزها.
تعود رسول الله أن يطوف ببيوت نسائه عقب صلاة العصر من كل يوم، وتلك البيوت متقاربة متداركة تفتح كلها بأبواب كالخوخات على مسجده الكبير، فغاب الرسول يوما في بيت زينب، وتعودت زينب وهي كريمة وغنية وفخورة بزواجها أن تسقي الرسول عسلا حاد الطعم والرائحة، فاتفقن على أن يظهرن تضررهن من رائحة العسل إذا زارهن الرسول، فتقول إحداهن إني أشم ريح مغافير! وهو طعام حلو حاد الرائحة كريهها كان مألوفا عند العرب، وكل واحدة منهن تعلم مبلغ حرص محمد
صلى الله عليه وسلم
على النظافة وطيب نكهة فمه وشدة عنايته بالسواك وجلاء الأسنان وتعطير الجسم والشعر وطهارة الثوب بنص القرآن، بل إن الإسلام كله قائم على النظافة والطهر. فلم لا يتخذن هذه الناحية سبيلا إلى مقاومة زينب فلا تطيل غيابه عنهن بعد اليوم؟! فلما طاف بالبيوت سمع اسم المغافير من كل لسان فحرمه على نفسه، ثم اكتشف السر فابتسم واعتصم بمكارم الأخلاق.
وحدث أن مريم القبطية ولدت إبراهيم، وهو ولد ذكر كان يترقبه الرسول ويتمناه من الله، وكانت مريم تعيش في بيت بعيد فأدناها إلى بيت يجاور بيوتهن؛ ليغدو ويروح وطفله على ذراعه يدلله ويناغيه، فلم ير ولدا ذكرا منذ دفن القاسم والطيب والطاهر في معلاة مكة. وكانت كل زوجة منهن تتمنى أن تكون أم هذا الغلام، ولكن شاءت الأقدار أن لا تلد واحدة منهن أبدا غير ما ولدت من زوج سابق إن كانت ثيبا، وإن كانت بكرا؛ فقد نهيت عن الزواج بعد الرسول. وهؤلاء نساء من الإنس لسن من الملائكة ولا من الجن، وليس لهن صبر أيوب؛ فغيرتهن مؤكدة محتمة مهما حاولن كتمانها. وشاء الله أن يموت إبراهيم طفلا مختلفا في سنه، وقد زرنا قبره في البقيع. وكان لوفاته رنة أسى في قلب أبيه، فقال كلمته المشهورة: «إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإننا لمحزونون لفقدك يا إبراهيم.» وحاول منافق أو مخلص أبله أن يعلل كسوف الشمس يوم وفاة إبراهيم بالحزن عليه! فأفهمه الرسول أن السماء لا تبكي والشمس لا تنكسف والقمر لا يحزن على أحد من خلق الله؛ لأنها تتبع خططا رسمها الله لها من قديم الأزل إلى الأبد لا تتبدل ولا تتغير.
وإن في ميلاد إبراهيم وموته لموعظة كبرى؛ فقد محا الله عنه تهمة أبي لهب الذي وصمه بأنه أبتر لا عقب له! وأدخل على قلبه وقلب أم الغلام سرورا مؤقتا ولو إلى حين، قال تنيسون شاعر الإنجليز في العصر الحديث: «خير لنا أن نحب ونفقد المحبوب من أن لا نحب أبدا.»
وأوجد الله من نسل إبراهيم الخليل ابن نبي اتخذ اسمه بعد ألوف السنين، ولا عبرة بالموت في الطفولة، فإن الأطفال يتمون أعمارهم في النعيم. (انظر كتاب سويدنبورج المتنبئ الإسكندنافي في الجنة والنار.)
وإن في وفاته ووفاة الذكور من نسل الرسول لنعمة على الإسلام؛ فقد اتقى الله بها شرور الفتنة في التوريث أو ظن ولاية العهد أو حق المطالبة بالخلافة للصبي؛ فقد طالبوا بدم عثمان وطالبت فاطمة بحق آل البيت، ونسب إليها على قول ضعيف في التاريخ أنها قالت: «إن الأمر أمرنا نحن آل البيت.» ولم يكن لديها إلا ولداها وهما حفيدا الرسول، فما بالنا لو طالب شاب من صلب النبي بحقه في خلافة أبيه ظنا أن الأمر ملك ودولة لا نبوة ورسالة؟! وأوجد ميلاد إبراهيم من مريم آصرة نسب وقرابة بين النبوة وبين أهل مصر جميعا؛ فأوصى الرسول بهم خيرا.
أما السر الذي أذاعته حفصة فلا يتجاوز مراجعته لمريم بعد أن وعد بمقاطعتها فعاتبه الله في سورة «التحريم»، وهذا ليس بشيء في حياته الخاصة وحقوق الزوجية، ولا يعدل تزويج الله إياه زينب بنت جحش وعتابه؛ لأنه خجل من الناس وأخفى حبه والله يعلمه.
ولو نظرنا إجمالا وتفصيلا في حياة بيت النبي وجدنا أنه كان موفقا أحسن توفيق إذا راعينا أمورا كثيرة لا يجوز إغفالها:
أولا:
عاش النبي مع زوجة واحدة من سن 25 إلى 53، ماتت خديجة وهو في الخمسين وحلت محلها سودة ثلاث سنين، وهذه خير أعوام الفرد في هذه الدنيا من ناحية الشباب والقوة وحب النساء.
ثانيا:
كانت فترة المدينة فترة تشريع جديد وطور انتقال وحروب وغزوات وهجوم ودفاع واستهداف للأخطار من أعداء أقوياء.
ثالثا:
كان توفيق النبي في إدارة شئون بيته كتوفيقه في الحروب والسياسة؛ فلم يوجد في داره امرأة كزوجة نوح أو زوجة لوط وهما نبيان مرسلان، ولم يفشل في زواج ولم يطلق كما فشل وطلق أباطرة الرومان ونابوليون ومصطفى كمال، ولم يقتل إحدى زوجاته كما قتل هنري الثامن بضع نساء، ولم تفجر واحدة تنتمي إلى دينه كما فجرت كريستيانيا وكاترين وبنات مديتشي وهن ملكات وزوجات ملوك وأمهات ملوك وأخوات ملوك.
رابعا:
كان سقف بيت الرسول يظل أمشاجا من السيدات تفصلهن عنه فوارق بعيدة المدى، كما تفصل بعضهن عن بعض أمثال تلك الفوارق، فبينهن من كانت تصغره بأربعين عاما وهي عائشة، ومنهن ثيبات كن لأزواج غيره قبله كأم حبيبة وأم سلمة، ومنهن الجميلات كأم حبيبة والدميمات المسنات كسودة، ومنهن المغايرات لدينه أصلا كصفية ومريم، ومنهن بنات الملوك كجويرية وبنات وزيريه وصاحبيه أبي بكر وعمر وابنة أعدى أعدائه أبي سفيان (أم حبيبة!)
وقد نرجع نجاحه في حياته الخاصة إلى رسالته وإيمانه ومكارم أخلاقه، ولأنه كان في بيته مثال الدعة والأريحية يكثر من تدليل نسائه ومداعبتهن، وكان يلاعب عائشة وهي صغيرة ويسابقها فيسبقها، ويتسامح إذا اجترأن عليه، فبينا عمر ينتهر زوجته كانت حفصة بنته تراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان ثم يعفو ويصفح؛ فهو في بيته ملك من السماء، حتى إنه ليصلي فيتسلق ظهره الحسن بن علي فيطيل السجود حتى يترجل الغلام من تلقاء نفسه، وإذا كن في رحلة وغذ قائد الجمل سيره فيلحظ النبي ذلك ويقول للقائد الحبشي: «رفقا أنجشة بالقوارير»؛ تشبيها للمرأة بآنية الزجاج في سرعة العطب أو بالقلب الرقيق لا يجبر بعد كسره.
وهذا التوفيق وتلك السعادة وذلك الكفاح في سبيل التوفيق بين الأخلاق المتناقضة والنفوس التي لا يبرئها من الغيرة إلا الله؛ إنما نعمة منه سبحانه وتعالى أفاءها على نبيه وحبيبه.
ولم يخف الرسول تفضيله لعائشة حتى اللحظة الأخيرة؛ فقد مرض عند غيرها فمرضته في بيتها ومات في حجرها ودفن في حجرتها؛ فعاشت سبعا وأربعين سنة بجوار ضريحه وهو يضم جثة والدها وعمر بن الخطاب.
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
(1) أم سلمة
هي أم المؤمنين هند بنت سهيل القرشية المخزومية بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان يعرف بزاد الركب، تزوجت أول الأمر من ابن عمها أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، فلما مات عنها تزوجت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في جمادى الآخرة سنة 4 هجرية، وكانت ممن أسلم قديما. وكان لأم سلمة من زوجها الأول سلمة وعمر ودرة وزينب، ولما توفي زوجها خلف عليها رسول الله لأنها كانت من المهاجرات إلى الحبشة وإلى المدينة.
وتزوجها رسول الله تكريما لها، وتعويضا عما أصابها في سبيل الدين. قالت: «ما أعلم أهل بيت أصابهم في الإسلام ما أصاب آل أبي سلمة.» فإنه لما عزم زوجها على الهجرة إلى المدينة بعد عودته من هجرة الحبشة خرج يقود بعيره وعليه زوجته وابنه، فاعترضهم رجال من بين المغيرة أهل زوجته فقالوا له: «لقد غلبتنا على نفسك فسكتنا وصبرنا ولكن زوجتك هذه وهي من لحمنا ودمنا كيف نتركك تسير بها في البلاد؟»
ونزعوا خطام الجمل من يده وأخذوا السيدة؛ فجاء بنو عبد الأسد وهم أهل الزوج وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من قريبنا. وتجاذبوا الصبي سلمة حتى خلعوا يده وانطلق به عمومته من بني عبد الأسد، وحبسها بنو المغيرة عندهم وانطلق الرجل حتى لحق بالمدينة.
في طرفة عين شتت القرشيون شمل أسرة؛ فتركوا الرجل في سبيله إلى المدينة، وأخذ المرأة أهلها، وأخذ الولد أهل أبيه، واستمر حبسها سنة كانت تخرج أثناءها كل غداة تجلس بالأبطح فتبكي حتى تمسي. وفي ختام السنة تعطف عليها رجل من أهل الخير فتوسط لدى أهلها أن يطلقوا سراحها تلحق بزوجها، ورد عليها أهل زوجها ولدها، فرحلت وابنها في حجرها وخرجت تريد زوجها في المدينة.
وهذه القصة تشبه ما يحكى عن تجار الرقيق وتفريقهم أفراد الأسرة الواحدة بالبيع لسادة مختلفين، ولكن أهل مكة تصرفوا في الأحرار هذا التصرف الأليم، ولم تكن هذه القسوة لتضعف من مقاومة المسلمين ، ولم تفت في عضدهم، ولو ضعفوا لفضل الرجل زوجته وابنه على دينه الجديد، غير أن أبا سلمة وزوجته كانا مجربين وقد هاجرا من قبل وخرجا من دارهما في سبيل الله إلى بلد ليس فيه مسلمون وليس فيه رسول الله، أما هذه المرة فهما إلى المدينة، وهي حاضرة حجازية لا تقل عن مكة، وفيها رسول الله وبقية المهاجرين. وكأن أقارب الزوجين قد توافقوا على التفريق، فلو ترك الولد لأحدهما كان أشفق وأرحم، ولكنهم وإن اختلفوا في القرابة فقد اتفقوا في التنكيل بالوالد والوالدة والولد. وكان غيظ قريش أقوى من تحمل النفقة على الولد وأمه، بيد أن المشاهد أن أهل مكة كانوا دائما يضعفون في النهاية كلما رأوا تشدد المسلم وصحة عزمه على الثبات في رأيه. ولم يكن إهراق الدماء في خطتهم وإلا لقتلوا هؤلاء الثلاثة، وإن يكن الطفل لم ينج بغير ذراع مخلوعة. وأمر وأدهى من تقييد الحرية أنهم تركوا المرأة وحيدة! فلم يصحبها أحد من أهلها ولا من أهل زوجها! وهذا الذي يقوي في نظرنا تواطؤ الفريقين على تعذيب هذه الأسرة، وإلا فإن أهل الزوج كانوا خليقين بأن يصحب أحدهم الوالدة والولد إلى المدينة؛ فهو آمن على عرضها، وأشفق على ولدها، ولكن عقيدتهم كانت أقوى من مروءتهم، فلما بلغت السيدة هند أم المؤمنين (بحسب ما ستكون) التنعيم، وهو مكان قريب من مكة، فلقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار وهو يمت إليها ببعض الصلة ويعرفها قديما فقال: أين يا ابنة أبي أمية؟
قالت: أريد زوجي بالمدينة.
قال: هل معك أحد؟
قالت: لا والله إلا الله وابني هذا.
قال: والله ما لك من منزل !
وأخذ بخطام البعير فانطلق معها يقودها.
قالت أم سلمة تصف خلقه وعفته وكرمه ونجدته: فوالله ما صحبت رجلا من العرب أراه كان أكرم منه؛ إذا بلغ المنزل (أي محل النزول أثناء الطريق للطعام والراحة) أناخ بي ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني وقال اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى نزل، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية. وكان أبو سلمة نازلا بها فدخلتها على بركة الله - تعالى - ثم انصرف عثمان بن طلحة راجعا إلى مكة.
ها نحن نجد رجلا من نوع الجنتلمان الحديث، واصطحابه السيدة في هذا السفر الطويل الذي يستغرق أسبوعين في صحراء مخيفة بين مكة والمدينة يلقي شعاعا هاديا على حديث الإفك؛ فإن لكرام الرجال سوابق في مصاحبة شريفات النساء في المخاطر ولو لم تكن بينهم وبينهن قرابة. وإن لم نكن بحاجة إلى التدليل بعد نزول القرآن ببراءة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها.
كانت أم سلمة أول ظعينة تركت بيتها وخرجت إلى المدينة وتكبدت في الهجرتين ما تكبدت؛ مما دل على قوة إيمانها وإرادتها، وقد ولدت من زوجها المتوفى خمسة بطون، ولم تكن ذات جمال ولا مال ولا شباب، ولكن الرسول عقد عليها إعزازا لمبدئها وتشريفا لقدرها، وليس بدافع شهوة أو تكاثر في النساء كما زعم الذين لم يلموا بتاريخ الواقعات إلماما كافيا! وقد اعتذرت لأبي بكر عندما خطبها لنفسه وكان له نفس الدافع للرسول فيما بعد؛ وهو تقديرها والاعتراف بجميلها؛ فإن خير ما يصنع لامرأة أن تدخل في عصمة رجل بعد وفاة زوجها؛ لأن في هذا الزواج الثاني اعترافا بصلاحيتها وصلاحها، وتخفيفا لأعباء الحياة عنها لكثرة أولادها، وهي وزوجها ما هاجرا إلا في سبيل الإسلام، وما خرجا من دارهما وضحيا بأهلهما ومالهما إلا في سبيل الإسلام؛ فوجب على المسلمين أن يتقدم أحدهم لإيوائها وإشعارها بكرامتها؛ فتقدم أبو بكر إليها، فلما اعتذرت أرسل النبي عمر بن الخطاب يخطبها عليه، فقالت: أخبر رسول الله أني امرأة غيرى، وكبيرة السن، وليس أحد من أوليائي شاهدا، ومصبية (أي ذات صبيان)، فأجاب الرسول على لسان عمر: فأنا أكبر منك سنا وسأدعو الله فيذهب غيرتك وستكفين صبيانك، وليس أحد من أوليائك (أي أهلها ) يكره ذلك (أي زواجها من رسول الله). فقالت لابنها عمر: قم فزوج رسول الله مني فزوجها (مختصرا). وقد كان لها شأن عظيم في صلح الحديبية أنقذت به موقف المسلمين وحمت الإسلام من فتنة كانت تزمجر سيأتي الكلام عليها في مكانها، وقد وصفت بأنها صاحبة المشورة المباركة في الحديبية، وفي بيتها نزلت:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ، فأرسل النبي إلى علي وزوجته وولديها فقال: هؤلاء أهل بيتي. وقيل إنه طرح عليهم ثوبه فأطلت أم سلمة من فتحت الباب وقالت: يا رسول الله، أنا من أهل البيت؟
قال: بلى، إن شاء الله.
ويظهر أن أم سلمة كانت شديدة الغيرة حقا؛ فهي التي قالت: «أتكلم ابنة اليهودي في يومي وأنت رسول الله؟!»
إن في مواقف المسلمين - ولا سيما في أول عهدهم - ما يثير الشعر في النفوس ويحفز أرباب المواهب في النظم على أن ينظموا، ولو تعرض الشعراء لصنعوا ملاحم إن لم تفق ملاحم الإغريق فلا تقل عنها، ولكن القرآن قتل الشعر في جزيرة العرب، ونعم العوض.
ومن أدق المواقف اجتماع الأم بولدها بعد الإذن لهما بالسفر إلى المدينة:
حبيبي أحقا عدت لي اليوم بعدما
فقدتك عاما ما عرفت به البشرا
أسائل عنك الريح عند هبوبها
وأستنطق الأفلاك والسحب والبدرا
وكم كنت أخشى أن تمد يد الردى
إليك شباكا تقنص الليث والنسرا
فسل مقلتي هل داعب النوم جفنها
وسل قلبي الولهان هل نسي الذكرى
أحقا تراك العين يا من سلبتها
لذيذ الكرى أم ذاك وهم بها قرا
لقد خلعت يمناك سلت يمينهم
فيا ليتها اليمنى بجسمي واليسرى
قضى الله أن نشقى فكان الذي قضى
فهل كتب الله السعادة واليسرا
وقد استجاب الله دعاءها، ولكن يد الموت امتدت إلى زوجها بما قاساه وكابده بعد إسلامه من وقائع الحرب؛ فشهد بدرا وأحدا وراح بجرح أصابه فيها. وكان أبو سلمة من السابقين إلى الإسلام؛ فكان ترتيبه الحادي عشر وهو أخو النبي من الرضاعة وابن إحدى عماته، وكان له أخ هو سفيان بن عبد الأسد من أشر المشركين وأشدهم على المسلمين، وقد توفي أبو سلمة سنة أربع من الهجرة بعد أحد، وقيل إن أم سلمة توفيت في آخر العقد السادس بعد الهجرة. وقيل إنها آخر أمهات المؤمنين موتا. فلو نظرنا إلى زواج الرسول من أم سلمة لعللناه تعليلا منطقيا ونفسانيا بالأسباب الآتية:
أولا:
كان زوجها أخا لرسول الله في الرضاع، وقد جرت عادة العرب بأن يأخذ الرجل أرملة أخيه صيانة لها، وحفظا ورعيا للود.
ثانيا:
كانت وزوجها من أول من أسلم وأول من هاجر الهجرتين.
ثالثا:
كان زوجها من أبطال بدر وأحد ومات في الجهاد؛ فحق على الأمة أن تعوض زوجته، ولا عوض أكرم وأسخى من زواج رسول الله.
رابعا:
كانت ذات عيال وهم في حاجة إلى نفقة وعناية وتربية.
خامسا:
أوصى زوجها عليها رسول الله وهو يجود بنفسه.
سادسا:
أظهرت الحوادث أن الرسول كان صادق الفراسة فيها؛ فقد أبدت مشورة منقذة في الحديبية، سيأتي الكلام عليها.
سابعا:
كانت لها مكانة بين المهاجرين إلى الحبشة، واتصلت ببيت النجاشي، وأثرت أخلاقها الكريمة وعقلها الراجح في نشأته، وقد كانت سجلا ناطقا احتفظت بكل حوادث الهجرة إلى الحبشة ومرجعا لرسول الله يسألها عن تاريخ تلك الفترة.
ثامنا:
لقيت أشد مما لقي سواها في سبيل الإسلام.
فأي مبرر أقوى من هذه المبررات لزواج النبي منها؟
وأي جاهل بالتاريخ وعلم النفس يزعم أن الرسول «ضمها إلى حريمه» ليمتع نفسه بها، مع أنه كان قد أربى على السابعة والخمسين من عمره؟! (2) سودة بنت زمعة
لا نعلم سببا لزواج الرسول من سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - إلا أنها كانت أرملة ابن عمها السكران بن عمرو من بني عامر بن لؤي وكان مسلما، فلما توفي عنها تزوجها رسول الله بعد وفاة خديجة.
وكانت هذه المرأة ثقيلة ثبطة، وقد أسنت عند رسول الله ولم تصب منه ولدا إلى أن مات.
ولم يكن لها فضيلة أو خلة تحمد عليها أو تجذب حب رجل غير أنها أرمل مسلمة. وكان الإسلام في أول شأنه، وقد عقد عليها في عام الحزن الذي توفي فيه أبو طالب وخديجة، وهو العاشر من البعثة، فجاءت أرملة حزينة، لا فرحة ولا مرحة، ولا جميلة ولا سرية. وإن تكن قرشية أبا وأنصارية أما؛ فأمها الشموس بنت قيس بن النجار؛ فهي من وسط العرب ولكنها لم تكن على شيء، لعل الرسول تزوجها في ساعة غم وحزن وحاجة إلى خدمة البيت، فتقربت إليها امرأة بخطبتها، وهي من النساء (رضي الله عنها) اللواتي يندم الرجل على العقد عليها بعد الوقوع معها! وقد يكون لها يد في بعض أكدار النبي في بيته، ولكنه صبر عليها ومات وهي في عصمته، وأراد النبي أن يطلقها فبكت وتوسلت وكادت تقضي نكدا وقالت: «لا تطلقني يا رسول الله ناشدتك ربك، وأمسكني رحمة ولا تتركني عرضة للضياع بعد أن دخلت بيتك.» فأشفق عليها وأمسكها فقالت له: «أجعل يومي لعائشة.» تريد بذلك أن تعفيه من عشرتها، فنزلت آية:
فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما .
وروت بعض الأحاديث ومثلت دورا غير محمود في تحريض بعض السيدات على الفتنة! وعمرت إلى آخر خلافة عمر. (3) صفية بنت ثابت
هذه السيدة الإسرائيلية أصلا وأهلا ونسبا بنت حيي بن أخطب، وهي من بني النضير من سبط ليفي وأمها برة بنت صمويل. أما نسبتها إلى هارون وموسى فنسبة تابع إلى نبي، ورعية إلى ملك؛ لأن إحدى زوجات النبي قالت لها: أنا بنت فلان الصحابي، وأنت بنت من؟ فبكت فقال لها الرسول أجيبي أنك بنت هارون وموسى؛ تطييبا لخاطرها، ولا يعلم لها صلة ببيت آل عمران.
وكانت صفية زوجا لشاعرين من بني إسرائيل متعاقبين؛ وهما سلام بن مشكايم، ثم كنانة بن أبي الحقيق. فوقع كنانة في معركة خيبر قتيلا فلما افتتح الرسول خيبر وجمع السبايا تقدم إليه دحية بن خليفة في طلب إحداهن فأذن له الرسول في واحدة منهن، فأخذ صفية فقيل للنبي: يا رسول الله، إنها سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك. فقال الرسول لدحية: خذ جارية غيرها يا دحية. ففعل.
وأعجب رسول الله بعقل صفية وحديثها وحيلتها؛ فقد أدخلت السرور على قلبه بقولها: إنها رأت قمرا وقع في حجرها. فذكرت ذلك لأبيها فضرب وجهها ضربة أثرت فيه، وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب! فلم يزل الأثر في وجهها.
واللطيف في هذا الخبر أن بني إسرائيل يرون دائما أحلاما تصدق وتصح كفلق الصبح، كما وقع ليوسف بن يعقوب. وفي عبارة أبيها الذي كان ماهرا في التفسير مهارة سيجموند فرويد: «إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب» ما يدل على أنه كان يفهم أن الحلم يعبر عن رغبة مكبوتة، وأنها تتمنى أن تكون عند ملك العرب، فضربها عقابا لها على رغبتها وطمعها في ترك ملتها وقومها لتدخل في حيازة الرسول؛ والدليل قوله: «تمدين عنقك»؛ أي تتطلعين، وليس المقصود به يطول عمرك، ولو علم أن الرؤيا أتتها بغير رغبة منها لما عاقبها ولا ضربها ضربة تترك أثرا؛ فكأنه جعلها مسئولة عن رغبتها ولم يفرح بذلك. ويدل قوله أيضا على أنهم كانوا يعتبرون الرسول ملك العرب؛ لأن النبوة عندهم اقترنت دائما بالملك؛ فكان داود وسليمان وشاول وغيرهم ملوكا.
وهكذا كانت نظرة أبي سفيان إلى الرسالة حتى الساعة الأخيرة، فقال للعباس: «لقد صار لابن أخيك ملك كبير.» فقال له: «بل هي النبوة يا أبا سفيان.» فلم يدخل في ذهن أبي سفيان تفريق بين الاثنين؛ رسالة الله وسلطة الملك. وهكذا كان ثابت بن الفاكه والد صفية وصهر رسول الله رغم أنفه، كان يكره أن تكون ابنته للنبي العربي زوجا.
وقد يكون الرسول قد تذكر عذر زينب تلك اليهودية الأخرى التي دست السم للرسول وصحبه في زند ذبيحة، وتذكر قسوة قلبها وجفاء طبعها وشدة عنادها وإصرارها على الجريمة وتطوعها في قتله كما تطوعت يهوديت في قتل هولفرن الفاتح؛ فلان قلبه لصفية لما رأى الفرق بين تلك التي كانت تصبو إليه من صغرها وهي أصيلة نبيلة في قومها، وبين تلك الأخرى التي فطرت على الجريمة، فنظر إلى صفية بعد حديثها فحجبها وأعتقها وتزوجها وقسم لها. وقد كان زوجها القتيل من أصحاب الآطام والحصون، واسم حصنه القموص. ولم تكن صفية يوم سبيها كاسفة البال حزينة على فقد أهلها وسقوط مجد زوجها وتهدم آطامهم، بل روعت روعة لا يغفرها قلب رحيم وإن غفرها الرسول لبلال لمكانته وحبشيته؛ فإن للأحباش نزوات سببها النشأة الأفريقية وإن كانوا من الجنس السامي؛ فقد مر بلال بصفية وبنت عمها على قتلى اليهود مجندلين في الميدان، فلما رأتهم بنت عمها صكت وجهها ولطمت خديها وصاحت وحثت التراب على رأسها، وهي علامة حزن ورثها اليهود من جنسهم وعلموها المصريين في الحداد على موتاهم، وبئس ما ورثوا وأورثوا؛ فغضب رسول الله وتأثر، فإنه لا يوجد منظر يهيج عواطف الرجل الكريم كمنظر امرأة تندب قتلاها، فقال: «أغربوا هذه الشيطانة عني.» وقد رأى صفية لم تفعل شيئا من الذي فعلت بنت عمها فأعجبه ثبات قلبها وصبرها وعقلها؛ فحازها خلفه وغطى عليها ثوبه فعرف الناس أنه اصطفاها؛ فكان لها من اسمها نصيب في حب محمد
صلى الله عليه وسلم . ولكن الرسول لم يغفل شكوى الباكية الناعية النادية، وإن أمر بإقصائها فقد حاسب بلالا على فعله حسابا عسيرا وقال له: أنزعت منك الرحمة حتى تمر بامرأتين على قتلاهما؟!
وعجيب أن يقع هذا الأمر من بلال وهو الذي تعذب وتألم معظم حياته؛ فخطف من أهله في الحبشة وكان من بيت كريم، وبيع رقيقا كما بيع سلمان، وبقي في الخدمة والعبودية وذل الرق إلى أن أسلم، فتولى سادته تعذيبه عذابا يفوق الوصف؛ فكانوا يطرحونه على ظهره في بطحاء مكة في وجه الشمس ويضعون على صدره حجرا، ويغرون الصغار به فيرجمونه ويسبونه وهو لا يفتر عن الذكر «أحد! أحد! أحد!» إلى أن اشتراه أبو بكر بماله وأعتقه؛ فانضم إلى دار الأرقم ولزم النبي في غدواته وروحاته.
فهل قسا قلبه من شدة ما ذاق، أم صار المرور بفتيات على قتلاهن في نظره أمرا هينا في جانب ما رأى في نفسه؟ نحن نربأ به عن أن يكون قد تخلفت لديه رغبة في رؤية تعذيب الآخرين، ونعتبر أنه فعل ما حاسبه عليه الرسول هفوة وسهوا؛ فقد دل تاريخ حياته على الخير، ولكن هذه القصة تبرز ناحية من حنان الرسول ودقة إحساسه؛ فهو إن غضب على اليهودية النواحة الندابة فلم يقصر في محاسبة بلال حتى نسب فعله إلى قلب نزعت منه الرحمة.
أما صفية فقد كانت من الجمال بمكان عظيم؛ فأحدث زواجها بعض الغيرة؛ فذهبت عائشة متنقبة إلى باب المدينة لتراها بعد أن سمعت عن جمالها ما سمعت، فعرفها الرسول.
وكانت حفصة وعائشة تتفاخران عليها وتتساميان بأنهما بنتا عم الرسول وبنتا صاحبيه، وامتعضت أم سلمة يوما من تحدث الرسول إلى صفية في يومها وما زالت تسميها اليهودية مع أنها أسلمت وحسن إسلامها وصارت من أمهات المؤمنين! حتى زينب بنت جحش طلب إليها الرسول أن تقفر صفية جملا من جمالها؛ لأن جمل صفية برك في بعض الطريق أثناء العودة من الحج، وكانت بنت جحش من أكثر الناس جمالا في هذه الرحلة، فقالت: «أنا أقفر يهوديتك؟!» وهو جواب جاف غير كريم، فغضب رسول الله وهجر بنت جحش ثلاثة أشهر، وروت صفية أنه صحبها مرة من المسجد إلى بيتها فرأى رجلين من الأنصار، فلما رأياه مع سيدة رجعا فقال: تعاليا فإنها صفية. فخشي أن يكونا ظنا به سوء الظن فعرفهما بأنها زوجته، فقالا: نعوذ بالله! سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم. هذا هو النبي المعصوم الذي رأى أن يبرئ نفسه أمام رجلين من أهل المدينة عرفاه ورأياه في صحبة امرأة فأراد أن ينفي عن نفسه اصطحاب امرأة في الطريق دون أن يصرح باسمها؛ ليكون فوق الشبهات، وهو فوقها فعلا.
وقد توفيت صفية عن غير عقب في العقد الرابع للهجرة. (4) رملة أم حبيبة
وهي أخت معاوية وبنت أبي سفيان صخر بن حرب، قرشية أموية بنت أعدى أعداء رسول الله وقائد المشركين في المواقع، وكانت في الجاهلية زوجة عبيد الله بن جحش، وأمها صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن عفان، ولما بلغ الخبر إلى أبي سفيان قال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه! وهي العبارة التي نسبت إلى ورقة بن نوفل عند زواج الرسول من خديجة، ويظهر أنها عبارة اصطلاحية كانت تقولها الأصهار في مدح الزوج كما تقال الآن عبارات مشابهة «بالرفاء والبنين» أو «على الطائر الميمون»، وهي تلقي شعاعا على آداب الاجتماع العربي. ولا نظن أن مصاهرة الرسول ألانت من قلب أبي سفيان؛ فقد هدر الجاهليون دماء أقاربهم الذين أسلموا، وفرق الدين الجديد بين الآباء والأولاد والبنات والإخوة. أما عبد الله بن جحش زوجها الذي هاجر بها إلى الحبشة فقد ضاق ذرعا بالهجرة والحرمان من الخمر وفاقة البعيد عن وطنه فحسن لرملة عليها الرضا أن تتنصر فأبت وثبتت على إسلامها، فتنصر وسكر وعربد وهلك، فأرسل الرسول يخطبها وطلب من النجاشي أن يجهزها، فدفع صداقها لخالد بن سعيد بن العاص أربعماية دينار من الذهب الحبشي وأولم النجاشي للحاضرين وليمة، وكلف شرحبيل بن حسنة أن يصحبها إلى المدينة؛ فركب بها البحر من إحدى موانئ الحبشة إلى ينبع أقرب الطرق إلى يثرب، فوجدت أخاها معاوية في صحبة الرسول. وتوفيت سنة 44ه.
وكانت أم حبيبة على جمال ونسب، وقد ظن الأغيار أنه زواج سياسي أراد به الرسول أن يتألف قلب أبي سفيان، ولكن الرسول أراد أن يرضي أم حبيبة ويكافئها على أنها خذلت زوجها الذي كفر بعد أن آمن، ولم يفكر في أبي سفيان لأنه يعرفه معرفة جيدة فلم يكن بالذي يلين ما دامت وراءه هند، ولو كانت صحبة الأقارب تلين قلوب الطغاة لكان اتصال معاوية بالرسول وأنه كاتب الوحي كافيا لهداية أبيه وأمه.
وكانت أم حبيبة ذات خلق قوي؛ فلما جاء أبوها إلى المدينة قبل الفتح لما أوقعت قريش بخزاعة ونقضوا عهد رسول الله فخاف، فجاء ليجدد العهد خداعا منه وخنوعا، فدخل على ابنته أم حبيبة فلم تتركه يجلس على فراش رسول الله وقالت له: أنت مشرك وبك نجاسة فلا أحب أن تدنس فراش رسول الله. فقال: لقد تغيرت علي يا بنية!
وقد يعجب القارئ من مسلك البنت حيال أبيها، ولكن ما قاساه المسلمون على أيدي هؤلاء المشركين كان مما لا يطاق ولا يغتفر. وكفى أبا سفيان نجاة بنفسه أنه دخل المدينة وأقام فيها ما أقام وخرج منها سالما، ولو دخل مكة كبير من المسلمين لذاق العذاب ألوانا إن لم يقطعوه بالسيوف. (5) حفصة بنت عمر
أبوها ابن الخطاب، وأمها زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، من أوائل المسلمين، وشقيقها عبد الله بن عمر، وكانت من المهاجرات، وزوجها الأول خنيس بن حذافة السهيمي ممن شهد بدرا وتوفي في المدينة، فلما تأيمت ذكرها عمر لأبي بكر وعرضها عليه فلم يرد عليه كلمة فغضب عمر، فعرضها على عثمان حين ماتت رقية بنت رسول الله، فقال عثمان: ما أريد أن أتزوج اليوم بعد رقية. فانطلق عمر إلى رسول الله فشكا إليه عثمان فقال رسول الله: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة.
فخطبها الرسول لنفسه وزوج عثمان من أم كلثوم بنته من خديجة، ولقي أبو بكر عمر فقال: لا تجد علي في نفسك؛ فإن رسول الله ذكر حفصة لنفسه فلم أكن لأفشي سره، فلو تركها لتزوجتها.
وكانت حفصة شديدة كأبيها، قال عمر: راجعتني امرأتي في شأن من الشئون فانتهرتها فقالت: عجبا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن أراجعك في أمر وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان!
وطلقها الرسول تطليقة، ثم ارتجعها لأنها صوامة قوامة، ولكن لما طلقها الرسول حزن عمر وقال: «ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها!»
ودخل عليها بعد ذلك فوجدها تبكي فقال: إن طلقك رسول الله مرة أخرى لا أكلمك أبدا! وماتت في سنة أربعين للهجرة . (6) عائشة
هي أشهر نساء الرسول وأكرمهن عند الله وأظهرهن أثرا وأعطفهن على الرسول وأقربهن إلى قلوب المؤمنين بعد خديجة بنت خويلد.
ولكن لا نغمط حق عائشة ونشيد بفضلها وعلمها ونحمد لها حبها لرسول الله وحبه إياها. وإن يكن عدل بينها وبين بقية أزواجه شرفها أنها بنت أبي بكر الصديق وأمها أم رومان بنت عامر الكنانية، تزوجها الرسول قبل الهجرة بسنتين بعد وفاة خديجة بأشهر، خطبتها له خولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون، وخطبت في الوقت نفسه سودة بنت زمعة لأنها آمنت به واتبعته على ما هو عليه، فأرسلها الرسول إلى أم رومان فدهشت وقالت: وهل تصلح له وهي بنت أخيه؟! وهكذا قال أبو بكر عندما سمع، ولكن الوالد والوالدة فرحا بما أدخل الله عليهما من الخير والبركة.
وها قد رأينا الرسول نفسه يزوج ابنتيه رقية وأم كلثوم من عثمان، وعمر يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ثم على عثمان، فلم ندهش لأن هذه عادة العرب، ولم يكن يحسب للفرق في السن حساب بين الرجال والنساء، وكل ما قيل في هذا الباب يعذر صاحبه؛ لأنه يقيس على أحوال هذا الزمان، وكان الكبراء يتقدمون إلى أصدقائهم بخطوبة بناتهم جريا على هذه العادة، ولكن عائشة حازت محبة رسول الله ففضلها على بعض نسائه دون أن يجاوز العدل بينهن، ولكن غيرة النساء لا تعرف حدا ولا قاعدة ولا رحمة، وقد سرى بغض النساء إلى الرجال فأخذوا يتقولون ويتوهمون ويخلطون ويغلطون. نال رجل من عائشة عند عمار بن ياسر فقال له: اغرب مقبوحا منبوحا، أتؤذي حبيبة رسول الله؟! وكان إذا روى عنها أحد الصحابة يقول حدثتني الصديقة بنت الصديق البريئة المبرأة. وكانت من أفقه الناس وأحسن الناس رأيا في المسائل العامة، وقد نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة، وروى عنها عمر بن الخطاب وكثير من الصحابة، ولم ترزق من الرسول ولدا، وتوفيت في آخر العقد السادس الهجري.
ومن أشهر حوادثها بعد وفاة الرسول وقعة الجمل، ومما أضامها في حياتها حديث الإفك، وهو طويل، ووفاة أخيها محمد بن أبي بكر بعد فتنة عثمان. وكانت شديدة الذكاء قوية الذاكرة تروي الحديث والفقه والشعر وتاريخ الرسول. وكان في زواجه منها نعمة؛ لأنها كانت بشبابها وفطنتها ونسبها أقدر على مراقبة حياة الرسول ووصف أعماله وادخار سنته والحرص عليها، وكانت أبعد النساء عن الشبه؛ فقد كان لها من شرف والديها وعفة أمها ومجد الرسول وعظم شأنه وتعلقها به ما يصونها عن كل سوء ويجعلها بأرفع مكان من العفة والجلال. وكانت عائشة ذات كبرياء وكرامة تأبيان عليها التدني، ولو علم أحد عليها من سوء ما تجرأت أن تخاطب أحدا من الصحابة بالشدة التي كانت تخاطبهم بها بعد وفاة الرسول بأعوام كثيرة. (7) زينب بنت جحش
وهي أخت عبد الله بن جحش زوج أم حبيبة الذي هلك في الحبشة بعد أن تنصر وأدمن الخمر، أبوها من أسد بن خزيمة وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكانت قديمة الإسلام ومن المهاجرات، وتزوجها زيد بن حارثة مولى النبي ليعلمها كتاب الله وسنة رسوله، ثم إن الله زوجها النبي من السماء وأنزل:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها (الآية).
فتزوجها الرسول سنة 3 من الهجرة، وقيل بعد أم سلمة. وكانت كثيرة الخير والصدقة، وكان اسمها قبل زواجه برة فسماها زينب.
وتكلم المنافقون وقالوا إن محمدا يحرم نكاح نساء الأولاد وقد تزوج امرأة ابنه زيد؛ لأنه كان يقال له زيد بن محمد؟! قال الله تعالى:
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، وقال:
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ؛ فكان يدعى زيد بن حارثة.
وهجرها رسول الله لما قالت لصفية بنت حيي تلك اليهودية.
قالت عائشة: لم يكن أحد من نساء النبي تساميني في حسن المنزلة عنده إلا زينب بنت جحش. وبسببها نزل الحجاب. وكانت صناع اليد تعمل بيدها وتتصدق به في سبيل الله. وكان نساء النبي كلهن يحججن إلا سودة وزينب؛ فإنهما كانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد إذ سمعنا من رسول الله: أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا. فتوفيت سنة 20ه قبل سواها. أرسل إليها عمر بن الخطاب 12000 درهم كما فرض لنساء النبي، فأخذتها وفرقتها في ذوي قرباها وأيتامها وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بن الخطاب بعد هذا.
وشهدت فيها عائشة بأنه لم يكن خيرا في الدين وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم أمانة وصدقة من زينب. وكانت أواهة متخشعة متضرعة، وقد وصف بهذا الوصف في القرآن إبراهيم الخليل، وصلى عليها عمر بن الخطاب ودفنت بالبقيع. وأول من صنع لها نعش، ودخل قبرها أسامة بن زيد ومحمد بن عبد الله بن جحش وعبد الله بن أبي أحمد بن جحش.
وماتت راضية مرضية بعد أن اشتهرت بجمالها وعفتها ورغبة الله في زواجها من رسوله. (8) ميمونة
بنت الحارث بن حزن الهلالية. وكانت قبل الرسول عند أبي رهم بن عبد العزى، تزوجها الرسول بعد صفية في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة 7ه، وقد عرضها عليه العباس بن عبد المطلب وهو حلال بعد العمرة، وطهر زواجها وهو محرم، وبنى بها الرسول وهو حلال بسرف بطريق مكة، وماتت بسرف حيث بنى بها الرسول ودفنت هناك. وقد حدث الزواج أثناء الأيام التي سمح بها أهل مكة للمسلمين أن يدخلوا مكة للطواف بعد صلح الحديبية. فلما فرغ الرسول من عمرته أتاه سهيل بن عمرو في نفر من أهل مكة فقالوا: يا محمد، اخرج عنا؛ فاليوم آخر شرطك. وكان شرط في الحديبية أن يعتمر من قابل ويقيم بمكة ثلاثا، فقال: دعوني أبتني بأهلي وأصنع لكم طعاما. فقالوا: لا حاجة لنا بطعامك! فخرج فبنى بها بسرف قريب مكة. (9) جويرية
جويرية الخزاعية بنت الحارث بن أبي ضرار ... بن جذعة وهو المصطلق من نسل الملوك، سباها رسول الله في يوم المريسيع من غزوة بني المصطلق سنة 5 هجرية، وكانت زوج مسافع بن صفوان، فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبته على نفسها لتسترد حريتها بمال رضيه ثابت، وكانت سيدة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله تستعينه في كتابتها أي تطلب منه مددا لتسد لثابت ما اشترطته على نفسها ليخرج عنها ويتركها طليقة.
قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها وقلت سوف يرى الرسول من حسنها ما قد رأيت! فلما دخلت عليه قالت: يا رسول الله، أنا جويرية (تصغير جارية وجويرة تدليل) بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك، وقد كاتبت على نفسي فأعني على كتابتي. فقال الرسول: أوخير من ذلك؟ أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك؟ فقالت: نعم. ففعل وعلم الناس بذلك فأطلقوا بني المصطلق؛ فقد صاروا أصهار رسول الله فأعتق الله بها مائة أهل بيت من بني قومها؛ فكانت عظيمة البركة عليهم لحبها الحرية وجرأتها، وكان زواجها بعد زينب بنت جحش، وكانت كثيرة العبادة والتسبيح، ومات الرسول ولم يعقب منها ولدا.
معاملة الرسول للمرأة
اختص الله رسوله بخصائص في كل شيء لم يجعلها لأحد من عباده تشريفا لقدره وتنبيها للناس أنه ليس كأحد منهم فجاء في «الأحزاب»:
ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما (آية 51).
وهذه الحرية في الاختيار لم يعطها الله للرسول إلا بعد أن جعل لأمهات المؤمنين حرية الاختيار بين البقاء والتسريح، فقال:
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (سورة الأحزاب).
يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا (الأحزاب).
ثم تتلو أربع آيات من جواهر القرآن وهي:
ومن يقنت منكن لله ... (الآية)، و
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ... ، وآية:
وقرن في بيوتكن ... ، و
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ... (الآية).
وإذن كان الرسول يتبع في حياته البيتية أوامر الله ونواهيه، ويطبق على حياته الخاصة نصوص القرآن، ولم يشترط عليهن حرية الإرجاء والإيواء إلا بعد أن منحهن الله حرية البقاء والتسريح الجميل؛ وهو الطلاق. وقد كان طوال حياته - عليه الصلاة والسلام - مثال العدل بين زوجاته، ولا نركن كثيرا إلى ما رواه صاحب حسن الأسوة من قول الرسول: «هذا قسمي فيما أملك ولا تلمني في ما تملك ولا أملك» تبريرا لتعلقه بعائشة وميله إليها؛ فقد قضى خمسا وعشرين سنة في زواج السيدة خديجة وكانت تكبره سنا، ومعظم نسائه أرامل وأيامى؛ فلا غبار عليه إذا ركن أياما إلى عائشة؛ فليس في هذا ما ينافي العدل أو يشعر بمخالفة الإنسانية؛ فقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بشرا ولم يكن ربا، وكان إنسانا لا ملكا، ولم تغمض للقرآن عين عن هذه الحقيقة، ولم يصمت له لسان عن الإفاضة بها في مواضع كثيرة. وعصمة الأنبياء إنما تكون عن الكبائر والمعاصي، وكان النبي من هذه الناحية معصوما، فلا يؤاخذه في ميله إلى بنت أبي بكر إلا جاهل أو متعمد سوء. وقد أثبتنا بالأدلة التاريخية والعقلية أن تعدد زوجاته لم يكن لشهوة وإنما كان لمصالح المسلمين. وكذلك ادعى وتجنى من زعم أن قدرته على النساء كانت كقوة أربعين كما جاء في ابن سعد، واتخذ منه بعض المستشرقين حجة؛ فليس من المعقول أن جبريل الذي نزل بالوحي جاء لصاحبه بقدر أكل منها «الكفيت»، وهو لفظ غريب لا معنى له، وقد كان ابن سعد إلى حد ما غير متحرز في كل ما ينقل.
غير أن حنان النبي وأدبه وحياءه أبت عليه أن يطلق سودة بنت زمعة التي عقد عليها بعد وفاة خديجة؛ لأنها رجته أن يبقي عليها نعمة الانضمام إلى بيته، وقد وفى الله جنس المرأة اللطيف حقها في سورة جعلها باسم جنسها، ومنها آية تلقي شعاعا هاما على حديث سودة وتفضيل عائشة عليها:
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ... فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما (سورة النساء).
قيل إن الرسول تزوج من سودة بعد وفاة خديجة بشهر، وخطب عائشة بعد زفاف سودة بشهر، وقال إن فيها خلفا من خديجة وقد أرتها في المنام مرتين، وأوصى بها أمها قائلا: «ألم أوصك أن تحفظيني فيها.» ولم تزف إليه إلا بعد الهجرة فكان لعائشة منزلة عند أهلها وهم لا يشعرون بأمر الله فيها، إلى أن خطبها الرسول فكان لها في الإسلام ما كان من النفع والخير، فأتمت فعلا ما بدأته خديجة وأعانت أباها وزوجها في الأمر. وخطب النبي بعد فترة حفصة بنت عمر بن الخطاب بعد ترملها، فعرضها أبوها على عثمان وأبي بكر، فأخذها النبي لنفسه لأنها صوامة قوامة، وهي التي احتفظت بالمصحف كاملا سلمته إلى عثمان في خلافته؛ فكان نشره في بلاد الإسلام.
وفي السنة الرابعة للهجرة عقد الرسول على أم سلمة بعد أربعة أشهر (عدة المتوفى) من استشهاد زوجها، وكانت من خير النساء وإن كانت شديدة الغيرة، وهاجرت إلى الحبشة وعاهدت زوجها أن لا تتزوج بعده وأن لا يتزوج بعدها، فلما استشهد أبو سلمة في أحد دخل عليها رسول الله ليعزيها فذكر ما أعطاه الله وما قسم له وما فضله به، وكانت السيدة عاقلة عفيفة لها موقف جليل في الحديبية، وكان أبو بكر خطبها فردته ثم خطبها عمر فردته، ولكن النبي سمعها تدعو: اللهم آجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها. فاستجاب لها.
وكانت أم سلمة تعتذر للرسول بسنها وغيرتها، فقال لها: أنا أكبر منك، وأما الغيرة فسأدعو الله أن يبرئك منها. وعرف الرسول لأرامل المهاجرات فضلهن وفضل أزواجهن فبعث إلى الحبشة في طلب أم حبيبة، ولكن أم حبيبة كانت أجدرهن عناية وأخلقهن بعطف الله ورسوله؛ فقد تخلى عنها حليلها في الحبشة وتعلق بالخمر والمسيحية، وهي بنت أبي سفيان شريفة في نسبها متمسكة بدينها على نقيض زوجها الذي أهلكته الخمر، فقبلت خطبة الرسول عندما أخبرها النجاشي، وجهزها وأصدقها وبعث بها في كرامة زوجة المعجب الصديق إلى المدينة في حراسة وفد من عنده انضم إلى الوفد الذي بعثه الرسول لخطبتها.
ولهجت الألسن في مكة بأن محمدا تزوج من أم حبيبة تأليفا لقلب أبيها، ولم يذكروا أنه اتخذها جزاء لها على وفائها لدينها وعفتها كما فعل بأم سلمة، ولم يذكروا أن أخاها معاوية، وهو ابن أبي سفيان كاتب الوحي، ومن الصحابة الذين لهم عند الرسول كرامة، وأن في زواجها تقديرا للمهاجرين جميعا وتوثيقا للألفة بين الرسول وبين عاهل الحبشة.
وفي السنة الخامسة عقد الرسول على زينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة.
ثم عقد على جويرية فأعتق بسببها كثيرا من رقاب الأرقاء، وبعد خيبر تزوج صفية بنت ملك اليهود، وتلتها ريحانة في السنة السادسة ثم ميمونة، وكانت له غيرهن مارية القبطية التي ولدت إبراهيم، وعددهن جميعا تسع نسوة عشن في بيوت مختلفة كلها تنفذ إلى المسجد.
كان الرسول غيورا على نسائه وإن كن في حصن حصين وحرز حريز، ولكن الغيرة غريزة الرجال ومن فضائل الزعماء. قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فقال
صلى الله عليه وسلم : «أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني» (صحيح البخاري، ج3، ص26، طبع بولاق).
ورأى أخا عائشة في الرضاع، قالت: «فرأيت الغضب في وجهه» (أخرجه الشيخان).
وحرم الله على نساء الرسول أن يتخذن بعده بعولة. وكان سخيف سفيه اسمه طلحة بن عبد الله زعم أنه يتزوج عائشة بعد وفاة الرسول، فطمع في أم المؤمنين في حياة زوجها وهو خير الرجال! وعزم النبي - عليه الصلاة والسلام - على قتل قبطي وجده في بيت مارية ففر القبطي من وجهه وتسلق نخلة، فأبان عن نفسه أنه خصي فنجا من الموت.
وفاخرت عائشة ضرتها صفية بوالدها أبي بكر الصديق، فقال الرسول لصفية: وأبوك هارون وعمك موسى.
وكان الرسول صبورا عليهن جميعا إلا ما طغى من أمور المرأة في الجدال، فكان يقفهن عند حدودهن، وبدت بوادر الغيرة على أم سلمة فقالت: تتحدث مع ابنة اليهودي (صفية) في يومي وأنت رسول الله؟!
معذرة! فقد أنذرته - عليه الصلاة والسلام - بغيرتها وهي وفية بفطرتها حتى عاهدت زوجها الأول على عدم الزواج من غيره بعده، ولولا مكانة الرسول وهيبته وتعظيمها إياه ما قبلت رجلا، وقد رفضت صحابيين جليلين صارا فيما بعد خليفتي الرسول وأميري المؤمنين، وكفاها فضلا أن قبلت بقسمة الأيام بينها وبين زوجات منهن عائشة وصفية ومارية وبنت جحش، وليس في كلامها شيء إلا أنها تبالغ في تدقيق المحاسبة على كلمة تعرف أنها من نصيبها، ولكن الرسول يبتسم ويتلطف، فإذا قسا أبو بكر على عائشة لهفوة بدرت أو زلة لسان عاتبه الرسول: «ما دعوناك لهذا يا أبا بكر!» ثم ينسى ويصفح عن عائشة - رضي الله عنها. حتى كانت زوجة عمر تحتج لديه بحسن أخلاق الرسول مع نسائه فتقول له: إن ابنتك (تعني حفصة) لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان!
وكان الرسول يعين نساءه في أعمال البيت، قالت عائشة: كان النبي في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام للصلاة. وهو الذي نزل على لسانه قول الله:
الرجال قوامون على النساء .
كان الرسول رحيما رءوفا بالنسوة، وقد أنصفهن الله على يديه في القرآن وفي السنة، وإن يكن رأيه فيهن ليس جميلا كل الجمال؛ فالشريرات منهن في نظر العقلاء أصل الشر وجرثومة الفساد ومصدر البلاء، وقد يجد الإنسان رجلا صالحا في ألف رجل، ولا يجد في ألف ألف امرأة خيرة، وقد كان للنبي عدوات منهن في مكة ألحقن به أذى شديدا وبأولادهن ممن أسلموا، ولكن الرسول لم يجعل لرأيه الشخصي وزنا في جانب أحكام الله، ولم يعاملهن بما يستحققن على نكرانهن الجميل وبطرهن وثرثرتهن وطيشهن وتعلقهن بالدنيا وتفاخرهن بالآباء.
ويكفي تذكر امرأتين من نوع هند وأم جميل زوجة أبي لهب ليثور أحدنا على الجنس كله، حتى قيل إن أكثر أهل جهنم من النساء. وأظن المقصود أنهن خليقات بالعذاب لما يأتينه من الفواحش وأسباب الخراب والتدمير وسوء الظن وألوان النكد والكيد كامرأة العزيز وبنات لوط، قال جيد في كتابه «دراسة في حياة المرأة»: يا امرأة أنت باب الشيطان!
وقد نهى الرسول عن الخلوة بالمرأة خشية الفتنة، واستشاره رجل في الخروج إلى الجهاد وترك زوجته تحج وحيدة فقال له: «انطلق فحج مع امرأتك.» (مسلم، ج1، ص380)، وحديث: «إنما الأعمال بالنيات» أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لأجل امرأة ذات جمال أراد زواجها، فجعل الرسول جزاءه من جنس نيته في هجرته: «ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها ...»
والتفت الفضل إلى حسناء شغلته في مجلس الرسول فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها (البخاري، ج3، ص158). وقال يحذر الرجال: «إياكم وخضراء الدمن.» فقيل «ما خضراء الدمن يا رسول الله؟» قال: «المرأة الحسناء في المنبت السوء.» وكان يقول: «اتقوا الدنيا واتقوا النساء.»
ولكن هذه الخواطر المحمدية لا تنطوي على رأي قاطع ضد المرأة؛ فهو
صلى الله عليه وسلم
يحبها ويذكر أمه وزوجته الأولى ويعطف عليها بسببهما، ولا ينسى فضل المرأة على الرجل ولا حنان أم موسى وأخته على سلفه في التوحيد، وتأبى رقة طبعه أن يجمع الرجل بين قسوة التأديب ولذة التشبيب: «يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ثم يظل يعانقها ولا يستحي؟» وكيف لا ينفر الرسول من هذا النوع من الرجال وفي الجمع بين الضرب والحب تناقض عجيب لا يصل إليه الرجل إلا إذا شارف على جنون بسبب خبث النساء! وإن يكن خبث البعض لا ينفي خير غيرهن. قال الرسول: الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة (مسلم، ج1، ص430)، واستوصوا بالنساء خيرا (البخاري، ج3، ص19) والمرأة راعية على بيت زوجها وولده (البخاري، ج3، ص23).
وكان الرسول أول من جاءه كتاب منزل يجعل للمرأة مكانة رفيعة؛ فيتحدث إليها ويخاطبها كما يخاطب الرجال، وفي سور القرآن مساواة بين الرجل والمرأة في توجيه الأوامر والنواهي ك
والحافظين فروجهم والحافظات ، و
والطيبون للطيبات ... إلخ. وقال: قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته (البخاري، ج3، ص177)؛ فاختص الرسول آل بيته بالذكر والصلاة والسلام عليهم في الصلاة؛ فهذه خصوصية لا شك فيها. وأوصى بالإنفاق عليهن وصيانة حقوقهن فقال: أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله (مسلم، ج1، ص274). وهو القائل: «الجنة تحت أقدام الأمهات.» فنظرة الرسول إلى المرأة نظرة احترام وتقدير وتحرير؛ فمناسك الحج تقتضي كشف الوجه، وفي مسلم (ج1، ص401) أمر الرسول لخاطب امرأة : «اذهب فانظر إليها.» وفي الفقه والسنة - ولا سيما الشافعي - يرى الرجل وجه مخطوبته ويديها وكعبيها. وعندما أمر الله نساء النبي بالحجاب قال:
لستن كأحد من النساء ... .
وإن يكن الله قد أمر نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن أي إطالة ذيول الثياب الظاهرة لأجل التمييز بين المصونات وبين الموالي:
يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما .
فإطالة الذيول من عادة ربات الحجال وطبقة الأغنياء عند مغادرة دورهن، وليس معناه ضرب الخمار دائما.
وإن ضرب الحجاب على نساء الرسول استجابة من الله لدعوة عمر بن الخطاب الذي كان بطبعه غيورا شديد الوطأة على الجميع، فقال: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! وقالت عائشة: كان عمر يقول لرسول الله: احجب نساءك. وكان بعض من دعوا إلى زفاف زينب بنت جحش قد أطالوا المكث في دارها بعد أن طعموا حتى خجلت العروس ولزمت مكانا قصيا من الغرفة، فخرج الرسول لينصرفوا فما انصرفوا وما ارعووا!
ولعمري لم يكن الإسلام ليبقي على كثير من خلائق الجاهلية إلا ما اقتضاه العرف القومي ولا ينتقض الدين؛ فقد ذكرنا من وظائف دار الندوة ما كان له صلة بالأبكار إذا بلغن، وذكر الفاكهي أن الطواف لم يكن للعمرة والحج بل كان للتبشير بالبنات (ص2، أخبار مكة) الطواف بالجواري الأحرار والإماء بمكة إذا بلغن، وجعلوا عليها حليا إن كان لهم، ثم أدخلوها المسجد الحرام مكشوفة الرأس بارزة حتى تطوف بالبيت والناس ينظرون إليها ويبدونها أبصارهم فيقولون من هذه، فيقال فلانة بنت فلان إن كانت حرة، ومولدة آل فلان إن كانت مولدة. وأوصى الإمام الشافعي أن السيدة نفيسة حفيدة الرسول تصلي عليه صلاة الجنازة فصلتها عليه. وكانت خديجة تصحب الرسول وعلي بن أبي طالب للصلاة بالمسجد الحرام. وكره عمر أن تخرج زوجته لصلاة الفجر بالمدينة فمنعها بحيلة. وكانت ميمونة أم المؤمنين تصلي في الدرع والخمار وليس عليها إزار.
واتخذت عائشة النقاب مرة عندما وصلت صفية اليهودية إلى المدينة، وسمع نساء النبي ونساء الأنصار بها وبجمالها فجئن ينظرن إليها وجاءت عائشة متنقبة حتى دخلت عليها فعرفها النبي (ابن سعد، ج8، ص90، طبع أوروبا).
وسيدتنا الطهور عائشة لم تتنقب لأنه عادتها، وإنما لتخفى على الناظرين، ولكن بعض سيدات المؤمنين لم يتنقبن. في البخاري عن سهل قال: لما عرس أبو أسيد دعا النبي وأصحابه فما صنع لهم طعاما ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد؛ بلت تمرات في قور من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي
صلى الله عليه وسلم
من الطعام أماتته له تتحفه بذلك (صحيح، ج2، ص19).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل. فقال أحدهم لابن عمر: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا. فقال ابن عمر: أقول قال رسول الله، وتقول لا تدعهن؟! (مسلم، ج1، ص129).
وفي مسلم، والبخاري (ج2، ص57): «من كانت له جارية فعالها فأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران.» قالت خولة بنت قيس: كنا نكون في عهد النبي وأبي بكر وصدر من خلافة عمر في المسجد نسوة قد تحاللن وربما غزلنا وربما عالج بعضنا فيه الخوص، فقال عمر: لا ردتكن حرائر! فأخرجنا منه إلا أنا، كنا نشهد الصلوات في الوقت.
ويؤيد رأينا في جعل الخمار للجميلات الأصيلات ما ذكره التيجاني قال: «وفرق القطان في كتابه المسمى بالنظر في هذا بين الإماء الحسان المصونات المقصورات الحاملات من الجمال أكثر مما تحمله الحرائر، وبين الإماء المتبذلات، فمال لوجوب التستر على من كان منهن بالصفة الأولى وسقوطه عمن كان بضد ذلك» (التيجاني، مخطوط بليدن، عدد 126).
قال المغيرة بن شعبة: «حصنت تسعا وتسعين امرأة ما أمسكت واحدة منهن على حب ولكني أحفظها لمنصبها» (الجاحظ في المحاسن والأضداد، ص219).
وأبى الله أن تعضل النساء بعد الإسلام كما فعل المغيرة فقال:
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن (سورة النساء).
وكانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها (تفسير الطبري، ج4، ص192).
واحترم الرسول إرادة المرأة في زواجها؛ فقد روى البخاري: تأيمت خنساء بنت خذام من زوجها، فزوجها أبوها وهي كارهة، فأتت النبي فقالت: يا رسول الله، إن أبي تقوت علي فزوجني ولم يشعرني! قال: لا نكاح له، انكحي من شئت. (البخاري، ج3، ص13. وأقضية رسول الله للقرطبي.) وقد أقر الإسلام المهر والخيار للمرأة.
وقال - عليه الصلاة والسلام - في خطبة الوداع: فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم كسوتهن ورزقهن بالمعروف (مسلم، ج1، ص347).
ونهى القرآن عن استرداد ما أعطى الرجل امرأته ولو كان قنطارا من ذهب:
وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض (سورة النساء).
الكتاب السادس
الوحي والنبوة والبعثة والرسالة
التحنث في الغار
تحيط بمكة جبال عالية عارية جرداء لا يروق مشهدها النظر ولا يستهوي شحوبها وجمودها قلب المتطلع إليها، وهي تارة حمراء زاهية وأخرى سوداء داكنة، كأن هذه وتلك خارجتان من أتون ما تزال ناره حامية، وتتزاحم هذه الجبال بالقمم والأعناق والمناكب كأنها جيش من العمالقة قد حشدته تعبئة خاطفة وأمرته قوة قاهرة بالمسير ثم أصدرت له أمرها بالوقوف فوقف متحفزا، وقد مضى على تحفزه ألوف السنين! تمر عليه السحب وتصبغه الشمس بألوانها وتعفره الصحراء برمالها وتهب الرياح في صفوفه وتنعكس أشعة الشفق عليه، كما تحتويه أشباح الغسق بقباء موحش من الظلام الدامس، وقد يطلع عليه القمر وتشرق عليه الكواكب فيبدو في ثوب أبيض بهيج، وهكذا تموت الألوان وتحيا بتنفس الصبح وغروب الفرقدين، وجيش الجبال واقف لا يتحرك، صابر على الرياح السافيات التي تصفعه وتلهب رءوسه بسياطها وتنفخ في آذانه بصفيرها. وتشق تلك الصفوف المتراصة أودية سحيفة ضيقة لا تتسق لأقدام جنوده الجبارة، ووراء هذا الجيش المرابط من الجبال بحر عجاج من الرمال المحرقة في الصيف والباردة في الشتاء، لا تقع العين فيها على شجرة أو زهرة ما عدا أشواكا قائظة تطل بأعناقها من جوف الأرض كأنها بقايا باقات أهدتها الشياطين إلى إناثها، فيرتد بصر الناظر إلى هذه المرئيات حسيرا كليلا، فيرفعه في رجاء إلى السماء فيرى غيوما متراكمة تبددها تارة أشعة الشمس أو أشعة القمر، وقد يبدو الفجر جميلا لأن في يقظته صحو العالم بعد سكرة الظلام والنوم، فيروقك أن تنظر إلى الغزالة وهي تصعد في الأفق، ولكن هذا المنظر ما يزال على وتيرة واحدة حتى يمله النظر وتزهد فيه النفس، وقد تشعر بالضجر الذي تشعر به الجنود الشامخة التي حميت أشعة النور على رءوسها فتشفق على ناصياتها التي ما فتئت تنهال عليها حرارة السماء والأرض ألوف السنين ولم تتفتت ولم تصب بضربة الشمس التي تصيبها بالجنون فتفلت من صفوفها وتضرب في الأرض ذات اليمين وذات الشمال أو تصطدم تحطم صدورها وكواهلها، ولكن الناظر يفيق إلى نفسه ذاكرا أن هذه الجنود المتلاصقة ما هي إلا جبال رواس لا تخطو خطوة ولا تنطق بلفظ ولا تخرج صوتا ولا تسمح حتى للعقبان والنسور أن تصرخ أو تبوح بسرها، وهل تضحك هذه الجبال منك أو تبكي عليك وهي التي شهدت مواكب العصور، وهل تجرؤ أن تذكر الأهرام تحت قدميها وأنت تنظر إليها، إن ألوف القرون تطل عليك من أعلاها لا أربعين قرنا وحسب، ولكن لم يستبح حرماتها فاتح أجنبي، وما تزال في عزلتها القاسية متمردة ثائرة تحمل في أعماقها همس الدهور البائدة التي مرت مرور الأحلام والرؤى على جبار ينام واقفا. ألا إنها صورة موحشة قد ترى فيها الجلال والرهبة ولا ترى فيها الجمال والطمأنينة إلا إذا تغلغلت في فؤادها وارتديت بردائها وتعمقت أحشاء الوحدة التامة والعزلة الدائمة.
إذا جن الليل وتراءت لك تلك الجبال تحجب الكواكب، وطورا تجود عليك برؤيتها كما يجود البخيل ببعض دراهمه، وأدرت نظرك الكليل من انسداد الأفق، رأيت أنوار مكة في الوديان القريبة من تلك السفوح المائلة فتبدو منازلها وقصورها وآطامها وحصونها المتناثرة كالكواكب حول بناء الكعبة القائمة في وسط المسجد الحرام كأنها مركز الدائرة، ولكن مكة أو بكة أو أم القرى التي أسسها إبراهيم في عصر سابق على موسى وإسرائيل لم تتخذ عن المدن الوارفة الظلال شيئا من بهائها ورونقها؛ فعاشت كجبالها وأحراشها المحيطة بها جرداء من الخضرة والأزهار والعشب والماء، فلا خميلة فينانة ولا حديقة مخضلة ولا ساقية دوارة ولا مسقاة جارية، لا تسمع فيها هدير نهر ولا انسياب غدير ولا وسوسة جدول، ولا تقع العين منها على شجرة أو ثمرة أو زهرة أو ورقة خضراء تسر الناظر أو تشرح الصدر.
وهذا شبح رجل يتسلل من بيته في شارع الحزامية ويسير في الظلام تارة وفي ظلال أشعة المساء طورا، إذا زال زال قالعا، يخطو تكفيا ويمشي هونا، ذريع المشية كأنما ينحط من صبب، إذا التفت التفت بجميع جسمه ليس في أعضائه ليونة، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، تراه العين فيدرك العقل شجاعته وقوة بنيته وصبره على الشدائد وصدق عزيمته.
يمر الساري بالأزقة الضيقة ويصعد في المرتفعات ويهبط المنخفض من الأرض ولا يلتفت في طريقه إلى أحد. لقد اتسعت حياته وامتلأت أيامه وابتسمت له الأعوام وعاش عيشة ابن بلده في عشرة الفضلاء، بعيدا عن أهل اللؤم والفساد، ولكن ها هو يقصد إلى مكان لا يعلمه إلا الله، وهو في سواد الليل الموحش ولكن قلبه عامر ونفسه مطمئنة؛ فهو منذ نشأته لا يخاف ولا يحزن ولا يكترث للأوهام ولا يوقر الأصنام، وقد حرر نفسه من قيود الوثنية والطيرة فلا فأل ولا شؤم وقد انبثق في نفسه ينبوع فياض بالجمال والتأمل، وطمحت روحه إلى مثل عليا لا يطيق التفكير في سواها. لقد كان في طفولته وصباه مصدر الفرح لأهله، فها هو صار رجلا ناضجا ورب أسرة وزوجا سعيدا يترك داره وأولاده في جنح الظلام، ويخرج ضاربا في الأزقة بقدم ثابتة يحمل في صدره سرا مكنونا، ويشعر في إبهام وغموض أنه حط عن كاهله عبء الحياة الدنيا ولكنه حمل أمانة كبرى يرى وميضها في لمحات صحوه ونومه، ولكنه لا يدري على التحقيق ما هي، يشعر أنه قد انطوى صدره على عالم كبير من المعاني السامية، ولكنه يرى الهوة السحيقة بين قلبه وقلوب قومه الجفاة الغلاظ الأكباد العائشين كالأنعام في ظلام دامس لا يحلو لهم إلا الاتجار والادخار والمعاقرة والمنادمة والزفاف وسماع القيان والسمر والطواف حول البيت العتيق الحافل بالأوثان. يذكر وهو يسير أنه سلخ أيام طفولته وشبابه في السياحة والأسفار، وأنه رأى بلادا غير هذا البلد وشعبا غير هذا الشعب، وطاف بأرض الشام بين وادي الأردن وبصرى ومشارف العواصم الكبرى، بيت المقدس ودمشق، وأنه رأى جبالا شامخة ولكنها خضراء مورقة، وعرضت لعين خياله ألوان زاهية بعد الصحراء المترامية وواحات غارقة في العشب والماء.
ورأى في تلك السياحة آثار مدن بائدة ودورا محفورة في الصخور وخرائب ينعق فيها البوم كانت لأمم سالفة لم تعر للأنبياء أذنا صاغية؛ فانتقل في طرفة عين من وحدة ضيقة تحد البصر وترده إلى وحدة فسيحة يضيع في مداها الطرف.
هل يذكر الرجل الناضج ما سمعه من بحيرا الراهب لأبي طالب: سيكون لابن أخيك هذا شأن عظيم فعد به إلى بلدك؛ فإنه النبي الذي يبعث وهو سيد العالم؟ أم أن أبا طالب أعادها على سمعه لما شب ونما فيما يعيد من أحاديث الذكريات؟ ألأجل هذا صدف في شبابه عن الأصنام وتنكب مخادعها عند الطواف بالبيت الحرام وأبى أن يضحي لها أو يأكل من لحوم ضحاياها؛ فظهر جفاؤه إياها في زواجه وتجارته وهو يرى شيوخ قومه وشبابهم ونسوتهم وأبكارهم يتسابقون إلى عبادتها والتقرب إليها والاستقسام لديها؟ فبأي سبيل هذا الرجل الذي يسري مطمئنا في الظلام وأي الأحلام يقفو وحده والناس نيام نوم الغفلة وغفلة السجود للأصنام؟
أيبحث عن الحقيقة في أعماق وجدانه أم يحرص على الحقيقة في حنايا ضلوعه، حتى إذا استوثق منها اطمأن إليها ورأى في جمالها وقوتها سلام نفسه وسلامة العالم؟
إلى من يتجه ليشكر ويحمد على من يثني لأن شبابه سلم من خبائث الجاهلية والشرك، ولأن نفسه بعدت عن مدارج الشهوات فظلت في صون وفي صفاء ؟ فمن أرادها على الصون والصفاء إلى أن استكملت نضجها ونموها بل إلى أن يشرع في الخروج والظهور من عالم المادة إلى عالم الروح، من عالم الحركة الصاخبة الخاطئة الآثمة إلى العزلة السامية؟ لقد عانى العسر والضيق أياما ولكنه نسيها في أكناف خديجة الزوجة الفاضلة النابهة. ترى فيم تفكر عندما تراه متسللا في ظلام الليل وأية لوعة لا تخالجها إذا علمت أنه يسير مصعدا إلى غار حراء؟ أليست واثقة من حبه ووفائه وعطفه وحدبه على أولادهما؟ ألم يذكر بحيرا عندما رآه رجلا بعد أن رآه طفلا وإن لم يكن بحيرا على قيد الحياة؟ ألم يره راهب آخر فبهره نوره الذي لا يعمى عنه إلا السواد الأعظم من أهل مكة؟!
ولكن صاحب هذا النور الوهاج والسراج الذي سوف يضيء العالم لم يكن في رأي ميسرة غلام خديجة الذي صحبه ليخدمه، لم يكن سوى رجل من قريش أهل الحرم، هل تكهن ورقة بن نوفل وهو ينظر إلى رءوس الجبال المحدقة بمكة كمن رفع له في القمم البعيدة طيف ينتظر معاده إليه، هل تكهن هذا المتحنف الفاني بأن في الجبل - جبل النور الشاخص في بياض شاهق على هيئة مربع متفاوت الأضلاع - طريقا مجهولة تخفي مدخلها قمم حمراء بلون الشفق، وراءها غار شهد في الماضي السحيق لوعة إبراهيم الخليل، ورنت في أركانها أصداء صلاته إلى ربه. هذا غار حراء الذي ما يزال ينتظر الرجل المختار الذي يعيد ملة إبراهيم، وما زال الغار كالهيكل الخالي ينتظر العابد والجسم البالي يبتسم للروح الذي يحل فيه.
هل أفضى ورقة بهذا السر العميق لخديجة فازدادت تعلقا بمحمد
صلى الله عليه وسلم
وخوفا عليه واستبشارا بمستقبله، ولكنها لم تثبطه ولم تضعفه ولم تخذله لتتمتع به شأن النساء الخائرات الخوارات اللواتي يخن الأمانة التي في أعناقهن لرجالهن المخلوقين لأعظم الأعمال، فيفضلن سلامة الأبدان - ولو على الضعة والهوان - على مسايرة الكوكب الصاعد في علاه!
ولكن الله عندما شاء هيأ الأحوال ومهد السبيل، فسبحانه القادر المريد لا حد لقدرته ولا راد لإرادته.
ها هو محمد يسري في الليل المهود الوسنان، ترى عينه سكونه ويمس القلب سكينته، وتكاد الأذن تسمع صوت صمته ونسيم الليل يسري رفيقا ينفح ظله، وتبدو له في هدوء الليل قمم الجبال، خندمة وأبي قبيس وأجياد وجبل النور. العالم الأرضي يبدو كأنه مستغرق في أحلامه، ولكن طرق مكة لا تنام ولا تفتر عنها الأقدام؛ ففي الطرق ذرافات متمهلة أو مسرعة، متحدثة أو صامتة تؤم بعضها البيت الحرام وبعضها مجالس اللهو والغرام، فهل رآه أحد منهم وعرفه؟ وهل حدثت أحدا نفسه بما ينطوي عليه قلبه؟
الليل هاجع والخليقة نائمة، ولكن هل القلوب الوالهة تهجع؟ وهل العيون الباكية تغمض؟ وهل الزفرات المرددة تسكن؟ وهل هذا القلب نفسه يغفل؟ لقد استوى ليله ونهاره، وعشيه وأبكاره، وتركزت فيه تبعة بل تبعات لا يعلم إلا الله مداها، وقد لا تحدثه نفسه بما يتبعها ولكنه متوجه شطر الغار كما تتوجه إبرة المغناطيس إلى القطب، ونازع إلى السر الأعظم نزوع الغريب إلى ولده وداره وقد ودع منذ هنيهة ولده وداره؟ أترى خديجة تفكر فيه وتصحبه روحها؟ محمد يريد الخلوة في هذا الزحام الإنساني والوحدة في هذا العباب والقرار في المحشر، ولذا هجر مضجعه وغادر مخدعه وخلف وراءه ولده وداره.
أقفرت الطريق واتجه محمد إلى الجبل، وضاق الوادي حينا ثم اتسع، فأخذ سمته صوب الشمال وقلبه ممتلئ بالاشتياق والسرور، وعلى وجهه التهلل والبشر، ثم مال يصعد في السفح الذي ينتهي إلى قمة شاهقة ملساء قطعة واحدة من الصخر قائمة كأنها لوح عظيم تكتب عليه يد الأقدار اسم الرجل الأوحد والإنسان الكامل، فسار مصعدا خفيفا لا يبالي الشوك والحصى؛ فقد سبق له أن صعد ولم تمنعه أطراف الصخور الحديدة كأنها أروى ترتع على السفح، سار في طريق معلمة يبين فيها بين الحين والحين تمهيد الإنسان. هنا حجارة مرصوصة يرتقى عليها، وهناك جدار صغير من حجارة مركومة أو مبنية تعصم الراقي أن يزل عن الطريق . تتابع صاعدا جاهدا منحنيا على المرتقى الصعب، وما في نفسه من رفعة المقصد أجل وأرفع، وما يبهر النفس من رهبة المكان أبهر وأروع مما يبهر عينه في توقل هذا الطود العظيم، وكأنما محمد يرتقي في التوحيد وحكمته، ويصعد في جلال الحق وعظمته، ويطمح إلى السماء لا إلى قنة حراء. أليس مقدما على مشرق النور ومطلع الحق ومهبط الوحي وملتقى السماء بالأرض؟ لكأن هذه اللمعات الكوكبية والأشعة المرتدة من هذه القمة الملساء العالية من منار الحق تتألق في حراء أو آي من القرآن الذي يوشك أن يهبط من السماء.
صعد ثم صعد حتى انتهى إلى صخرة فآوى إليها قليلا يستجم ويمسح عرقه ثم رقى تتلوى به الطريق ذات اليمين وذات الشمال. على ذروة الجبل بقية صدع في الصخر، وقف على الذروة يسرح العين حوله بين جبال وأودية ويرى مكة وجبالها ودورها وقصورها. ترى هل حاول أن يرى موضع الكعبة أو موضع داره وعياله؟ الكعبة ربما، أما بيته فلا. هذه قمة حراء فليهبط إلى الغار نحو اليمين إلى صخرة هائلة مائلة على الجبال، وتخلل مسلكا ضيقا قصيرا بينها وبين السفح إلى مستوى صغير، أهذه هي الطريق التي وصفها ورقة أم هداه الله إليها؟ فإذا أمامه سفح متقطع ينحدر إلى أرض سحيقة وعلى يمينه قمة حراء التي كان فوقها وعلى يساره الغار، غار حراء العظيم فجوة ضيقة تميل على مدخلها صخور تدعم بعضها حجارة، أما سعته فمرقد ثلاثة متجاورين - سعة الضريح سيرقد فيه بعد خمس وعشرين سنة هو وصاحباه في بلد ناء بعيد لم يزره إلا طفلا؛ لأن والده مدفون في إحدى نواحيه، وأما ارتفاعه فقامة رجل، وفي نهايته صدع ترى منه الأرض والجبال إلى مكة.
فلما بلغ غايته جلس.
وإلى هنا فر بنفسه، هرع إلى الله وهرب إلى ربه من ضوضاء الحياة وأكاذيبها، من مظالم الناس ومفاسدهم، من باطل المعتقدات وزورها، من نفاق مكة وأوثانها وبهتانها، فآوى إلى هذا الجبل إلى قلب الخليقة ولبها.
هنا طود أشم يطل على أودية ألحت عليها الشمس المحرقة ليس بها من معنى الحياة إلا نبت ضئيل، وليس بها من ذكرى الحياة إلا أثر السيل بعد المطر، ووراء الأودية جبال شامخة تتداول عين الرائي، وعلى بعد منها مكة والكعبة وبيت أبي طالب وبيت خديجة ومولده هو وقبور ولديه وجده عبد المطلب ... ولكنه ما جاء هنا ليفكر في الحياة والموت، ولكنه جاء ليفكر في الواحد الأحد والفرد الصمد الذي يخرجه من الظلمات إلى النور.
بين هذه الجبال والأودية وتحت هذه السماء الصافية حقائق لا يشوبها تمويه ولا تزوير ولا يلحقها تبديل ولا تغيير ولا يمسها رياء ولا نفاق، فر إلى هذه الحقائق لا فرار الراهب يترك العالم لينجو بنفسه، بل كما يلجأ إلى الشاطئ من يحاول إنقاذ إخوانه الغرقى، هنا جمع محمد نفسه وفتح قلبه وناجى ربه، وهنا تجلى الله لهذه النفس الزكية، وأضاء على هذا القلب الطاهر وأفاض عليه من نوره وطهره.
لله ما وعى هذا الغار من آيات! ويا عجبا كيف ثبت على هذه الرجفات!
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله .
نزول الوحي
لا شك عند أحد من المؤرخين وكتاب السير - سواء أكانوا من العرب أم من الإفرنج - أن النبي وصل سن الأربعين دون أن يظهر بأي مظهر عقلي أو علمي يدل على مستقبله، ولم تكن لديه مواهب أدبية ظاهرة ولم ينبغ في شيء من الصناعات أو الفنون، اللهم إلا رعاية الغنم وبعض التجارة حينا لزوجته وحينا لنفسه، ولم يتول شيئا من أعمال قريش في دينها ولا دنياها ولا كان يعبد عبادتهم على طريقة منتظمة ولا يحضر سامرهم ولا ندوتهم التي كان الدخول إليها معلقا على شرط بلوغ الأربعين، وخصوصا وأهم من كل شيء أنه لم ينظم الشعر كما كانوا ينظمون، ولا عني بالخطابة كما كانوا يعنون، ولم يؤثر عنه قول ولا عمل يدل على النبوغ أو حب الرياسة أو الشهرة أو البحث في شئون السياسة، ولم يشارك قومه في الاعتقاد بشيء من أساطير الجاهلية ومثيولوجيتها، ولا سعى إلى أمر من أمور الفخر وأسباب الغزو والحرب، بل كان منذ طفولته أليف الوحدة وسمير العزلة، غير أنه تميز في نشأته على أترابه وأقرانه بالتزام الصدق والأمانة وسمو الأدب في المعاشرة الاجتماعية، ولا نزاع في أنه اشتهر بهذه الخلال فلقبوه بالأمين.
ولما كانت مسألة الوحي على أعظم جانب من الأهمية، فقد أردت أن أعالجها من جميع ناحياتها بالتفصيل التام لإقناع القارئين - لا سيما أحرار الفكر والمرتابين - بحقيقة هذه الظاهرة الروحانية النفسانية وتعليلها بالأسباب العلمية الصحيحة المنطبقة على البحوث الحديثة بعد استيفاء المصادر القديمة ونقدها نقدا كاملا في ضوء العلم الحديث.
فقد أجمعت المصادر العربية والإفرنجية على أن أول ما بدئ به محمد
صلى الله عليه وسلم
من الوحي الرؤيا الصادقة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح واضحة، ثم حببت إليه الخلوة والانفراد فكان يخلو بغار حراء وهو نقب في الجبل المعروف بهذا الاسم، وهو أحد الجبال المحيطة بمكة على شمال الذاهب منها إلى منى. وكان هذا الغار في أعلى الجبل يشرف على مكة وترى منه الكعبة كما يشرف على ما دونه من البقاع؛ فهو حسن الموقع جيد الهواء يتسع فيه مجال التفكير والتأمل وإشباع العاطفة الدينية الكامنة والشعور بالجمال والجلال وعظمة الكون وقدرة خالقه.
فكان محمد يخلو بهذا الغار الليالي ذوات العدد، وكانت هذه الخلوة نوعا من التحنث؛ وهو التعبد، فإذا فرغ زاده يرجع إلى بيته في مكة فيتزود، وما زال كذلك حتى جاءه الحق وهو على هذه الحالة فتمثل له الملك جبريل ولقنه عن ربه آيات التنزيل فقال له: «اقرأ.» فقال: «ما أنا بقارئ.» وقد كرر ذلك ثلاث مرات. وكان الملك بعد كل جواب يضمه إلى صدره ويعصره حتى يبلغ منه الجهد مبلغه، وكأنه بهذا الضم والعصر يوصل إليه قوة تجعل الروحانية فيه أقوى من البشرية ليستعد إلى تلقي الآيات الإلهية ليكون واسطة بين الخالق والخلق ومنتهى الحاضر ومبدأ الغائب، كما كان الملك أو الروح الأمين واسطة بين الخالق ومحمد.
فلما تركه في المرة الثالثة قال له:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
وهذه السورة تفسر لمحمد وظيفة جبريل وتبين له الغاية من هذا الاتصال الأول من نوعه بالعالم الأعلى، وهي تتضمن أمرا صريحا لمحمد بأن يكون قارئا - بعد أن كان أميا - باسم ربه الذي خلق الإنسان من نطفة تحمل الحيوان المنوي الذي يلتقي ببويضات الأنثى فيتم التلقيح والحمل في الرحم، وهذا الأمر ليس باسمي ولا باسمك ولا بحولي وقوتي ولا بحولك وقوتك، بل بإرادة الله وقدرته؛ لأنه القادر على جعلك قارئا لآيات ربك التي يرسمها بالوحي في قلبك، وقادر على تعليمك الكتاب والحكمة وما لم تكن تعلم، وهو الذي علم الإنسان بالقلم ما لم يعلم وغير القلم، فرجع محمد بهذه الآيات إلى بيته وفؤاده يرجف وبدنه يرتعد، ولكنه محفوظ الرشاد، فقال لزوجته خديجة: زملوني زملوني. فلفته خديجة ودثرته بثيابها وصبرت حتى زالت رعدته واطمأن روعه فقال لخديجة: محمد: لقد خشيت على نفسي من الهلاك والضرر.
خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ثم فتر الوحي ثلاث سنين، قوي أثناءها استعداد محمد للتلقي، واشتد إليه شوقه وحنينه.
وبعد هذه الفترة بينما كان يمشي سمع صوتا من السماء فرفع بصره فإذا الملك الذي جاءه بالغار فرعب منه ولكن دون الرعبة الأولى، فرجع إلى أهله وتزمل وتدثر فأنزل الله عليه:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر .
ثم حمي الوحي وتتابع فبلغ النبي دعوة ربه.
فكان ظهور الملك له ونزول أولى السور في سن الأربعين، وكان الأمر بتبليغ الرسالة في الثالثة والأربعين من عمره.
هذا ملخص وجيز جدا لحقيقة الوحي قد أردنا به أن يكون أصلا وأساسا للبحث المستفيض المقنع. •••
ثابت من هذا الموجز في وصف الوحي أن أول ما بدئ به الرسول من النبوة الرؤيا الصادقة أو الصالحة، فما كان يرى رؤيا إلا جاءت واضحة كفلق الصبح (عن عائشة)؛ أي إن ما كان يراه في المنام يتم على حقيقته في اليقظة. وللرؤى أو الأحلام شأن كبير في التاريخ والأديان وعلم النفس؛ لأنه لا يوجد إنسان لا يرى الرؤى في نومه، ولكن اختلف العلماء في تعليلها. وفي الإسلام علماء تخصصوا لتفسير الأحلام واشتهروا بذلك وألفوا فيه كتبا، وأشهرهم ابن سيرين. وقد تكون الرؤيا حقيقية كما تكون مجازية؛ فالحقيقية هي التي يرى فيها النائم أنه لقي شخصا معينا أو سار في طريق خاصة أو سمع قولا بذاته فيصبح فيلقى الشخص أو يسير في الطريق أو يسمع القول نفسه، وقد تطول المدة أو تقصر بين الرؤيا المنامية وبين التفسير في اليقظة. وكان الملوك الأقدمون يتخذون في حاشيتهم ويصطحبون في أسفارهم وغزواتهم رجالا وظيفتهم التنجيم وتفسير الأحلام! ومن هؤلاء كسرى والإسكندر الأكبر الذي رأى وهو يحاصر مدينة صور رؤيا فسرها المفسر المرافق له بأنه سيفتح المدينة وما لبث أن تم له ذلك كما ذكره العلامة سيجموند فرويد في كتابه مقدمة التحليل النفساني، طبع بايو بباريس، سنة 1925، ص98.
وكذلك رأى يوسف وهو يافع رؤيا رمزية وحكاها لوالده فنهاه عن روايتها لإخوته:
إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ... .
ولم ينفع نهي يعقوب وتمت محنة يوسف وبيعه وسجنه، وكان كل ذلك وسيلة لتحقيق رؤياه فصار، سيد قومه وعشيرته، بل إن يوسف نفسه قد منحه الله علم تفسير الرؤى:
ويعلمك من تأويل الأحاديث .
ولما سجن يوسف دخل معه السجن فتيان رأى كل منهما رؤيا رمزية؛ فالأول رأى أنه يعصر خمرا ورأى الآخر أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، ففسرهما لهما (آية 41 سورة يوسف) فقال إن أحدهما يطلق سراحه ويعود إلى عمله في القصر فيسقي ربه خمرا، وأما الثاني فيصلب وتأكل الطير من رأسه.
ثم رأى عزيز مصر رؤيا البقرات السمان والعجاف وحار في تفسيرها ففسرها يوسف وكان ذلك سببا في تعيينه وزيرا لمالية مصر .
وهذه القصة بحذافيرها في التوراة؛ أي إن اليهود والمسلمين يؤمنون بالرؤى كما يؤمن بها العلم الحديث، وقد أفرد لها فرويد - أعظم علماء التحليل النفسي - نحو مائتي صفحة في كتابه السابق الذكر، ص96-260، وفرويد يعلل الرؤى بالرغبات المكبوتة.
وممن عنوا بدرس الأحلام وتعليلها وتفسيرها رجال المجمع الروحاني الدولي برياسة الأستاذ ريشيه، وهم يعللون الرؤى تعليلا روحيا يخالف تعليل فرويد ومدرسته (راجع مجلتهم الصادرة في باريس سنة 1920باسم
Bulletin de l’Institut Metapsychique International ).
وقد نقل المرحوم محمد حافظ إبراهيم عن المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده تعليلا للأحلام لا أوافق عليه وأظنه من قبيل جواب الحكيم وتجاهل العارف؛ فقد روى حافظ أن الشيخ كان يعلل الرؤيا بتصاعد أبخرة الطعام إلى المخ واختلاط المرئيات التي تمر بالمخيلة في فترة اليقظة! ولعل الشيخ رأى أمة متعلقة بأهداب الخرافات فأراد أن يصرفها بمثل هذا التعليل.
كانت رؤيا النبي
صلى الله عليه وسلم
صادقة سواء أكانت سارة أو شاقة؛ فمنها رؤياه قبل معركة أحد (وقد تكلمنا عليها في وصف تلك الوقعة).
ورأى النبي في منامه كأن كلبا أبقع يلغ في دمه، وقد تفسرت هذه الرؤيا بأن شمرا الأبرص قتل الحسين فكان بين الرؤيا وتفسيرها خمسون عاما، وقد تحققت بعد وفاة النبي بعشرات السنين.
فالرؤيا الصادقة تكون مبشرة بخير عاجل أو آجل كما تكون منذرة بشر.
ومن العجيب أن النبي نفسه يعلل صدق الرؤيا بتنبه العقل الباطن الذي يعبر عنه بالقلب أو الفؤاد في قوله: نحن - معاشر الأنبياء - تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا.
وهذا الكلام صريح في وصف العقل الباطن؛ لأن النبي كان ينام كما ينام كل الناس، ولكن عقله الباطن كان يقظا لقوته وكمال استعداده؛ فنحن نقرأ قولهم إن قلوب الأنبياء نورانية؛ أي إن عقولهم الباطنة كاملة ومستعدة، فجميع ما ينطبع في عالم مثالهم لا يكون إلا حقا.
ولنا أن نتساءل: هل لجأ محمد للخلوة والتحنث بحراء بدافع من نفسه أم أن حادثا حدث له فحفزه إلى الخلوة؟ لأن الخلوة حال تحتاج إلى دافع وموجب، والجواب عندنا أنه شعر من نفسه بحاجة إلى العزلة بعد أن قضى خمس عشرة سنة في الحياة الزوجية وبعد أن ختم الحلقة الرابعة من عمره، فأحس بأن هذه الحياة المادية العادية لا تكفي مطالب روحه، فزهد فيها وطلب ما هو أرقى منها؛ فهو بخلوته كان يحب أن يقضي حاجة في نفسه، وهو لا يعلم ما وراءها ولكنه بلا ريب شعر أن الخلوة تنقذه من مشاغل الحياة وخمولها وسيرتها على وتيرة واحدة، وقد صمد لها أربعين عاما، وقد ذهب من العمر أكثره وإن يكن بقي أنفعه، فأدرك بروحه السامي أن لا يتم له ما تتوق إليه نفسه إلا بالخلوة التي يكون بها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق، ولعل في ذلك صفاء النفس وإشراق أنوار المعرفة وتجلي الحقائق الأزلية، وكان محمد في تلك الخطوة الأولى موفقا.
ويبدو لنا من السير أنه لم يكن البادئ بهذه الطريقة؛ فقد سبقه إلى التحنث والخلوة في غار حراء بعض المتألهين من قريش؛ أي الذين مثل جده عبد المطلب وورقة بن نوفل وأبي أمية بن المغيرة.
وكانت عبادة هؤلاء تشمل إطعام المساكين ممن يلجئون إلى الغار؛ لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين في هذا المكان؛ لأن اشتهاره بالتجاء المتعبدين إليه جعله مقصودا من المساكين كما نشاهد بأبواب المساجد والهياكل في عصرنا هذا.
فماذا كان يعمل محمد في الغار؟
في اعتقادي أنه لم يكن يعمل شيئا ظاهرا ولم يكن يتكلم بشيء، ولا أميل إلى القول بأنه كان يتعبد بشريعة إبراهيم؛ لأن مقصده من الخلوة لم يكن التعبد، ولكن مقصده كان الخلوة في ذاتها؛ لأنه كان يريد أن ينسى المألوف من مخالطة الناس التي تؤثر في النفس أسوأ الأثر؛ فهو كان يريد أن يزيد نفسه صفاء على صفائها، ولعله كان يكتفي بالتفكير والتأمل.
ولست أحب أن أقول إنه كان يحب أن ينظر في ملكوت الله ويعجب بالسماء والكواكب والشمس والقمر والنور والظلام، بل أقول إنه كان ينظر في نفسه وفي روحه وفي فؤاده، ولعلها المحاولة الأولى في تاريخ العرب من رجل يريد أن يعرف نفسه فعرف ربه. لقد كان محمد منطويا على ذاته يبغي معرفتها وترقيتها وتخليصها، يريد أن يسيطر عليها وينفذ بها بسلطان من الله.
ونحن لا نعلم ولا المؤرخون يعلمون ولا أحد يعلم ما حدث بين محمد وبين نفسه، ولا ما هي صور الجمال والجلال التي مرت به، ولا العوالم العلوية التي جاس خلالها واخترقها، ولا يبلغ العقل البشري مدى السمو الذي وصل إليه في تلك الخلوة المحوطة في نظرنا بالخفاء والغموض، والتي لا يمكن اختراق حجبها إلا لمن أوتي شعاعا من نور يعينه معرفة كنهها واستشفاف أسرارها العليا، وصدق من قال:
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان .
والدليل عندنا على أن محمدا لم تكن له خطة مرسومة في عقله الظاهر وأنه لم يكن يتوخى غاية معينة وأنه لم ينتظر ما لقيه، أنه بغت واضطرب وارتعب، وهذه حال الرجل الذي يفاجأ بأمر لم يكن في حسبانه، سواء أكان صوتا يسمعه ولا يرى صاحبه أو صورة يبصرها ولا يعرفها، ولم يكن هذا الرعب نقصا في الشجاعة؛ فقد كان محمد
صلى الله عليه وسلم
شجاعا في جميع أطوار حياته، وطالما قابل الموت وجها لوجه ولم يحسب له حسابا ولم يفقد رشاده، وكفانا دليلا على شجاعته خلوته في رأس الجبل في وحدة النهار وظلمة الليل في مكان لا يخلو من الأخطار، ولا نظن أنه كان يشعل فتيلا أو يستضيء بمصباح؛ إذ لا حاجة له به ولا سبيل إليه، ولا نعلم إن كانت عينه تغمض أو يبقى ساهرا ليله؛ وإذن تكون خلوة محمد في الغار سرا غامضا من حيث جوهرها وخطوة جريئة معلومة له بمقدمتها ومجهولة بنتيجتها؛ إذ لو كان يعلم النتيجة وهو يوطد النفس على ظهور الملك أو نزول الوحي لاطمأن إليها واغتبط، ونزل إلى أهله فرحا طروبا مفاخرا بثمرة عبادته، ولكنه على النقيض نزل مضطربا مرتعبا مرتعدا محموما يلتمس الدثار والغطاء ويخشى على نفسه الهلاك والمرض والجنون. وكان في كل مرة يخلو ويفرغ زاده - الذي كان كعكا وزيتا كعادة المتزهدين والنساك - يعود إلى أهله. وكانت مرات الخلوة تطغى أحيانا على الأيام، فقالوا كان يتحنث الليالي ذوات العدد؛ أي مع أيامها، وكانت هذه الأيام تتراوح بين ثلاثة وسبعة، وتبلغ أحيانا شهرا بطوله، وهي بلا ريب مدة طويلة على من لم يكن قوي الإرادة صادق العزيمة ذا عاطفة دينية وثابة تملك عليه مشاعره.
وكان في فترات الخلوة العادية إذا أخذ نصيبه من العزلة ينصرف قبل أن يدخل بيته إلى الكعبة فيطوف بها سبعا ثم يرجع إلى بيته، وهذا الطواف بالكعبة من عبادة قريش كما لا يخفى، وكانت الأصنام لا تزال منصوبة بها ومعبودة من قومه، ولعله كان يطوف بها لأنها البيت الذي رفع قوائمه إبراهيم وإسماعيل، وإبراهيم صاحب الشريعة الحنيفة التي وصل النبي بها دينه الجديد وجعلها أساسا له واعتبرها أصلا ومنشأ.
ووردت أخبار أن خديجة كانت تصحبه أحيانا إلى الغار ولعلها كانت ترافقه لتعلم مكانه؛ لأنها كانت طول حياتها شديدة الحرص عليه ولا تطمئن إذا لم تعلم مكانه، ولا شك أنها كانت تتألم من تلك الخلوة، ولكنها لم تنازعه ولم تعقه ولم تقف في طريقه، بل كانت تعينه عليها تنفيذا لرغبته، ونزولا على إرادته؛ لأنها كانت ترى الصواب فيما يفعل بعلها وحبيبها.
ولم تدم مدة التحنث إلا عاما أو بعض العام الذي نزل فيه الوحي. وقد يشعر هذا بأن محمدا أحس بقدومه على شيء عظيم فأخذ يستعد له، وكل نفس زكية - لا سيما إذا كانت في درجة نفس محمد التي هي أرقى النفوس البشرية - لها إشراف على المستقبل، ولا يمكن أن يبهم عليها الأمر جملة، ولكن الشعور المبهم بقدوم شيء عظيم غير تصوره قبل حدوثه والاستعداد له. هل كان محمد يريد بخلوته أن يدفع قلقا ويشفي نفسه من ضجر، أم كان بغير علم منه يستعد لجني الثمار التي طال أمد زرعها ونمائها ونضجها في نفسه واستحقت أن تدنو وتقطف بعناية الله؟ لقد كان لمحمد شغف بالوحدة منذ الصغر، ولكن وحدته طفلا وفتى ويافعا وصبيا مراهقا كانت وحدة الانكسار والحزن والألم، ولكن وحدته في غار حراء بجبل أبي قبيس كانت من نوع آخر، إنه كان في خفاء وغموض حتى عن نفسه وبالخصوص عن نفسه، ينشد المعرفة بطريق الإشراق، ويستلهم ما في الكون من أسبابها.
وهنا تعرض لنا مسألة ذات خطورة: هل الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه، أم أن الوحي شيء جاء من عالم الغيب الذي وراء عالم المادة والطبيعة؟
هذا ما نحاول البحث فيه وتحليله، ولأجل الوصول إلى نتيجة مقنعة نستورد سائر النصوص المقطوع بصحتها؛ سواء في القرآن، أم الحديث والسير؛ ففي سورة البقرة:
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (سورة البقرة، آية 97).
وسورة الشعراء:
وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين (سورة الشعراء، آية 191 وما بعدها).
وفي سورة النحل:
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده .
وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (سورة النحل).
وإننا لنشهد بالقرآن لأن نصوصه لا تقبل الشك، لا من علماء الإفرنج ولا سواهم، وهذه الآيات تؤيد الحديث والسير وتدل كلها على أن الوحي جاء من الله بواسطة روح أمين أو ملك كريم.
ولكن محمدا الذي فوجئ بالأمر وصفه أدق وصف، فقال إن الملك جاءه وهو نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ! فجعل الملك ذلك النمط على فمه وأنفه؛ أي كتم أنفاسه حتى ظن محمد أنه الموت، ثم تركه وقال له: اقرأ من غير هذا المكتوب. فقال محمد ماذا أقرأ؟! وما قال ذلك إلا افتداء منه وتخلصا لئلا يعود الملك لكتم أنفاسه بالنمط الذي فيه الكتابة، ولم يجرؤ أن يقول للملك ما أنا بقارئ، إنما استفهم منه: ماذا أقرأ. لأنه خشي إن هو نفى عن نفسه القراءة وقال له ما أنا بقارئ، يعود فيكتم أنفاسه بالنمط، وعند ذلك قال له الملك:
اقرأ باسم ربك الذي خلق .
فقرأها محمد بالتلقين، فانصرف الملك.
وفي سورة المزمل:
إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا .
إشارة لشدة الوحي وعدم طاقة محمد إياه في أول الأمر، سواء أكان أثناء التلقي أو في التبليغ والقيام بأعباء الرسالة.
وثابت من حديث النبي أن هذا كله وقع أثناء النوم، فإنه قال: فانصرف عني وهببت - أي استيقظت - من نومي فكأنه كتب في قلبي كتابا (السيرة الحلبية، ص261، ج1).
وعلى هذه الرواية يكون الوحي جاء محمدا في منامه ولقنه في منامه وتركه بعد أن حفظ السورة الأولى وبعد ذلك كله صحا النبي من نومه.
غير أن هذه الرؤيا لم تكن أول عهد محمد بالملك، بل كان من قبل الرؤيا سمع صوته فقال: «خرجت (من الغار) حتى إذا كنت في شط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: «يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل» فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته.»
ويظهر أن زوجته خديجة كانت في تلك اللحظة تنتظره، فلما أبطأ تفقدته فأرسلت رسلها يبحثون عنه فلم يجدوه فرجعوا إليها، وهو واقف في مكانه ولم ينصرف حتى انصرف الملك.
فرجع محمد إلى أهله، فلما رأته خديجة سألته وهي مروعة: يا أبا القاسم، أين كنت؟! فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي. فروى لها ما وقع له.
وبهذه الرواية يكون النبي قد رأى في إحدى حالات اليقظة الملك رؤية عيان وسمع صوته بأذنه. ولم تكن هاتان الحالتان وحدهما اللتين يأتي عليهما الوحي؛ فقد سأله الحارث بن هشام كيف يأتيه الوحي، فقال (نقلا عن البخاري): أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده، فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول.
وقالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
وعن ابن عباس: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه. فقال ابن عباس: فأنا أحركهما كما كان الرسول يحركهما، فأنزل الله:
لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه
قال: جمعه لك في صدرك وتقرؤه ... فكان الرسول إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي كما قرأه.
فكأن الملك كان يأتي للنبي على صور شتى، وفي بعضها يأنس له وفي بعضها يرتعد ويفرق ويجد ثقلا عند نزوله ويعرق، وربما يغط كغطيط البكر محمرة عيناه، ومرة وقع فخذ النبي على فخذ زيد بن ثابت عند نزول الوحي، قال زيد: «فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله!» أي إن الثقل كان معنويا وماديا حتى يتعدى نفس محمد إلى بدنه فيثقل.
وكان يوحى إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت، ولما نزلت سورة المائدة كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.
أي إن هذا الثقل الجثماني لم يكن يشعر به الإنسان وحده كما حدث لزيد، بل كان يشعر به الحيوان أيضا كما شعرت راحلته العضباء فاندق كتفها.
وكان شعور محمد
صلى الله عليه وسلم
في كل مرة عند نزول الوحي أن نفسه ستقبض، وكان في الغالب يغشى عليه أو يصير كهيئة السكران (عن أسماء بنت عميس) لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا!
وأسماء بنت عميس أسلمت قديما وهاجرت إلى الحبشة، وتزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر فمات عنها، ثم تزوجها علي بن أبي طالب فولدت له يحيى، وهي أخت ميمونة بنت الحارث إحدى زوجات النبي، وكانت نسيبة للعباس وحمزة؛ فهي أكرم الناس أصهارا، وروى عنها عمر بن الخطاب نفسه، وكانت لها هجرتان إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة (ص396، ج5، من أسد الغابة) فهي ثقة في حديث وصفها للوحي.
وتكون النتيجة إجماع شهود الرؤية على أن ما كان يجري من البرحاء على محمد حين نزول الوحي يغيره تغييرا شديدا حتى يؤخذ عن الدنيا فيصير كالمغمى عليه أو كالسكران أو كالمحموم، ويشعر في كل حال أنه سيلفظ آخر أنفاسه، وهذه حالات كلها تؤثر على الإدراك والوعي، ولكن الكل مجمعون على أنه كان يستبقي عقله وتمييزه، وإن كان الوحي يملك عليه نفسه ويستحوذ على مشاعره فلا يستطيع أن يرفع طرفه إليه حتى ينقضي الوحي وهو في ذلك يستقبل الرعدة والكرب، فيتربد وجهه وتغمض عيناه ويخرج منه صوت كصوت الجمل، ويسمع عند وجهه صوت كدوي النحل (عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت).
فهذه وقائع مادية ومشاهدات مؤكدة، ولم تكن دائما تحدث في الخفاء بين محمد والملك بل كانت تحدث أحيانا بمرأى ومسمع من هؤلاء الشهود العدول والرواة الثقات من خيرة الرجال والنساء.
فإذن الوحي هو طريقة اتصال محمد
صلى الله عليه وسلم
وغيره من الأنبياء بالعالم الأعلى، وفي القرآن:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا .
والمقصود بالرسول الملك، وقد وصف جبريل بأنه رسول في سورة التكوير:
إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين .
وعلى هذا التفسير أغلب المفسرين؛ لأن آية:
ولقد رآه بالأفق المبين
تشير إلى رؤية النبي جبريل في السماء. •••
ولم يكن النبي يخاف الوحي على حياته فحسب، بل كان يخشى أن يكون علامة على كونه كاهنا من كهنة الجاهلية وهو يكره ذلك ويخشاه، فقال لخديجة لما سمع نداء: يا محمد، يا محمد: وقد خشيت أن يكون والله لهذا أمر، والله ما أبغضت شيئا بغضي هذه الأصنام شيئا قط ولا الكهان، وإني لأخشى أن أكون كاهنا وأخشى أن يكون بي جنون.
وهذه الرواية تدل على أنه في عزلته وقبل سماع الأصوات أو رؤية الملك كان خالي الذهن مما سوف يتم له، وظن الهتاف باسمه نوعا مما كان يسمعه كهان الجاهلية فخشي هذه العاقبة.
ولم يكن محمد مقلدا في روايته؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك ولم يقل بسماع الأصوات من السماء إلا جان دارك بعد بعثة النبي بستة أو سبعة قرون فصدقوها، ولم يقل عيسى - عليه السلام - بأنه تلقى وحيا؛ لأنه كان كلمة الله، ونزلت على موسى ألواح حجرية فيها شريعته وخاطبه الرحمن مباشرة ولذلك سمي كليم الله. وإذن فالوحي المحمدي جاء على طريقة مبتكرة غير مسبوقة وغير منتظرة وخالية من التصنع والتدبير؛ ولهذا فهي صادقة؛ لأنه لا يعقل أن رجلا يدعي أنه جاءه ملك وعلمه سورة من القرآن وهو مع ذلك يرجع إلى بيته ترجف بوادره وترتعش فرائصه من الفزع، ولا يمكن لأحد مهما كان متصنعا أن يخلق أعراض الفزع؛ فإن ارتجاف البوادر وهي الجزء من البدن بين المنكب والعنق عرض جثماني يصحب حالة الخوف المعنوية، كالرعدة التي وصفها ويليم جيمس وقال إنها تصيب الخائف بعد دخول الرعب في نفسه.
وغني عن البيان أنه لم ينظر الملك ولم يسمعه أحد من أهله أو صحابته سواه، ولكنهم كانوا جميعا يرون آثار الوحي في شخص النبي كالرعدة والعرق والإغماء وتربد الوجه وثقل البدن؛ ولهذا اضطرت خديجة لعمل التجارب المادية برفع خمارها لتعلم إن كان الملك يظهر له في حالة رفع حجابها، على ما سيأتي بيانه. •••
كانت جان دارك - التي قدستها الكنيسة الكاثوليكية، والتي قالت إنها سمعت أصواتا ورأت رؤى تدعوها لتخليص بلادها وتتويج ملكها - فتاة ذات وجدان شريف هاجه شعور الدين وحركته مزعجات السياسة فتحرك ونفر، فصادف مساعدة من الحكومة واستعدادا من الأمة للخروج من الذل الذي كانت فيه، وكان التحمس الذي حركته سببا للحملة الصادقة على العدو وخذلانه.
وكانت قبل نبوتها متعودة الشغل خارج البيت كرعي الماشية وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت.
وقد صدقها قومها واعتقدوا برسالتها! ولم يبحثوا إن كان ما وقع لها وحيا إلهيا أو نوبة عصبية قصيرة الأجل لا دعوة فيها إلى علم ولا إصلاح اجتماعي عام من دعوة الأنبياء التي هي حاجة طبيعية من حاجات الاجتماع البشري، كما أثبت ذلك الأستاذ الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد. وأين دليل جان دارك من أدلة النبوة؟ وأين أثرها من آثار النبوة ؟ فإن جان دارك جمعت جيشا صغيرا وغلبت به العدو ثم خذلها قومها فوقعت في يد أعدائها فتواطئوا مع رجال الكنيسة واتهموها بالسحر وألقوها في النار وهي على قيد الحياة، فماتت شهيدة الوطن!
لقد كان محمد أكثر الأنبياء توفيقا، وبهذا وصفه ج. ه. ولز في كتابه تاريخ العالم الذي يعد حجة في التاريخ القديم والحديث؛ لتضافر فريق من أكابر المؤرخين على تأليفه وتحقيق مسائله.
وقبل ذلك بأربعة عشر قرنا قالها محمد عن نفسه وقد تمت نبوته، قال في حديث متفق عليه نقلا عن أبي هريرة: «ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة.»
الوحي والسيدة خديجة
كان الشيخ عداس كاهنا كبير السن، ضعف بصره وأحوجت شيخوخته أذنيه إلى ترجمان، وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر، ولكنه كان لا يزال حافظا رشاده وقد أنارت العبادة بصيرته.
كان عداس كاهنا نصرانيا من نينوى مدينة يونس النبي، وكان عنده علم من الكتاب، وكان مقيما بمكة لأنه كان مولى لعتبة بن ربيعة؛ فهو بوطنه وجنسه ودينه أجنبي عن العرب، ولكنه مكي بالولاء والتبعية، ولم يكن محمد يعرفه، ولكن خديجة عرفته بسبب تجارتها.
وإذ كان عداس في عزلته يعبد ربه، أو يصلي للسماء، أو يتأمل في مصير الإنسان في هذه الحياة وينظر بعينيه الذابلتين في ملكوت السموات، دخل عليه رسول خديجة يسأله عن جبريل، ولم يكن اسم جبريل معروفا في بلاد العرب فأفاق الشيخ من تأمله وقال: قدوس! قدوس! وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان؟! إن جبريل أمين الله بينه وبين رسله. عاد الرسول إلى خديجة وأسر إليها ما قاله الشيخ العابد فرأت أن تزداد استفسارا، فلم تضن بزيارته في سبيل هذا الأمر الجليل الذي شعرت بخطورته وعظيم شأنه بعقلها الثاقب وفكرتها الراجحة؛ وهما صفتان لازمتاها منذ صباها، فما بالها وقد وصلت إلى عقد الخمسين وهي سن النضج واستكمال الفهم، وقد تنبهت في نفسها عواطف جديدة سامية بعد الحياة الزوجية السعيدة، وبعد خمس عشرة سنة قضتها في كنف رجل أثبتت الأيام أنه أفضل الخلق وأكرمهم نفسا وأثبتهم عزما وحزما وألينهم عريكة وأحسنهم عشرة ووفاء، وها هو محمد قد وقع في ورطة كبيرة وصار في خشية على نفسه من الموت أو دوام المرض وهو أحب الناس إليها؛ فهي لا تدخر في سبيل الاطمئنان عليه جهدا ولا تتردد في تحمل المتاعب أيا كان نوعها من أجل راحته، وإذن فهي تذهب إلى عداس وأعادت عليه ما سمعت من زوجها الأكرم فقال لها: سبوح! سبوح! يا خديجة، هذه بشرى كبيرة وخبر جليل إن كان هذا الذي تجلى له هو الملك، ولكن ... اعلمي أن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا!
خديجة :
وكيف السبيل إلى التحقق؟
عداس :
خذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك هذا، فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه، وإن كان أمره من الله فلن يضره.
وأعطاها كتابا.
هل هذا الكتاب تعويذة كتبها الكاهن المسيحي لساعته، أم أنه نسخة مخطوطة مباركة من العهد القديم أو العهد الجديد؟ أظنه تعويذة مكتوبة بالسريانية، وكان العرب يطلقون لفظ الكتاب على كل ما هو مخطوط سواء أكان صحيفة أو مجلدا.
ويظهر أن خديجة كانت تؤمن ببركة هذا الكاهن كما كانت تثق بعلمه، وإن لم تكن تؤمن فإن اضطرارها إلى النظر في نفع زوجها الأكرم ورب دارها وفخر حياتها ومسعدها؛ كل ذلك أقنعها بقبول نصيحة ذلك الصالح المسيحي، وعادت إلى منزلها فإذا هي بمحمد
صلى الله عليه وسلم
يقرأ آية من القرآن، فلما سمعت قراءته اهتزت فرحا ثم قالت لمحمد: فداك أبي وأمي! امض معي إلى عداس. فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه، فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول: قدوس! قدوس! أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى.
ومسألة ختم النبوة ذكرها درمنجهايم في ترجمة الرسول وقال: إنه قبله وبكى.
وقيل إن خديجة سألت كاهنا أو راهبا آخر فكان رأيه أن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل بجبريل ولا أن يتسمى باسمه.
وعند ذلك عزمت خديجة أن تلجأ إلى قريبها ورقة بن نوفل، وكان شيخا كفيفا وقريبا من الموت، وهو الآخر قد هجر عبادة الأصنام وتنصر، ولكنه ما زال يطوف بالكعبة، كما كان يفعل النبي عقيب نزوله من حراء أثناء خلوته قبل نزول الوحي وظهور الملك وبعد ذلك.
ولكن خديجة قبل أن تذهب إلى ورقة كانت حريصة على أن تطمئن بعلها وتبشره فأجابته ردا على قوله «لقد خشيت على نفسي» بهذا الجواب الحكيم الدال على قوة الإيمان وشدة الإخلاص: كلا والله يا ابن عمي ما يخزيك الله أبدا! إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك (توقيرا لسن ورقة، واستعطافا للرحم).
ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله بخبر ما رأى.
ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا! ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك.
محمد: أومخرجي هم؟!
ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
هذا هو الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن يوسف عن مالك بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - في حديث الحارث بن هشام عندما سأل رسول الله عن الوحي (ص5، من الجزء الأول من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري).
وإذن كان ورقة بن نوفل شيخا فانيا كفيف البصر، من متنصرة العرب العلماء بالنصرانية ، وابن عم خديجة، وكان يكتب من الإنجيل بالعربية ، فهو يعرف اللغتين العبرية والعربية، وذلك قبل أن يكف بصره طبعا، وقد أصيب بالكتركت - وهو ظلام عدسة العين من الشيخوخة - ولم يكن في مكة جراح اختصاصي يقدم على العملية التي تعيد إليه نظره؛ فما زال أعمى حتى قضى نحبه.
وليس فيما بين أيدينا من المراجع والمصادر ما يدل على أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لقي ورقة بن نوفل قبل هذه المرة، وقد حضر حفلة زفاف خديجة إلى محمد، ولعل خديجة كان تعطف عليه وتعينه بشيء من مالها أو تزوره صلة للرحم.
وفي إحدى الروايات أن ورقة لقي محمدا وهما يطوفان بالكعبة، فأدنى ورقة رأس الرسول وقبل يافوخه وافترقا وعاد محمد إلى أهله.
يقول بعض مؤلفي الإفرنج إن الرسول قد أخذ عن ورقة لأنه كان يقرأ الإنجيل ومن أهل الكتاب كما زعموا فيما يتعلق ببحيرا والحداد الرومي.
ومنشأ هذا السخف والإسفاف بساطة مؤلفي العرب القدماء وجنونهم بالنقل وعدم فحص النصوص والروايات وغربلتها قبل تدوينها؛ فهذا الشيخ علي بن برهان الدين الحلبي - رحمه الله - صاحب السيرة الحلبية التي فيها كثير من الغث وقليل من السمين يقول (في ص286، ج1): «إن خديجة كتبت إلى بحيرا تستفتيه في الوحي فأجابها بكتاب عنوانه: سيدة قريش، اعلمي أن الوحي ... إلخ.» وهذا بالطبع يستلزم أن بحيرا يكون على قيد الحياة عند البعثة، وأن العلاقات كانت مستمرة بين النبي وبينه حتى عرفت زوجته عنوان الراهب وخاطبته في شأن جبريل، في حين أن بحيرا كان قد مات من زمن طويل، ولم تكن له صلة بمحمد الذي مضى على لقائهما (إن صح هذا اللقاء) ثلاثون عاما، والعجيب أن الحلبي يذكر هذه الرواية بغير سند، وهي بلا ريب مدسوسة عليه، ولكنه نقلها لأن فيها ما يشعر بتأييد النبوة والتبشير بمحمد، وهذا المؤرخ الفاضل لم يكن يعلم ما يخبئه القدر لتاريخ محمد من عفاريت الإنس الذين يصطادون في الماء العكر، وما هذا الماء العكر إلا تلك السير التي اختلط فيها الحق بالباطل والصدق بالكذب والمعتدل بغير المعتدل.
وكذلك جاء المحدثون والمفسرون واستقصوا أخبار ورقة، لا ليعلموا إن كان أستاذا لمحمد أو لا، فإن هذا الرأي لم يخطر لهم ببال، ولكن ليعلموا إن كان يعتبر صحابيا أم لا، وغاب عنهم أن تعريف الصحابي هو من لقي النبي بعد البعثة مؤمنا به، والثابت أن ورقة لقي النبي قبل البعثة، وليس لدينا ما يدل على أنه آمن به، ولكنه وعده بالإيمان به بقوله: يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ... وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
فقد علق ورقة المناصرة والمؤازرة على شرط خروج محمد من مكة مهاجرا بفعل قريش.
وهذا شرط لم يتحقق إلا بعد نزول الوحي بثلاث عشرة سنة.
وفي بعض الروايات الضعيفة أن ورقة عاش حتى رأى بلالا يعذبه المشركون ليرجع عن الإسلام، ولكن هذه الرواية شاذة ومخالفة لحديث عائشة؛ لأن هذا الحديث يدل على أن ورقة كان قد فقد بصره عند بدء الوحي، وكان تعذيب بلال بعد إظهار دعوة النبوة ودخول الناس في الإسلام، وكان هذا الرجل أعمى، والحديث يزيد على ذلك أنه لم ينشب أن مات؛ أي إنه مات بعد ذلك بسرعة؛ أي لم يلبث أن مات. وهذا اللفظ - لم ينشب - عند العرب عبارة عن السرعة، وأصله من نشب العظم في الحلق والصيد في الحبالة أي لم يعلق به شيء يمنعه عن ذلك. قال سبط ابن الجوزي: «إن ورقة آخر من مات في الفترة ودفن بالحجون؛ فلم يكن مسلما.» وقال ابن عباس: «إن ورقة مات على نصرانيته؛ لأنه من أدرك النبوة وصدق بها ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكون مسلما، بل يكون من أهل الفترة.»
وفي حديث ضعيف أنه لما توفي ورقة قال محمد: «رأيت القس وعليه ثياب الحرير.» وقال: «لا تسبوا ورقة؛ لأنه آمن بي وصدقني.»
ومهما تكن قوة هذين الحديثين من حيث الإسناد، فإنهما يتضمنان مكافأة النبي لورقة لأنه بتبشيره النبي بالنبوة في هذا الظرف ما يستحق الشكر عليه.
ولا ريب أن ورقة مات قرير العين لأنه أيقن أن ابنة عمه لم تخطئ في اختيار زوجها، وورقة هو الذي وصف محمدا بأنه الفحل الذي لا تقدع أنفه (ص93، ج1، من الكامل للمبرد) فها هو قبل أن يموت قد قرت عينه برؤية صهره على باب النبوة العظمى والرسالة الكبرى.
ولكن خديجة لم تقنع بهذا كله، ولعل كلمة عداس عن تمثل الشيطان وظهوره لمحمد بمظهر الملك شغلتها؛ فأرادت أن تقنع بتجربة مادية عملية تختبر بها حقيقة هذا الذي يظهر لزوجها ويقض مضاجعه ويزعجه في نومه ويقظته، وللمرأة ذات العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار وإشراف على الحقيقة، وقد دلها هذا الاستبصار على تجربة جديدة في بابها، فطلبت إلى بعلها أن يترقب الملك عند ظهوره فيخبرها، ولم تكن لتقصد إليه.
وقد دار بينهما هذا الحوار:
خديجة :
أي ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟
محمد :
نعم!
خديجة :
فإذا جاءك فأخبرني به. (فجاءه جبريل كما كان يصنع فقال لخديجة):
محمد :
يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني.
خديجة :
قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى. (فقام محمد فجلس عليها، فسألته):
خديجة :
هل تراه؟
محمد :
نعم.
خديجة :
فتحول فاجلس على فخذي اليمنى. (فتحول فقالت):
خديجة :
هل تراه؟
محمد :
نعم.
خديجة :
فتحول فاجلس في حجري. (فتحول فجلس في حجرها فسألته):
خديجة :
هل تراه؟
محمد :
نعم. (فتحسرت وألقت خمارها ومحمد جالس في حجرها، ثم قالت):
خديجة :
هل تراه؟
محمد :
لا!
خديجة :
يا ابن عم، اثبت وأبشر؛ فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان.
هذه رواية ابن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، وأضاف إليها قوله: حدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث، فقال قد سمعت فاطمة بنت حسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل؛ فقالت للرسول: إن هذا ملك وما هو بشيطان (ص129، هامش زاد المعاد، ج1).
وسواء أكانت التجربة التي قامت بها خديجة من تلقاء نفسها ومن وحي ضميرها أم بإيعاز من ورقة أو غير ورقة، فلا شك في صدق التجربة وموافقتها العقل؛ ومناط ذلك أنها إن حسرت وكشفت عن رأسها فإن كان الذي يظهر من الجن فإنه لا يذهب؛ لأنه لا يخجل ولا يتحاشى رؤية المرأة التي تكشف عن رأسها فيستمر ظهوره، وإن كان ملكا فهو لا يرى الرأس المكشوف من المرأة؛ ولذا تراه يغيب. •••
كل هذا صنعته خديجة عندما جاءها النبي عقيب اتصاله الأول بالوحي مرتجفا محموما يشكو البرد ويطلب الدثار، وهو بداية الدور العظيم الذي قامت بأعبائه في خدمة الإسلام، والحمد لله على أن كانت خديجة في الخمسين من عمرها عند مجيء الوحي، وأن كانت عاقلة هادئة الطبع شديدة الحب لزوجها عظيمة الثقة به ذات نشاط وحركة. وقد ثبت لدينا أن كثيرا من الخير للإسلام ترتب على مسلكها في اللحظة الأولى؛ فإنه مذ علمت من محمد سبب اضطرابه وروعته بادرت بتبشيره وتشجيعه وإدخال الاطمئنان على قلبه، كقولها: أبشر يا ابن عمي واثبت؛ فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
وهذا الحديث يدلنا على الحب والعطف والإخلاص التي كانت سائدة في بيت محمد وخديجة، فإن هذا الاكتراث وهذه الهمة وذلك النشاط لا تظهرها الزوجة إلا بفضل الود وشعور الرحمة، وقد اتحدت عواطف المحبة والمودة والوفاء بينهما؛ فلم يكن محمد ليخفي عن حليلته شيئا من خفايا نفسه؛ فهي موضع سره وأمانته، ولم تكن لتستهين بشيء مما يحدث له سواء أكان قريبا منها أم بعيدا عنها، فلا عجب أن بقي محمد طول حياته متعلقا بحب خديجة وبذكراها بعد أن توفيت إلى رحمة الله ورضوانه، وكان يقول عنها إنها كانت أم العيال وربة البيت، وفي حديث صحيح أنها لو عاشت ما كان رسول الله ليتخذ عنها بديلا وإن كانت كل زوجاته قد قمن بأعمال جليلة للإسلام؛ فعائشة حفظت نصف الدين وكانت كنز الحديث الغالي، وكانت أم سلمة حكيمة يستشيرها في الملمات ويعمل برأيها كما حدث في الحديبية.
وبعد نزول جبريل على محمد باقرأ باسم ربك، مكث مدة ثلاث سنين لا يرى جبريل، ولعل الحكمة في حدوث تلك الفترة الطويلة ليذهب عن محمد ما كان يجده من الرعب، وليحصل له الشوق إلى العود؛ ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال! فكان كلما وافى بذروة كي يلقي بنفسه منها يتبدى له جبريل فقال له: يا محمد، إنك رسول الله حقا. فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك!
وإذن يظهر أن النبوة والبعثة شيء واحد، وأن الرسالة هي الدعوة إلى الإسلام، وأن النبوة جاءت بالوحي وبسورة «اقرأ باسم ربك». أما الرسالة فقد بدأت بيا أيها المدثر، وبين السورتين ثلاث سنين. روى ابن إسحاق - أصدق كتاب السير وأوجزهم - عن بعض أهل العلم أن ابتداء النبوة كان محمد إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فكان يسمع أصواتا تحييه وتسلم عليه وتبشره بالرسالة، وما زال كذلك حتى جاءه الوحي بما جاء.
قد تحمل محمد من أجل الوحي رضا العباد وسخطهم، وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يستطيع بها أهل القوة والعزم لما يلقون من الناس من الخلاف والأذى، وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله.
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله .
وقد آمنت به خديجة وصدقت بما جاءه ووزارته على أمره، فكانت أول من آمن فخفف الله بذلك عن محمد، وكان لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرج عن نفسه بالرجوع إليها؛ فكانت تثبته وتهون عليه أمر الناس.
وبعد فترة الوحي جاءه جبريل بسورة الضحى بأنه ما ودعه [ربه] وما قلاه، وذكره بنعمته عليه ووعده بالخير العميم وامتن عليه بعظيم فضله في أطوار حياته وفيها من البشرى والعتاب ما ارتاح له قلب محمد.
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى .
تفسير نزول الوحي
فكيف نفسر نزول الوحي على طريقة علمية مقنعة؟!
لقد حاول علماء المسلمين هذا التفسير، فقال الزركشي في البرهان: «إن رسول الله انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وتلقى القرآن من جبريل»؛ لأنه كان مستعدا بفطرته السامية ونفسه الصافية وفؤاده اليقظ وعقله الباطن للانسلاخ من البشرية إلى الملكية، وهي حالة نفسية أعلى من حالة الإنسان، يدل على وجودها التفاوت المشاهد بين طبقات البشر في عقولهم وإدراكهم، فيكون النبي قد ترقى بروحه حتى وصل إلى درجة الروح الأمين، أو أن الملك انخلع من الملكية إلى البشرية حتى أخذه رسول الله.
وأن جبريل تلقف من الله تلقفا روحانيا، وأن الله خلق الأصوات الدالة على الألفاظ في الجو وأسمعها جبريل، وخلق فيه علما ضروريا بأنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى وأوحاه إلى محمد كذلك، وكان الأثر المادي الذي يشعر به محمد فوصفه بقوله: «إن روح القدس نفث في روعي.»
والنفث: النفخ اللطيف الذي لا ريق معه.
وفي كلام محيي الدين بن عربي محاولة تعليل للظواهر البدنية التي كانت تبدو عند الوحي، قال في لغته الصوفية الجميلة: «سبب اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده فرجع إلى أصله؛ وهو لصوقه بالأرض!»
أما فلاسفة العرب فقد عللوا الوحي تعليلا علميا بقدر ما كانت تسمح درجة تفكيرهم وما وصل إليه العلم في زمانهم، وهو في الغالب تعليل منقول عن فلاسفة اليونان، وكان أقربهم إلى الحقيقة من حيث التعليل الروحاني الأستاذ المعلم الفارابي؛ فقد كتب في باب القول في الوحي ورؤية الملك:
إن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها، ولا أخدمتها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضا أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منهما في وقت النوم، وكثير من هذه التي يعطيها العقل الفعال فتتخيلها القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية، فإن تلك المتخيلة تعود فترتسم في القوة الحاسة، فإذا حصلت رسومها في الحاسة المشتركة انفعلت عن تلك الرسوم القوة الباصرة فارتسمت فيها تلك، فيحصل عما في القوة الباصرة منها رسوم تلك في الهواء المضيء المواصل للبصر المنحاز لشعاع البصر، فإذا حصلت تلك الرسوم في الهواء عاد في الهواء فيرتسم من رأس في القوة الباصرة التي في العين، وينعكس ذلك إلى الحاس المشترك وإلى القوة المتخيلة، ولأن هذه كلها متصلة بعضها ببعض فيصير ما أعطاه العقل الفعال من ذلك مرئيا لهذا الإنسان، فإذا اتفقت المحاكيات التي حاكت بها القوة المتخيلة تلك الأشياء مع محسوسات في نهاية الجمال والكمال قال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود شيء منها في سائر الموجودات أصلا، ولا يمتنع أن يكون الإنسان إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال فيقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية.
فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة، ودون هذا من يرى جميع هذه بعضها في يقظته وبعضها في نومه، ومن يتخيل في نفسه هذه الأشياء كلها ولكن لا يراها ببصره، ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط، وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يعبرون بها أقاويل محاكية ورموزا وألغازا وإبدالات وتشبيهات، ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتا كثيرا، فمنهم من يقبل الجزئيات ويراها في يقظته فقط ولا يقبل المعقولات، ومنهم من يقبل المعقولات ويراها في اليقظة ولا يقبل الجزئيات، ومنهم من يقبل بعضها ويراها دون بعض، ومنهم من يرى شيئا في يقظته ولا يقبل في نومه فقط، فيقبل في نومه الجزئيات ولا يقبل المعقولات، ومنهم من يقبل شيئا من هذه وشيئا من هذه، ومنهم من يقبل شيئا من الجزئيات فقط، وعلى هذا يوجد الأكثر.
والناس أيضا يتفاضلون في هذا، وكل هذه معاونة للقوة الناطقة، وقد تعرض عوارض يتغير بها مزاج الإنسان فيصير بذلك معدا لأن يقبل عن العقل الفعال بعض هذه في اليقظة أحيانا وفي النوم أحيانا؛ فبعضهم يبقى ذلك فيهم زمنا إلى وقت ما ثم يزول، وقد تعرض أيضا للإنسان عوارض فيفسد بها مزاجه وتفسد تخيله فيرى أشياء مما تركبه القوة المتخيلة على تلك الوجوه بما ليس لها وجود ولا هي محاكيات لوجود، وهؤلاء الممرورون والمجانين وأشباههم.
1
تقدير الوحي عند الإفرنج
ولننظر الآن في تقدير الوحي عند الإفرنج؛ فقد جاء في قاموس لاروس في تفسير كلمة
Inspiration
ص537، ما نصه: حقيقته فعل يدخل به الهواء في الرئتين، ومجازا نصيحة أو إيحاء، أو حالة نفسية يوجد عليها الروح عندما يكون مباشرة تحت تأثير قوة فوق الطبيعة؛ كوحي موسى والأنبياء.
وهو التحمس عند نظم الشعراء، ويقال وحي العباقرة وصفا على ما يصل إليهم من الأفكار الخارقة للعادة التي تؤدي للأعمال الجليلة.
وجاء في تفسير كلمة وحي من قاموس الكتاب المقدس ما نصه: تستعمل هذه الكلمة للدلالة على نبوة خاصة بمدينة أو شعب، وجاء (في حز 12: 1): «هذا الوحي هو الرئيس»؛ أي إنه آية الشعب، وعلى العموم يراد بالوحي الإلهام، وعليه يقال «إن الكتاب موحى به من الله.» والوحي بهذا المعنى هو حلول روح الله في روح الكتاب الملهمين، وذلك على أنواع: (1)
إفادتهم بحقائق روحية أو حوادث مستقبلة لا يمكنهم الوصول إليها إلا به. (2)
إرشادهم إلى تأليف حوادث معروفة أو حقائق مقررة والتفوه بها شفاها أو تدوينها كتابة بحيث يعصمون من الخطأ، فيقال «تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس.»
وهنا لا يفقد المتكلم أو الكاتب شيئا من شخصيته، وإنما يؤثر فيه الروح الإلهي بحيث يستعمل ما عنده من القوى والصفات وفق إرشاده تعالى؛ ولهذا نرى في كل مؤلف من الكتاب الكرام ما تميز به من المواهب الطبيعية ونمط التأليف وما شابه ذلك، وفي شرح هذا التعليم دقة.
وقد اختلف العلماء فيما أوردوه من شرحه، غير أن جميع المسيحيين يتفقون على أن الله قد أوحى لأولئك الكتاب ليدونوا إرادته، ويفيدوا الإنسان ما يجب من الإيمان والعمل لكي ينال الخلاص الأبدي.
وجاء في قاموس الكتاب المقدس في تفسير ألفاظ: (نبي، نبوة، أنبياء) ما نصه: النبوة لفظة تفيد معنى الإخبار عن الله وعن الأمور الدينية، ولا سيما عما سيحدث فيما بعد. وسمي هارون نبيا لأنه كان المخبر والمتكلم عن موسى؛ نظرا لفصاحته وفهاهة أخيه. أما أنبياء العهد القديم فكانوا ينادون بالشريعة الموسوية وينبئون بمجيء المسيح.
وبعض الأنبياء الملهمين كان يختصهم الله بوحيه ولم يتعلموا من قبل ولا دخلوا مدارس، وكان بعضهم كعاموس راعيا وجاني جميز.
أما النبوة فكانت على أنواع مختلفة؛ كالأحلام، والرؤى، والتبليغ، وأحيانا كثيرة كان الأنبياء يرون الأمور المستقبلة بدون تمييز أزمنتها، فكانت تقترن في رؤاهم الحوادث القريبة العهد مع البعيدة كاقتران نجاة اليهود من الآشوريين بخلاص العالم بواسطة المسيح.
وقد أرسل الله الأنبياء الملهمين ليعلنوا مشيئته وليصلحوا الشئون الدينية، وعلى الأخص ليخبروا بالمسيح الآتي ليخلص العالم.
وكانوا القوة العظمى الفعالة في تعليم الشعب وتنبيهه وإرشاده إلى سبيل الحق، وكان لهم دخل عظيم في الأمور السياسية. ا.ه. بنصه.
فلننظر الآن فيما قاله نقاد الإفرنج، وقبل ذلك أريد أن أذكر من يعلمون وأؤكد لمن لا يعلمون أن الكثرة من هؤلاء النقاد في جانب تصديق النبي في كل ما رواه عن الوحي ولكن الخلاف بينهم في تعليله، وبعضهم يستنبط حقائق تؤيد صدق النبي وإن كان هذا ضد نزعتهم؛ فقد قال مرغليوث في ترجمته (ص72): إن محمدا كان بعد زواجه تاجرا خاملا غير متميز على أقرانه بشيء، وكل ما يؤثر عنه من الأقوال في تلك الفترة كان عاديا أو تافها ولا يستحق التدوين؛ ومن ذلك ما اقترحه النبي محمد على عرفجة بن الأسعد الذي جدع أنفه في إحدى معارك الجاهلية فصنعوا له أنفا من الفضة، فلما رآه محمد اقترح عليه صياغة أنف من ذهب (المسند، ج5، ص25). ويقول مرغليوث : إن معظم أبطال الأمم ظهروا لدى الحوادث الجسيمة التي تهيئ لهم ظروف الظهور فتسنح لهم فرصة العمل والشهرة؛ فالأزمة أو الموقف الحرج يدعوهم فيلبون نداءه، وهكذا يشيدون مجدهم بأعمال جليلة تنقذ أوطانهم أو تخلصها من خطر داهم. يقول مرغليوث: أما محمد فلم توجد له هذه الفرصة ولم تحدث لوطنه أزمة تدعوه؛ فهو ليس مدينا بظهوره لأزمة قومية من الأزمات التي تظهر الأبطال في الأمم، ومن المستحيل أن نجد ظرفا قويا يحفزه إلى الظهور بمظهر النبوة والرسالة، وإذن لا يكون للظروف فضل في ظهوره، ولم يستغل من موقف أمته شيئا ولكنه على الرغم من عدم استناده إلى هذا الظرف الذي استند إلى مثله كل العظماء، ظهر فجأة على قمة الأربعين على رأس جمعية سرية (هكذا يصف مرغليوث جماعة المسلمين الأولى متأثرا بالأفكار الثورية الحديثة) غايتها إحداث انقلاب لهدم الكيان الاجتماعي وإعادة بنائه من جديد.
وإذن لم يكن محمد في أثناء شبابه وكهولته - أي في الفترة من عمره التي سبقت الوحي - يفكر في مشروع إصلاح، ولم يكن يدبر خطة مرسومة للقضاء على معتقدات قومه وشريعتهم. هذا قول مرغليوث، فلو أنه كان يفكر في شيء من هذا القبيل - أي إنه لو كان في فترة شبابه يدبر خطة الثورة ليحدث الانقلاب، ويظهر زعيما - كان الأفضل له أن ينتظر فرصة الدخول في دار الندوة - وهي مجلس النواب المكي ومجلسها التشريعي - وهناك كان يمكنه أن يهيئ وسائل العمل والنجاح لمشروعه، وقد كانت تلك الفرصة متاحة له في سن الأربعين، وكان نسبه ومركزه الاجتماعي وشهرته تعينه على أن يكون من أشهر أعضاء دار الندوة، ولكنه لم ينتظر ذلك، وحينئذ لم يكن سياسيا ولم يخطر بباله أن يصلح قومه من هذا السبيل! فمرغليوث يبرئ محمدا من التدبير السابق وينفي عنه الخطة المرسومة السابقة على الوحي.
ويقول مرغليوث: إنه على افتراض وجود هذه الخطة عند محمد والاستعداد لها بطريقة البرلمان المكي، فلم يكن لينجح كثيرا؛ لأن محمدا لم يكن قبل النبوة فصيحا ولا حاضر البديهة ولا قادرا على المناقشة والحوار وسرعة الجواب للوقوف أمام فحول قريش، أمثال أبي جهل الذي كان يسمى فرعون قريش، وغيره عشرات من الدهاة وجبابرة العقول وخطباء المنابر وشعراء المحافل الذين خضعوا فيما بعد للإسلام.
ويقول مرغليوث: إنه مع هذا العجز اللفظي كانت طريقة دار الندوة أسهل للنبي، وأكثر انطباقا على مزاجه؛ لأنه كان يميل إلى الطرق الودية العادية ويفضل الخطط المألوفة، أما طريقة الثورة والانقلاب والهدم التي لجأ محمد إليها وهي تخالف طبعه ومزاجه، فلا ريب أنه أقدم عليها مرغما، أي إنه لم يكن لديه مجال بين المسلكين، ولو أنه كان مدبرا ومتصنعا، إذن لاختار خطة دار الندوة.
فإذن يكون التجاؤه إلى ما سماه مرغليوث بالجمعية السرية اضطراريا وخارجا عن إرادته، وليست هذه حال الذي يقضي عشرات السنين في رسم الخطط السياسية والتشريعية والاجتماعية؛ إذن يكون مرغليوث مقرا بأن محمدا قد خضع لدافع خارجي من غير تدبيره.
ويقول ستار بوك في تفسير علمي نفساني للوحي: «إن الإرادة التي تتم هي بلا ريب دليل على أن ازدهار (نشوء) اتصالات عصبية جديدة، وعلى أن قناة جديدة للنشاط الذهني قد فتحت، وفي الوقت المناسب تتم بتركيز القوة في الاتجاه المعين، وبواسطة ازدياد الدورة وتعلية التغذية لهذه النقطة نفسها معونة على تكوين اتصالات الأعصاب الجديدة، والتي بواسطتها تتسع القوة الكامنة المدخرة بنفسها، وهذه القوة الكامنة تتفق مع الإدراك الجديد.»
ويريد ستار بوك أن يعلل بهذه النبذة الحالة النفسية التي يكون عليها الأشخاص الذين يطلقون دينهم، وينتحلون دينا جديدا.
وترى مرغليوث يحاول تعليل التطور الذي طرأ على نفسية محمد، ولكنه يتردد، ثم يقلع عن المقارنة بين محمد والأشخاص الذين ذكرهم ستار بوك، ثم يبحث عن تفسير حالة النبي في سورة «الشرح».
ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب .
فيقول مرغليوث: لقد أضاف القرآن إلى شرح الصدر ورفع الذكر وضع الوزر أي غفران الذنب.
وفي الحالات العادية التي تصحب تغيير العقيدة لا يشعر الذي يعتنق الدين الجديد إلا بشعور الغفران وهو الذي يطمئن له ويفرح به. أما شرح الصدر ورفعة الذكر فلا يوجدان إلا في الحالات التي يكون المغير لعقيدته شخصا ذا مواهب خارقة للعادة.
وإذن يصل مرغليوث إلى نتيجة عظيمة جدا؛ وهي أن الذي حدث لمحمد
صلى الله عليه وسلم
بالوحي لم يكن من الحالات العادية التي تحدث للأشخاص الذين يرتدون عن أديانهم، ولا يمكن أن تنطبق عليه نظرية ستار بوك ولا تفسيره، وهو الذي انقطع لدرس نفسيات الذين غيروا أديانهم وتحليلها؛ لأن محمدا لم يكن همه غفران ذنوبه، ولكنه كان مقصودا بسعة الصدر وكبر القلب ليتمكن من جلائل الأعمال التي بها تتم رفعة الذكر، ومثل هذا لا يكون إلا لنبي مرسل.
وترى مرغليوث حائرا في تفسير الوحي والرسالة، ولكنه قبل كل شيء ينفي عن محمد تقليد موسى أو عيسى، وينفي عنه علمه بزردشت، ويثبت حدوث الكوارث في إيوان كسرى عند مولد النبي، ويهزأ بالأشخاص الذين حاولوا الظهور بالنبوة في جزيرة العرب، أمثال خالد بن سنان، وحنظلة بن صفوان، ويصف مسيلمة بأنه كان مشعوذا؛ لأنه أدخل بيضة سليمة في فم قنينة!
وعندما يضيق مرغليوث ذرعا يقول: إننا عاجزون (ص80) عن افتراض أي تعليل لقيام ذلك العربي بالنبوة، ولا يمكننا أن نعلل كيف نشأت فكرة النبوة في عقل هذا الرجل، ولا نعلم كيف اتفق له أن يكون متحليا بالصبر وصدق العزيمة واللوذعية التي أدت به إلى النجاح. وصدق كارليل الذي قال: إن الحديد والماء المغلي موجودان من عهد قابيل، ولكن على مدى هذه الألوف من السنين لم يخترع أحد الآلة البخارية، فإما أن الرجال كانت تنقصهم المهارة والفطنة، وإما أنهم لم يمنحوا خلة الصبر التي تثمر النجاح.
وهكذا في حالة محمد؛ لو أن الأمر كان محتاجا إلى النطق بالتوحيد والدعوة لاستطاع رجال كثيرون قبله أو في عصره أن يكونوا رسلا وأنبياء.
ويسخر مرغليوث من سخافة هند بنت أبي جهل التي قالت: لو شاء أبي أن يكون نبيا لكان، ولكنه كان يأبى الفتنة ...
فمرغليوث - وهو من غلاة الناقدين للنبي - يتكلم كما لو كان في فمه ماء، يريد أن يعترف بالوحي والنبوة والرسالة اعترافا صريحا، ويقدم لذلك المقدمات، ويؤدي بالحقائق والوقائع التي تقود القارئ إلى هذه النتيجة، ولكنه يعود فيتذكر أنه لم يكن في صف خصومه ومنكري وحيه، فهو على الأقل على الحياد؛ فيعطينا مواد البحث، ويرتعد عند الاستنتاج، ولكن الذي يقرأ الفصل الثاني من كتابه - ولا سيما من صفحة 71 إلى 82 - ويحكم بإنصاف، لا يسعه إلا الاعتقاد بتسليم مرغليوث بصدق الوحي:
من الثابت أن محمدا كان رجلا سليم البنية، خاليا من الأمراض العضوية والعصبية؛ فقد عاش إلى نصف العقد السابع بعد أن قضى الثلاثين عاما الأخيرة من عمره في جهاد وكفاح وحرب وجلاد، وقد تحملت بنيته من الجهود والمتاعب المادية والمعنوية ما لا يمكن أن تتحمله بنية الرجل المريض، ولا يعلم عنه أنه أصيب أثناء حياته بمرض ذي خطورة كالحميات الفتاكة التي تترك أثرا في الذهن أو الأعصاب أو الحواس. وكانت طفولته سليمة؛ فقد قضاها في البادية، وقضى شبيبته في مكة وفي الأسفار القريبة والبعيدة، وعند زواجه بالسيدة خديجة في نصف العقد الثالث كان رجلا محفوظ الشباب، بل كان بكرا، فلم يعرف قبل زواجه شيئا مما يعرفه شبان وطنه وزمانه، وقضى فترة الزواج السابقة على الوحي في حالة عادية، ولم يكن به ما يعوقه عن النسل، فرزق الذكور والإناث، ومات ولده إبراهيم المرزوق له من مارية القبطية، وهذه الأعمار محدودة، ولكل أجل كتاب، ولو أردنا مجاراة العلم الحديث لأمكننا تعليل ضعف الصغير باغتراب أمه وكونها من عنصر أجنبي، ولعل حياة الجزيرة العربية ومناخها وملابسات تلك الحياة البدوية الجديدة في جزيرة معظمها صحراوية الأرض موصوفة بأنها واد غير ذي زرع؛ تخالف طبيعة فتاة نشأت على ضفاف النيل في واد ليس ذا زرع فحسب؛ بل شديد الخصوبة والرطوبة.
أقول هذا لتعليل موت الصغير قبل أن يبلغ العاشرة؛ لأن بعض علماء الطب الحديث ينسبون ضعف الصبيان الذين يموتون دون البلوغ إلى علة موروثة عن آبائهم . وأنا أعتقد - والتاريخ يؤيدني - أن محمدا كان سليما من كل ناحية من ناحيات البدن والعقل والأعصاب، فصفات جسمه التي وصلت إلينا تدل كلها على أننا حيال رجل صحيح الجسم والفكر، مفتول العضل، حديد البصر، قوي السمع، دقيق الإحساس، قادر على تحمل الشدائد.
وكل المظاهر العقلية والخلقية التي أثبتها علماء المشرقيات من المؤرخين وغيرهم تدل على شدة الذكاء وثبات الرأي وبعد النظر، وطول الأناة والصبر وسعة الصدر، وبغض العجلة، واللوذعية وسعة الحيلة، وحضور البديهة وسرعة الخاطر في أحرج المواقف وأشد الأزمات، وحينئذ لم تكن عبقريته أو نبوغه الخارق للعادة نتيجة مرض عصبي؛ فإن المدرسة الحديثة في علم النفس والأمراض العصبية تعزو العبقرية إلى نوع من الجنون الذي يرفع مستوى المواهب العقلية، وفي ذلك ألف أرسطو فقال: إن العظماء يظهرون غالبا بأعراض مرض العقل، وقسم أفلاطون البحران إلى قسمين، وهما: بحران الجنون العادي، وبحران ينتج عن سمو العقل، وقال أفلاطون: إن هذا البحران النافع أو السمو العقلي هو الذي ينتج الشعراء والمخترعين والأنبياء (كذا)، وهو ليس شرا ولكنه نعمة من الأرباب. وقال «سنيكا»: إن الذكاء والجنون قريبان. ووصف لامارتين العبقرية بأنها مرض عقلي! وقال باسكال: نهاية العقل في سموه قريبة من الجنون.
وفي العصور الحديثة أيد هذا الرأي ليلوت ومورو (من مدينة تور) ولومبروزو. أما ليلوت فقد أحدث ضجة في سنة 1837 عندما وضع كتابين؛ الأول اسمه «شيطان سقراط»، والثاني عن باسكال اسمه «حجاب أو تعويذة باسكال»، وقال في الأول: إن مؤسس الفلسفة في العالم لم يكن مجنونا بالمجاز، بل كان مجنونا جنونا حقيقيا. وبنى المؤلف رأيه على بحوث فيزيولوجية.
ومثل هذا قاله مورو في كتابه «البسيكولوجية المرضية»، وفي فرنسا ريبو قال بالرأي نفسه، وفي ألمانيا هاجن ورادستوك، وفي إيطاليا لامبروزو.
وظاهر من هذا البيان أن المدرسة اللاتينية والمدرسة الألمانية تميلان إلى تعليل العبقرية بالجنون. أما الإنجليز فقد عارضوا الفكرة، وكان أشهر الكتاب المعارضين لوك، وهلفتيوس، ودكتور جونسون الشهير، وشارلز لام، فقال جونسون: إن العبقرية تصدر عن عقل كبير يتجه إلى ناحية معينة ، ويحصر قوته فيها . وقال «لام»: إن أكبر العباقرة هم أعقل الكتاب، وإن العبقرية نتيجة اتزان المواهب العقلية، في حين أن الجنون يسبب اختلال المواهب. ولا يمكن أن نتصور شاعرا مثل شكسبير في حالة جنون. وشذ عن المدرسة الألمانية الفيلسوف الأشهر جوته؛ فقد قال: إن العبقري يجمع في شخصه أسمى الفضائل، وأرقى الخصال، وأعلى المواهب التي تكون في أسرته أو في قومه.
وجاء إلى نجدة هؤلاء المعارضين الفرنسي فلورنس (1861) فنقد نظرية مورو، وهزأ من شيطان سقراط وتعويذة باسكال، وقال: «إن العبقرية هي القدرة على صدق النظر وسلامة الرأي في أرقى مظاهرها، وإن العبقري هو الذي يشق الطريق إلى الحق.» وكان لكتابه «عن العقل والعبقرية والجنون» شأن عظيم.
وأيده الإنجليزي جالتون فعلل العبقرية بوراثة المواهب العقلية والشعرية والفنية.
وأخيرا جاء مودزلي العالم الإنجليزي العظيم فخطأ مورو القائل بجنون العبقرية وهدم نظريته.
ورأي مودزلي جدير بالنظر؛ فقد قال: «صحيح أنه عندما توجد عاهة وراثية في إحدى الأسر قد يحدث في بعض الأحيان أن أحد أفراد تلك الأسرة الملوثة يظهر عبقرية عظيمة، حالما يكون عضو آخر من هذه الأسرة مجنونا أو مصروعا، ولكن حدوث هذا الأمر لا يثبت شيئا أكثر من أنه كانت هناك حساسية طبيعية كبيرة في الجهاز العصبي، فتبدو هذه الحساسية بتأثير الظروف الخارجية بمظاهر مختلفة؛ فتارة تكون نبوغا وتارة تكون جنونا، ومع ذلك فإن هذه الحالة لا تنطبق على العبقرية العليا؛ لأن كل من تنطبق عليه، يكون شديد الإحساس العصبي، فيفقد بسبب شدة حساسيته العصبية الصفات اللازمة للعبقرية العليا، وهي قوة الهدوء والقدرة على تمثيل الأفكار، فلا يصل صاحبها إلى درجة الشاعر العظيم أو الفيلسوف الكبير، وقدرة الاستنتاج التي تكاد تكون فطرية أو إلهامية، وقد يكون النابغ من أصل مرضي بعيد النظر إلى درجة عظيمة أو صادق الفراسة، ولكنه لا يكون سليما ولا ملما الإلمام الكامل. قد نعجب بشاعرية النابغ من أصل مرضي، ولكننا لا نستطيع أن نصف عبقرية شكسبير أو جوته بأنها صادرة عن الجنون.
قد تكون أعمال العبقري جديدة ولكنها منطوية على خطة مرسومة متقنة، سواء أكان هذا الإتقان نتيجة الوعي أو ضده، في حين أن النابع المرضي يكون مضطربا ولا يقصد بعمله إلى رغبة الخير. ففي حالة العبقري السليم يظهر التنظيم والترتيب في أساس القوة العقلية، أما في حالة النابغ المرضي فتوجد ثورة طائشة هووية متقلبة الأطوار كدليل على الخلاف الميئس بين العقل والمرض (ا.ه. بحروفه عن كتاب باثولوجية العقل لمودزلي).» •••
وبعد عهد مودزلي جاء كتاب وعلماء أخضعوا العبقرية لحكم البيئة والوراثة فقال هربرت سبنسر: إن العبقري هو ثمرة مؤثرات وتيارات اجتماعية متفقة ليس للعبقري عليها سلطان.
وظهر في أمريكا وليم جيمس رأس علماء النفس في العالم الجديد فقال: إن العبقري نتيجة الاختيار والانتقاء الطبيعي؛ فهو نوع قائم بذاته كالأنواع التي تنشأ في عالم النبات والحيوان فجأة ومن تلقاء نفسها. وقد عجز علماء النشوء والارتقاء عن تعليل أصلها. ويليم جيمس يقف أمامها مكتوف الأيدي كما وقف داروين أمام الأنواع المتفاوتة تفاوتا ذاتيا.
وهنا لا يسعنا إلا أن نقارن بين هذا التعليل للعبقرية المطلقة، أي بدون تعيين أشخاص العباقرة؛ لأن ويليم جيمس لم يذكر منهم واحدا معينا، بل تكلم على الجنس بصفة عامة، وندهش كيف أنه التقى مع مرغليوث في تعليل عبقرية معينة، وهي عبقرية محمد، عندما حار هو أيضا في تعليلها؛ فقال (ص80): كيف ولماذا نشأت فكرة القيام بأعباء النبوة في عقل هذا العربي المعين بذاته؟ أو كيف ولماذا أن هذه الفكرة (أي فكرة القيام بأعباء النبوة) وجدت رجلا له الصبر والعزم واللوذعية التي أدت إلى النجاح؟ إننا لا نحير جوابا ولا يمكننا أن نخاطر بجواب على هذين السؤالين حتى ولو كان الجواب من قبيل الظن والتخمين (ا.ه. كلام مرغليوث).
يعني أن مرغليوث عجز في التعليل الخاص على شخص معين، وهو محمد، كما عجز ويليام جيمس في التعليل العام على العباقرة بصفة عامة.
وقد انبرى للرد على سبنسر وأتباعه - القائلين بأن العبقري ثمرة وسطه، ونهاية ما وصلت إليه الطبيعة في تكوين قومه - الأستاذ نيزبيت؛ فقال: إن هذا القول مخالف للعقل والمشاهدة، وعنده أن العبقري حائز لجميع مواهبه المتميزة في شخصه، وأن رأسه يحتوي على كل صفاته، ولا تخرج عبقريته عن أركان مخه؛ فهو الكل في الكل بغير حاجة إلى معونة خارجية كالوسط والبيئة والملابسات الاجتماعية أو القومية. وضرب مثلا بشكسبير فقال: لماذا نبغ هذا الشاعر ولم تكن في قرية سترافورد على نهر آفون في أبريل 1564 عوامل ولا تيارات اجتماعية تستلزم ظهوره؟ ولو فرضنا أن إنجلترا كانت محتاجة في القرن السادس عشر المسيحي لشاعر درامي عظيم، فلماذا وقع الاختيار على وليم شكسبير الابن الثالث لأبيه دون أخيه جيلبرت الذي كان تاجر جوارب وأقمصة أو أخيه أدمون الذي كان ممثلا خاملا (كتاب العبقرية والجنون، ص14).
وهنا يلتقي نيزبيت في تعليل نبوغ شكسبير بمرغليوث في تعليل ظهور محمد في جزيرة العرب.
وقد استجد على البحث ظهور العلم بتحديد مناطق الإدراك في المخ مما يعين على دراسة العقل الإنساني، ولكن هذا الاكتشاف الجديد لم يساعد في تعليل العبقرية قيد أنملة، واستجد اليقين بأن العبقرية ظاهرة من ظواهر النشاط العصبي، وأن مجال المواهب الإنسانية محكوم بالتدبير الفيزيولوجي، وهو نظام قاهر ليس للإنسان عليه أي تأثير أو سلطة.
وانتهى العالم بالاعتراف بأن العبقرية تدخل تحت أحكام القضاء والقدر؛ أي إن الباحثين تناقضوا واختلفوا ثم عجزوا عن الوصول إلى نتيجة حاسمة، أو كما نقول نحن: علمها عند ربي وربهم.
وقالوا أيضا: إن محمدا ظهر بالنبوة لأن بلاد العرب كانت محتاجة لنبي يصلحها وينقذها ويسرع لها ويخرجها من غمرة الجاهلية وظلامها إلى نور العلم والمدنية، وأنهم كانوا متلهفين ينتظرون هذا النبي الجديد، وحينئذ يكون ظهور هذا النبي أمرا منتظما في طبيعة الأشياء؛ لأن أمته وصلت إلى أزمة لا يفرجها إلا بروزه. ويترتب على هذه الفكرة أن محمدا شعر بهذه الحاجة ووجد في نفسه الباطنة تلك المؤهلات التي تكفل له النجاح فنفذ فكرته.
ولكن مرغليوث يرد على هذا الرأي ويستدل على ذلك بحالة العرب في حروب الفجار وفي أثناء بناء الكعبة فيقول مرغليوث (ص76): إن العرب لم يكونوا بحال من الأحوال متشوقين إلى ظهور نبي، ولم يشعروا بالحاجة إليه، بل كانوا قانعين بحياتهم الوثنية، ومستمتعين بشئونهم الاجتماعية ولا يرضون بها بديلا ولا يلتمسونه، وحتى عندما خرجوا لحرب بدر ذهبوا في سرور وطرب، وقد أنفقوا المال بسخاء ونثروا النضار على النساء والخمر وآلات الطرب، وذبحوا الذبائح وأولموا الولائم ونصبوا القصاع والجفان وأطعموا المحاربين وغير المحاربين، وحاربوا بنفوس راضية وطبائع هادئة فأظهروا شجاعتهم، ولكنهم لم يكونوا حاقدين على أعدائهم.
ويريد مرغليوث أن يقول: إن العرب لو كانوا يشعرون بحاجة إلى نبي أو مصلح لرحبوا بمحمد وهو من خيرة رجالهم، ولكنهم على العكس حاربوه وقاوموه بكل قوتهم، في حين أن الأمم التي تنتظر منقذا وتشعر بالحاجة إليه ترحب به وتخضع له وتحني له الرءوس وتكاد تعبده كما وقع للفرنسيين عند ظهور نابوليون بونابرت، والرومان عند بزوغ أنوار قادتهم وأمرائهم، بل وما نراه في عصرنا الحاضر من الإيطاليين نحو بندتيو موسوليني، والألمان نحو أدولف هيتلر، واليونان حيال اليفتريوس فينيزيلوس وأمريكا حيال وشنطون ولينكولن وويلسون وروزفلت، فإن هذه الأمم تسلم زمامها لقادتها وتعينهم على رسالة الخير والإصلاح أو ما يعتقدونه كذلك. وقد بلغت عبادة الأبطال في أوروبا والشرق أبعد مدى حتى ولو كانت رسالتهم أضأل وأقل من رسالة أي نبي.
وبهذا ينهار كل ما كتبه نقاد النبوة وقدموه من شبه في تعليل ظهور محمد.
تناقض الكتاب الإفرنج في تفسير الوحي والنبوة
ومن الكتب الحديثة عن محمد كتاب وضعه المؤرخ ر. ف. ديبيل (طبع هتشينسون في لندن سنة 1938) وقد جعل شعاره كلمة جيبون مؤلف «انحلال دولة الرومان»: لو أنني كنت معاصرا لمحمد بن عبد الله ومعاشرا له ومختلطا به اختلاطا كليا، وحاولت بعد ذلك ترجمته وتفسير حياته، كنت بلا ريب أجد صعوبات لا تعد، وألقى الفشل التام في الوصول إلى نتيجة مرضية في تأليف حياة زاهد حراء وخطيب مكة وفاتح جزيرة العرب.
وهذه حيرة جديدة ندونها لمؤرخ من أشهر مؤرخي العالم.
وقد أحسن مستر ديبيل في اقتباس هذه النبذة؛ لأنها كانت أصدق شعار لكتابه، فهو الآخر يمثل الحيرة والذهول والعجز عن تفسير معجزة النبوة.
والذي يهمنا من كتاب ديبيل درس الفترة اللاحقة للزواج والسابقة للوحي من سن 25 إلى 40، فيقول ديبيل: «إن محمدا في تلك الفترة عاش عيشة هادئة، ولم يكن يفكر في شيء (ص41)؛ لأن مستقبل المادي كان مضمونا؛ لأن خديجة صممت على استمرار أعمالها التجارية فازدهرت جهودها وأثمرت ثروة حسنة، وكان الزواج سعيدا ومنتجا، وكانت خديجة ولادة؛ فقد دخلت له بثلاثة أولاد من زواج سابق، ورزقت منه بأربع بنات، وعدد غير معين من الأولاد (يشير إلى القاسم والطيب). ولما كان محمد لا يحب أن يبقى عاطلا فقد توفق إلى شريك وافتتح معه متجرا في مكة، وفي سنة 610م عندما كان محمد في الأربعين لم يكن له شأن يذكر سوى أنه تاجر غير معروف لم يحدث له حادث يميزه عن قرنائه، ولم يؤثر عنه كلم يدل على مستقبله وكانت كل المظاهر تدل على أنه سيستمر رجلا عاديا لا قيمة له ولا يؤبه به، ولكنه ظهر فجأة بصفات مدهشة؛ منها: حب الاستشهاد، والبساطة الصادقة، والإخلاص الذي لا حد له (ص44)، وكان فوق كل شيء معتقدا تمام الاعتقاد برسالته الإلهية (ص45)، وجاء القرآن بآيات ونبذ لا تجارى في جمال الانفعال الذي تحدثه في نفس سامعها، وقد قدم الله وجعله كل شيء، وعمل على ملاشاة شخصه، وأقر لله بكل قدرة وإرادة، فهل كان محمد مجنونا فظيعا، أم كان عبقريا لا مثيل له في الوجود؟»
ثم حاول المؤلف أن يعلل ظهور النبوة، ويشرح الدوافع التي اقتضتها وشجعت محمدا على تنفيذ فكرتها؛ فقال: «إن الرومان انتهوا يهزءون بآلهتهم، وكان أتباع كنفز وبوذا وزردشت بعيدين عن بلاد العرب فلا يهمه أمرهم، وكان يهود التلمود ونصارى الشرق يحتقرون الأصنام، يعبدون إلها واحدا هو ياهو (جيوفا) وقد اختلفوا فيما بينهم في صفات هذا الإله ووحدته وتعدده.
فكانت فكرة التوحيد في مثل هذه الظروف أفضل من تعدد الآلهة ومن عبادة الأصنام، وأقرب إلى النجاح في نظر رجل يريد أن يعتبر نفسه نبيا» ا.ه. (ص50).
هذا التعليل جميل جدا وصادق ومقبول ومنطقي، ولكن غاب عن ذهن صاحبنا ديبيل شيء واحد، وهو حجر الزاوية في هذا البناء، وهو أنه لم يثبت لنا أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان عارفا بأخبار الرومان وسخريتهم من أربابهم، ولا بما كان واقعا بين النصارى واليهود من أوجه الخلاف، وخصوصا أنه قال إن محمدا كان زوجا مطمئنا وتاجرا عاديا في أحد حوانيت مكة، وكان أميا، وكان مشغولا بحياته المنزلية، ولم يؤثر عنه قول جليل أو فعل عظيم في تلك الفترة التي هي فترة التكوين والاستعداد؛ فمن أين له أن يدرس الحالات الدينية والمعتقدات ليقارن بينها، ثم يخرج بهذه النتيجة المدهشة؛ وهي أفضلية التوحيد على التعدد؟! وقد غاب عن ذهن ديبيل أنه هو الآن يرسم هذه الصورة الدينية؛ لأنه يعرف التاريخ، ولأنه يرى الحوادث على بعد أربعة عشر قرنا، فتخيل أن محمدا كان يرى بعينه ويدرك بعقله ويعلم بعلمه، فهو يكون النظرية في عقل نفسه ويضعها في عقل محمد بطريقة تعسفية، وهذا يدل على ضعف استنتاجه، ثم نراه يتناقض مع مرغليوث بخط مستقيم فيقول (في ص51): إن بلاد العرب كانت محطمة وغير منظمة ومقهورة ووثنية، ومن الواضح أن بلاد العرب كانت محتاجة (كذا) إلى كائن مفرد وواحد أحد يكون تأثيره ونفوذه أعظم من تأثير جميع المعبودات؛ وعليه كانت بلاد العرب محتاجة (كذا) إلى رسول يستثمر سيادة هذا الرب الأوحد ا.ه. بنصه (ص51).
أترى الآن أيها القارئ كيف يتناقض مؤرخان أوروبيان في نقطة واحدة تعد جوهرية في تعليل ظهور النبوة؟ فمرغليوث يجزم بأن العرب لم يكونوا محتاجين لإله ولا لنبي، بل كانوا راضين وقانعين ومستمتعين بمعتقداتهم وشرائعهم وحياتهم الاجتماعية؛ فحاربوا النبي وقاوموه، وتآمروا عليه وشرعوا في قتله، وعذبوه واضطهدوه، ورموه بالحجارة وهزءوه، وحبسوه في الشعب ثلاث سنين، وقاطعوه وقاطعوا كل من تقرب إليه، دع عنك القذف والسب الذي كالوه له في المسجد والأسواق، والهجو شعرا والشتم المقذع؛ كل هذا يؤيد نظرية مرغليوث، ويدل على أن العرب لم يكونوا في حاجة إلى نبي، فلما جاء الرجل وفرض ربه ونفسه وعقيدته عليهم فرضا حاربوه وقاوموه بكل قوتهم، وحشدوا له الرجال والمال واستنفروا عليه العرب واليهود والنصارى، ووضعوا لرأسه ثمنا يدفعونه لمن يأتي به قتيلا.
وديبيل يقول على العكس؛ إنهم كانوا قد ملوا عبادة الأوثان وشعروا بحاجة إلى التوحيد، ولما رأى هذا المؤرخ أن هذه المقدمة لا تتفق مع النتيجة قال في خنوع: «أنا لا أقول إن هذه الأفكار دخلت في رأس محمد بوضوح، ولكن كل سلوكه في بقية حياته يدل على أن هذه الأفكار أو ما يشبهها كانت تفرخ في عقله.» وهنا نقف قليلا ونبسم لقوله إن هذه الأفكار - وهي أساس الرسالة - «لم تدخل رأس محمد بوضوح»، فهل كان محمد من الأشخاص الذين تدخل رءوسهم أفكار غير واضحة وقد وصفه مرغليوث باللوذعية وطول الصبر وهدوء الأعصاب والحرص على الأفكار فلا يبرزها إلا ناضجة؟!
وقد رأينا أن المعتقدات والأحكام والعبادات والآداب التي جاء بها محمد لم يكن من الممكن أن يصل إليها عقله وفكره ولا علومه ومعارفه الكسبية، فيتعين أن يكون ذلك بوحي من الله، ثم إن ما جاء به من هداية الناس وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم كان أعلى في نفسه من معارف البشر في عصره، فيتعين أن يكون وحيا.
ومن المسلم به من الجميع أن محمدا كان أميا، وأن قومه الذين نشأ فيهم كانوا أميين وثنيين جاهلين بعقائد الملل وتواريخ الأمم ومبادئ التشريع وعلوم الفلسفة، وأن مكة عاصمة دولتهم وقاعدة دينهم ومقر كعبتهم ومثوى زعمائهم ورؤسائهم وملتقى الشعوب والقبائل للتجارة والحج والمفاخرة بالفصاحة والبلاغة والشعر والخطب؛ لم يكن بها مدرسة ولا مكتب، ولم يوجد بها كتاب مخطوط، فكيف يهيأ لرجل مثله وفي مثل هذه البيئة الجهالة أن يجيء بدين تام وكامل وشرع عادل عام؟ في حين أن موسى الذي جاء بالتوراة وشرع اليهود نشأ في أعظم بيوت الملك لأعظم شعب في الأرض وأرقاه تشريعا وعلما وحكمة وفنا وصناعة، وهو بيت فرعون مصر، ثم عاش بضع سنين في بيت حميه في مدين وكان نبيا أو كاهنا، وكان موسى نفسه رجلا كبير العقل عظيم الهمة شديد الأسر ظاهر الشجاعة عالما بفنون السحر والحكمة والسياسة، وواقعا على أسرار الكهنوت المصري التي تلقاها أو شهدها في معابدهم.
ثم كان بنشأته وتكوينه زعيما حربيا تمكنه قيادة شعب بأسره والسير به من بلاد العدو بسلسلة من الحيل وأنواع الدهاء السياسي والحربي، ثم إن شعبه الذي كان مظلوما ومضطهدا أطاعه في هجرته وسار تحت علمه رجالا ونساء وأطفالا بخيلهم ورجلهم وأموالهم وأموال المصريين التي حصلوا عليها بطرق احتيالية قبل خروجهم، وكان معظمها من مصوغ الذهب، وكانوا كلهم كأنهم رجل واحد، فأين هذا الاتحاد والطاعة والرغبة في الخلاص من محاربة قريش لمحمد
صلى الله عليه وسلم ؟
وكذلك كان سيدنا عيسى عليه السلام صاحب الدين المسيحي، فإنه على جلالة قدره وعلو ذكره وعظيم مكانته لم يأت بشرع ولا بنبأ غيبي ولا بأحكام اجتماعية، بل كان تابعا لشريعة التوراة مع نسخ قليل من أحكامها وإصلاح روحي أدبي يعالج جمود قومه اليهود؛ ذلك الجمود المادي الذي كان ظاهرا للعيان ومع أنه كان تحت حكم الرومان وكانت رومة ظالمة وفاجرة ووثنية وفاسقة، فلم نر المسيح يوجه رسالة إلى رومة أو إلى أثينا، بل نراه يتخلص بمهارة من المأزق السياسي بقوله: «دعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.»
وهذا السيد المسيح نفسه كان عند نبوته أو رسالته في عنفوان شبابه، ولم تطل تلك الرسالة سوى عام أو بعض عام، ثم سلمه تلاميذه وأقرب الناس إليه إلى بيلاطوس (المندوب السامي الروماني) عدوه وعدوهم وحتموا عليه صلبه وإعدامه.
وبعد هذا فقد كان عيسى شابا زكي الفطرة راجح العقل، وقد نشأ في حجر الشريعة اليهودية، وتلقى أسرار الدين في هياكلها، وقيل إنه حفظ الاسم الأعظم وتمكن بواسطته من عمل العجائب (روى لي ذلك أحد أحبارهم نقلا عن كتبهم السرية المدونة بالعبرية)، واحتك بالمدنية الرومانية، بل كان عائشا هو وأسرته المطهرة في وسطها، وعرف الحكمة الهندية واليونانية، ثم غلب عليه الزهد والروحانية، ثم سافر إلى مصر وأقام بها مدة طويلة، وشجرة الميتاريا (الأمومة) التي لا تزال في المطرية إحدى ضواحي القاهرة - قد أطلق الاسم مشوها على الضاحية - لا تزال شاهدا ماديا على تلك الهجرة، فلا يبعد بعد هذا أن يأتي بتلك الوصايا الأدبية أو بالبرنامج الاشتراكي الذي تضمنته خطبة الجبل.
فلو أننا جمعنا كل ما في التوراة وفي الأناجيل الأربعة ورسائل الرسل وغيرها من آثار هذين الدينين المجيدين، وهو ما جاء به موسى وهارون وعيسى وحواريوه، وقارناه بما جاء في شريعة محمد
صلى الله عليه وسلم
من توحيد الله والاستدلال على قدرته وإرادته وكماله وتنزيهه بالأدلة العقلية والعلمية والمشاهدات الكونية؛ لوجدنا ذلك أرقى مما جاء في الكتب السابقة، ويشهد بهذا علماء الإفرنج أنفسهم.
حيرة علماء الإفرنج في تعليل الوحي والنبوة
حاول بعض علماء الإفرنج تعليل الوحي والنبوة باتصال النبي بنصارى مكة ويهودها، والتلقي عن رهبانهم وأحبارهم.
وعلى هذه النظرية يجب أن يكون محمد قد تعلم شيئا من أساتذة الأديان التي كانت معاصرة له. وقد نفى مرغليوث علم محمد بزردشت واستبعد اتصال العرب بكنفوشيوس وبوذا ولم يبق إلا النصارى واليهود، وكل ما قاله أعلامهم أن محمدا أفاد معلوماته من محادثته لليهود والنصارى، وغاب عنهم أن ما جاء في القرآن وفي الحديث لا يمكن أن يكون نتيجة محادثات، إن كان جاء بطريقة الكسب من الأساتذة فلا بد أن يكون نتيجة دراسة طويلة وبحث طويل، ولم يقل أحد من خصوم النبي ومعاصريه الذين كانوا يتربصون به وينتهزون الفرص لنكايته إنه عاشر أحدا من هؤلاء أو تلقى عنه.
قالوا بحيرا الراهب أستاذه! ومرغليوث نفسه ودرمنجهايم وديبيل لم يذكروا اسم بحيرا في كتبهم، ولو أنهم كانوا يعلقون على هذه الشبهة أتفه النتائج لطنطنوا بها.
كان بحيرا الراهب ناسكا بمدينة بصرى بالشام، وكان نسطوريا من أتباع آريوس في التوحيد، وكان ينكر ألوهية المسيح وعقيدة التثليث، وأن محمدا لا بد أن يكون علم منه عقيدته، وأن بحيرا كان يعتقد أن الله ظهر له وأنبأه بأن سيكون هاديا لآل إسماعيل إلى الدين المسيحي. وقال بعض الرهبان إنه كان معلما لمحمد ومصاحبا له بعد رسالته.
وهذا افتراء بين؛ لأن بحيرا - إن صح ما جاء في كتب السير - لم ير النبي إلا وهو في سن المراهقة؛ أي ابن تسع أو اثني عشر عاما. ومن الطبيعي أن ولدا في هذه السن لا يمكنه أن يفقه المسائل الدينية، خصوصا وأنه كان في صحبة عمه، ولم يكن عمه ليتركه طرفة عين حرصا عليه، وخوفا على حياته. وفي ظني أن العرب لم يذكروا بحيرا الذي يكاد يكون شخصا خرافيا إلا ليؤيدوا البشرى بنبوة محمد؛ لأنهم زعموا أن هذا الراهب رأى سحابة تظلله من الشمس فقال لعمه إنه سيكون له شأنه، وحذره عليه من اليهود.
ويؤيد رأينا في ضعف قصة بحيرا الأستاذ الشيخ رشيد رضا في كتابه «الوحي المحمدي»؛ إذ يقول إن الروايات الخاصة ببحيرا ضعيفة الإسناد إلا رواية الترمذي، وليس فيها اسم بحيرا، وفيها غلط في المتن، وليس في شيء منها أن محمدا سمع من بحيرا شيئا عن عقيدته أو دينه، ولم يكن بحيرا - إن وجد حقيقة - أبله إلى درجة أنه يفاتح صبيا صغيرا بمثل هذه الأسرار العليا ما لم يكن الرجل قد خرف أو عاد لا يعلم من بعد علم شيئا! وحينئذ لا ينفع قوله ولا يضر.
وإنني أظن أن أسطورة بحيرا نشأت من تحمس أصحاب السير في تلفيق أنباء البشارة بالنبي من صغره، وتحذيره من اليهود، فبنى عليها الجماعة ما بنوا.
ولمح بعض العرب لقينا روميا - أي حدادا - كان في مكة، وادعوا أنه كان يعلم محمدا! ومن المضحك أن لا يجد النبي معلما إلا في شخص هذا الحداد! ولعل محمدا كان يراه في السوق فيقف عليه ليرى صنعته، ولم يكن يفقه لغته، ولا يمكنهما التفاهم؛ ولذا جاء في القرآن:
لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .
وذكروا ورقة بن نوفل وقد استوفينا الكلام عليه وعلى عداس النسطوري عند الكلام على أعمال خديجة بعد نزول الوحي، ويكفي أن نشير هنا إلى أن محمدا لم يتصل بورقة إلا بعد نزول الوحي؛ فلقيه مصادفة وهما يطوفان الكعبة فقبل ورقة رأسه وطمأنه على نفسه وبشره بالناموس الأعظم وكان ورقة شيخا فانيا ولم يلبث أن دهمه الموت.
وذكروا قس بن ساعدة وأمية بن أبي الصلت، وكانا من علماء العرب وفصائحها، وقد مات قس قبل بعثة النبي، وسمعه محمد يخطب في عكاظ على جمل أورق ولم يع من كلامه إلا بعض ألفاظ مبهمة.
أما أمية فكان شاعرا كبيرا، وكان أشعر ثقيف، وكان متزهدا، ولبس المسوح، وطمع في النبوة، ورجا أن يكون هو، فلما بعث النبي حسده أمية ورثى قتلى بدر من قريش وحزن عليهم، ثم شق ثوبه وجدع أنف ناقته أسفا على خيبة أمله؛ لأنه رأى في انتصار بدر نجاح محمد، ثم هاجر إلى الطائف هو وابنته غضبا وغيظا ومات هناك!
وبالجملة لم يجد النقاد شخصا يليق في مكة بأن يكون أستاذا لمحمد؛ لأن مكة كان بها يهود ونصارى من طبقة العبيد والرقيق لسادتهم العرب؛ لأن رؤساء قريش لم يكونوا يسمحون لأحد من ذوي الشأن من النصارى أو اليهود أن يقيموا في مكة وهي حرمهم المقدس الخاص بأوثانهم، وإن كانوا يتساهلون مع خدمهم وعبيدهم لأنهم في حاجة إليهم.
وهؤلاء كانوا من طبقة نازلة، وكلهم جهلاء، ولا يتصور أن محمدا يتنزل أو يتدلى إليهم ليتلمذ لهم أو يتلقى عنهم رسالته.
ولذا ترى هؤلاء النقاد والمؤرخين من الإفرنج في حيرة في تعليل ما جاء في القرآن من قصص الرسل؛ فتارة يخترعون أنه تعلم من نصارى مكة ويهودها! وطورا يدعون أنه تتلمذ لراهب البصرى أو سواه في أسفاره القصيرة إلى الشام! وغاب عنهم أو تجاهلوا أن هذه القوافل لم يكن لديها وقت تضيعه في البحوث الدينية والتاريخ القديم، ولم يعلم عن تجارها أنهم كانوا يعنون بلقاء أحبار النصارى ليباحثوهم في دينهم وكتبهم.
ولكن الغريق يتمسك بالقصبة المرضوضة والقشة الخاوية ظنا منه أنها تنقذه من الغرق.
فإذا أعوزهم الدليل على وسيلة التلقي عن معلم أو أستاذ، راحوا يفتشون في نفسية النبي، وأن نفسه كانت شغوفا بأن ترى وأن تسمع وأن تعرف؛ لأن حرمانه من التعليم جعله أشد شوقا إلى المعرفة من غيره، وأن نفسه العظيمة كانت تواقة إلى نور الحياة المتجلي من كل مظاهر الحياة لمن هداه الحق إليها لاستكناه ما تدل هذه المظاهر عليه وما تحدث الموهوبون به؛ أي إن هذا الشغف وهذا الشوق كانا سبب ما انبثق في نفسه بعد ذلك من الوحي.
وترى بعضهم يضيفون إلى ذلك «أن رؤية النجوم في ليالي صيف الصحراء وهي كثيرة العدد، شديدة البريق حتى ليحسب الإنسان أنه يسمع بصيص ضوئها كأنه نغم نار موقدة.
وهكذا كان محمد يحسب أنه يسمع ويرى ما وراء السماء من أصوات، وعدته في ذلك قلب خالص وفؤاد ملآن بالإيمان. وقد أحرجت صدره حياة قريش الخالية من الحق، والحاشدة بالفسوق والباطل؛ ففيها التسري، وشرب الخمر، ولعب الميسر، واستشارة الأزلام، وربا المرابين، ونهب البدو، ولهو الخلفاء، فما زال محمد يتأمل ابتغاء الحقيقة حتى لكان ينسى نفسه وينسى طعامه، وما عجز عن وجوده في كتب الرهبان وقصص الأحبار، حاول البحث عليه في جمال الكون وجلاله وفي كواكب السماء وأقمارها وشموسها، وهو يعتقد أن قومه على ضلال وأنهم عاكفون على عبادة أحجار لا تنفعهم ولا تضرهم، يؤمنون بالجن ويعتقدون بالأشباح والبوارح وقد أهملوا الحقيقة العليا، وقد آن أوان إنقاذهم وهديهم إلى الصراط المستقيم وقيادتهم إلى الحق الذي لا ريب فيه، وقد قويت عقيدة محمد في نفسه وفي حلول الوقت المناسب للقيام بأعباء هذه العقيدة الجليلة التي أبهظت عاتقه.
وعن هذه الطريقة - طريقة العزلة والبعد عن الناس والتأمل في خلق السموات والأرض والشعور بحاجة الأمة إلى دين جديد والخلاص من خرافات الجاهلية وخزعبلاتها - خلصت نفس محمد من كل الآراء التافهة القديمة وتغلبت على القوى التي تخضع لغيرها ومن كل كائن لم يكن مظهرا للواحد الأحد؛ وهو الإله الأعلى.
فبعد العزلة وبعد التأمل وبعد تكوين العقيدة والنظر في الأديان القديمة وفي حاجة الشعوب إلى الإصلاح وتقويم الاعوجاج، بدأت حياة روحية قوية غاية في القوة تأخذ بالأبصار والألباب، ولكنها حياة تضحية خالصة لوجه الله والحق والإنسانية.»
وعلى هذه الصورة الفاتنة في ظاهرها البليغة في شعرها المنثور الخلابة بألوانها المختلفة، يحاول بعض مؤرخي الإفرنج أن يدخلوا في روع المسلمين المتعلمين الذين يقرءون كتبهم ويقبلون عليها لأنها أقرب إلى عقولهم وإلى طريقة تعليمهم؛ أن محمدا صنع نفسه، وسودها بالعزلة والتأمل، ورسم لها خطة البطولة، وحينئذ لا يكون هناك وحي ولا نبوة ولا ملك ولا رسالة! وأن النبوة سبقتها حال تشبه الجنون؛ لأن محمدا غلب على عقله وغاب عن حسه وراح في غشية طويلة لم يفق إلا بحرارة الشمس وأشعة القمر وهبوب الرياح وحفيف الأشجار وتلاطم الأمواج ... إلى آخر ما أملته عليهم أخيلتهم السريعة الجريان الغنية بتصاوير الأوهام!
وحاول بعض علماء الإفرنج أيضا تعليل الوحي والنبوة؛ فقالوا إن الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا عن الخارج؛ وذلك أن نفسه، وسريرته، وقوة إيمانه بالله، وبغضه للوثنية، وخروجه على التقاليد الوراثية؛ كان لها من التأثير ما تجلى في ذهنه وأحدث في عقله الرؤى والأحوال الروحية، فتصور ما اعتقد وجوبه إرشادا إلهيا نازلا عليه من السماء بدون واسطة أو بواسطة رجل تمثل له ولقنه ذلك من عالم الغيب، فرأى وسمع ما اعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام، فهو خبر صادق عنده؛ أي إنه وصل إلى هذا بالإيحاء الذاتي ثم تمكن من تثبيت عقيدته في أذهان تابعيه بالإيحاء الشخصي فأثر فيهم بنفس التأثير الذي حدث له، فهم لا يشكون في صدقه عما رأى وسمع، وإنما يقولون إن منبع ذلك من نفسه، وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي وراء عالم المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس؛ لأنهم لم يثبت عندهم نفيه، وإنما هم يفسرون الظواهر الخارقة للعادة بما عرفوه وثبت عندهم دون ما لم يثبت. •••
ومن مؤلفي الإفرنج إدوار مونتيه مدرس اللغات الشرقية في جامعة جنيف، فقد قال في مقدمة ترجمته للقرآن: كان محمد نبيا صادقا كما كان أنبياء بني إسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين في أولئك الأنبياء أسلافه، فتحدث فيه كما كانت تحدث فيهم ذلك الإلهام النفسي وهذا التضاعف في الشخصية اللذين يحدثان في العقل البشري المرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي من بابها. ا.ه.
إن مسألة الوحي عقدة العقد، ولأجل هذا مهما أسهبنا في بيانها وتحليلها ففيه فائدة لنا وللأغيار، وها نحن قد ألممنا بجميع المقدمات التي استنبطوها من تاريخ محمد وحالته النفسية والعقلية وحالة قومه ووطنه، وما تصوروا أنه أفاده من حله وترحاله في صحبة عمه وصحبة ميسرة رقيق زوجته، وما زعموه من مخالطته لليهود والنصارى والمتألهين والكهان والرهبان والفرس واليونان، وما كان من تأثير خلواته وتأمله في غار حراء بجبل أبي قبيس، وجعلوا تلك المقدمات في أسلوب طلي جذاب ليستنتجوا أن عقل محمد الهيولاني قد أدرك بنوره الذاتي فساد معتقدات قومه وبطلان عبادة الأصنام كما أدرك ذلك رجال غيره من قومه، وأن فطرته النقية قد ازدرت ما كانوا يتنافسون فيه من جمع الأموال بالربا والميسر، وأن فقره وفقر ولي أمره أبي طالب حالا دون انغماسه في الشهوات؛ أي إنه لم يكن عفيفا بطبيعته بل على الرغم منه - ومن العفة أن لا تجد! - فلما اشتد ساعده وتمت مواهبه فكر في إنقاذهم من المعاصي وتطهيرهم من المنكرات، وأنه تعلم ممن لقيهم في مكة وفي غير مكة من اليهود والنصارى أخبار الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله لبني إسرائيل وغيرهم، ولكنه قبل بعض المعلومات واستساغها ورفض البعض وأباه كألوهية المسيح وأمه البتول، وأنه سمع أن الله سيبعث في العرب نبيا قد بشر به عيسى وغيره من الأنبياء، فتعلق بنفسه الرجاء أن يكون هو هذا النبي، واشتد هذا الأمل حتى صار فكرة لازمة لعقله، وما زال يعمل لها بالعزلة وعبادة الله والتوجه إليه في خلواته حتى قوي إيمانه واتسعت دائرة فكره وازداد نور بصيرته؛ فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البينات في ملكوت السموات والأرض، الدالة على وحدانية واجب الوجود ومبدع الكون وخالقه، فلما «وصل» على هذه الطريقة وتأهل لها وصار كفؤا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وهو يفكر ويتأمل وينفعل ويتململ ويؤمل ويتألم ويتقلب على جوانب الضجر والملل في انتظار الغاية التي يرمي إليها، أيقن أنه هو النبي المنتظر الذي يبعثه الله لهداية البشر، فتجلى له هذا الاعتقاد في الرؤيا في النوم، ثم قوي حتى صار يتمثل له الملك يلقنه الوحي في اليقظة، ولكن المعلومات التي جاءته بهذا الوحي فهي مستمدة الأصل من تلك المعلومات التي تقدمت، ومما هداه إليه عقله وتفكيره في التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ولكنها كانت تتجلى له نازلة من السماء وأنها خطاب الخالق - عز وجل - بواسطة الناموس الأكبر (وهو الاسم الذي أطلقه ورقة بن نوفل على ملك الوحي جبريل) الذي كان ينزل على موسى بن عمران وعيسى بن مريم.
هذه هي على التأكيد الصورة العقلية التي حاول رسمها كبار المعارضين للنبوة والذين هم أقل خصومة للنبي من غيرهم، فإن غيرهم لا يتورع عن أن يصفه بالدجل والاحتيال والأثرة وجنون الفخامة والطمع في الملك، والعمل على اقتران اسمه باسم الله.
ونحن نعذر هؤلاء النقاد ونحترم رأيهم، ومن كان منهم ماديا أو ملحدا أو حر الفكر فهو ثائر على كل الأديان ومن بينها دينه المسيحي؛ أمثال إرنست هيكل، وإرنست رينان، وسبنسر، فهم لا يعتقدون أصلا بما وراء الطبيعة ولا بالأرواح. ومنهم من كال للمسيحية من صنوف النقد المر ما لا يعد هذا الكلام الهين اللين بجانبه شيئا! بل نراه يعد ثناء ليس بعده ثناء، ونوعا من الأدب العالي واحترام دين غريب عنهم!
أما المتدينون منهم - سواء أكانوا يهودا كمرغليوث، أو نصارى كديبيل ودرمنجهايم - فهم معذورون؛ لأنهم إذا أعلنوا إيمانهم بالوحي والنبوة صراحة فلم يبق عليهم وهم علماء وعقلاء إلا أن يسلموا ويؤمنوا برب محمد وبعبده ورسوله.
ولعلهم في ضوء ما أظهرته العلوم الحديثة عن عالم الأرواح يعدلون آراءهم ويسلمون بما أصبح واضحا كفلق الصبح.
غير أن هؤلاء الناس يوردون شبهات غليظة اكتشفوها هم مما دونه المسلمون أنفسهم وثبت في كتبهم، ومما كان بلا ريب معلوما في عصر النبي، وهؤلاء خصومه من قريش وغيرهم كانوا يتربصون به الدوائر، فلو أنهم علموا بتلك الشبهات وجعلوا لها شأنا لطبلوا بها وزمروا وطنطنوا بها وشنشنوا، ولاتخذه كبار المشركين شبهة يحتجون بها على أن ما يدعيه من الوحي قد تعلمه في الشام من النصارى؛ فإنهم كانوا يوردون عليه ما هو أضعف وأتفه وأسخف من هذه الشبه؛ ومنها ما ذكرناه من أنه كان في مكة حداد رومي يصنع السيوف في كير وأمامه سندان ومطرقة والشرر يتطاير من ناره وحديده، فكان النبي يقف عنده أحيانا يشاهد صنعته كعادة النبهاء الذين يحفزهم الاستطلاع لرؤية الصناعات الغريبة، خصوصا وأن محمدا أظهر فيما بعد اهتماما عظيما بالسيوف، وكان لها شأن أي شأن في الحروب والغنائم التي يغنمها من الحروب، فزعموا أن محمدا كان يتعلم وسط النار والحديد من ذلك القين الرومي أمور الدين وعلم اللاهوت والفلسفة العليا؛ كأن الحداد كان من رسل المسيح أو من كبار الكهنوت! فرد الله عليهم في وقتها بقوله:
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (سورة النحل: آية 103).
ولو كان الأمر كذلك لاستلزم أن يكون محمد كاذبا ومحتالا ودجالا ومموها وصاحب بهتان؛ لأن رذيلة الكذب وحدها لا تكفي، مع أن الثابت أنه كان الصادق الأمين، ولم يكذب على إنسان قط، فكيف يكذب على الله وقد شهد أبو جهل - وهو أعدى أعدائه - بصدقه؟ وقد جاء في القرآن أن محمدا لم يكن يعرف شيئا من أخبار الرسل وقصصهم قبل الوحي.
وأهم من ذلك كله لو كانت النبوة أمرا كان يرجوه محمد ويتوقعه وكان قد أتم استعداده له باختلائه وتعبده حتى إذا كمل استعداده وتجلى رجاؤه واعتقاده بما تم لظهر عقب ذلك كل ما كانت تنطوي عليه نفسه الوثابة وفكرته الوقادة في سورة أو سور من أبلغ سور القرآن، خصوصا وأنه في أول أمره وفي قمة قوته وعنفوان مظهره، وكذلك لم يكن لينحدر من الجبل مرتجفا مرتعدا محموما تصطك أسنانه وترتعد فرائصه ويسيل عرقه بعد أن رأى أو خيل إليه أنه رأى الأمر الذي كان ينتظره، بل كان ينزل إلى أهله فرحا طروبا منتصرا متشجعا غير هياب ولا وجل مثل كل رجل يجد الأمر الذي كان يسعى إليه ويطلبه.
ولكن ماذا ترى؟ ترى محمدا يحفظ سورة اقرأ باسم ربك وهي بضع آيات ثم ينقطع عنه الوحي ثلاث سنوات تباعا وكان في هذه الأعوام الثلاثة وهي التي يسمونها فترة الانقطاع ساكتا هادئا لم يتل فيها على الناس سورة ولا آية، ولم يدع أحدا إلى شيء، ولا تحدث إلى أهله ولا إلى أصدقائه بشيء؛ لأنهم لم ينقلوا عنه شيئا، فهذا السكوت وحده برهان قاطع على بطلان ما صوروا به استعداده للوحي الذاتي الذي زعموه، واستمداده لعلومه من التلقي والاختبار الذي توهموه.
ومن من المصلحين أو المكتشفين أو من الشعراء أو الطامعين يضيع على نفسه وعلى قومه ثلاث سنين هي التي أتت مباشرة بعد ظهور قوته وتكليل عمله بالنجاح؟! •••
إن الذي ثبت في عقيدتي بعد معرفتي بالنصوص الخاصة بالوحي - بغض الطرف عن تديني أو حرية فكري - أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان صادقا الصدق كله في كل ما يتعلق بالوحي والملك والرسالة، ولم تكن عقيدتي مجرد إيمان بالغيب، بل استندت إلى أدلة عقلية ومنطقية وتاريخية وذات ارتباط بعلوم النفس والاجتماع والأخلاق، فمما لا ريب فيه أنه كان
صلى الله عليه وسلم
يتيما وكان أميا، وقد قضى سن الصبا وسن الشباب هادئا ساكنا لا يعرف عنه علم ولا تخيل ولا شعر ولا خطابة، فأصلح - وهو الأمي، الفقير، البعيد عن الشهرة - أديان البشر من معتقدات وشرائع وآداب، وقلب نظام الأرض فدخلت بتعليمه في طور جديد.
وكان محمد سليم الفطرة، كامل العقل، كريم الأخلاق، صادق الحديث، عفيف النفس قنوعا بالقليل من الرزق، غير طموع بالمال ولا جنوح إلى الملك، وكان يحتقر ما يتنافس فيه قومه من الشهوات؛ كالخمر والميسر، وقد ثبت أنه لم يحضر سمر أهل مكة ولهوهم إلا مرتين ألقى الله عليه النوم في كل منهما، حتى طلعت عليه الشمس فلم ير ولم يسمع شيئا.
ولم يظهر نبي قبله ولا بعده كانت ثماره الطيبة في هداية البشر كثماره
صلى الله عليه وسلم .
وكان أول الناس إيمانا به واهتداء بنبوته أعلمهم بدخيلة أمره، وأولهم زوجته خديجة التي كانت مشهورة بالعقل والفضيلة، ومولاه زيد بن حارثة.
ثم آمن به رجال من أعظم العرب حرية في الفكر، واستقلالا في الرأي؛ كأبي بكر وعمر.
أثر القرآن في أذهان العرب
كان العرب في الجاهلية يعتبرون الأدب
1
ضربا من الفكاهة والتسلية، ولم يعرفوا اسم الأدب بالمعنى الذي نعرفه، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أدبني ربي فأحسن تأديبي.» بمعنى تقويم الخلق، وسمو الفطرة وإرشاد النفس والروح، فكانوا يريدون بالأدب النادرة الظريفة، أو العبارة الطريفة، أو الحكمة البليغة، أو بيت شعر يملك النفس بفصاحته وجمال نظمه، وإلى أن نزل القرآن لم يفهم العرب أن الكلام المنثور قد يكون نتائج العقول والقرائح البشرية وقوة الإدراك والفكر الإنشائي التي تنقنق بها ألسنة الفصحاء والحكماء وتسيل بها أقلام الكتاب فيفيضون على العالم من أحوال الاجتماع وصوره، وأسرار النفوس وخفايا الوجود وتعليل الخلق وتفسير الكون - ما يملأ النفس عظة وعبرة وإعجابا بصحيح الآراء وجمال الافتنان؛ فلما جاء القرآن بهذا كله بهتوا ودهشوا؛ لأن محمدا أخبرهم أنه وحي من عند الله، وليس من صنع البشر، وقد ارتابوا وشكوا، فلم يكن من السهل أن يعتقدوا أن محمدا الذي عرفوه وعاشروه، بقادر على أن يبتكره وينتجه، إن لم يكن بفعل السحر، أو معاونة الجن؛ لقصور أذهانهم عن إدراك حقيقة الوحي، ولهم الأعذار في ذلك لولا تماديهم وإصرارهم أكثر من عشرين عاما، وخضوعهم للقوة المادية دون الإقناع العقلي.
لقد امتازت آيات القرآن عما جاء على ألسنة حكمائهم وخطبائهم وشعرائهم بدقة الإدراك وقوة التعبير وتصوير المعاني النفسية والاجتماعية تصويرا يقرب أن يكون مدركا بالحس كوصف الجنة والنار والحساب والثواب والعقاب وجمال الكون وسحر الوجود وأسرار الحياة وتواريخ الأمم الذاهبة وأخبار الأنبياء والملوك والدول البائدة مما لم يسبق له مثيل في لغتهم، أو في أية لغة أخرى معروفة لديهم؛ كاللغات السامية وبعض اللغات الآرية (الفارسية واليونانية).
فكيف يوفقون بين هذه الحقائق؟
لقد عهدوا البلاغة خلاصة لكد العقول والأفهام وثمرة للاضطراب الفكري الذي ما برح دليلا على قوة الإدراك وحياة النفوس العاقلة؛ ولم يكن لمحمد كد ولا اضطراب ولا حياة عقلية سابقة على بعثته، ولو أن له حياة روحية فما رأوها وما لابسوها؛ لأنها منطوية في دخيلة نفسه، فرأوا أثرها، دون أن يروا حقيقتها المستورة عنهم، المحجوبة بظلمات نفوسهم.
للمرة الأولى في تاريخ حياتهم سمعوا كلاما جديرا بالتقييد والتدوين؛ لأنه إذا يتلى لا يعود إلى أسماعهم مرة أخرى، ما لم يقيد ويربط، لقد كانت الألفاظ عند شعرائهم من وسائل التعبير عن لذة أو ألم أو حسرة أو بهجة أو عاطفة تمر في لحظة من لحظات الحياة، فيكفي أن يدركها عقل قائلها وذهن سامعها كلمعان البرق ثم يتركها تمر ولا تعود، والسعيد أو الشقي من يحفظها ويدخرها في ذاكرته؛ ليستشهد بها أو يتمثل بفكرتها، حتى إن كثيرا من شعرائهم لم يحفظوا أشعارهم ارتكانا على الرواة الذين كانوا يصحبونهم أو يتعقبونهم ليحفظوا عنهم ويؤدوا وظيفة «الذاكرة المتنقلة» المستقلة عن الشاعر، وكذلك كانت حالهم في الخطب والحكم، حتى إن قس بن ساعدة الإيادي، وقد كان قسا بوظيفة أسقف مسيحي
2
ألقى خطبته الشهيرة في سوق عكاظ، واتخذ من جمله الأحمر منبرا، وسمعها محمد في شبابه فلم يع منها حرفا، ولكن آخرين شاركوه في السماع استظهروها ورووها بعد ذلك بأعوام كثيرة.
ولكن العرب رأوا محمدا وصحابته يحرصون على ذلك الكلام، الذي قال: إنه يهبط عليه، ويحيطونه بالعناية ويقيدونه بالكتابة التي تكشف عن أسراره وتبين حقيقته، فلن تكون الآيات من الأقوال التي يدركها العقل ثم يتركها تمر ولا تعود، ولن يكون هذا الكلام كغيره من الكلام العربي من دواعي اللهو أو الفخر والخيلاء، وإنما هو من دواعي الإعجاب والعبرة والتنوير والإرشاد والإنذار والبشرى التي تحول حياة الإنسان تحويلا خطيرا عن مجاريها الأولى، وفيه من الحقائق الأزلية المحتوية على كثير من صور الألوهية والربوبية والنبوة والعبودية وصفات السموات والأرض والألوان وحالات الاجتماع الإنساني وعوالم النبات والحيوان والجماد وصفات الأفلاك والأجرام العلوية، فأحدثت هذه المظاهر الجديدة في نفوس الجاهليين روعة أي روعة ورهبة أي رهبة، ولكنهم ما زالوا في ذهول وخوف، ولما كان الجمال من أخص لوازم الكلام المنثور والمنظوم؛ لأنه من فنونه ولأنه لا يدخل في باب الأدب أو البلاغة حتى يملك الحواس ويأسر العقول بما فيه من جمال التعبير وحسن الأسلوب والافتنان في التنسيق - فقد جاء القرآن مستكملا هذه الشروط، غاية الكمال المطلق، وقد أخذ العرب حقا بما رأوا وسمعوا، وكان أخذهم أشد وأقوى إذ أصر محمد على أن هذا ليس كلامه، وأن ليس له إلا أجر النقل من لسان الوحي.
وعرب الجاهلية مهما وصفوا بالقصور الذهني أو التحلل النفساني، لم يكونوا ليعموا عن الجمال والإبداع والحق على الأقل بين خواصهم، وإن كان يصعب عليهم أن يقروا به أو يعترفوا لمصدره.
ومن هنا قول بعض المتعجلين من ذوي الرأي السطحي بأن العرب أسلموا وآمنوا لما شهدوه من بلاغة القرآن، فإنهم لم يذعنوا يوما لتلك البلاغة مهما سمت؛ لأنها كانت منطوية على حقائق تؤدي إلى ضياع حياتهم وزوال قوتهم، وانحلال مجتمعهم وتحطيم أربابهم، ومحاسبتهم على معاصيهم؛ وهي محط آمالهم واستمتاعهم في حياتهم المادية، وإرهابهم بعذاب النار، والتلويح لهم بالنعيم لقاء تضحيات كبرى؛ ظنوا نفوسهم لا تقوى على خوض غمارها، ولم يكن في العالم رجل يستعذب بلاغة الحكم بإعدامه أو سجنه أو إفلاسه وخراب حياته، ولا يسره أن يقبل على إحدى هذه العقوبات الشديدة؛ لأنها مفرغة في نصوص فصيحة، ولم يكن العرب ممن تغرهم القوالب حتى يقبلوا على معانيها؛ حبا في جمالها ورشاقتها، وإن ساءتهم حقيقتها، وإلا ما خيبوا رجاء نبيهم فيهم ثلاث عشرة سنة ثم أخرجوه من وطنه، فأرغموه على الهجرة.
وهناك أسباب أخرى لإذعان العرب للإسلام غير بلاغة القرآن، سيأتي ذكرها بالإسهاب في مواطنها، غير أننا ها هنا نحاول أن نلم بأثر القرآن في أذهان العرب؛ إذ سمعوا آياته تتلى وتترى حافلة بمعان لم يألفوها وأغراض ومآرب لم يعهدوها؛ كدعوتهم إلى تطهير أنفسهم وترقية ضمائرهم، وخلع أردية الرياء وعدم الخوف من الأوهام التي ركبت كواهلهم في ماضي حياتهم؛ كالإملاق والموت والجن.
وقد ظنوا بعد أن وصل فحول شعرائهم إلى نظم المعلقات وكانوا يعدون على أصابع اليدين، أنهم بلغوا قمة الفصاحة اللفظية؛ لأن دولة الشعر كانت قبيل الإسلام وأثناء ظهوره في أعلى مجدها وأزهى عصورها كما هي عادة الشعر في عهود الانحلال في كل دولة؛ كما حدث في اليونان والرومان والأندلس والفرس وأوروبا الحديثة؛ فإن الدول تزول والأدب في أروع مظاهره.
اقتران ظهور الإسلام بمكارم الأخلاق
جاء القرآن بذكر الخلق فقال في وصف محمد:
وإنك لعلى خلق عظيم (سورة القلم).
وقال الرسول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» وقد ورد هذا الحديث في قصة إسلام أبي ذر، والتعبير من كلام أخي أبي ذر كما جاءت في ج1، من «أسد الغابة فيمن هم الصحابة» لابن الأثير، وفي «مناقب الأنصار» وكان أبو ذر لما بلغه مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاسمع من قوله، فرجع فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق. فهو تعبير إسلامي، وإن الذين عالجوا مكارم الأخلاق لم يوردوا نصا جاهليا فيه هذا التعبير؛ فهو ينحدر من الحديث النبوي (انظر ص33-34، مباحث عربية، للدكتور بشر فارس).
فمكارم الأخلاق التي خلت منها الحياة الجاهلية سبعة: عفوك عمن ظلمك، وإعطاؤك من حرمك، وصلتك من قطعك، وإحسانك إلى من أساء إليك، ونصيحتك من غشك، وحلمك على من أغضبك، وأصل هذه السبعة قوله تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين .
وقوله:
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (سورة فصلت).
وقال تعالى:
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور .
وقال تعالى:
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (سورة الفرقان ).
وقال الخوارزمي في «المكارم والمفاخر» (ص31): «كان فيه - عليه الصلاة والسلام - حلم إبراهيم وزهد عيسى وغلظة موسى وشدة نوح وصبر أيوب وسعة سليمان.»
على أن الجاهلية لم تكن كلها مجدبة من بعض محاسن الخلق، ولكنها لم ترتق إلى درجة مكارم الأخلاق، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يعجب أحيانا ببعض أبطال الجاهلية، كما ورد في ترجمة عنترة أحد أغربة العرب، وعطفه على بنت حاتم طيء الذي اشتهر بالكرم؛ فقد سباها المسلمون في نساء، فلما طلبها أحدهم إلى الرسول قالت: «يا محمد، هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام، أنا بنت حاتم طيء.» فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يا جارية، هذه صفة المؤمن، ولو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه، خلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق.»
وإذن كان الإسلام عادلا في أحكامه على الجاهلية، ولم يتعنت ولم يتجهم كما زعم بعض المتعصبين لها.
وحيثما وجد الإسلام حسنة جاهلية لم ينكرها، وإنما عادى الإسلام الجاهلية من أجل دينها؛ فلم ينكر عليها من آدابها إلا ما كان متصلا بالدين، وقد أقر الإسلام بعض عادات العرب؛ كحفظ الجوار، والوفاء بالعهد، والشجاعة، فمكارم الأخلاق فكرة قرآنية ونظرية إسلامية ورأي محمدي، فقوله عز وجل:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
فيه المروءة بحذافيرها، ربما كانت العرب في الجاهلية تتواصى بالحلم والحياء والتذمم، وتتعاير بالبخل والغدر والسفه، وتتنزه عن الدناءة والمذمة، وتتدرب بالنجدة والصبر والبسالة، وتوجب للجار من حفظ الجوار ورعاية الحق مثل ما توجبه للحميم والشقيق أو ما قد يفوق ذلك، ولكن هذه الصفات كانت مبعثرة في الأفراد والقبائل كوفاء السموأل وكرم حاتم وحلم معن بن زائدة، أما الإسلام فقد جعلها قانونا وقاعدة وشريعة، وهذا من الفروق الجوهرية بين الجاهلية والإسلام؛ فإن كراهية الإسلام للجاهلية وإن كانت باسم الدين وحده فقد شملت وجوها كثيرة كالرذائل والنقائص وانتهاك الحرمات والتقتيل والخمر والميسر، وقد خدم الأدب الإسلامي في هذا البحث الدكتور بشر فارس بإمداد ألقاه في مؤتمر المستشرقين المنعقد في رومة (سبتمبر 1935) وأثبت أن مكارم الأخلاق الإسلامية ورد ذكرها في أكثر من عشرين كتابا مخطوطا وعلى ألسنة الشعراء:
لو أنني خيرت كل فضيلة
ما اخترت غير مكارم الأخلاق
وقول آخر:
أحب مكارم الأخلاق جهدي
وأكره أن أعيب وأن أعابا
وفي جوامع الكلم بعد الإسلام: مكارم الأخلاق من أعمال أهل الجنة، حف الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب (عوارف المعارف للسهروردي)، إن الله خص رسوله بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم، إن الله جعل مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلا بينه وبينكم، مكارم الأخلاق عشرة: صدق الحديث، وصدق البأس في طاعة الله، وإعطاء السائل، ومكافأة الصنيع، وصلة الرحم، وأداء الأمانة، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء (ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق، ص4، مخطوط اطلع عليه بشر بن فارس)، وأهم هذه النصوص ما رواه محمد بن حارث الهلالي أن جبريل نزل على النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: «يا محمد، إني أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة: خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين.» وقال رسول الله: «أدبني ربي فأحسن تأديبي، ثم أمرني بمكارم الأخلاق فقال: خذ العفو ...» إلخ، ونحن لا نبحث في هذا الأمر؛ لأنه دار على أقلام المسلمين وعلى ألسنة شعرائهم فكان مستوليا على أذهانهم؛ ولكن نبحثه؛ لأنه حكم من أحكام الشرع وأصل من أصول الإسلام وأدب من آداب السنة المحمدية، وقد روى الحديث مالك في الموطأ بتعديل خفيف وخرجه البيهقي وكلاهما ثقة، وأقدم منهما أخو أبي ذر في حديث إسلامه، ورواه علي بن أبي طالب وعائشة - رضي الله عنهما، فهو صحيح على الرغم ممن حاوله المستشرق فنسنك من التشكيك في لفظ: «مكارم الأخلاق» واستبدال: «حسن الأخلاق» بها كرواية مالك أنه قد بلغه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «بعثت لأتمم حسن الخلق.» ونحن لا نقلل من قدر سيدنا مالك - رضي الله عنه، ولكن عدد الذين ذكروا «مكارم الأخلاق» بالنص أوفر؛ وهم: علي، وعائشة، وأخو أبي ذر، وخرجه البيهقي في السنن، والأقطع في هذا أن الجاهلية لم يذكروا هذا التعبير في شيء من أقوالهم.
ومن الطريف حقا أن يذكر بعض مؤلفي الإسلام بعض آداب النصرانية في معارضة أدب التوراة، فبينا ترى شريعة اليهود العين بالعين والسن بالسن، وشريعة النصارى النهي عن مقاومة الشر بمثله والصفح عمن يصفعه أو يسلب ثوبه أو يسخره وأن يحب عدوه إلخ، ترى مكارم الأخلاق الإسلامية بنص القرآن: أخذ العفو، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، وقد فسرها علماء الأخلاق وحكماء المسلمين بجماع الفضائل العشر التي ذكرناها.
بلاغة القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم
أحب أن أوضح قصدي قبل الدخول في هذا الباب؛ فلا أزعم أنني أندب نفسي لأظهر محاسن القرآن أو أدافع عنه، أو أقارن بينه وبين البلاغة المحمدية؛ فقد قام بهذه الفروض قبلي أئمة؛ أمثال: سيدنا عبد القاهر الجرجاني، وابن سلام، والجاحظ، وأبي قدامة بن جعفر، وابن الأثير، وعشرات غيرهم من فحول النقد الأدبي في النثر العربي، وأتوا بنظريات جليلة في بحوثهم القيمة، وفي العهد الأخير تقدم المرحوم مصطفى صادق الرافعي بكتاب «إعجاز القرآن» مستعرضا فيه آراء الأئمة ورأيه، فكان آية في الفهم والإخلاص والوفاء للغته ومعتقده، ولكن الذي أرمي إليه وأحاوله وأحسب أنني بلغته فيما بيني وبين نفسي حتى أحببت أن يكون بيني وبين قراء العربية: هو إثبات الفوارق بين كلام الله وكلام رسوله؛ وإن كانا من نبع واحد؛ فإنهما كالنهرين الذين يصدران عن عين واحدة ثم ينشقان ويفترقان ليصيب الخير منهما أرضا جدباء كانت محرومة، وطوبى للأرض التي تستقي منهما وتروى بمائهما وتغمر بفيض خيرهما! وإذن يكون من المستحيل على محمد أو غير محمد أن يأتي بشيء من القرآن من عنده؛ دفعا لشبهة الذين قالوا وكرروا وماروا في الحق أن الوحي لم يكن إلا تكامل الملكة المحمدية، فالقرآن من عند الله، ومحمد لم يكن حياله إلا بشرا ناطقا بما يوحى إليه من كلام الله - تبارك وتعالى. وأقدم بين أيدي القراء أنني لم أرض لنفسي أن تتأثر بما سبق الكتاب إليه، لأنظر: هل يصل الفرد بمجرد جهده الشخصي للاقتناع بهذه النظرية؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، أنتقل إلى النقطة الثانية؛ وهي: هل يمكنني أن أنقل هذا الاعتقاد الذي ثبت في نفسي بالدرس والتقرير والاستقراء والاستنباط إلى غيري؟ فإنه لا يخلو الأمر من أن يسأل المرء نفسه كيف يكون رجل واحد فينطق بكلام فيقول: إنه قرآن من عند الله، ثم ينطق بكلام آخر فيقول: إنه كلامه من عند نفسه؟ وكيف يمكن التمييز والتفريق في نفس واحدة وعقل واحد ووعي واحد وإدراك واحد تغذيها حواس محدودة معلومة بين نوعين من الكلام الحكيم البليغ؟ وقد كان أول ما لفت نظري إلى تلك الفوارق المهولة بين القرآن والحديث اختلاف الأسلوب واختلاف المناحي واختلاف الألفاظ والمعاني، اختلافا لا يتهيأ لمصدر واحد مهما كان المتكلم صناعا أو حذورا. •••
ولا شك أن العرب قد بلغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة وكمال الفطرة ودقة الحس حتى أوشكوا أن يصيروا في هذه المواهب قبيلا واحدا باجتماعهم على بلاغة الكلمة ودقة المعنى وفصاحة المنطق، ولم تظهر هذه المواهب في أمة قديمة ظهورها في جاهلية العرب، فجاء القرآن أفصح كلام، وأبلغه لفظا وأحكمه معنى وأعجبه أسلوبا، وقد فاز الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز» بأن أثبت إعجاز القرآن فنقض نظريتين قديمتين: إحداهما تجعل جمال الكلام في اللفظ، والأخرى تجعله في المعنى، وانتهى به البحث إلى أن الجمال ليس في اللفظ ولا في المعنى، وإنما هو في الأسلوب، وبين جمال أسلوب القرآن وروعته أجلى بيان، وقد وفق فيما عرض له توفيقا يدعو إلى الإعجاب، وخلد اسمه على وجه الدهور والأحقاب.
وكان من جمال أسلوب القرآن أن وجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة يومئذ بالألسنة، ومن الأدلة المنطقية أن القرآن ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها، فيما هي قوية به بحيث يشعر أهلها بالعجز والضعف شعورا لا حيلة لهم فيه، فخذلت الوحدة العربية من قبله ما كانت تعده أكبر فخرها وأجمل صنعها وأعظم مواهبها، وكان العرب كالحصى عددا وكثرة وليس لمحمد سوى نفسه وسوى نفر قليل معه استجابوا له وبذلوه مقادتهم ونصرتهم بعد أن سمعوا القرآن وأحسوا منه ما استهواهم وغلبهم على أنفسهم (إسلام عمر بن الخطاب).
لهذا قام كل فرد من هؤلاء النخبة من الرجال في نصرته، وكأنه في نفسه قبيلة بمقدار حميتها وحفاظها ونجدتها ووثبتها وثباتها وتضحيتها.
نزل القرآن فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أملوا أن يطلعوا عليه في آياته البينات كما يعتري الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في فطرة كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة؛ ارتفاعا وهبوطا، وعلوا ونزولا، على حسب ما لا بد منه من اختلاف المعاني وتباين الأحوال النفسية، ومروا ينتظرون وهم معدون له التكذيب ومتربصون به حالة من تلك الأحوال، فذهب صبرهم عبثا، وولى تربصهم ضياعا، وخابت آمالهم في انتظار فرصة الانتقام؛ لأن القرآن استمر ينزل في ديباجة كالسماء في استوائها؛ لا وهى ولا صدع.
وكان من عادة العرب أن يتحدى بعضهم بعضا في المساجلة والمقارضة بالشعر والخطب، فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه، وسلك إلى ذلك سبيل الترقي كأنها قضية في منطق التاريخ لتسجيل الإعجاز تسجيلا ثابتا بالتدريج، وكانوا أفصح الناس وأبلغهم، فلو كان فيهم قادر على معارضته ما تردد، ولكنهم عجزوا وجمدوا وكمدوا، فلا قرآن مثله، ولا عشر سور، ولا سورة، ولا آيات معدودات، ولا آية واحدة، فلما ظهر الفوز في جانبه، قرن التحدي بالتأنيب والتقريع والاستفزاز:
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين .
فلما فشلوا توقحوا وقذفوا واختلقوا؛ ليطفئوا نيران حقدهم وحسدهم، وليبرروا موقفهم من الشك والخذلان؛ فقالوا: شاعر، ومجنون، وساحر، ومؤلف أساطير الأولين يعيدها في قالب جديد، وإنما يعلمه بشر؛ زعموا أن هذا البشر الذي يعلمه هو سلمان الفارسي الذي لم يره النبي إلا في المدينة بعد الهجرة، وبعد نزول القرآن! وزعموا أنه رومي اسمه بلعام! وكان بلعام هذا قد أسلم ويقرأ على النبي؛ فهو تلميذه لا معلمه! وقالوا: اسمه جبر أو يسار.
وظاهر أنهم ما داموا ذكروا اسما فقد عرفوا صاحبه، وكان بين أظهرهم يكلمونه مدى أعمارهم، فهل سمعوا منه شيئا مما ادعى أنه علمه النبي؟ وهل حكي عن واحد من هؤلاء الفرس أو الروم شيء من مثل ما كان يجيء به محمد؟ وهل عرف واحد منهم بمعرفة شيء من ذلك؟ وما منع العدو حينئذ على كثرة عدده ودؤب طلبه وقوة حسده وبغضه أن يجلس إلى هذا المعلم الفارسي أو الرومي فيأخذ عنه ما يعارض به؟! وقد أجمل الجاحظ هذه القضية التاريخية بقوله: «دعاهم بالحجة، فلما قطع العذر، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف، فقتل من عليتهم وأعلامهم، وهو في ذلك يحتج بالقرآن ويدعوهم صباحا ومساء لمعارضته، فكلما ازداد تحديا لهم وتقريعا لعجزهم تكشف نقصهم، مع كثرة من هجاه كأبي لهب؛ لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا لا يخفى على قريش، ثم تحدى أقصاهم بعد أن عجز أدناهم، فمحال أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف مع التقريع بالنقص والعجز، وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه.
وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه.»
وقال المعري في رسالة الغفران: «أجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجة ومغتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم
كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الأرب، وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق.» •••
إني أتخذ من الاختلاف في الأسلوب بين القرآن والحديث دليلا علميا وعقليا وأدبيا على صحة الوحي، وإن كنت في غنى عنه، ولكنني أحببت أن لا أترك ثغرة ولا صدعا ولا منفذا لولوج الحجة الباطلة والفتنة الحاقدة والدسيسة الحاسدة، وإن هذا الاختلاف ظاهر ظهور الشمس، وقال به أشد خصوم النبي أثناء معاصرته، ولذا كانت حيرتهم شديدة؛ فإن الرجل لا يمكن أن يكون له أسلوبان في الكلام، وكذلك لا يملكون تعليل هذه الخطة التي ظنوا ظلما أنه سلكها بنظم الآيات وينسبها إلى الله، ثم يترسل في الحديث ترسلا سائلا ومجيبا، ناقدا أو مقرظا، مستحسنا أم مستهجنا، متنبئا من قريب أو بعيد ببشرى أو بوعيد، ثم يضيف هذا القول كله إلى نفسه؟! وأية غاية له في ذلك التفريق؟! وما هو المرمى الذي يصوب إليه هدفه؟! وما على الناس إذا كان هذا هو كلام الله، وهذا هو كلامه؟!
لا شك أن هذا السؤال ليجول بخاطر المعترض والخصيم لو أن محمدا انتحل القرآن لنفسه، وادعاه من دون الله، ونسي وحيه لصدقه الناس، وكان هذا أدعى إلى الفخر والمباهاة والشهرة وذيوع الصيت؛ لدلالته على القدرة الباهرة في نظم الكلام وتأليفه والاطلاع على علوم الأولين والآخرين، والوقوف على أسرار الكون والعالم بما لم يسبق لأحد من الحكماء والمشترعين من قبل، ولكن هذا الكذب لا تقبله نفس محمد ولا ترضاه سريرته ولا يتحمله ضميره فضلا عن أنه لو كان القرآن هو كلامه، ما تمكن من التفكير في أسلوب آخر ينطق به في أوقات أخرى، خصوصا وأن القرآن كان يؤاتيه ويهبط عليه في أحوال شاذة من كرب وضيق وعرق ورجفة، وقد تواتر الصدق في رواية صفته عندما كان يجيء الوحي على هذه الحال، وهي حال استثنائية لا يمكن فيها للكاتب أو المفكر أو الشاعر الذي أحوج ما هو إليه، أن يملك زمام نفسه واعتدال مزاجه، في حين أن حديثه وجوامع كلمه ومواعظه ونصحه كان ينطق بها وهو على أشد ما يكون راحة وهدوءا وسلامة بدن وسكون بال، ومع هذا الفرق كان لكلام رسول الله نمط خاص وديباجة شخصية وأسلوب بعينه، لم ينهج إليه نهج التقليد، ولم يتقيد فيه بقيد من صنعته، بل تبعا لفطرته وسجيته، وإن كان استمع حينا إلى بعض الفصحاء، فلم يكن لكلامهم تأثير على نفسه، إلا بقدر ما يتأثر السامع للألفاظ، الواعي لمعانيها دون أن تترك في ذهنه أثرا مرهونا بوقته؛ فقد ذكر - عليه الصلاة والسلام - أنه نظر إلى قس بن ساعدة بعكاظ على جمل أحمر وأنصت إليه وهو يقول: «أيها الناس، اجتمعوا ثم اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، يا معشر أياد، أين ثمود وعاد؟! وأين الآباء والأجداد؟! وأين المعروف الذي لم يشكر؟! وأين الظلم الذي لم ينكر؟! أقسم قس قسما حقا أن لله دينا هو أرضى عنده من دينكم، ثم أنشد شعرا فهل من يحفظه؟»
انتهت رواية رسول الله، فقال بعضهم: أنا أحفظه. فقال الرسول: «هاته» فأنشد:
في الذاهبين الأولين
من القرون لنا بصائر
إلى آخر الأبيات الخمسة.
ويفاد من هذه الرواية أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان يغشى الأسواق، ويقف على الخطباء، ويعي أقوالهم، ولكنه لا يحفظ الشعر ولا يرويه، ولم يع من الخطبة إلا ما كانت له علاقة بالدين الذي كانت أخيلته تتمثل لأذهان أهل الذكاء والأخلاق الكريمة ممن أسخطتهم الوثنية، فهذا قس يقسم حقا «أن لله لدينا هو أرضى عنده من دين الجاهلية.» لقد حفظ النبي هذه النبذة؛ لأن قسا قد بشر به دون أن يعرفه، بل كان محمد نفسه؛ وهو يصغي إلى هذه الخطبة، لا يعلم أنه سيكون بعد بضع سنين بشير هذا الدين ونذيره ورسوله وحامل لوائه، وكانت كلمات قس على إيجازها تقرر مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يدل على أن تلك المبادئ كانت تحوم في رءوس الخطباء والناقمين على المجتمع القرشي، ولم يجئ في الشعر الذي أنشده بغير موعظة الموت التي أقنعته بأنه لا محالة صائر إليه ما دام قانون الفناء يشمل الأصاغر والأكابر من قومه؛ فهي حيرة ولغز كان يتطلع نوابغ العرب إلى حلها، ولكن محمدا عندما بلغ دور الوعظ والخطابة العامة وتناول موضوع الموت نفسه، لم يسر إلى نفسه شيء من كلام قس ولا أسلوبه فقال: «أيها الناس، كأن الموت في الدنيا على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الذين نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم، كأننا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية، ورحم أهل الذل، وخالط أهل الفقه والحكمة! طوبى لمن أذل نفسه وحسنت خليقته وصحت سريرته وعزل عن الناس شره وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم يعدها إلى البدعة.»
وتتجلى بلاغة النبي الفطرية في بعض رسائله القصيرة الآتية على المعاني الكثيرة، ومنها رسالته إلى مسيلمة لما كتب إليه: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإن الله - عز وجل - قسم الأرض بيننا، ولكن قريش قوم غدر!
فكتب إليه: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
وسأله العباس في عرفة: ما الجمال يا رسول الله؟ فقال: «اللسان» وقال: «وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟» وقال: «ما أوتي امرؤ شرا من طلاقة اللسان.»
وسمع قوما يقولون: فلان علامة. فقال: وما هو علامة؟
فقيل يعلم أيام العرب وأشعارها وأنسابها ووقائعها.
فقال: «ذلك علم لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله، وإنما العلم آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل.»
وقال: «إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها.»
وبلغ به بغض السجع أنه أجاب من سأله: يا رسول الله، أرأيت من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس مثل ذلك يطل؟ - «أسجع كسجع الجاهلية؟!»
ومن دستوره في الخطاب: «إنا أمرنا معشر الأنبياء بأن نكلم الناس على مقادير عقولهم.» •••
وغير خاف أن اختصاص النبي بأسلوب خاص وحكمة خاصة وبصيرة قائمة بذاتها فرع من أصل التشريع؛ لأن الله - عز وجل - قد شرع على لسان رسوله
صلى الله عليه وسلم
شرائع لم يثبتها في كتابه؛ فمنها: رجم الزاني المحصن، واليمين مع الشاهد، وتحريم كل ذي ناب ومخلب، وأشباه لأولئك.
ولذا قال الرسول: «أوتيت الكتاب ومثله معه.» أي من السنن التي شرعها الله على يديه، فقال ينبه الأذهان إلى هذه السنن ويقرع حجة المكابرين: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكة يأتيه الأمر من أمري؛ فيقول: لا أدري. ما وجدت في كتاب الله عملت به.»
ومن هذا التشريع ما كان ابن وقته ووليد ساعته؛ فقد روي أن رسول الله سمع بعض القافة وقد رأى رجل أسامة بن زيد ورجل أبيه يقول: «هذه أقدام بعضها من بعض.» فسر بذلك، وحكم أهل الحجاز بقول القافة في الولد من الأمة إذا جحده أبوه أو شك فيه.
إن من أقوى الحجج على صدق الوحي المحمدي وأوضحها، وأجلاها وأظهرها أن حديث النبي الصحيح وجوامع كلمه وحكمه الوجيزة الصائبة، وأجوبته المقنعة، وقد سارت كلها مسير المثل وقيلت بجملتها عفو الساعة، دالة على حضور بديهته، وصفاء نفسه، وقوة ذهنه، كانت جميعها تختلف اختلافا بينا عن ألفاظ القرآن ومعانيه، وكانت تختلف بنصوصها وأسلوبها ومراميها عن آيات الكتاب الكريم اختلافا كبيرا، ولا تزال على علو نفسها وجمال تركيبها وروعة معانيها في درجة أقل من درجة الآيات القرآنية، وكانت هذه الحالة الماثلة أمام أسرته وصحابته والوافدين عليه دليلا ناصعا على صدق النبوة؛ فإن الوحي كانت تسبقه حالات خاصة موصوفة بالتفصيل في حديث عائشة وأبي بكر وعمر وعلي وغيرهم، ولكن الحديث والحكم والنصائح والفتيا والأوامر والنواهي في تدبير الحروب وتوطيد الأمن - كانت تصدر عنه - عليه الصلاة والسلام - تبعا لمقتضى الأحوال ، وعلى أن عرب الجاهلية كان بينهم الخطيب الأريب والشاعر الفحل والحكيم الراسخ فإن كلامه - عليه الصلاة والسلام - لم يسبقه إليه عربي، ولم يشاركه فيه عجمي، ولم يدع لأحد، ولا ادعاه أحد مما صار مستعملا ومثلا سائرا.
ويحدث في أغلب الأحيان أنك تسمع حكمة عربية أو أعجمية أو مثلا غريبا بأية لغة من اللغات فتحس لكل منها في نفسك صدى ووهما بأنك سبق لك سمعها أو قراءتها، كمن يرى رجلا يكون قد رآه ونسي اسمه وعفى النسيان على صورته، ولكن أثرا ضئيلا في النظرة أو الصوت أو اللفتة يدل عليه ويعيد تاريخه إلى ذهنك، فتقول: إني وقع بصري عليه، كذلك تقول: إني سمعت هذه الحكمة أو قرأت هذا المثل، وفي الحق أن كثيرا من جوامع الكلم متوارث أو منقول، ولكن كلام محمد كان جديدا قشيبا فريدا في أبوابه.
ولكن هذا الكلام السامي بمعانيه، البليغ بمبانيه؛ قد جل عن الصنعة، ونزه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: قل (يا محمد):
وما أنا من المتكلفين ، وهذه الآية البديعة تدلنا على أنه هو لم يقلها عن نفسه، بل أمر أن يقولها بلسان صدق، كما ركب في فطرته بغض التشديق ومجانبة التقعير، وقد هداه الله وأرشدته سجيته السليمة وغريزته البريئة إلى استعمال المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، كما أنه هجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي وإن كان يعرفها جميعا ويلم بها إلماما تاما، كما حدث في جوابه على سؤال أعراب من الأقحاح الذين وردوا عليه وخاطبوه بكلامهم ليظهر الله علمه، فلم ينطق إلا عن حكمة، ولم يتكلم إلا بعصمة، وإنك بعد أولئك تجد لكلامه حلاوة وعذوبة وروعة؛ لأن الله ألقى عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والجمال، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الألفاظ، فاستغنى عن الإعادة والتكرار؛ لعدم حاجة السامع إلى معاودته؛ لأن كلماته تصل إلى القلوب والأذهان والأسماع، فما سقطت له كلمة ولا زلت له قدم ولا بارت له حجة، ولم يقم في وجهه خصم ولا تمكن من إفحامه خطيب، ولم يعلم عنه أنه التمس إسكات خصم أو مجادل إلا بما يعرفه الخصم ويسلم به ويكون من قبل مقتنعا بصحته، وما كان محمد يحتج مع استيفاء هذا الشرط إلا بالصدق، ومن أظهر خلاله في الجدل أنه لا يستعين بالخلابة ولا يستعمل المواربة، ويكره الخلابة والمواربة في من يتكلم بهما لديه، ولا سيما في التقاضي؛ فقد قال يحذر الخصوم الذين يرفعون قضاياهم بين يديه: إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته؛ فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق من أخيه شيئا فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار.
وكان من طبعه في الكلام أنه لا يهمز ولا يلمز، مع أن القرآن الشريف استعمل الهمز واللمز في مواضعهما عند الحاجة إليهما؛ لأن المتكلم هو الله - تبارك وتعالى - أما محمد فكان بشرا مثلنا.
فلم يسمع من النبي أحد من معاصريه ولا وعى أخلافهم منذ بعثته إلى عصرنا هذا كلاما أعم نفعا ولا أصدق لهجة ولا أعدل وزنا وأحسن موقعا ولا أبين من كلامه.
قال يونس بن حبيب: ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول الله.
ولعل بعض من لم يتسع اطلاعه في العلم والأدب ولم يعرف مقادير الكلام يظن أن تكلفنا له من الامتداح والتشريف ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده ولا يبلغه قدره! فلا يظن هذا إلا من ضل سعيه وقصر إدراكه وركد تفكيره.
وإليك نماذج من هذا الكلام الرائع الذي يعد بحق في الطبقة الثانية بعد آيات الكتاب الكريم، وفي طبقة أعلى مما تطلع إليه أبلغ البلغاء في سائر الدهور وفي جميع اللغات.
قال يصف الأنصار: أما والله ما علمتكم إلا لتقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع.
لا خير في صحبة من لا يرى لك ما يرى لنفسه.
المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم.
لو أن لابن آدم واديين من ذهب لسأل إليهما ثالثا.
أوصاني ربي بتسع: أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، وبالعدل في الرضا والغضب، وبالقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرا.
الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم.
ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم.
إذا ساد القبيل فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل اتقاء شره؛ فلينتظروا البلاء.
ستحرصون على الإمارة؛ فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة.
لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان.
إن قوما ركبوا سفينة في البحر فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟! فقال: هو مكاني؛ أصنع فيه ما شئت! فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا.
ارحموا عزيزا ذل، ارحموا غنيا افتقر، ارحموا عالما ضاع بين جهال.
لا يزال المسروق منه في تهمة من هو بريء حتى يكون أعظم جرما من السارق.
كل قوم على رقبة من أمرهم، ومفلحة عند أنفسهم، يردون على من سواهم.
الإيمان عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان.
ومن جوامع كلمه: يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق تداعي الأكلة إلى قصعتها. قيل يا رسول الله، أمن قلة منا نحن يومئذ؟
قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم بحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت.
لا تزال أمتي صالحا أمرها ما لم تر الأمانة مغنما، والصدقة مغرما.
ومن صور الكلام الطريفة المستحدثة، ومجالي البيان البليغة المبتدعة، ومنها ما سار مثلا: كل الصيد في جوف الفرا.
هدنة على دخن وجماعة على أقذاء.
لا يلسع المؤمن من جحر مرتين.
اتقوا الفتنة؛ فإنها تقبل بشبهة، وتدبر ببيان.
إياكم وخضراء الدمن.
اتقوا الله في الضعيفين.
لقد صدق رسول الله حين قال: «أعطيت جوامع الكلم.» وصدق كبار المؤرخين وفحول الناقدين كالجاحظ ومحمد بن سلام ويونس بن حبيب حين قالوا: محمد أفصح العرب والعجم. •••
فإذا رجعنا إلى أسلوب محمد
صلى الله عليه وسلم
في الحديث أو الخطابة أو الإجابة على أسئلة صحابته أو أهل بيته أو القادمين عليه لقيناه قد برع في الإيجاز والإطالة، فسلم في الإيجاز من التقصير، وفي الإطالة من الإسهاب والكثير، وتقدم الناس جميعا في ذلك لتقدمه في سائر فضائله.
وكان في جميع ألفاظه ومعانيه جاريا على سجيته، غير مستكره لطبيعته ولا متكلف ما ليس في وسعه
قل ... وما أنا من المتكلفين .
والخلة التي لازمته في كلامه أن لفظه كان يتساوى ومعناه، فلا يكون اللفظ أسبق إلى قلب سامعه من المعنى، ولا المعنى أسبق إلى القلب من اللفظ.
وكان يكلم أهل البادية بما في سجيتها علمه، كما يكلم ذوي الأدب بما في مقدار أدبهم فهمه؛ جاء طخفة بن زهير النهدي رسول الله عام 9 للهجرة فقال له: لنا نعم همل أغفال ما تبض ببلال، ووقير قليل الرسل، كثير الرسل، أصابتها سنة حمراء مؤزلة ليس لها علل ولا نهل. فأجابه الرسول: اللهم بارك في محضها ونحضها ومذقها، واحبس راعيها في الدثر بيانع الثمر، وافجر له الثمد، وبارك له المال والولد.
شكا طخفة أو طهفة النهدي للرسول سوء الحال فدعا له بخير بلغته الغريبة.
وسأله آخر: أيدالك الرجل امرأته يا رسول الله؟
قال: «نعم، إذا كان مفلجا.»
والمدالكة المماطلة في شراء ما تحتاج إليه المرأة، وقد أباحها الرسول في حالة ثقل الدين على الزوج، فهنا وغيره كلام من السائل والمسئول، والقائل والمجيب، حسن مأثور؛ لأنه مفهوم بين من يخاطب به.
وعندنا أن الذين لجئوا إلى استعمال الغريب في الألفاظ فاقتضى الأمر أن يجيبهم على طريقتهم، لم يكونوا يقصدون التعمية أو الامتحان أو الفكاهة، ولكن لعلهم أرادوا أن يخاطبوه في مجالس تجمع رجالا، لا يحبون أن يطلعوهم على دخيلتهم أو يقفوهم على حقيقة حالهم، فأجاب النبي سؤلهم وكتم سرهم وستر عيبهم، ولا سيما أن الملاحن كانت معروفة عند العرب وورد ذكرها في القرآن:
ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول (سورة محمد).
وكان العرب يستعملون اللحن لدى الاستحياء والاحتراس، وكان الرسول يبغض السجع؛ لأنه أسلوب الكهان، ولكنه كان يقوله في بعض كلامه وخطبه وأمثاله وجوامع كلمه، ولم تكن القوافي مختلقة ولا متكلفة ولا متمحلة ولا مستكرهة، وكان ذلك على سجيته وطبعه كقوله في عبارة: ويقول العبد: مالي مالي! وما له من ماله إلا ما أكل فأفنى!
ولم يكن يستعمل في الأمر الكبير إلا القول الذي تلهمه سجيته وفطرته بدون استعداد ولا تجهيز. •••
كل هذه البلاغة المحمدية وتلك الفصاحة النبوية، لم تعد أن تكون إنشائية من النوع الذي كان يتقنه عرب قريش بالسليقة والصناعة، بفارق واحد؛ وهي أنها كانت على لسان محمد غير مصنوعة وغير متكلفة ولا متعملة، ولم يكن محمد في حاجة قبل أن ينطق بجوامع الكلم إلى قليل ولا كثير من الدرس والتفكير؛ لأنه كان يسأل ويجيب، وكان إذا رأى شيئا أو سمع كلاما مما تتأثر به نفسه الحساسة ينطق على الفور بما ينطبع في ذهنه من المعاني بسرعة البرق الخلاب، ولكنه لم يحاول أن يحكي من تقدموه؛ لأن الذين تقدموه أو عاصروه في هذا المضمار كانوا إما كهانا، وإما محترفين، أما الكهان فكان يرتجف هلعا من مشابهتهم ويفرق الفرق كله ويفزع إلى الله أن لا يكون قد أراده كاهنا، والرجل الذي يمقت طائفة من الناس لا يعمل على محاكاتها، أما المحترفون كالشعراء والخطباء فلم يلتق بواحد منهم إلا مصادفة وفي عرض الطريق، كما حدث له في الاستماع إلى خطبة قس في سوق عكاظ، وقد اتخذ من ظهر راحلته منبرا، فكانت بلاغته مرتجلة طبيعية كأنها الماء يتفجر من ينبوعه، فكان يتكلم عن يقين ثابت وكلمة راسخة وحماسة متقدة صادقة في الانتصار للحق ومكارم الأخلاق، ولكن هذا الرجل الذي لم يتتلمذ على أحد غير ربه ووحيه، قد فطر على قواعد البلاغة فكان إذا تكلم يصحح الأقسام ويختار الكلام ويحسن الاقتضاب عند البداهة
1
كما يحسن الغزارة يوم الإطالة (خطبة الوداع) مع وضوح في الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن التعبير، كل ذلك دون أن يتعلم أو يعالج صناعة الكلام أو الخطابة.
وكما أن محمدا لا يدين لأحد من علماء العرب أو بلغائهم بفصاحته وأسلوبه وطرائق كلامه، فأولى وأصدق وأثبت أنه لم يفد شيئا من علوم الأجانب؛ فلم يكن له علم بصناعة البلاغة عند الفرس أو الروم أو الهنود، وفي الأمم ذات الحضارة المعاصرة؛ فقد ثبت أنه بعد القرن الثالث لم يكن العرب قد أخذوا بأي نصيب من آداب هذه الأمم؛ فالجاحظ وهو إمام البيان العربي ومؤسس أركانه بلغ عدم اتصاله بهم أن قال: «لم يظهر في اليونان من يستحق أن يسمى خطيبا، وإن إمامهم أرسطو مؤلف كتاب الخطابة وعلم الحكمة عندهم والمعلم الأول في عرف العرب، وصف نفسه بأنه بكيء اللسان غير موصوف البيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وخصائصه.»
وكذلك الفرس، لم يعرف العرب عنهم شيئا يستحق المعرفة إلا بعد أن دالت واندمجت في الفتوح الإسلامية، وكانوا بعد ذلك يصفونهم بالتصنع والتعمل وكثرة الاستعداد قبل الإلقاء، وكذلك الهنود لم يقف على أدبهم عن طريق السماع أحد قبل معمر أبي الأشعث في عهد الدولة العباسية، فقالوا: لهم معاني مدونة وكتب مجلدة متوارثة سائرة على وجه الدهر، لا يعرف مؤلفها ولا يذكر واضعها ... لكن ما هي، وما مادتها؟ ... لا يعرف العرب حتى عهد الرشيد شيئا عنها، والذي عرفوه كان عن طريق أديب طلعة هو معمر أبو الأشعث الذي انتهز فرصة لقائه بطبيب هندي اسمه بهلة في بلاط الرشيد كان أحد أعضاء بعثة استقدمها يحيى بن خالد البرمكي، فعلوم الأعاجم وبلاغتهم كانت مجهولة عند العرب بعد الإسلام بثلاثة قرون؛ ومع هذا فإنه عندما حاول الجاحظ تعريفها في ختام حياته حوالي 260ه، لم يستطع أن يخرج منها إلا بصورة غامضة غير جلية ولا دقيقة وإنما عرف إرشادات لا قواعد، وشذرات لا كتبا.
فإذا كان العلماء والأدباء أمثال الجاحظ لم يصلوا إلى شيء من آداب هذه الأمم بعد قهرها وفتح بعضها واندماجها في ملتهم، فلشد ما كان جهلهم بها في الجاهلية وفي أثناء حياة النبي قبل الرسالة وبعدها! وإذن يكون أدب محمد وبلاغته وفصاحته شخصية فطرية لم تستند إلى علم أجنبي، ولا إلى مثال عربي ، ومع ذلك نجد أن الفوارق التي كانت بين لغة القرآن وبين كلام محمد كانت من الجسامة بحيث يستحيل معها مجرد التوفيق بين الأسلوبين، كما أن الفوارق التي كانت بين لغة القرآن وبين اللغات الأعجمية ذوات الثقافة لذلك العهد كانت من الجسامة بحيث يستحيل معها مجرد التوفيق بين اللغة العربية وبين أي بيان أعجمي.
ومع ذلك فقد كانت أفكار محمد عربية خالصة، احتفظت بعربيتها كاملة غير منقوصة، ولكنها مصبوغة بصبغة جديدة لا عهد للعرب بها؛ يتضح الفرق بينها وبين كل ما سبقها، فكان
صلى الله عليه وسلم
نسيج وحده بين الناطقين بالضاد، كما كان القرآن نسيج وحده بين الكتب، فراع كلام النبي معاصريه بما أتى به من حكمة وبيان وصواب رأي، ولم يفرغ الناس من الجدل في محاسن كلمه وجمال نثره وصدق فراسته وسرعة بديهته واستكمال مواهبه.
ولولا القرآن والحديث ما وجد البيان العربي الذي صار بفضلهما علما عربيا من ناحية الروح وناحية المادة، ولا توجد صلة بينه وبين أي بيان آخر، وليس مدينا للأعاجم في شيء، كما أن القرآن والنبي لم يدينا لأحد بشيء من جهة الفكر أو اللفظ أو الأسلوب، وإن هذا الفضل يزداد ويرو ويعظم إذا علمنا أن القرآن والحديث ظهرا في بلاد اشتهرت بالفصاحة والبداهة والبلاغة على الفطرة؛ فإن البدوي البادي، سواء أكان راعيا، أم صعلوكا، كان يأتي بدون تعليم ولا تفقيه ولا درس بالسحر الحلال إن قال شعرا أو نطق نثرا. وهذه النعمة في الطبع والفطرة قد اختصتهم بها العناية، وما زالت تلك المواهب ملازمة للعرب لاصقة بهم قائمة بوجدانهم حتى بعد أن هجروا البادية وتحضروا ومدنوا المدن وأسسوا الدواوين وسكنوا البيوت والقصور ولم يروا الصحراء ولا اتصلوا بها، إلى هؤلاء كلهم وبين ظهرانيهم وتحت سمعهم وبصرهم تكلم محمد وخطب، فكان أعلاهم كعبا وأربحهم قدحا وأقواهم بديهة وأقدرهم بيانا وأفصحهم لسانا وأعمقهم حكمة وأوقعهم لفظا وأوسعهم فهما وأحوطهم إدراكا. •••
ينقسم نقاد القرآن إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أعداء النبي من عرب الجاهلية، وهم المعاصرون له والعارفون بتاريخ حياته، الواقفون على أخلاقه والملمون بأخباره، وهؤلاء هم الذين ناهضوه وحاربوه وشتموه وكادوا له ونعتوه بالسحر والجنون والشعر والحيلة وإخفاء العلم الذي زعموا أنه تلقنه عن أساتذة مجهولين لهم، وبالجملة؛ إنهم اتهموه بادعاء النبوة بالباطل في سبيل السيادة والسيطرة على قريتهم، وكان أحب شيء إلى هؤلاء عيبه والتسرع إلى تهجينه وإنكار محاسنه وابتكار مساوئ ينسبونها بالبهتان إليه؛ وذلك لمنافرته إياهم وبعد شكله من أشكالهم، فبحثوا عن عيب له فلم يجدوا، وفحصوا عن عثرة فعدموها، وكانوا يبطنون له العداء والحسد وهم شاعرون بالقصور عن إدراك شأوه، ويبطنون الخوف من انتصاره؛ لظنهم أنه جاء يهدم حياتهم وينقض مجتمعهم ويمحو آلهتهم ويخرب تجارتهم ويقلب نظام حكمهم ويسقط هيبتهم؛ وليس يبعد على هؤلاء أن يلجئوا إلى كل سلاح في محاربة خصمهم، فكانت حرب اللسان؛ من غيبة ونميمة وانتقاص، ثم حرب السخرية والهزؤ وعدم الاكتراث، ثم المفاوضة والتودد والترغيب في المال والملك، ثم التآمر على الاغتيال، ولكن كل خطوة من خطاهم في سبيل أذاه والنيل منه والحط من قدره وإضعاف شوكته كانت تقابلها خطوات لانتصاره واندحارهم، وقد تكلمنا بما فيه الكفاية عن تحديهم في القرآن، بأن ينظموا سورا أو آيات مفتريات، فكانت هذه الحجة ضدهم خالدة على وجه الدهر؛ لأنها مدعومة بالمعاصرة، ولو كان محمد قد استطاع نظم الآيات من تلقاء نفسه وتجاسر على نسبتها إلى وحي الله، فما كان في مقدوره أن يستمر ثلاثا وعشرين سنة على إبراز تلك الآيات البينات في مختلف الأحوال، دون أن تدركه هنة أو يعتريه فتور أو اختلاف في درجات الأسلوب وطرائق التفكير؛ لأن الحكيم والفيلسوف والمصلح والمؤلف والأديب والشاعر، إنما يبدي كل منهم صفحة عقل، ويبين عن مقدار علمه وجهله، ويتأثر في كل حال بلبوسها، وهذا القرآن فضلا عن أنه خلق البيان العربي، وأتى بأصول البلاغة والفصاحة، أحاط بجماهير المسائل في الكون والحياة بحيث يستغني الناظر فيه عن كل ما عداه، وألم بكل صغيرة وكبيرة في تاريخ الأمم ومواعظ الوجود وقوانين الطبيعة وتكوين الأخلاق والاجتماع، حتى العلوم القديمة والحديثة لم يغفل شيئا منها، وحتى آداب الاجتماع وعلوم النفس ومسائل الجنس وقواعد الحرب والسلم وأسباب الحضارة والرقي ودواعي التدهور والانحطاط في الأفراد والجماعات، وأقام الدليل على ذلك بقوله:
ما فرطنا في الكتاب من شيء ، فأنى لهذا الرجل - الذي وصفوه بالجنون والفقر وقلة الجاه؛ لأنه لم يكن من عظماء القريتين، ولم يكن يملك بيتا ذا زخرف! - هذا المحيط الفياض من روائع الفكر وعجائب القول وابتكار التعبير وقوة الأسلوب وحكمة النظم ودقة الوضع؟ فإن كان محمد عاقلا صح عقله وتمييزه؛ فهو عاجز عن أن يأتي بمثله كعجزكم إن لم يزد عليه لما علمتموه من فقره ووحدته وأميته، وإن كان مجنونا فالذي يفقد عقله لا يحكم التأليف.
أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة .
وإن كان ساحرا، فإن لكل سحر أمدا لا يطول بعده، بيد أن السحر إن صح وسيلة لبلوغ هذه المرتبة فما لكم لا تلجئون إليه وهو ليس بعيد المنال عليكم؟ وكما ناله تنالونه على كهانكم وسحرتكم من يهود أو نصارى أو عرافين، وإن كان شاعرا فأين معلقاتكم وحولياتكم وقصائد فصحائكم من بعض هذا القرآن، لا كله؟!
وقد صبر محمد على هؤلاء الناس راجيا استنارتهم، محسنا الظن بعقولهم، ومعللا نفسه بأن الأشياء تبين للناظر المتوسم والعاقل المتفكر بذواتها وبعجيب تركيب الله فيها وآثار صنعته في ظاهرها، وفيهم نشأ الشعراء الذين استنطقوا الربع وخاطبوا الطلل ونطقوا عنهما بالجواب على سبيل الاستعارات في الخطاب، فلم أصابهم العمى والصمم ورمتهم الأحقاد بالبكم؟ وهؤلاء التجار في مكة وأصحاب رحلة الشتاء ورحلة الصيف؛ ألم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم؟! أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؟!
وقد وصل القرآن في ذم الغافلين من الجاهلية إلى درك أحط من درك الأنعام فقال في الأعراف:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون .
ولم يكن لله حجة على العباد إلا بالنبي، أما فيما بين العباد وبين الله فحجتان: ظاهرة وباطنة؛ فأما الظاهرة فالرسول، وأما الباطنة فالعقل، ولذا جعل القرآن للعقل ذلك المقام الأول في مخاطبة الخلق، ولم يكن جميع الفلاسفة قديما وحديثا إلا تابعين لهذا في دراسة الإنسان، فمن سقراط إلى أرسطو، ومن أرسطو إلى ديكارت وسبينوزا وهيجيل ومالبرانش، ومن هؤلاء إلى شوبنهور وسبنسر وجيمس وبرجسون، كل هؤلاء جعلوا مركز دائرة بحوثهم عقل الإنسان، حتى فرويد أحدث المتكلمين وتلاميذه وأنداده وناقدوه الذين طموا الوادي على القرى؛ فقد جعلوا للإنسان عقلين: عقلا واعيا، وعقلا باطنا، وما تكريم الله لبني آدم إلا بالعقل الذي يفرق بين الخير والشر، والنفع والضر، ولذا لم يخاطب القرآن إلا من صح عقله واعتدل تمييزه، فتراه أبدا يخاطب أولي الألباب وأولي الأبصار والتفكير:
أولم يتفكروا ،
لو كنا نسمع أو نعقل ،
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ،
ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ،
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ،
فاعتبروا يا أولي الأبصار ،
إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ،
أفلا يتدبرون القرآن .
ولكن أين كانت عقول أعداء النبي من جاهلية قريش؟ ولم صمتوا عندما تحداهم وقال لهم:
ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ؟
وهو لم يقصر آياته وعلمه وبيانه على الشاهد دون الغائب، أو على الحاضر دون الغابر، بل أراد أن يعم بالنفع والهداية والنور جميع أصناف العباد وسائر آفاق الأمم، وأن يساوي فيها بين الماضين من خلقه؛ والآتين والأولين والآخرين، فمن هم أهل مكة بالقياس إلى العالمين! وما تكون تجارتهم وأرباحهم في ميزان متاجر وشعوب في الشرق والغرب! وما أحقر آلهتهم حيال آلهة الهند والفرس والمصريين واليونان والرومان والصين والأمريكتين! وما أصغر معابدهم إذا قورنت بمعابد تلك الأمم وهياكلها! وما نظمهم في الحكم بالقياس إلى حكومات الأمم التي جاء القرآن لهدايتها؟ وإن هذه المخلوقات لم يصيروا ناسا إلا بعد أن دخلوا في الإسلام، واستضاءوا بنور القرآن، أما لماذا اختارهم الله؟ فإننا بحثناه في ناحية أخرى من هذا الكتاب.
روعة الوحي
لقد كان للوحي روعته وأثره في نفوس أدنى الناس إلى محمد ولا سيما أهل بيته وأقرب أقربائه، ولا سيما أسرته الكريمة التي عاشرته وعرفت أخلاقه وعركت طباعه وعلمت منه الصدق والوفاء وحب الحق وألوانا من الفضائل لم تكن في أعيان قريش وسادتهم، وقد رأينا السيدة خديجة وقد وصفت بحق أنها أم المؤمنين وهي أولاهن وأولاهن بهذا اللقب المنيف؛ لأنها كانت عظيمة في قريش، وكانت أعظم من ذلك في الإسلام، وقد كانت تصحب الرسول إلى غار حراء أحيانا؛ لتؤنسه وتعينه وتخدمه، وقد غاب في أحد الأيام عن موعد عودته إلى الغار فأرسلت رسلا للبحث عنه حتى بلغوا مكة وعادوا ولم يجدوه، فقلقت عليه قلقا شديدا، ولما جاءه الوحي وأخبرها أظهرت نشاطا عجيبا وبادرت إلى السؤال والاستعلام ممن ظنت أنهم يفيدونها في معرفة حقيقة الحال التي صار إليها بعلها العظيم، ولم تطمئن حتى بشرها ابن عمها ورقة بن نوفل، فلا عجب ولا غرابة إذا كانت خديجة أول من آمن برسالة محمد واستجابت دعوته وصدقت نبوته فكانت المسلمة الأولى، فلم تكن حليلته الفاضلة الكاملة الجميلة الولود المدبرة التي أعانته وخففت عنه أعباء الحياة فحسب، بل كانت مؤازرة له على حوادث الدهر، وخبث الطباع، ولؤم الناس، فكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا رجع إليها وأخبرها به، ففرجت عنه بأدبها ولطفها واستبصارها.
ولما كان إسلام خديجة من أهم الحوادث في تاريخ الدعوة الجديدة فقد حققه المؤرخون؛ فقال ابن الأثير: «خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة.» وقال ابن إسحاق: «إن خديجة كانت أول من آمن بالله ورسوله.»
وشاد لها المقريزي صرحا من المجد والثناء في كتاب «الإمتاع بما لزوجات النبي من المتاع.» وهو مخطوط ومنه صورة فوتوغرافية في دار الكتب المصرية، وقارن بينها وبين أمهات المؤمنين فرجح كفتها عليهن جميعا حتى على السيدة عائشة التي كانت - عليها رضوان الله - تحفظ نصف الدين، وأمر المسلمون بتلقيه عنها كما هو نص الحديث الشريف، وكان من أوجه التفضيل - على ما أذكر - كون السيدة خديجة أول من أسلم، وأنها ولدت لرسول الله، والسيدة عائشة لم تلد، وهكذا من الأسباب التي يعتبرها مؤرخو العرب مرجحة بين النساء.
وبعد إسلام خديجة أسلم علي بن أبي طالب، وكان حدثا، ونشأ في بيت محمد قبل الوحي، يتولى أمره وينفق عليه كولده؛ لأن أبا طالب الذي كفل النبي صغيرا كان كثير الذرية رقيق الحال، فأخذ محمد عليا وضمه إليه، وأخذ العباس من أخيه أبي طالب ولده جعفرا وضمه إليه؛ ليقوم بنفقته، وتركا له ولديه الأصغرين: طالبا الذي كني باسمه، وعقيلا، فعلي لم يكن ابن عم محمد ليس غير؛ بل كان أيضا ربيبه.
وسبب إسلام علي أنه فاجأ النبي والسيدة خديجة يصليان سرا فقال: ما هذا؟
قال الرسول: هذا دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وإلى الكفر باللات والعزى.
علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب.
وخشي الرسول أن يفشي علي سره قبل أن يعلن دعوته فقال له: يا علي، إذا لم تسلم فاكتم هذا.
فمكث علي ليلة ثم أصبح فأسلم.
وهذا الحوار يدل على أن عليا لم يكن ابن ثماني سنين كما زعموا، فلا يصدر قول بهذه الحرية عن طفل، ولا بد أنه كان في الثانية عشرة، وعلى كل حال فهو دليل الذكاء ودليل على التربية الاستقلالية التي نشأ عليها الصبي في بيت محمد، كما أن النبي لم يسلك معه إلا سبيل الحلم والاحترام والحرية وأوصاه بالكتمان، وهذا أقل ما يجب على علي في حق ابن عمه وولي أمره.
وعلم أبو طالب بدعوة النبي وإسلام ولده علي ودعاه محمد إلى الدين الجديد وقال له: يا عماه، أنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إلى الله وأعانني.
ولكن أبا طالب لم يكن لهذه الدعوة الحارة المخلصة فقال: يا ولدي، يا محمد، ما بالذي تقول به من بأس، ولكنني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولا أحب الصورة التي تكون عليها أعجازكم عند السجود!
ونحن نعتبر هذا الإباء من أبي طالب نوعا من البساطة البدوية والتمسك بالمبدأ الذي فطر عليه العرب، وربما كان يخالطه شيء من الكبرياء الذي يدخل نفوس الآباء إذا رأوا أولادهم كبارا يتقدمون إليهم بآراء جديدة تبز آراءهم، فأبو طالب لم يكذب النبي ولم ينهه عن دعوته ولم ينتقده ولم ينهر ولده عليا، ولكنه خشي أن يكون إسلامه خروجا على تقاليد قومه ومبادئه!
وكان أبو طالب جاهلا، ولو كان عنده شيء من العلم الذي عند ورقة لعرف قدر الدعوة وبادر إليها، وما يضره أن الداعي إلى الخير محمد أو أكبر منه أو أصغر، فليست العبرة بالسن، غير أن رجلا وصل إلى العقد السابع كما كان أبو طالب يصعب تحويله عن رأيه إلا الندرى، كان أبو طالب يثق بابن أخيه ويعرفه المعرفة الحقة ويعرف صدقه وأمانته وشرفه ويحبه بعد ذلك حبا جما، ولذا أبى وعلل رفضه بسببين رآهما وجيهين ولم يقل شيئا يعطل الدعوة أو يحبطها أو يقلل من همة القائم بها، بل أعطاه ولده عليا؛ وهو أنجب أولاده وأنجحهم، وجعل الرفض أمرا خاصا بشخصه ولم يتعرض لشخص النبي كما تعرض عمه الآخر أبو لهب، ولا ننسى أن الدعوة كانت في فجرها ولم يجئ من القرآن إلا سورة واحدة، وكانت الدعوة سرية ومكتومة عن القرباء والغرباء، ولم يظهر من آيات النصر والنجاح ما ظهر بعد ذلك، ولم يكن مكتوبا لأبي طالب أن يراه، وعلى كل حال فإننا لا نذكر أبا طالب إلا بالخير والثناء؛ فإنه شجع محمدا، وحماه وحمى الإسلام وبذل في سبيله ماله وحريته وخاطر بحياته؛ وإن لم يكن مسلما، ففضله أعظم؛ لأن المسلم قد يبذل ويضحي بسبب إيمانه وبسبب الثواب الذي ينتظره في الآخرة والخير الذي يناله في الدنيا ... ولكن أبا طالب ضرب صفحا عن كل هذا وتمسك بمبدئه، وهو مع هذا ضحى وبذل واستهدف وقدم للإسلام أحد أبطاله العظماء.
ولم يكن أبو طالب العم الوحيد للرسول الذي لم يقبل الدعوة؛ تمسكا بمبدئه، أو خوفا من انتقاد نساء قريش؛ فإن النساء بلاء في كل زمان ومكان، وقد كن في قريش حديدات اللسان، متمتعات بأوفر نصيب من الحرية، ولعبن في الإسلام دورا مدهشا سواء أكان له أم عليه، وكن ذوات سلطان على أزواجهن وأولادهن وآبائهن، وفي أخبار هند وزوجة أبي لهب ما يدل على ذلك.
فإن العباس عم النبي لم يسلم هو الآخر إلا في فتح مكة في وقت إسلام أبي سفيان، وإليك صورة جميلة رسمها بفصاحته عفيف الكندي ترينا مظهرا من مظاهر الإسلام في أيامه الأولى قال: كنت تاجرا قدمت الحج وزرت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان صديقي عرفته يختلف إلى اليمن (وطن عفيف) يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم، فبينا أنا عند العباس بمكة في المسجد إذا رجل بلغ أشده خرج من خباء قريب فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ، ثم قام يصلي إلى الكعبة، ثم خرج غلام مراهق فتوضأ، ثم قام إلى جنبه يصلي، ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما، ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة، ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة، فقلت: ويحك يا عباس! ما هذا الدين؟!
عباس: هذا دين محمد بن عبد الله أخي، يزعم أن الله بعثه رسولا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه امرأته خديجة، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه، والله ما على الأرض كلها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (ص415، ج3، أسد الغابة، في ذكر عفيف بن قيس بن معدي كرب).
وعبارة عباس بن عبد المطلب التي وردت على صورة مختلفة في كتب الحديث والسير تدل على شكه وارتيابه وتعجبه وعدم اكتراثه؛ فقد نسب إليه أنه قال: «إن ابن أخي هذا (يقصد محمدا) أخبرني أن ربه رب السماء والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه .»
وقد شاءت الأقدار أن ينحدر من ظهر هذا الرجل نسل يؤسس دولة من أقوى دول الإسلام؛ وهي الدولة العباسية، ولم يكن هذا إلا بفضل الانتساب إلى هذا الذي كان يزعم أن ربه رب السماء والأرض ...
والعجيب أن عفيفا الكندي اليماني الغريب أسلم وآمن باختياره، قبل أن يسلم هذا العم الذي لم يسلم إلا وجيش محمد يفتح معقل قريش ويدخل مكة ظافرا.
وأسلم بعد علي فتى آخر؛ هو زيد بن حارثة بن شرحبيل، كان مولى خديجة فوهبته لمحمد فأعتقه وتبناه وجاء أهله ليدفعوا ثمنه للرسول ويأخذوه فقال لهم: ادعوه فخيروه؛ فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء.
فقالوا: زدت على النصف وأحسنت.
فدعاه وقال له: هل تعرف هؤلاء؟
زيد :
أبي وعمي.
محمد :
أنا من علمت وقد رأيت صحبتي لك؛ فاخترني أو اخترهما
زيد :
ما أنا بالذي أختار عليك أحدا؛ أنت مني مكان الأب والعم.
قالا: ويحك يا زيد! تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟!
قال: نعم ما أنا بالذي أختار عليه أحدا.
فلما رأى محمد من وفاء زيد وحبه ما رأى أخرجه إلى الحجر؛ وهو محل جلوس قريش، وأعلن «أن زيدا ابني أرثه ويرثني.»
1
فطابت نفس الوالد والعم وانصرفا.
وصار زيد يعرف بانتسابه إلى النبي فيقال له زيد بن محمد، وكان زيد وقت إسلامه رجلا رشيدا بالغا، ولم يذكر في القرآن أحد من الصحابة باسمه غير زيد.
وهذه الحادثة البريئة تدلنا على ناحية من أخلاق النبي؛ فإنه رأى زيدا وهو مملوك فأعتقه وتبناه وأحبه وأشعره بالعطف حتى فضله الولد على أهله وأسرته، أما قول والده: أتفضل العبودية على الحرية؟! فلا يعول عليه؛ لأنه كان عتيقا، ولأن محمدا لم يشعر أحدا من معاشريه مهما كانت صلته به بأي نوع من الذل والعبودية.
ثم أسلم أول صديق لمحمد
صلى الله عليه وسلم
وهو أبو بكر الصديق، وكان من سنه، ويتميز بثروته الطائلة التي بذلها في نصرة الإسلام، وكان أبو بكر وقت إسلامه كهلا نحيفا أبيض اللون حسن الوجه، وعلى سعة من المال وكرم الأخلاق ومن رؤساء قريش ومحط مشورتهم وكان أعف الناس لسانا ويدا وأطهرهم عرضا وأعطرهم سيرة وذكرا وأشرفهم ماضيا، وكان مضيافا سخيا حسن الحديث محببا في قومه (سمباتيك) ومن أعلم الناس بأنساب العرب، وكانت له ميول روحانية؛ فقد اشتهر بتفسير الرؤى، ومن أسباب محبة الناس له أنه كان يعرف أنساب قريش وما فيها من خير وشر، ولكنه لا يذكر المساوئ.
وكان أبو بكر صاحب مروءة يستعين الناس به في الكروب والملمات، وله ضيافات بمكة لا يبذل مثلها أحد؛ فهو رجل نال الحظوة في قومه بخلقه وكرمه وعلمه ونسبه، أما أخلاقه الشخصية من حيث الوفاء والصدق والإخلاص فإن تاريخ الإسلام يدل على مبلغ ذلك الرجل العظيم والخليفة الرشيد من تلك الفضائل، وأبو بكر كنيته، واسمه عتيق، وكانت أمه تدلله بقولها: «عتيق وما عتيق ذو المنظر الأنيق.»
والنبي هو الذي وصفه بالصديق صبيحة الإسراء لما صدقه وكذبته قريش، فهو عتيق أبو بكر الصديق بن أبي قحافة.
وكان إسلامه بعد أن قص عليه الرسول قصة الوحي فقال له أبو بكر: صدقت بأبي أنت وأمي، وأهل الصدق أنت.
ولذا قال النبي: ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبى علي وراجعني في الكلام إلا ابن أبي قحافة؛ فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه.
وقد صار أبو بكر بمكان الوزير من الرسول؛ فكان يشاوره في أموره كلها.
وإننا نعد إسلام أبي بكر أول ربح صحيح للإسلام؛ لأنه لم يكن من أسرة النبي ولم يكن من عشيرته، ولم يكن سوى صديق توثقت بينهما روابط الألفة قبل الدعوة بعام واحد؛ فقد تعرف النبي عليه وهو في التاسعة والثلاثين، وكان أبو بكر في السابعة والثلاثين، ولما كان أبو قحافة كفيف البصر فقد كان أبو بكر رئيس الأسرة، وقد تمكن بحذقه ومهارته في تجارة الأقمشة من جمع ثروة طائلة، كما تمكن بلباقته وذلاقة لسانه وحلاوة حديثه من اجتذاب القلوب إليه بين الخاصة والعامة، فكان رجلا مرغوبا فيه من رجال الأشراف ونسائهم؛ فقد روى الأزرقي أنه كان يألف مجلس السمر في بيوت الأعيان، وقد كان مفطورا على الإخلاص والصدق، وقد عرف محمدا واطمأن إليه وأحبه، وكان من حظ الإسلام اتصاله بالأوساط الراقية، فيسهل عليه دعوتهم إلى الدين الجديد، وإقبال أبي بكر على الإسلام دليل جديد على صدق الدعوة؛ لأن الرجل كان من أهل الصراحة والجد، ويأبى بطبعه أن يناصر من يخدع الناس أو يغرر بهم، فكان أبو بكر خليل النبي وموضع سره، فلم يطلع إلا على الصدق والشرف والأمانة.
وغني عن البيان أن من يقوم بدعوة ويكون كاذبا يحتاج إلى التواطؤ، ويقنع شركاءه بنصيب في الغنيمة المنتظرة.
ولم يكن أبو بكر من هذا النوع من الرجال، ولو أنه اشتم رائحة الكذاب أو الخداع ما كان يسلم قياده لمحمد؛ لأنه كان رجلا ذكيا وكان رجلا اجتماعيا، ومثل هذا الرجل لا تنطلي عليه الحيل، وصداقة عام لا تكفي لتدبير مؤامرة عظيمة تنطوي على دين جديد وثورة اجتماعية كبرى كالتي حدثت في بلاد العرب.
وها هو مرغليوث يؤيدنا وينفي فكرة التواطؤ عن أبي بكر فيقول: «كان أبو بكر صديقا ومعينا لا تقدر معونته، ولكنه لم يكن شريكا في خداع، ولم ينس طول حياته مكانته من أستاذه وصديقه، فلا يمكننا أن نفترض التواطؤ بينه وبين محمد، ولم يكن أبو بكر ينتظر من وراء الإسلام ومناصرة الرسول نفعا (ص84، مرغليوث: حياة محمد).»
ونحن نقول: لو أن محمدا كان مخادعا، كان هو بنفسه يتقي أبا بكر ولا يتقدم إليه بالدعوة؛ لأنه يعلم أن نفس أبي بكر لا تقبل دعوة قائمة على الغش والمخاتلة، فإن أبا بكر لم يكن أقل ذكاء من أشراف قريش ولا أقصر منهم لسانا ولا أضعف استمساكا بعقيدته ومبادئ قومه وما كان عليه آباؤه وأجداده.
وكان أعيان قريش يقدرون أبا بكر ويحسبون لصداقته لمحمد حسابها، ولهذا عندما اشتموا رائحة الدين الجديد جاء صناديدهم أمثال عقبة بن أبي معيط وشيبة وربيعة وأبي جهل وأبي البحتري وقالوا له: «يا أبا بكر ، يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا انتظارك ما انتظرنا به، فإذ جئت فأنت الغاية وفيك الكفاية.»
فصرفهم أبو بكر على أحسن حال.
وهذه النادرة تدل على أسلوب أعيان قريش في فض النزاع قبل استفحاله على يد أبي بكر، ولكنها تدل أيضا على مكانة أبي بكر منهم ومكانته من رسول الله.
ولما كان حظ الإسلام بأبي بكر عظيما كما كان حظ أبي بكر بالإسلام؛ فقد اخترع الرواة أسطورة تدل على أنه هو أيضا كان موضع عناية المنجمين والمبشرين، وأنه كان يحمل علامة في بطنه وأخرى في فخذه، فلقيه شيخ عالم من الأزد وبشره بأنه يعاون نبيا يظهر في الحرم ... إلخ (ص300، السيرة الحلبية، ج1)، ونحن نميل إلى تكذيب أمثال هذه الأسطورة وإن كنا لا نستبعد أن يكون في كل زمان ومكان رجال يتكهنون للعظماء، كما أن العظماء فطروا على حب استطلاع الغيب، وفي عصرنا الحاضر؛ وهو عصر حضارة وعلوم عقلية، ألف رجل إنجليزي مشهور بقراءة خطوط الكف اسمه شيرو كتبا كثيرة؛ منها: «أسرار الكف» ذكر فيه نبوءاته للملوك والعظماء والقواد، وذكر وقائع معينة عن ملوك إنجلترا وملكاتها وعن رجال مشاهير أمثال غلادستون وكتشنر، ونشر صورة أكفهم، فلا ريب في أنهم استشاروه وسمعوا له، ولعل بعضهم صدقه! وقد صارت لهذا الرجل شهرة عالمية! فإن كان هذا في عصر النور فلا يبعد أن يكون مثله في الجاهلية، وفي آسيا لا في أوروبا وأمريكا! •••
فلما أسلم أبو بكر قام بالدعوة بين أهل طبقته فجمع رجالا على شاكلته من أهل المكانة والفضل والثراء، وكانوا كلهم أصدقاء أبي بكر وموضع ثقته، ومنهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله التيمي، وهم بين بزاز وقصاب وصانع نبال، وتلاهم عبد الله بن مسعود وكان قزما خفيف فضحك الصحابة عند رؤيته من دقة رجليه، وأبو ذر الغفاري وخالد بن سعيد بن العاص وأخوه عمرو، وصهيب وهو عبد الله بن جدعان وحصين والد عمران بن حصين وولده عمران.
وقد كان لإسلام خديجة أثر في وسط نساء قريش الشريفات، فأسلمت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، وهي زوجة عم الرسول، وأسماء بنت أبي بكر وأخت عائشة، وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب. •••
وأنت ترى أن أوائل المقبلين على الإسلام كانوا مزيجا متباين الأقدار؛ ففيهم الصغار، والكبار، والأعيان، والصناع، والتجار الأغنياء، والرعاة، والحرائر، والشريفات، والرجال الناضجون، والأحرار، والعتقاء، مما يدل على أن حركة الدخول في الدين الجديد كانت طبيعية ولم تكن مفتعلة، ولم تكن ترمي إلى غاية معينة كتحرير العبيد أو تفريج الأزمة عن الفقراء فيتبعها الفريق المضغوط عليه أو المضطهد لينجو من العذاب أو الضيق كما حدث في رومة وأثينا وأورشليم.
وإذن لم تكن عامة الذين أجابوا دعوة النبي من الضعفاء ولم تكن من الأقوياء، بل كانوا من كل الأوساط، وهذا دليل على أن من اتبعوه إنما تبعوه بفطرتهم وسليقتهم؛ لأنه جاءهم بدين أقرب إلى الطبيعة الإنسانية.
وقد لقي هؤلاء المسلمون أنواعا من العذاب والاضطهاد لا تقل عما لقيه ضعفاء النصارى الذين دخلوا في دين المسيح؛ فهذا عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص وأوثقه بالحبال وقال له: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد؟! والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه! ثم عذبه بالدخان.
وكرهت أم سعد بن أبي وقاص إسلامه، وكان بارا بها فاستعملت بره بها وطاعته إياها وسيلة لتعذيبه، فأضربت عن الطعام وقالت: والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد وتمس إسافا ونائلة!
فلما امتنعت عن الأكل أطعموها بما يسميه الأطباء الآن بالإطعام الصناعي؛ وهو أن يفتحوا فاها يلقون فيه الطعام والشراب، ثم تركها خوفا عليها.
وقال لها: تعلمين؛ والله يا أماه؛ لو كان لك مائة نفس تخرج نفسا نفسا ما تركت دين هذا النبي، فكلي إن شئت أو لا تأكلي . فلما رأت ذلك أكلت ...
ولم تهمد ثائرة تلك العجوز القرشية المتعصبة لأصنامها، فكانت تقف على باب بيتها وتصيح كنساء الشوارع: «ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي أو عشيرته، فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث.» وكانت تلقاه مرة بالبشر ومرة تلقاه بالشر وتعيره بأخيه عامر الذي تأخر في إسلامه، فلما أسلم عامر لقي من أمه ما لم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة دون أن «يدع صبأته» أي يرتد طوعا لأمر تلك الأم الصاخبة الندابة.
وسيرة هذا القزم المبارك عبد الله بن مسعود سيرة مسلية؛ فقد كان يعرف بأمه واسمها أم عبد، ولكن ليس هذا معناه طعنا في نسبه؛ فقد كان أبوه مسعود معروفا في الجاهلية، وأبوه وأمه من هذيل، وينتهي نسبه لأبيه إلى مضر، ولكن يظهر أن شهرة أمه كانت أعظم من شهرة أبيه.
وكان إسلامه حين أسلم سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، وكان راعيا صالحا، ورأى النبي وسمع القرآن، فقال له: يا رسول الله، علمني من هذا الكلام. فأخذ عنه سبعين سورة ما نازعه فيها بشر، وهو أول من جهر بالقرآن في مكة عند المقام، فهجم عليه المشركون وجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد تأثر وجهه من ضرب القرشيين وأراد أن يعاود القراءة في الكعبة مع أنه لم تكن له عشيرة تمنعه وكان قزما ضعيف البنية، فنهاه المسلمون ضنا به.
وكان النبي يحبه لخفة بدنه وخفة روحه، فأخذه في بيته فكان يخدمه، وقال له رسول الله: إذنك علي أن تسمع سوادي ويرفع الحجاب. فكان عبد الله بن أم عبد يلج على الرسول ويلبسه نعليه ويمشي معه وأمامه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام، وكان يعرف في الصحابة بصاحب السواد والسواك كما تقول الترك «شماشرجي» أو فاليه دي شامبر
Vallet de chamber
ولكنه كان مع ذلك ذا فضل عظيم؛ فهاجر الهجرتين، وصلى القبلتين، وشهد بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد مع رسول الله ، وشهد اليرموك بعد النبي، وهو الذي أجهز على أبي جهل.
وكان الغرباء الوافدون على بيت الرسول يحسبونه من أهل بيت النبي؛ لما يرون من دخوله ودخول أمه على النبي.
وكان أقرب الناس هديا ودلا وسمتا برسول الله، وما رأى الناس رجلا أحسن خلقا ولا أرفق تعليما ولا أحسن مجالسة ولا أشد ورعا من ابن مسعود.
ولكنه كان كما قدمنا قزما، ولكن هذا النقص الطبيعي في قامته لم يؤثر على نفسيته الطيبة، فكان مرحا، وكان إذا جلس لا يكاد يبين من الأرض؛ لصغر حجمه وضآلة بدنه، وكان عمر يضحك إذا رآه، وهو يضاحك عمر ويمازحه، فإذا غاب وتوارى قال عمر: وعاء صغير ملئ علما كبيرا.
وكانت نفسه مرحة ونسب إليه أنه قال: الدنيا كلها هموم فما كان فيها من سرور فهو ربح.
فإذا كان الأمراء والملوك والسراة في الأمم المختلفة قد اتخذوا الأقزام لهوا ولعبا وأطلقوا عليهم اسم مضحك الملك وعلموهم الشعر والغناء والنوادر؛ ليدخلوا عليهم السرور والطرب ويسمعوهم النكات والغرائب، فهذا محمد قد لقي هذا القزم فعلمه وهذبه وفقهه وجعل منه حجة من حجج الإسلام، ونبراسا يستضاء به، بل جعل منه إماما حكيما وصحابيا ذا رأي جليل وشهرة ذائعة؛ حتى إن عمر بعث إلى أهل نينوى وكتب إليهم «بعثت عمار بن ياسر أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله من أهل بدر، فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي.» (ص259، ج3، أسد الغابة).
وهكذا النفوس العظيمة تجعل من صغار الرجال عظماء، وتصلح خطأ الطبيعة فتجعل من القزم جبارا بإيمانه وعقله وخلقه.
وممن أسلموا قديما أي في أول أمر الإسلام أبو ذر الغفاري، وهذا رجل غامض، وخلقه يدل على أنه من نوع الشهداء الزاهدين أصحاب العقول المستقلة والإرادات القوية والخلق المتين، وكان اسمه جندب وكنيته أبو ذر، من قبيلة غفار، فسمع في وطنه أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي، فكلف أخا له اسمه أنيس أن يكشف حقيقة الخبر، فذهب وعاد إليه وقال له: رأيت الرجل وهو يأمر بمكارم الأخلاق، ولكن قومه يقولون: شاعر، كاهن، ساحر.
فقال أبو ذر: لا بد لي أن أنظره. فحذره أخوه من أهل مكة، فحمل جرابه وعصاه وسار حتى بلغ مكة فكره أن يسأل عن محمد وانتظره في المسجد، فلما أقبل النبي عرفه أبو ذر بفراسته وحياه وبايعه، وأوصاه النبي أن يكتم إسلامه خوفا عليه، فقال له: والذي بعثك بالحق لأصرخن بهذا بين ظهرانيهم.
فلما اجتمعت قريش بالمسجد نادى أبو ذر بأعلى صوته بالشهادتين فقاموا عليه وضربوه إلى الموت، ومالوا عليه بكل مدرة وعظم حتى خر مغشيا عليه، فأكب عليه العباس وقال لهم: ويلكم! ألستم تعرفون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم عليهم؟!
وهكذا كان العباس يخيف المشركين على تجارتهم وطريق قوافلهم فينال أغراضه منهم، ولذا لقد خلوا عن أبي ذر؛ لا شفقة ولا رحمة، ولكن خوفا من انتقام قبيلته.
وأعادها أبو ذر مرة أخرى وضربوه ثانية، ثم عاد إلى قبيلته فدعا أخاه وأمه فأجابا، ثم دعا قبيلته فأسلم نصفها في أول الأمر وأسلمت البقية بعد ذلك.
وكان أبو ذر شاذا في بعض أموره؛ فإنه كان يحب الوحدة، وكان يصارح الناس ولا يعرف المداراة، وقد أقام في المدينة إلى أن مات أبو بكر، فهاجر إلى الشام واستمر بها إلى أن جاء عهد معاوية، فقعد له بالمرصاد ينتقده ويغلظ له القول ويكلمه بالكلام الخشن؛ لأن أبا ذر كان اشتراكيا ومعاوية أرستقراطيا بيروقراطيا مطلقا، ومعاوية يجامله ولا يجبهه؛ لمكانته في الإسلام، ولاشتهار محبته عند رسول الله، فصبر عليه إلى عهد عثمان فشكاه إليه، فنفاه عثمان إلى الربذة وتخلص منه معاوية، وما زال أبو ذر في منفاه إلى أن مات.
ولما أسلم خالد بن سعيد أرسل أبوه في طلبه فانتهره وضربه بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه وقال له: اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه لقومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من أمهاتهم! اذهب يا لكع أنى شئت، والله لأمنعنك القوت. فطرده وقاطعه وأمر إخوته بمقاطعته وما زال غاضبا عليه، فأواه رسول الله حتى هاجر إلى الحبشة، وكان القرشيون يسلكون مع كل واحد منهم إذا أسلم الخطة التي يظنونها أنفع في رده والتنكيل به، فإذا كان كبيرا قاطعوه واحتقروه، وإن كان صغيرا ضيقوا عليه الخناق واضطهدوه، وإن كان من عامة الشعب عذبوه وسجنوه.
فقد كان الحصين والد عمران شيخا محترما في قريش فأرسلوه إلى محمد وقالوا له: كلم لنا هذا الرجل؛ فإنه يذكر آلهتنا ويسبها. وجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي، ودخل حصين فلما رآه محمد قال: أوسعوا للشيخ. ثم دار بينهما حوار قصير أعقبه إسلام الحصين.
ولما أراد الخروج أمر الرسول أصحابه أن يشيعوه إلى منزله، فلما خرج من سدة الباب رأته قريش فقالوا: لقد صبأ الشيخ.
وتفرقوا عنه؛ تحقيرا له، وإغاظة فيه.
العربية، لغة القرآن
انشقت اللغة العربية من أصلها السامي في عصور متوغلة في القدم، وجرت في ألسنة هذه الأمة التي اجتمعت معها في مناسب المجد وأرومات الفخر، وشاء الله أن يكون ظهورها في تلك الجزيرة الجامعة بين صحو الجو وصفو الدو، والمحبوة بجمال الطبيعة ومحاسن الفطرة؛ لتتفتق أذهان عمار تلك الجزيرة عن روائع الحكمة مجلوة في معرض البيان بهذا اللسان، وقد كانت هذه اللغة ترجمانا صادقا لكثير من الحضارات المتعاقبة التي شادها العرب بجزيرتهم، وفي أوضاع هذه اللغة إلى الآن من آثار تلك الحضارات بقايا وعليها من رونقها سمات، وفي هذه اللغة من المزايا التي يعز نظيرها في لغات البشر الاتساع في التعبير عن الوجدانيات، والوجدان أساس الحضارات والعلوم كلها.
وهذه المدنية التي يردد لفظها الألسن، ويصطلح المؤرخون على نسبتها إلى أمم مختلفة، ويميزون بينها بطوابع خاصة، ويشتد المتعصبون في احتكارها لأمة دون أمة، كأنها خلقت معها أو كأنها ذاتية لها - هي في الحقيقة تراث إنساني تسلمه أمة إلى أمة، وتأخذه أمة من أمة، فتزيد فيه أو تنقص منه بحسب ما يتهيأ لها من وسائل، وما يؤثر فيها من عوامل، وخير الأمم وأوفاها للمدنية هي الأمة التي تقوي الجهات الصالحة في المدنية، وتكمل النقائص الظاهرة فيها، وتسعى في نشرها وإشراك الناس كلهم في خيراتها ومنافعها - وخير اللغات ما كانت لسانا مبينا للمدنية تسهل على الناس سبيلها وتمهد لهم مقيلها.
وقد أصبح احتكار المدنية لأمم خاصة تقليدا شائعا متعاصيا عن التمحيص والنقد، ومن هذا الباب احتكار الغربيين للمدنية القائمة اليوم، وما هي في الحقيقة إلا عصارة الحضارات القديمة ورثها الغربيون عمن تقدمهم، وقاموا عليها بالتزيين والتحسين والتلوين وطبعوها بالطوابع التي اقتضاها الوقت وانتحلوها لأنفسهم أصلا وفرعا، ولا تزال التنقيبات عن مخلفات الحضارات القديمة تكشف كل يوم عن جديد يفضح هؤلاء المحتكرين ويقلل من غرورهم.
ومن العجائب أن هذه الحضارة القائمة الآن تساندت في تكوينها وفي تلوينها عدة لغات مختلفة الأصول ولم تستطع أن تقوم بها لغة واحدة، على حين أن العربية قامت وحدها ببناء حضارة شامخة البنيان ولم تستعر من اللغات الأخرى إلا قليلا من المفردات.
ازدهرت حضارات الأمم القديمة من العرب وفارس والهند والصين ومصر ويونان والرومان، وزخرت علومها وكانت كلها مبنية على أصول عامة متشابهة، وكانت لكل حضارة لغتها المعبرة عن محاسنها والكاشفة عن حقائقها، وكان لتلك اللغات أثر بين في بقاء الحضارة وانتشارها، وكل من بقاء الحضارة وانتشارها يتوقف على ما في اللغة من قوة وحياة واتساع، فاللغة من الحضارة جزء لا كالأجزاء، كاللسان من البدن عضو لا كالأعضاء، ثم اندثرت تلك المدنيات والعلوم إلا ما بقي من آثار الأولى منقوشا على الأحجار وما بقي من آثار الثانية مكتوبا في الأسفار، ولولا اللغات لم نتبين من الحضارات ما تبيناه.
كانت الحضارات القديمة تقوم على تعبد يسد شعور النفس البشرية بالخضوع إلى قوة أعلى منها، فإن لم يكن هذا التعبد حقا طغت عليها الخرافة، وأصبحت الخرافة جزءا من المدنية. وتقوم على تشريع يوزع العدل بين الناس ويحفظ مصالحهم الدنيوية، فإن لم يستند هذا التشريع على وحي سماوي أو نظام شورى طغى عليها التحكم والاستبداد، وأصبح الاستبداد جزءا من تلك المدنية. وتقوم على نتائج القرائح البشرية من علوم، فإن لم تكفل هذه القرائح حرية شاملة لابسها التزوير والكذب، وأصبح التزوير والكذب جزءا من تلك المدنية. وتقوم على لغة تسع تلك المدنية بيانا وإفصاحا، فإن ضاقت اللغة خسرت المدنية، وإن حضارة اليوم لم تسلم من بعض هذه النقائص والعيوب.
كانت هذه حال الحضارات إلى أن جاء الإسلام بالحضارة التي لا تبيد والمدنية المبنية على حكم الله وآداب النبوة؛ فكان التوحيد أساسها، والفضائل أركانها، والتشريع الإلهي العادل سياجها، واللغة العربية الناصعة البيان الواسعة الأفق لسانها، وبذلك كله أصبحت مهيمنة على المدنيات كلها، ووضع الإسلام هذه الحضارة الخالدة على القواعد الثابتة مما ذكرناه.
وقامت اللغة العربية ببيانها على أكمل وجه، وكانت الأمة المدخرة لتشييد هذه الحضارة التي نسميها بحق الحضارة الإسلامية هي الأمة العربية التي كونها رسول الله في المدينة من المهاجرين والأنصار.
فهم العرب لأول عهدهم بالإسلام وبإرشاد القرآن أن هناك أمما قد خلت، عمرت الأرض ومكن لها الله فيها وكانت أكثر أموالا وأعز نفرا وأثبت آثارا، وامتثلوا أمر القرآن بالسير في الأرض والنظر في آثار تلك الأمم والاعتبار بمصائرها وعواقبها، ونبههم القرآن إلى أن مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، فكان هذا الإرشاد القرآني المتكرر حفزا إلى التنقيب عن آثار المدنيات القديمة ودراستها والاطلاع على الصالح النافع منها والأخذ به، وكان من آثار هذا التنبيه القرآني أن تفتحت أذهان المسلمين إلى دراسة هذه المدنيات واقتباس النافع منها، وكان من فضل القرآن على العالم أنه أبقى بهذا الإرشاد على علوم كادت تندرس، وعلى آثار مدنيات كادت تنطمس.
إن الفائدة الكبرى التي يعلقها القرآن على السير في الأرض والوقوف على آثار الأمم البائدة هي الاعتبار بحال الظالمين وعقبى الظالمين؛ ليعلم المعتبر أن الظلم هو سوس المدنيات فيقيم العدل، وإذا جاء العمران قامت المدنية وكان العدل سياجها والعلم سراجها وهذه هي مدنية الإسلام.
إن إرشاد الإسلام للمسلمين بأخذ الصالح النافع أينما وجد هو الذي دفعهم بعد تمكن سلطانهم وتمهد ملكهم، إلى البحث عن الآثار العقلية للأمم التي سبقتهم، فاطلعوا على ما أنتجت قرائح يونان وفارس والهند في العلم والآداب فنقلوها إلى لغة القرآن ووجدوا فيها خير معين على ذلك.
هنا الجانب العامر من لغة القرآن ، وهنا النقطة التي سقنا هذا الحديث كله من أجلها، وهنا الموضوع؛ وهو فضل اللغة العربية على العلم والمدنية.
لو لم تكن اللغة العربية لغة مدنية وعمران، ولو لم تكن لغة متسعة الآفاق غنية بالمفردات والتراكيب - لما استطاع السلف أن ينقلوا إليها علوم يونان وآداب فارس والهند، ولألزمتهم الحاجة إلى تلك العلوم بتعليم تلك اللغات، ولو فعلوا لأصبحوا عربا بعقول فارسية وأدمغة يونانية ولو وقع ذلك لتغير مجرى التاريخ الإسلامي برمته.
لو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم، وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون.
قامت اللغة العربية في أقل من نصف قرن بترجمة علوم هذه الأمم ونظمها الاجتماعية وآدابها، فوعت الفلسفة بجميع فروعها، والرياضيات بجميع أصنافها، والطب، والهندسة، والأدب، والاجتماع، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية في الأمم الغابرة والحضارة، وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي لا يزال يأخذه الأخير عن الأول، وهذا هو الجزء الضروري في الحياة الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوة فيك، وإما أن تنتقل إليه في لغة غيرك فتكون قوة لغيرك، وقد تفطن أسلافنا لهذه الدقيقة فنقلوا العلم، ولم ينتقلوا إليه.
وقد قامت لغتهم بحفظ هذا الجزء الضروري من الضياع، بانتشاله من أيدي الغوائل وبنقله إلى الأواخر عن الأوائل، وبذلك طوقت العالم منة لا يقوم بها الشكر، ولولا العربية لضاع على العالم خير كثير.
إن كثيرا من العلوم التي بنيت عليها الحضارة الغربية لم تصلها إلا على طريق اللغة العربية بإجماع الباحثين منا ومنهم، وإن المنصفين منهم ليعترفون للغة العربية بهذا الفضل على العلم والمدنية، ويوفونها حقها من التمجيد والاحترام، ويعترفون لعلماء الإسلام بأنهم أساتذتهم في هذه العلوم عنهم أخذوها وعن لغتهم ترجموها، وأنهم يحمدون للدهر أن هيأ لهم مجاورة المسلمين بالأندلس وصقلية وشمال أفريقيا وثغور الشام حتى أخذوا عنهم ما أخذوا واقتبسوا عنهم ما اقتبسوا، ولا يزال هؤلاء المنصفون يذكرون فضل معاهد الأندلس العربية ومعاهد شمال إفريقية ومعاهد الشام على الحضارة القائمة، ولا يزالون ينتهجون بعض المناهج الدراسية الأندلسية في معاهدهم إلى الآن، ولا يزالون يردون كل شيء إلى أصله ويعترفون لكل فاضل بفضله.
وها هنا مسألة يجب الكشف عن حقيقتها؛ فقد كثرت فيها المغالطات وجنى عليها تعصب المتعصبين من ذوي الدخائل السيئة من الغربيين ومقلديهم، حتى أصبح باطلها حقا وكذبها صدقا ووهمها حقيقة، وحتى أصبح هذا الوهم من المسلمات التي لا تقبل الجدل عند أبنائنا الذين تلقوا العلم على أيدي أولئك المتعصبين - وهي أن العرب ليس لهم فيما ترجموا إلا النقل المجرد، وأنهم لم يزيدوا شيئا في التراث الفكري الذي نقلوه، وأن وظيفتهم في هذه الوساطة وظيفة الناقل الأمين الذي ينقل الشيء كما هو ملفوفا من يد إلى يد!
أغلوطة ملأت كتب الكثير منهم وترددت على ألسنتهم يمهدون بها إلى وصم العربي بأنه بليد الفكر جامد القريحة سطحي التفكير مسدود الشهية العلمية، ويتوسلون بذلك إلى تزهيد العربي في مزايا إسلامه واحتقار لها ولهم.
والحقيقة التي يؤيدها الواقع ويشهد بها المنصفون منهم أن العرب حينما نقلوا علوم الأوائل - كما كانوا يسمونها - نقلوا بدافع وجداني إلى العلم ورغبة ملحة فيه، وأنهم نقلوا ليستقلوا وليستغلوا ولينتفعوا بثمرة ما نقلوا، ولا يتم لهم هذا الاستقلال في العلم إلا بالتمحيص والتصحيح.
ومن الثابت عندنا أن عهد الترجمة كان عهد اضطراب في هذه العلوم المترجمة ردت فيه التبعة على المترجمين، ثم انجلت الرغوة وعمل الفكر العربي الوقاد عمله، فصحح أغلاط الفلاسفة وصحح نظريات الرياضة وجاء دور الاجتهاد في هذه العلوم، فاستقل الفكر العربي بالفلسفة وكيفها على ذوقه الخاص، واستنبط في هذه العلوم طرائق وأنواعا لم تكن معروفة من قبل للأوائل، وصحح العلل وكشف عن الأوهام وانتقد انتقاد المستقبل، وما كان الفارابي وابن سينا وأبو سليمان المنطقي في المشارقة، ولا ابن باجة وابن طفيل وابن برجان وابن رشد وأبو الهذيل في الأندلسيين؛ بالمقلدين في علوم الأوائل.
1
إن العربية لم تخدم مدنية خاصة بأمة، وإنما خدمت المدنية الإنسانية العامة؛ مدنية الخير العام والنفع العام، ولم تخدم علما خاصا بأمة وإنما خدمت العلم المشاع بين البشر بجميع فروعه النافعة، ومن يستقرئ خاصة هذه اللغة لعلم الطب وحده يتبين مقدار ما أفاءت هذه اللغة على البشرية من خير ونفع.
وقد كانت هذه اللغة في القرون الوسطى يوم كان العالم كله يتخبط في ظلمات الجهل، هي اللغة الوحيدة التي احتضنت العلم وآوته ونصرته.
هذا فضل لغة القرآن على المدنية الإنسانية وفضلها على الأمم غير العربية، وأما فضلها على الأمم العربية فإنه يزيد قدرا وقيمة على فضلها على الأمم الأخرى، وإذا قلنا: الأمم العربية. فإننا نعني الأمم الإسلامية كلها؛ لأنها أصبحت عربية بحكم الإسلام ولغة الإسلام.
فاللغة العربية منذ دخلت في ركاب الإسلام على الأمم التي أظلها ظله كانت سببا في تقارب تفكيرهم وتشابه عقلياتهم وتمازج أذواقهم وتوحيد مشاربهم، وإن هذا لمن المناهج السديدة في توحيد الأمم المختلفة الأجناس، ولولا العربية لاختلفت الأمم الإسلامية في فهم حقائق الدين باختلاف العقليات الجنسية، وقد وقع بعض هذا، ولكنه من القلة بحيث لا يظهر أثره في الحركة العامة للأمة.
إن الأمم التي دخلت في الإسلام متفاوتة الدرجات في الانفعالات النفسية وأنماط التفكير، متفاوتة في الإدراك والذكاء، متفاوتة في القابلية والاستعداد، متفاوتة في التصوير والتخيل، ولكن اللغة العربية فتحت عليها آفاقا جديدة في كل ذلك ما كانت تعرفها لولا العربية، ودفعتها بما فيها من قوة وبما لها من سلطان إلى التفكير والتعقل على منهج متقارب، وحفزت الأفكار الخامدة إلى التحرك، وزادت الأفكار المتحركة قوة على قوة.
إن اللغة العربية هي التي قاربت بين الفكر الفارسي المنفعل القلق وبين الفكر البربري الرصين الهادئ ثم هيأت لكل فكر قابليته.
واللغة العربية هي التي سهلت لهذه الأمم المختلفة أسباب العلم والمدنية ومهدت لها الطرائق المؤدية إليهما حتى أخذت كل أمة حظها منهما.
واللغة العربية هي التي أفضلت على علماء الإسلام بكنوزها ودقائقها وأسرارها، وأمدتهم بتلك الثروة الهائلة من المصطلحات العلمية والفنية التي تعجز أية لغة من لغات العالم عن إحضارها بدون استعانة واستعارة، فبحثوا في كل علم وبحثوا في كل فن وملئوا الدنيا مؤلفات ودواوين، ومن عرف كتاب أبي حنيفة الدينوري في النبات وكتاب أبي عبيدة في الخيل وكتاب الهمداني في تخطيط جزيرة العرب وكتاب الجاحظ في الحيوان وكتب الأئمة في الطب والنجوم والإبل رأى العجب العجاب من اتساع هذه اللغة وغزارة مادتها، وعلم مقدار أفضالها على الأمة العربية.
كما أن من يقرأ شعر الشعراء النفسيين من الفرس بهذه اللغة وشعر الشعراء الوصافين من الأندلس يتجلى له أي إفضال أفضلته العربية على تلك القرائح الوقادة التي وجدت في العربية فيضا لا ينقطع مدده، وأضافته إلى فيض الاستعداد.
وما أمتن الإنتاج الأدبي إذا كان يصدر عن اتساع في اللغة واتساع في الخيال.
إن النهضة العربية الحاضرة في الشرق مفتقرة إلى كثير من المصطلحات العلمية والصناعية، وما زلنا نقرأ من سنوات عن اهتمام قادة النهضة بهذه المشكلة اختلافا في الوجهة وهل الأصلح البحث عن مصطلحات عربية أصيلة، أو استعارة هذه المصطلحات من لغات العلم الأجنبية، وأن غاية ما استنجد به أصحاب الرأي الأول المعاجم اللغوية، وأعتقد أنه لو كانت الكتب العلمية والفنية التي كتبها أسلافنا موجودة بين أيدينا ولم تغلها غوائل الدهر لوجدنا فيها من هذه المصطلحات ما يفي بحاجتنا أو يقارب، ولكنها - ويا للأسف - ضاعت، وضاعت علينا بضياعها ثروة لا تقوم بمال.
هذا كتاب الحيوان لأبي حنيفة شدت في طلبه الرحال من عشرات السنين وأنفقت على تحصيله بدر المال، وتبارى هواة الكتب في طلبه في جميع أقطار الأرض فلم يعثر له على أثر، وإن من يقرأ ما ينقله عنه ابن سيده في كتاب المخصص يسترخص في سبيله كل غال، ويستسهل كل صعب.
هذا عرض بسيط لبعض ما للغة القرآن من فضل على العلم والمدنية، وإن هذا المبحث في حد ذاته موضوع طريف يحتاج إلى بحث عميق ودراسة مستفيضة ويتطلب جهدا قويا ووقتا متسعا، ولو أن باحثا عربيا يساعده وقته وحاله على استقراء هذا الموضوع لكتب فيه المجلدات ولبث في ناشئتنا روحا جديدة من الحماس للغتهم والتعلق بها والكد في تحصيلها والتعاظم بجمالها ولكان ذلك مقاوما لروح التزهيد الخبيثة التي لابست عقولهم.
إن المستعربين من علماء المشرقيات فريقان متفقان في الاعتقاد بجمال هذه اللغة والاعتراف بمزاياها على العلم والمدنية، مختلفا الدواعي والبواعث في معاملتها؛ فريق ينظر إليها نظر الهون والمصلحة فينادي بموتها ويعمل على موتها ويزهد فيها الناس ويتجنى عليها وينحلها العيوب، وجاراهم في ذلك بعض كتابنا فنادوا بكتابتها بالحروف اللاتينية! وبئس ما نادوا به!
وفريق ينظر إليها نظرة العلم المجرد فيتعلمها بإخلاص ويحض على تعلمها ويشيد بذكرها في المحافل والكتب.
وإن لهذا الفريق في خدمة هذه اللغة أيادي بيضاء يستحقون عليها الشكر العظيم من أبناء هذه اللغة، فكم كتبوا عنها مؤلفات، وكم عقدوا للبحث عن دقائقها مؤتمرات، وكم طبعوا من أسفارها القيمة في اللغة والأدب والتاريخ والعلوم، ولو لم يكن من فضلهم عليها إلا إحياء أمهات علمية عجزنا نحن عن إحيائها لكان ذلك موجبا لعرفان جميلهم، وإذا كان فضل العربية عليهم في القديم عظيما؛ فقد قابلوا الفضل بفضل ولهم الشكر على كل حال، إن في هذه النقطة موضع اعتبار، وهي أنه إذا كان الأجنبي عن هذه اللغة يعرف لها فضلها فيحيي من آثارها ما استطاع ويحث قومه على تعلمها والاستفادة من ذخائرها، وحكومته من ورائه تجمع له مئات الآلاف من أسفارها القيمة؛ فماذا صنعنا نحن - أبناءها - حقيقة؟! الحق أن ما صنعناه نحن لهذه الأم ضئيل وإن ما أنفقناه في سبيلها قليل، ولكن النية في خدمتها صحيحة، والرغبة في تعلمها ملحة، وعلى الله قصد السبيل.
العرب في القرآن
اختيار الله النبي منهم لتبليغ دين الإسلام
يحق علينا أن نعتني بتاريخ العرب وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام؛ وذلك لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام، ولعناية القرآن بهم، ولاختيار الله النبي
صلى الله عليه وسلم
منهم لتبليغ دين الإسلام وما فيه من آداب وحكم وفضائل إلى أمم الأرض.
وقد يقال إنهم هيئوا تاريخيا لأجل أن ينهضوا بأعباء هذه الرسالة الإسلامية العالمية، وإن عظمة الرسول وصحابته لا شك فيها؛ إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال إلا الجليل من الرجال ولا يقوم بالعظائم إلا العظام من الناس، وقد عني القرآن بتأديبهم وتربيتهم؛ ليأخذوا حظهم كاملا من التربية قبل الناس كلهم، ولهذا نجد كثيرا من الآيات القرآنية تبغي إصلاح حال العرب وتطهير مجتمعهم وإثارة معاني العزة والشرف في نفوسهم؛ ومن هذا الباب الآيات التي يذكر بها العرب أن القرآن أنزل بلسانهم مثل:
إنا جعلناه قرآنا عربيا ،
إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون .
والذين يعقلون القرآن قبل الناس كلهم هم العرب، ومن أول القصد إلى العرب والعناية بلسانهم وتنبيههم إلى أن القرآن أنزل بلسانهم دون جميع الألسنة؛ جلبا لهم حتى يعلموا أنه أنزل لهم وفيهم قبل الناس كلهم، ولكن قريشا لم تقبله أبدا، فلم يجلب القرآن وحده نافرهم أو قرب بعيدهم وإن أنزل بلسانهم، بل الذي جلب نافرهم وقرب بعيدهم قوة الحديد والنار وكثافة الجيش الفاتح.
ومن هذا الباب توسعة الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف وهي اللهجات التي تجتمع على صميم العربية وتختلف في غير ذلك، وسع عليهم في ذلك لتشعر كل قبيلة أن هذا القرآن قرآنها؛ لأن اللسان الذي نزل به لسانها، وهذا هو ما يقصده القرآن.
ومن هذا الباب أيضا إشعارهم بأن صاحب الرسالة منهم.
لقد جاءكم رسول من أنفسكم .
ولكنهم لم يغتبطوا لهذا ولم يهتدوا به.
ومن الطبيعة العربية الخالصة أنها لا تخضع للأجنبي ولا للوطني في شيء، لا في لغتها ولا في شيء من مقوماتها مهما يذكرها القرآن بالشرف ويحدثها كثيرا بالذكر، وهو في لسانها الشهرة الطائرة والثناء المستفيض، يقول تعالى لنبيه وهو يعني القرآن:
فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون .
والأنبياء لم يبعثوا إلا في مناسب الشرف ومنابع القوة ومنابت العزة ليبنى المجد الطريف من الدين على المجد التليد من أحساب الأمة وأنسابها وشرفها وعزتها، وما كان لها من مناقب تلتئم مع أصول الدين، فقوله تعالى:
وإنه لذكر لك ولقومك .
يعني أنه شرف لكم، وقومه هم العرب لا محالة، ولكنهم لم يقبلوا باللين والحسنى.
ويقول بعد ذلك:
وسوف تسألون .
ليشعرهم أن عليهم من الواجبات في مقابلة هذا الشرف الذي أعطوه ما ليس على غيرهم، ولا شك أن ثمن المجد غال، فلم يبالوا ولم يرغبوا في أداء ثمن المجد.
والأمة التي لا تؤدي ثمن المجد لا تحافظ عليه، ثم هي أمة لا يعتمد عليها في النهوض بنفسها ولا بغيرها، وإنما ذكرهم الله بذلك لينهضوا بالأمم على ذلك الأساس؛ وهو إحياء الشرف الإنساني في نفوسها، وليعاملوها على ذلك الأساس بالعدل والرحمة والتكريم وما ذكر القرآن العرب بتكريم بني آدم وخلقهم في أحسن تقويم إلا ليعاملوهم على هذه القاعدة التي وضعها الخالق، وأن أعداء البشرية يعمدون إلى قتل الشرف من النفوس؛ ليستذلوا من هذا النوع ما أعز الله، ويهينوا منه ما كرم الله.
والخلاصة أن عناية القرآن بإحياء الشرف في نفوس العرب ضرورية لإعدادهم لما هيئوا له من سياسة البشر، وبهذا نستعين على فهم السر والحكمة في اختيار الله لبعض كبار العرب للنهوض بهذه الرسالة الإسلامية العالمية واصطفائه إياهم لإنقاذ العالم مما كان فيه من شر وباطل، وهذا السر هو أنهم ما كانوا عليه من شرف النفس وعزتها والاعتداد بها هو الذي هيأهم لذلك ولو كانوا أذلاء لما تهيئوا لذلك العمل العظيم، وهؤلاء الكبار هم محمد
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وخاصة أعوانه.
وقد عانوا مع قريش ما عانى موسى مع اليهود مما قصه القرآن علينا لنعتبر به في الحكم على الأمم فلم يعتبر أحد، فكانوا كبني إسرائيل الذين اختارهم الله وفضلهم على العالمين؛ لينقذوا أنفسهم من استعباد فرعون، وليكونوا مظهرا للنبوة والدين في أول أطوارهما، وأضيق أدوارهما، وهذا هو الواقع، أما الأمة العربية فكان الرجاء أن تنهض بالعالم كله، وأن تظهر دين الله على الدين كله، لا كبني إسرائيل الذين ما استطاعوا أن ينهضوا حتى بأنفسهم؛ وإنما نهض بهم موسى نهضة قائمة على الخوارق، وما نهضوا بأنفسهم إلا بعد موسى بزمن مع اتصال حبل النبوة فيهم، ومغاداة الوحي الإلهي ومراوحته لهم.
فالأمتان - العربية والإسرائيلية - متمايزتان بالأثر ومتمايزتان بحديث القرآن عنهما، وإذا تلمسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنهم غير مستعدين للقيام بنهضة عالمية عامة وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوة في أبلغ بيان، في قوله تعالى:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون .
فالسر المتجلي من هذه الآية هو أن الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يعلم هذا العالم الإنساني من سنن الله في كونه ما لم يكن يعلم؛ وهو إخراج الضد من الضد، وإخراج الحي من الميت، وإنقاذ الأمة الضعيفة التي لا تملك شيئا من وسائل القوة الروحية ولا من وسائل القوة المادية - من استعباد الأقوياء المتألهين؛ فهو مثل عملي ضربه الله لخلاص أضعف الضعفاء من مخالب أقوى الأقوياء، وجعل المستضعفين أئمة وارثين وسادة غالبين، والتمكين لهم في الأرض، وجعل الأقوياء المستعلين في الأرض يرون عاقبة باطلهم؛ لكيلا ييأس المستضعفون في الأرض من روح الله، وقد قال موسى لبني إسرائيل؛ تمكينا لهذا المعنى في نفوسهم:
عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون .
وإلى هذا المثل العملي تشير الآية:
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون .
وأما محمد وصحبه وتابعوه وآل بيته والمهاجرون والأنصار فإنهم اختيروا - والوظيفة عالمية عامة - لما فيهم من شرف متأصل، واستعداد كامل، وصفات مهيأة، ولهذا كان منبع الرسالة بمكة؛ وشأنها عند العرب هو شأنها؛ فهم مجمعون على تقديسها، ولأنها في وسط الجزيرة وصميمها، ووسط الجزيرة بعيد كل البعد عن المؤثرات الخارجية في الطباع والألسنة؛ تلك المؤثرات التي يجلبها الاحتكاك بالأجانب والاختلاط بهم، وكل أطراف الجزيرة لم تخل من لوثة في الطباع وعجمة في الألسنة جاءت من الاختلاط بالأجنبي، ولا أضر على مقومات الأمم من العروق الدساسة، فاليمن دخلتها الدخائل الأجنبية من الحبشة والفرس على طباع أهلها وألسنتهم، والشام ومشارفه كانت مشرفة على الاستعجام، والعراق والجزيرة لم يسلما من التأثر بالطباع الفارسية، فكانت هذه الأطراف تنطوي على عروبة مزعزعة المقومات ولم يحافظ على الطبع العربي الصميم إلا صميم الجزيرة؛ ومنه مكة التي ظهر فيها الإسلام، وهذا الوسط وإن كان عريقا في الصفات التي تسمى العصر لأجلها جاهليا، ولكنه كان بعيدا عن الذل الذي يقتل العزة والشرف من النفوس، والجاهل يمكن أن تعلمه، والجافي يمكن أن تهذبه، ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال كما كانت حال الكثرة من أهل مكة وقريش والطائف الذين رفضوا دعوة محمد.
وشيء آخر يرتبط بهذا؛ وهو أن الله كما اختار محمدا
صلى الله عليه وسلم
للنهوض بالعالم، كذلك اختار لسانه؛ ليكون لسان هذه الرسالة وترجمان هذه النهضة، ولا عجب في هذا؛ فاللسان الذي اتسع للوحي الإلهي لا يضيق أبدا بهذه النهضة العالمية مهما اتسعت آفاقها وزخرت علومها.
الكتاب السابع
الهجرة
الحالة التي كانت عليها العرب في الدين أثناء الدعوة المحمدية
كان ما تسرب إلى بلاد العرب من اليهودية والنصرانية قبل الإسلام قد نضحت عليه الوثنية الضاربة هناك يومئذ أطنابها، ولم يكن المجوس والصابئة أهل توحيد خالص وإن ألحقوا بأهل الكتاب.
أما النصارى فقد كانوا أقوياء في نجران، وكان قس بن ساعدة الإيادي بطريركهم، وكان مبشرا كبيرا لم تذهب عنه النزعة البدوية، فطاف يخطب في الأسواق الكبرى ومحافل الأدب على ناقته الحمراء، وقد سمعه النبي وأبو بكر في عكاظ قبل الإسلام وحفلا بخطبته، ولكن أبا بكر ذكر بعضها؛ لأنه درج على استظهار الأنساب وحفظ النوادر وتفسير الرؤى، وكانت النصرانية في اليمن ومن كبارها أبرهة الأشرم الذي حاول فتح مكة وهدم الكعبة قبل مولد الرسول بأربعين عاما.
وكان اليهود في يثرب ولهم حول وطول ، وكانت مكة لا تخلو من يهود ونصارى وبعضهم متستر منزو؛ كورقة بن نوفل وأخته قتيلة بنت نوفل، وهم من أقارب خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها.
أما الأديان الأخرى فكانت كثيرة؛ بعضها ملحق بأهل الكتاب كالمجوس والصابئة، وبعضها وثني محض كأهل مكة والمدينة والطائف، وهؤلاء كانوا يعبدون أصناما شتى، ورد ذكرها في القرآن الكريم، وبعضها في الكتب المدونة مثل كتاب الأصنام لابن الكلبي، وبعضها جلب من بلاد بعيدة كهبل، والبعض صنع في بلاد العرب نفسها، وكانت لكل أسرة أصنام تعبدها في بيتها كما كان لعائلات الإغريق في بيوتهم آلهة تعرف بإله البيت.
وثبت لنا وجود هذه الأوثان البيتية من أن هندا يوم فتح مكة وإرغامها على الإسلام بعد زوجها أبي سفيان أنها كسرت صنمها بعد أن لطمته وسبته وأنكرت قدرته التي كانت تتوهمها، فألفته بعد الامتحان لا ينفعها ولا يدفع عنها أذى، ولا يعوق جيش محمد الظافر المنتصر.
ولكن غير هؤلاء وأولئك كان الدهريون أو عباد الدهر والطبيعة والزمان، وهم جماعة سجلت الكتب أخبارهم.
وبقيت مدينة حران في بلاد ما بين النهرين وثنية، فاجتمع فيها آلهة اليونان وآلهة الرومان إلى آلهة الساميين، فاجتمعت العزى بأفروديت في الدلالة على معبودة واحدة، كما جمع العرب في الكعبة وغيرها من الهياكل عدة عديدة من الأرباب، وسواء أكان هبل كبير الآلهة عندهم هو بنفسه زفس أو أبولو أو ياهو-بعل، ففيه ما يؤكد استراق الآلهة أو اقتراضها والإجماع على عبادتها في مكان واحد أو أماكن متعددة.
فهؤلاء الوثنيون كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله ونصبوا بأيديهم حجارة وخشبا وصورا استحسنوها ونبزوا أسماء افتعلوها ودعوها آلهة عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها ألقوه ونصبوا بأيديهم غيره فعبدوه، هؤلاء هم العرب.
وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا وفي عبادة ما استحسنوا من حوت ودابة ونجم وغيره، فذكر الله لنبيه جوابا من جواب بعض من عبد غيره من هذا الصنف، فحكى جل ثناؤه عنهم قولهم:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون .
وحكى أنهم قالوا:
لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا .
ومن أشهر أصنام العرب العزى (هي أفروديت) وهي وهي التي كانت تذكر مقرونة باللات (نيكولسون تاريخ الأدب العربي).
وقيل إن النبي
صلى الله عليه وسلم
وكل إلى المغيرة بن شعبة (أحد دهاة العرب) في العام التاسع الهجري بعد دخول المغيرة في الإسلام أن يتوجه إلى الطائف ويهدم وثن العزى فأنجز المغيرة مهمته، وخالف هذا القول الفريق طه الهاشمي في كتابه «خالد بن الوليد» فروى أنه بعد الفتح بأيام أمر النبي خالدا أن يسير إلى «نخلة»؛ ليهدم العزى الصنم الأكبر الذي كانت تعظمه مضر فهدم خالد الوثن وبيته، ثم قال يشيع العزى إلى مقرها الأخير:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
وهذه الرواية الأخيرة أرجح من الأولى وعليها معظم المؤرخين.
أما المغيرة فتاريخه أنه نشأ بالطائف وقتل أحد أهلها وفر إلى المدينة؛ خشية الثأر في العام الثامن للهجرة، فلم يجد من يحميه وينصره، فانتحل الإسلام فقبل النبي إسلامه ووجد فيه رجلا يعول عليه في مهام الأمور.
كان الدهري لا يرى في الأرض دينا أو نحلة أو شريعة أو ملة، ولا يرى للحلال حرمة ولا يعرفه، ولا للحرام نهاية ولا يعرفه، ولا يتوقع العقاب على الإساءة، ولا يتوخى الثواب على الإحسان، وإنما الصواب عنده والحق في حكمه أنه والبهيمة سيان وأنه والسبع سيان، ليس القبيح عنده إلا ما خالف هواه وأن مدار الأمر على الإخفاق والدرك (النجاح والخيبة) وعلى اللذة والألم، وإنما الصواب فيما نال من المنفعة وإن قتل ألف إنسان صالح؛ لنالة الدرهم الرديء!
والدهري الذي يريد من أصحاب العبادات والرسل ما يريد من الدهري الصرف الذي لا يقر إلا بما أوجده العيان وما يجري مجرى العيان فقد ظلم، وكل ما له علاقة بالألوهية والنبوة مستنكر عنده، وقد تولى السيد الأفغاني الرد على الدهريين في الكتاب الوحيد الذي ألفه وطبعه؛ وذلك لقرب ما كانوا يعتقدونه وبين المذهب المادي الذي بدأ يتفشى في أوروبا في القرن التاسع عشر وأدركه السيد الأفغاني وحاول محاربته، وكان من أقوى أنصار المذهب المادي بنتام وستوارت ميل وهربرت سبنسر في إنجلترا، وكتب هؤلاء الثلاثة تؤيده، ولعل الشيخ خشي على الشرق انتشار هذا المذهب فحاول صد التيار بكتابه، ولو نظرنا إلى المذهب الدهري على حقيقته رأينا - للأسف - أن خوف الشيخ الأفغاني قد تحقق وسرت مبادئ هذا المذهب في الغرب والشرق سريان النار في الحطب.
فإن الكثرة الغالبة في أوروبا وأمريكا وفي كثير من بلاد الشرق الإسلامي وغيره دهريون في الحقيقة وإن كانوا من أهل الكتاب بالاسم والخيال، فهم ينكرون كل شيء لا يقره العيان والمشاهدة ويعبدون المال والمادة ولا يقرون إلا القوة، وقالوا بأن الحق يصحبها ويلازمها، والفرق بين الدهريين وبينهم أن الدهريين قدامى لم يعرض لهم دين ولا رسالة ولا كتاب ولم ينتحلوا دينا ثم خلعوه، ولم ينافقوا فيقولوا: إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون ثم نزعوا إلى دهريتهم، أما هؤلاء المحدثون صرعى المذهب المادي؛ فقد عرضت لهم نبوة ورسالة وكتب ودعوا إلى دين من الأديان المنزلة، ولكنهم اعتبروا هذا كله مخالفا للعقل فنفوه ورفضوه، وترقوا عليه إلى الرجعى، وهي الدهرية القديمة في ثياب جديدة سواء أكانت اليهودية أم النصرانية أم الإسلام.
وكان من أهل المذاهب المغايرة للإسلام أتباع مزدك أحد زعماء الأديان القديمة، وكانت تعاليمه اشتراكية، اتسع نطاق دعوتها وتغلغلت بين العامة في فارس حتى انتهى الأمر بأن اعتنقها الملك قباذ نفسه، وقد قتل أنوشروان كثيرين من أتباع مزدك، وكان ينسب إليهم كثير من الدهاء والحذق، يعتمدون في انتشار دينهم على قوة العرش واستدراج الملك إلى عقيدتهم بأنواع من الشعوذة والخداع؛ ليصلوا إلى سيادة العامة من أقرب الطرق، ولهم كتب معروفة وأسانيد مدونة أخضعوا بها الشعب وقضوا على تردده، وهؤلاء بطبيعة الحال أعداء للإسلام؛ لأنه لا يركن إلى ملك أو سلطان، ولا يلجأ إلى الحيلة والشعوذة، ولا يجعل الشعب بين حاكم ومحكوم وسيد ومسود.
ومنهم أصحاب ماني الذين يدعون الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام؛ تحرجا وتحوبا، ثم تخرجها من ذلك إلى عبادة اثنين: (النور والظلمة) ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من طرق تنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، وقد وصفهم وصفا حسنا الخليفة العباسي المهدي لابنه موسى الهادي.
وهذه الفرقة القديمة تعد من أتباع الأديان الأولى التي ظهرت في آسيا قبل بزوغ الأديان المنزلة، وما زالت تتفرع منها شيع باطنية وجمعيات سرية لها مبادئ وخصوصيات توجه العقل البشري توجيهات خطرة ولكنها منطوية على الحكمة الظاهرة، ثم إنها كانت تزعم أن العالم بما فيه من عشرة أجناس: خمسة منها خير ونور، وخمسة منها شر وظلمة، وكلها حاسة وحارة، وأن الإنسان مركب من جميعها على قدر ما تكون في كل إنسان من رجحان أجناس الخير على أجناس الشر، أو رجحان الشر على أجناس الخير، وأن الإنسان وإن كان ذا حواس خمسة فإن في كل حاسة فنونا من ضده من الأجناس الخمسة، فنظرة الرحمة من النور ومن الخير، ونظرة الوعيد من الظلمة والشر، وكذلك جميع الحواس، وأن حاسة السمع جنس على حدة، وأن الذي في حاسة البصر من الخير والنور لا يعين الذي في حاسة السمع من الخير ولكنه لا يضاره ولا يمنعه، وأجناس الخير يخالف بعضها بعضا وكذلك أجناس الشر، وأن التعاون والتأذي بين أجناس الخير يقع بين متفقها.
ومن الملحقين بأهل الكتاب المجوس، وقد جاء على لسان أحدهم في كلام الجاحظ قوله: «لعل أيضا صاحبكم (أي محمدا
صلى الله عليه وسلم ) إنما توعد أصحابه بالنار؛ لأن بلادهم ليست ببلاد ثلج ولا دهن، وإنما هي ناحية الحرور والوهج والسموم؛ لأن ذلك المكروه أزجر لهم.»
فرد الجاحظ عليه بحجتين قويتين: (1)
أن أكثر بلاد العرب موصوفة بشدة الحر في الصيف وشدة البرد في الشتاء؛ لأنها بلاد صخور وجبال، والصخر يقبل البرد والحر، والحالتان سواء عندهم في الشدة. (2)
أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لو كان قال: لم أبعث إلا إلى أهل مكة! لكان له متعلق من جهة هذه المعارضة، ولكنه مبعوث إلى الأحمر والأسود وإلى الناس كافة؛
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ، ونذيرا للبشر؛
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .
وهذه العبادة المجوسية؛ وهي عبادة النار وتقديسها؛ دليل على أحقادهم على الإسلام ونبيه، وبعد أن كان العقل العربي لاصقا بصورة المادة لا يحيط إلا بما تعاينه الحواس انسلخ بفضل البعثة المحمدية والقرآن من هذه المادة بعض الشيء وتعلق بالأمور المجردة فتغلغل في باطنه، ففكك أجزاء النفس وقواها وحسها وتفكيرها وأخلاقها، وطمح إلى ما فوق البشر وإلى ما فوق العالم، فنظر في المبادئ والنتائج ونظر في العلل والقوانين، فلما دخلته هذه العناصر التي لا عهد له بها، قبلها ولم يعجز عن تمثيلها، وقد ساعد البيان العربي واللغة العربية على هذه الحياة الجديدة، ولكن معاول الهدم لم تقف حركتها في أيدي المشركين الذين استعانوا بأصحاب هذه الأديان في محاجة الرسول والكيد له، فنصره الله على أيدي قوم منهم؛ أمثال: سلمان الفارسي، وعداس النينوي.
أما عن أهل الكتاب حقا الذين سبقوا الدعوة وعاصروها في بلاد العرب؛ وهم اليهود والنصارى؛ فقد قال الإمام الشافعي الحجازي فالعراقي فالمصري صاحب المذهب الفقهي المشهور: بعث الله محمدا
صلى الله عليه وسلم
والناس صنفان: أحدهما: أهل كتاب بدلوا من أحكامه وكفروا بالله فافتعلوا كذبا صاغوه بألسنتهم فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم، فذكر تبارك وتعالى لنبيه من كفرهم فقال:
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (سورة آل عمران). وقال:
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (سورة البقرة).
وقال:
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (سورة التوبة).
وقال:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (سورة النساء).
فهؤلاء دينهم يقوم على الوحي الذي لا يأتي بغير توحيد لكنهم انحرفوا عن سبيل الوحي فأصابهم شوب من الشرك، فجاء النبي يدعو الناس كافة إلى الإيمان بالله وحده لا يميز في الدعوة بين مشركين وأهل كتاب.
ولعل دعوته لأهل الكتاب أحر وأقوى؛ لأنهم أحق باتباع الهدى فيتبعهم المشركون تقليدا واقتناعا بمن سبق لهم علم، فناداهم القرآن:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (سورة آل عمران).
وقال:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (سورة البقرة).
ولكن على شدة لوم الدعوة لأهل الكتاب؛ لأن تبعتهم أكبر من تبعة الذين جهلوا أصلا؛ وهم الوثنيون، فإنها لا تتفاوت حين توجه إلى الصابئة والمجوس؛ لأن الحق واحد لا يتغير بتغير الأنبياء، وإنما هذا لا يمنع أن يعتبر محمد أتباع الوحي القديم ممن لهم كتاب أو شبه كتاب أدنى إلى دعوته وإن حرفوا في دينهم، وأرجى أن يتوبوا إلى ما في أصول ملتهم من إخلاص العقيدة لله وحده.
ولم ير الله بأسا في رفع أهل الكتاب درجة على المشركين؛ فكان يأذن الله للمسلمين بأكل ذبائح أهل الكتاب ومصاهرتهم في النساء وأخذ الجزية منهم إذا هزموا في الحرب وتركهم في دينهم إصرارا، وعليهم أن يحموهم مما يحمون منهم أنفسهم، أما المجوس والصابئة فيعاملون بالاجتهاد فإن قربوا من أهل الكتاب عوملوا به وإن دنوا من أهل الشرك كان نصيبهم كذلك إلى أهل الشرك أميل.
فالمشركون منحرفون عن فطرة الله، وأهل الكتاب أقرب إلى طريقه المستقيم يرجى تمام صلاحهم.
والإسلام نفسه في كلمتين قالهما الرسول لمن سأله: «قل آمنت ثم استقم.» •••
إذن كان معظم العرب وثنيين ليس لهم حظ من الرقي والحضارة، وكانت قبائلهم وممالكهم الفطرية التي أسسوها منطوية على البغضاء والتنافس وتحكيم الأهواء والمطامع، وقد خضعوا لأنواع الذل وألوان المظالم سواء أكان مصدرها زعيم القبيلة أو ملك غشوم مجنون، وقد سجل لنا التاريخ والأدب صورا من هذه الحياة المنكودة؛ فإن حياة امرئ القيس أكبر شعراء الجاهلية وقصائده لتحمل طابع الكراهية الموروثة التي تأصلت جذورها بين لخم وكندة، وقضى ملوك الحيرة وغسان، وهما من تلك الممالك الفطرية، أعواما طويلة في الإغارة بعضهم على أقاليم بعض، وما تلك الإغارات إلا غزوات القبائل مضاعفة ومكبرة.
وغلبت النصرانية على ملوك العرب وقبائلها؛ على لخم وغسان والحارث بن كعب بنجران وقضاعة وطي في قبائل كثيرة، ثم ظهرت ربيعة فغلبت على تغلب وعبد القيس وأحياء بكر، ثم في آل ذي الجدين خاصة، إلا مضر فلم تغلب عليها يهودية ولا مجوسية، ولم تفش فيها النصرانية إلا من نزلوا الحيرة يسمون العباد، كانوا نصارى وهم مغمورون، مع نبذ يسير في بعض القبائل، ولم تعرف مضر إلا دين العرب ثم الإسلام.
وجاء الإسلام وليست اليهودية بغالبة على قبيلة إلا ما كان من ناس من اليمانية ونبذ يسير من جميع أياد وربيعة، ومعظم اليهود إنما كان بيثرب وحمير وتيماء ووادي القرى وفي ولد هارون دون العرب.
كان اليهود جيران المسلمين بيثرب وغيرها، وعداوة الجيران شبيهة بعداوة الأقارب في شدة التمكن وثبات الحقد، وإنما يعادي الإنسان من يعرف، ويبدو له عيوب من يخالط.
فلما صار المهاجرون لليهود جيرانا وقد كانت الأنصار متقدمة الجوار مشاركة في الدار، حسدتهم اليهود على نعمة الدين، والاجتماع بعد الافتراق، والتواصل بعد التقاطع، فشبهوا على العوام واستمالوا الضعفاء ومالئوا الأعداء والحسدة ثم جاوزوا الطعن وإدخال الشبهة إلى المناجزة والمنابذة بالعداوة فجمعوا كيدهم وبذلوا أنفسهم وأموالهم في قتالهم وإخراجهم من ديارهم، وطال ذلك واستفاض فيهم وظهر وترادف لذلك الغيظ وتضاعف البغض وتمكن الحقد.
فكان هذا أول أسباب ما غلظ القلوب على اليهود، وكلما لانت القلوب لقوم غلظت على أعدائهم، وبقدر ما نقص من بغض النصارى زاد في بغض اليهود، أما النصارى فكانوا؛ لبعد ديارهم من مبعث النبي ومهاجره؛ لا يتكلفون طعنا، ولا يثيرون كيدا، ولا يجمعون على حرب.
وكانت العرب تهاجر إلى الحبشة وتأتي باب النجاشي وافدة فيحبوهم بالجزيل ويعرف لهم الأقدار، وكذلك كان حال قيصر، وقيصر والنجاشي نصرانيان، فكان ذلك أيضا للنصارى دون اليهود، ثم كانت الهجرة إلى الحبشة واعتمادهم على تلك الجهة ما حببهم إلى عوام المسلمين.
هذا ما كان من مقدار نظر المسلمين إلى أهل الكتاب، فكان المسلمون على النصارى أعطف وإليهم أميل.
وكان من النصارى قسيسون ورهبان وعلماء وأطباء وملوك وشرفاء، ولم يكن اليهودي إلا مرابيا أو تاجرا أو قصابا أو حجاما.
وفي رسائل الجاحظ (ص170): بلغ من استصغار شأن اليهود أن الصبيان كانوا يصيحون بالفهد إذا رأوه: يهودي! وكانت العامة تزعم أن الفأرة يهودية سحارة، والأرضة يهودية أيضا عندهم، والضب يهودي! حتى قال بعض القصاص لرجل أكل ضبا: اعلم أنك أكلت شيخا من بني إسرائيل!
الحالة التي كان عليها العرب في الاجتماع والسياسة والاقتصاد أثناء الدعوة المحمدية
أما في الاجتماع والسياسة والاقتصاد فلا يخرج تاريخ البدو أيام الجاهلية عن تسجيل حروبهم، وأخبار عصابات تغير للسلب والغنيمة، يفخر كل فريق بنسبه ويرمي خصمه بوابل هطل من الأهاجي المقذعة، وتسبى النساء وتنهب الإبل، وكان ذلك نوعا من الحروب الهمجية القديمة أتاحت فرصا للبطولة البدوية، ومراجع تلك الوقائع القصائد الطوال والمقطعات القصار، ولهم أيام مشهورة كيوم ذي قار وحرب الفجار التي ساهم النبي فيها في شبابه وحرب البسوس وغيرها.
وخضع عرب الجاهلية لمن يجاورهم أو يبسط نفوذه عليهم لحرمانهم مقومات الأمم ذات الشخصية المعنوية التي تكتفي بوراثتها وتقاليدها ومثلها العليا دون التقليد والخضوع للغير، فكانت مملكة اللخميين تنافس آل غسان وتزاحمها في سطوتها ونفوذها، على أن حضارة ضئيلة لا تصلها بالطبيعة البدوية وخضوعها للوثنية.
أما الغساسنة فاتصلوا بالإغريق وتأثروا بثقافتهم وأنشئوا حضارة أعظم من حضارة اللخميين.
ومن العجب العاجب أن هذه الجماعات التي سميت ممالك مجازا وتجاوزا لم تفكر قبل الإسلام في جمع كلمتها ولم شعثها والانضمام تحت لواء واحد، وما زلنا نشهد تفرق كلمتهم إلى أن تخضعهم دولة قوية كالترك، أو دولة أجنبية تساوي بينهم في الذل والعبودية، ولم تجتمع كلمتهم إلا في ظل الإسلام في عنفوانه، ثم لعبت بهم الأهواء قرونا وأجيالا.
وقد يحاول المؤرخ تقصي أخبار تلك الممالك العربية الصغرى فتدركه الحيرة واليأس، وقل أن يستمد مرجعا أو مصدرا خليقا بالتدوين، فيؤلف من الشتات هيكلا تقريبيا حتى ولو استعان بالنتف المبعثرة في مدونات البيزنطيين، وقد يحتوي الشعر الجاهلي على صورة مصغرة أو مضخمة لحياتهم وأهوائهم ومطوحاتهم، فتعرف بعض ناحياتها، ولكن الشعر ليس في نهاية الأمر مصدرا كافيا شافيا، ولا عجب ولا ملامة؛ فإن الجماعات الهمجية تكتفي في تاريخها على الذاكرة كما اكتفوا بها في حفظ آدابهم.
كان بعض ملوك العرب يقلدون ملوك الفرس والروم؛ لأن الفطرة العربية شديدة التعلق بالترف والأخذ بأسبابه؛ فقصورهم حافلة بالقيان يغنين بمختلف اللغات، يستقدمون المطربين من مكة، فإذا جلس أحدهم للشراب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الورود والرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف من الفضة، ولبس أفخر الثياب الملونة ليخلعها أثناء طربه على ندمائه وشعرائه، وقد وصف مجالسهم في قصورهم حسان بن ثابت والنابغة الذبياني، أما شعر حسان في هذا الباب فلا نقطع بصحته في هذه المواطن دائما، وإن ورد فيه كثير من مدح الغساسنة؛ لقرابته وصلته بهم أيام وثنيته، وقد أسلم قبل حكم جبلة بن الأيهم بزمن طويل.
أما النابغة فقد نظم فيهم؛ يؤيد عراقتهم في النعومة:
رقاق النعال طيب حجزاتهم
يحيون بالريحان يوم السباسب
تحييهم بيض الولائد بينهم
وأكسية الإضريج فوق المشاجب
يصونون أجسادا قديما نعيمها
بخالصة الأردان خضر المناكب
وعرف عن بعض هؤلاء الملوك متانة الإيمان في العقيدة والملة، كان الحارث بن جبلة حليف جوستنيان على ملك الحيرة ثابتا على رأيه في السياسة والدين؛ فقد قضى أربعين عاما في محاربة المنذر الثالث بن ماء السماء (نسبة لأمه كما نسب ابنه عمرو إلى أمه هند)، فاتسعت رقعة الحرب بينهما من أول القرن السادس المسيحي إلى الثلث الأخير منه، فاستغل جوستنيان أحقاد الملكين؛ ليضعفهما جميعا.
وكان الحارث بن جبلة يعقوبيا، فدافع عن مذهبه متحمسا مستهينا بأخطار شديدة، فاجتذب عطف عظماء بيزنطة إلى أن زارها؛ ليضمن توريث عرشه أحد أبنائه، فأظهروا له الإخلاص وحباه جوستنيان بعطفه وأدخله إلى أهل بيته؛ زيادة في التغرير به، كما فعل أسلافه بالبطالسة في رومة وآل عثمان بأمراء أمثاله بعده بمئات السنين.
ولم يكن بعض هؤلاء الملوك عندما دخل الإسلام - راغبين أو مرغمين - سوى أعراب ما يزالون على الوثنية أو المسيحية لم يعقلوا روح الإسلام ومبادئ العدل والمساواة التي جاء بها حاسمة لعداوات الجاهلية.
ومن أشهرهم بسبب قضيته وردته جبلة بن الأيهم آخر ملوك آل غسان، أدرك الإسلام في خلافة عمر فأسلم ومر بأسواق دمشق فأوطأ رجلا وفرشه، فوثب الرجل فلطمه، فقبض عليه الغسانيون وأدخلوه على أبي عبيدة بن الجراح فاتح الشام المتوفى سنة 639 م، وشكوه إليه، فطالب الملك بشهود الإثبات، فقال جبلة: وما تصنع بالبينة؟!
فقال الحاكم الصحابي: إن كان لطمك لطمته بلطمتك (يعني عملا بمبدأ العين بالعين والسن بالسن)، فدهش الملك؛ لظنه أن الحاكم المسلم يأخذ بدعواه وحده فيقتل الجاني أو يقطع يده؛ لاعتقاده ببقاء حق الملوك في تقديس أشخاصهم بعقوبة مثالية.
1
فقال الحاكم الصحابي: إنما أمر الله بالقصاص؛ فهي لطمة بلطمة.
فخرج جبلة ولحق بأرض الروم وتنصر ولم يزل هناك إلى أن مات، فرويت القضية على ألوان، وهذا النص أصدقها (ابن قتيبة)، ونمقها بعض كتاب العرب فجعلوا لها حواشي وذيولا؛ فجعلوا الملك لاطما لا ملطوما واختاروا موضعها المسجد الحرام أثناء الطواف بالكعبة، وأن حكمها عمر بن الخطاب نفسه.
ونقدر أن نفسر كبرياء جبلة بن الأيهم؛ فقد كان عملاقا طوله اثنا عشر شبرا وكان ملكا مطاعا حديث العهد بالإسلام فأخذته العزة وباع دينه الجديد بكرامته، وقد يعذره المجامل للملوك بأنه أسلم ولما يدخل الإسلام قلبه، وإلا لصبر وعفا، والعفو من شيم الكرام.
أما ما روي من أنه ندم وأقام في بيزنطة وأدمن الخمر حزنا، فلا نقيم له وزنا.
الإسلام ثورة كبرى
كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور ونقلت من اللغة ألفاظ عن مواضع إلى مواضع أخر بزيادات زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت فعفى الآخر الأول، ولأجل تقريب هذه الحقيقة إلى ذهن القارئ نضرب له مثلا من الحركات العنيفة التي هزت أركان المجتمع الإنساني في مختلف البلاد والعصور؛ كظهور السيد المسيح، والثورة الفرنسية، والثورة الروسية، وما أعقبها من التغيير والتبديل في القرنين: التاسع عشر والعشرين، والحروب العظمى التي وقعت في العالم؛ فجاء تاريخ الإسلام ببرهان بليغ على صلاح المسلمين بأخلاقهم ولغتهم للحياة وعلى استعدادهم لقبول ما يندمج فيهم من صور الفن والعلم، واستعدادهم للدخول في كل طور من أطوار الحياة؛ لأن التطور من علامات القدرة على البقاء وقد فعلت الثقافة اليونانية فعلها في ميراث الأدب عندهم فألفوا في آفاقهم أول يقظتهم مستودعا لآثار عقول اليونانيين، فأخذوا منه ما قدروا عليه، وسايروا الحضارة الحديثة على وهن واستخذاء؛ لأنهم فرطوا في الجوهر واللب واستناموا للترف والرفاهية والشهوات، فعصفت رياح القوة بالبقية الباقية من ثورتهم التي شهدها القرن السابع المسيحي وما تلاه.
رأينا في الثورة الفرنسية ظواهر كبرى؛ كنبوغ العظماء، وانقلاب الطبقات، وإبدال تقاليد بأخرى، وتغيير في موازين النظم المدنية والشرائع الوضعية، وتغيير الأشهر، وقد سبقها الإسلام إلى تلك جميعها بثورته على الجاهلية فمحوا الأسماء القديمة وتولد غيرها عفت على ما قبلها (المزهر، ج1، ص108) وأصبحت ألفاظ تدل على غير مدلولها السابق؛ من ذلك ما اعترى تقسيم الزمان في الأشهر والأيام، فأسماء الشهور في الجاهلية كانت:
المؤتمر فصار المحرم.
وناجر حل محله صفر.
وخوان تحلى باسم ربيع الأول.
وبصان أضحى ربيع الآخر.
والحنين أمسى جمادى الأولى.
ودبى بات جمادى الأخرى ... إلخ.
وجاء في كلام النبي ما نهى عن الطيرة وما إليها من الرذائل القائمة على الوهم وسوء الظن بالأشخاص والأشياء: ثلاث لا يسلم منهم أحد: الطيرة، والظن، والحسد، إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ.
وكانوا يفتخرون بالكنية، وهي كألقاب الشرف يقصدون بها التعظيم لصاحب الكنية عن التسمية باسمه (نوع من «لا مساس» للاسم)، وقد يجعلون للرجل كنيتين أو ثلاثا على مقدار جلالته في النفوس، وانتقلت هذه العادة من الجاهلية إلى الإسلام؛ لأنها لا تضر في الدين وقد تنفع في الدنيا، فكان السلطان إذا شرف وزيرا من وزرائه أو واليا من ولاته كناه، وممن كان كني من أبطال الإسلام الإمام علي، فكان يكنى بأبي الحسن وأبي تراب، وحمزة عم النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يكنى بأبي عمارة وأبي يعلى وهما ولداه.
ومما جاء في الإسلام ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق، وأن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافا بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمنا، وكذلك الإسلام والمسلم إنما عرفت منه إسلام الشيء، ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء، وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاء والستر، ويزعم مستشرق مراوغ أن الإسلام أصله تسليم الرجل لأعدائه، فصار تسليم الإنسان نفسه لله ورسوله؛ وهو الأصح.
أما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع، ولم يعرفوا في الفسق إلا قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وجاء الشرع بأن الفسق الإفحاش في الخروج عن طاعة الله - تعالى - ولأجل خروج الألفاظ عن معانيها وتناسخ المقاصد في الكلمات يرجع إلى كتب اللغة وفنون الفقه اللفظي وفيها كثير يقنع.
وبلغ من تأثير القرآن في قلوب المسلمين في كل عصر مبلغا أقنع الأغيار بعجزهم عن أن يردوا مسلما واحدا عن دينه على مدى مئات الأعوام، واستنتج أحد ناقلي القرآن إلى اللغة الفرنسية
1
أن الكلمة إذا وضعت مواضعها وأنزلت منازلها كانت سحرا حلالا ينزل على سامعيه نزول الماء الزلال على الكبد الحري، وليس تعلق المسلمين بدينهم راجعا إلى خوفهم من عقوبة الردة؛ وهي القتل كما زعم مرغليوث في كلامه على أسرار دار الأرقم عندما أدركه العجز عن تعليل فشل المبشرين في أنحاء العالم.
دار الأرقم المخزومي موئل الإسلام بعد حراء وبيت الرسول
هذه الدار تعرف أيضا باسم دار الخيزران، وهي في زقاق على يسار الصاعد إلى الصفا، وهو الجبل الذي ينتهي إليه أول شوط من أشواط المسعى، وتعرف عند المؤرخين بأنها الدار التي كان يختبئ فيها رسول الله في صدر بعثته هو ومن آمن معه، وكانوا يصلون بها سرا حتى أسلم عمر - رضي الله عنه - فقويت عصبيتهم وجهروا بالإسلام والصلاة.
وباب هذه الدار يفتح إلى الشرق ويدخل منه إلى فسحة سماوية طولها نحو ثمانية أمتار في عرض أربعة، وعلى يسارها ليوان مسقوف على عرض نحو من ثلاثة أمتار، وفي وسط الحائط التي على يمينها باب يدخل منه إلى غرفة طولها ثمانية أمتار في عرض نحو نصف ذلك، كانت مفروشة بالحصر، وفي زاويتها الشرقية الجنوبية حجران من الصوان موضوعان أحدهما فوق الآخر، مكتوب في أعلاهما بالحرف البارز: «بسم الله الرحمن الرحيم،
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ، هذا مختبأ رسول الله ودار الخيزران، وفيها مبتدأ الإسلام، أمر بتجديده الفقير إلى مولاه أمين الملك مصلح ابتغاء ثواب الله ورسوله ولا يضيع أجر المحسنين.»
ومكتوب في الثاني بعد البسملة: «هذا مختبأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المعروف بدار الخيزران أمر بعمله وإنشائه العبد الفقير جمال الدين شرف الإسلام أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني وزير الشام والموصل في سنة 555.»
فهذه أدلة تاريخية غير التواتر تثبت حقيقة هذا البناء الذي كان له شأن جليل في تأليف الجماعة المحمدية الأولى سرا في قلب مكة المكرمة.
وكانت مدة ما أخفى المسلمون أمرهم ثلاث سنين.
وسبب هذا الاختفاء واللجوء إلى دار الأرقم أن سعد بن أبي وقاص وبعض أصحاب الرسول كانوا يصلون مستخفين في شعب من شعاب مكة ففجأهم جماعة من المشركين فناكروهم وعابوا عليهم وسخروا منهم ما يصنعون، حتى تقاتلوا فضرب سعد رجلا منه بلحي بعير فشج رأسه، فاضطروا بعد ذلك للاختفاء في تلك الدار؛ ليصلوا فيها بأمان، ولتكون مقرا لاجتماعهم، ومحفلا لمشورتهم وحديثهم وتدبيرهم، ومكمنا موقوتا إلى أن يشتد ساعدهم ويكثر عديدهم ويجمعوا كلمتهم ويلموا شعثهم فيظهر الأمر وتعلن الدعوة.
وكان أول من دخل الدار أبو بكر، وكان صديقا لرسول الله قبل الدعوة يكثر غشيان مجلسه في بيته ومتجره ويحادثه، وكان الصديق صاحبا لأصحاب الرسول وأقاربه وأصهاره، ومنهم الحكيم بن حزام ابن أخي خديجة، فجاءت فتاة من بيت خديجة وقالت لحكيم: إن عمتك خديجة تقول: إن زوجها نبي مرسل مثل موسى وكان أبو بكر سمع همسا بهذا المعنى من ورقة بن نوفل، فلم يصبر على جواب حكيم وانسل حتى أتى رسول الله فسأله عن خبره فقص عليه قصته المتضمنة مجيء الوحي بالرسالة فقال: صدقت بأبي أنت وأمي، وأهل الصدق أنت
والذي جاء بالصدق وصدق به
وسمعت خديجة هذا الحديث وهي مؤمنة بالله ورسالته إلى زوجها، وهي جد عليمة بأبي بكر ومكانته وثرائه وخلقه وفصاحته وذراية لسانه وعلمه وأدبه، فخرجت وعليها خمار أحمر وقالت لأبي بكر: الحمد لله الذي هداك يا ابن أبي قحافة. واسمه بالكامل في الجاهلية عبد الكعبة عتيق أبو بكر بن أبي قحافة، وقد فرحت خديجة به فرحا عظيما، ولا عجب إذا فرحت خديجة بإسلام أبي بكر؛ فقد كان لها الفضل الأكبر والفخر الخالد على وجه الدهر بموقفها من زوجها عندما جاءته الرسالة ووجهت إليه الدعوة وأتته البعثة بعد خمس عشرة سنة من زواجه بخديجة.
فقد أصبح محمد
صلى الله عليه وسلم
بعد زواجه منها هادئ السرب ناعم البال، وأصبح له منزل وأهل يسكن إليهم، فانصرف إلى ما كانت تصبو نفسه من الخلوة وإطالة الفكر دون أن يعلم ما هو قادم عليه؛ لأن الله وإن كان يعده لرسالته، إلا أنه لم يجعل له نصيبا من التدبير أو التفكير فيها، ولكنها رسالة تحتاج إلى الفصاحة والإبانة والجلد والصبر وحضور البديهة والحذر والحلم وسعة الصدر ومكارم الأخلاق وعدم المبالاة بالناس، دون الجفوة أو خشونة الطبع، أو فظاظة وغلظة، وعدم الاكتراث بشيء ما عدا الله - سبحانه وتعالى، فهذه بعض المناقب التي تحتاج إليها النبوة، ولا سبيل لنبي مفلح بدونها، ولا بد أن الله يعده ويسلحه بها؛ ليقوى على مواجهة الأحداث والمعارك المقبلة، معارك القلب والعقل والأجسام، تلك المعارك التي تبذل فيها المهج، وتهان الكرامات، وتراق الدماء، وتنهك الحرمات، وهذه أشياء سوف تتكشف عنها الأيام، ولكن لا علم لمحمد بشيء منها، فهو يخلو بنفسه مسيرا، ويعتزل الناس والأهل مسيرا، ويصعد إلى الغار مسيرا، ولا يحسب حسابا لنفسه، ولا يترسم خطة موضوعة، ولا يقتفي سبيلا متبعا، ولا يتخذ وسيلة، ولكن نفسه كانت تصبو إلى الخلوة وإطالة الفكر، فكانت خديجة تعينه على ذلك دون أن ترى في مسلكه بأسا، ودون أن تسأله سببا أو تحاسبه أو تشاركه أو تنازعه، فهذه خمس عشرة سنة قضتها في السعادة في ظله وكنفه ورعايته، وسوف يمد الله في أجلها عشرا ولم تر منه إلا الخير والوفاء والصدق والقناعة والشرف والاستقامة والكرامة في قومه، فماذا هناك لو أنها أسعدته بترك حبله على غاربه في خلوته وتحنثه وتأمله، وهو ذلك النبيل في العشيرة، والكبير في أم القرى، والأمين في الشهرة على ألسنة قومه، والمقدم في المسجد والمرشح لدار الندوة إذا بلغ الأربعين، وهي السن المحددة لانتخاب أعضائها، وقد سبقه إليها أبو جهل في الثلاثين؛ استثناء من القاعدة؛ لفرط ذكائه، ولكن محمدا الذي كان أذكى منه وأقوى بنية لم يتقدم ولم يزاحم، وقد زحم أبا جهل يوما على جفان عبد الله بن جدعان فصرعه فسقط أبو جهل على ركبته فصكها وجرحت، وما زال بها أثر طوال حياته من يوم وقعته تحت القصاع إلى يوم مصرعه في ميدان بدر.
كانت خديجة تعلم هذا كله وهي بعد لا تغار عليه، لا لوهن في حبها أو ضعف في شغفها، ولكن لأمنها وثقتها به؛ فما محمد زير نساء، ولا أليف سمر، ولا خليف مجال، ولا حليف سهر، قد يحب الموسيقى ويطرب للصوت الجميل ويرى الحسن فيعجب به في النبات والحيوان والجماد، وقد يسره النظر إلى القمر والكواكب والأزهار والماء، ولكنه لا يتعدى النظر والتأمل والاستغراق في معاني الجمال.
لقد كانت مكة أسوأ مكان يعاش فيه في أواخر القرن السادس المسيحي، ومثلها - مع الفوارق - في الحضارة والغنى والسعة باريس وفينا في عام 1890، فهذه المدينة الوثنية قد جمعت كل الشرور ووفد عليها العصاة من كل فج بمالهم وسوابقهم ومخزياتهم؛ ليتاجروا ويحجوا ويطوفوا بالكعبة؛ ليتوبوا ويتطهروا وينفقوا المال عن سعة، ولا بد لهم قبل أن يتوبوا من أن يدعوا سوالف عهودهم في الفساد والشهوات كما يواري الشبان سوءة عزوبتهم قبل الزفاف، وإنهم لملاقون من وسطاء السوء ورفقاء الهوى في دور مكة ومغانيها من يهيئون لهم ذلك لقاء المال.
ولكن خديجة تعرف أصدقاء محمد وعشراء محمد وأقاربه وأصهاره، فليس بينهم خليع ولا رقيع ولا عربيد ولا غاو ولا شاعر مفتون ولا مدمن خمر ولا صريع ميسر فلتتركه وشأنه يذهب أنى شاء في أي وقت شاء، وربما قلقت عليه أو اعتراها خوف على حياته إذا أحست أنه يخرج في ظلام الليل، ولكنها كانت تحس بشعورها الباطن أنه في أمان وحراسة وحرز مكين، دع عنك ما تعلمه من شجاعته وثبات قلبه، ثم إنه لا عدو له ولا ثأر عنده لأحد، فلا يخشى الخنجر اللامع في سواد الليل، ولا يخاف الخصم المتربص ولا وثبة المغتال المأجور، ولا انتقام امرأة مهجورة، ولا عشيقة فاجرة.
ولكن يؤتى الحذر من مأمنه.
لم يكن خطر من هذه الأخطار يتهددها.
وإن أمرا آخر غير كل ما يخطر بالبال قد وقع له ولها.
فقد جاء الوحي محمدا على غرة وعلى غير استعداد؛ لأن الله لا ينتظر ولا ينبه عبده المختار، إنما يأخذه على غير تيقظ، كما فعل بموسى في طور سينا فأسمعه صوته فجأة، لذلك أصاب محمدا ما أصابه من الذهول والحيرة، ورجع إلى منزله رعبا حائرا وقال لها: لقد خشيت أن يكون بي جنن .
هذه ناحية لم تكن خديجة تتوقع منها شرا، وهذا خوف شديد من نوع جديد، ولعله أشد المخاوف خطرا.
ولكنها امرأة قوية العقل والخلق ثابتة القلب، لديها علاج لكل داء وجواب على كل سؤال وحل لكل معضلة.
فلم تضعف ولم تضطرب ولم يصفر لونها أو تصطك أسنانها وهي ترى الرعب في وجه زوجها الحبيب، فتقول له: «والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.»
وإن المسلمين مهما صنعوا لخديجة فمقصرون؛ فهي صديقة وصحابية كريمة، بل أم الصحابة والمؤمنين جميعا، وأين منها نساء أخريات بلغن المجد بأمومتهن لأنبياء أو معونتهن للرسل؟ بل إن الإنسانية بأسرها مدينة لها بما قدمت من تيسير أمور هذا الدين في طفولته وما والته به من العناية والخدمة والمعاناة في سبيله، فكانت أول مؤمنة به، وكانت أول من حصر في شعب أبي طالب، وأول من بذل ماله في الدعوة، وأول من ضحى براحته وسعادته لإعلاء كلمة الله.
فكيف لا تفرح بابن أبي قحافة عندما جاء مؤمنا في بيتها وهو أحد الصدور العظام في مكة، على سعة من المال والمكارم وعلم الأنساب وأدب السلوك والعشرة وحلاوة المنطق وجمال الوجه وكمال العقل ونفوذ الكلمة ورجاحة الرأي وكان الخليفة لعبد الله بن جدعان في إنفاق المال؛ فكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد؟!
ولم يكن أبو بكر في ذلك اليوم بالغر أو طيش الشباب استهواه محمد
صلى الله عليه وسلم
فقد كان يقل عن الرسول بسنتين اثنتين، وقد آمن به بسماع ما قالته الفتاة مولاة خديجة لحكيم؛ لفرط ثقته بالرسول؛ لسابق صحبته، فرأى أن الأمر ليس كثيرا عليه، وأنه لا يكون أبدا إلا صادقا، فآمن بالغيب بغير دعوة على رواية مؤرخي العرب، ولو لم يكن الأمر كذلك فلعله لم يحتج لكثير كلام؛ فقد أخذ دعوة الرسول قضية مسلما بها سلفا كأنه كان ينتظرها؛ لبعد نظره وفرط ذكائه وحبه الرسول وتحققه بطولته وصلاحيته للقيام بهذا الأمر الجليل، ولا يقال إنه آمن حبا بمحمد وحده، أو إعجابا بجلاله، فالرجل في مكانة أبي بكر وشرفه وماله ونسبه وشهرته وإقبال الدنيا عليه لا يفرط في دين آبائه كرامة لصديق، أو رضاء الحبيب.
ولا يقال إنها عبادة الأبطال وتمجيد العظماء خلة من خلال أبي بكر وخليقة من خلائقه، فلم يكن لمحمد عظمة معروفة ولا كلمة مسموعة بين الخاص والعام حتى ينقاد إليه طوعا رجال كأبي بكر.
ولم يكن إيمان أبي بكر طمعا في مال أو جاه؛ فقد كان ذا مال كثير وتجارة واسعة وكان رب أسرة كبيرة، فأبو قحافة والده «بصير» في حاجة إلى من يتولى أموره ولا يجد خيرا من ولده، وقد حذق أبو بكر فنون الأعمال والكسب وله زوج وولد، وله من مجلس الفضلاء - وإن قلوا في مكة - ما يكفيه، ومسرات الحديث والسمر في قصور مكة ما يلهيه؛ فقد كان متبوعا من كرائم السيدات المخدرات، يملن إلى سماع حديثه والتفكه بنوادره وذكر محاسن السالفين والمعاصرين في أخباره.
وقد مضت على صداقة محمد وأبي بكر سنة بطولها قبل أن يبعث رسولا.
وقد قام أبو بكر للإسلام ورسوله بما لم يقم به أحد غير خديجة وعمر، ولم يكن الإسلام في حاجة إلى أبي بكر بذاته؛ فهو مؤمن مأمون العاقبة، بقدر ما كان محتاجا إليه؛ ليدعو الآخرين إليه؛ فقد كان البشير بعد الرسول في الدرجة، ولعمري إنه لأحب وأخف على النفس أن يدعو الناس مؤمن إلى الإيمان، ولا سيما في مكانة أبي بكر، من أن يدعوهم صاحب الرسالة نفسه، فإن للشخصية النبوية كرامة وللرسول حياء يعوقه أحيانا عن الاندفاع في القول، ما لم يكن مرغما أو محرجا أو آمنا جانب المستمع، فيملك أبو بكر أن يزكي الرسول في غيبته ولا يمكن الرسول أن يثني على نفسه أو يتصف بالصدق على لسان نفسه أو يدافع عن نفسه، وقد لا يحب أن يدعو إلى دينه بسيف الحياء فيمنع أحدا من أن يبدي نقدا أو اعتراضا ولكن الناقد والمعترض يملك أن يفضي بما يشاء لأبي بكر نفسه، أما جلوس محمد للعامة والخاصة وقبول كل ما يقال وإجابة كل سؤال فلما يأت أوانها، وعندما يئون أوانها سوف يكون الرسول قد أمر بالدعوة والإنذار والتبشير والجهاد فلا يبالي، وقد صار رجل الوقت وبطل العصر، ومن دواعي هذه الحال أن لا يعرض سواه لخطر الاصطدام بالغير بل يبرز هو لنفسه لحومة الوغى في الحرب والسلم.
ولم يكن يعلم أكثر مما يعلم محمد من شأن الدعوة؛ فقد كانت مفاجئة يسير فيها الرسول بأمر الله من ساعة إلى ساعة ومن يوم إلى يوم، لا يسأل في عشيته عن رزق غداته من تعليم ربه أو آيات وحيه، وربما كان أبو بكر هارون هذه الأمة، وإن لم يكن أفصح من رسول الله ولكنه كان يشد أزره ويعينه على أمور الدنيا، ويبذل له مهجته وماله ولا يسأله شيئا ولا يتعدى حدود التابع نحو المتبوع ولا يشاركه في أمر غير المشورة الحسنة في ظاهر الأمر دون أن يعلم من باطنه شيئا.
ولكن محبة أبي بكر وثقته وتصديقه وإخلاصه لم تكن لتستمر لو لم يثق بقلبه وعقله بصدق الرسالة، ولو أنه رأى عين إبرة من حيلة أو رياء أو صناعة أو مأرب ذاتي لنأى وتنحى، فلم يكن أبو بكر ممن تنطلي عليهم الحيل أو يتآمر على باطل أو يبذل ما بذل ليجر مغنما لذاته وهو في غنى، ولم تكن صداقة محمد عاما وبعض عام لتغنيه عن أربعين عاما قضاها في دين آبائه وعشرة أهله وأصدقائه متقلبا في مناعم الترف والمال الكثير، والأمر بعد مبهم خاف، وإن كانت خديجة وعلي وزيد بن حارثة مسيرين في إسلامهم؛ لارتباطهم بمصلحة المعاشرة والخضوع لرب الأسرة والثقة التي يبعثها طول العشرة وحسن الظن والميل لموافقة السيد الآمر في منزله، والأولى زوجة مخلصة، والثاني ربيب في العاشرة من عمره، والثالث مولى مملوك، لو افترضنا هذا الافتراض الخيالي في حقهم لمصلحة الجدل، ولعلهم اطلعوا من أحوال النبي على أمور خاصة أقنعتهم ولم يطلع عليها أحد غيرهم، فأي مصلحة لأبي بكر أن يجاري محمدا على باطل أو حيلة أو مزامرة على دين الآباء وسؤدد الأبناء وسعادة القرية الراهنة واطمئنانها في اجتماعها واقتصادها وسياستها وليس له سابقة في ثورة إصلاح ولا في دمه عنصر كفاح، ولعله لم يحضر حربا ولا قتالا ولم يحمل سلاحا؛ فقد كان إلى حمل المال ومفاتيح المخازن وصكوك التجارة أقرب؟
وإذن تكون كل مظنة سوء في إسلام أبي بكر باطلة وإن لم يقل بها قط أحد، ولكن قلناها لنقفل كل باب ولنسد كل ثغرة ولنقضي على كل فتنة عقلية أو تاريخية تطل بقرنها من كتاب مستشرق أو مقال مستهتر أو حديث مبشر، فإن هؤلاء لا يخجلون ولا يتورعون أن يخترعوا ويبتدعوا التهم والظنون والشكوك.
ولا يقتصر حديث أبي بكر مع خديجة يوم إسلامه على مجرد الإخبار به، فإن لقيته خديجة بخمار أحمر فقد دعته إلى قاعة الجلوس التي سبق له أن جلس فيها إلى الرسول وزوجه وغيرها من الأقارب والجيران، ولا بد أنه رأى حبيبه وصديقه وسمع منه حديث الوحي للمرة الأولى وسمع سورتي «المدثر» و«المزمل» كما سمع:
اقرأ باسم ربك ، فكان لذلك كله دهشة وروعة وإعجاب وفرحة، وقد أحس أبو بكر بخطورة الحوادث التي بدأت وصمم في نفسه على الوفاء لله ورسوله إلى النهاية القصوى، ولعله لم يحتسب لمستقبل الأيام حسابا، ولم ير في لوح المستقبل شيئا مما ينتظر أمثال نبيه الجديد، فلم يعلم عنه أنه قرأ أخبار موسى وعيسى، ولعله سمع بشيء من أخبار إبراهيم وإسماعيل ونوح وهود وصالح وهؤلاء أنبياء لم يفلحوا الفلاح كله ولم يجاهدوا أممهم إلا قليلا ولم يهرق في سبيل دعوتهم إلا دم ناقة، وكان البلاء الهابط من السماء من نصيب الأمم التي بعثوا إليها فقاومتهم، حتى سدوم وعمورة اللتين بعث إليهما لوط ابن أخي الخليل قد صعقتا وتهدمتا ولم ينج منهما إلا نبيهما وأهله.
ولم يجل بخاطر أبي بكر وهو جالس في دار خديجة في تلك الليلة الهانئة الهادئة أن وراء البعثة ما وراءها من التبعات، وأن جبالا من الهم والأذى والاضطهاد والفاقة والجهاد تنتظره وصاحبه وسائر المسلمين الذين يؤمنون بهذه الرسالة.
نقول: ولو أن الله أطلع أبا بكر على كل هذا وهو المترف الناعم الميسور ذو الرخاء والسخاء ورفع له طرفا من حجاب الغيب ؛ ليطل على المستقبل فيرى جهاد الرسول اثنتين وعشرين سنة متصلة لما خشيه وما تردد ولا ضعف عن السير في الطريق لنهايتها - رضي الله عنه وأرضاه - فقد كان بجانب لين عريكته وظرفه وحلاوة لسانه قوي الإرادة شديد العزم إذا صحت نيته على أمر فلا يتردد ولا يتقهقر، وإن شبهناه بهارون أخي موسى فإنه لم يهن للمسلمين كما وهن هارون لليهود، وقد ظهرت فضيلة الاستمساك وصدق العزيمة طوال حياته، وناهيك بموقفه من أهل الردة وعزمه على محاربتهم بمفرده وتأثيره القوي في عمر بن الخطاب حتى أقنعه، وكذلك موقفه يوم وفاة النبي وسقيفة بني ساعدة؛ فقد أنقذ المسلمين من الارتباك والشقاق، وقبض على زمام الأمر بيد من حديد.
ولا يمكن تقدير مثل هذه الأخلاق البكرية حق قدرها، ويعجز المؤرخ عن إيفاء أبي بكر حقه من الثناء، جزاه الله عن الحق والخير خير الجزاء، ويمكن القول أن الله أعده لمساندة الرسول ومعاضدته بعد خديجة - رضي الله عنها - وقد جاءت معونته في وقتها المحدد؛ فإن خديجة العظيمة عملت ما استطاعت في بيتها وفي مصاحبة الرسول إلى الغار وفي استشارة ورقة بن نوفل وعداس، وآمنت أول من آمن وقدمت ولديها من أبي هالة لخدمة الرسول، دع عنك مالها وصحتها وعقلها وقلبها، ولكنها لم تكن تستطيع أن تدعو إلى الإسلام جهارا؛ لأنها لا تغشى مجالس الرجال، فبذلت جهودها إلى النسوة الشريفات من ذوات قرباها وجاراتها وصواحبها اللواتي كن يزرنها ويتحدثن إليها في قاعة جلوسها واللواتي كانت تزورهن في بيوتهن.
فجاء أبو بكر مدركا حقيقة واجبه؛ فليس الإسلام وقفا على الرسول وأهل بيته وعلى أبي بكر، لقد اعتقد أنه حقيقة كبرى جاءت للعالم وللإنسانية، تبدأ في مكة وقريش وتمتد إلى الأمم، فلا بد من الدعوة إليه، نعم؛ أمر النبي بدعوة عشيرته الأقربين فأولم لهم وخطبهم وأنذرهم، ولكن أبا لهب قاوم هذه الدعوة بما قدر عليه من الشر والخبث والضغينة والحسد، فوجب أن يتولى الدعوة لأقيال قريش وسادتها رجل غريب عن النبي ليس من دمه وذوي قرابته يضيف إلى دعوة الله ورسوله دعوة رجل كان إلى الأمس القريب بعيدا عن هذه العقيدة؛ يقويها انضمامه إليها وشدة إيمانه بها وتصديق الداعي إليها، وفي مناصرة أبي بكر إيناس للنبي وتشجيع ودفع إلى الأمام، وقد رأى الرسول وأبو بكر أن الجهر في أول الأمر قد لا يجدي بقدر ما يجدي الكتمان، لا يجدي الجهر في الفترة الأولى ما دام هناك أعداء متربصون وكثرة غالبة من الخصوم، كذلك لا تجدي العجلة وقد جاء في القرآن آيات كثيرة تصف الإنسان بحب العجلة وتذمها، وأخرى بينات توصي بالصبر وتمتدحه، وعلام العجلة وقد آذن الله بالبعثة بعد أربعين سنة من حياة النبي؟! وعلام العجلة وقد فتر الوحي ثلاث سنين كاملة؟! ولو أراد الله لبعث نبيه في العشرين أو الثلاثين من عمره كما بعث عيسى ويوسف ويحيى بن زكريا، وما دامت الدعوة لدين الله فما كان يدخره لها سنة 610 للمسيح عند بلوغ النبي أربعين عاما كان يقدمه قبل ذلك لو شاء، وهذه المسألة قد أدركها الرسول ولم يقصر أبو بكر على فهمها؛ فالعبرة في الثمرة والغايات على قدر النتائج، ولذا فرح النبي وأبو بكر، وكان من طبيعة الأشياء أن الطبقة الميسورة تفكر في الإسلام تفكيرا جديا بعد انضمام أبي بكر من الساعة الأولى، وقد تلاه عثمان بن عفان وهو لا يقل عنه مكانة، ولا ثراء؛ فوق أنه كان من فتيان قريش المعدودين جمالا وغنى، كذلك نساء قريش وقد اتخذت من قبل خديجة قدوة في محاسن الأخلاق وحزم التدبير وحسن التصرف، وإن تكن النبوة قد صدرت عن دارها، إلا أن هذا لا يضيرها ولا يدل على أنها آمنت كرها أو مجاملة، وقد كان في إيمان بلال الحبشي وسيلة لدعوة الضعفاء والغرباء والأرقاء حتى ولو كانوا من أهل دين منزل وسببا لإقبال هذه الطبقات النازلة من أهل مكة، كما كان الحال في أورشليم ورومة ومصر قبل ذلك بألوف السنين، وأي الناس أحوج إلى دين يؤدي إلى المساواة وتفريج الكروب والإحسان وشعور الإخاء وإزالة الفوارق وتحرير الإنسان والقضاء على مظالم السيادة والتحكم وكسر قيود الذل والفقر من هذه الطبقة التي هي الكثرة في كل زمان ومكان وا أسفاه! فوصفها سادة قريش المتنطعون المنفوخون بالكبرياء والطغيان أنها طبقة السفهاء؟!
قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (سورة البقرة آية 13).
والسفه في الواقع ليس مسبة وإن يكن اللفظ تطور بالاصطلاح، وأصل معناه ضد الحلم والخفة والحركة، وعلى هذا يطلق في الفقه على من يستحق الحجر عليه؛ لتبديد ماله، وسوء تصرفه، فوجب الحجر عليه بمن يكف يده ويقوم على تدبيره، فتطور وصار مدلوله في العصر الحديث من ينطق بالقول الجافي ويبالغ في ذلك، والعامة في مصر كانت تطلقه على من يقيم الدعوى العامة فتقول: «سفيه النيابة» وهو ينطوي على بغض المتهم ومشايعيه لمن يتسبب في الحكم عليه، ويظهر أن هذا كان بعض مدلوله في الجاهلية؛ لأن أصل اللفظ لا ينصب على السفلة أو الفقراء
Racaille
كما في فرنسا، بل ينصب على غني يسيء التدبير أو طائش خفيف فقالوا: سفيه لا يجد مسافها، أي من يرد عليه بطيشه وخفته، وعلى كل حال فإن القرآن قد جارى المشركين في هذا المعنى بدليل أنه رد اللفظ عليهم وأضاف أنهم سفهاء ولا يعلمون سفههم؛ وهو أحق من يسفه ويعلم.
ولا عجب؛ فإن الطبقة الكثيرة تشايع دائما الحركات الجديدة لرفع ظلم أو لجلب منفعة، وهذا مشاهد في شئون السياسة، وهذا لا يمنع أن تكون الحركة الجديدة على خير وحق، والطبقة القليلة - وفيها الحفاظ على القديم - تنفر من الجديد؛ خشية على مصالحها، وتكبرا وأنفة حتى ولو اعتقدوا الحق في الجديد، ولكنهم لا يودون مخالطة المشايعين وهم أقل منهم في نظرهم، ويقينا لم يكن أبو بكر وعثمان بن عفان من السفهاء، ولكن الأرقاء والغرباء اللاجئين والمكروبين والمستضعفين كانوا في نظر أئمة الشرك والطغيان من السفهاء، وكثيرا ما يكون هؤلاء المستضعفون أنفع وأخلص وأثبت من غيرهم، فما كان للرسول أن يصدهم أو يتهاون في أمرهم؛ جلبا لرضا السادة المتنطعين، فجاء في القرآن:
عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ... .
وهذا أشد عتاب للرسول ورد في القرآن.
وهذه السورة من أوليات الوحي عندما كان النبي ما يزال متصلا بكبار مكة، وقد جلس يجادلهم وهو يظن أنهم يقتنعون، فإذا اقتنعوا وآمنوا تبعهم أهل طبقتهم فيكفيه الله الجدال والنضال، وبينا هم كذلك إذ دخل عبد الله بن شريح بن أم مكتوم الضرير وطلب التعريف بالوحي فظن النبي أن الرد عليه يقطع مفاوضة العظماء أو يصرفهم فأعرض عنه، وفي هذه السورة دليل قاطع على أن القرآن من الله؛ لأنه لو كان من عند البشر، لما حسن أن يؤنب الإنسان نفسه على فعل أتاه! ولا مكان لافتراض الندم والتوبة عند الرسول؛ لأنه في الواقع لم يسئ إلى ابن أم مكتوم؛ لأنه ضرير لا يرى العبوس ولا الإعراض، ولكنه لم يسمع جوابا على سؤاله، والنبي ما يزال يتحدث إلى كبار قريش، فلو انتظر الرجل ولم يقاطع لأجابه بإسهاب كعادته، وإذن لم تسبق إساءة حتى يعقبها ندم وتوبة، ولو افترضنا الندم والتوبة وكان مصدر القرآن بشريا لا يعقل أن يخلد التأنيب على مثل هذا الأمر على وجه الدهر ما دام القرآن قائما يحفظه ويتوله ويكرره ويعيده ملايين البشر في الترتيل والصلاة والعبادة، وإن هذه السورة بقيت ولم تمسسها يد، وهذا دليل على تكذيب من زعموا أن القرآن طرأ عليه تعديل وتبديل، وكانت هذه السورة مما ينطبق عليه ضرورة النسخ أو المحو لو كان الأمر موكولا لإرادة البشر المغرضين! بل تراها بجانب سواها مما فيها مدح للنبي أو عتاب خفيف؛ كقوله سبحانه:
عفا الله عنك لم أذنت لهم .
انظر أيها القارئ إلى عظمة الله التي لاحقت الرسول بالعتاب والمحاسبة الشديدة، وإلى عظمة الرسول الذي لم يغضب؛ بل أصدر الآيات العشر ونشرها في وقتها وفيها ما فيها، وهذا يدل على عدله وخشية الله، ولم يكن إعراض النبي عن ابن أم مكتوم لفقره ولا عاهته؛ أما الفقر فكان الرسول محبا للفقراء من صغره، وقد شهدت له خديجة يوم الوحي بحديثها: «والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.» وتوجيه الحديث بالفعل المضارع بصيغة الحاضر دليل على أن هذه هي أخلاقه، أما العاهة فليس محمد ممن يحقرون أحدا أو يستصغرون شأنه لعلة ظاهرة أو خفية؛ فقد كان قلبه كبيرا ورحمته على قدر قلبه:
حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .
ولكنه أعرض احتجاجا على المقاطعة؛ وهي خرق لحرمة المجالس ومخالفة لآداب السلوك، والله يعلم ذلك من عبده ورسوله ولا شك، ولكنه أراد أن يظهر فرط حرصه على الفقراء والضعفاء واستغنائه عن الأغنياء والكبراء، خصوصا أن الكبراء لو لم يؤمنوا فليس على الرسول لوم ولا يؤاخذ بسبب عصيانهم، ولكنه يثاب على أنه سبب هداية هذا الضعيف ابن أم مكتوم الذي سأله، أضف إليه أن محمدا سعى إلى الكبراء في مجلسهم وهو في قوته وصحته وعنفوان دعوته، أما الضرير فقد سعى إليه على عجزه وحاجته إلى من يسحبه ويدله.
هذا لنثبت أن هؤلاء الذين دخلوا في حظيرة الإسلام لم يكونوا سفهاء ولا سوقة ولا حفاة ولا جناة يهربون من الفقر أو العقاب أو النفي، ولكنهم كانوا في حال من الحياة تجعل قلوبهم أكثر انفتاحا للحق ونفوسهم أكثر إقبالا على منابع الرحمة، وأنهم على أبعد الافتراض كانوا يلتمسون ويتلمسون تغييرا وتبديلا لهذا الجو الخانق في مكة الذي لا يلائم النفوس الطيبة، ومثلهم في ذلك مثل أي كثرة في أي مجتمع قديم أو حديث قد أدركهم الملل من أمور قد رأى الله نفسه أن يظهر غضبه عليها وعلى ذويها، فأي سفه في ذلك:
ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون
صدق الله العظيم.
ولكن هذه العادة من تسفيه أتباع الأنبياء كانت دأب المعارضين والمحافظين والمنكرين لسهولة توجيهها إلى الخصوم وصعوبة الرد عليها إلا إذا تعرضنا للحياة الشخصية لكل فرد من طرفي الخصومة.
فها هم قوم نوح يقولون له:
فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين .
فلم يكن توجيه هذه التهمة مقصورا على كفار مكة وقريش بل على كفار كل ملة وفي كل زمن، وأتباع عيسى ابن مريم كانوا كذلك مرذولين في نظر اليهود والرومان، واليوم ترى الأغنياء والمتسلطين يذمون الاشتراكيين والوطنيين وهكذا، فليس في هذا غرابة؛ فإنها خصومة سياسية أو دينية أو اقتصادية تتهدد من يملكون ويتصرفون بفقد النفوذ وضعفه وانتقال محور السلطان إلى أيد غير أيديهم.
وإذن كان الالتجاء إلى دار الأرقم ضرورة من ضرورات الدعوة، والتكتم ضرورة أخرى، وانتقاء المؤمنين ضرورة ثالثة.
وفي وقت كان فيه ورود دار الأرقم مجازفة ومخاطرة محاطتين بالخوف وسوء العاقبة لم يكن أحد من أغنياء قريش يحسب أنه سوف يعض بنان الندم على أنه لم يكن الأول أو الثاني أو الثالث أو على الأقل من العشرة الأول؛ فقد حفت المسابقة لورود هذه الدار بالمكارم والمغانم والتشريف والتمجيد، وإن دلت على شيء فعلى صدق القلب وسلامة الفطرة وحسن الظن بالله ورسوله وصديقه، أو على الأقل على بعض النظر ونفاذ البصيرة وصدق الفراسة.
ولننظر الآن نظرة تبجيل واحترام وحب لمن دخلوا دار الأرقم أولا؛ ولنفحص قليلا الدوافع التي دفعتهم إلى دخولها بدعوة أبي بكر أو بسبب آخر.
فإن خالد بن سعيد رابع المؤمنين أو خامسهم وقد رأى فيما يرى النائم أن أباه يدفعه إلى بؤرة نار ملتهبة وأن رجلا لا يعرفه دافع عنه واجتذبه بعيدا عنها، فقصد إلى أبي بكر يسأله تفسير الرؤيا.
وكان الصديق معروفا بحفظ الأنساب وتفسير الرؤى في الجاهلية، وكان النبي في أجياد قرب الصفا، فأخذه أبو بكر إليه، فلما وقع بصر خالد عليه ولم يكن يعرفه تأكد أنه الذي أنقذه في الرؤيا من قبضة أبيه ومن الوقوع في النار فآمن وأسلم، وقد أثبت العلم الحديث أن الرؤى الصادقة لا شك فيها، تقع للإنسان في كل أطوار حياته، ومن العلماء الذين أكدوا ذلك وأثبتوه وسجلوا أحلاما كثيرة صدقت بتفسيرها كاميل فلاماريون ومايرز وفرويد وموريس فترلنك وعشرات من العلماء الأعلام في أوروبا وأمريكا، ولا نريد أن نستشهد بصدق الرؤيا في القرآن؛ فقد كان لها نبي اختص بها؛ وهو يوسف الصديق، وفي قصته أحلام كثيرة جاءت كفلق الصبح؛ لأننا في معرض إثبات صحة القرآن والدعوة إليه والاستشهاد بما وقع بعده، وثبتت صحته على أيدي الأغيار ومن ليسوا أهل الدعوة ولا يمتون للإسلام بصلة أمثال من ذكرنا، أوقع في الأذهان وأنصع.
وتلا خالدا عبد الله بن مسعود، وكان راعيا لقطيع من غنم عقبة بن أبي معيط (من أعدى أعداء النبي)، رأى في الصحو أمرا خارقا للعادة وهو يحلب شاة ليسقي الرسول وصاحبه أبا بكر، فآمن وصار خادم الرسول ومن أكبر الصحابة والفقهاء، وولي المال والإدارة في العراق، وقد أسهبنا في ترجمته في مكان آخر من هذا الكتاب، ثم عثمان بن مظعون وكان متزهدا (مسند أحمد، ج1، ص462)، وكان لفيف من أوائل المؤمنين غير من ذكرنا ممن تذمروا من حياة الشرك ففزعوا إلى الرسول عندما دعاهم أبو بكر إليه، ولا نشك في أن أبا بكر كان في تلك الفترة مرهف الحس والسمع يتلقف أخبار الناقمين على الشرك والفساد؛ فإنهم أسهل انقيادا إلى الخير وأقرب إلى الهداية وأسرع إلى تلبية دعوة الداعي إلى التوحيد والاستقامة من سواهم.
وقد ساعد أبا بكر في هذا الميدان معرفته بأهل بلده وإلمامه بأخبارهم، ومن هؤلاء المسارعين سعيد بن زيد بن عامر، وكان أبوه زيد بن عامر من المتحنفين ففر من الشرك قبل البعثة ولم يتنصر أو يتهود، بل قنع بالاستقامة والكفر بالأصنام ومجانبة قومه بمفاسدهم، ويلوح لنا أن سعيدا أقبل على الرسول من تلقاء نفسه لم ينتظر دعوة أبي بكر، ومن قبيل سعيد رجل آخر سيكون له شأن عظيم في الإسلام؛ وهو عبد الكعبة بن عوف الذي سماه النبي عبد الرحمن الصحابي الجليل؛ لأن الرسول رأى الانتساب إلى أسماء الله خيرا من الانتساب إلى الكعبة وهي بعد مليئة بالأوثان ولم تصر قبلة المسلمين، وكان ابن عوف تاجرا غنيا من قبيل أبي بكر وعثمان، مشهورا بالأمانة والمهارة الفائقة في كسب المال بالطرق المشروعة، كما اشتهر بالسخاء والبذل، وأفاد منه كل من عرفه ولا سيما شريكه رباح، فلما فقد ماله في الهجرة وألفى نفسه في المدينة معدما لم يطلب معونة ولم يمد يده لأحد، فطلب أن يهدى إلى سوق المدينة وليس بيده رأس مال غير رأسه وتدبيره وتوفيق الله، فلم يلبث أن أثرى وتضخم ماله حتى صار أغنى أغنياء المهاجرين، وكان في الجاهلية عزوفا عن الخمر والمقامرة، ولما أسلم رأى أن لا يكون للسيف دخل في الدعوة، ولكن عندما حزب الأمر ونفخ في نفير الحرب ظهر للملأ ما كمن من شجاعته وإقدامه واستبساله، فلم يكن حبه السلم خوفا من الوغى، وإنما بغضا لإهراق الدماء.
هذه عينات من «السفهاء» الذين أبت «كرامة» المشركين من قريش أن ينضموا إليهم تحت لواء واحد، واشترطوا على الرسول أن يقصيهم قبل أن يقبلوا على مفاوضته، أي أن يبعد الرسول من حظيرة الإسلام، هؤلاء الذين دخلوا راغبين ليفسحوا المجال للعازمين على المفاوضة؛ ليروا لهم رأيا فيما «يزعم» محمد من أنه رسول الله وأن دينه حق ... وما يدرينا أنها حيلة بعيدة الغور دبرها دواهي قريش؛ ليبعد محمد خاصة المبادرين إليه، فإذا رأى طغمة قريش منه ذلك ولوه ظهورهم وأقفيتهم واتهموه بالاستغناء بهم عن أوائل المؤمنين؛ لمآرب في نفسه، ولم يكن في طبع محمد شيء من هذا، ولم يكن من حسن السياسة في شيء، بل يمكن في رغبة الله بدليل سورة العتاب؛ فنجاه الله من حيلة خبيثة ودسيسة سوداء دفينة.
ومن هؤلاء الأوائل مقداد بن الأسود زوج بنت الزبير عم الرسول وعتبة بن غزوان والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، وكلهم كبار في الجاهلية وكرام في الإسلام، وكان طلحة من أبذل العرب وأجودهم كفا، ولم يسلم عن طريق أبي بكر ولكن دله على الإسلام راهب لقيه في أسفاره في الشام.
لقد عددنا خالد بن سعيد رابع المسلمين في دور دخوله وترتيب إيمانه، والثالث سعد بن أبي وقاص، ولعله أول من اهتدى على يد أبي بكر، وكان صانع سهام؛ وهو أول من أهرق دما في سبيل دينه، وقد روينا حديث دفاعه عن نفسه في أحد شعاب مكة عندما هاجمه المشركون وسخروا منه فشج أحدهم بلحي بعير، وكان تسرعه سببا في التجاء المسلمين إلى دار الأرقم؛ فقد خشي الرسول أن يتعقبوهم ويفنوهم لقلتهم، فتبرع الأرقم بداره وأخفى «الثائرين» عن أعين خصومهم، وهذا يدلنا على أن مكة لم يكن بها شرطة ولا خفية ولا بوليس سري، وكل مجني عليه يتولى أخذ حقه بيده عن طريق الثأر.
لقد ظن بعض المتعنتين وأهل الظن السيئ أن التجاء المسلمين إلى دار الأرقم واتخاذها مخبأ جعل الإسلام «جمعية سرية» كالجمعيات التي يكتنفها الغموض واتخاذ الرموز واغتصاب الوعود والمواثيق والأقسام والتهديد بالقتل في حالة الخيانة والخروج على الولاء، وما يصحب ذلك كله من الدرجات والألقاب والرياسات والتحكم في الإرادات، إلى آخر ما هنالك مما هو معروف وما هو مجهول، كتلقين بعض الإشارات والعلوم الباطنية ... إلخ، وقد أكد هذا الظن في أذهان أربابه أن النبي اشترط صدق الإخاء بين المؤمنين؛ بل آخى فعلا بين كل اثنين منهم، وما زالت هذه خطته التي سار عليها في المدينة، فآخى بين المهاجرين والأنصار، ولكن الأسرار المزعومة وقفت عند هذا الحد وعند تلقين أركان الإسلام؛ وهي: الشهادة، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وكلها من أسهل الأمور، ولا سيما الحج الذي كانوا هم أصحابه وولاته ولا تبعد عنهم أهم مناسكه؛ وهو الوقوف بعرفة أكثر من مسيرة نصف يوم للمجد.
وكان الإخاء ضروريا؛ ليحل محل أواصر القرابة التي تفكك بعضها بين المؤمنين وأقاربهم الذين ما زالوا على الشرك، فكيف تستقيم الحال بين أبي قحافة وأبي بكر، وبين خالد بن سعيد وأبيه سعيد الذي كان يلقي به في النار ويدفعه إليها دفعا؟ ولكن ما تقول في المتعنتين من الخصوم الذين تعمقوا في العداء حتى فسروا بأن فاتحة الكتاب، وهي لازمة كل صلاة، احتوت على الطعن على أهل الكتاب في قوله:
غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
بأن المغضوب عليهم هم بنو إسرائيل والضالين هم النصارى.
ومن الأسرار المزعومة صلاة الجماعة التي كان المؤمنون يصلونها في دار الأرقم، ولا ريب كانت لها روعتها وجلالها؛ لحداثتها ومخالفتها لسنن الجاهلية واتجاه المصلي فيها إلى الله وهو روح الكون ومظهره الأسمى وخالقه، وليس حجرا ولا صخرا ولا معدنا ولا نباتا.
ولا ريب في أن الكعبة لم تكن في تلك الفترة خارجة عن عقيدة الإسلام؛ فما زال الطواف بها جائزا للمسلمين ومرغوبا فيه ومفروضا في العمرة والحج ما داموا يتجنبون الأوثان، وكان القرآن يوحى في كل يوم وليلة؛ فهي فترة نشاط نبوي وعناية ربانية، ولذا تجد كثرة السور المكية التي لا تقل قوة ولا نفاذا عن السور المدنية، وفيها من أمهات الآيات ما فيها، وإن كانت نزعته إلى الوعيد والترهيب أقوى، وكان عبء الوحي على الرسول شديدا، فرحا بما آتاه الله، مدركا عظمة الرسالة التي اختاره الله لها، فما كان يسحب يده من يد مصافحه ولا يعرض عمن ينظر إليه، ولم يقصر في مظهره الذي شب عليه من نظافة الثياب وطهارتها وحسن الهندام والتزين المباح للرجال؛ كالكحل والطيب وترجيل الشعر وإرساله إلى الكتفين وخضابه عندما بدأ الشيب يدب فيه على عادة جده عبد المطلب الذي قيل إنه أول من اختضب، ولم يعطل تجارته بل ثابر عليها؛ في أوقات العمل يروح ويغدو بين داره ودار الأرقم والمسجد ومتجره، وهذه كلها متقاربة لا تقتضيه بضع دقائق، وما زال يقبل دعوة من يضيفه، ويزور من يتودد إليه، ويعود المرضى من عشيرته وأصدقائه وتابعيه، ويختلف إلى دار أبي طالب التي نشأ فيها وشب بين جدرانها، ويخرج إلى النزهة في الجبال القريبة من مكة كأجياد وأبي قبيس ، ويتفقد بناته في دور أزواجهن ويحمل إليهن الهدايا، فما تجرأ أحد من المشركين على مقاطعته أو قطع الطريق عليه أو التعرض له، ولعلهم لم يروا في الإسلام خطرا يصل بعد إلى حد الخصومة.
أما دار الأرقم فكانت مجعولة لإقامة الشعائر واستقبال المستجدين من المسلمين، ولم تكن معقلا ولا حصنا ولا مكانا مخالفا للقانون، وحتى لو كانت كذلك، وهو ما لم تكنه، فلم يكن في مكة قانون يحرم الاجتماع على هذه الصورة ولا قاض يقضي بالغلق أو المصادرة ولا قوة تنفيذية تنفذ الحكم إذا صدر، وكل ما قيل غير ذلك هراء وخلط وجهل بما كان.
ولم يكن من طبيعة الأشياء أن يتخذ النبي لنفسه حجابا يخاطب الناس من ورائه أو يتكبر على قاصديه، وقد أخطأ الجاحظ حين زعم (البيان والتبيين، ج2، ص79 و84) أن الرسول اتخذ نقابا، وربما رؤي النقاب كغطاء للوجه عند الوحي؛ لشدة ما يصيبه من الاحتقان وانتفاخ الأوداج وتصبب العرق، ولكن لا ليخفي معالمه؛ ليحدث الرهبة أو الرعب كما صنع المقنعون من زعماء الباطنية!
ولكن كان من الضرورة أن لا يغشى مجلس الرسول بدار الأرقم ولا يخلو إليه إلا كل من سبقت له ثقة عند أبي بكر وكبار المؤمنين، فلا يكون دسيسة ولا رسول فتنة ولا مغتالا مأجورا ولا مستهترا، هذا حق من حقوق شيخ قبيلة في بيت من الشعر في جوف الصحراء، فما بالك برسول الله ولم يكن من قبل بالضعيف ولا الصغير الذي تأخذ به الأعين في غير استحياء أو توقير، فكان إذا تقدم إليه المسلم ألقى عليه الرسول نظرة ثم بشره أو ذكره أو أخبره بما يلهمه الله، فيحدث أن يكون أمر يطمئن إليه قلب الرجل أو يخشى عواقبه أو يبطنه ويظهر سواه فيتعظ ويتئد ويأخذ حذره، ولكن هذا لم يكن تنبؤا بالغيب ولا تبكيتا ولا إبهاما ولا تنجيما ولا يقصد به إلى الإعجاز، إنما هي الكلمة الأولى التي ينطقه الله بها عند اللقاء الأول، وهذه خلة قد تعثر عليها عند بعض المنورين من الرجال ذوي القلوب الطاهرة، فما عليك إذا قال لك رئيسك الجديد: استقم يا أخي، أو ثابر على جدك، أو لا تفعل كالذي فعله فلان من ذوي قرباك، أو إن الله ليجعل منك بطلا تذود عن دينه، إلخ، هذه الكلمة الأولى للقاء مسجلة في كل مجتمع متحضر، ولم تكن مكة سوى بلد متحضر بل متهتك في الحضارة.
قلنا: كانت سنوات دار الأرقم الثلاث سنوات عناية ربانية ونشاط محمدي، وكان أبو بكر الشخصية البارزة في الدعوة إلى الإسلام، وكانت آيات القرآن وسوره تترى وتنهمر كالغيث، وكان الرسول خالي الذهن من تواريخ الأمم القديمة وقواعد الأديان الأخرى، حتى إن عين ورقة بن نوفل وعداس لم تقعا عليه قبل أن أخذته لهما خديجة، ولو كان ممن يغشون مجالس أهل الكتاب لعرفهم من قبل، ولكن كل ما ورد في القرآن من قصص وأخبار كان منطبقا على الحقيقة الواردة في الكتب القديمة وأحيانا يزيد عليها، فكان ذلك سببا لإقبال بعض اليهود والنصارى على دار الأرقم. كان جبر مولى بني عبد الدار يهوديا، وكان حدادا في مكة يجلس وصديقه يسار في المصنع يقرآن في فراغهما بعض أسفار التوراة، وكان الرسول يمر بهما فما هالهما إلا أن سمعاه يتلو سورة يوسف فوجداه كما يجدانه عندهما في الكتاب فآمنا برسالته، ولو أنهما ظناه اطلع أو قرأ أو انتحل عنهما شيئا لكانا في صف أعدائه لا في صفوف أوليائه وأتباعه، وكل ما جاء في أقوال الأغيار والمخادعين أنه تلقى علما عن أحد باطل، وقد رد القرآن عليه من قبل في آية:
لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .
ولو أن محمدا أراد أن يتعلم التوراة والإنجيل ليتخذ منهما مادة للقرآن لبادر إلى ذلك من صغره بعد لقاء بحيرا المزعوم أو بعد زواجه مباشرة وهو في عنفوانه، أو لاغترب في طلب اللغات وأسرار العلوم كما فعل غيره، ولا غبار على نبوتهم (عيسى وموسى)، ولكنه أقام في بلده وعرف عند أهله كما يعرفون أبناءهم.
وقد قدم الناقدون لنا أدلة على كذب دعوى الانتحال أو النقل عن التوراة، فقال مرغليوث (في ص107): «لم يتلقن النبي شيئا من التوراة عن أحد؛ لأن بعض أسماء الأنبياء العبرانيين التي وردت في القرآن مغلوط، فجاء طالوت بدلا من شاول، وجالوت فكان جوليات، وكذلك اسم جيديون، ونجزم بعدم الملقن لمحمد؛ لأنه لا يوجد مسيحي أو يهودي يخطئ في أسماء أشخاص التوراة هذا الخطأ الجسيم، إلخ.»
ثم ما حاجة القرآن إلى النقل عن التوراة والإنجيل، وهذه القصص القديمة لا يقصد بها إلى سرد التاريخ، ولكن يقصد بها إلى تدعيم النبوات والرسالات السابقة وانسجام البعثة المحمدية وسالفاتها؟! والمقصد الأكبر للدعوة المحمدية عقيدة التوحيد وتحويل الأذهان من الشرك إلى الوحدة، ومن حصر الذهن في الصغائر إلى كبار الأمور والنظر في جلال الخليقة وتوجيه النفوس إلى الروحيات والمعقولات وإصلاح الأخلاق وتقويم اعوجاج المجتمع. •••
وقد فكر بعض المسلمين بعد فترة في إعلان الإسلام نهارا جهارا كعمرو بن عباسة الذي رفض الأصنام من قديم وأحب إلى الرسول أن يدعو إلى التوحيد، فرجاه الرسول أن يعود إلى مسقط رأسه بالشام؛ ليدعو إليه كما يفعل أبو بكر في مكة، وكذلك طالب أبو ذر الغفاري بحرية الكلام في الإسلام وإعلان الدين الجديد في المسجد الحرام.
ولكن الرسول وخلاصة أتباعه ما زالوا يفضلون الاختفاء في دار الأرقم المخزومي الذي كان سابع المؤمنين أو عاشرهم، وقد جاد بداره الرحبة التي وصفناها؛ لتكون منجاة لإخوانه، فكان يلتقي ببابها كل راغب في الإسلام من كل نوع من رجال الجاهلية؛ فالعربي القرشي المكي الناقم على الأصنام ورفيقه المظلوم العاجز عن الجأر بشكواه الذي هداه الله على يد أبي بكر والذي هداه قلبه للنور الجديد، والغريب المنقطع عن وطنه كصهيب وعمار بن ياسر، وذليل الرق ذو اللون البغيض إلى العرب كبلال الحبشي، فإذا وردوا العتبة ودخلوا إلى الرحبة وتغلبوا على العقبة وأفضوا إلى الرسول بما انطوت عليه صدورهم تسللوا في الظلام إلى سربهم آمنين تعقب المستعقبين أو اقتفاء أثر الجواسيس؛ فإن قريشا ما كانت بعد قد بثت الأعين ولا الأرصاد ولا جعلت على المسلمين آذانا تلتقط أسرارهم، وقد كانت دار الأرقم محلا وسطا؛ فلا هي في قلب البلد بين أسواقه ومتاجره، ولا هي في أقصى الأرض على سفوح الجبال الموحشة، ولكنها بمكان يملك بلوغه كل إنسان في أمن وراحة ووقت وجيز.
وكما كان رواد دار الأرقم مختلفين نزعة وميلا وخلقا ومالا وحرفة ولونا وجنسا، كذلك كانوا مختلفين سنا وثقافة، ففيهم الشيخ الذي يكبر أبا بكر بعشر سنين، وفيهم أبناء العقد الخامس ونصفه والرابع والثالث والثاني، وبعضهم في سن المراهقة ممن علت نفوسهم وصعد نجم سعدهم وهم لا يعلمون ولا يبالون فألقوا بأنفسهم في أحضان هذه العصبة الطاهرة في ذلك البيت المبارك.
وكان حظ الأرقاء سعيدا؛ فقد كان العتق من أحب الأشياء إلى الله ورسوله، فأعتقهم سادتهم إن كانوا آمنوا مثلهم، أو اشتراهم أغنياء المؤمنين وأعتقوهم كما صنع أبو بكر الذي أنقذ بلالا وغيره من الرق والتعذيب.
فلما نمت العصبة الطاهرة وقويت، أخذ الناس يدخلون في دين الله جماعات وزمرا، الأسرة بأسرها، والأخ الواحد يجلب الأخين والأختين، والابن يحبب إلى والديه، والأم تحبب إلى أولادها وزوجها، وربما كان أفراد بيت أبي طالب أكثر الناس تلكؤا؛ لأن أحدا لم يوجه إليهم دعوة؛ فقد أسلم في أول الأمر علي بن أبي طالب مندفعا بنور الإيمان وحبه للرسول وإعجابه بشخصه وتعلقا بخديجة التي تبنته وأعزته كأبنائها وزوجته من كبرى بناتها، وتلاه جعفر بن أبي طالب وكان عظيما جدا فيما يأتي من الأيام، وتلكأ حمزة والعباس وقد كان لكل منهما شأن يلهيه، ولكنهما قاما بأجل الأعمال لدعوة ابن أخيهم، وقام العباس خصوصا بدور كبير لم ينته بإنقاذ أبي سفيان وقد كان رأس الضلال (رضي الله عنه؛ لأنه أسلم فيما بعد وحسن إسلامه ...) وأسس حفدته دولة من أعظم الدول في التاريخ، ونبغ نجله عبد الله في الفقه والحديث فكان ثقة وحجة ثبتا، كما كان عبد الله بن عمر والزبير بن العوام وعبد الله بن أسماء بنت أبي بكر.
ولم يكن لدى محمد رتب ولا أوسمة ولا نياشين، وكان لا بد أن يتعطف الله على من نصروه ونصروا رسوله، فأنعم عليهم بألقاب الصديق لأبي بكر، والحواري للزبير، والأمين لعبد الله بن الجراح، والمنقذ لعمر بن الخطاب الذي كان إسلامه سببا في إعلان الدين وإعلاء كلمته والخروج من دار الأرقم. والمتأمل في هذه الألقاب يجد أنها لم تكن مما ينال بالتملق والزلفى أو تحصل بالرشوة والنفاق والمعونة على المظالم كما كان الأمر قبل ذلك وبعده في دول الإسلام وغيرها؛ حيث كانت تباع الألقاب، حتى نظم الشاعر البيت المشهور:
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالقط يحكي انتفاخا صولة الأسد
وما زالت تلك الألقاب قرحة تنز في صدور الأمم ومدرجة للفساد والكبرياء ومباءة للتفاوت وحبالة لصيد أصحاب الصغار من ذوي النفوس الوضيعة، وهي تكثر وتتعدد وتتلون وتتمدد وتستطيل وتتضخم كلما انحلت الأمم ودنت من الحضيض، ولذا بادرت كبريات الأمم إلى محوها وطمسها وردمها تحت أنقاض العهود البائدة، وحتى تنزل عنها أفراد أفذاذ وأبوا وهم واهبوها أن يتحلوا بها، واضطروا إلى أن يخترعوا وسام الكفاية أو فرقة الشرف، دون ألقاب طنانة تربط الرجل الفخم بالأرض والبلد كأنه مالكها ووارثها إلى يوم القيامة!
أما الأمين الذي كان لقب محمد قبل الإسلام، وأما الصديق لأبي بكر، والحواري للزبير، وغيرها، فقد كانت ألقابا تنطق بالحق وتنطبق عليه، ولا يصحبها شيء من الفخفخة الكاذبة.
كان المسلمون في أول أمرهم وهم قلة ضئيلة لا يتجاوزون العشرات يخافون أن يجاهروا بكفر الأوثان، وربما كان بعضهم يتردد على المسجد؛ ليرى الكعبة أو يلقى صديقا لعله يجتذبه أو يسر إليه حقيقة أمره، ولذا كان المشركون ولا سيما كبارهم لاهين عنهم مشغولين بحياتهم ولهوهم، ولكن عبادة الأوثان لم تكن تسلية ولا طقوسا، بل كانت كذلك مصدرا خصبا ومعينا فياضا بالمال لسدنة الأصنام، وكانت مظهرا لتضحية الإبل والغنم ومسقطا لأموال النذور والاستقسام بالأزلام، فإن ضربنا صفحا عن غضب هبل واللات والعزى ومناة وإساف ونائلة ويغوث ونسر إلى آخر هذه السلسلة المضحكة من الحجارة، ونحن نعلم أنها لا تغضب ولا ترضى، ولا تضحك ولا تبكي، ولا تضر ولا تنفع، وليس لعبادتها أسرار ولا أستار ولا غموض، لو ضربنا صفحا عن غضبها وسخطها على الذين أعرضوا عنها وأعطوها ظهورهم؛ لينظروا إلى النور الجديد الذي أشع من حراء، ومن دار حكيم بن حزام ودار الأرقم، فإن سدنتها يغضبون إذا نضب معين النذور والأضاحي، وإذا أجدبت مصادر الرزق على الكهنة بعد خصوبتها.
وقد أشار الأزرقي في تاريخ مكة (ص81) إلى أن عابديها كانوا يعكفون عليها أياما بلياليها يذبحون ويطبخون ويأكلون ويطربون ويتصدقون، ولكن هذه الطقوس قد أفنت وتعفنت وضجر الناس منها ولم يفهموا لها معنى، فما معنى تقديم الزبدة واللبن المخضوض للات، فتلعقه الكلاب ثم تلوث وعاءه وتبول فيه؟! وما معنى الرقص حول شجرة كذات أنواط؟! وما معنى سؤال الجماد عن الغيب واستخارة الصخر في مهمات الأمور؟! أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب! وهذه الأصنام المقدسة ألم تجد من يحطم أسلافها في بابل وأور الكلدانيين؟ ألم يرد في الأخبار أن إبراهيم والد إسماعيل جد عرب الحجاز وأول من أسس مكة هذه البلدة التي يعتزون بها قد حطم الأصنام في غيبة أهلها، ولما سألوه قال: حطمها كبيرهم هذا فاسألوه! وهو يعلم أنه لا يحير جوابا، ولا ينطق ببنت شفة؟!
لقد بارك الله في دار الأرقم؛ فقد حمت الإسلام من اعتداء خصومه في طفولته فيقضون عليه جنينا قبل أن يكبر ويقدر على الظهور، وحمته من السخرية والمحاربة بلسان التهزئة والإضحاك عليه؛ وهو سلاح حاد حذقه المكيون والقرشيون؛ فهم أهل نكتة لاذعة وجواب مسكت، ورد جارح، وذوو خيال واسع قوي يعينه على الأذى ألسنة ذربة، طاف أصحابها أقطار المشرق وبعض المغرب، وعادوا بأقوال الأمم الأخرى وصور أفكارهم، فهم هنا لا يجدون أهدافا؛ لأن المسلمين قابعون أطراف النهار في دار الأرقم. ولو أن الرسول قوبل بالأذى فوراءه اليوم مائة شخص يدفعون عنه وينافحون ويلقون سفاهة السفهاء بالعصي أو بلحي البعير كما صنع سعد بن أبي وقاص. ووقت دار الأرقم شخص النبي من الظهور بمظهر الشذوذ والتفرد كما كانت حال ورقة بن نوفل! فإن المجتمع قد يحترم الرجل الفريد لعلمه أو حكمته، ولكنه لا يملك أن لا يودعه بابتسامة السخرية؛ لانفراده وعجزه عن تكوين فرقة أو جماعة توافقه في الرأي وتتلقى عنه إن كان حقا على شيء كما كان الحكماء في كل العصور، كسقراط وأفلاطون، وحتى موسى طلب إلى الله أن يجعل له رفيقا وشريكا ووزيرا، والخير مثل الشر لا يقدم عليه رجل إلا إذا كان مؤيدا بأشياع ومنصورا برجال، والتحزب نظام قديم في الأرض، فلو أن النبي ظهر بمفرده ما زاد صوته على صوت المنفردين، وأنه لم يعرض نفسه على القبائل منفردا إلا بأمر من الله صريح، وكان حزبه وأنصاره في مأمن من كيد الكائدين، فبعضهم في الحبشة، وبعضهم مستعد للدفاع عنه والتنكيل بخصومه، ومكنت دار الأرقم رسول الله من مكابدة فنون الحكم والتنظيم، وتوجيه الأفراد والجماعة، وهذا خير تدريب وتمرين لما سوف يكابده في المدينة بعد ذلك بعشر سنوات، وها هو الرسول يأنس إلى شخصيات سوف يكون لها القدح المعلى في الإسلام؛ كعثمان بن مظعون، وقد قنع كل من خطا عتبة هذا الباب أنه إنما جاء ليربح لا ليخسر، ويأخذ لا ليعطي؛ ففقراؤهم ومحدثو العهد بالعتق من الأرقاء وأصحاب الحاجة يجدون الطعام مبذولا والمال مكفولا، ومن بين أصابع الرسول سال الذهب والفضة للنفقة على المسلمين، وسوف تسيل بأغزر وأوفر عندما يضرب عليهم الحصار في شعب أبي طالب فلا ينفق على الأفراد وحدهم بل على الأسر والعيلات. وهنا وهناك ذهبت ثروات خديجة وأبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعشرات غيرهم، وهذا تجديد في الدعوة الدينية؛ فقد كان قسس النصارى يلتمسون الصدقات من أتباع ملتهم، وكذلك اليهود، أما المسلمون فقد أغدق نبيهم وصحابته المال على المقبلين على الدين وأغرقوهم في خيراتهم، ولا عجب؛ فإن الزكاة والصدقة والبر بالفقير والضيف واليتيم من أركان الإسلام، وقد خالف النبي هذه القواعد التي تشعر بالصغار؛ فحرم الصدقة على نفسه وعلى أهل بيته، وحلل الهدية له ولهم، وكان تحريم الصدقة على نفسه من العلامات التي عرفه بها سلمان الفارسي عندما أقبل ليلقاه في المسجد بالمدينة.
ولكن لم يكن المال ولا الطمع في منصب أو لقب بدافع لأحد على اعتناق الإسلام، إنما شخصية الرسول وهداية الله وكرامة السابقين إليه ممن ذكرنا، فلم يكونوا سفهاء ولا أراذل كما زعم الجاهليون في عهد نوح وعهد محمد؛ بل كانوا من خيرة الرجال، وكانوا فخر الشباب وزينة المجتمع المكي، واختار الله لهم اسم المسلمين، وجعل تحيتهم: السلام عليكم ورحمة الله.
الصحابة
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (سورة الفتح).
توفي النبي
صلى الله عليه وسلم
والذين رأوه وسمعوا منه وجالسوه يزيدون على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة وطفل، كلهم قد روى عنه سماعا أو رؤية، ومع هذا فلم يزد عددهم عند حصرهم في كتب الحديث عن ثمانية آلاف، وقد ذكروا أنهم ثلاثة آلاف وخمسمائة لم يزيدوا ولم ينقصوا، والمراجع في تحديد هذا العدد كثيرة؛ من أهمها كتب علم مصطلح الحديث والصحاح الستة كالبخاري ومسلم، ومنها كتاب الإصابة للعسقلاني وأسد الغابة لابن الأثير وكتاب التجريد للحافظ الذهبي والبغوي والطبراني وغيرهم.
وقيل مات النبي
صلى الله عليه وسلم
راضيا عن اثني عشر ألفا من أصحابه، وليس معنى هذا أنه كان غاضبا على آخرين من صحابته؛ فقد شبههم بالكواكب أو النجوم وأوصى بالاقتداء بهم، ولم يميز بينهم ولم يفرق ولم يفضل، بل قال: فبمن اقتديتم اهتديتم.
والذي يفاد من تعريف الصحابي أنه من لقي رسول الله مؤمنا به ومات على الإسلام. وفيهم من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه ولو لم يجالسه، ومن لم يره رأي العين؛ لعاهة في بصره، ويخرج من الصحابة من لقيه كافرا ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى بعد إسلامه، وكذلك يخرج من الصحابة من لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة.
وهناك خلاف فيمن رآه منهم وآمن به بأنه سيبعث مثل ورقة بن نوفل وبحيرا الراهب، ويخرج من الصحابة من لقيه وارتد بعد إسلامه ومات على ردته؛ كعبيد الله بن جحش الذي ارتد في بلاد الحبشة وترك أم حبيبة فتزوجها النبي
صلى الله عليه وسلم . وعبد الله بن خطل الذي قتل وهو متعلق بأستار الكعبة، وربيعة بن أمية بن خلف وغيرهم، وإن ارتد ثم عاد إلى الإسلام ولقيه فالأغلب أنه يدخل في الصحابة كالأشعث بن قيس.
ولا بد أن يكون الصحابي قد بلغ الحلم عند لقاء الرسول؛ إذ من لم يميز لا تصح نسبة الرؤية إليه، ولا صحة السماع والإدراك، بل ولا يكون مسئولا.
وقد قيد بعضهم الصحبة بعد استيفاء شرطي الإسلام واللقاء ببلوغ الحلم والمجالسة؛ ولو قصرت.
وكان خلفاء الرسول لا يؤمرون إلا صحابيا، وقد يقع الاستثناء كما حدث في تأمير عمر بن الخطاب سارية.
وبحثوا في صحبة من رآه - عليه الصلاة والسلام - ميتا قبل أن يدفن؛ كأبي ذؤيب الهذلي الشاعر، فلم يلقه حيا، ورآه مسجى، ولكن الإجماع على أن مثل هذه الرؤية لا تؤدي إلى صحبة.
وبالجملة تنصب هذه الشروط كلها على المعاصرة والتمييز، ويضاف إليها العدل؛ وهو جماع صفات الأمانة والصدق.
وعلى كل حال؛ فإن شأن الصحبة لا يعدله شيء، وقد وردت في حقوق الصحابة آيات كثيرة وأحاديث متعددة؛ كقوله سبحانه وتعالى:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم .
السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين .
الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون .
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى .
فهؤلاء هم أنصار الساعة الأولى والأعوان في الفترة المكية وما تلاها من الهجرتين.
وأول ما يتجه إليه ذهننا في هذه الآونة أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - وخليل الرسول وصديقه أبو بكر، وربيب محمد وابن عمه وصهره وحبيبه علي بن أبي طالب، فهؤلاء هم الثلاثة الذين قامت على كواهلهم الدعوة المحمدية، وكانوا أول من لقيهم بالبشرى وأنذرهم فصدقوه وآمنوا به وضحوا في سبيله بكل ما يملكون؛ حتى حياتهم لم يضنوا بها.
وقد اجتمع رأي العلماء على أن أكثر الصحابة رواية مطلقا سبعة؛ هم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعائشة، وهؤلاء هم صحابة الدرجة الأولى؛ ذلك لأنهم أكثر الصحابة رواية، وأغزرهم مادة، وأعمهم فتوى.
ويليهم عشرون؛ وهم: أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعيد، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأم سلمة. ويليهم نحو مائة وعشرين نفسا مقلون في الرواية والفتيا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والثلاث، ومنهم: أبي بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو طلحة، والمقداد. ومن هؤلاء جميعا فقهاء الصحابة، وهم الذين امتازوا بعلمهم.
وظاهر أن هذا التقسيم ليس للتمييز والتفضيل ولكن بنسبة الكثرة والتوسط والقلة للرواية والفتيا، فصحابة الطبقة الأولى يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم مجلد ضخم، والثانية يجمع من فتيا كل واحد منهم مجلد صغير، والطبقة الأخيرة يمكن أن يجمع من فتياهم بعد البحث والتنقيب مجلد واحد لا يزيد ولا ينقص.
شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
الذي يكتب عنه المؤرخون ويذكره المؤمنون في صلواتهم وعبادتهم في كل أوقاتهم، شخصية لا ترتبط بموعد من الميلاد، أو بواقعة من الهجرة، أو بمعركة من المغازي، أو بفتح من الفتوحات، أو بأجل من الوفاة؛ إنما هو معنى متجدد يتصل بالحياة الإنسانية، فحيثما ذكر العرب والحضارة والإسلام والفكر الجديد والشجاعة الفردية وخير الإنسانية، فهناك مجال لذكر محمد
صلى الله عليه وسلم
وحيثما خطر حديث النهضات القومية وتوحيد كلمة الأمم وإخراج الناس من الجهل إلى العلم ومن الظلام إلى النور والمواقف الحاسمة في تاريخ البشر وأطوار الأمم، فمحمد هو موضوع الحديث من قريب أو من بعيد، ولا نعلم مناسبة قديمة أو حديثة من مناسبات الحوادث العالمية، ولا نقول: الكونية؛ كالحروب العظمى وتقلب المدنيات، إلا ولمحمد
صلى الله عليه وسلم
شأن أكبر فيها، وذكر أعطر في صميمها وفي ثناياها وحواشيها، ولا يمكنك أن تسأل منذ ظهوره إلى آخر العالم: هل يبقى من حديث محمد كلام لم يقله القائلون ولم يعرفه العارفون بعد ما قيل في حياته ومماته؟!
كان محمد
صلى الله عليه وسلم
رجلا عدا عن كونه نبيا مرسلا، رجلا بالمعاني التي يقصد إليها بهذه الكلمة في العصر الحديث، أي جريء القلب لم يطرقه يأس ولا هلع، رهيب الطلعة يشعر الرجال بجانبه كأنهم أقزام أو أطفال، في صوته رنة عجيبة، وفي منطقه قوة ساحقة، وفي فمه فصاحة دافقة، وفي ذهنه سرعة نادرة، فتشغلهم تلك المواهب عن أنفسهم، وعن التفكير الحر المستقل، ويشعرون كأنهم مقيدون أمامه بقيود متينة أدق من خيوط الحرير من غير ضيق أو ضغط. وقد دونت كتب الحديث وأسفار السير، ومنها ما كتبه خصومه الإفرنج وغيرهم، أن كثيرين ذهبوا إلى النبي مسلحين بالحجج التي حسبوها دامغة، والأدلة التي ظنوها قاطعة، وفي رءوسهم أفكار بلغت لديهم مبلغ العقيدة التي لا تتزعزع؛ فكان محمد يناقشهم ويحاورهم ويجذبهم ويدفعهم ويوافقهم هنا ويعارضهم هناك، ثم إذا بعينيه تلتمعان ببريق عجيب ينفذ إلى قرارة نفوسهم، وإذا بأكثر حججهم هباء إزاء حججه، وإذا ببعض ما أعدوا من الأدلة قد تبخر من رءوسهم فلم يدلوا به، وإذا بهم معجبون بمقدرته العقلية وفصاحته اللفظية التي تعينه في سهولة ويسر على التعبير عن أدق ما في نفسه في سحر وطلاوة، مبهورون بحججه المتماسكة المتلاحقة المتساقطة عليهم في سرعة مدهشة، وبصراحته التي تصعق أحيانا وتكشف الغامض دائما بما لا يدع مجالا لشك أو تأويل، كل تلك تشعرهم بأنهم أمام شخصية فذة ممتازة لا يسعهم إلا أن يكبروها ويخضعوا لها بمحبة وإجلال.
ومع أن محمدا كان عمليا واقعيا بالمعاني الحديثة يرى الممكن فيسعى إليه، والصعب فينصرف عنه (كما حدث في استفتاء ردم الآبار في موقعة بدر) ولكنه مع ذلك كان يفهم المثل الأعلى ويتبع الوحي الرباني ويعرف التضحية كيف تكون.
كان محمد كاملا ناضجا كل النضج مثقفا ثقافة لدنية، وهي - يا للعجب - إنسانية عالمية كونية لا عربية جاهلية ولا شرقية قديمة، ولكنها تكاد تتفق وكل العصور والأزمان، ولقد بلغ من أمر هذا النضج وتلك الثقافة والأدب أنه كان يسوق الحكمة والكلمة الجامعة في سياق حديثه فلا تخطئ ولا تنسى، وكان على كثرة ما وعى المحدثون عنه من الأحاديث يفضل قلة الكلام على كثرته، ويعتقد أن الإقلال أنفع من الإكثار؛ لأن القليل يبقى في الذاكرة ويثبت في النفس، ويلزم المتكلم أن يراقب السامع؛ فلا نفع في كلام مع ملل السامع أو تعبه، ولا سيما لم تكن الكتابة شائعة، ولم يلازمه كاتب إلا في تدوين القرآن أو عقد المعاهدات، وكان محمد في رفق يتخير سامعيه كلما استطاع وكلما اعتمد على ذكائه وذاكرته استماله، وكلما حسن لديه رأيه ازداد عليه إقبالا، ويقصي من يخالفه عنادا أو خبثا أو حبا في المخالفة، وكان هذا النوع منتشرا؛ ولا سيما بين المنافقين.
فلم يكن نبيا ورسولا للعالمين وحسب، بل كان زعيما لأمة زعامة قوية عميقة مطبوعة، ولو حاول أن يكون نبيا هاديا ونذيرا دون أن يكون زعيما لأعجزه ذلك وأعياه. وقد قامت زعامته على أسس متينة من الشخصية القوية وصفاء النفس وصدق الاعتماد على الله والحيوية الكاملة والرجولة الفاضلة والشعور التام بواجب الرسالة، والثقة البالغة بالله وبالنفس، وامتلاك ناحية اللهجات العربية والبلاغة اللغوية والفصاحة المتدفقة والنطق الصحيح والذكاء الخارق والنضج المبكر الذي حماه من الرذائل والمعاصي في البيئة المكية الفاسقة.
وقد تجلت مواهبه الإنسانية أثناء الفترة الأولى من ظهور الرسالة وإعلان الإسلام إلى الهجرة؛ فقد كان قلبه يتوثب إشفاقا على المسلمين المضطهدين مما يجدونه من المشركين الجاهلين، والأولون فقراء ومستضعفون، والآخرون أغنياء وأقوياء وعتاة، فكان ينظر إلى ما يقعون فيه من المحنة وما يقابلونها به من جميل الاتحاد وعظيم الصبر والتسليم، ما يبذلون من الجهود لمقاومة خصومهم وتقوية إيمانهم حتى جلوا الغمرة وكشفوا المحنة وأتوا بها آية أظهرت لله ورسوله والمؤمنين والمشركين أنفسهم أن من أعوزه الحديد والنار والمال والقوة المادية فحسبه الأخلاق التي إذا متنت كانت أمضى سلاحا وأشد إفصاحا وأبلغ نجاحا، فتضافروا بأمره وثبتوا بإرشاده في ذلك الصدام العنيف الذي لم ير مثله بين اليهود ولا النصارى في الأحقاب المتعاقبة، ثبات الكرام وهم عزل لا معين لهم من حليف إلا قوة يقينهم، ووضوح الحق في دينهم، والتزام الحدود المشروعة في شريعتهم، فكثيرا ما أرجعوا الخصوم على أعقابهم غاضين من غلوائهم عاضين على أنامل الندم على ما رأوا من تبدل الحال في مكة وبطحائها وتصرم آمالهم في مقاومة الرسول؛ تارة باللين، وطورا بالشدة حتى المقاطعة والحصار في شعاب مكة وتقتيل المسلمين وحبك المؤامرات لاغتياله، فانقلب بعض زعماء هؤلاء المشركين من الزراية إلى الرعاية، ومن المخاشنة إلى المحاسنة، ومن زمجرة الترهيب إلى بأبأة الترغيب، فبارك الله المسلمين ونبيهم، وشفيت أنفسهم من وجدها، وسكنت قلوبهم من وجبها، فكان التحرير، وكانت الهجرة، وكان الفرار إلى الله، وكان النصر المؤزر والفتح المبين، فرقموا لأنفسهم ولأعقابهم في سجل المجد واليقين ذكرا لا يتدلى، ووضعوا في بناء العظمة الإنسانية حجرا لا يبلى، ألا لمثل هذا فليعمل العاملون، وفي سبيل الله ما لاقوا، وفي ذمة الله تلك الدماء الطاهرة التي أراقها بالظلم أعداء الحق والنور، فإن الحق قديم والنور ساطع، ويبقيان أبدا، والباطل والظلام حادثان يحوران هباء ويذهبان جفاء.
والفضل في هذا كله راجع إلى رسول الله محمد
صلى الله عليه وسلم
الذي أدى رسالته على أتم وجه وأكمل صورة، ولولا زعامته البشرية وقدرته العجيبة على قيادة الجماهير وفهم تام لعقلية العرب وإدراك سام لأمانيها في الحياة؛ فاستطاع أن يؤثر فيها بمقدار ما أثر فيه الوحي الإلهي، شهد الصحابة ذلك بأنفسهم ودرسوه عن كثب، وكانت الوفود تحج إليه أفرادا وجماعات كل يوم من غير انقطاع وكان يتحدث إليهم ويخطب فيهم ويجيب على أسئلتهم في غير ملل أو تعب أو شكوى، وكانت أحاديثه وخطبه بسائر اللهجات التي تنطق بها وفود القبائل، ينزل إلى مستواهم ويخاطبهم على قدر عقولهم، ثم ينهض بهم مدارجة إلى مستواه العالي في الإيمان والتفكير والشعور والنظر إلى الأشياء. وقد مرت برسول الله في مكة والمدينة أزمات حادة أقضت مضجعه؛ كفترة الوحي، وإخفاء الإسلام عن المشركين ثلاثة أعوام، وأمره بعض أتباعه بالهجرة إلى الحبشة، وعرض نفسه على القبائل وما لاقاه على أسوار الطائف، وما كان أثناء الهجرة، وما عاناه من المنافقين في المدينة بعد ما أصابه من بعض أقاربه، وما وقع له من الغيظ والهزيمة في موقعة أحد؛ فلم يضعف ولم يهن ولم ينخذل؛ لأن له إيمانا بالله لا يتزعزع في وقت من الأوقات، ولم يقنط قط من رحمة الله ونصرته في موقعة بدر وقبلها وبعدها، ولم يكن حزنه إلا كسحابة صيف لا تلبث أن تنقشع؛ لشدة إيمانه بالله، وثقته برسالته، واعتداده بهما، وإدراكه إدراكا تاما أن الله لا يريد به إلا الخير بعد أن أخرجه من أحرج المواقف؛ كوقف المؤامرة على اغتياله في مكة وفي العقبة ويوفقه دائما إلى ما فيه خير الإنسانية.
هذه بعض الناحيات من محمد الفرد؛ العلم، إيمان بالله، وشخصية كونية فذة واضحة الحدود، وإنسانية رفيعة، وشجاعة نادرة، وإرادة صلبة في الحق لا تلين ولا تستكين، وأساليب بليغة لا يعدل جمالها إلا قوتها، ولا يفوق فصاحته وحكمته وشفقته وحنانه على النبات والحيوان والإنسان وسائر الكائنات إلا سمو الشعور الرباني الروحي الفياض الذي يستمليه هذه المواهب، ويستمده هذا الإيمان، خلق عظيم بمدح القرآن، وإرادة ومقاومة وصلابة ومثابرة وثبات ومرونة ولين، أليس المؤمن هينا لينا؟ أليس الله يريد بهم اليسر لا العسر؟ أليس بينه وبين الله عهود ومواثيق: إن تنصروا الله ينصركم؟
ليست عهودا خشنة قاسية كعهود بني إسرائيل، بل عهود رطبة معقولة سهلة على النفوس، وهو زعيم يعمل في وضح النهار في المسجد والمجلس وعلى مقروعة الطريق، أليس يخدم الحق؟ والحق ثابت لا يتغير، قد يكره المتكلم ولا يكره الكلام إذا كان حقا، وقد يحب المتكلم ويكره الكلام إذا كان باطلا؛ كشفاعة ابنته فاطمة في امرأة سارقة. كان يغضب ولكنه لا يحقد، ويحزن ولا يستسلم للحزن، ويفكر ولكن لا يضل، أبى أن يقبل قتل رأس المنافقين؛ خشية أن يقال عنه: محمد قتل أصحابه. ولم يكن الحبيب عبد الله بن أبي صاحبا إلا للشر، قارن بين هذا القول، وبين الإسكندر الذي قتل أعز أصدقائه وأقرب أنصاره في سورة غضب وهو الذي أنقذ حياته من قبل وأتبعه غيره من أخلص الناس له.
وكان محمد سياسيا واسع الحيلة دون أن يخدم مصلحة غير مصلحة الدين والجماعة، ويقبل المعارضة ويتلقاها في غير ملل أو برم، ويبتسم لعدوه ومجالسه، ويجادله في مداراة واتقاء بغير نفاق ولا رياء، فكان يفهم سياسة الأفراد والجماعة على أنها قضية من القضايا تحل على أساس من الحق والعدل، وكان سلاحه الماضي في حلها الصراحة والمنطق، وقد اقتبس حلول السياسة من حلول الأقضية التي فصل فيها أثناء حياته، فصاحب الحق في نظره يجب أن يأخذ الحق كاملا وغاصبه يرده غير منقوص.
ومن حسن حظ الإسلام وهو في أول أدواره وبداية أطواره أن الرسول كان على هذه الأوضاع من الفطنة والعقل والصلابة حتى أتم لهم دينهم فنضج وازدهر وأينع ثم أثمر، كما نضج المسلمون بعد أن اكتووا بنار الاضطهاد، وصهروا في أتون الجهاد، وأصيبوا بالحرمان في أرزاقهم وأموالهم، وبالأذى في عواطفهم وأجسامهم، ثم خرجوا إلى العالم وهم أصفى ما يكونون معدنا وأعمق شعورا وأكثر نضجا وأوسع أفقا وأعظم استعدادا لفتح العالم وحكمة بالنصفة والمعدلة، فلم يسنوا سنة الاستعباد والاستعمار، ولم يبيعوا ويشتروا في حرية الأمم، ولم ينهبوا الشعوب، ولم ينزلوها إلى مستوى العبيد والرقيق كما فعلت الأمم القديمة (مصر في الأسرى، وبابل في اليهود قديما، وأوروبا الحديثة في القارات الأربع).
ومحمد بذكائه العجيب وقلبه الملهم ومنطقه المرهوب وعقله الموهوب من الله كان يدرك كل هؤلاء في صميم نفسه من الساعة الأولى، وحسبه نجاحا في ميدان الإنسانية بين الحرب والسلم والإنذار والتبشير والرسالة والنبوة، أن الله مكنه قبل أن يلحقه بالرفيق الأعلى أن يشهد ثمار رسالته؛ فقد شهد قلوبا مؤتلفة وصفوفا متحدة وأهواء راقدة وأحقادا خامدة وأحزابا متراضية وجيوشا مجندة وأعلاما خافقة، مكنته جميعها من إلقاء خطبة الوداع الرائعة، عليه أفضل الصلاة والسلام من الله وملائكته ومن المؤمنين جميعا، فلما قبضه الله إليه لم يترك أمته جاهلة خاضعة لإرادة سادة مستبدين أو ملوك طامعين، كما كانت الحالة في مكة وغيرها من المدن الخاضعة لأرستقراطية رذلة بذيئة جريئة على الحق يحكمها رجال مستبدون؛ كأبي سفيان، يفعلون ما يشاءون غير مسئولين، ويحكمون بما يرسم به هواهم؛ وافق الحق أم خالفه، وكان العالم قبل محمد في الفرس ورومة والقسطنطينية ومصر والهند محكوما بملوك وحكام جلبوا على الأمم والشعوب من الأضرار والمتاعب ما بغضهم إلى قلوبهم؛ إذ لم ينالوا من عهودهم إلا وبالا، ولم يلقوا من عصورهم إلا نكالا، وشهدوا النفوس تذهب فيها ظلما، وتؤكل أثناءها الأموال أكلا لما، وتسفك الدماء زورا، وتدمر البلاد تدميرا (انظر الفصل الخاص بوصف العالم قبل الإسلام من هذا الكتاب).
وقد يخشى النبي والمصلح والزعيم الخير أن تتغلغل هذه الخلال اللئيمة في أنفس خلفائه (انظر تواريخ أنبياء بني إسرائيل)، ولو تبين لهم أن الشريعة لا تبيحه، وأنها توجب تقييد الحاكم بالسنة والقانون، ومن البديهي الواضح أن نصوص الشريعة لا تقيد الحاكم بنفسها حتى ولو كانت الإسلام، فإنها ليست سوى معاني أحكام مرسومة في أذهان أصحاب الشريعة وعلمائها أو مدلولا عليها بنقوش مرقومة في الكتب، ولا يكفي في تقيد الخليفة بها مجرد علمه بأصولها، بل لا بد في ذلك من وجود رجال يتخلقون بمعانيها ويظهرون بمظاهرها؛ فيكون منهم الحاكم، وهذا ضمان أول، والضمان الثاني أن يكون أمثاله خارج الحكم مسلحين بالشجاعة والثبات فيقومونه عند انحرافه عنها، ويحضونه على ملازمتها، ويحثونه على السير في طريقها.
أرأيت كيف كان أبو بكر صلبا شديدا عنيفا في حروب الردة حتى إنك لتنكر عليه تلك القوة في أخريات أيامه ، وهو الذي عرفته في شبابه وكهولته جميلا رقيقا أنيسا محدثا ظريفا، وراوية لطيفا محبوبا من الرجال والنساء على السواء؟! وهل رأيت كيف كان بعد وفاة النبي وهو ممزق من الحزن عليه كيف يقف لعمر بن الخطاب ذلك الموقف الجليل يصده ويرده ويهديه ويذكره بالآية الكريمة:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
الآية.
ومن أجل هذا وذاك انتهز عمر بن الخطاب فرصة مبايعته فدعا الناس في خطبته إلى تقويم ما عساه يكون منه من الانحراف والاعوجاج في تنفيذ أحكام الشرع الشريف، وأي فضل في الاحتفاظ بتلك الخلال أكبر من فضل الله ورسوله؛ الرسول هذب وعلم وقوم وأعد القلوب والعقول ليضمن مستقبل الحكومة والشعب كما بلغ قول الله:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون .
وهي آية عامة في دعوة الخلفاء وغيرهم إلى الخير وجوبا لا ندبا.
هذه بعض أعمال محمد
صلى الله عليه وسلم
في حياته وبعد موته، فما أكرم العهد وأجمل الذكرى وما أجلها حياة يمر بنا طائفها كلما ذهب الفكر قريبا أو بعيدا في شئون الإسلام والإنسانية، عهد باق لن يضيع، ثابت لن يتحول، وتلك ذكرى حية يسطع خلودها، وحياة مباركة الأثر، مطهرة الأعراق.
لا يأخذ القارئ علينا هذا الإسهاب، فإنا نكتب ما نعتقد فيمن نحب ومن به نعجب، هذا هو الإنسان الكامل الذي تجلت صورته في أحلام الفلاسفة؛ حتى الماديين منهم، فنطقوا بلفظ السوبرمان للخير والمحبة والعلم والسعادة، لا للشر والبغضاء والجهل والشقاء، السوبرمان الذي خلقه الله على صورته، وتعاونت الطبيعة على إظهاره، وتمثل الكون كله في تكوينه؛ فجاء تاما متسقا مع عظمة روحه وعظم رسالته، وبرأه قويا قادرا على غذاء عقله ونفسه، فلم تجئ رسالته من عمل المصادفة ولا من صنع البيئة ولا من استعداد الشعب الذي حوله (كما يحاول هربرت سبنسر إثبات ذلك في ظهور العظماء في كتابه الجميل دراسة علم الاجتماع) ولكنها إرادة وفطرة سليمة ونفس باهرة من صنع الله وحكمته وتدبيره، أعده الله وأعد نفسه بإرادة الله؛ لتلقي الأمانة الكبرى بما عرف عنه أهل عصره وبلده من أمانة وشرف واستقامة وعفة وقناعة وكرامة وعقل وعزم.
وكل هذا لا ينافي أميته وبساطته قبل الدعوة؛ فإن الله أعلم أين يضع رسالته، وأخبر بالإناء الذي أودعه حكمته، فاختزن مواهبه الكامنة إلى وقتها المرهونة به، وقد قضى معظم شبابه بين قوم عرفوه حق المعرفة ولكنهم عرفوا ظاهر الأشياء، ولم يعلموا بواطنها، حتى إذا آن الأوان تكشفت لهم حقيقته وما نضح عليها من ألوان وما شكلها به من أشكال وما صيرها إليه من تكييف يوائم روح العصر ويلائمه، ويطابق واقع الحياة، فأقبل عليه رجال من أنضج الناس فكرا وأخبرهم بالدنيا والرجال؛ كأبي بكر، فأحبه وتعلق به ولازمه إلى آخر لحظة؛ لأنه لم ير أمامه رجلا عثر في مصادفات الحوادث على رأي فتنه فهو يعلمه ويجهل كل شيء سواه، ولا يعرف له قرارا يرتبط بأصله ولا فرعا يمتد إلى سمائه، ولكن أبا بكر وأترابه رأوا فيه الرجل المقدر الذي اتصل بجذور الأفكار ومنابع الحقائق وأصول الأشياء (سدرة المنتهى) وأسبابها ومسبباتها وعللها وما يمكن أن تنتج من خير أو تسوق إليه من شر، فهو يسير في رسالته وحياته عامدا قاصدا، لا يخبط خبط عشواء، ولكنه مهتد وهاد، حتى صار جامعة نقلت خير ما يصل الأجيال السابقة بجيله وما يليه (انظر سرد تواريخ الأمم البائدة والمعاصرة في القرآن الكريم)، وكأنه كان في مجالسه وحديثه يضع الأساس للأمم، حتى إذا بنوا كان البناء متمشيا مع أساسه مستقيما مع روح الأقوام وفنونهم وأخيلتهم وآدابهم لا ينكر حاضرهم ماضيهم ولا يتنافر مستقبلهم مع حاضرهم.
وفي أثناء تلك السنوات الأربعين التي سبقت الدعوة لم تكن شخصية محمد غامضة ولا خامدة إلا ظاهرا، ولكن عمل الله كان مستمرا، فوفق عقله الباطن فجعله يسبر غور الطباع والأخلاق والنوازع والرغبات والآلام والآمال في الإنسانية؛ فأحاط بها بوحي رباني؛ لأن الله أحبه واختاره، فعلمه وأدبه فأحسن تأديبه، وفكر في كل شيء فأصاب المحز، ثم هضمها بالتأمل القوي والعلم الفسيح، وصفاها بالتأمل الهادئ وسهد الليل أثناء التحنث وقبله وبعده؛ حتى استقرت مع إلهام الله في ضميره إيمانا قويا صادقا لا يخطئ ولا يتلبس، إلى أن شاء الله في تمام الأربعين أن تتحول الفكرة الصامتة إلى فكرة ناطقة بالقرآن الموحى به من الله بوساطة الملك تحرك بها لسانه أفصح وأبلغ وأوضح ما تكون وأقوى ما يكون البيان وأوقع، فلما ترجم عن الله ما يملأ جوانحه وتعيا عنه ألسنة البشر أقبلت عليه القلوب قبل الأجسام وعنت لمنطق إيمانه جباه الفصحاء والمفكرين، ووثق به الضعفاء والمظلومون والمغلوبون كما وثق به الأغنياء والعظماء والقانعون.
هذا الصحابي التاجر يثق بخلقه فاطمأن إلى قراره وسلم قياده، وذاك الصحابي الشاعر وثق بأدبه الذي هو أدب القرآن فأحسن الظن به وآمن برسالته، وذاك العالم وثق بعلمه واطمأن لتحقيقه ومعرفته فأعجب به وأطاع الله ورسوله، وهذا المتألم الشاكي الذي يجول الألم في نفسه وخاطره لا يملك اللسان الذي يعبر به سمع آيات الرحمة والإحسان والعدل والمساواة التي تنال بالإيمان والتقوى والتي تعتق رقبته وتفك عنقه وتحطم سلاسل عبوديته وتطرد عنه شبح الفاقة وتعده بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، فهرع إليه؛ لأنه وصل إحساسه بمدارج بؤسه، فأسمع أذنيه وقلبه بالنغمة التي تثور في ضميره ولا يملك أن يبثها.
فلما اشتد ساعد الإسلام قليلا تجاوبت بدعوته الآفاق وهتف محمد هتافه فرددته القصور والأكواخ والأمراء وأبناء السبيل، وأجمع عليه المترفون والبؤساء، ومذ أخذ بلال يؤذن أذانه لم تعرض عنه أذن؛ لأنه رمز لكل عقل، وفيه لكل قلب نشيد وحداء، وكم قبل ذلك النصر من عواصف عصفت بالمجاهدين حتى ظن بالجهاد الظنون وخيل إلى الفزعين أنه لم يبق من وراء محمد أمة مؤمنة ولا شعب منافح، فبقي وأخص أصحابه وأخلصهم ثابتا لا يتزعزع وصارما لا يتثلم، لامعا لا يخبو له ضوء حتى تراه بعد ذلك في موقف والحق والدنيا معه.
حقارة قريش في الجاهلية
كانت قبيلة قريش تلقب بالسخينة؛ لأنهم كانوا مولعين بها؛ وهي طعام يصنع من دقيق وسمن وكانوا يأكلونها في شدة الدهر ، وغلاء السعر، وعجف المال.
قال الشاعر كعب بن مالك:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها
وليغلبن مغالب الغلاب
وكانت تلك الأكلة موضع السخرية تارة، وموضع الإعجاب طورا، لا يشذ منهما صغير ولا كبير، حتى كان بعض كبارهم يتندر بها، ومناظروهم يتفكهون عليها، اجتمع معاوية بالقرشي المعروف بالأحنف بن قيس التميمي الحكيم فبادره معاوية قائلا: يا أحنف، ما الشيء الملفف في البجاد؟
قال الأحنف: هو السخينة يا أمير المؤمنين!
فكانت قريش في الجاهلية مشهورة بلقب هو الطعام الذي ينجدها في الجوع والمسغبة، ولم يكن في ذلك شيء من الشرف، ولكن معاوية لم يكن يريد السخينة التي ذكرها الأحنف في نوع من الجواب المسكت أو جواب الحكيم، إنما قصد إلى تعيير الأحنف؛ وهو من تميم؛ بحب الطعام، ملحنا إلى أبيات من الشعر؛ هي:
إذا ما مات ميت من تميم
فسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بتمر أو بلحم
أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف الآفاق حرصا
ليأكل رأس لقمان بن عاد
فكان جواب الأحنف أحكم وأصوب وأشد أثرا.
قريش ومحاربة الرسول
نعوذ باللات والعزى من شر هذه المحنة وعواقب هذه الفتنة، ونسألهما أن يقبضاها على منهج هبل ومناة الثالثة الأخرى، وعقيدة هذه الأمة في آلهتها العظمى!
هكذا كان يقول مشركو قريش في فناء الكعبة حين انبثق نور الهدى من غرة محمد رسول الله.
إن دعوة الدين فجأت قريشا على دنيا مقلوبة الأوضاع، في الأخلاق والغرائز والطباع، فقال الناس حين رأوا رجلا رأسه في السماء، ورءوسهم في الأرض: انظروا كيف يريد أن يبدل نظام الكون ويغير خلق الأرباب.
وكان محمد يقول وهو ينفض باسما ما حثوه على رأسه من تراب ورماد وما قذفوا على عطفيه من تهم وظنون وشتم وسباب: والله لا صلاح لهم إلا بصلاح نفوسهم ، وطهارة قلوبهم، وكفرهم بالأوثان، وإيمانهم بالواحد الأحد، ولا قيامة لهم إلا بقيام عقيدة التوحيد في أفئدتهم.
وقد مر على محمد وأصحابه في فترة الجهاد في مكة وهي لا تزيد عن ثلاثة عشر عاما من جليل الحوادث وفادح الخطوب ما لو مر على الشامخات الرواسي لجعلها دكا أو وقع على الجلاميد الصم لصيرها هباء، فأعد الرسول وصحبه الإيمان الذي لا يزلزله رزء، والثبات الذي لا تزيله مصيبة، وصبروا عليه صبر العظيم على العظيم، حتى تعودوا مس الضر، وألفوا قوارع الدهر.
واستعانوا على خصومهم بالإحسان والتضحية والصبر حتى آمن من آمن، وهادن من هادن، فوضع الرسول يمناه على أيديهم، ويسراه في أيدي أولئك الذين فتنتهم الآلهة المنحوتة من الصخر، وكان لهم من وراء عبادتها ما كان من مال وشهوات وسلطان وغلبة، ولا سيما أهل الطبقة الغنية التي استبدت بمصادر الخير ومنابع الثروة ومناصب الحكم لبيت بني عبد شمس وبعض المناكفين من بني عبد المطلب؛ كأبي لهب.
ولم يكن هذا النفور في قريش بمستنكر في زمنهم، كما أضحى مستنكرا ومستغربا في عصور الإسلام التي تلت؛ فلقد طالما سخر الملكيون في فرنسا من الجمهوريين، والسراة من الاشتراكيين، واليهود من الحواريين، وعباد آمون من عقيدة، أخناتون، كما سخر فرعون من موسى وهارون، وإن المسلم الآن ليعجب وهو يخر ساجدا أمام عظمة القرآن وجلال الدعوة المحمدية ولا سيما دعوة التوحيد، كيف أعرض عنها العرب ونئوا ونافروا ولم يسطع في قلوبهم قبس من النور المحمدي، ولو أنهم فكروا قليلا لآمنوا ولكنهم لو آمنوا لما سمحت أنفسهم ولا سخت أيديهم بترك ما شدوا عليه قلوبهم من قوة وبأس وحكم وما قبلوا انتحال المساواة بينهم وبين فقرائهم ورقيقهم وأبناء السبيل.
وفي زماننا هذا لا يزال عباد للنار ووثنيون يسجدون للحجارة ويقدسون الأنهار والأشجار بعد أن بلغتهم دعوة الأديان المنزلة، وقد خلق الإنسان رجعيا محافظا مستمسكا بما كان عليه آباؤه وأجداده، شديد الحرص على ما وصل إلى يده من نعم الدنيا ومظاهر العظمة الزمنية، وهو يطلب منها المزيد، ولا يفرط في عشر معشارها إلا مكرها مغلوبا على أمره، وقد يموت في سبيل الاحتفاظ بها، كما وقع لشارل الأول ولويز السادس عشر وماري ملكة إيقوسه وماري أنطوانيت والأمين العباسي وعائلة رومانوف وهمبرتو الأول وعشرات غيرهم من أندادهم وذوي قرباهم، ولكن هؤلاء وأولئك والذين خلفوهم لم ينسوا شهوة القوة والاستئثار بالسلطان، ويتبعهم ألوف مؤلفة من أتباعهم وصحابتهم وخدمهم. ولو قست الحضارة والثقافة والتنور في الأعصر الحديثة بها في زمن قريش وما كانت عليه من حداثة العهد بالحياة المدنية إذن لأدركت الأسباب القوية التي أرغمت القرشيين على التمسك بدينهم وملتهم ودولتهم وحقوقهم، نحن نبغض قريشا الوثنية بقلوبنا الإسلامية، ولكننا ندرك حالتهم بعقولنا الناقدة التي تحلل وتعلل وتحاول ربط الأسباب بالنتائج.
ولكننا إن وصلنا بالفهم إلى حقيقة ما انطوت عليه أنفس القرشيين، والتمسنا لهم بعض العذر في ثورتهم على ثورة محمد، فإننا لا نملك إلا الإعجاب بتلك الفئة القليلة التي انضوت تحت لوائه وبادرت إلى تلبية دعوته واستمتعت أولا بنعمة التصديق بالحق، فلقت في هذا السبيل ما لم يلق أتباع موسى ولا حواريو عيسى ولا أصحاب أخناتون وبوذا، حتى غدت تلك الفئة القليلة من المسلمين لطول ما رأت من البلاء وما راضت نفسها عليه من الصبر لا تألم لمصيبة ولا تجزع لنائبة!
ولم يكن الدين الإسلامي الذي جاء به محمد عقيدة روحية وحسب، بل كان فكرة وطنية أيضا؛ فقد كانت البلاد العربية قبل محمد طعمة للأجانب قد مزق الاستعمار شملها فأصبح أهلها خاضعين للنير الأجنبي؛ فالرومان والفرس في الشمال وفي الوسط، والأحباش والفرس في الجنوب، واليهود في يثرب وفي اليمن، ومن أهل مكة من كان يستعدي قيصر على وطنه ويحسن له احتلاله وحكمه كما فعل عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ونحن إذا رجعنا إلى العصر الجاهلي وقلبنا تطورات الشعر العربي في ذلك العهد لم نجد للشعر الوطني ذكرا ولا أثرا بين القصائد، ولم يكن لعاطفة الوطنية مقام يذكر في نفوسهم، ولكن المسلمين لم يلبثوا أن يتذوقوا عقيدة محمد
صلى الله عليه وسلم
حتى تنبهت فيهم عاطفة الوطن؛ حب مكة وبطحائها وما فيها من جبال ووديان وقفار ومفاوز، ثم حب المدينة وما يحيط بها من حقول وبساتين ومزارع، ثم امتد هذا الحب حتى شمل الجزيرة كلها، وهذا الحب نفسه، مقترنا إلى عظمة محمد، وحلمه، وعفوه، وصفحه، وسعة صدره، ومكارم أخلاقه هي التي حمت مكة من التدمير والتخريب يوم الفتح، وهي لا تضم جوانحها إلا على مشركين متغطرسين وأعداء معاندين، ولو كان محمد على شيء من الحقد أو حب الانتقام أو على الأقل مقابلة المثل بالمثل لقضى على أكابرهم وحكم السيف في أعناقهم وشفى غليله وغليل أتباعه بإهراق دماء مضطهديهم ومعذبيهم، بل إنه وصف يوم الفتح بأنه يوم المرحمة لا يوم الملحمة، واقرأ واعجب لما يدهش له جيبون عند المقارنة بين فتح مكة سنة 8ه وفتح رومة على يد مارسيلوس وكيف أن هذا القائد الروماني أروى السيوف من دماء أبناء وطنه بعد أن استسلموا له.
أحداث الهجرة
(1) صور من محاربة قريش للرسول
كان أهل مكة قساة القلوب؛ على قلوبهم أقفال، وكانوا تجارا وفسقة ماديين وأهل شهوات، فلم يجدوا في الدين الجديد إلا رغبة محمد
صلى الله عليه وسلم
في الغلبة والقوة الدنيوية، حتى أقرب الناس إليه؛ أمثال: أبي جهل، وأبي لهب، فضلا عن غيرة بني أمية ومحاربتهم لفرع هاشم؛ فقد كان أبو لهب سمينا سريع الغضب دموي المزاج، فلما دعاه الرسول للإسلام قال له: تبا لك سائر هذا اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فجاءت سورة:
تبت يدا أبي لهب وتب .
وقد أقبل الفقراء على الإسلام؛ لأنه لم تكن عندهم تجارة تلهيهم، ولا شهوات تأخذ وقتهم، والدين الجديد يدعو إلى الحب والعطف والمودة والتسامح ويقول: إن الإكثار من المال والجري وراءه أذية للروح، قال تعالى:
ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر .
وأحبه الفقراء؛ لأنه دين حرية وانطلاق من قيود الأصنام والمجوسية والكهنة والنصارى والأحبار واليهودية؛ فأعمال الرجل هي شفيعه يوم القيامة، وخلاصه بيده، وضميره هو ميزانه، أما الأديان الأخرى ففيها الوسطاء والخرافات والحجب والعبودية والرق والذل والاستعباد.
فشعر أغنياء قريش بالخطر، فاستأجروا الشعراء؛ لهجوه
صلى الله عليه وسلم
وتحدوه، وطلبوا منه معجزات مادية وسخروا منه وهزءوا فأجابهم محمد
صلى الله عليه وسلم
بتهزيء آلهتهم، فعز عليهم ذلك.
وحاولت قريش أن تضغط على محمد عن طريق أبي طالب الذي كان يحميه حتى قال له: فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فأجاب محمد
صلى الله عليه وسلم : يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري؛ على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.
فقال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
فنجا محمد بحماية عمه وبيت بني هاشم ومال خديجة ضد بقية قريش، وقد اضطهدوه شخصيا ورموا عليه النجس والقذارة وخصوصا أبو جهل، وامرأة أبي لهب حمالة الحطب، ورجموا بيته، وضربوا أتباعه، وتآمروا عليه، وقلعوا عين مسلم وهو يقرأ القرآن في الكعبة! وشرع أحدهم في قتله
صلى الله عليه وسلم
وهو يطوف بالكعبة.
أما أبو جهل فقد صدر عنه مرة عمل فيه حكمة، وهو أنه لما ضربه حمزة بعد سب الرسول أراد جماعة من بني مخزوم أن يعاقبوا حمزة فقال لهم أبو جهل: لا، إنني سببت محمدا سبا قبيحا. وذلك منع لاستفحال الشر.
وقد أعطت هجرة الحبشة للإسلام صبغة دولية؛ فقد لجأ أهل دين منزل حديثا إلى أهل دين منزل قديما خصوصا وأن القرآن أشاد بعيسى ومريم، فشقت هجرة المسلمين إلى الحبشة على عمر بن الخطاب وكان غضوبا سكيرا، وقويا فخورا، فراح لقتل محمد
صلى الله عليه وسلم
فلقيه نعيم بن عبد الله في الطريق ونصحه أن يفتش في أهله، وقال له: إن أخته وزوجها أسلما فراح وسمع القرآن فبطش بسيفه وشج أخته شجا ورأى دم أخته فأسف وقرأ القرآن فتأثر؛ لشدة الخير والعدل فيه، فراح ليسلم وأسلم فعلا.
وإذن فقد استعملت قريش ضد المسلمين كل أسلحة المحاربة من التهزيء والرشوة والتلويح بالملك والمال وتفريق الصفوف والضرب والقتل والتآمر والمقاطعة
Boycott ؛ فقد عملوا منشورا بالمقاطعة سموه الصحيفة وعلقوه في الكعبة ومنعوا البيع والشراء والزواج، أي جعلوهم أنجاسا، حتى هاج ضمير بعض القرشيين؛ وهم وثنيون، فكانت روابط القرابة والدم أقوى من الدين، ومنهم هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، فاجتمعوا سرا وتآمروا على تمزيق صحيفة المقاطعة واعترضوا أبا جهل وصارحوه في شبه فتنة بوجوب تمزيق الصحيفة، فأدرك أبو جهل بفطنته أن الأمر متفق عليه، وأن مخالفتهم قد تثير شرا فأوجس خيفة وتراجع، ويظهر أن مسلكه في حادثة حمزة وفي هذه الحادثة يدل على الجبن.
وقد ماتت السيدة خديجة وأبو طالب في عام واحد سمي بعام الحزن لاجتماع الخطبين، فتمادت قريش في إيذاء النبي، فكانت فاطمة إذا بكت وهي تزيل أثرا أحدثه السفهاء في أبيها يقول لها: لا تبكي يا بنية؛ فإن الله مانع أباك.
ولما أراد
صلى الله عليه وسلم
الخروج إلى ثقيف في الطائف رجاهم ألا يذكروا من استنصاره بهم شيئا حتى لا يشمت به قومه، فأغروا سفهاءهم يسبونه ويرمونه بالحجارة، فلجأ إلى ظل كرم وابنا ربيعة ينظران إليه، فرفع رأسه إلى الله ضارعا في شكاية، فأرسلا غلاما نصرانيا اسمه عداس من نينوى قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فلما سمع الولد الدعاء أخذ يقبل يديه ورجليه
صلى الله عليه وسلم
فقال له ولدا ربيعة: لا يصرفنك هذا الرجل عن دينك فهو خير من دينه.
ثم عرض الرسول نفسه على القبائل، تارة في الحج وطورا في منازلهم فردوه وردوا دعوته، وذلك كله لأسباب اقتصادية وسياسية. (2) الإسراء
1
اجتمعت في روحه
صلى الله عليه وسلم
ساعة الإسراء والمعراج وحدة الوجود، فاجتمع الكون كله في روعه، فوعاه منذ الأزل إلى الأبد.
وللإسراء بالروح أدلة وسند، وللإسراء بالجسد أدلة وسند، والعلم الحديث يقر الإسراء بالروح (اللاسلكي والتنويم المغنطيسي وتحضير الأرواح والتلبثي أو علم ما يحدث في أماكن بعيدة ... إلخ).
كان النبي ليلة الإسراء في بيت ابنة عمه هند أم هانئ بنت أبي طالب فلما أخبرها قالت له: لا تحدث الناس بها فيكذبوك ويؤذوك، فقال: والله لأحدثنهموه.
قالت عائشة: ما فقد جسد رسول الله، ولكن الله أسرى بروحه. وقال معاوية: كانت رؤيا من الله صادقة. وقال بعضهم: إن الإسراء من مكة إلى القدس كان بالجسد، بدليل ذكر ما شاهده في البادية، وإن المعراج إلى السماء كان بالروح. وقال آخرون: إن الإسراء والمعراج كانا بالجسد.
أما المتشككون فقد قالوا لأبي بكر عن حديث الإسراء والمعراج، فقال: إنكم تكذبون عليه! فقالوا له: إنه في المسجد يحدث الناس. فقال أبو بكر: لئن قال لقد صدق! إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.
وسمع أبو بكر من الرسول وصف بيت المقدس فقال له: صدقت يا رسول الله.
2
والدليل على أن الإسراء كان بالجسد أنه
صلى الله عليه وسلم
وصف عيرا مر بها في الطريق فضلت دابة من العير فدلهم عليها، وأنه شرب من عير أخرى وغطى الإناء بعد أن شرب منه، فسألت قريش عن ذلك فصدقت العيران ما روى محمد عنهما.
وقد ارتد بعض المرتابين بعد الإسراء؛ لأنهم اعتبروا هذا دجلا، وردته قبائل ثقيف وكندة وكلب وبنو عامر وبنو حنيفة، وهو في عزلة من قريش ورد من القبائل، ولكنه لم ييأس، وكان متيقنا من النصر في النهاية، وزاده هذا الموقف إيمانا وتمسكا. (3) بيعة العقبة
تقابل الرسول
صلى الله عليه وسلم
في مكة مع سويد بن الصامت وهو من كبار أشراف المدينة فراح يحج فدعاه محمد للإسلام وأسمع محمدا
صلى الله عليه وسلم
حكمة لقمان، وأسمعه محمد القرآن فاستحسنه وطلب مهلة للتفكير، غير أن الخزرج قتلوه، وقيل إنه مات مسلما.
ثم جاء وفد من المدينة ليحالفوا قريشا؛ وهم: أبو الميسر بن رافع، وإياس بن معاذ، فجلس إليهم ودعاهم للإسلام، فأسلم إياس.
وتقاتل الأوس والخزرج بتحريض اليهود في موقعة بعاث، وكانت حرب فناء، وانتهاجا لسياسة «فرق تسد». وهزمت الخزرج، واستعاد اليهود بعد هذا اليوم مكانتهم في يثرب.
فتنبه القبيلتان إلى نتائج ذلك فجعلوا عليهم ملكا؛ هو عبد الله بن أبي الخزرجي؛ لمكانته، وعقله.
وجاء جماعة من المدينة بينهم اثنان من بني النجار وقالوا له: أنت النبي الموعود لليهود وقومنا، ولعل الله يجمع بينهما بسببك، وأسلموا وعادوا إلى المدينة وأخبروا قومهم فوجدوا قلوبهم مفتوحة، وذكر محمد
صلى الله عليه وسلم
في كل دار وبيت.
وفي العام المقبل كانت بيعة العقبة الأولى؛ إذ أسلم اثنا عشر رجلا فأرسل معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين.
ويثبت لدي أن الذين فاوضوا النبي في هذه الفترة كانوا أفطن أهل المدينة وأبعدهم نظرا وأصدقهم فراسة سياسية؛ فقد أرادوا أن ينقذوا المدينة من ظلم اليهود والخزرج، واستبداد عبد الله بن أبي بهم؛ لأنه لم يكن ليظهر سخطه على قومه ويرميهم بالغدر إلا ريثما يتمكن من السلطة فيمكن قبيلته بمعونة اليهود من خصومهم (الأوس)، وهذا المسلك لم يكن مستغربا على طبيعة رأس المنافقين كما دلت حياته بعد ذلك وألاعيبه مع النبي إلى أن هلك غيظا، ولذا كان حقده على الأنصار لا يحد ولا يتسع صدره لأحد منهم، ولم يشفع في أحد غير اليهود، كأنه من ذيول بني إسرائيل وسماسرتهم - يؤيدني في هذا الرأي أن وفد الأنصار أخفى مفاوضته مع محمد عن عبد الله بن أبي، ولو كانوا يعرفون عنه إخلاصا أو يأمنون عاقبته ما قصروا في مشورته، وليس العمل كله دينيا؛ بل فيه نصيب سياسي، ومحمد لم يتفاوض مع الأنصار على أنه نبي وحسب، بل على أنه سياسي قدير يستطيع أن يحكم البلد وينظم أمورها ويخرجها من فوضى اليهود والمنافقين ويقيها شر الحروب؛ لحاجتها إلى الراحة بعد موقعة بعاث؛ فقد رأى أهل يثرب غداة بعاث أن الحرب مهلكة للنفوس، متلفة للأموال، وأنها بلاء على الغالب والمغلوب، وخسارة للفريقين إطلاقا.
وقد أقبل الأنصار لا ليتخذوا الدين وحده بل ليأخذوا صاحبه ليعينهم على إقامة حكومة تحد من قوة القوي والغني وتناصر الضعيف والفقير، أي حكومة شعبية دينية تسبق الحكومة الأرستقراطية الرأسمالية اليهودية التي كان السلولي يوشك أن يقيمها بالحيلة والدهاء، وقد كان التفاهم بينهم وبين النبي على ذلك، وإن لم يصرح به أحد من الفريقين، ولكنهما أخفيا الأمر عن قريش وعن أهل يثرب، ولذا تقول عائشة : إن الحرب كانت تمهيدا للهجرة، والحرب لا تكون إلا تمهيدا لتغيير سياسي؛ يصحبه أو يلحقه ظاهرة دينية. ألا ترى إلى حدود الاتفاقية أو المحالفة؛ لقد تعاهد الأنصار الأوائل على أن «لا يشركوا بالله شيئا، وهي المادة الأولى؛ مادة التوحيد التي جاء الدين بسببها، ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا الله في معروف» فإن وفوا فلهم الجنة (إنه لا يعد بشيء دنيوي)، وإن غشوا من ذلك شيئا فأمرهم إلى الله - عز وجل - إن شاء غفر، وإن شاء عذب.
وهؤلاء الأنصار قوم مهذبون تقريبا وقد قبلوا التوحيد للوهلة الأولى، ولم يعارضوا فيه، مع أن دينهم الرسمي هو دين قريش وكانوا يحجون ويطوفون بالبيت ويعبدون الأصنام إلخ، وقد قبلوا مبادئ أولية ضد الشرور الاجتماعية؛ فلن يسرقوا ولن يزنوا أو يئدوا أولادهم أو يكذبوا، ولهم الجزاء الأوفى، وإذا أخلوا بشرط فالمغفرة مقدمة، والأمر موكول إلى الله، ولا يمكن أن يوجد منهاج أبسط ولا أعظم من هذا المنهاج.
ولم يكن الأوس والخزرج قد أصابهم ما أصاب أهل مكة من الركون إلى الدعة والانغماس في الحياة اللينة وألوان البذخ والترف التي تملكت أخلاق البلد الحرام لأسباب شرحناها، بل كانوا على نصيب من البداوة وسلامة الفطرة؛ لأن مدينتهم لم تكن على طريق القبائل والقوافل، وقد استقروا بسبب انشغالهم بالزراعة والصناعة التي أوجدها اليهود في المدينة نفسها، وما زال التشريع الذي جاء به القرآن في هذه الفترة قليلا، وهو مثل الشريعة المحمدية كلها ليس فيه ما يخالف العقل والمنطق أو تأباه الطبيعة الصافية البدوية.
وقد انتظر النبي عاما بعد هذه البيعة الثانية في مكة إلى أن يوافيه وفد من الأنصار أكبر من الوفد الثاني، ولتصل إليه أخبار تلك البلدة الجديدة التي صممت خلاصة أهلها على أن يحتضنوه ويعتنقوا دينه الجديد، ويهمنا كثيرا وصف الحياة التي عاشها رسول الله بين أعدائه وخصومه وهو الذي دخل وطنه ومسقط رأسه ومبعثه ومهبط وحيه في جوار المطعم بن عدي الذي طلب إليه في أدب وخشوع أن يكف مؤقتا عن توجيه الدعوة إلى هؤلاء الذين لا يستحقونها، ولكن النبي كان في شغل شاغل بإعداد مهاجرة المستضعفين من المؤمنين.
في السنة المقبلة جاء إلى الحج من الأنصار الموالين للنبي خمسة وسبعون رجلا بينهم امرأتان، وكان غير هؤلاء المسلمين كثير من المشركين من الأوس والخزرج جاءوا للحج والتجارة، ولكن المسلمين زادوا ستة أضعاف عن وفد العام الماضي، وجد جديد؛ وهو دخول العنصر النسوي في زمرتهم، وهو عنصر كريم تقوم على حنانه ووفائه مبادئ الإنسانية والرحمة والطهر والعفاف التي حفل بها الإسلام، ولكن ما زال المقصود والقاصد في حاجة إلى التكتم الشديد؛ فإن النبي كان يحذر علم القرشيين بما يدبر له الله من النجاة والفرار، كما كان الأنصار لا يريدون أن يطلع على أمرهم أحد من أهل بلدهم أو من أهل مكة الذين أبغضوهم منذ عرضوا عليهم محالفة يشتد بها أزرهم على اليهود في يثرب، وتخلص منهم المكيون؛ خوفا من عداوة القبائل الأخرى، ومن خصومة اليهود، وخشية أن يحسبوا في صفوف محاربيهم، فاجتمعوا ليلا عند العقبة، في الطريق بين مكة ومنى، وفي هذه المرة تقدمت المحالفة خطوة جريئة؛ فقد عاهدوه
صلى الله عليه وسلم
على أنه منهم، وأنهم منه، وعلى أن من جاءهم من أصحابه أو جاءهم هو نفسه أن يمنعوه ويمنعوا أصحابه مما يمنعون منه أنفسهم، فلم تتخذ هذه البيعة صورة الحماية التي يسديها قوي إلى ضعيف، ولا الاعتراف بالسيادة التي يقدمها العبد للسيد، ولكنها اتخذت صورة المساواة الذاتية والجود بالذات في سبيل الذود، وبهذه البيعة أمسى لرسول الله والمؤمنين بيثرب أنصار يئوونهم ويدفعون عنهم ويعتبرونهم كأنفسهم.
إن المقارنة بين مكة والمدينة ليس هذا موطنها، ولكن لا نملك أن نعوق القلم عن ذلك التأثير الخفي الذي سرى من مكة إلى المدينة، فإنه قبل كل شيء وبعد كل شيء وعلى الرغم من مقاومة المكيين للرسول ودعوته فإن محمدا مكي مولدا ووطنا، ووحي الله إليه جاء في مكة على ذروة أحد جبالها، واشتد ساعده في بيوتها، وبيت الله الحرام وكعبته المشرفة في قلب مكة، وإن تكن مكة معروفة لدى أهل المدينة مذ كانوا يحجون إليها في كل عام في عهد الجاهلية والشرك ويتجرون في أسواقها، إلا أن أهل المدينة لم يشعروا بحاجة إلى الاتصال الروحي أو العقلي بأهل هذا البلد، ولكن ظهور النبي كان عاملا قويا في الاتصال العقلي الروحي والسياسي، وقد عادت كل هذه بخيرات كثيرة على المدينة وأدت بها إلى أن صارت عاصمة الإسلام على مدى أجيال متعاقبة، وجعلتها في موضع المدينة الغازية الفاتحة؛ فمنها تجهزت الجيوش الجرارة التي حاربت وانتصرت في بدر ومكة وثقيف والخندق وخيبر واليمن والعراق والفرس والرومان وسوريا ومصر.
وإنك لتعجب إذ تقف بجوار العقبة وتعود بالخيال والذاكرة إلى تلك الليلة المشرقة من ليالي الحج عندما اجتمع الرسول ونفر من أصحابه بهؤلاء الرجال؛ ليشيدوا أساس التاريخ العالمي، ولم يكن غير الرسول بينهم بعالم ما تخبئه الأقدار لهذه الطائفة من الرجال من المجد الذي يشهدونه ويحرزونه في حياتهم، ثم تتصل حباله المتينة إلى أولادهم وأحفادهم إلى آخر الدهر.
لا يسع السائر في تلك القفار، المتنقل بين تلك الوديان والجبال، القاطع الطريق الوعرة بين مكة والمدينة طردا وعكسا إلا أن يستعرض تلك الحوادث الجسام، وإن هناك عنصرا لا يخفى على فكرة القارئ الفطن؛ وهو أن محمدا - عليه الصلاة والسلام - لم يكن غريبا عن المدينة؛ فإن له خئولة وأهلا، وإن والده نفسه قد دفن بالمدينة، وإن جده عبد المطلب (شيبة الحمد) مولود بها وعاش في كنف أمه إلى الثامنة من عمره، وكانت آمنة تذهب لزيارة قبر زوجها في حماية حميها عبد المطلب وصحبة جاريتها أم أيمن، وقد ماتت في عودتها الأخيرة ودفنت بالأبواء، وقد توثقت هذه العلاقة بنص البيعة، وقد أشرنا إلى المقاصد السياسية التي رمى إليها طلائع الأنصار، وها هم يفاتحون بها الرسول صراحة ويطرحون عليه حالة قومهم، وما انتشر من الشر بينهم؛ فقد قال له أحد مقدميهم في ليلة العقبة: «إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.»
كانت هذه آخر كلمة ودعوا عليها النبي في تلك الليلة الكبرى.
إنهم يقولون: نحن نعادي مكة والمدينة ونتعرض لأخطار شديدة بالانضواء تحت علم الله ربك وربنا، وإن تكن تلك الأخطار لا تخيفنا فقد قدمنا العهد بأنك منا وأننا منك، ولتكون على بينة من أمر قومنا وهم شركاؤنا في البلد؛ فاعلم أنهم على أشد الخصومة فيما بينهم، وأنهم قد انشقوا وتحزبوا واختلفوا فيما بينهم، لا قوم سواهم يضمرون العداء بعضهم لبعض كالعداء الذي تضمره أحزاب المدينة، وقد قمنا نحن بهذه البيعة أصلاء لأنفسنا ووكلاء بغير توكيل عن بقية مواطنينا، مجازفين ومخاطرين ومغامرين مجازفة ومخاطرة ومغامرة في سبيل الله ورسوله، وها نحن سنعود إلى بلدنا لنقف مواطنينا على ما تم بينك وبيننا، فإن استطعنا إقناعهم بقبول دعوتك فلن يكون أحد أكثر منعة وعزة منك؛ لأن الكل سيدين لله الذي تدعو إليه.
وإنها في الحق كلمات رجال لا تصدر عن ضعفاء ولا مترفين ولا مراوغين أمثال أهل مكة، قوم يفاوضون عن أنفسهم فيعطون المواثيق ثم يرغبون في تعظيم الدعوة وتوسيع نطاقها فيرجون أن يوفقوا إلى الإعلاء من شأن النبي بإقناع قومهم والقضاء على التفريق والخلاف الذي خلوه وراءهم ينخر في عظام مجتمعهم المدني.
لم يمر أهل المدينة بدور الحكومة القبلية التي قامت على أساس دار الندوة في مكة، مما دل على أن هذا النظام المكي القرشي لم يكن ضروريا لحياة الجماعات ولا محتما في التقدم أثناء الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، ولعل النظام المكي كان فريدا في بابه؛ لأنه نوع من الأرستقراطية المستبدة القائمة على رءوس المال وتجارة النقل والانتفاع بالكعبة دون التصدي للدفاع عنها عند مقتضى الحال؛ فقد تخلوا عن الدفاع لدى حملة الفيل، ولم يمد أحد يده للحرب، حتى أصحاب الوظائف الرسمية؛ كالسقاية والسدانة، ولم نجد نظاما شبيها به في أحد بلاد الحجاز أو غيره ، ولكنه كان نظاما شديدا يبدأ بإعلان بلوغ البنات سن الرشد وينتهي بجمع الأموال وحشد الجيوش وتجهيز الحملات التي تصل إلى عشرة آلاف محارب، فوق ما يصحبها من الإبل والنساء وتستنزف الأموال الطائلة، ولكن هذه المظاهر لم تكن محتمة لتظهر الرجولة والعظمة في أهل المدينة، ولم يكن هؤلاء الرجال الذين بايعوا النبي عند العقبة بضعفاء أو مرتابين أو خجلين، بل كانوا يصارحون النبي وهم يبايعونه؛ اسمع إلى أحدهم وهو يسأل الرسول عن عواقب الأمور: «يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال أحبالا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟» لقد كان هذا السائل شجاعا، ولكنه سليم القلب بسيط، ولعله لم يكن يعلم الكثير من أخلاق النبي، ولو علم ذلك ما سأل هذا السؤال، ليس هذا لأنه مثال الوفاء والصدق والأمانة وأن خلقه القرآن، ولكن لشدة حاجته وحاجة أصحابه المهاجرين إلى المدينة، وحاجته إلى خلق جديد وجيل جديد وأخلاق جديدة تتسع لدينه بعد ظهور الفشل في قلوب المكيين وعجزهم عن إدراك الإسلام والاستغناء به عن الوثنية، وكان السائل يعلم يقينا أن صلتهم برسول الله ستقطع علاقتهم باليهود، وهذا ينفي ما قيل من أنهم استقبلوه بحفاوة ظانين أنه المبعوث إليهم، فهؤلاء الناس كانوا يعلمون يقينا أن محمدا مبعوث لكل الأمم؛ لأن موسى لم يبعث إليهم وحدهم، بل دعا الفراعنة أنفسهم إلى دين التوحيد الذي كشف له عنه بعد دراسته في هياكلهم بوحي إلهي أو ناموس سمائي.
لم يصبر النبي على هذا السؤال بل بادر إلى الرد عليه بابتسامة تنفي الشكوك وتضيء ظلمة الفكر وتثبت القلوب التي في الصدور وتجلو غوامض الظنون، إنه ليس بالرجل الذي يستغل الرجال لمصلحة نفسه، وليس بالذي يستند إلى القرى؛ ليستعين ببعضها على بعض أو يحرضها على الحرب ليسود أو يفرق بينها ليغنم، قال جوابا على سؤال الأنصاري الذي يريد أن يطمئن قلبه: «بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم.»
وهذا التصريح قطع بالبيعة شوطا أبعد من الذي قطعه الأنصار؛ فقد ذكر الدم والهدم وتوحيد الحرب والسلم، وهذه المبادئ هي أساس دستور المدينة الذي أملاه الرسول وأقره وأخذ عليه تعهد المدنيين والقبائل بعد ذلك. (4) الهجرة إلى المدينة
لا يسع كل زائر للمدينة إلا أن يسأل عن الطريق التي سلكها النبي
صلى الله عليه وسلم
هو وصاحبه أبو بكر الصديق ورفيقه في الطريق وضجيعه في الروضة الشريفة النبوية، والله أنيسهما في الغار؛ فإن الطرق من مكة ومن جدة إلى المدينة متشعبة، وبينها أربعة دروب مشهورة، ولا نتعرض إلى هجرة أصحابه الأول الذين هاجروا بأمر الله وإذن الرسول في السنة الثالثة عشرة للنبوة بعد استهلال المحرم من تلك السنة، وقد يدرك القارئ لوعة المؤرخ المشتاق وهو يجوس خلال مكة في مواسم الحج؛ ليتعرف على مواقع الديار التي سكنها الرسول والمؤمنون والتي أخرجوا منها على الرغم منهم وذكرها القرآن في مواطن عدة:
خرجوا من ديارهم ،
كالذين خرجوا من ديارهم ،
وأخرجوا من ديارهم ،
من قريتك التي أخرجتك ،
وأخرجوكم من دياركم .
فجعل الله للخروج من الديار شأنا عظيما وخص المهاجرين بالآية الكريمة:
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون .
ولم يكن الخروج مقصورا على الفقراء الذين كان عندهم أموال قليلة، ولكنه شمل الأغنياء والأعيان أمثال أبي بكر وعثمان وطلحة وأبي عوف وبقية المبشرين بالجنة فوصفهم الله - سبحانه - بأنهم الصادقون.
وقد بادر المكيون الغادرون إلى وضع أيديهم على تلك الدور وصادروها واعتبروها أموال أعداء وتصرفوا فيها بعد برهة، ولكنهم قبل اعتزام هذا الاغتصاب تركوها فترة خاوية خالية من أهليها، وقد أعلقوها يأملون أن يعودوا إليها، وقد طالت هذه الفترة ثماني سنين، وقد أقفرت تلك الدور من خمسماية من ذويها في فترة قصيرة، كما خلت أندية مكة من زينتها من الرجال والنساء؛ لأن المهاجرين كانوا زبدتها وخلاصتها، ولم يكونوا كما زعم بعض المستشرقين والمشركين من زعانف القوم أو أطرافهم؛ فقد خلت وأقفرت دور بني مظعون وبني جحش وبني البكير، وقد مر بها بعض أئمة الشرك أمثال أبي جهل وهو الذي لقي حتفه في بدر، وكان في صحبة عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وهو الذي أسدى خدما جليلة للإسلام سرا، فنظر عتبة بن ربيعة إلى دار بني جحش وأبوابها تخفق يبابا ليس فيها ساكن ولا حارس فتنفس الصعداء، وأنشد:
وكل دار وإن طالت سلامتها
يوما ستدركها النكباء والحوب
وأهل مكة في كفرهم شديدو الطيرة، وإن كان بعضهم إلى الآن يبغض أن يسمع أبيات «الحجون إلى الصفا»، غير أن هذا العتبة لم يتنفس الصعداء ألما؛ بل شماتة وبغضا للنبي، وتلويما وتأنيبا؛ فقد قال: «هذا عمل ابن أخي، هذا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.»
انظر إلى شجاعة الرسول وهو يبعث المؤمنين إلى المدينة أرسالا، ينزلون على الأنصار في دورهم وهو باق بمفرده بين أعدائه، وهؤلاء الأعداء أشد ما يكون الأعداء فطنة في اللؤم والخبث ودقة الملاحظة، واستعدادا لتحميله عبء التبعات، نعم؛ إنهم لم يأمروا المهاجرين بالخروج، ولكنهم نكلوا بهم حتى أصبحت حياتهم مستحيلة، ولو أنهم صبروا عليهم أو تسامحوا ما خرج المهاجرون من ديارهم، وقد كانت الهجرة سلاحا جديدا يستعمل للمرة الثانية بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة، وهو ينجي المهاجرين ويفقر مكة من عناصرها الفاضلة، ويقفرها، حتى لم يبق من المسلمين إلا النبي وأبو بكر وعلي والمسجونون والمرضى والضعفاء، وهؤلاء المسجونون من المؤمنين الذين قدر المشركون عليهم وقيدوهم بالسلاسل؛ يسجن الرجل ابنه، والزوج زوجته.
وبعد اقتصار الأمر على التنهد والشعر، شغل أهل مكة به حتى دبروا مؤامراتهم على قتل الرسول، كما فعل قوم صالح، وفي ذلك يقول القرآن مؤرخا تلك المكيدة ومثبتا فشلها:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
وقد عبر القرآن ب «يثبتوك» عن الاعتقال والسجن؛ وهو من أعلى التعبير وأبلغه. •••
خرج النبي وأبو بكر ومعهما دليل وخادم من أسفل مكة فبلغوا عسفان في طريق على ساحل البحر، ومنها إلى أمج فقديد، وتخطوا بدرا ومالوا إلى الشرق مبتعدين عن ساحل البحر، وقصدوا إلى العوج، ثم هبطوا إلى وادي العقيق الذي يؤدي إلى المدينة، قطعوا هذه المسافة في ثمانية أيام، والإبل تقطعها عادة إلى الآن في ثلاثة عشر يوما، ولعله من جميل المصادفات أن وصل النبي إلى قباء، قرية بني عمرو بن عوف ظهر الإثنين 12 ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة، ويوم الإثنين يوم مولده ويوم بلوغه ويوم وفاته، وفي الحياة مصادفات وموافقات غريبة تكاد تكون مرتبة ومنظمة قبل حدوثها بمئات السنين والأعوام، وفي قباء مسجد كبير هو الذي بني على التقوى وفيه مبرك الناقة وفيه محراب الكشف، وهو على مسافة نصف ساعة بالسيارة من المدينة المنورة.
لا نبحث في شئون المسلمين في المدينة، ولكن نعود إلى مكة التي هاجرت زبدتها وخيرة رجالها ولم يبق منها إلا رءوس الشرك وأهل الخبث والبطر حتى من عائلة النبي - عليه الصلاة والسلام، فإنهم لم يكتفوا بنهب الدور التي خلفها المهاجرون وفتح حساب جديد في دفاترهم التعسة للأموال التي سلبوها؛ ليزيدوا رأس مالهم من دماء أقاربهم؛ فقد باع عقيل بن أبي طالب عم النبي المخلص دار الرسول ودور إخوته المهاجرين من الرجال والنساء ودور كل من هاجر من بني هاشم، وجعل نفسه وارثا لهم وهم على قيد الحياة! حتى إن رسول الله بعد الفتح دعي إلى العود إلى داره بالشعب فقال متهكما ومسجلا على عقيل عاره: «وهل ترك لنا عقيل منزلا؟» فدعي الرسول إلى بيت غير بيته فأبى، وقال: «لا أدخل البيوت.» ولم يزل مضطربا بالحجون ويأتي منه إلى المسجد، لقد كان محقا؛ فإن مزاجه الرقيق قد زهد فيما اختطفه الخاطفون كما يزهد الكريم في الثوب المسروق والمال المختلس، وحق أن يأبى الدخول إلى بيوت خصومه الذين أسلموا على الرغم منهم بعد أن شملهم عفوه، وحتى البيوت التي جعلها آمنة لفرار المشركين إليها كدار أبي سفيان الذي أبت كبرياؤه وبطره إلا أن يكون زعيما في الشرك وزعيما في الإسلام؛ تعلقا بحب المظاهر التي أضاعت كثيرا من مجد الإسلام، وأية رابطة تربط هذا النبي الكريم بهؤلاء الخبثاء ودورهم وليس بينها بيت طاهر غير بيت الله الحرام الذي كان يقصد إليه من الخلاء، قارن بين فعل النبي بعد فتح مكة وشممه وتعففه وعزة نفسه ورقة شعوره، وبين الغزاة والفاتحين الذين لا يكتفون بإباحة المدن المفتوحة أياما معدودة لجنودهم وسلب ما فيها واختيار القائد أعظم القصور وأفخمها للنزول بها، كما فعل قمبيز العجمي اللعين في مصر وآسيا، والإسكندر المقدوني في سائر البلاد التي فتحها، ونابوليون بونابرت، وبالجملة كل فاتح غربي أو شرقي في التاريخ، تجد هذا الرسول الغازي الفاتح قد انفرد بهذه المكارم، ويعتدي الفاتحون على المدن تقتيلا وتهتيكا وسلبا وليس بينهم وبين المغلوبين ضغن أو حقد؛ بل هم المعتدون، ولكن محمدا الذي أساء إليه المكيون وإلى من انتمى إليه كل أنواع الإساءة حتى قطعوا حبال الرحم والقرابة والمودة والمواطنة، لم يقابلهم بشيء مما يستحقون، لا لأنهم مغلوبون كما فعل الآخرون، ولكن على الأقل عقابا على ما فعلوا به حتى شروعهم في قتله وتآمرهم على اغتياله، وجعلهم جائزة مالية على من يتتبعه ويعود به حيا أو ميتا، تجد مثالا فذا في تاريخ الإنسانية.
ولم يقف نهب المال على أسرة النبي؛ بل إن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - وكان مشركا - عدا على مال أبيه بعد هجرته وبدده، ولم يكتف الرسول بحرمان نفسه من استرداد بيته؛ بل طلب إلى كبار المهاجرين أن يفعلوا مثله كدار عبد الله بن جحش التي أثارت رؤيتها شعر عتبة بن ربيعة وأبي حمد، ومن المهاجرين من لم يصبر المشركون على انصرافه حتى يأخذوا ماله فجردوه قبل هجرته؛ كصهيب الذي اشترى هجرته بثروته، وقد زادهم عليه حقدا أنه رومي، وأنه نجح بعض النجاح بعد إسلامه في مكة!
من أجل فضائل المدينة على الإسلام تتعلق بها قلوبنا ونرى نورها الوهاج ونحن على مقربة منها، وتدركنا تلك الروعة والفرح بالقدوم إليها؛ لأنها موطن الرسول وعاصمة الإسلام ومهد هؤلاء الأنصار العظام الذين حملوا شعلة الإيمان وفطنوا إلى جمال التوحيد وجلال الإيمان، «فسحبوا العدد الرابح» في حظوظ الزمان وكسبوا «الثمرة الأولى» في غفلة من أهل مكة الذين كان الكنز بين أيديهم ففرطوا فيه وطاردوا صاحبه، ولو قدروا لقضوا عليه؛ ليعيشوا على مدى الأجيال في رجسهم وفسقهم وقروضهم الربوية وعباداتهم الوثنية.
هؤلاء الأنصار الذين انقرضوا أنسالا وأخلافا ما عدا أسرة أو أسرتين، ولكن سرهم ما زال ساريا في بلدهم؛ فترى السماحة والكرامة في الوجوه والنفوس، نعم؛ إنك ترى الآن البخاري والسمرقندي والهندي والنيسابوري والفارسي والعراقي والسوري، وقل أن ترى الأوسي أو الخزرجي، وإن كنت ترى كثيرا من البدو يقيمون ويظعنون، ولكن تلك الدور وتلك الدروب وهاتيك المغاني والمناظر والأجواء كان لها نصيب في تكوين الأخلاق والضمائر، وجوار الرسول - عليه الصلاة والسلام - ومراقد الصحابة العظام وشوارع البلد التي رويت بدماء كثير من الشهداء، كل هذه تنقل إليك تأثيرا قويا لا تجده في مكان آخر، إن هؤلاء الأنصار الذين نرى آثارهم، وفي مقدمتهم أبو أيوب الأنصاري، وبيته لا يفصله عن حرم الرسول غير زقاق البدور، استقبلوا المهاجرين وهم حفاة عراة جياع عالة عليهم لم يكتفوا بالمؤاخاة وكرم الوفادة، بل كانوا يؤثرون المهاجرين على أنفسهم:
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .
فدعا النبي لهم بالبركة في مدهم وصاعهم وبطيب المقام فيها، ووصف ترابها بأنه شفاء من كل داء، وأن تلك المدينة التي وصف جوها قبل الهجرة بأنه وخيم وهواؤها مجلبة الحمى الراجعة وماؤها بالكدر والتلوث، حتى مرض كثير من المهاجرين واشتد بهم الداء، قد تغير فيها كل شيء، وتبدل، وأصبحت من أجمل بلاد الدنيا مناخا وهواء وجوا وخصوبة ورغدا وخفة روح، وإنك لا تملها مهما أقمت فيها، ولا تشعر بفرح كالذي تشعر به لدى القدوم ولا بحزن كالذي تكابده لدى الفراق، وإنك تشعر وأنت قادم عليها أن لك نصيبا من أجر المهاجرين بورود تلك البلدة التي أوى إليها الرسول فآوته، وأحسنت وفادته واستقبلته استقبال الملوك العادلين وهو بعد ما زال ضيفا لا يعلم إلا الله مقر الدار التي يضيفه أهلها.
شخصان معنويان يتجليان أمامك وأنت تخترق شوارعها للمرة الأولى قاصدا إلى الحرم النبوي؛ شخص المهاجر وشخص الناصر، فالمهاجر فقير طريد مليء قلبه بالإيمان بقدر ما فرغ بدنه من الطعام، واستأذنت الوحشة على نفسه بسبب هجر وطنه وحنينه إلى بلده بقدر ما استأنس بالله ورسوله وبالإيمان، وهو بعد ممتلئ حماسا وقوة كامنة لا تحد، وعناصر كفاح لا تعد، ستظهرها المواقع المقبلة، فتراه يتلقى الظفر مستبشرا والهزيمة صابرا، غير طامع في شيء إلا طاعة الله وحب الرسول، وهو يعيش عيشة حديثة في بلد غريب، وعلى كاهله تبعات وهموم وفي نفسه آلام؛ فقد ترك بلده وأهله وما درج عليه من نعومة أظفاره، وهو قادم على أن يكون عالة على قوم كرام لا علاقة بينه وبينهم إلا علاقة الدين الجديد، ومؤاخاة الرسول بين المهاجرين والأنصار، ولكن تلك الحال ليس من السهل احتمالها على كرام النفوس، وفيهم كثير من أهل الغنى في مكة، وقد انتقلوا فجأة إلى الفاقة الشديدة بسبب الهجرة، وقد خلفوا أموالهم ولم تكن هناك مصارف تحول إليها الأموال، ولا ذوو أمانات من أهل مكة يفرقون بين خصومة العقيدة وأمانة المعاملات؛ فقد نشئوا على السلب والنهب والاغتيال، ولا سيما أئمة الشرك؛ وعلى رأسهم أبو سفيان الذي أسلم بعد ذلك والسيف على عنفقته وعنفقة أنثاه هند آكلة الأكباد التي أسلمت بعد ذلك.
أما المناصر والنصير فلم يكن كرم الوفادة غريبا عليه؛ استمساكا بفضيلة البيعات الثلاث المتكررة، وعهد المؤاخاة الذي سنه رسول الله وزادهم مودة للمهاجرين أنهم رجال شرفاء هاجروا في سبيل دينهم وعقيدتهم، وليسوا طلاب مال ولا أصحاب طمع ولا غزو ولا اعتداء، فنعم الجوار جوارهم، وهؤلاء الأنصار ينتظرون النصر على يد النبي وأصحابه، النصر على مخالفيهم من قومهم، وعلى اليهود وهم أعداء الحزبين، فهذا النصير تتجلى مواساته لضيوفه الذين أصبحوا إخوانا في مقاسمة الدار والطعام والكساء والمال؛ فقد قالوا للرسول: اقسم لهم من أموالنا ما شئت، وينظر الأنصاري إلى المهاجر نظرة إعجاب وإكبار؛ فإنهم ما لبثوا عاما واحدا استعادوا فيه قوتهم بفعل الحرية والشعور بالخلاص من مكايد مكة حتى كانت موقعة بدر في العام الثاني، وقد رسم النبي فيها خطة الحياة الجديدة؛ إذ جعل من العنصرين جيشا واحدا هزم به قريشا وقضى على زهرة شبابهم وجزع كهولهم وجذر شيوخهم، وهكذا استجدت «زمالة السلاح» ووثقت المواقع روابط الألفة التي قامت على العقيدة ومكارم الأخلاق، وإن زمالة السلاح أو رفقة الحرب لمن أعظم الروابط ولا سيما في بلاد العرب، وأعلن الأنصار تضامنهم مع المهاجرين في قتال المكيين واليهود والعالم بأسره، وخرج الإسلام ظافرا ونجحت التجربة التي قبلها الأوس والخزرج وظنوا أول الأمر أنهم مخاطرون بها، وقطعت ألسنة المذبذبين الذين جبهوا الرسول بسؤالهم: «أتتخذنا وسيلة للقوة والظهور ثم تتخلى عنا وتعود إلى وطنك؟!» وإن كانوا أفرغوها في قالب أقل جفاء، ولكن المعنى واحد لا يتعدد، وصار الرسول نفسه ملكا للأنصار لا يقيم في مكة إلا ريثما يحج ويعتمر ويسعى ويطوف، أو ريثما يقسم الغنائم، أو يعد العدة للرجوع إلى بيته ومسجده.
كنت تشعر بشيء من هذه العزة التي شعر بها المهاجرون على الرغم من الشدة والألم والمرض والحنين إلى الوطن كما تشعر بكرامة الأنصاري الذي حمل العبء راضيا، فكوفئ خير مكافأة.
من أجل العظمة التي صاحبت الأنصار قبل بيعتهم وبعدها ذكرهم القرآن بالخير، واستجاب دعوة النبي لهم، وجعل بلدهم عاصمة الإسلام في أعظم أيامه، ثم جعلها مقصد كل مسلم بعد عصر الرسول، وجعلها مصدر الحرية الدستورية ومقر الحكومة الشورية التي انتشر منها مبدأ الانتخاب إلى أقطار العالم، ووضع فيها سر القوة التي تتيح للقرية الصحراوية أن تفتح عواصم الحضارات في الشرق والغرب، وأجرى فيها حتى في عصور الانزواء ذلك التيار الكهربي القوي الذي جعلها جذابة محبوبة على القرب والبعد، ثم اختارها مرقدا ومضجعا للجثمان الأطهر، ومظهرا ومجلى لسره الساري في الكون؛ وهو نوره الذي لا يخبو، وشعلته التي لا تخمد، وقوته التي لا يدركها ضعف، وليس للزمان والمكان عليها سلطان، ومن أجل المشقات التي نالها المهاجرون قال الله في حقهم:
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا * ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما .
الكتاب الثامن
النبي في المدينة
المدينة عند قدوم النبي إليها
كان ساكنو المدينة في أول الدهر قبل بني إسرائيل قوما من الأمم الماضية يقال لهم: العماليق. وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل عز وبغي شديد، وكان نزوحهم من وطنهم الأصيل بسبب الفاقة، فحطوا رحالهم في المدينة؛ لخصوبتها، وخضرتها، ومائها، ونخيلها، وقد عرفت بطيبة ويثرب (مدينة تريفيس)، ويظن أنه كانت بها في وقت ما مستعمرة مصرية، فلما استوطنها العمالقة كانوا قبائل؛ منهم: بنو هف، وبنو سعد، وبنو الأزرق، وبنو مطروق، وكان ملك الحجاز منهم رجل يقال له الأرقم. ينزل ما بين تيما إلى فدك، وقد ملئوا المدينة، ولهم بها نخل كثير وزروع.
فهجم عليهم اليهود لما ضعف أمرهم، أما مجيء اليهود فقد قيل إنه في زمن موسى، وتبعهم غيرهم من بني ملتهم بعد سقوط أورشليم في يد الرومان، وانتشروا في البقاع الخصيبة ما بين الشام واليمن، وبلغ عددهم في المدينة عشرين قبيلة؛ لأنها كانت أخصب البقاع؛ لأنهم كانوا في الطور الزراعي، وأسماؤهم عربية ما عدا ثلاثا أو أربعا أبقوا على أسماء آرامية أو انتسبوا إلى رموز تاريخية لحيوان أو طير، وقد أسسوا سبعين أطما لحماية حياتهم وأموالهم، وعندما جاء النبي إلى المدينة مهاجرا كانت اليهود قلة بالنسبة للعرب، وكانوا أتباعا لا متبوعين؛ فكان فيهم بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو الفصيص، فكان يسكن يثرب جماعة من بني إسرائيل فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود، وكان يقال لبني قريظة وبني النضير خاصة من اليهود: الكاهنان. قال كعب بن سعد القرظي:
بالكاهنين قررتم في دياركم
جما تواكم ومن أجلاكم جدبا
وإذن يمكننا أن نتصور المدينة مقسمة بين اليهود وبعض بطون العرب منهم بنو الحرمان وبنو مرثد وبنو نيف وبنو معاوية وبنو الشظية وهم مزيج من أهل اليمن وغسان وغيرهما، ولكن السيادة كانت لليهود؛ لأنهم أهلكوا العمالقة وأفنوهم واحتلوا أرضهم، ولم يكن لليهود غنى عن تلك البطون العربية؛ لحاجتهم إلى اليد العاملة، فإن اليهودي قل أن يكلف نفسه مشقة العمل أو عناء الزرع مما يتطلب جهدا، ولا نعرف شيئا عن نظام الحكم في تلك البلدة إلا أن اليهود كانوا على شريعتهم والعرب إما مشركون، وإما نصارى؛ ولا سيما أهل غسان، ولا بد أن يكون بعضهم قد تهود.
فلما أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب؛ وهم الأزد، نصح رائدهم بعضهم بأن يلحقوا بيثرب؛ فقال: ومن كان يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل؛ فليلحق بيثرب ذات النخل. فكان الذين نزلوها الأوس والخزرج، فلما توجهوا إلى المدينة ووردوها نزلوا في صرار ثم تفرقوا فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم التي نزلوها بالمدينة في جهد وضيق في المعاش ليسوا بأصحاب إبل ولا شاة؛ لأن المدينة ليست بلاد نعم وليسوا بأصحاب نخل ولا زرع، وليس للرجل منهم إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من أرض موات، والأموال لليهود.
وبعد فترة من الزمن تولد الحسد في قلب الخزرج فتآمروا على قتل اليهود وأعانهم أبو جبيلة ملك غسان، فقالت سارة القرظية ترثي من قتل منهم أبو جبيلة:
كهول من قريظة أتلفتهم
سيوف الخزرجية والرماح
رزئنا والرزية ذات ثقل
يمر لأهلها الماء القراح
وقال أبو جبيلة للأوس والخزرج: إن لم تغلبوا على هذه البلاد بعد من قتلت من أشراف أهلها فلا خير فيكم! ولكن اليهود ناوءوهم وقاوموهم؛ غيظا وحقدا، وإن عجزوا عن أخذ الثأر فيمن قتل من أشرافهم وسادتهم، ولكن مالك بن العجلان الذي استنجد أبا جبيلة الغساني على اليهود أول مرة تعلم عنه وتلقى درسا في إفناء اليهود؛ فقتل منهم ثمانين رجلا؛ فذلوا، وقلت منعتهم، وخافوا خوفا شديدا، وتركوا التآمر بينهم على الأوس والخزرج، فيقول أحدهم: إنما نحن جيرانكم ومواليكم. فلجأ كل قوم اليهود إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بها، ونذكر أن اليهود عند قدومهم على العمالقة أفنوهم حتى آخرهم، فلم يبقوا على أحد يتعزز بهم بعد هوانه، أو يلجأ إليهم، ولكن العرب أبقوا عليهم.
ثم قامت حرب بين الأوس والخزرج سببها التنافس بين مالك بن العجلان وأحيحة بن الجلاح على أيهما أعز أهل يثرب، ولا يخلو الأمر من دسيسة يهودية؛ للقضاء على القبيلتين، وكان اليهود قد حالفوا قبائل الأوس والخزرج إلا بني قريظة وبني النضير؛ فإنهم لم يحالفوا أحدا منهم، حتى نشبت هذه المعركة فأرسلت إليهم الأوس والخزرج كل يدعوهم إلى نفسه، فأجابوا الأوس وحالفوهم، والتي حالفت قريظة والنضير من الأوس أوس الله وهي خطمة وواقف وأمية ووائل، ثم زحف مالك بن العجلان بمن معه من الخزرج، وزحفت الأوس بمن معها من حلفائها من قريظة والنضير؛ وهم أشرف اليهود، واسمهم الكاهنان كما قدمنا.
فالتقى الجمعان في فضاء اتخذوا منه ميدان حرب؛ بين سالم وقباء (وهي القرية التي نزل بها الرسول أول ما قدم المدينة وشيد بها مسجد قباء الشهير)، فاقتتلوا قتالا شديدا قرت به عين اليهود حتما، وكانت نتيجة هذه الموقعة الأولى انتصاف الفريقين؛ أي تعادلهم، فالتقوا مرة أخرى عند أطم بني قينقاع فاقتتلوا حتى حجز الليل بينهم، وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج، ففاز معهم حلفاؤهم من اليهود، وانهزم مالك بن العجلان؛ وهو عدو لليهود أصلا، ولبثت القبيلتان - الأوس والخزرج - متحاربتين عشرين سنة، فلما رأت الأوس طول العداء وأن مالكا لا يهمد ولا يني تقدم إليهم عاقل منهم هو سويد بن صامت الأوسي، وكان يقال له «الكامل» في الجاهلية؛ لأنه كان شاعرا كاتبا شجاعا سابحا راميا، فسمعوا له وهو يقول: يا قوم، ارضوا هذا الرجل من حليفه ولا تقيموا على حرب إخوتكم (يعني: الخزرج) فيقتل بعضكم بعضا ويطمع فيكم غيركم، وإن حملتم على أنفسكم بعض الحمل . فحكموا بينهم وبينه الحاكم المنذر أبا ثابت، ويقال ابنه ثابت بن المنذر بن حرام أبو حسان بن ثابت الشاعر المعروف، فعقدوا مجلسا عند بئر يقال لها: سميحة. فحكم بأن يؤدي حليف مالك؛ وهو كعب الثعلبي الذي قتله سمير من بني عمرو بن عوف، دية الصريح، ثم تكون السنة فيهم بعده على ما كانت عليه في الصريح على ديته والحليف على ديته، وأن تعد القتلى الذين أصاب بعضهم من بعض في حربهم ثم يعطوا الدية لمن كان له فضل في القتلى من الفريقين، فرضي الفريقان بذلك وتفرقوا. وسنرى كيف عالج رسول الله مسائل الحرب والسلم في العهد الذي أعطاه لأهل المدينة بعد ذلك.
لقد أحببنا أن نرسم هذه الصورة الصغيرة لتاريخ المدينة قبل ظهور الإسلام وهجرة الرسول، وهي ضرورية؛ لتعرف الحوادث العظيمة التي صحبت الهجرة وتلت إقامة الرسول؛ فقد صارت المدينة عاصمة الإسلام، وما زالت العناصر التي فيها أكبر عون للنبي؛ فالأوس والخزرج هم الأنصار، واليهود هم الذين اعترضوا النبي وناوءوه، ولم تكن المناصرة متيسرة لو كان اليهود وحدهم أصحاب يثرب، ولكنهم عزوا أول الأمر بعد فناء العمالقة، فلما حل الأوس والخزرج النازحون من الجنوب أطراف أرضهم في ضعف وفاقة استعبدوهم وقلدوا فرعون في ظلم الأوس والخزرج كما ظلمهم فرعون في القرون الخالية، وقد روى السمهودي في «تاريخ مدينة المصطفى»؛ وهو من أكبر الثقات، أن قيطونا أحد زعماء اليهود كان يدخل بعرائس العرب قبل أن تزف إلى أزواجهن حتى قتله شقيق إحداهن متخفيا في إزار العروس، ولعل هذا الحادث هو الذي دفع بمالك بن عجلان الخزرجي للاستنجاد بأبي جبيلة الغساني، فلما ذل اليهود بالقتل كفوا عن أذى الأوس والخزرج، وكان بنو قينقاع يملكون سوق المدينة، ولكنهم يحتمون بحماة من العرب، فتبدل الموقف وصارت السيادة للأوس والخزرج، ولولا هذه السيادة ما قدروا أن يعاهدوا النبي أو يبايعوه أو يدعوه إلى بلدهم، فصادف الوقت الذي هاجر فيه الرسول أن كان اليهود حتى الأشراف منهم (الكاهنان) قد انتحلوا أسماء عربية وأتقنوا تلك اللغة، أما انتحال الأسماء فقد جرت عادة اليهود أن يخلعوا أسماءهم ولسانهم في البلاد الأجنبية؛ لينسى الناس أصولهم، وكان من اليهود من يقول الشعر العربي كالسموأل وسارة القرظية، ومعنى هذا أن إقامتهم في المدينة وبين ظهراني العرب قد طالت.
أما ما زعمه ابن دريد واليعقوبي من أن قريظة وبني النضير عرب تهودوا فمخالف للحقيقة، فإن أقوالهم وأفعالهم وتمسكهم بتقاليد وعادات لا تصدر إلا عن بني إسرائيل تنقض ما ذهب إليه ابن دريد واليعقوبي، فالعربي الحديث العهد باليهودية لا يقرأ التوراة بالعبرية ولا يستمسك بما ورثه عن آبائه في مصر وبابل وكنعان، ولا يكون على شيء من الثقافة الدينية التي كان عليها يهود المدينة، ولا يجادل في الدين جدالهم، ولا يعرف من فنون الزراعة ومختلف الصناعات كالصياغة والتجارة وتدبير المال ما يعرفه اليهود الأصلاء، والعربي الحديث العهود باليهودية لا يعرف السحر ولا النفخ في العقد، ولا يستغني بالتعاويذ والأحجبة والكتابة السوداء عن الحرب والقتال، وحياة هؤلاء اليهود في المدينة كان كثير منها قائما على هذه الحرفة السرية وعلى إقراض النقود بالربا وتأسيس المصارف ورصد الحساب في الدفاتر وإتقان الكتابة، والعربي أمي بطبيعته، وقد أحصى ابن سعد في طبقاته من كتاب اليهود أبا عبس بن جبر ومعان بن عدي وأبي بن كعب وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وبشير بن سعد وعبد الله بن زيد وأوس بن خولي والمنذر بن عمرو، وغيرهم، وكانوا يكتبون بالعبرية.
ولكن الأوس والخزرج كانوا الكثرة الغالبة في المدينة؛ فيهم العشيرة والبطن والأسرة، والأفراد ينتمون جميعا إلى القبيلة، فكان كل فئة منهم تقطن خطة أو حيا، محاطة بنخلها وزرعها، في مساكن تشبه مساكن الفلاحين في كل أنحاء العالم، مبنية بالطين والتراب، وكان لبعض العشائر الكبيرة بيوت يجتمعون فيها للبحث في شئون العشيرة، ولم يكن فيهم هيكل ولا مسجد ولا معبد، ولبعض أشرافهم آطام يلجئون إليها بأموالهم وأولادهم في أوقات الخطر والشدة.
والآطام التي أوصى بها رسول الله وقال: إنها فخر المدينة وزينتها، مبنية بالحجارة السود في رأسها علامة بيضاء ؛ لترى عن بعد شاسع، مربعة الشكل كحصون العصور القديمة، وكانوا فيها بمأمن حتى إذا هزموا فلا يتعدى الظافر أبوابها.
ولا شك أن المدينة في الجاهلية كانت أحط من مكة وأفقر وأجهل؛ فأهلها يوشكون أن يكونوا على الفطرة، أعلى درجات الرجال عندهم الكملة الذين منهم الحكم، وهو ثابت بن المنذر بن حرام، لا فضل له إلا بالفصاحة والرماية، وهذه أرقى درجاتهم الاجتماعية، وعدد الكملة كان قليلا جدا فأين هم من فحول قريش وسادتها وذئاب مكة وقادتها؟! ولا عجب في ذلك؛ فقد كانت يثرب بلدة زراعية، ومكة حاضرة تجارية، فإذا احتاج أهل المدينة إلى تجارة حملها إليهم النبطيون، وكانت لهم سوق باسمهم في يثرب، وكانت المعاملة بالتمر بمعيار المد؛ لأنه أغنى ثمارها وأهم نتاجها؛ فهو وحدة النقد قبل الدرهم والدينار، كما كانت الإبل في مكة وحدة المعاملة، فأهل المدينة يتعاملون بما يقتاتون به ويقدرون على تصديره، وأهل مكة يتعاملون بما ينتقلون به ويحملون عليه متاجرهم، فلا شك أن أهل يثرب كانوا فقراء، وإن ذكر التاريخ رجلا واثنين، فلم يكن فيهم كعبد الله بن جدعان ولا أبي سفيان ولا عبد الرحمن بن عوف ولا عثمان بن عفان ولا أبي بكر الصديق، وعشرات من أرباب البيوت الغنية في الجاهلية، حتى كان لهم في الأعراس ثوب واحد، ويقترضون الحلي من اليهود، فأين هذا من بذخ مكة وزخرفها وحللها وزينتها وتبرجها، حتى كان لوالد العروس ثياب يلبسها ليلة زفاف كريمته ذات ألوان وعطور خاصة به.
وقد زاد في فاقة أهل المدينة تسلط اليهود عليهم يأكلون مالهم القليل بالربا؛ فإنهم وردوا المدينة فقراء وعاشوا فيها عالة، فاستعبدهم اليهود ثم وثبوا على اليهود فاغتصبوا منهم السلطة ولكنهم لم يغصبوا الأموال، ولو غصبوها وأحسنوا تدبيرها لحسنت حالهم، ولكنهم لم يفعلوا فبقوا تحت سلطان اليهود في كل ما له مساس بالمال.
ولما كان اليهود على شريعة موسى، والعرب على عبادة الأوثان، وليس بين الطائفتين أساس للتفاهم على الأمور العامة، فلم تكن لهم حكومة ولا قضاء ولا شرطة غير الحرب والصلح بالتحكيم وعرف الزراعة والتجارة، ولكن لم تكن هناك هيئة حاكمة يرجع إليها في الأمور الهامة كما كان في مكة شبه مجلس قروي في دار الندوة؛ لأن مكة كان لها مال وتجارة ورجال مسلحون يعبئونهم للقتال وقوافل جرارة من الإبل ومعرفة بالطرق والمواصلات وأسفار ومواسم للحج والتجارة والأدب، وكان بها مسجد ومعبد كبير يؤمه الناس من جميع الأقطار فيه مخدع للأوثان.
فأين للمدينة كل هذا أو شيء منه؟ فلم ينفعها الخصب وحده وطيبة الأرض وزراعة النخيل والأعناب بقدر ما نفع مكة جدبها وجفافها؛ لأن الطائف كانت قريبة، منها فاشتغلت العقول حتى أخصبت الخزائن بالمال، ونظموا شئونهم بقدر ما سمحت لهم ظروفهم، فكانت لهم تقاليد بلدية وأثارة من معرفة نبغ بها شعراء الجاهلية وبعض المتحنفين الذين كرهوا عبادة الأصنام، ولم يكن بمكة يهود يقرضون أهلها، بل كانوا يتقاضون فيما بينهم كما يفعل أهل دمياط حتى لا يعيش بينهم في زماننا هذا يهودي ولا رومي ولا أرمني، وكما فقدت مكة حكومة معترفا بها، كذلك كانت المدينة بغير هيئة حاكمة غير تبعة كل قبيلة بأعمال أفرادها، فإذا قتل قتيل دفعت ديته، وإذا نشبت معركة لم يسرفوا في إهراق الدماء، فإذا فر فريق مهزوم لم يتبعوه إلى مأمنه؛ ليبيدوه أو يجهزوا عليه، وقد رأينا في حرب الأوس والخزرج أنهم تقاتلوا في موقعتين؛ إحداهما فاصلة، فلما استمر المهزوم في المناوأة حكموا بينهم كاملا من كملتهم، فوضعت الحرب أوزارها بعد أن دفع الفريق الذي قتل العدد الأكثر من القتلى ديتهم، وهذا وضع غريب؛ فإن المنتصر هو الذي يدفع الغرامة، على خلاف ما استجد في الدول المتمدنة من أن المغلوب هو الذي يدفع ويغرم ويعمل على إعجازه إن لم تكن الإبادة ممكنة. •••
هذه حالة المدينة التي هاجر إليها النبي، وقد كانت له صلة نسب قديمة بها؛ فأخواله بنو النجار الذين منهم أبو أيوب الأنصاري، وبداره نزل النبي، وبجواره الأرض الفضاء التي بركت عندها الناقة فبنى عليها مسجده بعد أن اشتراها من يتيمين كانت لهما، وأصل نسب النبي وقرابته سلمى بنت عمرو إحدى نساء بني عدي بن النجار التي ولدت عبد المطلب بن هاشم جد النبي لأبيه، وهذه السيدة كانت قبل زواجها من هاشم عند أحيحة بن الجلاح سيد قومه من الأوس، وكان رجلا صنيعا للمال شحيحا عليه، يتبع بيع الربا بالمدينة حتى كاد يحيط بأموالهم، وكان له تسعة وتسعون بعيرا كلها ينضح عليها، وكان له بالجرف أسوار من نخل قل يوم يمر به إلا يطلع فيه، وكان له أطمان: المستطل، والضحيان، فقتل قومه رجلا من أصهاره بني النجار فأرادوا الأخذ بثأرهم، فجمع لهم أحيحة وأراد أن يأخذهم على غرة، فلما علمت زوجته سلمى بنت عمرو عزمه على حرب أهلها، أسهرته ليلة ثم انتهزت فرصة نومه في الهزيع الأخير من الليل فتدلت من الحصن بحبل شديد، وانطلقت فأنذرت قومها فاستعدوا له، وسماها قومها المتدلية، ولها منه عمرو بن أحيحة أخو عبد المطلب من أمه.
ومن أشهر أيامهم يوم بعاث الذي سبق هجرة الرسول بمدة وجيزة، وفي حوادث هذه الحرب يبدأ ظهور شخصيات كبيرة ممن كان لهم شأن في مناصرة الرسول أو مناوأته، منهم عبد الله بن أبي وأبو لبابة وأبو عامر الراهب وسعد بن معاذ، ومن مظاهر هذه الموقعة أن العداء كان استحكم بين الأوس والخزرج حتى استنجد كل منهم بعشرات القبائل، وعزموا على أن تكون حرب فناء فيبيد الظافر منهم عدوه المنهزم، وأن يهدم بيوته ويحرق زرعه، وكذلك هلك فيها زعماء من الفريقين، كعمرو بن النعمان رأس الخزرج، ودارت الدائرة على الأوس ففروا، فعز الأمر على حضير الكتائب فطعن فخذه بسنان رمحه وصاح: وا عقراه! والله لا أريم حتى أقتل، فتنطعت الأوس وجمعت صفوفها وحاربت حتى تغلبت على الخزرج.
وسوف نصف يوم بعاث بالإسهاب؛ لشأنه في الهجرة؛ فقد روي عن عائشة أنها قالت: إن يوم بعاث قدمه الله لنصرة الإسلام، وعندنا أن يوم بعاث أعد له اليهود عدته ولعبوا فيه لعب الثعالب، وقد انتصروا فيه وحلفاؤهم الأوس على الخزرج، فكان من الخزرج أكبر أنصار النبي، وتابعهم الأوس؛ لما رأوا عظمة الرسول وعدله.
كان أول من رأى قدوم الرسول رجل يهودي؛ لأنهم كانوا يترقبونه، وهم على ذكاء وفطنة وقدرة على التجسس، فلما رآه قال: «يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء.»
كان دخول الرسول مدينة يثرب أو مدينة النبي كما سميت بعد ذلك حادثا من أعظم حوادث التاريخ الإنساني؛ فقد اعتدل ميزان الكون واتجه إلى غايته الجديدة الصحيحة، وبدأت سلسلة من الأعمال الجليلة كان لها أعظم أثر في حياة العالم إلى عصرنا الحاضر، وسيكون لها هذا الأثر الأعظم إلى آخر الدهر، وقد بركت الناقة عند مربد اليتيمين من بني النجار؛ وهم أخواله، كما بركت في قباء في الأرض التي شيد عليها مسجد قباء (مسجد أسس على التقوى)، وما يزال مبرك الناقة في قباء، شاهدناه بالعين، وعليه كتابة باللغة التركية.
وفي نظرنا أن نزول الوحي بمكة أول البعثة، ودخول المدينة في الهجرة، ودخول مكة بالفتح في العام الثامن هي أعظم لحظات الحياة المحمدية، وعندنا وصوله المدينة أعظمها؛ لأنه تمكن في بضع سنين لا تتجاوز أصابع اليدين من تأسيس دولة الإسلام وإقامة التشريع لها كاملا، وفيها أسس بيته وأتم السنة، وأتم الله نزول القرآن وبدأت المغازي المهمة؛ كبدر، وأحد، والخندق، والفتوحات العظيمة في أنحاء الجزيرة، وفي البلاد الخارجية.
كان النبي حازما رأيه مستهديا بالوحي والإلهام، فشاد مسجده كما شاد مسجد قباء بالطين والتراب وجذوع النخل، وقد صار هذا المسجد أجمل وأعظم مسجد في العالم بعد المسجد الحرام، وأعان في بنائه؛ يحمل المونة، وينشد الحداء؛ ليشجع البناء، ولم يفكر في مال ولا ملك ولا تجارة؛ فقد مارس التجارة في مكة إلى أن ألجأه المشركون إلى الفرار والهجرة، فخرج لا يحمل معه شيئا سوى زاد الطريق، ولا يصحب أحدا غير أبي بكر الصديق، ولكنه كان يفكر في أنصاره والمهاجرين قبله؛ فقد سبقه إليها فريق منهم كالذين هاجروا إلى الحبشة، وكان يفكر في الدعوة إلى الإيمان بدين الله وفي توفير الطمأنينة لمن لبوا دعوته وأجابوا نداءه، ففرض حرية الاعتقاد؛ فلا إكراه في الدين؛ لينال هو وأتباعه نصيبه من تلك الحرية التي فرضها؛ فقد علم اختلاف العناصر في المدينة، كما علم أن أهل مكة لن يتركوه في راحة ولن يقصروا في إيغار الصدور وتوليد الأحقاد في نفوس من يجدونهم على استعداد.
لقد وفد على مكة وفد من الخزرج يستنجدون قريشا على الأوس واليهود، فخذلهم القرشيون، فلا بد أن يكون بعض اليهود وبعض الأوس على وفاق مع المشركين الذي لم يقبلوا مناصرة الخزرج عليهم، ولا بد أن يكون معظم الأنصار من الخزرج، ولا بد أن ينظر اليهود والأوس - وهم مشركون - بعين السخط إلى هذا القادم الجديد الذي يحمل رسالة سماوية ويبدو عليه البأس والعقل والثبات.
المسلمون في المدينة قلة ضئيلة لا يتجاوزون مائتين من المهاجرين والأنصار، والمشركون من الأوس والخزرج كثرة ساحقة، واليهود قلة قوية غنية محاربة، وليس عهدهم بيوم بعاث ببعيد؛ فلم يمض عليه ست سنوات، وما زالت العداوة كامنة وكانت حربا أرادوها للفناء.
اليهود - ولا سيما أشرافهم - دهاة وأهل تاريخ قديم وثقافة دينية، وهذا رجل عظيم مقبل من بلد بعيد كان فيه مضطهدا، وقد عرفوا الاضطهاد قديما وحديثا، ولعل هذا القادم ينصرهم أو يشد أزرهم أو يحدث بسبب دينه المنزل توازنا بينهم وبين خصومهم، فرحبوا به وأحسنوا استقباله، وقد بدأ الرسول حياته في هيئة اجتماعية جديدة تختلف عن وطنه اختلافا كبيرا، عليه أن يربيهم؛ لينتج منهم شعبا، كما فعل موسى باليهود في صحراء التيه. وقد أحس براحة؛ لأنه نجا من أخطار أعدائه؛ وفيهم أقاربه وجيرانه، وفلت من أيديهم ليلة المؤامرة على قتله، فلن يرى في شوارع المدينة وجوه السوء، ولن يحذر على حياته أنى ذهب، وإن يكن قلبه لا يدخله الخوف والحزن، إلا أنه كان يخشى على حياة أهله وأصدقائه؛ فقد كانت زوجته سودة، ومخطوبته عائشة لم يدخل بها إلا بعد ثمانية أشهر من الاستقرار في المدينة بعد الهجرة، وكان حوله وزيراه وصديقاه أبو بكر وعمر، وابن عمه علي وزوجته فاطمة، وكل بناته وأزواجهم ما عدا زينب وزوجها، ورهط من فضلاء الأنصار وشجعانهم، لقد أبدله الله بلدا ببلد وأهلا بأهل وجيرانا بجيران وخصبا بجدب وخضرة بجفاء وثمارا وأعنابا ومياها عذبة تفيض بها غدران وأنهار وآبار عميقة الأغوار تطفئ الظمأ وتروي الأرض فتنبت من كل فاكهة زوجين، وهذه آفاق مفتوحة يسافر فيها النظر فلا تحده تلك الجبال الشامخة الجرداء التي تحيط بمكة إحاطة السوار بالمعصم، هذه أودية خضراء يجودها الغيث وتملؤها الأشجار وتزينها الآطام والقصور، ولا يحد النظر إلا جبل أحد، وقد كان الرسول يحبه فقال: «أحد جبل يحبنا ونحبه.» وإذا كان الجبل أحبه، فما بالك بالقوم وهم الذين بايعوه ودعوه إلى بلدهم وقد فهموه بعد لقاء مرتين ولم يفهمه أهل مكة والطائف بعد جهاد ثلاث عشرة سنة قد خلفت لا ريب في نفسه مرارة؟!
لقد اقتنع الرسول أن الحق والصدق والعدل لا تقوم في العالم إلا إذا دعمتها قوة السيف والرمح وسالت بسببها الدماء الغزيرة، إن صاحب الحق والعدل والصدق والفضيلة قد يسعد بها في نفسه، ولكنه حتما يشقى بها عندما يلقى المجتمع؛ المجتمع القائم على الواقعات وعلى الكفاح والطمع والكذب والرذيلة، فإن أردت أن تغلب هذه المبادئ السامية على تلك الأدواء الفتاكة فلا بد من حمل السلاح وشد الرحال وقهر خصومك بالسيف؛ لتسود مبادئك، فما بالك إذا كانت هذه المبادئ هي شريعة الله ووحيه وإلهامه وإرادته وفي مقدمتها عقيدة التوحيد؟ لا بد لمحمد من أن يجهز جيشا لقهر مكة للقضاء على باطلها، ومهما ثبت مركزه في المدينة ورسخ قدمه؛ فإن رسالته تبقى ناقصة إن لم يفتح تلك البلدة ويجبر أهلها بالقوة المادية على قبول الإسلام؛ حبا أو كرها، وإلا فإنه يدوم صاحب دين محلي مقصور على يثرب، كما كان أخناتون صاحب عقيدة توحيد في عبادة قرص الشمس؛ فقد أبق إلى تل العمارنة وعبد ربه قرص الشمس، ودعا إليه من دعا، ولم يلبث أن مات حتى انقرضت العقيدة وأرغم كهنة آمون رع خليفته توتنخ آمن على الردة والعودة إلى طيبة؛ لتمجيد الآلهة القديمة؛ لأن أخناتون كان يؤثر السلامة معتمدا على هداية العقل والقلب، ولكن هذه خطة فاشلة قديما وحديثا، فإن لم تدافع عن عقيدتك بالسيف فلا تفوز تلك العقيدة أبدا، وهذا صحيح في كل زمان ومكان ومنطبق على كل رجل وعلى كل جماعة وكل أمة وكل عقيدة؛ ولذا أراد الله أن يظهر الرسول بمظهر البشر في حروبه، فكانت سجالا؛ ينتصر في بعضها ويهزم في بعضها؛ ليكون درسا وموعظة للبشر الذين لا يعينهم الوحي ولا يرسل الله لهم جيوشا من الملائكة تشد أزرهم في المعارك، وليعتمدوا على أنفسهم وأخلاقهم في نصرة مبادئهم، ومعرفة هذه الحقيقة والاقتناع بها كاف للحفز على العمل، لا بد من الحرب بالسيف؛ سواء أكان دفاعا أم هجوما.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
فكر الرسول أول ما فكر في رابطة الإخاء؛ وهي الطريقة التي اتبعها في دار الأرقم منذ عشر سنين، فآخى بين المسلمين من أهل مكة، ولكنه هنا يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، المؤاخاة أخت المساواة، والمهاجرون أحوج إليها، والأنصار متعطشون؛ لأنها جديدة، ولأنها تدعوهم إلى إظهار عاطفة الكرم والرحمة، وهم عرب وكرام، وقد اتخذوا دينا جديدا شرح صدورهم ووضع عنهم أوزارهم ورفع ذكرهم؛ فلا أقل من أن يقبلوا على أضيافهم وإخوانهم في الدين؛ ليظهروا حبهم وعرفانهم بالجميل، وقد جمع بين اسميهم في كلمة موفقة أثناء بناء المسجد:
ما العيش إلا عيش الآخرة
نصر الله الأنصار والمهاجرة
فكان لهذا الحداء رنين وطنين، ولم تكن المؤاخاة تقليدا عرفيا؛ بل إنها مبدأ قانوني أدخل في المدينة رابطة مدنية أقوى من رابطة الدم، فكما كان المسلم في مكة أحب إلى المسلم وأبغض إلى المشرك، كذلك صار المسلم المهاجر أحب إلى الأنصاري المقيم أكثر مما يحب الأنصاري شقيقه المشرك من الأوس أو الخزرج أو من حلفائهم اليهود، فهي رابطة في الدرجة الثانية ترقيا، وصار المهاجر يعتبر المدينة وطنه، والمسلم الخزرجي أو الأوسي أخاه حقا وصدقا، له عليه حقوق الإخاء والجوار والإسلام؛ فهذه المؤاخاة في حكم القرابة بالدم والنسب بالمصاهرة، وتوثقت تلك الرابطة؛ لأنها قامت على الوحدة في الدين والحاجة إلى التساند في القتال دفاعا وهجوما واتحاد الفكرة الاجتماعية والخلقية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية، وكان من المحتم على المهاجرين أن يقبلوا ضيافة إخوانهم الأنصار، فهم أهل البلد وذوو البيوت العامرة فيها، وليس منهم من هو أكبر شأنا من الرسول نفسه؛ فقد قبل ضيافة أحد أخواله أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، وبيته لا يفصله عن المسجد سوى زقاق البدور، ولكن لم تكن الضيافة لتدوم إلى الأبد، وليس الله بقابل أن يبقى المهاجرون في سبيله عالة على الأنصار الذين - وإن كبروا نفوسا وصفوا قلوبا وسموا خلقا - ليس لديهم من المال ما يكفي جميع المهاجرين أو ما يسد كل مطالبهم، فاتجه من حذقوا التجارة نحو الأسواق، ومن هؤلاء عبد الرحمن بن عوف؛ وهو من نوابغ المشتغلين بالمال قديما في مكة، فأحرز ثروة طائلة، واتخذ بعضهم الزراعة عملا، وتقدم البعض إلى أعمال البناء، ولا ننسى أن الأعمال التي كان المهاجرون يجيدونها محدودة؛ لأن بلدهم بلد تجارة لا صناعة، والتجارة في حاجة إلى رأس المال، وهم معدمون؛ فلا عجب أن يكون منهم فقراء معدمون أقطعهم رسول الله صفة المسجد، وهو الآن مكان ملاصق المقصورة النبوية في الحرم المحمدي، تمر به وقد جعلوا من الصفة مكانا مبلطا بالمرمر، وإنك تتخيل وجوه هؤلاء المساكين «أهل الصفة» الذين لا مأوى لهم غير المسجد، يأكلون فيه ويشربون من صدقات الرسول والقادرين من المهاجرين، ولم يذهب اعتبارهم وإن لم يكن لا مأوى لهم ولا عشائر لهم، روى أبو هريرة أنه رأى ثلاثين رجلا من أهل الصفة يصلون خلف الرسول ليس عليهم أردية! ومنهم واثلة بن الأسقع الذي وصفهم وروى خبرهم، وأقسم محمد قال: «والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئا ترونه.» وكان أبو هريرة الصحابي المشهور من أهل الصفة في حياة الرسول قال: «كان ليغشى علي فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع.» (وهي مسافة تعد بالخطوات ولا تزال معروفة مبينة في الحرم النبوي)، وكان أبو ذر الغفاري الصحابي الجليل من أهل الصفة.
وإنما أردنا أن نصف حالة البؤس التي كان عليها بعض المهاجرين في بلد لم يكن فيه الغنى بالغا ولم يكن أنصار الرسول فيه من الأغنياء، ومعظم المال في أيدي اليهود والمشركين والمنافقين أمثال عبد الله بن أبي، فكانت فكرة المؤاخاة خير ما أنفذه الرسول؛ فآخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد، والزبير بن العوام آخى كعب بن مالك، وكان نظام المؤاخاة يقتضي التوريث بالإخاء؛ فلو مات أنصاري عن مال كثير وله أقارب من دمه مشركون وأخ مهاجر ورثه المهاجر وحرم الأقارب، فصار الإخاء إلى فترة طويلة علاقة قانونية مبناها الإيمان ومعناها حلول العقيدة محل قرابة الدم.
وثيقة دستورية
دستور المدينة
رأى محمد - عليه الصلاة والسلام - أن المدينة خلو من القوانين العامة والخاصة إلا ما ذكرنا، وأنها عرضة للنزاع المسلح من حين إلى حين بحكم ما يقع بين الجماعات الفطرية في مجتمع مختلط، وأن اليهود؛ وإن لم يكونوا أخلص عنصر أو أشرف عنصر فهم بمالهم وثقافتهم الدينية ومحالفتهم الأوس وتعودهم الحرب وقصورهم الحافلة بالعدد، حتى إن بعضهم ليأكل في أواني من ذهب وفضة، وجدهم أقوى عنصر؛ وهو مطبوع على السياسة ومكارم الأخلاق، فتلطف فيهم، وقابل حسن لقائهم بالمجاملة، وأعانه الله - سبحانه وتعالى - بذكر موسى وهارون وعمران - عليهم السلام - فشاد بفضلهم، كما شاد بفضل عيسى وأمه قبل توجه المهاجرين إلى الحبشة، ولكن القرآن أنكر ألوهة عيسى ولم يزد على كونه نبيا مرسلا، وسن الرسول سنة الصيام في يوم عاشوراء؛ لحكمة رآها، وفي القرآن من قبل في السور المكية كثير من شريعة موسى؛ كالتطهر، والختان، ومبدأ العين بالعين والسن بالسن، وليس كما توهم البعض تقليدا للتوراة، ولكن لرابطة الدم والتقاليد بين عرب الحجاز وإبراهيم الخليل الجد الأعلى لبني إسرائيل، وزاد الله أن أرشد الرسول إلى اتخاذ بيت المقدس قبلة للمسلمين؛ لأن معراج الرسول بدأ من عتبة في المسجد الأقصى، فكان هذا العهد عصرا ذهبيا لليهود؛ لأنهم اطمأنوا للمسلمين، ولم يجدوا مخالفة جوهرية بين الدينين بعد عقيدة التوحيد؛ وهي عقدة العقد عند المشركين.
ورأى الرسول الفرصة سانحة لتأسيس النظام الذي تقوم عليه دولة الإسلام، فأعانه الله فكتب العهد المشهور الذي وصفه المستشرقون بأنه دستور المدينة، قال ابن إسحاق: «وكتب رسول الله كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم.» وهذه الوثيقة الكبرى لا مجال للبحث في صحتها وصدق روايتها، ولا موضع للشك في حقيقتها، فإن أسلوبها ومادتها شاهدان بأنها من إملاء رسول الله في زمنها ومكانها، وإن كان كتاب السيرة ورواة الحديث لم يدركوا قيمتها التشريعية حتى ابن إسحاق نفسه لم يفهم مداها! فاحتفظوا بنصها كاملا، فأنقذها الله من «غنايتهم المضرة» بالأخبار والوثائق!
ولم يقدم ابن إسحاق وهو المرجع الأول لهذه الوثيقة الدستورية بغير قوله: كتب محمد كتابا بين المهاجرين وأنصار المدينة ولليهود أهداهم وفاقا وأقر على قيامهم بجزية بشرائط دينهم، وأمنهم على أملاكهم وأشرط عليهم عدة شروط وواجبات إلزامية، وشرط لهم شروطا. إن غموض كلام ابن إسحاق ناشئ من قلة إدراكه قيمة الورقة، لقد جعل الرسول نفسه بعد الله مصدر السلطات المدنية في المدينة لا اغتصابا ولا حيلة، ولكن باتفاق ورضا؛ فالخزرج يودون أن يكون نبيهم مصدر السلطة والمهاجرون أكثر منهم رغبة في هذا فليس إلا المشركون واليهود من يحق لهم الاعتراض والمناوأة، ولكن هؤلاء لم يعترضوا.
وإليك نص هذه الوثيقة نقلا عن صفحات 341-344 من سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي، نبي المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جسم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في نداء أو عقل (والمفرح المثقل بالدين والعيال)، وأن لا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود فإنه له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة؛ لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا في سبيل الله إلا على سواء وعدل.
وأن المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يئويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد - عليه السلام - وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثم؛ فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني جسم مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وأن لبني الشظية مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الإثم، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد - عليه السلام - وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم، وأن الله على أبر هذا، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده كان مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من هم بيثرب، وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل إنسان حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة (ابن هشام: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة)، قال ابن إسحاق: «... وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأن من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» قال ابن هشام: يوتغ: يهلك، أو قال: يفسد. ا.ه.
إذا نظرنا إلى هذه الوثيقة في ضوء العلم الحديث وجدنا للوهلة الأولى مشارطة لتنظيم العلاقات بين المهاجرين والقبائل العربية النازلة بالمدينة طرفا أول، وبين هذا المجموع واليهود النازلين بها والمجاورين لهم طرفا ثانيا، فنحن حيال وثيقة سياسية أساسية أملاها الرسول وأعطاها قوة القانون الدستوري، لا تحكما في إرادة المتعاقدين ولا خضوعا لمشورتهم، ولكن حلا لمشكلتهم، وتمهيدا لسيادة أحكام الله والنظام الحكومي المدني، ولم تغب أهمية هذه الوثيقة عن أذهان كتاب السير والمؤرخين الأولين الذين فطروا على النقل والمحافظة على النصوص، ولم يتجهوا لحظة إلى التحليل والتعليل العقلي؛ بل أبهم أمرها أحيانا على بعض المستشرقين أمثال سبرنجر (ج3، ص20-30) وكريهل (ج1، ص42) ومولير (ص95، ج1) ورانكيه (ج5، ص75) وموير (ج1، ص95) وجريمه (ج1، ص75-81) ما عدا ويلهوزن الذي فرح بها وقال: إنها «وقعت لنا من السماء.» في كتابه
Skizzen und vorarbeiten ، ج4، ص83.
إن أصل هذه الوثيقة معجز غامض لا يمكن الوصول إلى حقيقة كنهه، ومعضلة لا يمكن حلها؛ لأننا حيال عمل تأسيسي للحياة الداخلية للمجتمع الإسلامي في أول نشأته.
ولكن كل المصادر الإسلامية ضنينة بتفسير أصلها وطريقة الاهتداء إليها، فليس لها أثر في الحديث؛ لأن الحديث ليس موضعها؛ وهي أقرب إلى أن تكون في تاريخ القانون أو مجموعة القوانين الإسلامية، ولكن العرب لم يسجلوا هذا النوع من الأوراق؛ لأنه لم تكن لديهم جريدة رسمية غير القرآن والحديث، والقرآن نفسه هو مصدر التشريع وليس موضع التسجيل لحديث النبي أو قوانينه الوضعية. إن ابن إسحاق الذي دونها في سيرته لم ينقلها بالرواية، وإلا كان ذكر سلسلة الرواة كعادته في أيسر الأمور ، وإذن لا بد أن تكون هذه الوثيقة قد وصلت إلى يده مكتوبة، فقدم إليها بسطرين، ورأى بسليقة المؤرخ ضرورة إثباتها، ولم ير بثقافة المؤرخ السياسي تحري أصلها ونشأتها، ولا غرابة في أنه عثر على نسخة مكتوبة نقل عنها الوثيقة، فهي بطبيعتها عقد أو عهد مكتوب، والدليل على وصولها مكتوبة إلى يد ابن إسحاق احتفاظها بخواص النصوص المكتوبة، وبقاء القديم الغامض فيها على قدمه وغموضه، ولو كانت نقلت رواية لتبدلت بعض الكلمات في أفواه الرواة كما هي العادة في غير القرآن والحديث، لقد وصفها كاتب الورقة وهو الرسول الذي أملاها؛ ونعبر عنه بكاتب؛ لأنه صاحب الفكرة، ولأنه كان الذي يملي على كتاب الوحي وغيرهم، بأنها «كتاب»؛ لأنه لم يكن في تلك البيئة لغة رسمية للسياسة والقوانين الوضعية، ويؤخذ لفظ كتاب بأنه معنى المخطوط الشامل لمعنى العقد أو العهد أو المحالفة والاتفاق، فإن صح هذا كانت اعترافا من جانب واحد وليس عليها شهود، ولا دليل على صدورها إلا ما جاء في أولها: كتاب رسول الله الذي كتبه بين المهاجرين والأنصار وموادعة يهود. وينص صدر الوثيقة على أنه كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين ... إلخ، ولكنك لا تجد في صلب الوثيقة أو نهايتها توقيعا من أحد ممن ورد ذكرهم في النص، فكأن الوثيقة قد صدرت تحمل صفة القانون دون حاجة إلى توقيع أطراف العقد الخاضعين لنصه، وإذا رجعنا بالذاكرة إلى حلف المطيبين وحلف الفضول نجد اجتماعا وأيمانا وثيقة وتعاهدا يشبه احتفالا رسميا؛ لأن هذين الحلفين وإن حدثا في الجاهلية، إلا أنهما ربطا الأجيال المقبلة، حتى إن رسول الله بعد بعثته قال إنه لو دعي لحلف الفضول ما تأخر عن تلبيته، واستمر حلف الفضول نافذا إلى عهد معاوية، فلما نادى به الحسين لحيف وقع عليه أرغم معاوية على مداراته وتلبية طلبه، ولكن هذه الوثيقة على حالتها لم يسبقها دعوة كالتي وجهت إلى الكبراء في حلف الفضول، ولم تصحب كتابتها مأدبة أو حفلة أو خطبة، ولكن محمدا وحده هو الذي أصدرها، فما نصيب المسلمين واليهود والمشركين في التفكير فيها أو تحريرها ما دامت ملزمة لهم ومظهرة حقوقا ومقيدة بالتزام، أما المؤمنون والمسلمون المذكورون في أول الوثيقة فقد أقروا من قديم بأنه رئيسهم وزعيمهم ورسول الله؛ فله الحق أن ينطق باسمهم بدون توكيل صريح أو ضمني؛ لأنهم لا يعارضونه سواء أكانت الوثيقة لهم أو عليهم، أما الآخرون من يهود ومشركين فلم يحضروا تحريرها؛ لأنهم لو حضروا المشارطة لكتبوا في صلبها أو نهايتها ما يثبت حضورهم، ولم يقسموا ولم يثبتوا قبولهم بنصوصها.
يسوءنا أن تاريخ حياة الرسول في المدينة قصر مدونوه ورواته همتهم فيه على المغازي (الواقدي) والوفود (ابن سعد) والكتب التي بعث بها الرسول إلى الملوك والزعماء يدعوهم إلى الإسلام، أما تاريخ السياسة والاجتماع والحياة الخاصة فقد وردت عرضا، ولا بد أن يكون لها ارتباط بشيء من الثلاثة التي ذكرناها، حتى أغفلوا قانون المجتمع الذي قصد الرسول إلى أن يخضع له كل عناصر السكان بلا تفريق؛ ليسود السلام بينهم، وليتمكن من إعدادهم للحروب المقبلة، وتلك العناصر كما قدمنا هي: المسلمون، واليهود، والمشركون، فإذن يمكن أن نطلق على هذه الوثيقة اسما ينطبق على حقيقتها؛ وهو: «قانون حياة المجتمع في المدينة»، سمها دستورا، سمها محالفة، صفها بأنها عقد أو وثيقة بسبب الغموض الملازم لمصدرها، ولكنها تحل محل القانون المنظم لحياة المجتمع المدني بلا أدنى ريب في وقت في وقت كان الهدوء شاملا، وكان اليهود قانعين، والمشركون خائفين مترددين، والمسلمون مطمئنين منتظرين.
لم يخف على الواقدي كل شأن الوثيقة من الناحية التاريخية ولا من الناحية السياسية، فزعم أن يهود المدينة تعاهدوا مع الرسول على أن يترك كل عشيرة من عشائرهم وأبناء ملتهم لشئونهم، واشترط لنفسه السلم بينه وبينهم ، وكفهم عن مناوأته ومعونة أعدائه، وإن يكن الموقف بعد بدر قد تغير، ولكن الواقدي لم يتناول اختلاف عناصر السكان الذي أوضحناه، ولم يخطر بباله أن اليهود لم يكونوا وحدهم أصحاب الحول والطول؛ بل كان لبعض المسلمين من أهل المدينة من قبيلتي الأوس والخزرج قصور وآطام وأموال، وكان بينهم حلفاء من قبائل أخرى كالتي حشدوها للمحاربة فيما بينهم؛ كجهينة، وأشجع، ومزينة، وبني ثعلبة، وقد رأينا معظم الحروب بين الأوس والخزرج ويهود سببها مصرع حليف لأحدهم أو إهانة لحقته، فشأن الحلفاء كان عظيما ولا بد أن يشملهم أي نظام يسن لمصلحة الجميع، وإذن يكون الرسول قد أراد سيادة السلام والنظام بين جميع العناصر، غير ناظر في هذه الفترة إلى السيادة والسلطان أو التحكم في إرادة الخاضعين للنظام، فإن كان جان جاك روسو قد تخيل «العقد الاجتماعي» فقد حققه الرسول في المدينة؛ لأنه تنازل الجميع عن بعض حقوقهم والتزامهم ببعض الواجبات؛ لتكون لهم الحقوق الأخرى كاملة، لقد تخيل جان جاك روسو هذا التعاقد في عهد قديم؛ ليبرر ظهور الحكومات في التاريخ، ولكن الرسول أكده بتحرير هذه الوثيقة التي ترتفع قيمتها بالنظر إلى ما تلاها من عظمة الدولة الإسلامية، وقد كانت هذه الورقة حجر الزاوية فيها.
يخطئ من يطلق على هذه الوثيقة وصف «معاهدة صلح»؛ لأنه لم تسبقها حرب بين النبي وأحد من أهل المدينة، ولكنها شملت القضاء على نزاع الأوس والخزرج، وألزمت اليهود أن لا يعينوا أحدا من أعدائه، وأن لا يدخلوا حربا مع الأوس على أحد من الخزرج، فكف بذلك أذى الحروب عنهم قبل حدوثها، وقضى على أيام كيوم بعاث الذي أهلك الحرث والنسل قبل وصوله المدينة بست سنين، وقضى على حروب شخصية كانت أشد هولا؛ فقد كان رجال في المدينة بقوا على الشرك أو اليهودية وأبناؤهم مسلمون، ومنهم من بقي على النفاق كعبد الله بن أبي وابنه مؤمن خالص الإيمان.
وكان من المحتم على النبي أن يصبر ويتحمل أذى المشركين واليهود، ولكن صبره نفذ في ابن أشرف أحد زعماء اليهود، ولم يكن للرسول إلا أن يوضح موقفه حيال اليهود وموقفهم حياله؛ ليخمد أنفاس ابن أشرف وأمثاله، فابتكر فكرة الحياد، فقال في الوثيقة: إن اليهود ليسوا له وليسوا عليه، لا يلزمهم بالدفاع عنه ولا الهجوم معه، ولا يرضى أن يشاركوا من يحاربه. وفي بعض الأخبار أن اليهود تعهدوا بمناصرته على أعدائه إذا دعاهم، مقابل بقائهم في منازلهم بين ظهراني الأوس والخزرج، ولكن هذا النص لم يرد في الوثيقة، فنضرب عنه صفحا؛ لأن النبي لم يكن له إذ ذاك عدو ظاهر، ولأن بقاء اليهود في منازلهم لم يكن محل نزاع؛ فإن الرسول ما جاء ليخرجهم من دارهم خصوصا في هذه الفترة التي وصفناها بالعصر الذهبي من حيث الولاء والمودة وتبادل المنافع، ورجاء الرسول أن يهدي الله يهود فيؤمنوا برسالته، ورجاء يهود أن ينصرهم ويكون نبيهم المنتظر، وإذن لا نرى في الوثيقة محالفة حرب لقاء سكوت على استقرار اليهود في منازلهم، لقد كان في المدينة أمة، والوثيقة تعتبرها كذلك أمة متحدة، وأن القانون الجديد قد شمل العلاقات القديمة، فليس التشريع شاملا حالة النبي والمسلمين والأوس والخزرج واليهود وحلفائهم، بل إنه أيضا محا ونسخ وألغى ما كان سابقا، ولفظ الأمة قديما لم يكن بمعناه الحديث الذي يفترض قرابة الدم، بل الأمة: الجماعة، وهو في اللفظ مفرد وفي المعنى جمع، والأمة: الطريقة والدين؛ يقال فلان لا أمة له؛ أي: لا دين له ولا نحلة، قال الله:
كنتم خير أمة ؛ أي: كنتم خير أهل دين، وقد كان تعبير المسلمين عن أهل المدينة بأمة معناه جماعة دينية، وبهذا المعنى في الجاهلية كما جاء في شعر النابغة الذبياني، فالأمة لها طابع ديني بنص الشعر الجاهلي ونص القرآن ونص الوثيقة: «وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.» ولأجل أن لا يحصل لبس؛ ليس معناه أن يهود بني عوف أو غيرهم مرتبطون مع المسلمين برابطة الدين، ولكنهم جزء من الأمة التي يحميها الله، فالله حاكمها، ورسوله ينفذ أوامره ونواهيه باسمه، أما العلاقة بين المسلمين أنفسهم فهي الإيمان؛ لأنهم يمثلون الوحدة، ولذا كانوا أخضع العناصر وأكثرهم التزاما وواجبا في أمة المدينة، ولكن المؤمنين والمسلمين لن يتحملوا هذه الأعباء عبثا؛ فإن وراءهم من يتبعونهم وينضمون إليهم ويحاربون معهم، أي سكان المدينة كافة، فالله قد شمل الجميع بعنايته في دائرة بلدهم لا يتخلى عن أحد منهم ما داموا موالين للمسلمين محافظين على السلم والأمان اللذين لا يستقيم بدونهما للدين الجديد أمر ولا تنتظم بغيره حال.
هذا عن شخصية الأمة التي ورد ذكرها في الوثيقة، أما مكانها وزمانها فحدث عنهما بلسان التاريخ ما شئت، فالمكان هو تلك الوديان الخصيبة المشرقة والجبال الأضحيانة والآطام العالية والأنهار الجارية والقصور التاريخية والمسجدان الشامخان: قباء، والحرم المحمدي، والتلال والهضاب والنخيل والأعناب والآبار الحلوة والأعين العذبة المتدفقة وجبال أحد وسلع اللذين سيشهدان موقعتي أحد والأحزاب. وهذه الأمة في هذا المكان ستمتع بالسلم الدائم لا يعترضها حرب ولا يقلقها نزاع ما دامت واردة في العهد أو العقد الاجتماعي، وما دامت متمسكة به وقائمة بعهودها.
وبين الأنصار أيضا مشركون يشملهم العقد (البند 20) واليهود والعرب القدامى الموالون للأنصار ويعيشون في كنفهم، وهم بلا شك بقايا أنسال العمالقة الذين لم يقض عليهم اليهود القضاء الأخير فأبقت عليهم السيوف؛ لأنهم أبقوا أو فروا أو استصغر اليهود شأنهم، كما ترى الآن في أمريكا وأستراليا بقايا السكان الأصلاء نجوا بمعجزة من رصاص البنادق وحد السيف الذي حملته الأجناس البيضاء المتحضرة! وبعض العرب من الأوس والخزرج الذين تهودوا، وقد جعلت الوثيقة عنايتها بالجماعات لا بالأفراد، فالقسم الثاني منها ينصب على اليهود بوصفهم جزءا من الأمة، لا بوصفهم قريظة أو النضير أو قينقاع فيقال «ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.» فلا السادة خصوا بالذكر، ولا الموالي غفل عنهم أو أهمل شأنهم. رجل يريد أن يبني أمة فهو كباني البيت بما لديه من المواد، لا يغض الطرف عن أي حجر؛ فما لا يصلح للزاوية ينفع للمداميك التالية، وما لا تزدان به «الواجهة» يسد ركنا في «الأكتاف»، وإن لم يذكر بعض الأوس والخزرج الذين خرجوا من الشرك إلى اليهودية بالتخصيص فقد شملهم مع قبيلتهم الأصلية، لا مع طائفتهم التي اختاروا دينها، فغلب الجنس على العقيدة؛ لأن الجنس هنا في نظره أرقى من العقيدة، ولأن هؤلاء العرب المتهودين الذين غلب جنسهم على ملتهم لم يكن لهم بطانة ولا أهل ملة شركاء، كجفنة وثعلبة، ولم يستطيعوا الحرب لأنفسهم وبإرادتهم، ولا يملكون أن يتقوها إذا دعتهم قبيلتهم إلى خوض غمارها، وقد كان نظر الرسول صائبا؛ فإن هذه الفئة المزدوجة الصفات؛ دين في ناحية، وجنس في ناحية، كالحيوان ذي الرأسين، لم تكن لها قيمة سياسية ولا شخصية عامة يؤبه لها، فلا يكونون طرفا في العقد ولا ينص عليهم بطريقة خاصة، أما اليهود المخالطين للأنصار مخالطة معاشية فقد اندمجت صلاتهم القديمة بالأنصار في كيان الأمة، وقد كان لبني قريظة والنضير شأن قبل سيادة الأوس والخزرج وأثناءها، فلم يهملهما الرسول وأراد إدماجهما في الأمة، ولكن يبدو لنا أنهما كانا من المنعة والقوة وحب الحياد حتى يوشكوا أن لا يكونوا، وإنه لبلاء كبير عليهما؛ لأنهما لو بقيا على حدة لكان في مجموع الأمة ما يمكن الرسول منهما، وإن اندمجا لا ينقصهما الاندماج شرفا ولا مكانة، أما يهود بني الأوس وثعلبة فما هم إلا بني النضير وبني قريظة الذين كانوا في كنف أوس الله وثعلبة بن عمرو بن عوف. ولكن النبي منذ الساعة الأولى ينظر إلى اليهود نظرة الحذر، جاعلا معوله على المهاجرين والأنصار، ولم يطلب من اليهود إلا كفهم عن أذاه مقابل دفاعه عنهم عند الحاجة منهم؛ كالأشقاء وكالإخوة لأم.
إذن تكون الأمة المدنية مؤلفة من: مؤمنين ومسلمين، ويهود، ومشركين، قبائل وعشائر لا أفرادا، حتى المهاجرين وهم قرشيون مسلمون اعتبرهم عنصرا قائما بذاته على حالته التي جاء بها إلى المدينة؛ فهو ينضم إلى الأمة بهذه الصفة، فأدمج النظام القديم الذي خلع صفة المهاجرة على أهل مكة المضطهدين في النظام الجديد الذي أنتجته الأمة المقررة في العقد، وهذه القبائل كلها قد جعل منها إطارا لمجتمع المدينة دون أن يمس سلطة رؤساء القبائل وسادتها، ولا يحد من حقوقهم ونفوذهم، ولا يخطر بباله أن يعزلهم ليحل محلهم ولاة أو وكلاء من عنده، وما كان أبعده بهداية الله وفطنته النبوية عن مثل هذه الهفوة، وكيف يتهيأ له أن يسود السلام والنظام ويقر قرار كل جماعة ويطمئن كل قوم إلى النظام الجديد فيتاح له أن يجعل من المدينة حرما، فلو أنه انتزع سلطة دنيوية أو اكتفى بالمؤمنين من المهاجرين والأنصار لاستجد على علاقتهم بأهل المدينة أمور تؤدي إلى ما لا نهاية له من الأحقاد والشرور والخطوب، فيجعل من يثرب «مكة» أخرى أشد اضطهادا وأنفد صبرا، ولكن تركه إياهم في قبائلهم سواء أكانوا قرشيين أو أوسيين وخزرجيين؛ فقد فعلوا فعل اللحام بين العناصر؛ فربطوا أواصرها ومتنوا رابطتها وزادوها التصاقا، ثم فعلوا فعل الخمير، فلما جاء الوقت ونضج العجين لقحوه بما جعل منه خبزا سويا، فلما حان ظهور القوة كان المسلمون روح هذه الأمة، فامتزجت الرياسة السياسية بالرياسة الدينية؛ الأولى نتيجة الاجتماع والعقد، والثانية أصل الفكرة وصدى صوت الوحي، ولا شك عندنا في أن محمدا قد رأى كل هذه الثمرات منذ الساعة الأولى، فهو لم يخط خطا في البناء إلا ويعرف مجموع ما يبلغه طولا وعرضا وسمكا وارتفاعا.
ولكن ها هي الأمة فأين ماليتها، وهي أساس البناء وأجنحة الطير وفقار الكائن الحي وقوة الاندفاع في السير؟ وكيف له بغير خزانة عامرة أن يلزم بواجب أو يؤدي حقا؟ ففرض على كل قبيلة فرضا لا ينازعه أي فرد: دفع دية الدم، وفدية الأسرى، مستعملا نظام الالتزام الذي كان سائدا في القبائل قبل مجيئه المدينة، وقد ترتب على هذا أمر في غاية الخطورة، وهو أيضا مما رآه النبي وعمل له جهده، ألا وهو نقل عبء الثأر عن كاهل الأسرة إلى كاهل القبيلة، وسوف ينتقل من كاهل القبيلة إلى كاهل المجتمع، حتى إذا صار كذلك صار معه أن المجتمع يقيم الدعوى العامة على الجناة، وبذا تقر سلطة الحكومة وتغرس نواة التبعة الجنائية، أما نظام الولاء فباق على قدمه فليس لأحد أن ينزعه، وكذلك حق الإجارة فلا دخل للجماعة فيه مؤقتا؛ فكل فرد في وسعه أن يجير من شاء من خلق الله، وكان هذا النظام في نهاية السنوات الثماني قبل فتح مكة قد تجلى حتى تمكن أبو سفيان لما فقد المجير أن يقف في المسجد ويقول: أيها الناس أنا في جواركم إلى أن ألحق ببلدي. إلا المرأة فلا يمكن إجارتها إلا بإذن أهلها، وهذا مفهوم؛ لما له علاقة بالعرض؛ فقد يجيرها عاشق أو مفرق أو وسيط، واستثنى الرسول أهل مكة وقريشا فلا يجيرهم أحد أبدا.
وكل قبيلة تنازلت عن حق الحرب تعلنه على قبيلة أخرى في المدينة، أي إنه قضى على الحرب الأهلية؛ لأن غاية «الأمة» وضع الحرب أوزارها داخل البلدة وإنهاء أي نزاع يعترض طريق السلم الدائمة، فجعل فض كل خلاف إلى الله ورسوله، فجعل محكمة عليا مرد الأمور فيها إلى الله ورسوله، قال: «وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده كان مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» فهذا القضاء، أما إذا تعكر صفو السلم بالقوة بفعل فاعل، فلا يكفي أن يقوم في وجه الجاني خصمه المجني عليه وقبيلته، بل مجموع الأمة ولا سيما قرابة المجرم، فإنها تتدخل عليه لا له وتشارك القوة المستجدة لتسليمه ولا سيما في حالة إهراق الدم، فيعطى لصاحب الدم ليقتله أو ليتقاضى منه الدية، وما ننسى مقتل كعب الثعلبي حليف مالك بن العجلان بيد سمير من بني عمرو بن عوف؛ فقد كانت هذه الجريمة سببا لحرب الأوس والخزرج الأولى، فلو سلم سمير إلى مالك كما طلب ما حدثت تلك الحروب التي دامت عشرين عاما وانتهت بالتحكيم ودفع الدية كاملة، وإن بقي تنفيذ الثأر بيد العشيرة أو الأسرة فإن اعتقال الجاني ومحاكمته من اختصاص الأمة، فما أعظم هذا التحول من انتقام الفرد إلى اهتمام المجموع، ومن مجرد القتل بغير تحقيق إلى محاكمة تقوم بها الأمة! فلم تتعدد جهات الحماية ودفع الأذى عن القاتل ولو كان ظالما، بل توحدت ليسود السلام كل بقعة وكل قبيلة وكل عشيرة وكل فرد فتتولد الحرية الشخصية وحق الحياة.
هذا في الداخل، أما في الخارج فقد اتجهت نية الرسول إلى تربية هذه الأمة وإعدادها لدفع غائلة الحرب من الخارج، وقد كانت كلها حروب دفاع كأحد والخندق ما عدا غزوة بدر التي كانت ضرورة لنهضة الإسلام، ولم تكن حرب مال أو نهب غنائم كما زعم بعض المستشرقين، فالمؤمنون إخوة ولكنهم في دفع العدو الخارجي لا يحاربون باسم الإخاء، وإنما باسم الأمة، فالأمن الداخلي قائم على القصاص، ولكن الأمن الخارجي قائم على الدفاع عن الملة، فصارت له صفة خاصة، فصار الانتقام من العدو الخارجي لا انتقاما فرديا أو قبليا ولكن ذا صبغة حربية، وكما أن سلم المؤمنين واحدة (أي عامة) كذلك صارت حرب المؤمنين واحدة؛ أي عامة، فيتبع هذا أن لا يصطلح مؤمن مع عدو وبدون إذن أخيه المؤمن أو علمه؛ بل يكون الصلح عاما شاملا متفقا في شروطه، فاليهود الذين يختلفون نوعا عن المهاجرين وبني قيلة في انضمامهم إلى الأمة بحكم جوار المنازل لهم نوع من الاستقلال الذاتي في داخل أمورهم؛ كالإجارة والولاء فيما عدا قريشا، ولكنهم تنازلوا عن حقوقهم في محاربة من يضمهم العقد، فإذا نشب خلاف بينهم رفعوا أمره إلى الرسول ما عدا شئونهم الأهلية البحت، وعليهم أن يعينوا على من يهاجم يثرب ويمدوا المؤمنين بالمال في سبيل حروبهم إذا لم يريدوا أن يشتركوا في الحرب بأنفسهم، وقد يحاربون من تلقاء أنفسهم من عاداهم من خارج الأمة، ولكن بإذن الرسول فيما كان تفها لا يؤبه له، فإذا كانت هذه حال اليهود فلا شك أن القبائل العربية الأخرى قد جرى عليهم القانون مجراه على بني إسرائيل، ولكن اليهود قد أدركوا قيمة الفرق بين الحرب في سبيل الله والحرب في سبيل الوطن، فهم لم يلزموا بالحرب مع المؤمنين دفاعا عن دينهم، ولكنهم ملزمون بالحرب إذا هاجم المدينة مهاجم يريد هلاكها، فإن المنفعة مشتركة ولا يمكنهم أن يتخلوا عنها، وهكذا يكون موقف المشركين، فلا دخل لهم في حروب العقيدة، ولكنهم مطالبون بالحرب في الدفاع عن الأمة، وفي الحق لم يكن عدو يهدد المدينة غير قريش منذ وطئها النبي والمهاجرون، وإن كان أهلها قبل ذلك في رعب من هجوم يهود من الشمال أو عرب الغساسنة من الشام.
ولكن وصول النبي قضى على تلك المخاوف وحصر الدفاع في ناحية واحدة، ومما لا ريب فيه أن الأنصار كانوا من حيث التبعة في محاربة قريش في درجة واحدة مع المهاجرين وربما زادوا؛ لأنهم بايعوا النبي مرتين أو ثلاثا قبل الهجرة على أن يدافعوا عنه كدفاعهم عن أنفسهم وأولادهم، وهو الآن في وطنهم، وقد ازدادت هذه الرابطة توثقا.
لقد زعم بعض القارئين لنص الصحيفة أن فيها غموضا وإبهاما، ولكن هذا وإن لم يكن مقصودا إلا أنه جاء لحسن الحظ لمصلحة الفريق الأقوى - وهو النبي وأتباعه من المهاجرين والأنصار - الذي يعنيه التفسير اللفظي والمعنى الحرفي، ولا يملك أحد أن يزعم أن الصحيفة مكتوبة بصيغة تجعل لها أكثر من معنى واحد كما هي حال بعض الوثائق السياسية، فإن الرسول أبعد الناس عن المظنة، ولكنها محررة بأسلوب الزمن الذي كتبت فيه، وإن المعاصرين لنا مهما حذقوا قراءة النصوص القديمة فلا يمكن أن يقيموا دليلا ينقض هذا، فمثلها كمثل الأوراق التي دونت في السنوات الأولى من الهجرة، ولا شك في أنها من وثائق هذه الفترة، غير أنه يرى في مجموعها أنها ترمي إلى اجتذاب العناصر التي ما زالت مترددة في الإسلام والأخرى المعادية التي لا تقدر على الجهر بعدائها. وشخصية النبي ظاهرة فيها بموضع الاعتدال والتواضع والركون إلى الله؛ لأن الصحيفة ليست من الوحي ولا من الحديث في شيء، ولا هي بالمرسوم الملكي ولا الفرمان الهمايوني، وهذا يعلي من شأنها ويرفع قدرها ويزيدها في تقديرنا؛ فإنها خلاصة فكر الرجل في الوصول إلى سلام عام في البلدة التي هاجر إليها، فلا يتدخل في شئون الجماعة بأكثر مما هو في حاجة إليه لبلوغ هذه الغاية، فيترك المشركين في قبائلهم ما دامت هذه القبائل قد قبلتهم على ملتهم، ويترك اليهود في عشائرهم في أحضان الأنصار ما داموا في نطاق الأمة، ولا يتعرض لدينهم وعرفهم، ولا ينتظر من هؤلاء أو أولئك أن يتخذوا الإسلام دينا، فهو يؤسس أمته على ما هي عليه؛ لأن هذا الأساس واجب ومحتم، بل هو أداة تربية الأمة وإعداد العدة.
أما تاريخ الصحيفة فلا شك أنه كما قلنا في عصر الذهب اللامع والآمال البراقة من الجهتين، قبل موقعة بدر؛ لأن محمدا بعد بدر غير لهجته في مخاطبة الجميع بأمر الله ولا سيما اليهود، أما كونها صحيفة صحيحة أي صادرة عن النبي فلا يمكن الجدال فيه، ولا يمكن القول بأن مؤرخا لاحقا افتعل هذه الصحيفة أو اصطنعها في عهد الأمويين؛ لأنه لا يرضي أحدهم أن يقدم رابطة الأمة على رابطة الدين كما هو مرمى الصحيفة في أول أمرها للضرورة السياسية والاجتماعية عند تأسيس الدولة وتأليف قلوب عناصرها، ولم يكن في قلب أحد من العداء لقريش غير أعدائها الأولين الذين أخرجتهم من ديارهم وسلبت أموالهم وخربت بيوتهم وقتلت أولادهم، ولا يمكن لأحد من اللاحقين أن يدرك فكرة تنظيم الحياة المدنية في يثرب على أساس السلم الدائم وحقن الدماء وإدماج العناصر لمواجهة الأعداء بجبهة متحدة، وقد لا توجد وثيقة أخرى من إنشاء الرسول ومحض تفكيره لم تتجمل بالوحي الإلهي المباشر، فإذا أضفنا الأسلوب الذي ينطق بعصر تحريرها جزمنا قطعا بأنها صحيفة صحيحة لم تمتد إليها يد غير يد الذي كتبها بإملاء الرسول في العصر الذي حددناه، وفي هذا العصر نفسه تراخت العلاقات بين يهود وبين الأنصار فوجب على الرسول أن يعيد بناءها على أساس جديد؛ لأن الأساس القديم قد انهار، ولأن الأنصار عزفوا عن الاعتزاز باليهود في الحرب ما داموا قد جلبوا إلى المدينة نبيا مرسلا له كتاب ككتاب موسى وشريعة كشريعة بني إسرائيل، وإن موسى بن عمران قد مات من ألوف السنين، ولكن محمدا ما يزال على قيد الحياة وينتظر منه ومن رسالته الشيء الكثير.
إن إيجاز الجمل وشفافيتها تدل على أن المقصودين بالصحيفة يفهمون الإشارة والإيماء ويستغنون بالتلميح عن التصريح ، فالكلام قصير، والنصوص مختصرة مقتصرة على المقصود، والمعاني طويلة بعيدة عميقة، والنبي لا يزيد على أنه محمد النبي أو محمد وحسب، وفي نهاية الوثيقة: محمد رسول الله، كأنه توقيع، أما المسلمون فهم المؤمنون كما يسميهم القرآن، ويغلب على أسلوب الصحيفة لهجة قانونية كأنها بقايا مصطلح قضائي عفى عليه الزمان، قد جاء حتما من أسلوب الكتاب الذين في المدينة وهم تلقوا فنهم على غيرهم من أهل الصناعة.
وفي الحواشي تعبيرات خفيفة تحمل الطابع الإسلامي، وإن كانت الصحيفة قد تحررت للضرورة وليعمل بها زمنا طويلا، فدليل على أن النبي لم يكن يتوقع معركة بدر، فإن معاملته لليهود بعد هذه الموقعة الحاسمة قد تغيرت، وقد كانوا المقصودين بها في الداخل كقريش في الخارج؛ لأن يهود أصحاب مال وقوة وحيلة وتحالف مع الأوس، ولأن قريشا ما تزال في عزها بعد خروج المهاجرين، وكان أهل مكة خليقين بأن يحركوا عداوة اليهود، فلما هزمت قريش شر هزيمة وأفدحها، وأمن الرسول جانبهم إلى حين، تزعزع مركز اليهود وهان أمرهم عليه، وأما المشركون من الأوس والخزرج فلا يحسب لهم حساب؛ لأن إخوانهم في الحبس والجوار قد صاروا أعداءهم في الدين، وهم أقدر على إضعافهم ورد شكيمتهم، وكان اليهود قبل بدر على الرغم من الصحيفة لا يألون جهدا في وخز الإبر على طريقتهم في كل زمان ومكان، ولكن المسلمين كانوا يغضون الطرف ويتحملون على مضض؛ لأنهم حلفاء، ولكن هذا كله كان قبل بدر، فطرد الرسول بني قينقاع وبني النضير، وأمر بقتل ابن أشرف وابن سنينة وأبي رافع وأباح دماءهم، وفي أحد أرغم اليهود على الحرب في السبت، ولما استبان النبي غدرهم رفضهم وأقصاهم؛ لئلا يقع المسلمون بين عدوين؛ فقد ذهب الزمن الذي توافق اليهود مع محمد على الصحيفة وجلسوا إليه مطمئنين في فناء رملة بنت الحارث في ظلال النخيل،
1
ولكن هذا التغير في مسلك المسلمين لم يريدوه ولم يثبوا إليه بمجرد الانتصار في بدر، ولكن أملاه عليه فعل اليهود ومثابرتهم على الأذى؛ لأنهم فطنوا إلى القوة التي تتجمع على مرأى ومسمع منهم في البلد الذي ظنوا أنفسهم فيه أعزة وغيرهم أذلة حتى سرى هذا الاعتقاد إلى لسان عبد الله بن أبي وكان مسمما كلسان الأفاعي، ولكن المعاهدة كانت نافذة ولم يلغها أحد من ناحية المسلمين ولكنها وئدت بفعل الحوادث، وكان النبي من جهته يعتقد في صحة الصحيفة وسريانها؛ فذهب إلى بني النضير كما يذهب الحليف إلى حليفه، وذلك بعد طرد بني قينقاع؛ ليساهموا في دفع الدية، ولكنه ما أوشك أن يجلس تحت جدار حتى نهض وابتعد مسرعا منتحلا عذرا مقبولا؛ لأنه شم رائحة العداء، ولم تكذب فراسته؛ فإن فريقا منهم قد أعد حجرا ضخما، ولعله حجر طاحون؛ ليلقي به على رأس الرسول من الشرفة التي جلس تحتها، فلم يقصر في محاربتهم وإخراجهم، وما يزال بنو قريظة في دائرة الصحيفة إلى أن نقضوها بفعلهم، فأهلكهم الرسول جزاء نقضهم ولا كرامة، ولم يصدر عن النبي فعل عدائي إلا وله ما يبرره من ناحيتهم؛ لخيانة يقترفونها أو أذى يقصدون به أذى المسلمين، وهم يتظاهرون بحفظ العهد ولا يجهرون بمخالفته؛ ليحرموا الرسول من حجة ظاهرة.
أما بنو قريظة فلم يظهروا أن لديهم عهدا مكتوبا ولم يتمسكوا بصحيفة، كأنهم لم يلتقوا بالنبي في فناء رملة بنت الحارث، وكأن الصحيفة التي لا شك في وجودها لم يحتفظوا منها بصورة أو نسخة وهم أحرص الناس على كتاب ولا سيما بعد موقعة بدر، ولكن بلغ الكفر والفجر والبطر بزعيم بني قريظة كعب بن أسد أن يمزق شرك نعله؛ ليدلل على قطع علاقته بأهل المدينة، فلعله ألحن بهذا الشرك إلى الحبل الذي يلتف حول عنقه عما قريب، فإن صح أن بني قريظة لم يملكوا صورة من الصحيفة فلأنهم وغيرهم من عشائر إسرائيل لم يتحدوا في رابطة سياسية يهودية، وإنما دخلت على عشيرة منهم في أكناف القبيلة العربية المجاورة لمنازلها، فكان المسئول أمامه قبائل الأنصار عن أنفسهم وعمن دخلوا في حرمتهم من اليهود؛ لأن الأنصار كانوا حماة اليهود منذ تغلبت الأوس والخزرج عليهم، فالأنصار مدينون لليهود بجوارهم وإجارتهم ومدينون للرسول بتنفيذ ما جاء في الصحيفة، وهذه الرابطة بين الرسول والأنصار هي التي عاقته من أن يعامل اليهود معاملة الخوارج على القانون فيهدر دماءهم، فهذا العقد قد أضيف إليه «عهد» و«ذمة» لم يكن النبي أول من يخفره أو ينقضه.
وهكذا تخرج الصحيفة ظافرة من ظلمات التاريخ لتلقي شعاعا هاديا على أول عمل سياسي دستوري أنتجته قريحة الرسول بمجرد وصوله إلى المدينة؛ فقد رمى نظرة فاحصة صائبة على هذا المجتمع الفطري، ورأى في لمحة موفقة طرائق العمل التي تؤدي إلى التوفيق بين هذه العناصر المختلفة، فتقدم إليهم بهذه الصحيفة التي نترك الحرية في تسميتها للقارئ المجتهد، وهي عمل سياسي عبقري، لا عمل راعي غنم ولا يتيم أبي طالب ولا تاجر جلود، ولكنه عمل يفوق أعمال ساسة اليونان والرومان، لا باعتباره أميا أو عربيا في القرن السابع الأوروبي، بل باعتباره سياسيا حديثا يؤسس دولة، وقد قامت دولة أوروبا من قديم على الأساطير والميثولوجيا؛ فقد كان ييزيو مؤسس أثينا إلها جعلوه رجلا، وكان ليكورجوس وصولون وداكون أنصاف آلهة وأرباب، وصارت قوانين جوستينيان مضرب الأمثال في العظمة مع أنها وضعت لتغليب القوي على الضعيف، ولكن هذا القانون الأساسي كان فعل محمد بن عبد الله الذي لم يشأ أن يصدره: باسمك اللهم، ولا بسم الله الرحمن الرحيم، ولا يصف نفسه بالرسالة إلا في آخره إمضاء لا تزكية؛ وذلك لأنه كان يرتبط باليهود وهم أهل كتاب غير كتابه، وبالمشركين من الأوس والخزرج وهم لما يؤمنوا برسالته، ولم يقم حفلا ولا اجتماعا غير الذي ذكره الواقدي عرضا (ص980) بأن يهود جلسوا إليه في فناء بيت رملة بنت الحارث في ظلال النخيل، ولكن هذا القانون الأساسي سرى ونفذ وقضى على الخصومات.
وسواء أقطع كعب بن أسد سيد بني قريظة شراك نعله ليظهر نقضه أم مزق صورة الصحيفة التي كانت بين يديه، فهذه شنشنة نعرفها من أخزم، وقد كلفه شرك النعل غاليا؛ فقد كان سببا في إبادة قومه وإهدار دمائهم، فإن الجهر بالعداء بغير كرامة يدل على الخنوثة والغدر وليس شيء منها جديدا على قوم كعب، أما أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
تغير في معاملته إياهم بعد بدر فلا عجب، فإنهم حالفوا المنافقين عليه وتألبوا ليقهروه بعد مؤامرتهم على قتله، وقديما دست له السم إحدى بناتهن فمات اثنان من صحابه ونجا من الموت بمعجزة، وتطاولوا عليه، وما عجزوا عنه وكلوا أمره لعبد الله بن أبي الذي ما زال يفاخر بمحالفتهم، فإذا ما رفع عن ظهره حمل الحذر من قريش وهذه قريش قد هزمت فلا داعي للخوف من يهود المدينة الذين أرادوا استغلال دينه وحاولوا إرغامه على أن يكون لهم مكملا لشريعة موسى فيصبح حاخاما أو «رابانا»، معاذ الله، وهم لم ينصفوا أنبياءهم وقتلوهم بغير ذنب، وعبدوا العجل بعد الله ولم يذكروا نعمة الله الذي فضلهم على العالمين بعقيدة التوحيد، وصلبوا عيسى في زعمهم وهو خير رجل ظهر فيهم، فهل يرجى من هؤلاء خير أو يؤمل فيهم فلاح؟ وهل أشفقوا على أحد من الرسل أو الملوك والمصلحين قبله حتى يشفقوا عليه أو يطيعوه؟! فحسنا فعل، ولم يكن يملك أن يفعل أقل من هذا أو خيرا منه.
الرسول في المدينة
التأسيس والتنظيم والتشريع
فترة المدينة أهم فترة في حياة الرسول - عليه الصلاة والسلام - لأنها فترة التأسيس والتنظيم والتشريع، وتأليف القوى التي بنى عليها الإسلام البناء الذي واجه به العالم.
والمؤرخون الإسلاميون لم يفطنوا إلى كل ما كانت عليه هذه الفترة من العظمة والجلال والقوة وإلى ما ظهر من مواهب الرسول الإنسانية التي أعده الله بها وسلحه ليتم له نصرة الحق على يديه، وإننا نلتمس الأعذار لكتاب السيرة بل ونعتذر عنهم؛ لأن حوادث التاريخ تحدث وقد لا يكون لها شأن عند حدوثها، وقد يراها المعاصر ولا يدرك مداها، فتصبح الأشياء التي يغض عنها المعاصر طرفه أجزاء مهمة من التاريخ وقد يكون لها من الأهمية ما لم يتخيله أحد أثناء حدوثها.
ماذا رأى العرب المهاجرون للنبي في وطنه وفي مهجره في تلك الهجرة العجيبة المهولة الحافلة بالأحداث الكبار؟
لقد ارتاح المكيون لها واستراحوا وأقصوا عن بلدهم ذلك الذي كان يضيق عليهم الخناق بأقواله وفعاله، وضيقوا عليه الخناق بعدائهم وشرورهم، حتى لقد تآمروا على قتله وفشلت المؤامرة بسبب لا دخل لهم فيه؛ وهو عثورهم على علي بن أبي طالب في فراش النبي، وكان علي في العشرين من عمره ولم يكن بينه وبينهم عداء ، وقتله لا يسكت محمدا؛ بل يثير عداوة بيت عبد المطلب، وفيهم العباس وجعفر وعقيل وحمزة وأصهارهم أزواج بنات عبد المطلب، فأعرضوا عن علي وأدركوا أنهم خسروا الصفقة فلم تطش أحلامهم ولم يضل إدراكهم، بل فكروا في اقتفاء أثر المهاجرين محمد وأبي بكر، واتخذوا لذلك كل الوسائل، حتى وطئ المتعقبون غار ثور وكادوا يقتحمونه، فكان في انصرافهم عنه مهرب بدقة الشعرة، فلم يقنطوا وجعلوا لشخصه ثمنا لمن يسعفه حظه بالقبض عليه أو قتله، فتبعه رجل عداء فارس يحسن الكر والفر إلى أن التقى به وبصاحبه، ولهم حديث طويل، ونزلا بامرأة أكرمتهما وسقتهما ووصفته
صلى الله عليه وسلم
أحسن وصف وأبلغه وأدقه، وما زالا سائرين في دروب ومسالك ومفاوز ما تزال إلى الآن موحشة رهيبة مواصلين السير يغذانه إلى أن بلغا ضواحي المدينة.
يجب على كل مؤرخ وكل قارئ ودارس أن يدرك حقيقة جوهرية، وهي أنه منذ وطئت أقدام النبي أرض المدينة تجلت مواهبه الفائقة في التفكير والتدبير وحسن السياسة وإدارة الأمور بما يدهش من لا علم له بعبقريته وأخلاقه، إنه ليسلك في كل شيء حتى لكأنه ينفذ خطة مرسومة يعرف أوائلها وأوساطها وأواخرها، وقد صمم على تنفيذها لا يخشى في ذلك شيئا حتى الموت، ولا يحرص على شيء في سبيلها مما له مساس بشخصه ما عدا مكارم الأخلاق التي كانت شعاره وخطته، وتتلخص هذه الخطة في أن يستولي باسم الله مولاه وسيده وملهمه على هذا البلد وأن يجعل من أهلها كائنين من كانوا ومن المهاجرين أمة جديدة بعيدة عن تأثير قريش ومكة، وأن يربي هذه الأمة ويثقفها ويخضعها لإرادة الله وإرادته؛ حتى يجعل منها جيشا محاربا يدفع به هجوم العدو ويهجم به عند الأوان لتحطيم قوة أعدائه، كانت هذه الفكرة الأساسية في نفس النبي، ولذا كان يشيد بحلف الفضول، ونحن نعلم أنه كان بطبيعته الحلوة الهادئة مسالما يفضل الصلح في كل الأمور، ويكره أن تمتد يده أو لسانه بأذى، بل كل حواسه؛ فكان يحرم الضرب ويحرم النظر الحرام أو النظرة الجارحة ، ولكن ثلاث عشرة سنة قضاها في بيئة المكيين الذين افتنوا في أذاه وأذى المسلمين حتى أرغموهم على ثلاث هجرات بنسائهم وأطفالهم، علمته أن الصلح والسلم والهوادة والمجاملة أحلام حالم، وأن الدعوة إلى الحق والصدق والشرف والوفاء والعفة والأمانة وما إليها من الفضائل، الدعوة إلى هذه كلها باللين والمعروف والمحاسنة، لا تؤدي إلى الغاية المنشودة، وأنه لا بد للداعي إليها من القوة المادية الساحقة، لا بد أن يكون الداعي إليها مسلحا ومدرعا، يتوعد بالقتل، فإن لم يرعو المدعو فليحكم السيف في عنقه وليهرق دمه، لا قسوة ولا صلفا ولكن تنفيذا للخطة المرسومة، نعم؛ إن الفضائل التي يدعو إليها خير، ولباب القرآن في شرحها وبيانها وتأكيد الثواب عليها قد نزل في مكة، ولكن الناس في ذاك الزمان وكل زمان يفرون من دعوة الخير ويعرضون عنها بقدر ما يسارعون إلى الشر بغير دعوة، ويلتفون حول صاحبه ويحبذونه ويغدقون عليه، وهذه مسألة تعليلها في طبيعة البشر وأخلاقهم فلا نعرض لها، ألا ترى معي أن فكرة تكوين أمة جديدة من بلدة غريبة عنه وغريبة عليه فكرة صعبة التنفيذ، بل تكاد تكون مستحيلة، يتردد قبل الإقدام عليها كل رجل يقيس الحوادث بالمنطق ويقارن بين الماضي والحاضر؟ نعم؛ كانت له بالمدينة أواصر قرابة في بني النجار، ولكن بني النجار لم يكونوا ذوي شأن كبير، ولم يكونوا كلهم مسلمين، وفيهم محازبون لليهود، وله أيضا المهاجرون الذين لا شك في إيمانهم وإخلاصهم وطاعتهم، وبينهم نساء مؤمنات مترملات مصبيات فقيرات معذبات، تقدر الواحدة منهن بعشرة رجال؛ كأم سلمة، وبينهم صفوة الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عوف وابن عبادة، ولكن هؤلاء مهما كثر عددهم وكبر شأنهم في مستقبل الأيام فهم الآن مهاجرون أخرجوا من ديارهم ونهبت أموالهم وقتل أقاربهم، وهم في حالة الخوف والإشفاق والحاجة إلى ضيافة الأنصار، والأنصار كانوا أكبر عددا وأعز جاها وأكثر مالا، ولكنهم محفوفون بالأخطار جازفوا بمبايعة ذلك الرجل الذي أخرجه قومه، وأول ما يخطر ببال الغريب أن يقال «إذا كان فيه خير لحرص عليه قومه.» وكانت هذه الحجة الشائكة على أطراف ألسنة طغاة ثقيف في الطائف وغيرها من القبائل التي تنزل الرسول وعرض نفسه عليها، وقد أحرج الأنصار موقفهم مع بقية الأوس والخزرج من المشركين، وخاصة مع اليهود وهم أغنياء وأقوياء وذوو مكر تزول منه الجبال، ولم يكن النبي مهاجرا بمفرده أو بأهله حتى تتخذ ضيافته صورة الخصوصية، ولكن كان مهاجرا بحزبه، وقد سبقه إلى المدينة رجال ونساء معدمون خواة الوفاض بادو الإنفاض، حتى الذين كانوا سراة بمكة، فهذه عداوة مفتوحة لقريش؛ لأنهم آووا إلى بيوتهم أخص أعدائها، وهذه عداوة تنذر بقطع العلاقات ومجاهرة الخصومة، وهذه عداوة لليهود؛ لأنهم جلبوا إليهم رجلا يقول إنه مرسل من عند الله، ودليله بيمينه وهو كتاب الله، واليهود يفاخرون بأنبيائهم الموتى وملوكهم المدفونين في التراب في بلاد بعيدة، وفي هذا من التحدي لليهود ما فيه.
ويقول اليهود: لو تاقت نفوسكم أيها الأنصار من الأوس والخزرج لدين سماوي وأنفتم أن تبقوا على عبادة الأوثان فاتخذوا ديننا وكتابنا فنحن نعلمكم ونحن جيرانكم، وإن منكم من تهود، فلا غضاضة، ولكن الأنصار درسوا هذه المسائل فيما بينهم على مدى ثلاث سنين وهي المدة التي دامت فيها المفاوضات قبل الهجرة وقدروا في أنفسهم أنهم يقدرون عليها، ولكن قلوبهم كانت واجفة، يخشون أن يكون في قدوم الرسول مثارا للنزاع. ومسألة رابعة خطيرة وهي أن حزبا قويا بدأ يتكون حول عبد الله بن أبي ابن سلول الذي وصف بعد ذلك بأنه رأس المنافقين، وكان داهية باقعة ذا رأي وقوة ومحالفة مع اليهود، لقد بلغ هذا الرجل من النفوذ درجة جعلت قومه يفكرون في تتويجه ملكا عليهم، وكان يرمز للتتويج بعقد الخرزات، كان الأوس يريدونه سيدا عليهم، وكان خليقا في نظرهم بأن يسود المجتمع المدني وينشر لواء سلطته عليهم جميعا؛ لأنه ذو دهاء ورأي، وقد رأيناه يوم بعاث يستشار ويشير ويأمر وينهى، ولما تم الأمر على خلاف ما رأى تمكن بدهائه أن ينجو من الانتقام.
وهذا الرجل نفسه هو الذي اتخذ من هزيمة المسلمين في حرب أحد حجة يعلل بها رأيه في عدم الخروج إلى محاربة قريش، وادعى أن الرسول أطاع مشورة الشبان الطامعين في الحصول على النصر الحربي أو الطامحين إلى المجد، وقد مثل هو نفسه وحزبه واليهود في موقعة أحد (عندما أرغموا على السير إليها بحكم المحالفة) دورا مخزيا.
هذا الرجل كان قد وصل إلى قمة السياسة القبلية في المدينة، وكان يوشك أن يتوج بإجماع الآراء، فلما جاء النبي انصرفت الأذهان عنه انشغالا بالرسول ومقدمه، ومن ناحية أخرى فإن الأعمى يرى الفروق الهائلة بين الرجلين، فليس عبد الله بن أبي بالذي يصلح مزاحما لأحد أصحاب محمد؛ دع عنك محمدا نفسه، فهذه ضغينة صريحة لا يمكن نسيانها أو التجاوز عنها أو التقليل من شأنها.
نعم؛ إن الرسول لم يصارح أحدا بفكرته التي ألمعنا إليها؛ وهي أن يسود البلد؛ ليربي فيه أمة يحارب بها أهل مكة، ولكن الأمر كان ظاهرا لعبد الله بن أبي أو لأي رجل لديه خبرة سياسية؛ لأن الرسول لم يكن مهاجرا لاجئا يكتفي بنجاة نفسه ومن معه، بل كان قادما ليؤدي عملا ويتم رسالة، ولن يسكت عنها، ولو أراد السكوت لبقي في بلده وعشيرته، خصوصا وأن أعيان قريش وكان معهم عبد الله بن أبي، وهم أبو سفيان وأبو جهل وآخرون عرضوا على الرسول أن يقاسموه أموالهم وسلطانهم لو كف عن الدعوة فأبى، وإذن يكون عبد الله بن أبي قد وقف على الحقيقة؛ وهي أن هذا الرجل الذي صبر ثلاثة عشر عاما على أشد الويلات لن يكف ولن يسكت، وأنه لم يقدم المدينة إلا بعد أن استوثق ببيعة مائة رجل للدفاع عنه ومناصرته، ولا بد أن يكون قد حسب حساب فوزه ولو فوزا جزئيا، وأن كثيرا من عناصر النجاح قد توافرت له، ومن هذه العناصر تعطيل تتويجه أو تأجيل الاحتفال به إلى أجل غير مسمى، وسوف نلتقي بهذا الرجل كثيرا؛ لأن شخصيته جذابة للدارسين؛ بسبب نفاقه وشره وخلاص المسلمين من كيده، وهو لم يجرؤ على إضلاعه مع اليهود أن يجاهرهم بالعداء، فكان على قدر استطاعته محافظا على ظواهر الأشياء.
وكان على النبي في أول مقدمه ومعرفته بكل ما في المدينة من أحزاب وتيارات فكرية، على صغرها، أن يتلطف ويجامل ويؤلف القلوب ويرد كيد الأفراد والجماعات، لا مضمرا لهم انتقاما، ولكن راجيا أن ينضموا إليه باللين، حتى إذا قوي واشتد ساعده وما يزالون على حالهم فسوف يكون له شأن آخر.
كان اليهود ذوي حول وطول بعددهم وعلمهم ومالهم وحنكتهم، وكانوا أهل كتاب وفيهم رؤساء دين ورؤساء دنيا، فلا يمكن أن تخفى عنهم اتجاهات الرسول، ولكنهم تعودوا أن يداهنوا وأن يربحوا وأن لا يفاجئوا بالعداء إلا إذا استضعفوا شخصا أو فئة، ولكن عداءهم خليق بأن يظهر دائما عن طريق النقد والغيبة والطعن ومواجهة الشخص بما يكره؛ لأن نفوسهم تنضح بالبغض، ولا ريب عندنا أن كانت لهم يد في كل ما وقع بين الأوس والخزرج من الحروب؛ لأنهم مهما تحالفوا واطمأنوا للجوار فلا ينسون أن هاتين القبيلتين هما اللتان أغارتا على المدينة التي اعتبروها ملكهم؛ لأنهم أخذوها بحق الفتح من العمالقة، وقد دار الدهر وحلت بها فئة أقوى منهم وأقدر على الحرب ولها سند من عرب آخرين في غسان، فأمسى اليهود قلة في العدد وفي الحرب ونفاذ الرأي، وها هما القبيلتان عندما بدأتا تتضعضعان (وقد تسنح فرصة لليهود أن يتغلبوا عليهما) جلبتا إليهم رجلا غريبا عن البلد تسبقه وتصحبه وتلحق به عشائر من قريش تدافع عنه وتناضل وتترك بلدها وأموالها في سبيله، فهذا عنصر قوة جديد يشد من أزر الأوس والخزرج ويقضي على آخر أمل لليهود في استرجاع قوتهم، ولا بد أن حسبوا حسابهم في أن بقية الأوس والخزرج سوف تنضم إلى إخوانها في الانضواء تحت لواء الإسلام تقليدا أو اقتناعا، فإذا تم ذلك صارت هنا كتلة إسلامية ضخمة لم يجربوا - أي اليهود - العيش في أكنافها، خصوصا وأنهم لا يطيقون أن يعاشروا ملة أخرى تقول بأن دينها سماوي أو منزل وأن لها رسولا وكتابا، فإنهم قد درجوا على القول بأنهم ملح الأرض وشعب الله المختار، وأنه منذ قضى موسى نحبه لم يظهر من ينازعهم هذا الشرف، والذي نهض في أحضانهم وشق عصا الطاعة عليهم أخذوا بتلابيبه وهو ابنهم البكر، وتقولوا عليه الأقاويل وقادوه إلى الحاكم الأجنبي في وطنهم، وطالبوه بإهراق دمه.
ولهذا قبلوا عهد محمد مرغمين وهم يضمرون النقض له في الفرصة السانحة، ولا يبطنون وفاء ولا صفاء، فزعم زاعم أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - استنزل من السماء وحيا يقر بفضل اليهود وأنبياء اليهود ويشيد بقصص اليهود؛ تقربا إليهم وزلفى؛ حتى لا تتيقظ أحقادهم ولا ترفع أفاعي غلهم رءوسها! فهذا الذي زعموه باطل؛ فإن سورة القصص مكية، وهذه السورة فيها قصة موسى وترجمة حاله من مولده إلى بعثته، وقد أراد الله أن يؤيد وحيه إلى الرسول بالنص على إنبائه بغيب ما كان يعلمه محمد، ولا وصل إلى معرفته، فقال:
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون .
وهذه الآيات كالسورة كلها مكية، نزلت بمكة قبل أن تطأ أقدام الرسول أرض المدينة، بل إن كثيرا من القرآن الذي نزل بالمدينة فيه تقريع لليهود:
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (الأنعام: 91).
فهنا تمجيد لموسى وكتابه وتقريع للذين يخفون كثيرا منه، ولم يحد القرآن من الثناء على الأنبياء جميعا وتقريع شعوبهم الذين خالفوهم.
فذكر شعيبا وصالحا وهودا ونوحا ولوطا مع أن شعوبهم قد هلكت قبل بعثة الرسول بألوف السنين أو على الأقل بمئاتها، فمن كان يجامل أو يلاطف؟! ولمن كانت الزلفى؟! أهي العظام وهي رميم، أم رفات الذين اتخذوا في الجبال بيوتا وأتتهم الصاعقة فهلكوا جميعا مع الهالكين؟!
حقا؛ إن الرسول تلطف وتجمل مع يهود المدينة ولكن بصفته رجلا وضيفا كريما، ولكن لا بوصفه رسولا ونبيا، وإن الأدب من خلقه، ولين العريكة وحسن اللقاء من طبعه؛ لأنه لو كان فظا غليظ الطبع لانفضوا من حوله، ولكن لا يصل الأدب ولين العريكة إلى حد الرياء أبدا أو الانتصار الشخصي على حساب الرسالة؛ لأنها ليست ملكه، ولو كان ذلك طبعه لفعل في مكة بعض ما طلبه المكيون وقد عرضوا عليه المال والسلطان، وأن يترك لهم آلهتهم ويتركوا له ربه، لو فعل ذلك لكفى نفسه الحرب والنضال والعداء والاضطهاد ثلاث عشرة سنة، وقد بلغ نصف العقد السادس وصار خليقا بالراحة بعد عناء، والاطمئنان بعد قلق، والسلم بعد جهاد، وكان يقيم في بلده مكتفيا بمن آمن بدينه من أهله وأصحابه وعشيرته ممن هاجروا الهجرات الثلاث، ويصبر لعل الناس يدخلون في دين الله بدون مجهود يبذله من جانبه، والذي يقول بهذا أو يقترح عليه هذا أو يحبذ هذه، لم يكن يعرف حقيقة الوحي المحمدي ولا طبيعة الرسول وخلقه، بل لا يعرف طبيعة رسالته.
لم نكن عندما هدانا الله إلى البحث في سيرة الرسول نعلم قيمة المدينة والهجرة إليها، فلما انكشفت لنا حقيقته - عليه الصلاة والسلام - من بعض أعماله رأينا في لمحة، عظم النتائج التي ترتبت على وصوله إلى يثرب في ذلك اليوم الضاحي الذي بدأ به للعالم والإنسانية تاريخ جديد بز تاريخ البعثة نفسها من حيث اتصال الرسول بالناس في الدور الثاني لرسالته. •••
ليس تاريخ تأسيس المدن من مناهجنا، وتاريخ تأسيس المدينة نفسه يهمنا لبلوغ الرسول إليها في ذلك الوقت المعين، لقد ترك وراءه مدينة أكبر وأعمر وأغنى ولكنها فيما عدا المهاجرين والمسلمين الذين ما زالوا أسرى في بيوت أهلهم وسادتهم والذين يخفون إيمانهم؛ خوفا من التعذيب والاضطهاد، بلدة خبيثة نكراء فاسدة فاسقة دنست هيكلها الأعظم بعبادة الأوثان، واستباحت كل المحرمات وعاشت أمدا على الجرائم والاغتيال والربا، ولولا الأشهر الحرم لانغمست مكة في الدماء.
وقد أراد الرسول أن يختبر بلدة أخرى قريبة منها فيها خصب ومياه وحدائق وأعناب، وفيها سدنة وكهان، وفيها غنى وثراء، وفيها أعيان وسادة، وفيها لفيف من أقاربه وبني وطنه يشرفون على مزارعهم ويجنون ثمار بساتينهم ويبنون بيوتا في الخمائل يقضون فيها أشهر الصيف الشديدة القيظ، فرحل إليها
1
يتبعه فتاه الأمين زيد بن حارثة ربيب نعمته ونعمة خديجة، فكان ما كان من سوء لقائهم إياه واضطراره إلى العودة من حيث أتى بعد أن لحقه من الألم ما لحقه، مما يرفع شأنه ويعلي ذكره ويعظم شأن بعثته باحتماله وصبره، وإذن كانت فكرة الرسول بعد خيبة المكيين في إدراك مراميه وبعد الطائف وثقيف وهما حليفتا مكة وقريش، أن يجد «البلد»؛ لأن «البلد» قد أصبحت في القرن السابع المسيحي موطن العربي الذي ودع البداوة واتجه نحو الإقامة وراء الأسوار.
لقد تأخر هذا الدور في جزيرة العرب؛ لأن «البلد» في أوطان أخرى كانت قد قطعت أشواطا بعيدة في الحضارة، سواء في مصر أم فيما بين النهرين أم في اليونان وآسيا الصغرى أم في رومة، وكانت هناك «بلدان» لا تعد ولا تحصى، ومن بينها المدينة أو طيبة أو يثرب التي كان فيها الشرك واليهودية والنصرانية (عن طريق غسان)، وكانت خليقة بأن تعيش ألوف السنين كما هي، يعيش أهلها على الزراعة وقليل من الصناعة والتجارة، فهي «طائف» صغيرة لها ميناؤها الذي لم تعبد طريقها إليه؛ لعدم حاجتها إلى البروز إلى البحر (كما هو شأن جدة بالنسبة إلى مكة والطائف)؛ وذلك بأن المدينة كانت بلدة من غير روح فجاء محمد إليها بروح المدينة، لقد ولد للمدينة روح يوم أن دخلها الرسول، فالعبرة ليست بالبناء والمكان ولكن بالساكنين، فإذا سكنوا فلا قيمة لوجودهم المادي وحركات أبدانهم، ولكن بالروح الحي والقلب النابض الخفاق. إن أكواخ المدينة وآطامها ووديانها وجبالها لم تكن تزيد عن أي بلد آخر فيه جماعة من الناس، غير أن اجتماع الكوخ إلى الكوخ والجدار إلى الجدار والبيت إلى البيت والأطم إلى الأطم يخلق كائنا جديدا وشخصية جديدة غير التي تفاد من هذه المفردات مستقلة بعضها عن بعض، فيكون لها كيان وذاتية وهيئة خاصة وسيما وسحنة ووجه، فتبدأ حياة جديدة تجعل أحد أهلها يقول: (البلد يريد كذا أو يقصد إلى كذا) فكأنه يتكلم بلسان الجماعة، وكأنه تقمص شخصية البلد، وقد وصلت المدينة إلى هذه الدرجة في سلم التكوين ولكنها كانت خالية من كل معاني الروح، حتى المشركين فيها لم يكن لهم معبد أو هيكل ولكنهم يعبدون الأصنام بالتبعية، ولم يكن فيها كنيس لليهود ولا كنيس للنصارى، وإن تكن المدينة أقل فسوقا من أهل مكة؛ لأنها أقل غنى، ولأنها محرومة من مواسم الحج والزيارة وصفة القداسة واختلاط الأمم في عرصاتها وأفنيتها وطرقها، إلا أنها لم تكن أقل تحللا في الأخلاق؛ فقد كان شرب الخمر فيها شائعا، وكانت صناعة الأغاني متفوقة، وكان التسري والاسترقاق أمورا معلومة؛ لقربها من الشام والعراق، ولكن هذه المدينة مهما كبرت واتسعت وبلغت درجة مكة أو الطائف في النمو والبذخ فهي لا تزيد عنها في الجانب الروحي، ولا تتميز عليها بشيء.
ولكنها منذ أن دخلها النبي يحمل إليها الحضارة الروحية والرسالة المحمدية حل فيها روح جعلها أكبر وأعظم وأقوى وأغنى وأشجع من مكة والطائف ومن رومة وأثينا ومن بابل وغيرها من المدن التي لفظت أنفاسها الأخيرة، فهذه الأخيرة لم تعد تحسب مدنا على كل ما فيها من مظاهر الحياة المادية، وحتى الأسواق الكبرى ومراكز التجارة والمواصلات لا تعد «مدنا» بالمعنى الذي صارت إليه المدينة بعد مجيء النبي؛ فقد خلع عليها طابعا وجعل لها صفة، وصارت يثرب وطيبة «المدينة» وحسب، كما تقول عن بعض أعلام الرجال المشهورين «الرجل»، وماذا يضير الرجل العظيم المشار إليه إن كان قصيرا أو طويلا، هزيلا أو سمينا، ذميما أم جميلا؛ ما دام هو الرجل؟! كذلك ماذا يضير يثرب أو طيبة إن كانت صغيرة أو كبيرة، فسيحة أم ضيقة، مزدحمة أم قليلة الزحام، مكتظة بالسكان أم ضيقة بوقع الأقدام ما دامت هي «المدينة»، وما دام النبي الوافد إليها قد صمم على أن يجعل منها أمة جديدة قوية معدة للحرب والصدام؛ لنصرة الحق الذي جاءه من عند الله؟! وقد زاد في قيمة المدينة عند مجيء النبي إليها أنها لم تكن قد خالطها أهالي البلاد الأخرى، كما كانت الحال في مكة؛ فلا ترى في طرقها الضيقة الملتوية وجوها من الهند والسند والحبشة ومصر والفرس والشام واليمن والعراق، ولم تسر إليها عدوى أخلاق هؤلاء، وفيهم الطيب والخبيث والمطيع والعاصي والمفيق والمخمور والعف والفاجر والدنس والطاهر، إنها ما زالت بكرا أو في حكم البكر، وإن اليهود الذين ملكوها قديما واحتفظوا بها وذلوا أخيرا لانغماسهم في الترف واستغلالهم قبائل الأوس والخزرج ومن يمت إليهما من العشائر بالحلف والائتلاف والجوار، ولكنهم في الجملة محافظون على لون من الأخلاق والعادات والآداب والشريعة، مزيجا من التوراة، وعرف العرب، وأخلاق الصحراء.
لم يخطئ الرسول منذ هجرته ولم يحد قيد شعرة عن خطته المرسومة؛ فإنه قبل أن يدخل البلد أقام بقباء؛ وهي قرية تبعد عنها ميلين أو ثلاثة، واتخذ بها مسجدا ما يزال قائما متجددا؛ لأنه كما قال القرآن في وصفه: قد أسس على التقوى، وهذا المسجد وهذه القرية في مكان وسط بين أحد وبين المدينة قريبا من حدود الخندق، كأن الرسول اختار مكانا يشرف منه على البلد الذي سيصير عاصمة الإسلام، وعلى الميدانين الكبيرين اللذين تقع فيهما عظمى مواقع التاريخ المحمدي بعد بدر، فهذه بسطة الأرض في سفح جبل أحد ستدور فيها موقعة كادت تكون حاسمة في مستقبل هذا الدين وهذه الأمة، فقلبها الرسول بسعة حيلته وحسن تدبيره حاسمة في تهذيب أخلاق المسلمين وتدريبهم وإيقاظ مواهبهم وإفادتهم من الهزيمة خبرة وتجريبا ينفعهم أعظم نفع في موقعة الأحزاب وفتح مكة وموقعة حنين؛ إذ لا بد أن يهزم الجيش قبل أن يتعود الانتصار في الملاحم، وقد أسفرت موقعة أحد عن حقيقة الأحزاب في المدينة نفسها؛ فكتلة اليهود والمنافقين قد سارت إلى الحرب مرغمة، ثم ردها الرسول قبل أن تتنمر وتنقلب عليه.
وقد أقام الرسول في قباء أياما ثم أشهرا، وقد زعم بعض المؤرخين أنه أقام بها؛ ليدرس المحيط الجغرافي، ويتعرف مواطن الآبار، ويفحص الطرق والسبل والمواقع التي تصلح للحرب بين مرتفعات ومنخفضات وسهول ووديان وسفوح جبال! وانتقد البعض هذا الزعم بأن الرسول ما أقام في قباء إلا ليستريح من عناء السفر، وليتخذ أصحابه عدتهم لاستقباله أحسن استقبال، وهذا أيضا تعليل مقبول، ولكن الزعم الأول يرضينا ولا يسوء أن يكون الرسول كان يضمر الحرب ويخشى هجوم أعدائه ويستعد للدفاع، فهذا يتمشى مع تنفيذ خطته، وقد نجحت هذه الإقامة الاستكشافية؛ فإن خطط النبي في أحد وفي الأحزاب كانت موفقة، والهزيمة في الأولى جاءت بفعل العصاة من الرماة المسلمين الذين فتنتهم الغنائم وغرهم انهزام المشركين، ومن بوادر النجاح في الموقعتين أن النبي أرغم المشركين على الحرب في الميدان الذي اختاره، لا الذي اختاروه، وقد اختار هو لنفسه وجيشه وقواد جيشه أماكن وآبارا وظلالا وقبابا يلازمها النصر وإطفاء الظمأ، وإذن لم تكن إقامته في قباء لغاية دينية؛ وهي تأسيس المسجد، ولا لتمكين أصحابه وأنصاره من إعداد استقباله، ولم يخطر بباله أن يتخذ من قباء متكأ ومستقرا يحل به إذا أرغمته الظروف على الخروج من المدينة، فإنه ليس بالرجل الذي يقنع بالإقامة في القرى، ولا بالذي يبني مسجدا ليقيم فيه كما يقيم غيره في الصوامع والبيع، وإلا ففي ضواحي مكة متسع، ولكن وقت الخلوة والاعتكاف والتحنث قد انتهى وسمع صيحة:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر .
وبقدر فرح الرسول ببلوغه أمد هجرته على أبواب المدينة كان ينازعه إلى مكة حب الوطن ويؤلمه غدر مواطنيه وعمى بصائرهم وأبصارهم ويشفق عليهم والله يواسيه ويوحي إليه أن هذا البلد الذي أخرجه لا شأن له بين البلدان التي هلكت بغضب الله واضطهاد الرسول:
وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم .
وكان الله كلما حن إلى وطنه يطمئنه بالعود منصورا ظافرا، فأنزل عليه أثناء الهجرة قوله:
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين .
وليس في القرآن غير هاتين الآيتين نزل أثناء الهجرة في الطريق، وإنهما على جانب من الأهمية، فالأولى في سورة «محمد» ينبه الله فيها الرسول إلى أن المدن مهما كبرت وعزت وضخمت فليس هلاكها على الله بعزيز، ولا يكون الهلاك دائما بالصعق أو التدمير كما حدث في سدوم وعمورة وبومبئي وهيركولانيوم وعواصم الأزتيك والإنكاس والمابا بالمكسيك وبابل وتدمر والبتراء ومدن عاد وثمود، ولكن الهلاك قد يكون بزوال القوة وانحلال الشخصية وانهزام المجتمع على صورته التي يعاند بها الحق، فمكة الوثنية هلكت يوم الفتح؛ أي إن روحها الوثني زهق وحل بها روح جديد هو روح الإيمان المحمدي، وفي الحق لم تكن مكة بالقياس إلى تلك المدن شيئا مذكورا؛ فأين هي من طيبة ومن رومة ومن إسبارطة وأثينا وقد هلكت جميعا وطارت من بروجها جوارح القوة التي حلقت في سماء المجد قرونا، وتقوضت أركان هياكلها فخوت على عروشها وانثلت عروش ملوكها وسادتها، وتدحرجت تيجانها المزدوجة والمنفردة، وتقلصت ظلال الجاه والعظمة التي عاشت الأمم في أكنافها، ولكن القرية التي هو قادم عليها وإن تكن أصغر من مكة وأقل شأنا وأخفض صوتا وأصغر صيتا، إلا أنها ستكون أعظم وأقوى من مكة حتى ترد غائلتها أولا ثم تفتحها وتغتصبها وتسودها وتجعلها تابعة.
ولكن هذا الاستصغار لشأن مكة كان مصحوبا بوعد من الله بالعود إليها تحت راية الظفر والنصر:
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد . هذا المعاد بأمر الله قد فرضه على نفسه وكتبه كما فرض عليك القرآن الكريم:
دع ما يقول النصارى في نبيهم
وفي الكمالات قل ما شئت واتسم
ومن هذه الكمالات التي يشير إليها البوصيري في بردته الباقية بقاء أصدق الشعر وأبلغه وأروعه، اهتمامه بمجرد وصوله بتشييد المسجد في المدينة، وهو أبلغ من رفع راية أو علم أو بناء حصن وأطم؛ لأنه بناء مكان يقطنه روح البلد الذي حل به بحلول محمد، والآطام والحصون تحل بها الأجساد لا الأرواح والمباني لا المعاني. •••
لقد قطع الرسول هذه الطريق؛ ليصل إلى المدينة وقد دخلها على صورة إنسانية يكاد من يراه لا يعرفه ولا يميزه عن أبي بكر رديفه، نزل الرسول في بني عمرو بن عوف عشيرة من الأوس أسبوعين، فلما أراد الانتقال إلى عشيرته وأخواله جاء ملأ من بني النجار متقلدين سيوفهم، وقد رآهم شاهد عيان صادق الرواية هو أنس بن مالك، فساروا بموكب من ديار بني عمرو بن عوف إلى فناء أبي أيوب؛ وهي ما تزال حتى اليوم مجاورة للمسجد يفصلها زقاق البدور أو الرصاع، وقد مر الرسول في طريقه بعبد الله بن أبي ابن سلول الذي قلنا: إننا سنلتقي به كثيرا في فترة المدينة، بل في عصرها الذهبي، فهو يمثل دور «خائن القصة» أو «وغد الرواية» الذي يبغضه القارئ أو المشاهد ويستثقل ظله، ولا يعجب به إلا الكاتب أو المؤلف؛ لأنه خلقه من فتات الشر ولون شخصيته من عناصر اللؤم والخبث والنفاق، ومع ذلك فلم يكن عبد الله دميما ولا ثقيل الظل ولا سيئ الهيئة، بل كان جميل الصورة ممتلئ الجسم حسن التقاطيع فصيح اللسان أرستقراطي المظهر وهو الذي عناه القرآن الكريم بقوله:
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ... .
لقد مر الرسول يصحبه سعد بن عبادة وأراد الرسول أن ينزل به؛ تأليفا لقلبه، واستلالا للعداء من صدره، وكان ابن سلول جالسا مختبئا فقال للرسول في جفاف وجفوة: «اذهب إلى الذين دعوك وانزل عليهم.» وروي أنه قال للرسول: «إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك.» وأنه ستر أنفه بطرف ردائه ثم قال: «لا تغبروا علينا.» لأن بعض الغبار ثار من مشي الحمار الذي يركبه الرسول. والعبارتان شديدتان وهما تصوران كبرياء ابن سلول وبغضه وعداوته التي لم يملك أن يخفيها، ولكنهما لا تعدان شيئا في جنب ما تكبده في بلده مكة من الأهل والغرباء، ولا يجعل لهما شأنا إلا أنهما علامة سيئة عند القدوم على المدينة، فهما علامة غضب وغيظ، وهما كذلك في نظرنا الآن، فما بالهما في بيئة عربية منذ أربعة عشر قرنا مشهورة بالكرم، تقالان لضيف عظيم له حزب كثير في البلد من أعضائه عبد الله بن رواحة وسعد بن عبادة، وفيهم كبار المهاجرين؟! فإذا شاعت هذه المعاملة وانتشرت كانت دعاية سيئة للإسلام، وتعبيرا كريها للرأي العام المدني ينطق به أحد زعمائه.
لقد عرج الرسول على هذا المنافق تأليفا له رجاء أن يكون ذلك التودد سببا لإسلامه وإسلام من تخلف من قومه، وليزول من قلبه ما تراكم من نفاق وعداء لذلك القادم الذي ظن قدومه مقدمة لضياع سلطته، وكان أشد من ذلك أن الرسول حين مر بابن سلول كان متصدرا مجلسا جمع أخلاطا من المسلمين واليهود والمشركين وهو مجلس يغشاه أهل المدينة إخوانا في المواطنة؛ لا في العقيدة، ولم تكن بينهم فوارق في الاجتماع ولا يظهر أحد منهم عداوة لأحد لاختلاف دينه؛ لأن الدعوة ما تزال في فجرها، وقد تحمل الرسول ما قاله ابن سلول عن مثار الغبار أو عن نتن المطية ولم يبال به، فنزل وسلم عليهم ثم دعاهم إلى الله وقرأ عليهم بعض آيات القرآن، فأنصت منهم من أنصت؛ كسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة، وصبر اليهود على ضيم، ولكنهم لم يكرهوا أن يستمعوا وقد سمعوا من قبل من المهاجرين الذين يقيمون في البلد ويقيمون الصلوات الخمس؛ لأن الرسول بعث إليهم مصعب بن عمير؛ ليفقه الأنصار في دينهم، وليكون رقيبا على العناصر المعادية.
أما المشركون فكانوا بين بين، فلا هم مبالغون في البغضاء ولا ميالون كل الميل؛ فقد أسلم فريق كبير من إخوانهم وفيهم أهل لهم وذوو قربى، ولو لم يكونوا سوى مستطلعين؛ لكفى ذلك سببا لصمتهم، أما ابن سلول فكان محنقا مغيظا لا يسره أن يسمع القرآن ولا يسره أن يرى وجه الرسول ولا وجوه المحيطين به من صحابته، ويقتله غما أن يرى له نفوذا أو هيئة تنبئ بمستقبله، فأطرق قليلا يعد سما قاسيا لينفثه، فقال: «أيها المرء (كذا)، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا، فلا تؤذنا به في مجالسنا! ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه.»
يا له من رد جارح! ويا له من رد صادق الانطباق على كل منافق! ويا له من سهم مسمم لو لم يرد إلى نحر قائله! هذا الجبان الذي كاد يموت فرقا يوم بعاث بعد هزيمة قومه، ويفر من أطم إلى أطم، ويختفي وراء شجر الغرقد تبعا لأسطورة يهودية من أن هذا الشجر الخبيث لا يدل على اليهود يوم عودة المسيح إلى الأرض ... ويصرخ من أعلى قصره متلجلجا بالاعتذار والدفاع عن نفسه، هذا الرجل المعروف بالنفاق في كل أوساط المدينة قد صار اليوم فصيحا ينطق بجوامع الكلم في الباطل والقحة! وكان من الطبيعي أن يغضب المسلمون الجالسون؛ ولو كانوا قلة، وأن يردوا هذا الطعن الدنيء بتشجيع الرسول، فيقول ابن رواحة: «بلى يا رسول الله؛ فاغشنا؛ فإنا نحب ذلك.» وهذا انقسام في المجلس، فابن رواحة ومن جعل نفسه لسان حالهم يعارضون ابن سلول ولا يتركونه يستأثر بالقول والطول، فما جاء محمد ليرجع إلى رحله، ولكنه لم يأت أيضا ليحدث شقاقا وحربا بين العناصر التي يفكر في تربيتها وإعدادها لمحاربة أعدائه ومناصرة الحق، ولكن على الرغم من مسالمة الرسول؛ فقد تبادلوا السباب في هذا المجلس وتراشقوا بالألفاظ الجارحة، فقال ابن سلول: هذا ابن أبي كبشة قد عثا في هذه البلاد، وقال الرسول لسعد بن عبادة: ألم تسمع ما قال أبو حباب؟
وقال أنصاري لابن سلول: والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك! وقال غيره كلاما أشد حتى تضاربوا بالجريد والأيدي والنعال، وهذا الشجار يخالف مبدأ الرسول، فما زال يخفض من غضبهم ويهدئ من روعهم حتى سكنوا، فغادر المجلس وركب، وفي هذا الشجار نزلت آية:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (في البخاري).
وإني أتساءل في احترام لأحد الصحيحين: هل كان طائفتان من المؤمنين، أم طائفة من المؤمنين وأخرى من المشركين واليهود، ما لم يكن المؤمنون في المجلس قد انشقوا وانضم فريق منهم إلى فريق من المشركين واليهود؟!
ولا أستبعد ذلك؛ فإن سعد بن عبادة وهو من خيار الأنصار توسل إلى الرسول أن يعفو عن ابن سلول ويصفح عنه قائلا: فوالله الذي أنزل عليك الكتاب بالحق قد اصطلح أهل هذه البحيرة (أي الناحية) على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما رد بالحق الذي أعطاك الله شرق؛ فذلك الذي فعل به ما رأيت. أي الغيرة والغيظ من خيبة الأمل ووجود مزاحم غير منتظر؛ كأن ألقت به السماء. فعفا عنه الرسول، ولن تكون هذه الأولى أو الأخيرة؛ فإن النار التي أشعلتها الغيرة والغيظ في قلب ابن سلول لن تنطفئ إلا بموته، وعقارب صدره لن تختنق أو تخمد ما دام على قيد الحياة، يرى رفعة عدوه وسعوده، وقرحة صدره لن يجف نزيزها ما دام نجم محمد
صلى الله عليه وسلم
في سعود وعلو، ولذا قلت: إننا لن نفارقه إلا لنلقاه بعد برهة يمثل دورا جديدا في حياة المدينة.
وسعد بن عبادة غير مطعون في حبه الرسول أو غيرته على كرامته، وغير منسوب إلى شيء من النفاق أو مجاراة ابن سلول، ولكنه كان حليما وكان عليما بما يجب أن يسير عليه المسلمون في هذه «البحيرة» إن لم يكن واقفا على خطة النبي.
وإن مسلك أبي حباب (ولكأنه كنية من كنى الشيطان!) لا يثني الرسول عن عزمه ولا يفت في عضده ولا يصب ماء باردا على العقيدة.
فأين تهكم ابن سلول من تهكم أبي جهل وأبي لهب وسخرية عقبة بن أبي معيط، وهم أهل مكة الذين حذقوا كياسة السادة وسفالة الأوشاب، وأتقنوا حسن الكلام كما وعوا خطاب الدواعر؟! ولذا شرع الرسول في بناء مسجده.
كثير من الرواة الثقات على أن الناقة بركت أمام الأرض التي صارت فيما بعد مسجد المدينة كما بركت في قباء، وإن هي فعلت فلا غرابة؛ فإن الأرض كانت مربدا للإبل، وقد يكون فيها من ريح الإبل ما تشمه الناقة وتطمئن إليه، ولكن بعض الثقات الذين يروقنا قولهم على أن المكان كان يصلي فيه أسعد بن زرارة صلاة الجمعة بأصحابه قبل قدوم الرسول، فلما جاء الرسول أقره على اختيار الأرض واشتراها من يتيمين اسمهما سهل وسهيل من بني النجار ودفع ثمنها عشرة دنانير من مال الصديق، ولعلها من أواخر الدنانير التي حملها من ماله من مكة، وقيل إن المكان كان بيدرا لتجفيف التمر كالجرين الذي يدرس فيه القمح في ريف مصر، وإن مصعب بن عمير عندما قدم المدينة مبعوثا من الرسول؛ ليوافيه بأخبارها قبل الهجرة يفقه الأنصار، خلف ابن زرارة على الإمامة وصلاة الجماعة في نفس هذه البقعة التي هي الآن الحرم المدني، وجاء أنها كانت مقبرة قديمة للجاهلية، ونحن نرجح ذلك؛ لقربها من البقيع مقبرة المدينة حتى الآن، فنقلت عظامهم بموافقة أهل البلد من الوثنيين إلى المكان الذي يقال عنه: إنه مقبرة المشركين القديمة «أو البقيع القديم»، وقيل كان به مستبحل؛ أي مستنقع، فعملوا على تجفيفه وتخليص البلد من أذاه، ولا تخلو المدينة من هذا النشع؛ لرطوبة أرضها، وكثرة المياه والآبار في نواحيها، وعندما شرع النبي في البناء عمل عملا يدل على علو كعبه وإشرافه على معاني الرياسة الإنسانية؛ فقد وضع لبنة أو حجرا بيده أولا كما فعل الملوك والرؤساء بعد ذلك ببناء حجر الأساس بأيديهم، ودعا أبا بكر وعمر وعثمان ففعلوا بعده مثل فعله؛ لأنهم أكابر الصحابة المهاجرين، وزعم المبالغون أنه قال هذا ترتيب خلافتهم أو ترتيب وفاتهم! وهذا كله موضوع ومنتحل، فلا الرسول ينذر بالوفاة في بداية عصر ذهبي سعيد ولا يكشف الحجاب عن نظام السيادة في البلدة، وإن كان كثير من هذا يحدث بالمصادفات في كل عصر؛ ولا غرابة أن يقول لكل منهم: ضع حجرك جنب حجري؛ ليثبت لهم والملأ من المهاجرين والأنصار أنهم كالبنيان المرصوص وأن لكل منهم لبنة أو لبنات يضعها بيده؛ ليشترك في بناء المسجد الأول بعاصمة الإسلام الجديدة؛ لأنه دعا الناس بعد ذلك إلى وضع الحجارة قريبا من ثلاثة أذرع؛ لتكون بمثابة الأساس، ثم بنى بقية المداميك باللبن، وجعل عضادتيه (أي جانبيه) بالحجارة وسقفه بجريد النخل، وجعلت عمده من جذوع النخل، وارتفاع الجدار قامة أي سبعة أذرع، حتى إذا قام مصليا أو رفع يده أصابتا السقف، وجعلت قبلته إلى بيت المقدس وثلاثة أبواب في مؤخره وباب عاتكة وباب جبريل (وهو الذي يخرج منه الآن إلى البقيع).
ومن العبرانيات أن الرسول أراد عريشا كعريش موسى أو كظلة موسى، مع أن العرب كانوا يقيمون مثل هذا البناء في كل مكان قبل أن يشيدوا البيوت بالحجارة وهي كثيرة في المدن؛ لقربها من الجبال، وما تزال الفنادق والمقاهي في الطريق بين جدة ومكة وبين مكة والمدينة على الساحل وفي الداخل مبنية على هذه الصورة.
وكذلك القرى كرابغ وآبار الشيخ والمسيجيد وآبار علي وغيرها، وظلة موسى اتخذت في عيد مخصوص لا في بناء مسجد للعبادة الدائمة، وقد اشترك المهاجرون والأنصار في البناء، وعمل فيه الرسول بنفسه؛ ليرغب المسلمين في العمل، ويخفف عنهم مشقته، وكان يقول أحيانا: «اللهم إن الأجر أجر الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة.» وفي البخاري: «فاغفر للأنصار والمهاجرة.» والرسول لا يقول الشعر ولم يتمثل ببيت موزون أبدا، وقالت عائشة: كان أبغض الحديث إليه الشعر، غير أنه كان يتمثل به «ويجعل أوله آخره وآخره أوله» فيقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار، وكفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا، وقال له أبو بكر: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما أنت بشاعر ولا راوية.» وهذا لا ينفي أن كثيرا من آيات القرآن جاءت موزونة؛ لأنه كلام الله، ولا دخل للرسول فيه؛ فقد جاء نص صريح:
وما علمناه الشعر وما ينبغي له
ولا ينفي أنه كان يستحسن شعر حسان وكعب بن زهير والخنساء، فهذه الفطرة العربية السليمة، وهذه السليقة المغموسة في الأدب الأرفع، وهذا الموصوف بأنه أفصح العرب والعجم، وهذا الوليد في قريش وحفيد عبد المطلب رئيس وفد المفاوضة مع أبرهة الأشرم ومربي علي بن أبي طالب ومبدع فن الخطابة المنبرية وصاحب خطبة الوداع، لا يمكن إلا أن يكون معجبا بالشعر الذي لا يعبث بالأخلاق ولا يمجد الشهوات، وعجزه عن الوزن لا يطعن في ذوقه واستساغته واستيعابه.
وعلى كل حال فإن حداء النبي أو كلماته الشبيهة بالنظم كانت تبث روح الشجاعة والدأب في نفوس المسلمين وتنبئ عن فكرة التعاون التي يبنى بها المسجد، فكان الكل عمالا بغير تمييز بين من سوف يصيرون أمراء المؤمنين وبين الكاسبين بعرق جبينهم وبين أهل الصفة الذين لا مأوى لهم وهم يبنون المسجد الذي تصير إحدى ناحياته مأواهم إلى أن ينتقلوا إلى المناصب العليا كأبي هريرة، أو إلى رحمة الله، وكانت الحماسة تبلغ بأحد هؤلاء الكرام فينقل بدل اللبنة لبنتين أو ثلاثا حتى تتعفر ثيابه ويعلو وجهه التراب وهو لا يبالي بذلك، كعمار بن ياسر، وكان رجلا رشيدا محبوبا من رسول الله، ولعله بتكليف نفسه حمل اللبنات الزائدة أراد أن يقوم بنصيب الرسول في البناء ويحصل على الأجر، وهو نفسه عمار ابن سمية الذي كان ما يعرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما، فلما رأى الرسول التراب مسح على ظهره ورأسه؛ ليزيل عنهما الغبار.
ولم يشذ أحد من الصحابة عن المعونة، حتى عثمان بن مظعون الذي آمن بالدعوة في مكة منذ اثنتي عشرة سنة، وكان قبل إيمانه متحنفا، وما زال حياته متنظفا متأنقا مترفها كأن النظافة شملت باطنه وظاهره؛ فقد فر من أرجاس الجاهلية قبل ظهور الإسلام وحرم على نفسه الخمر والزنا والقمار والأزلام والأوثان، وكره أن يرى على ثوبه قذر أو غبار، فكان في أثناء بناء المسجد إذا حمل اللبنة يجافي بها عن ثوبه؛ لئلا يصيبه التراب، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فأراد علي بن أبي طالب مداعبته؛ والفرق في السن بينهما كبير؛ فقد كان علي في منتصف العقد الثالث، وكان ابن مظعون قد تعدى حدود الأربعين، قال علي:
لا يستوي من يعمر المساجدا
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى من التراب حائدا
إن صحت هذه الرواية الأدبية فقد كان روح المرح المكي ما زال سائدا في وسط المهاجرين، ولا يأنف علي بن أبي طالب أن يصوغ النقد الظريف في قوالب الشعر، ولا يغضب منه ابن مظعون؛ فقد كان رجلا متزنا راجح العقل، وله كلمة في تحريم الخمر على نفسه قبل أن يحرمها الوحي: «لا أشرب شرابا يذهب عقلي، ويضحك بي من هو أدنى مني.» قيل إن عليا لم ينكره، فالتقطه عمار بن ياسر، فصار يرتجزه، وهو لسلامة نيته لا يدرك معناه خصوصا إذا سمعه ابن مظعون فيظن أنه يعرض به، فقال له: يا ابن سمية، لا أعرف بمن تعرض! فإن لم تكف فإني أعترض بهذه الحديدة (أو هذه العصا) وجهك، فسمع الرسول هذا الوعيد فغضب، وقال: إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني. ووضع يده بين عينيه، فلما رأى عمار غضبه أراد أن يصرفه عنه ويرضيه، لقد غضب محمد لعمار العامل الدائب ولم يبال بابن مظعون الذي له فضائل؛ منها: مبادرته بالإسلام، وسابق تحنفه، وهجرته، وجهاده، ولكن الرسول غضب لعمار؛ لأنه كان مستضعفا، فقال عمار: إن أصحابك يقتلونني بتحميلي ما لا أطيق من اللبنات عددا، فأخذ الرسول بيده وطاف به المسجد وهو يمسح ذفرته من التراب ويقول: ليسوا بالذين يقتلونك!
ولم يغضب الرسول لعمار في هذه المرة فحسب، بل غضب له بعد ذلك مرات؛ فقد كان عمار روميا إغريقيا، وهو صديق صهيب الرومي وزميله في العبودية وفي الفرار منها إلى دار الأرقم، فالتقيا عند عتبته وهو من مؤمني الساعة الأولى، ولذا كان بعض شرفاء قريش يتعالون عليه، كما فعل ابن مظعون، وكما فعل بعد ذلك خالد بن الوليد، والنبي يعتقد في إيمانه كاعتقاده في إيمان عبد الله بن مسعود وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وصهيب، وكلهم غرباء عن مكة موطنا ودينا، وكان من خيار الصحابة، فاختلف خالد مع عمار، وخالد رئيسه في إحدى الغزوات، فقال خالد للرسول: أيسرك أن هذا العبد الأجدع (كذا) يشتمني؟! فلم يسأل رسول الله عن مخالفة عمار؛ بل قال لخالد: يا خالد لا تسب عمارا؛ فإن من سب عمارا سب الله (كذا )، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله، ثم إن عمارا قام مغضبا فقام خالد فتبعه حتى أخذ بثوبه واعتذر إليه، فرضي عنه.
وقال النبي: «الحق مع عمار ما لم يغلبه دلهه.» وهذه الحادثة لاحقة بأعوام بعد بناء المسجد، والكلام على عمار يدخل في باب الصحابة، ولكني تعرضت لها للدلالة على سياسة النبي وخططه المحمودة في الأخذ بيد الضعفاء من المسلمين؛ لإثبات حق المساواة، بل التفضيل أحيانا للذين لبوا دعوة الله في الساعة الأولى، فإن خالدا مع قرابته وشرفه قد حارب الرسول في أحد وكان العامل الثاني في الهزيمة، وأسلم بعد ذلك، رفع سيفه في وجه المسلمين في وقت قوة قريش ولم يسلم إلا مع عمرو بن العاص عندما رأيا الغلبة والرجحان في كفة النبي. وهذا الدين لنصرة الضعفاء وإزالة أسباب التفاوت والتفاخر بالأصول والثروات، وكان عمار عدا عن ذكائه واستقامته وتفانيه مؤمنا حقا حتى قال الرسول: «إن عمارا ملئ إيمانا من فوقه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وحشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنيه إيمانا.» فاسمع إلى هذه الدقة في التعبير ولا مبالغة فيها عن رجل فني في الإيمان، فهو من أعلام الصحابة ولا يحق لابن مظعون ولا لابن الوليد أن يتعاظما عليه أو يذكراه بالعبودية؛ ولا يبالي الرسول أن يغضب خالد إذا رضي عمار، وقد كان عمار حكيما بعيد النظر، فرأى في عهد عثمان ما قد يسوقه عهده إلى ما يسوء، فوقع بينه وبين عثمان وهو أمير المؤمنين شحناء وأشيع عنه أنه يريد أن يخلع عثمان فاستدعاه سعد بن أبي وقاص وقال له: ويحك يا أبا اليقظان (كنية عمار)، أمعك عقلك أم لا؟! (مشيرا إلى تحفظ الرسول في حديثه أن الرجل مع الحق ما لم يخرف) فغضب عمار ونزع عمامته وقال: «خلعت عثمان كما خلعت عمامتي هذه! وأعوذ بربي من فتنة سعد!» وظن سعد بن أبي وقاص أن نبوة الرسول تحققت، وأن عقل الرجل قد ضعف بكبر سنه ورقة عظمه ونفاذ عمره، ولكن الأيام أثبتت أن هذه النبوة وإن صحت لم يؤن أوانها، وأن أبا اليقظان كان على حق في أمر عثمان، وقد رأى بوار الفتنة التي انتهت بفاجعة الإسلام في ابن عفان وفي نظام الحكم، ولم يمت عمار بن ياسر إلا في موقعة صفين، ولم يثبت لنا التاريخ إن كان دله أو لم يدله ، وكان عمره يوم مات ثلاثا وستين سنة، وهو يحارب ويده ترتعش على الرمح، ومن أعجب ما حدث أن عثمان عزل بعد ذلك سعد بن أبي وقاص عن الكوفة وولى أخاه لأبيه الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي سماه الله فاسقا:
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا ...
الآية.
كان من أبرز صفات الرسول صدق نظره في الرجال؛ فإنه لم يخطئ فيهم قط، سواء أكانوا عبيدا أم سادة، ومؤمنين أم مشركين، وهاك عمارا قد صار من السياسة وعلو المكانة في عهد الخلفاء أن يرى مستقبل الحوادث ويتجرأ بمفرده على خلع عثمان بن عفان صهر الرسول وثالث الخلفاء، ولو أن سعد بن أبي وقاص تبع رأي عمار في هذا الحين أو نظر في أسباب غضبه وشحنائه فربما اتقى المسلمون أسباب الانحدار الذي انزلقت فيه أقدامهم.
غير أن هذا التقدير ومثله لا يفيد في أقدار الأمم شيئا ولا يغير من أخلاق الرجال وتطور الطباع، وهو ما يكون الأسباب ولا يعطل الأقدار التي تسير في خططها سير الكواكب في أفلاكها، والأقدار عامل مهم في حياة الأمم. •••
وغني عن البيان أن البيئة المدنية كانت بيئة تقشفية، لا تشبه بيئة مكة في قليل أو كثير، وإن يكن أصحاب الآطام قد افتنوا في ألوان الترف والرفاهية، إلا أن المهاجرين كانوا في حاجة ملحة، وثروة الأنصار قسمت بين الفريقين، فما كان لواحد أو اثنين صار بحكم الضرورة يكفي ثلاثة أو أربعة، إلى أن اعتدل ميزان الزمان وعمل بعض المهاجرين الحاذقين في الاقتصاد، فحسنت أحوالهم، وكان تقشفهم أظهر ما يكون في عبادتهم؛ فقد كانوا يأبون أن يكون بينهم وبين الأرض حائل أثناء الصلاة؛ فلم يفرشوا أرض المسجد إلا بالحصباء، ولا يزال جزء من فنائه محصوبا إلى الآن وهو الذي في وسطه البئر أو المزولة، وبقيته فرشت بالسجاجيد والبسط الرقيقة، وكان هذا منكرا في عصر الرسول والصحابة، ولكن توسعة المسجد كانت مستحبة، فانظر الأرض التي دفع فيها الرسول عشرة دنانير ارتفعت قيمة المثل لديها ارتفاعا كبيرا، حتى إن عثمان اشترى في حياة الرسول مربدا مجاورا لمربد يتيمي بني النجار بخمسة وعشرين ألف درهم وأهداها إلى الرسول، وهذا التحول الاقتصادي نحو الصعود في ثمن العقار بجوار المسجد دل على اتجاه جديد واعتقاد قاطع بنجاح الإسلام والشأن الذي سوف يكون لمسجد النبي في مدينته، ولا يخلو الأمر من فطنة رجال المال؛ فإن الذي باع هم الأنصار، والذي اشترى عثمان بن عفان، ولا نظن أن هذا المربد أو ذاك هما كل ما اشتراه المهاجرون من الأنصار، ولا نميل إلى تصديق قصص الفقر المدقع الذي وقع فيه المهاجرون ما دام بينهم رجال كابن عفان وابن عوف، وقد اشترى عثمان أيضا نصف بئر رومة باثني عشر ألف درهم في حياة النبي أيضا، فبعيد عن التصديق تناثر هذه العشرات ألوف في وقت يبيت فيه مهاجر على الطوى وهو ما هاجر إلا في سبيل الله ونصرة رسوله، ولكن لعل المؤرخين بالغوا قليلا في الوصف؛ ليحيطوا المؤمنين الأول بهالة من شرف التضحية والصبر على المكاره. •••
بنى الرسول وأصحابه مسجد المدينة، واعتزم على أن يتخذ ناحية منه مسكنا لأهله ولنفسه؛ ليجمع بين الحياة العامة والخاصة في مكان، وليكون ضيف الله في بيته لا ضيفا على أحد؛ فإن المسجد مقر العبادة ومقر الخدمة الشعبية، خدمة المسلمين؛ فهو ديوان الحكم وليس عليه سيما الدواوين، ومقر الدولة الناشئة وإن لم يكن عليه طابع الدولة؛ لأنه عنه تصدر ومن أركانه تنبثق أشعة السلطة الدنيوية التي جمعها الله إلى الإيمان في يد رسوله.
فأمر النبي ببناء حجرتين لعائشة بنت أبي بكر وسودة بنت زمعة، وجعلهما ملاصقتين للمسجد على طرز بنائه من لبن، وجعل سقفهما من جذوع النخل والجريد، ولم يخل العمل في المسجد والدار من مهندس معمار اسمه طلق من بني حنيفة كان النبي يثني عليه ويقول: «الزم أنت هذا الشغل؛ فإني أراك تحسنه.»
فلما تم البناء وطالت ضيافة النبي في بيت أبي أيوب وهو مجاور للمسجد لا يفصلهما إلا زقاق الرصاع إلى الآن، فكر في جلب أهله من مكة؛ فبعث بزيد بن حارثة غلام خديجة الذي تبناه وزوجه من زينب بنت جحش، وكان ظريفا أديبا مطيعا مؤمنا، وأبا رافع، وأعطاهما خمسماية درهم؛ لينقلا أهل بيته من مكة، وسير معهما أبو بكر عبد الله بن الأريقط دليلا، فعاد الرسولان بفاطمة وأم كلثوم بنتي الرسول وسودة زوجته وأم أيمن حاضنته التي زوجها من زيد بن حارثة، وابنها أسامة بن زيد وكان من أحب الناس إلى الرسول، واحتجز أبو العاص بن الربيع زوجته زينب بنت الرسول وهو ابن خالتها الذي زوجتها منه أمها خديجة بنت خويلد، فمنعها من الهجرة إلى الله ورسوله وهو والدها، وكانت رقية سبقت إلى الهجرة مع زوجها ابن عفان، وجاء في هذا الركب مع أسرة النبي أسرة أبي بكر؛ عبد الله ابنه ومعه أم رومان والدة عائشة وأختها أسماء زوجة الزبير بن العوام، وولد لأسماء أخت محمد بن أبي بكر مولود بكر هو عبد الله بن الزبير، وفي حياة هذا الطفل حادثة لطيفة تجري الدمع في العين؛ فقد ولد في السنة الأولى للهجرة وصحبه النجاح من الساعة الأولى، فلما بلغ السابعة أو الثامنة أمره والده الزبير أن يبايع الرسول فذهب إليه وهو الذي احتضنه طفلا وهنأ أباه وأمه بمولده فتبسم وبايعه.
2
وقد كانت أسرة أبي بكر من أخلص المؤمنين وأنفعهم، فاشتركوا جميعا في خدمة الدين ونصرته؛ فالصديق هو الصديق وكذلك ابنته عائشة، وأعانت أسماء الرسول وأباها على الهجرة، وكان محمد أبو بكر وعبد الرحمن أبو بكر بعد إسلامه والزبير بن العوام صهر أبي بكر وعبد الله بن الزبير من أكبر خدام الإسلام. كانت علاقة القربى من أقوى العلاقات في نظر الرسول، والقرآن الكريم حافل بالأمر بصلة ذوي القربى، ولم يحرم على النبي إلا الاستغفار لهم، وجمع بينهم وبين المنافقين (كابن سلول) في تحريم الاستغفار لهم بعد موتهم.
ولما كانت قرابة الإسلام أقوى من رابطة الدم فقد قبل ذلك، إلا أن الرسول كان يتعطف على أقارب المسلمين من المشركين؛ فقد تلطف في إجارة زوج بنته زينب قبل أن يسلم، ولما قدمت أم أسماء بنت أبي بكر المدينة وهي مشركة على بنتها بهدية حجبتها أسماء وردت عليها هديتها، فتكلمت عائشة للرسول في ذلك وفي طلب أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر (وما زال مشركا مقيما بمكة) نفقة من أبيه، أنزل الله الإذن في الإنفاق على الكفار وأمر أسماء أن تئوي أمها وتقبل هديتها.
كان التواضع من أجمل أخلاق النبي؛ فإنه لما نزل في بيت أبي أيوب الأنصاري لزم سكنى الدور الأرضي وترك الدور العلوي لصاحب الدار، فألح عليه أبو أيوب أن يحل محله فأبى مقدرا بأن الدور الأرضي أرفق به وبزائريه؛ لقربه من باب الدار، وفي الحقيقة أن سلالم منازل المدينة شاقة على الصاعد والهابط، وأهل الحضارة الغربية يرون الدور الأرضي
Rez De Chaussée
أغلى في الأجر وأوفر كرامة، فما رأينا في أخلاق الرسول وأعماله وأقواله إلا ما أثبتت الحياة والمدنية بعده بقرون وأجيال أنه كان على حق وأن ذوقه وعرفه أرقى ذوق وعرف وأعلى قانون إنساني، ولكن الأنصاري وزوجته كانا يشفقان أن يسيرا على سقف تحته رسول الله ويخشيان أن يقطر ماء من مسكنهم إلى مسكنه أو ينتثر عفار، ولا يد لهما في ذلك، ولكن النبي أبى أن يغير المكان الذي اتخذه.
وكان النبي يقيم بغير أهله قبل أن تصل زوجته سودة بنت زمعة من مكة، وما عنده من يخدمه أو يعد له الطعام، فصارت تصل إليه مائدة سعد بن عبادة وأخرى من أسعد بن زرارة، وهما من كبار الأنصار، وما كان من ليلة إلا وعلى باب الرسول الثلاثة والأربعة يحملون الطعام، حتى تحول الرسول من منزل أبي أيوب بعد ضيافة دامت تسعة أشهر، وكان طعام الرسول ثريدا عليه لحم وخبز ولبن وسمن وعسلا وزبيبا وخلا، وهذا أحب ما يأكله.
فلما بنى الرسول مسجده تذكر فقراء المهاجرين ممن ليس لهم مأوى ولا مائدة، فجعل إلى يسار الداخل من باب جبريل محلا مظللا وهو الصفة الشهيرة، يأوي هؤلاء المنقطعين، فلما سكن داره التي بالمسجد جعل يدعوهم إلى طعامه ويفرق بعضهم على أصحابه ويجالسهم ويأنس بهم، ولم يغفل أمرهم يوما، ولم يشعرهم هو ولا أحد من المسلمين بأنهم طبقة فقيرة أو منعزلة عن المجتمع أو عالة عليه، فلم تضعف قوتهم الروحية ولم ييأس أحدهم ولم يندموا على إسلامهم ولم يرغموا على التسول، وقد أيد النبي أفعاله بحديث مشهور: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين.»
وكان المسجد يضاء ليلا بسعف النخل إلى أن قدم تميم الداري المدينة فصحب معه قناديل وحبالا وزيتا، وعلق تلك القناديل بسواري المسجد موقدة، فدعا له الرسول: «نورت مسجدنا نور الله عليك.»
كانت أرض المدينة عند قدوم الرسول وقبل قدومه بأجيال موبوءة بالحمى؛ لأنها كثيرة المستنقعات وفيها ينمو البعوض الذي يحدث الحمى المتقطعة والملاريا والراجعة كبعض ناحيات السودان، ومن أسبابها أكل الثمار غير الناضجة، ولذا كان أهلها صفر الوجوه ضعاف الأبدان عاجزين عن المقاومة بالقوة، وربما كان اليهود أقوى بنية من الأوس والخزرج؛ لاتخاذهم أدوية يخفونها عن غيرهم ويحتكرونها؛ كعادتهم في احتكار الأدوية والأغذية.
وقد مرض بالحمى كثير من المهاجرين حتى كانوا يصلون قعودا، وأصيب بها كبار الصحابة كأبي بكر وعائشة وبلال، وكان بعضهم إذا ألحت عليه الحمى برعشتها الخبيثة وبحرانها وآلام العظام التي تصحبها ظن منيته قد دنت وحن إلى وطنه قبل الهجرة في البلد الحرام؛ فإن مكة وإن لم تكن مختنقة بين الجبال من نواحيها وعلى الرغم من شدة الحر في موسم القيظ والبرد في الشتاء، إلا أنها تكاد تكون مبرأة من الأمراض فيما عدا موسم الحج؛ فإن بعض الوافدين ينقلون عدوى أمراضهم.
كان بعضهم يلعن شيبة بن ربيعة بن أمية وأمية بن خلف؛ لأنهما أخرجاهم من بلدهم إلى الوباء (كذا)، ولكن الشريعة نهت عن لعن الشخص المعين إلا إذا ثبت موته على الشرك كأبي جهل وأبي لهب، أما من كان منهم حيا فلا يلعن؛ أملا في إسلامه.
وكانت وطأة الحمى شديدة على ثلاثة منهم يعيشون في بيت واحد قبل أن يصل أهلوهم؛ وهم أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال، حتى خارت قواهم وغابت عقولهم، فكان من المنتظر أنهم إذا أفاقوا أو أبلوا حنوا إلى وطنهم، وحتى الأصحاء يحنون إلى موطنهم إذا أخرجوا منه بالقوة ومنعوا العود إليه، حتى إن رجلا قدم من مكة فسألته عائشة في حضرة الرسول: كيف تركت مكة؟ فذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا الرسول وقال للقادم: لا تشوقنا ودع القلوب تقر، ودعا: «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشد، وبارك لنا في مدها وصاعها وصححها لنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لمكة، وإني عبدك ونبيك أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه.»
وليس من العجب أن يجاب دعاء الرسول؛ فإنني وجدت المدينة من أصح البلاد هواء وأبهاها منظرا وأخفها ظلا وأطيبها عيشا وأكثرها بركة.
3
وقد أنعم الله عليها فجعلها أعظم موطن للإسلام وأكبر عاصمة تمت منها فتوحه الكبرى، فكانت قوية فتحت الممالك ودوخت الدول وألقت نورا عظيما على العالم والإنسانية، وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - يبادر إلى زيارة صحابته المرضى، يدخل دارا دارا وبيتا بيتا؛ يعودهم، ويدعو لهم بالعافية.
وهذه الأخبار تدلك على أن الرسول لم يبح لأحد بخططه في المدينة ولا بسر هجرته إليها ما عدا أبا بكر وأمثاله؛ وهم قليل، وأما بلال فكان يحن إلى مكة؛ لأنه لا يعلم الفكرة المحمدية؛ وهي أن الإسلام لا تقوم له قائمة إلا إذا أنشأ الرسول جيلا جديدا في بلد بعيد يعينه على تنفيذ فكرته بالقوة المادية، وكانت الحمى مما ينفر المهاجرين، ولذا دعا بمحبة المدينة ونهى القادم المتحدث بمحاسن مكة عن الاسترسال؛ حتى تقر القلوب، وكانت الحمى لحسن الحظ في المدينة غير قاتلة ولا مفنية وإلا هلك المهاجرون، فاتخذوا لعلاجها ما كان أهل البلد يألفونه، وكذلك عيادة الرسول وإيحائه لهم فكرة البرء بقوة روحه، وماذا تكون الحمى مع النجاح حيال الشفاء والعافية مع تأكيد الخيبة والفشل؟! ولست أعلم ما استجد على المدينة من أسباب التطهير الصحي، ولكني سافرت إليها وأنا أسمع من كل ناحية وعيدا بأخطار الحمى فلم أتخذ وقاية ولم أجد بها مرضا، وقد حذرونا من البعوض فلم أجد منه شيئا، بل وجدت جفافا وصحوا وصحة وقوة مقاومة، ووجدت أن الله استجاب دعوة نبيه بالبركة في المد والصاع، وتصحيح البلد لساكنيها، ولم يدهشني إلا حنين بلال وأبي بكر إلى مكة، ولكن عذرهما ظاهر حيال غرغرة عيني الرسول بالدموع عندما سمع وصف مكة على لسان القادم الجديد.
ليس المقصود بالدعاء للمدينة وأهلها بالخير والبركة أن تنجو من كل سوء مما يصيب المدن من فاقة وجوع ووباء وحرب، إن المطالبة بهذه المناعة تعد تحديا وعصمة لمكان معين من الأرض، وهذا لا يجوز؛ فإن المدن والبلاد بساكنيها معرضة لحوادث الأقدار كتعرض الأفراد لها، وخاضعة لنوائب الدهر خضوع الدول والأمم، والحضارات والمدنية تبعا لقوانين وسنن وضعها الله واستنها منذ الأزل وإلى الأبد لا تتغير ولا تتبدل كنظم الأفلاك والكواكب وبقية الأجرام السماوية، فليس في الحوادث ما يشعر بعدم العناية الإلهية، وليس في مجهود بشر مهما علت مكانته أن يحول دون تنفيذ الأقدار أو تنفيذ تلك السنن الأزلية، وإن ما يدعو به الرسول ويستجاب كله أو بعضه إن هو إلا توجه روحاني عظيم إلى الذات العلية بشمول الرحمة واللطف في القضاء؛ فنفاذ بعضه وتأجيل بعضه وتعديل بعضه لا يدل على عدم الفلاح؛ لأن النبي ليس إلا بشرا، ورسول الله وقد جاء «رحمة للعالمين» لا شريكا للعناية، ولا محتما شيئا غير ما يريده الله.
وقد استجاب الله فعلا دعوة إبراهيم لمكة فجعل أفئدة تهوي إليهم ورزقهم من الثمرات، ولكن هذا لا يمنع وجود فقر أو مرض أو كارثة، وكذلك وقع في السنة السادسة من الهجرة طاعون في المدينة أفنى كثيرا من الخلق؛ وهو أول طاعون وقع في الإسلام.
وهذا هو النقص في الأموال والأنفس الذي يشير إليه القرآن بآيته الكريمة؛
4
ابتلاء وامتحانا للمؤمنين، وبمناسبة هذا الطاعون وضع الرسول تلك القاعدة الذهبية؛ قاعدة الحجر الصحي التي أقرتها الحضارة الغربية فقال: «إذا وقع بأرض (أي الطاعون) فلا تخرجوا منها، وإن سمعتم به في أرض فلا تقربوها.» وقد عمل عمر بن الخطاب بهذه القاعدة، فلما قدم على الشام في المرة الثانية وعلم بالطاعون فيها لم يدخل إليها، وهو ممن يؤمنون بآية الله:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، ولكنه تبع النص المحدد في حالة معينة، وحدثت في المدينة حروب فظيعة، ولا سيما موقعة الحرة التي أباح فيها يزيد المدينة ثلاثة أيام، ووقعت فيها حرائق منها حريقة أو حريقتان وصلت فيها النار إلى جدار الحرم النبوي وظاهر المسجد، وحاول لصوص من الغرباء الوصول إلى المقصورة الشريفة بحفر نفق أرضي، وأصيبت المدينة بالمجاعة والأوبئة في الحروب الأخيرة وضربت بالقنابل من جيوش تركية وأجنبية، كما ضربت الكعبة بالمنجنيق، وهدمت أجزاء منها في زمن القرامطة وزمن الحجاج، وكل هذا لا يضير أماكن العبادة ولا يقلل من أقدار النبوة ولا يمس كرامة الرسول؛ لأن شخص الرسول أو النبي نفسه خاضع للأقدار تجوز عليه الهزيمة كما يكتب له النصر والنجاح وضده وهكذا. •••
ليس كل التاريخ يعيد نفسه، وليست كل الحوادث تتكرر، ولكن أشياء تحدث وتعود على أيدي أشخاص آخرين في أماكن أخرى في ملابسات متشابهة، فمن تلك الأشياء التي تعيد نفسها تحكم الغرباء في بعض البلاد وسيادتهم في أرض غير أرضهم ووطن غير وطنهم ونجاحهم في تلك الأرض أو الوطن.
ففي القديم حكم قصي مكة نفسها، وقد دللنا على أن اسمه يثبت أنه قادم من مكان بعيد قصي، والأندلس وهي جزء من أرض إسبانيا حكمها أمير عربي، وملوك إنجلترا قدموا عليها من مقاطعة ألمانية (هانوفر)، وساد نابوليون في فرنسا وهو كورسيكي مولود في مدينة أجاكسيو، وفي العصور الحديثة قذفت جزيرة أقريطش (كريت) باليفتريوس فنزيولس، فحكم اليونان فترة من الزمن لم يصحبه التوفيق في آخرها، وهتلر نمسوي الوطن والمولد، وكان بيلسوديسكي ديكتاتور بولونيا من أهل ليتوانيا وليس بولونديا، وجوزيف ستالين موطنه جيورجيا يتكلم بلسانه، ومصطفى كمال (أتاترك) من مواليد سالونيكا (يونان)، وولد شنشنج بمدينة ريفا بإيطاليا، ومحمد علي جنتمكان حاكم مصر من بلدة كافالا اليونانية، وإدمون دي فاليرا محرر أيرلاندا أمريكي مولود بالولايات المتحدة.
وكان محمد بن عبد الله النبي والرسول مكيا مولدا ونشأة وموطنا وأهلا، قرشيا عشيرة وقبيلة وقوما، وقد قضى ثلاثا وخمسين سنة في بلده وقومه وقبيلته قبل أن ينزح إلى يثرب مهاجرا، فاتخذها موطنا وأسس بها دولة وقوة محاربة، وجعل منها عاصمة لدولة من أعظم دول العالم إن لم تكن أعظمها وأطولها عمرا، وأنشأ فيها دينا وشريعة وسنة ما تزال سائدة على ثلث سكان العالم المعمور.
وقد رأينا خطواته الأولى في تلك المدينة التي هاجر منها بعد أن اقتنع بعدم التوفيق فيها؛ لصلابة أهلها واحتجاب أبصارهم وبصائرهم عن نور الحقيقة، فآلى الرسول على نفسه أن يقصد إلى ذلك البلد الجديد؛ ليؤسس قوة وليبعث روحا وليكون أخلاقا يستطيع بها أن يهاجم القوة المعاكسة فيخضعها لمبدئه، رأيناه يبني مسجده ويبني حجرتين لزوجتيه ورأيناه يصبر على مرارة العيش في مجالس المنافقين ويتلقى الكلم الجارح بصدر رحب؛ ليصفح عن قائله، رأينا إحسانه إلى المهاجرين وعطفه عليهم ومواساتهم في فاقتهم وفي مرضهم والتخلي عن مظاهر العظمة الصادقة؛ قتلا للغيرة والحسد، وتفاديا للشقاق في قبائل ما تزال بعيدة عن الإيمان الصحيح وعن الحضارة الحقة، وقد وجه ذهنه إلى النظم يضعها أو يعدلها أو يقضي عليها، فمما وضع نظام المؤاخاة، ومما قاوم نظام النقباء أو زعامة الأحزاب التي أساسها السيادة القبلية؛ فقد مات في السنة الأولى من الهجرة أسعد بن زرارة، وكان نقيب بني النجار، وهي العشيرة التي ينتمي إليها الرسول من ناحية الخئولة، وكان ابن زرارة من أوائل الأنصار الذين بايعوه في مكة، ولما وصل النبي إلى المدينة وجده يقيم الصلاة للمهاجرين والأنصار الذين سبقوه، وكان يبعث إلى الرسول بالجفان والموائد على مدى تسعة أشهر أثناء إقامته في دار أبي أيوب الأنصاري، فلما مات هذا الصحابي الأنصاري الجليل، حزن النبي عليه ووجد، ولكنه ألغى وظيفته ولم يجعلها في أحد من أولاده أو أقاربه؛ فقد جاءه بنو النجار وقالوا له: اجعل لنا يا رسول الله نقيبا بعده يقيم من أمرنا ما كان ابن زرارة يقيم، فقال لهم: أنتم أخوالي وأنا نقيبكم. وكانت النقابة من مفاخرهم، فلم يشأ أن يخص بذلك بعضهم دون بعض، ولم يشأ أن يجعل لأحد من السادة شأنا في المدينة يمكنه من جمع كلمة فئة من الفئات أو حزب من الأحزاب، ولم يتعرض الرسول للنقابات القائمة كنقابة سعد بن عبادة في بني ساعدة، فهذا النظام - نظام النقابات - كان جاهليا، وقد صبر عليه الرسول بقدر ما عاش كل نقيب؛ فإذا مات ماتت معه الوظيفة، فإن نقابة سعد بن عبادة قضت معه بعد أن حكم في بني قريظة حكمه المشهور، وكان ابن عبادة مسموع الكلمة عند اليهود. •••
وكان إلغاء النقابات مقدمة لنظام الصحيفة أو دستور المدينة الذي أسهبنا عليه الكلام في بداية هذا الكتاب، وقد حللنا هذه الصحيفة وذكرنا أن المؤرخين لم يعنوا بها العناية الجديرة بقيمتها؛ لأنها لم ترو لهم عن أحد كبقية الأخبار، وهم لم يفهموا عنها إلا أنها كتاب بين المهاجرين والأنصار وادع فيها الرسول يهود (أي بني إسرائيل)؛ أي بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير، فصالحهم على ترك الحرب والأذى (وصالح هنا بمعنى اتفق معهم أو حالفهم وعاهدهم)، فلا يحاربهم ولا يؤذيهم، على أن لا يعينوا عليه أحدا، وأنه إن دهمه بالمدينة عدو ينصروه، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم (انظر الواقدي وابن إسحاق والسيرة الحلبية)، وهكذا يلخص هؤلاء السادة المؤرخون ذلك الدستور المحمدي الأول دون أن يدركوا مراميه، وفي تحليله الذي أوردناه كفاية، وإنما ذكرناه هنا ملخصا في سبيل عرض النظم السياسية التي أدخلها وطبقها تطبيقا عمليا.
أما المؤاخاة فقد ابتكرها في دار الأرقم بمكة قبل الهجرة بعشر سنوات، ونظن أصلها نص القرآن
إنما المؤمنون إخوة
فأراد أن يطبق المبدأ تطبيقا عمليا، وكانت المؤاخاة نافعة في مكة؛ لأنها حلت محل إخاء القرابة، لأن الدين محا قرابة الدم وفرق بين الأهل، وكان بين المسلمين المقيمين في مكة والذين ربط بينهم التوحيد والاضطهاد، أما في المدينة فبيئة جديدة تقوى فيها رابطة الإخاء؛ لأن المهاجرين أحوج ما يكونون إلى المعونة والعاطفة والشعور بالمحبة، وقد توثقت وبنيت على المؤاساة والحق والتوارث بعد الموت دون ذوي الأرحام من المشركين، فقال محمد: «تآخوا في الله أخوين أخوين.» وقد أقام الرسول احتفالا للمؤاخاة في المسجد، فجعل يقول: أين فلان؟ أين فلان؟ ولم يزل يتفقدهم ويبعث في طلبهم حتى اجتمعوا بين يديه فقال: إني محدثكم بحديث فاحفظوه وعوه وحدثوا به من بعدكم، إن الله تعالى اصطفى من خلقه خلقا
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ، وإني أصطفي منكم من أحب أن أصطفيه، وأؤاخي بينكم كما آخى الله تعالى بين ملائكته - قم يا أبا بكر، (فقام فجثا بين يديه) فقال: إن لك عندي يدا الله يجزيك بها، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، فأنت مني بمنزلة قميصي من جسدي، (وحرك قميصه بيده) ثم قال: ادن يا عمر، (فدنا) فقال: قد كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص، فدعوت الله أن يعز بك الدين أو بأبي جهل ففعل الله ذلك بك وكنت أحبهما إلى الله فأنت معي في الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة (وآخى بينه وبين أبي بكر).
وكانوا خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار، وممن آخى بينهم في هذا الاحتفال شخصه وعلي بن أبي طالب، ثم عتبان بن مالك وأبو رويم الخثعمي، وبلال وأسيد بن خضير (أحد مشاهير الأوس)، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع؛ فقاسمه ماله فاعتذر ابن عوف وتوكل على الله وعلى اجتهاده، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين جعفر بن أبي طالب (وهو بالحبشة) ومعاذ بن جبل، وأبي ذر الغفاري والمنذر بن عمرو، وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، ومصعب بن عمير وأبي أيوب، وسلمان الفارسي وأبي الدرداء.
وقد أعان الرسول في عمله كرم وفادة الأنصار ، فأحسنوا المواساة وأكثروا البذل وأشركوا في المئونة.
ونظام المؤاخاة لم يسبق إليه الرسول في ملة أخرى أو في بلدة أخرى، وهو عمل دنيوي قائم على عاطفة دينية، ولكنه عظيم النفع والخير بالغ الأثر في نفوس أصحابه، فلم يعد المهاجرون يشعرون بالوحشة، ولا الأنصار يفكرون في منة على أحد، وأراد الرسول أن يؤاخي بين عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص، وكانا محبوسين في مكة منعهما المشركون من الهجرة فأنقذهما الوليد بن الوليد بن المغيرة وهو أخو خالد بن الوليد القائد الشهير، فنشأ في وسط المجتمع المدني مجتمع جديد ناشئ هو نواة الجهاد الإسلامي ونواة الحياة المحمدية المقبلة وخميرة ينضج بها العجين، وهو أصل الحزب الجديد الذي سينشر لواءه على السكان ويضيق الخناق على المشركين والمنافقين، وهو الحزب الذي سوف يضع يده على السلطات كلها، وبدونه لا يتم شيء؛ فمكانه المسجد، ورئيسه النبي، ومجلس إدارته خاصة الصحابة، وأعضاؤه هؤلاء الإخوان، وما زالوا يتوارثون بذلك الإخاء دون القرابات إلى أن نزل قوله تعالى في وقعة بدر.
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .
فنسخت هذه الآية سنة التوريث بالمؤاخاة؛ لأن موقعة بدر غيرت وجه الحياة في المدينة؛ فقد خرج المسلمون ظافرين وغنموا ما غنموا ودحروا قريشا، فأمنوا جانب الهجوم الخارجي، وضعفت شوكة اليهود والمشركين في المدينة، ولم تعد بالنبي حاجة إلى موادعتهم أو محالفتهم؛ لأنهم أصبحوا خاضعين لقانونه اضطرارا وإرغاما، وقد صار أولو الأرحام للأنصار والمهاجرين مسلمين، فلا داعي لحرمانهم من ميراث أقاربهم، وبهذا قدم الرسول دليلا على أن كل قانون يتمسك به بعد ذهاب وقت ضرورته لا تقوم له قائمة، وأن لكل وقت قانونا يعمل به في وقته، ولكن نفي التوريث لا ينفي الإخاء نفسه، فإن هذه العاطفة قويت بمرافقة الميدان، أي بالمشاركة في الحروب وعظمت في نظر المسلمين بما كسبه الإسلام في موقعة بدر الحاسمة، وصارت المدينة محط أنظار القبائل والممالك المجاورة؛ فقد طلعت شمس جديدة في أفقها، خليقة بأن تكسف كل الشموس السابقة، وصار كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار بمثابة الكواكب السيارة المضيئة حول محمد تضيء بانعكاس نوره عليها؛ إذ لولاها ما تجلى شعاع واحد من ضوئها، وهذا النص الناسخ لحق التوريث بالإخاء أشبه بالنص الناسخ للبنوة والأمر بدعوة الناس إلى آبائهم:
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ...
الآية. •••
قد رأينا الرسول يبتكر في المدينة نظما يظنها الذي يراها أو يقرأ عنها مرتجلة ارتجالا عفو الساعة، والحق أن بعضها نتيجة تفكير طويل مر بهذا التكوين المحمدي الضخم المصطفى؛ ليكون وعاء لتلقي الحكمة العليا في حكومة الجنس الإنساني وتنفيذها على أهون سبيل.
وقد رأينا هذه الشخصية العظمى تلين ولا تنكسر، وتطأطئ للعاصفة؛ لتنجو من الأمواج العالية، وهي مع هذا وذاك تفيض حبا وعطفا وحدبا، تنثني لتغطي بثوبها الفضفاض عمار بن ياسر من اعتداء عثمان بن مظعون وهو أخو الرسول من الرضاع، وتتخشن لخالد بن الوليد؛ دفاعا عن عمار بن ياسر الذي أصله رقيق رومي وتقول: «الحق مع ابن مظعون دائما.»
قلنا: إن بعض هذه النظم نتيجة تفكير، وبعضها مرتجل تمليه العبقرية النادرة، وبعضها يمليه الاجتهاد وحب الخير، وبعضها يحتاج إلى عقد مؤتمر ومشورة، كما حدث في مسألة الأذان والدعوة إلى الصلاة.
كان في مكة صلاة، وقد شهد أحد القادمين على مكة محمدا وخديجة وعليا يصلون بالمسجد الحرام، وصلى المسلمون جماعة في دار الأرقم، ولكن هذه الصلاة وإن كانت معدودة ومحدودة بأوقاتها وعدد ركعاتها وأوضاع القيام والركوع والسجود بعد النية، إلا أنها لم تتخذ صورتها النهائية إلا في المدينة، ففي المدينة نقلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد رأينا مسجد القبلتين وما يزال على حالته، وفي أثناء الصلاة فيه بدلت القبلة فاتجه المصلون من المدينة إلى الجنوب بعد اتجاههم إلى الشمال.
وفي المدينة لم يشرع الأذان من عند الله ولكن سنه الرسول باتفاق آراء الصحابة، وصاحب الفضل الأكبر فيه بعد رسول الله عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، وهو رجل غريب الأطوار، لا يعرف له عن النبي شيء يصح حديثا إلا الحديث الواحد في الأذان.
وقد وفق الرسول واهتدى إلى نظام الصلاة والأذان والوضوء توفيقا كبيرا؛ لما فيها من النظافة والجمال وحسن التنبيه والامتياز، وكل منها من خصائص الأمة المحمدية؛ فالركوع والسجود والقيام والجماعة وافتتاح الصلاة بالتكبير؛ بدون بخور ولا عطور ولا ترتيل؛ وهي من آثار الوثنية؛ كلها متناسقة تشعر بعقيدة التوحيد، وبحكمة اتجاه الفرد العابد إلى المعبود بغير واسطة ولا تحريض بزينة أو زخرف أو ميل إلى السماع، وصلوات الأمم الغابرة كانت لا ركوع فيها ولا وضوء وبعضها يصحبه تهليل وتكبير وضوضاء وجلبة، وقد تسبقه خطبة أو موعظة، وكانت الأمم السالفة تتخذ الركوع والسجود للملوك والطغاة ولا تتجه إلى الله بهما؛ لتعدد الآلهة وكثرتها، فكانت صلاتها قربانها أو انطواءها على نفسها في همهمة ودمدمة لا معنى لها، وأول ما ذكر الركوع والسجود في القرآن أمرا لمريم:
واسجدي واركعي مع الراكعين .
وكانت صلاة الأنبياء ابتهالا أو بكاء على أنغام الموسيقى والآلات ذات الأوتار؛ كمزامير داود الذي كان يفلق قلوب شعبه بالبكاء، وكان في المدينة قوم مشركون لا معبد لهم ولا عبادة إلا أن يضعوا أصناما في بيوتهم من الحجر أو الخشب أو الطين، وكان اليهود يتعبدون على طريقتهم التي نقلوها عن وطنهم الأصيل في معابد اتخذوها في آطامهم فلا يطلع عليها أحد غير العرب الذين تهودوا واشتروا إيمانهم بعقيدة موسى بثمن بخس؛ وهو عبادة الأوثان.
ففي السنة الأولى من الهجرة بعد أن اتخذ النبي للمسلمين مسجدا، وكان المسلمون يجتمعون للصلاة في دخول أوقاتها من غير دعوة؛ أي باجتهاد كل مصل في الحضور إلى المسجد، وكان النبي يصلي بغير أذان، وكل ما روي عن أذان بلال في دار الأرقم بعد إسلام عمر غير صحيح، وإن الأذان لم يشرع إلا في المدينة؛ لأنه نظام من النظم التي وضعها الرسول للحياة الجديدة لتنظيم العبادة، والدليل من القرآن الكريم:
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا
الآية.
فإنها وإن نزلت في مكة إلا أن حكمها لم ينفذ بالأذان إلا في المدينة؛ لأن إطلاق الأصوات بالأذان في مكة كان يهيج غيظ المشركين ويحثهم على الفتك بالمؤمنين، فاجتمع النبي بأصحابه وطرح عليهم مسألة الدعوة ليجتمع الناس إلى الصلاة؛ فعرضوا عليه بوق اليهود، ويقال بالعبري: «شبور»؛ وهو قرن ينفخون به فيسمع صوتهم، فلم يعجب الرسول وكرهه؛ لأنه تقليد لليهود؛ وهم قوم أصحاب من ودعوة وتعيير، ولم نسلم منهم ولم نتخذ منهم، فكيف لو اتخذناه؟! بل إن الأمر يختلط بيننا وبينهم، وقد يحتجون؛ لأنهم قد يظنون الشبور يدعوهم إلينا، فقال آخر: الناقوس الذي يدعو به النصارى إلى كنائسهم، فأبى الرسول؛ للعلة نفسها، وإن لم يكن في المدينة من النصارى إلا قليل، فاقترحوا رفع الراية فإذا رآها الناس أقبلوا، قال: هذه للمجوس، ففكروا في المناداة بأصوات الرجال في أوقات الصلاة، وقال النبي: لقد هممت أن آمر رجالا تقوم على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة.
وهنا تتجلى مكرمة عبد الله بن زيد بن عبد ربه؛ فقد تخيل في عقله الباطن أنه سمع أذانا بنصه: «الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح.» والذي يؤذن به قائم على سقف المسجد، فلما سمع الرسول هذه الرواية قال لصاحبها: قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به؛ فإنه أندى صوتا منك. فصار عبد الله بن زيد بن عبد ربه أول مؤذن في المدينة، ثم بلال، ثم ابن أم مكتوم (الذي نزلت بسببه سورة عبس وتولى).
وفي الصباح أذن بلال، وكان عمر بن الخطاب في بيته، فخرج يجر رداءه، فلما بلغ المسجد علم بالقصة؛ لأنه لم يكن ممن دعوا إلى تمحيص مسألة الأذان.
وكان بلال يدعو الرسول إلى الصلاة، فدعاه مرة إلى الفجر فقيل له: إن رسول الله نائم، فصرخ بأعلى صوته: «الصلاة خير من النوم.» وما تزال هذه العبارة وهي التثويب تقال، ولكن أعجب ما فيها أن أول من قيلت له كان الرسول صاحب الشريعة نفسه، وكان بلال حبشيا لا يجيد نطق الشين فيقول: «أسهد» بدلا من «أشهد»، وكان ابن أم مكتوم ضريرا قد لا يرى الخيط الأبيض من الخيط الأسود فيؤذن قبل دخول الوقت، وكان بعض الأولاد يسخرون من بلال بتقليده، فسمع رسول الله ولدا يحكي صوت بلال بلغته فأعجبه، واسمع الآن إلى قصة ابن محذورة الذي صار من أكبر مؤذني الإسلام بتأثير شخصية الرسول تأثيرا مباشرا قال: «سمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون عن الطريق فصرنا نحكيه (نقلده) ونستهزئ به، فسمع النبي فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إلي، فأبقاني وأرسلهم، وقال: قم فأذن، فقمت ولا شيء أكره إلي من النبي ولا مما يأمرني به (انظر واسمع!) فألقى علي التأذين هو بنفسه، ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصيتي ومر بها على وجهي ثم بين يدي ثم على كبدي حتى بلغت يده سرتي، ثم قال: بارك الله فيك وبارك عليك. فقلت يا رسول الله: مرني بالتأذين بمكة. فقال: قد أمرتك به. وذهب كل شيء كان عندي من كراهته وعاد كله محبة.»
أي شيء نقرأ في هذه النبذة؟
أصدق فراسة وحكمة ونور من الله؟ أم دهاء السياسي الذي يستصلح الفاسد ويقوم المعوج ويجعل من الأعداء أحبابا، ومن الساخرين أتقياء نادمين مقرين بعجزهم حيال هذه العظمة؟!
اليهود في المدينة
لا يقوى أحد على مقاومة اليهود إلا بطرق اليهود أنفسهم، وطرقهم أسلحة منوعة متعددة؛ ولذا جعلنا فصلا قائما بذاته في تاريخهم وتحليل أخلاقهم وأدوارهم التي لعبوها في التاريخ، ونقصر بحثنا هنا على أعمالهم في المدينة أثناء وجود النبي بها إلى أن انتهى أمرهم وأوصى بجلائهم عنها وتحريم أرض الحجاز عليهم.
بدءوا يتقولون في حق الرسول أنه منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها، فرد الله عليهم بقوله:
قل كل من عند الله .
هل صح ما زعموه؟ وهل لديهم أدية مادية حسابية أو إحصاء رسمي يثبت صحة ما زعموا؟ الجواب: كلا، وهذا النوع من التدليل لم يكن معروفا في زمنهم، ومرجعه إلى الشائعات، وهي أقوال تقال في الهواء، فلنفترض صحتها، أما عن غلاء الأسعار فلعل ورود المهاجرين وتكاثرهم واتجاه الأنظار إلى المدينة رفع الأسعار كما يحدث في كل بلاد يؤمها غرباء أو مهاجرون، وكان المهاجرون يحملون معهم أموالا، وقد لمسنا الغلاء بنفسنا؛ وهو دليل الرواج وتحسن الحالة الاقتصادية؛ فقد بيع مربد الغلامين اليتيمين بعشرة دنانير دفعها الرسول من مال أبي بكر، واشترى ابن عفان مربدا آخر ليضمه إلى المسجد بخمسة وعشرين ألف درهم، واشترى نصف بئر رومة من يهودي باثني عشر ألف درهم، فلا بد أن كثرة المال في أيدي المهاجرين وغيرهم في بلد زراعي يرفع أسعار العقار والمنقول، واليهود أنفسهم يحبون هذا الغلاء ويعملون له؛ لأنهم هم أصحاب المصارف والقروض والمضاربات، ولا يوجد غيرهم يتجر في الذهب والفضة دون غيرهما من الأشياء، وهم الذين يصطنعون الغلاء بالاحتكار، فإن كل هذا قد حدث في المدينة منذ دخول الرسول إليها؛ فهو دليل النجاح والرواج؛ لأنه إذا جاء الغلاء صحبته كثرة المال وزيادة الإيراد، أما نقص الثمار وإن لم يدللوا عليه بدليل صادق يقنعنا لابتنائه على الإحصاء والحساب فلا نأخذ به، ولكنا نسلم به جدلا، ولا نسعى في درس أسبابه تبريرا لحدوثه، فإن لنقص الثمرات أسبابا معروفة عند الأمم وعلماء الاقتصاد، بل عند كل زارع وتاجر، فمنها: الآفات السماوية، ومنها: كلل الأرض وضعفها بطول مدة الزرع، ومنها: إهمال الزرع؛ لانصراف الناس عنه لأسباب لا تحصى، فلو فرضنا حدوث بعض هذا أو كله في سنة من السنين؛ فأي ذنب للنبي في ذلك، وما زعم يوما أنه يسير الرياح، أو ينبت الحب في الصخر، أو يضاعف نتاج النخيل والأعناب، ولم يكن يملك ذلك، ولو علم الغيب لاستكثر من الخير لنفسه، ولو كان في مقدوره وفي إذن الله له أن ينتصر في كل حروبه أو يهلك كل أعدائه ما تأخر عن ذلك لحظة، بل لو كان كل ما يتناوله مقترنا بالنجاح، ما أصابه من الفشل في مكة ما أصابه، وما أرغم على الاضطرار إلى الهجرة وتأسيس حضارة وإنشاء جيل، والاستعداد لحرب الأعداء بالطرق البشرية الإنسانية؟! فإن زعموا أنهم تطيروا بحضوره فقد كذبهم التاريخ وما يزال يكذبهم إلى هذه الساعة؛ فقد نجحت المدينة أعظم نجاح ووفق المسلمون في كل أعمالهم التوفيق الأعلى حتى في موقعة أحد التي أسفرت عن هزيمة في الميدان أعقبها نصر في الأخلاق، فكل الذي زعموه وإن لم يثبت ثبوتا تاريخيا وسلمنا بصحته جدلا لا علاقة له بالنبي، ولو ثبت ما كان يضره في شيء، ولو كان وجوده في بلد يجلب عليها الويلات لكانت مكة أولى بأن تصاب بالنكبات والإعسار والأزمات فتتعطل قوافلهم وتنضب آبارهم ويجف معين أرزاقهم؛ لأنه أقام فيهم ثلاثا وخمسين سنة لا سنة واحدة! ومع ذلك فقد غادرها آمنة مطمئنة غنية سابحة في بحبوحة الترف والنعمة ذات جيوش ومتاجر وقصور وآطام وأموال ومغاني وملاهي وحانات وملاعب، فلم يكن هذا الكلام من اليهود إلا بغضا وحسدا ووقيعة ونميمة وتنفيرا، ولو كانت في زمنهم صحف لحاربوه أشد الحرب بالقلم وريشة المصور والخطب في المحافل، ولكنهم اتبعوا الوسائل المعروفة في زمنهم؛ فقد رأوا كوكبا ساطعا صاعدا في سماء العالم فأرادوا محاربة العبقرية فيه، وقد تعودوا قتل الأنبياء بغير حق والقضاء على كل نافع، ألم يفتخروا أنهم صلبوا عيسى بن مريم؟ وهو نبي نابغ منهم تجري في عروقه دماء بني إسرائيل، فأرادوا أن يجروا دمه في الطريق؛ لأنه أراد بهم خيرا وأراد تقويم اعوجاجهم وإصلاح حياتهم؟! وقد مضى على صلبهم إياه في وقت النبي سبعماية عام.
الحقيقة أن نفوسهم اشتعلت بالغيرة ونحن لا ننكر عليهم ذكاءهم وصدق فراستهم في مستقبله، ونضرب صفحا عن كل ما ورد في الأخبار (ما عدا القرآن) من أنهم كانوا ينتظرون نبيا وأنهم عرفوا محمدا، فلما لم يمل إليهم ولم يوافق أهواءهم انقلبوا عليه يسلقونه بألسنة حداد ونصبوا له شراك العداوة.
قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ،
إن تمسسكم حسنة تسؤهم
الآية.
وقد انشقوا على أنفسهم في أمره كعادتهم فقال أحدهم: «إنه الذي كنتم تنتظرونه.» وقال آخر: «والله لا أزال له عدوا!» ثم انطوى أكثرهم إلى الرأي الثاني فعملوا على الدعاية ضده جاهدين أنفسهم.
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق .
وفي نظرنا أنهم كانوا محقين في كراهيته
صلى الله عليه وسلم
لأن مصلحتهم تحتم عليهم ذلك، وإلا فكيف يقبلون صابرين شاكرين رجلا سوف يقلب حياتهم رأسا على عقب ينقض ما غزلوا أعواما وأجيالا متطاولة؟ وليس عبقريا ومصلحا وقائدا وحسب، بل فوق ذلك يقول هو وأتباعه: إنه رسول الله ومبعوث رب العالمين يؤيده كتاب فيه شريعة وآداب وتاريخ وسياسة وحكمة، وقد أظهر من الدهاء عند قدومه ومن الصبر والمجاملة والملاينة ما أظهر، وعرف كيف يكون حزبا داخل المدينة قبل أن يردها وكيف يبعث إليها بفطاحل من رجاله يجسون نبض جميع طبقاتها، فلما وصل تلقوه على الرحب والسعة، ثم أوجد نظام المؤاخاة وبنى مسجدا اتخذه مقرا لتعليمه وأصدر قانونا وعهدا بالمصالحة وإدماج العناصر كلها في حياة واحدة.
وقد جلس هؤلاء اليهود للنبي بالمرصاد ولا سيما كبارهم؛ وهم أهل ذكاء وفطنة وجدل ومنطق وتاريخ وقدرة على التحليل والتعليل والنقد الجارح المبني على دقة الفهم وتصيد الأهداف، فلما نزلت آية:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا .
قال حيي بن أخطب: (والد صفية أم المؤمنين وصهر النبي رغم أنفه وبعد قتله): يستقرضنا ربنا! وإنما يستقرض الفقير الغني! فجاء رد القرآن:
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء .
وكان كل واحد منهم جريئا على الحق حتى إن أحدهم (فنحاص) استفز أبا بكر الورع الصبور المهاجر المطبوع على دماثة الأخلاق واحتمال المكاره، وكان فنحاص بن عازوراء هذا عالم بني قينقاع وسيدهم بعد إسلام عبد الله بن سلام أحد أحبارهم وزعمائهم، فأرسل الرسول أبا بكر إليه بكتاب فلما قرأه قال: «احتاج ربكم؟! سنمده.» فضرب أبو بكر وجه فنحاص ضربا شديدا وهم أن يضربه بالسيف لولا أن أوصاه الرسول بالتؤدة والحلم وضبط النفس، نعم؛ لقد أحرجه فنحاص وغاظه وأخرجه عن دائرة حلمه ، ولعل أبا بكر استعرض في ذهنه في طرفة عين ثراءه ومكانته في قومه ومكانة النبي ووقاحة فنحاص وفجره ودعارته وسخريته، فلم يعد يتحمل شيئا فضربه، واليهودي إذا وقفت له جبن وانحلت أواصر همته وفتر عزمه وأدار لك الخد الأيسر، وإلا فلا يعرف عن أبي بكر أنه يعتدي هذا الاعتداء على من يستحقه دون أن يصحب الاستحقاق تحريض، فبادر فنحاص إلى الشكوى عند النبي وأنكر ما قال في حق رب المسلمين؛ لأنه نسب الفقر لرب محمد وأبي بكر، أما ربه هو فلا يكون فقيرا أبدا! كيف يكون كذلك وما هو إلا عجل الذهب الذي صاغه لهم صائغه من حلي المصريات التي حملوها من زينة أهل مصر قبل خروجهم؟! ولم يجرؤ فنحاص على الاعتراف بما قاله؛ لأن الاعتراف دليل على قوة النفس وبقائها على بعض الحق أو على الرجولة، وفنحاص خلو من الصفتين؛ فلا هو على بقية من الحق ولا هو برجل.
وكان المدعو أشاس بن قيس اليهودي أمهر من فنحاص، فمر يوما بالأوس والخزرج، وقد ألف الإسلام بين قلوبهم بعد تناحرهم منذ سبع سنين في يوم بعاث فقال: والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار؛ لأن اليهود يعيشون في كل مكان على النفور والفتنة والنميمة، وهم أصحاب القول المشهور «فرق تسد» في كل شيء، فعمد أشاس إلى فتى من اليهود وقال له: جالسهم وارو لهم ما قاله كل فريق في الآخر أيام العداوة؛ ففعل وتنازعوا وتواعدوا للقتال ونادوا: يا للأوس! يا للخزرج! وأخذوا السلاح ونزعوا للحرب، فأثلج صدر أشاس وانسحب المهيج في نعومة وتركهم يتطاحنون.
فجاء النبي وقال: «يا معشر المسلمين، الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وألفكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر؟!» فبكوا وتعانقوا واصطلحوا، وجاء القرآن:
يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا .
وتسبب الرسول يوما في خلع أحد أحبارهم وعزله وتكفيره بحيلة لطيفة؛ فقد كان مالك بن الصيف حبرا سمينا مورد الخدين لامع العينين كبير البطن محشوا شحما ودسما مبطن المعى باللحم والسمن، فلما رآه النبي قال له: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين؛ قد سمنت من مالك الذي تطعمك اليهود! فضحك القوم وغضب الحبر السمين غضبا شديدا قاده إلى الكفر بدينه؛ لأن القول الذي ذكره الرسول قد ورد في التوراة فعلا، ولا يمكن إنكاره، فلم يجد الحبر السمين مخرجا إلا بإنكار التوراة والوحي وتكذيب موسى، فالتفت في ثورة غضبه إلى عمر بن الخطاب الذي كان يقهقه مما وقع فيه الحبر السمين من الغيظ والنكد وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء!
يريد أن يضرب طيرين بحجر؛ أن ينكر نبوة موسى وهو أعز عليه وعلى قومه من محمد، فإن كان الوحي باطلا على موسى فهو كذلك عند محمد، ولا سبيل إلى نكران الجزء إلا بتكذيب الكل، ونسي الحبر السمين أنه إنما حبر باسم موسى ووحيه، فلو انحل الوحي عن موسى وعن جميع البشر، انحلت وظيفته ولم يبق لها محل، ولم يلزم اليهود بتسمينه وحشو بطنه بالمرققات والمفتقات.
فلما بلغ اليهود هذا القول سألوه، فاعترف الرجل، واعتذر بأن الرسول أخرجه عن حدود العقل بالغضب، فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.
ولما تجرأ اليهود ووجدوا أن عمل النبي جد لا هزل، وهو عمل رجل يريد أن يثبت أقدامه ويؤكد عقيدته وينصر إيمانه، ولجوا بابا آخر؛ وهو باب المواجهة والجدل والامتحان والإحراج في صورة أسئلة وأجوبة.
وكانت حجتهم في ذلك وجيهة وإن لم يصرحوا بها، وهي تتلخص فيما يأتي: أنت تقول إنك نبي مرسل كموسى وتطلب منا أن نقيم أدلة من كتبنا على صحة نبوتك، فهذا لا يكون؛ لأنه لا يلزمنا بأن نقدم إليك أدلة من عندنا، وما زلنا في شك من أمرك، فهات براهينك، فإن أعجزتك المعجزات التي طلبها منك أهل بلدك فأجبنا على أسئلتنا بما يقنعنا فنتبعك أو على الأقل نسكت عنك.
ولم يكن في وسع النبي أن يتردد في قبول هذا التحدي الذي أفرغ في قالب الاستفهام للاستنارة والاستفتاء الذي يصاغ في هيئة سؤال، فإن لكل إنسان أن يسأل حتى المسلمين أنفسهم، وكان أهل مكة يسألون؛ ولكنها أسئلة فطرية لا تدل على ثقافة أو علم، أما أحبار اليهود فعلماء راسخون في دينهم، محافظون على ملتهم، عندهم آثار علوم قديمة وحديثة.
وكان بعض عقلائهم يتحاشون هذه المخاطرة؛ خشية رده عليهم ردا يكرهونه أو يقيم لهم دليلا قويا على نبوته، ففي الأولى لا يستطيعون الرد عليه؛ لأنهم البادئون، وفي الثانية يجبرون على التسليم بنبوته، ولكن هذا الحذر لم يمنع فريقا من المشاغبين أن يتعرضوا له بأسئلة وجيهة جدا لا تخرج عن اختصاص نبي في عصره وفي كل عصر.
فسألوه: ما الروح؟ وهو سؤال معجز مغلظ، فجاء جواب الله:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
وسألوه عن الساعة فقال:
إنما علمها عند ربي
الآية.
وسألوه عن آيات موسى التسع فسردها عليهم كما أنزلت في كتابهم.
كان كثير منهم يخشى أن يسلم فيقتله قومه أو ينفوه ويقصوه عن أهله وولده وماله، ولم يكن لهم شجاعة العرب ولا إيمانهم، ولكن بعض أكابرهم أسلم؛ كعبد الله بن سلام، وكان من سادتهم وأحبارهم، وسألوه
صلى الله عليه وسلم
عن خلق الأرض والسموات فأجابهم بالتفصيل وأغفل ما يزعمون من استراحة الله من الخلق يوم السبت وجاءت آية:
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب .
وإنك إذا تعود بذاكرتك تجد هذه الطريقة اليهودية سلاحا ماضيا من أسلحتهم؛ فقد استعملوها مع المسيح فأجابهم أجوبة مسكتة أو مخلصة له من حبائلهم كقوله: «دعوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.»
وكذلك الرسول لم يقع قط في حبائلهم، ولم يخطئ خطأ يتصيدونه به؛ ليحتجوا وينتصروا، ولم تكن في المدينة سلطة رومانية أو حاكم ظالم ينقاد إلى نسائهم ليلفقوا على الرسول تهمة باطلة كالتي لفقوها على غيره من الأنبياء، ولم يعرض نفسه منفردا ليشرعوا في اغتياله والفتك به وهم يعلمون أنه يكون قرين القضاء عليهم، فلما فعلوا ذلك في آخر الأمر كانت عاقبته ما هو معلوم من أمرهم.
وكان بعض المتفرسين النجباء منهم قد زار الرسول في أول وصوله؛ ليستطلع أمره، قال عبد الله بن سلام: «فلما رأيت وجهه عرفت أنه وجه غير كذاب؛ لأن صورته وهيأته وسمته تدل العقلاء على صدقه وأنه لا يقول الكذب.» فأسلم وكتم إسلامه، وكان قومه يقولون عنه إنه سيدهم وابن سيدهم وحبرهم وابن حبرهم وأعلمهم وابن أعلمهم إلخ، فلما أظهره قالوا له: كذبت، أنت شرنا وابن شرنا! وهي الخطة التي تتبعها الأحزاب السياسية في إسقاط من يعتزلها أو يتحول عن اقتناع، فيصبح خائنا خادعا طامعا إلخ، وكان بالأمس مجمع الفضائل، فلما سمع ابن سلام هذا القول قال: إنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وجور.
وفي طرف بحيرة تفيس من ناحية دمياط ضريح عال له قبة ومئذنة وتحته أرض خصبة وبقعته تشرف على الماء وغروب الشمس وحمرة الشفق وجمال الأفق منسوب إلى ابن سلام، فإن صح فلا عجب فيما يروى من أنه أخذ بعنان فرس علي بن أبي طالب بالربذة وقال له: يا أمير المؤمنين، لا تخرج من المدينة، فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا. فسبه بعض الناس وهم لا يعرفون شخصه، فقال علي: دعوه فنعم الرجل من أصحاب النبي. وهذا القول رجيح لدينا؛ لأنه لم يقل لمصلحة أحد، لا لأهل السنة ولا لأهل الشيعة، ويظهر أنه خرج وساح في الآفاق حتى استقر به المقام في إحدى ناحيات مصر، فبقي بها إلى أن مات، ورأيه في إقامة علي بالمدينة مبني على الفراسة وبعد النظر مثل أي رأي سياسي، وإلا فنور بصيرة من صحبته للرسول وإخلاصه، وروى عنه أبو هريرة وابن ماجه، فهو صحابي عظيم لا ريب فيه، ولم يسلم من علماء اليهود وأحبارهم غيره، وفي إسلام ابن صوريا شك، وكذلك خبر إسلام ميمون بنيامين؛ فقد كانوا عصبة كبيرة منهم كعب بن الأشرف وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف (الحبر السمين) وكنانة بن أبي الحقيق وابن صوريا الذي يقطن فدك وأبو ياسر بن أخطب (عم صفية) ووهب بن يهود، وكان مقرهم بيت المدارس وهو معبدهم ومجلس ملتهم ومحكمتهم. •••
وقد سألوه
صلى الله عليه وسلم
في الفلك والطبيعة وأحكام الشريعة واستفتوه في قضية زنا لشريفين محصنين، فأفتى بما ورد في التوراة من الرجم، ولم يفت بالجلد؛ تطبيقا لقانون المتقاضين، فلما رجم الزانيان كان الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة.
وهذه قضية احتكم فيها اليهود إلى الرسول وكان تنفيذ الحكم أمام المسجد، فقبلوا قضاءه لأنه ينقذهم من حكم التوراة؛ وهو الرجم أيضا! فاستغلوا المحالفة أو الصحيفة فيما لا يضرهم، ولكنهم كانوا لا يكفون عن أذاه؛ فمرة ينهون الأنصار عن بر المهاجرين خشية الفقر:
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله .
واتخذوا الملاحن لسبه في مواجهته بلغتهم وقالوا: «راعنا سمعك واسمع غير مسمع» ويضحكون، و«راعنا» بالعبرية سب قاذع، فهددهم ابن معاذ بالقتل إن عادوا إليها، ونزل القرآن:
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا .
وبالجملة كان مسلك اليهود مع المسلمين من المخزيات، وما علينا إلا أن نتخيل طائفة غنية ذكية متعلمة ذات كتاب منزل قد استولت على بلد زراعي ضعيف واستعلت أهله واستغلتهم وأذلتهم وركبتهم بالدين والرياء وسخرتهم في أعمالها بأبخس الأجور، وأوقعت فيهم الفتنة وحرضتهم على القتال؛ لتبيدهم أو لتضعفهم؛ لتسودهم سيادة أبدية، وهي بعد متكبرة مستقلة مترفعة تحدث الغلاء وتحتكر الدواء والغذاء؛ فإذا برجل يهبط من السماء على هذا البلد فينتشله في عام من وهدة الانحطاط والانحلال والخيبة، ويسعى في تكوينه وخلقه خلقا جديدا، ويعمل على إحباط أعمال اليهود وتفنيد أقوالهم وإظهار فضائحهم.
المنافقون في المدينة
لا تكمل صورة الحياة في المدينة بدون الإسهاب في الكلام على المنافقين؛ لأن هذا الفريق من الناس وإن لم يكونوا جنسا أو طبقة أو حزبا، إلا أنهم كانوا أقوى من كل هؤلاء مجتمعين؛ لأن أعمالهم وأقوالهم تتم في الخفاء، وقد أتقنوا الظهور بما ليس في قلوبهم ويمكنهم أن يكذبوا وينكروا ما قالوا أو فعلوا، ولهم أسلحة عدة؛ منها: التقلب، والغدر.
أما أصل كلمة النفاق في اللغة العربية فقد لا يؤدي المعنى الذي تم الاصطلاح عليه، ويمكن الحصول على تعريف المنافق تعريفا وافيا من القرآن والسنة، أما المادة اللغوية نفسها فهيهات أن نبلغ بدرسها أربا، فالدابة تنفق، والنفاق - بفتح النون - رواج البيع، وأنفق الرجل افتقر وذهب ماله، والإنفاق كالإملاق، وهو غير النفقة المعلومة بمعناها الشرعي والاقتصادي، والنفق سرب تحت الأرض له مخلص إلى مكان، وليس في أي لفظ من هذه الألفاظ ما يدل على المعنى الذي نقصد إليه، وقد جاء في بعض المراجع أن كلمة منافق بالمعنى المطلوب حبشية الأصل، ودلالتها أن الرجل ستر كفره بقلبه وأظهر إيمانه بلسانه، ولعل في معنى النفق (السرب) أو جحر اليربوع الذي تحت الأرض يفر إليه ليخفي مكمنه مقاربة إلى المقصود، وعلى كل حال؛ فإن النفاق معروف عند الناس جميعا، فلا داعي للإسهاب في تحري اللفظ، فإن له شبيها أو مرادفا في كل اللغات، وهو في حياة الحيوان نوع من التغمية؛ فإن الحرباء تتلون بألوان الشجر والأرض؛ لتخفي نفسها عن أعين من يقتفيها ليؤذيها، وقد جعلت الطبيعة بعض الحيوان بلون البيئة التي يعيش فيها؛ حماية له ووقاية، كالأسد والنمر المخطط والغزال وحمار الوحش وأنواع السمك والأصداف، وفي الحروب اتخذت الجيوش التغمية بالألوان؛ لتخفي أدوات القتال في الأشجار وعند السير والمهاجمة وغيرها، فهذا نوع من النفاق الذي يصحب الحيوان طول حياته لحماية حياته، فكأن النفاق ضروري للضعفاء في أوقات الخطر، أو الأقوياء الذين يريدون أن يزدادوا قوة في محاربة العدو.
وفي اللغات الأوروبية النفاق مأخوذ من اليونانية، بمعنى لعب دورا أو مثل دورا، فهي كلمة فنية؛ لأن الرجل يظهر بغير حقيقته فيكون ملكا أو صعلوكا أو عاشقا أو شجاعا وهو في الحقيقة صعلوك أو غير محب أو جبان، ولكنه يستطيع بنظرته أن يقنع المشاهد أنه على طبيعة الذي يمثله؛ فمضحك الملك والأحدب ولابس الطرطور منافق حاذق بعد أن يفيق من الذهول الأول في بلاط الملك.
ولكن هذه كلها معان أولية؛ فقد اتسع نطاق النفاق في المجتمعات الإنسانية وصار فنا بأصول وقواعد ثابتة، وتشعبت أطرافه في السياسة والاجتماع واتخذ مكانته المعروفة، فيقال في الكتب الأوروبية: النفاق الاجتماعي، وهو كل ما يقتضي ظهور الإنسان بغير حقيقته في المجالس والمآدب والمعاملات، وهو في السياسة إبداء غير ما يضمره رجالها في البلد الواحد أو في البلاد المتباينة، وقد صار أمرا من الأكاذيب الكبرى المتفق عليها، ويقول الفرنسيون: إنه اعتراف من الرذيلة بسمو الفضيلة؛ لأن المنافق يخفي رذيلته وراء مظهر الفضل.
ولسنا بصدد الكتابة في النفاق وتشخيص أعراضه وتحليل نفسية المنافق وتعليل نفاقه أو ذكر عناصر النفاق المفادة من الوراثة والتعليم والعدوى الاجتماعية وضعف النفس والاضطرار، ولكننا بصدد التبيين لما كان من شأن المنافقين في مقاومة الدعوة المحمدية في المدينة؛ فقد كان سلاحا ماضيا فتاكا فتكا ذريعا يوشك أن يقضي على كل النهضة.
ولا شك كان النفاق من الرذائل المعروفة عند العرب في الجاهلية وإلا ما أتقنه منافقو المدينة، وكان بعض أهل مكة من كبار المنافقين، وحتى المسلمين كان منهم منافقون مهرة، فأبو لبابة كان منافقا عندما غدر برسالة الرسول إلى بني قريظة وأطلعهم على ما ظنه قصد النبي، ثم ندم وتاب وربط نفسه بسلسلة في إحدى أساطين المسجد، ولكن نفاقه كان قصير الأمد فأسرع إلى التوبة. لم نعثر على شعر جاهلي يصف النفاق، ولكنا لا نشك في وجوده؛ فإنه حالة من حالات النفس التي لا يمكن أن تكون قد فلتت من ملاحظة الشعراء؛ فهو حتما في الفطرة الإنسانية نوع من الوقاية عند الخطر، وأوله النفاق السلبي؛ وهو إنكار الفعل أو القول، ثم هو مزيج من الجبن والأنانية والكذب والخداع والاستهانة بعقل الغير والجرأة على الحق، ولا يجوز أن نخلط بينه وبين المجاملة الاجتماعية والمداراة التي قيل بسببها: «دارهم ما دمت في دارهم، وأرضهم ما دمت في أرضهم.» وقال رسول الله: نبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم. فهذا لون من أدب الاجتماع؛ لأن ظهور المرء بحقيقته في كل الأحوال مدعاة للهلاك ومظهر للعداوات ومحرك للأضغان ومسقط للهيبة بسبب فجر الخصم وانفجاره، ثم إن الظهور بالمجاملة والمداراة للسفهاء واللئام دفاع مشروع عن النفس للخلاص من أذاهم ورد لكيدهم في نحورهم، وهو مشروع على أساس انتشار الشر في الطبيعة الإنسانية وحاجة المرء العاقل لاتقائها، وقد اخترع غلاة الشيعة «التقية»؛ أن يظهر الشيعي المغالي بمظهر السني ريثما ينجو من البيئة التي يخشى خطرها، وهم الذين ابتدعوا قولهم: «أخف ذهبك وذهابك ومذهبك»؛ أي مالك وطريقك التي تسلكها وعقيدتك.
فالنفاق من صفات الضعفاء أو الأقوياء الخبثاء، وهو من أهم صفات المرأة في كل عصر ومكان وسن؛ لأن المرأة محتاجة إليه دائما؛ فإن أهم حاجتها إلى الرجل والمال، وأهم خلالها الحب والبغض، وأهم مصادر قوتها الكذب والتضليل، والأنثى بصفة عامة منافقة، والنساء أكثر نفاقا فلا يخلو لفظ أو فعل من ألفاظها وفعالها من النفاق، فهي تمثل دور العشق مع من تبغض، وتدعو بطول العمر لمن تتمنى ولو بجدع الأنف هلاكه وموته، وتظهر بالضعف وهي أقوى ما تكون، وبالفقر وهي غنية، وتنافق مع من تحب فتظهر له البغض؛ لتشد عليه وتزيده ارتباطا بها، ولذا تنجح المرأة في التمثيل والتجارة والسياسة والتجسس (معظم جواسيس الدول في أشد أوقات الحروب حرجا من النساء، فهن أعين وآذان صالحة جدا فينلن ما لا يظفر به الرجال)، ولا يفلحن في العلم ولا القضاء ولا الصناعات والفنون، وأكثر نفاقهن معلل بضعفهن المزعوم، وعلى القارئ أن يستعيد بذاكرته وخياله صورة امرأة في شتى مسالكها؛ فيفهم النفاق على حقيقته، فالمرأة وحدها هي التي «تدبر من تحت لتحت»، وهذا هو بالدقة معنى اللفظ الإغريقي الذي تطور إلى ما نعلمه.
ومن أكابر الكتاب الذين برعوا في وصف النفاق وصفا علميا لابرويار الفرنسي من فطاحل النصف الثاني من القرن السابع عشر، كان مريدا لثيوفراست اليوناني وأستاذا لأمير كونديه، وقد أبدع في تصوير أخلاق أهل زمنه ففاق الأوائل والأواخر في وصف النفاق.
ومن الأوضاع الاجتماعية التي تحتم النفاق في سبيل العيش: الضعيف بين أقوياء، وقد عبر عنه الشاعر العربي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
وقال الآخر يركن إلى الفراسة في كشف قناع المنافق:
والعين تعرف من عيني محدثها
إن كان من حزبها أو من أعاديها
لأن العين تنطق بغير ما ينطق به اللسان.
ومن تلك الأوضاع وضع الضرائر اللاتي يعشن في كنف زوج في بيت واحد، واللواتي وإن اختلفن دارا يجتمعن أحيانا فيقبلن بعضهن بعضا ويتعانقن، والواحدة تريد أن تفري جلد الأخرى وتهلكها بالغرق والنار إن استطاعت!
ومنها حياة أبناء الزوج في بيت زوجة أبيهم سواء كانت أمهم على قيد الحياة أو متوفاة، وكذلك أولاد الزوجة في بيت زوجها، ومن يرغم على تهنئة زوج امرأة كان يخطبها ولم يسعده القدر بزواجها، والتي تهنئ عروسا يأخذها خطيبها، والذي يفرح لشفاء عدو له من مرض كان يرجو وفاته بسببه، وحرمه الشفاء من خير كان يؤمله؛ كميراث أو إقصاء عزول إلخ! كل هذه مواقف حرجة تقتضيها حياة المجتمع في أطواره المختلفة، والمرءوس الأكفأ من رئيسه، والعالم أو الأديب المقل في عشرة الغني الجاهل إن لم يربأ به علمه وأدبه عن الوقوف هذا الموقف المخجل.
وفي الأدب القديم أمثلة للنفاق أفرغها المؤلفون في قصصهم مثل تارتوف في قصص موليير، وهو المتدين في الظاهر الفاسق في الحقيقة، يستغل مال صاحبه ويطمع في عرضه، ورجال البلاط في قصة هامليت أمير دنمرك «لشكسبير» وياجو برواية أتلو «لشكسبير» وهو الذي يودي بنفاقه بحياة البطل الأفريقي وزوجته الجميلة الشابة، ورجال البلاط الروماني في عهد نيرون والإمبراطور طيبريوس نفسه ووزرائه (راجع حوليات تاسيت)، وقد حسن ندماء نيرون له أن يحرق رومة ويفتك بزوجته ويغتال أمه ويعزل سنيكا الحكيم، وكذا يهوذا الأسخريوطي الذي أسلم المسيح وباعه بنقود لليهود ليصلبوه من أئمة النفاق، وكذلك كان فوشيه الشرطي الفرنسي في غدره بمولاه بونابرت ومترنيخ النمسوي.
ومعظم المحيطين بالمستبدين منافقون، وإلا فلا حياة لهم؛ لأن الصراحة ألد أعداء الملوك المستبدين والرؤساء الجائرين، والوسطاء طبقة منافقة؛ فهم يحسنون السيء ويشوهون الحسن، وكذلك اللواتي يمارسن وظيفة الخطبة بين الأزواج، حتى إن القانون حرم مكافأتهم على ما يتم من صفقات الزواج على أيديهن.
وقد توصف طائفة بأجمعها بالنفاق كالجيزويت (اليسوعيين) مع أنهم من خيار الكاثوليك؛ فقولهم جيزويتي مرادف لمنافق، وتجرأ بعض الكتاب فوصف أمما بالنفاق فقالوا: النفاق الإنجليزي أشهر من أن يذكر! ولكن في هذا مبالغة ؛ فقد يؤخذ الحذر وبعد النظر كالذي عند اليهود وبعض الإنجليز بأنهما نفاق، ولا دخل لنا في هذا.
نخلص الآن من هذا التعريف بالمنافقين الذي لم يكن منه بد إلى وصف المنافقين في المدينة، فبدونهم لا تتم الصورة الحية التي نحاول أن نرسمها لهذا البلد الذي لولاهم ولولا اليهود لكان بلدا أمينا حقا. كان المنافقون في البلد جيشا لا يقل عن ثلاثماية من الأعيان والأفذاذ والفصحاء والوجهاء، كانوا «طابورا خامسا» من الطبقة الأولى، وكانوا مسلحين بكل أسلحة النفاق؛ وهي حلاوة اللسان، ووجاهة المظهر، والغنى، والذكاء، والكذب، والخداع، والطمع، وسعة الحيلة، وحضور البديهة، ولو أن هداهم الله واستعملوا هذه الصفات في الفضيلة والعقيدة كانوا من أسعد السعداء وأقوى الأنصار، ولكن هذه المحاسن كان يشوبها الجبن والخبث النسوي والالتواء العقلي، فكل منافق في نظرنا مريض جبان لا يسير على منطق، لأنه لو أنعم النظر لرأى ما يعود عليه من النفع بالنفاق موقوتا لا يتجاوز وقته مع أنه يكلفه كثيرا. وإنه مع ضعف المسلمين في أول أمرهم كان المنافقون مع قوتهم يخشون جانبهم؛ جانب الصراحة والشجاعة فيهم، ويخجلون عند المواجهة، كما كانت حال فنحاص الذي أنكر اسمه أمام النبي أنه نسب الفقر لرب المسلمين وهو ربه؛ لأنه يهودي موحد من أهل الكتاب وأتباع موسى، ومحمد لم يقل: إن له إلها غير إله موسى. ولكن فنحاص أراد النيل من محمد وأبي بكر والقرآن لا من ربه؛ لأن التوراة تطالب اليهود بالعطاء وإقراض الله قروضا حسنة، فلما صفعه أبو بكر بادر بالشكوى إلى الرسول وأنكر قوله حتى نزل قرآن يؤيد أبا بكر في دفاعه.
وسبب رعب المنافقين واليهود من النبي أنه جاملهم وتواضع لله وعاهدهم ووادعهم، وقد أجمع المؤرخون على أن رأس النفاق في المدينة عبد الله بن أبي ابن سلول الذي أسلم ابنه قبله ثم أسلم هو أيضا ولم يشفه الله من النفاق، وقبل إسلامه كان يظهر العداء جهرا، ولما وجد أن العداء المفتوح يجلب عليه الويلات ويبيح دمه اتخذ الإسلام ستارا يقيه شر الانتقام ، فالمنافق هو المسلم الذي أسلم اضطرارا وبقي في قلبه مشركا وعدوا لدودا للمسلمين، ومنهم الجلاس بن سويد بن الصامت وكان زوجا لأم عمير بن سعد، وقد رباه يتيما لا مال له فكفله الجلاس وأحسن إليه؛ إكراما لأمه، وفي ظني دون أن يمس هذا الظن كرامة عمير، أنه أسلم مبكرا؛ ليخرج على الجلاس غيرة على أمه؛ فقد كان يتألم لبقائها في بيت رجل غريب واضطراره لأن يطيعه (وليس كل الناس على مذهب: من يعقد على أمي أدعوه يا عمي)، ففي إحدى الليالي دخل الجلاس داره وتعشى واستلقى على فراشه ثم أخذ يستعيد حوادث النهار فقال مفضيا بدخيلة نفسه بمسمع من زوجته وربيبه عمير: «لئن كان ما يقوله محمد حقا فلنحن شر من الحمير.» أي إنه والمنافقون حمير؛ لنفاقهم وتكذيبهم الرسول بعد أن أسلموا، فإنه في الواقع موقف خاطئ مكذوب مزور عقيم لا طائل وراءه، فهم مسلمون يصلون ويعبدون وينادون محمدا برسول الله، وفي الوقت نفسه لا يؤمنون بالقرآن ولا بمحمد! فإذا كان الرسول على حق فكيف موقفهم مع الله، ولو لم يكن على حق فأي نفع لهم من هذا الإسلام الذي أعلنوه.
ولكن يظهر أن «الاستحمار» قد أوشك أن يثبت في ذهنه في ذلك الوقت الصافي وهو بعيد عن شياطينه وأصدقائه المنافقين واليهود، يعني وا خسارتاه لو كان محمد نبيا حقا والقرآن منزلا صدقا، سوف نحاسب على نفاقنا حسابا عسيرا! هذه مناجاة كانت لو تركت لعلها تقود الجلاس من تلقاء نفسه إلى الإيمان بالتدريج؛ لأنه بدأ يشك في إنسانيته وإنسانية حزبه، وبين الشك واليقين خطوات.
كان عمير متيقظا فسمع كلام زوج أمه فلم يطق عليه صبرا، فقال له: يا جلاس (ولم يقل له: يا عمي)، إنك لأحب الناس وأحسنهم عندي يدا (عرفان بالجميل وشجاعة)، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك، ولئن أصمت عليها ليهلكن علي ديني، ولإحداهما أيسر علي من الأخرى؛ أي إن فضيحتك أهون علي من هلاك الدين.
ومشى عمير إلى رسول الله وذكر له مقال الجلاس، فأرسل الرسول للجلاس وسأله، فحلف بالله لقد كذب عليه عمير، وما قلت ما قال عمير.
فقال عمير: بلى والله لقد قلته فتب إلى الله، ولولا أن ينزل القرآن فيجعلني معك ما قلته. وهنا يتغير سبب البلاغ؛ فقد خاف عمير هلاك دينه، والآن خشي نزول القرآن واقترانه بالجلاس إذا صمت وستر عليه، ثم إن عميرا قال: اللهم أنزل على نبيك تكذيب الكاذب وتصديق الصادق. فأمن الرسول على دعوته فنزلت آية:
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ...
فإن يتوبوا يك خيرا لهم . فاعترف الجلاس وتاب وقبل الرسول، توبته وحسنت توبته ولم ينزع عن خير كان يصنعه مع عمير، فكان ذلك مما عرف به حسن توبته، فقال الرسول لعمير: «وقيت أذنك.»
هذه الحالة من النفاق بسيطة سهلة محمودة العاقبة، لكنها دلتنا على أشياء كثيرة؛ فمنها: يقظة الشباب، وشدة إيمانهم، وفرحهم بالإسلام، وغفلة الكهول وضلالهم، وحماسة عمير؛ وهو الذي نشأ وترعرع في حجر زوج أمه فأنفق عليه ولا مال له؛ فهو بمثابة والده، وصراحة شباب المسلمين من أهل المدينة، فإنه لو صمت وكتم إلى أن قال للرسول لكان جاسوسا مذموما، ولكنه صارح الجلاس بعزمه واعتذر إليه بأن دينه أغلى عليه من ممالأة زوج أمه الذي يبره ويعيشه، فهو مثال للمؤمن الصادق، كما أن الجلاس أسلم على زغل وما زال قلبه مملوءا بالشك؛ ولا نقول بالكفر؛ لأنه عندما سئل صنع كفنحاص ثم تاب، ويظهر لنا حديث عمير أن أهل المدينة كانوا يخشون القرآن خشية عظيمة، ويعتقدون أنه كائن حي، وأنه سوط عقاب وإرهاب؛ فإن الله يعلم الغيب ولا يكتمه على لسان نبيه، وكل آية تنزل معلوم سببها وأشخاصها وحوادثها، فتنقلها الألسن وتصغي إليها الآذان، ثم تحفظ وتتلى إلى آخر الدهر، فهو أقوى من القوانين وأشد من الأحكام النهائية المحترمة المهيبة، يستمد قوته من الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا تأخذه في الحق لومة لائم أو غضبة غاضب، ولم يكن الجلاس بالأبله أو المغفل الذي يسيء إلى عمير بعد ذلك؛ فقد حماه الرسول وأكرمه الله بإجابة دعوته التي أمن عليها النبي وثبتت ضغينته إذا أساء إليه الجلاس، ولعل هذه المحاكمة الرقيقة التي أعقبتها توبة قضت على البقية الباقية من الشك في نفس الجلاس فوصل إلى نهاية «الاستحمار» ثم عاد إنسانا سويا!
ولكن أخطر من الجلاس وأكثر شرا نبتل، قال الرسول في وصفه «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.» كان يجلس إلى النبي ويسمع حديثه وينقله إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم: «إنما محمد أذن؛ من حدثه بشيء صدقه.» أي ما يقصد إليه العوام في مصر بقوله: «فلان ودني» - بكسر الواو وفتح الدال - أي سهل التصديق سريع الاعتقاد فيما يقال له ولو كان على حبيب، وهذه صفة لا تليق بالرجل العظيم؛ فضلا عن الرسول! ومعنى هذا أن نبتل زعم أنه لا يكتفي بنقل الأحاديث بل يتجسس على النبي ويدرس أخلاقه ويصوره للمنافقين، وقد نزلت فيه الآية:
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ...
الآية.
وقد وصف نبتل بأنه نقال للحديث، كبده أغلظ من كبد الحمار، وقد كان نبتل جاسوسا للمنافقين واليهود، فأراد أن ينال من النبي في ناحيتين: الأولى: أنه يصدق كل ما يقال له فلا يخشى المنافقون غضبه؛ لأنه سوف يصدق أكاذيبهم. والثانية: أن الرسول من بساطة التكوين بحيث تنطلي عليه كل حيلة ويدخل في روعه كل شيء حتى لو كان وقيعة في مؤمن أو حبيب.
ولكن أين الجلاس ونبتل من ابن أبي نابغة النفاق ورأس الضلال الذي جعل النفاق فنا متقنا وجعل النفاق منه وعاء للخبث وعلما على الرذيلة، وقد نال من الإسلام نيلا شديدا في أول أمره، لو لم يكن هذا الرجل عبد الله بن أبي ابن سلول منافقا لكان في مقدمة الصحابة من الأنصار؛ فقد كان من أعظم أشراف المدينة وكان مرشحا للملك، فلما انصرفوا عنه بحضور النبي حقد عليه وضاغنه واستعمل ضده كل أسلحة اللؤم والنفاق، وأنا أراه مخطئا؛ لأنه إن لم يفلح في زعامة فكان عليه أن يسير في ركاب المفلح، فما هو بأكبر من أبي بكر وعمر وعلي، ولا بأعظم من عظماء الأوس والخزرج: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن رواحة، وعبد الرحمن بن عوف، وأسعد بن زرارة، وعشرات سواهم كانوا معاصريه ورفقاءه ولم يقلوا عنه شرفا، ولم يشاركوه في فضيحة قذرة؛ وهي استخدام جواريه في البغاء وجمع السحت الناتج من الدعارة؛ ليزيد به ماله، حتى نزلت فيه آية تصفعه؛ لإكراهه إماءه على الزنا:
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ... .
وهذا الرجل أسلم لما رأى إجماع قومه على الإسلام ولما رأى ابنه مسلما مؤمنا من صحابة الرسول، ولكنه أسلم خداعا وهو يصر على النفاق، ونحن لا نلومه على تعلقه بدينه الوثني؛ فهو حر في عقيدته، ولكن نلومه على نفاقه، فلو تمسك بدينه وحارب النبي جهارا لكان حكمه حكم أحد رجال قريش أو ثقيف أو أحد رجال الأوس والخزرج الذين بقوا على الشرك للحظة الأخيرة أو ماتوا مشركين، ولكن العيب والجرم والخزي أنه حارب في أول أمره في الظاهر وتوقح وطال لسانه، ثم خاف فحارب في الخفاء جبنا، ثم أعلن إسلامه واستمر على نفاقه، وكان أولى به أن يهاجر؛ فإنه كان أكثر مالا وولدا من المهاجرين الذين نزحوا من مكة إلى المدينة. وجاء فيه قرآن آخر:
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا .
فإنه لما أرغم «المرشح للتاج» على إقفال بيته الذي كان يديره للدعارة بعد نزول الآية وهي بمثابة القانون المطاع؛ لأنها نهي من الله وتحرم صناعة القوادة، وكف المنافق الأكبر عن أن يكون «ديوثا» مرغما، اشتد حقده على محمد الذي لم يحرمه لذة الملك في المدينة بل حرمه أيضا لذة الإشراف على العهارة وجمع المال . ولم يرو التاريخ سيرة رجل كان يرجو الملك وهو قواد غير هذا، فيا لفرحة اليهود بحليفهم!
اشتد غليان غيظه فلما قابل لفيفا من أصحاب الرسول فيهم أبو بكر وعمر وعلي يسيرون في نزهة خلوية تحت أعناب المدينة ونخيلها قال القواد المطالب بالعرش لأصحابه: «انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم» (يقصد إلى الصحابة)، فأخذ بيد أبي بكر فقال: «مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله
صلى الله عليه وسلم » ثم أخذ بيد عمر فقال: «مرحبا بسيد بني عدي، الفاروق، القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله.» ثم أخذ بيد علي فقال: «مرحبا بابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله.»
فقال له علي - ولم تجز عليه حيلته وإن كان كل ما قاله صدقا: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق؛ فإن المنافقين شر خليقة الله تعالى. فقال المنافق: مهلا يا أبا الحسن، ألي تقول هذا؟! والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم! ... ثم افترقوا.
فقال ابن أبي لأصحابه الذين شهدوا هذا الموقف: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا.
انظر هذا موقف من أبسط مواقف عبد الله الذي قلنا: إنه ذو شخصية لذيذة سنصادفها كثيرا حتى بعد فشله وموته ونزول القرآن فيه وهو دفين، شخصية تصمد للعن والطعن والنيل والقدح، ولكنه نجا بجلده بسبب إيمان ولده لا بسبب مهارته، إنه يصم خير الصحابة بأنهم سفهاء؛ أي لأنهم أسلموا وأطاعوا الله ورسوله وهاجروا، ولكنه لم يقل في حقهم إلا الحق، وهنا تصدق كلمة علماء النفس؛ فليست العبرة باللفظ والمعنى، ولكن العبرة بالنغمة التي يقال بها اللفظ؛ فقد يقال لك الصدق عنك في وجهك ولكن بطريقة قاتلة ولو كان بأحلى الألفاظ وأبلغها، وقد يجيبك المحب المخلص بأبسط الألفاظ، وقد يكون عليها طابع الجفوة فلا تحس نحوه إلا بالحب لما تعتقده من إخلاصه.
ما الذي منع أبا بكر الذي صفع فنحاص، وعمر الذي كان أشد الصحابة وأقواهم، وعليا الشهم الأبي أن يجلدوا بهذا الكاذب وجه الأرض؛ عقابا لها على أنها أنتجته، وأن يقضوا عليه بضربة حاسمة يسيل لها دمه ويهبط فيها ورمه وتزهق بها روحه، وهم يشعرون الإهانة في ثنايا الكلمات المعسولة.
لقد عاقهم عن ذلك، حتى اكتفى علي بالعتاب والتعزير، أن لابن أبي ولدا مؤمنا محبوبا عند رسول الله، وأنهم لا يحبون أن يهرقوا دما لرجل وادعوه وهو يظهر الإسلام، وأن رسول الله كان يعتبره صاحبا؛ بدليل قوله لعمر عندما رجاه في قتله: «أيقال محمد يقتل أصحابه؟!»؛ أي معاصريه من أهل المدينة الذين وادعهم وعاهدوه، كل هذه كانت تقف في سبيل قتله، وأكثر من هذا في أشد المواقف، والنبي يلتمس له الأعذار، ويفلت أسباب العقاب كرما منه وجودا.
الكتاب التاسع
غزوات النبي
غزوة بدر الكبرى
(1) قبيل بدر
قضى الرسول والمهاجرون في المدينة قبل موقعة بدر الكبرى تسعة عشر شهرا، كان آخرها رمضان من العام الثاني للهجرة، لم ينضب خلالها معين المهاجرين والأنصار ولكن قل مالهم؛ لأن المهاجرين لا كسب لهم إلا قليلا نادرا، وقد بذل الأنصار معظم ما ادخروا وربحوا في معونة إخوانهم وأضيافهم.
ولم يكن الأنصار من قبل كلهم في غنى شديد؛ لأن اليهود أينما حلوا يمتصون مصادر الخير كلها ولا يبقون لأحد شيئا إلا النذر اليسير الكافي لإعاشة الغرباء عن ملتهم حتى يستطيعوا الحياة والعمل لخدمة اليهود، ويحرص اليهود عليهم حرص البخيل على رفيقه الذي يجيعه ويفقره ليحتاج إليه؛ لأن المولى لا غنى له عنه، فكان أبو أيوب الأنصاري نفسه - وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة - لا يملك عند قدوم الرسول إلا غطاء واحدا لنفسه وزوجته يطلقون عليه اسم قطيفة، روي أنه لما نزل للنبي في الدور التحتاني من منزله سال بعض الماء فخشي الرجل وامرأته أن يخر على الرسول فأتلفا القطيفة - وهي غطاؤهما الوحيد - في تجفيف الأرض المبتلة، وهذه الحالة العجيبة تدل على قدر ثروته؛ وهو أكبر الأنصار شأنا، بينما كان اليهود غارقين في السجاجيد والبسط والنمارق والطنافس كعادتهم في كل عصر وفي كل مكان، لا بد أن يشقى من أشقاهم الدهر بجوارهم، هذا أمر لا شك فيه. فلما وصل المقداد بن عمرو إلى المدينة مهاجرا لم يجد منزلا يئويه (مسند، ج3، ص4)، وقل غذاؤهم وندرت ثيابهم حتى صارت خلقانا.
وكان المهاجرون فرحين بذلك، يسرهم أن يقاسوا في سبيل إيمانهم وتلبية دعوة الله، فأقبلوا على الشدائد بقلوب المؤمنين المطمئنين، ولهذا الإقبال فرحة لا يذوقها إلا المجاهدون في سبيل كل غاية شريفة، حتى ولو لم يكن لديهم أمل في انفراج الأزمة؛ فإن طهارة ضمائرهم وشعورهم بالسمو والارتفاع عن التفاني في المادة يكفيان لإلهامهم الصبر والفرح ودبيب روح البطولة في أوصالهم، وهكذا كان المهاجرون في تلك الفترة، أما رسول الله فهو هو الغني بالله الزاهد في خيرات هذه الدنيا لحال خاصة به لا تدركها إلا النفوس السامية، وغني عن البيان أنه ما ترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة (أخرجه الصحيحان)، ولكنه لم يكن يعيش وحده؛ بل كان معه أهل بيته وصحابته وبقية المهاجرين وهم كثر، وكان في وسط لؤم من اليهود والمنافقين والمشركين ولا يسنده إلا الميسرون من الأنصار، ولم يكن بالرجل الذي يستغني لنفسه ويترك الذين تركوا وطنهم وأهلهم وأموالهم ومتاجرهم في سبيل الله وحده وهو رجل لم يذق الفقر في حياته، لا طفلا ولا فتى ولا شابا ولا كهلا؛ فإنه نشأ في بحبوحة من مال جده وعمه وخديجة وأبي بكر وعثمان وابن عوف، وعرض عليه المشركون أن يقاسموه أموالهم مناصفة فأعرض وأبى، وقد آغناه الله فوق هذا كله بالقناعة فصار بحال يستوي عنده الحجر والذهب:
وراودته الجبال الشم من ذهب
عن نفسه فأراها أيما شمم
وأكدت زهده فيها ضرورته
إن الضرورة لا تعدو على العصم
كيف وهو الذي نهاه القرآن الكريم بقوله الحكيم:
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا .
أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا؛ لأنك غني عنها بربك ، ولكن ما العمل وحوله من حوله ممن ذكرنا؟! قال أنس: ما أمسى عند آل محمد صاع تمر ولا صاع حب وإن عنده يومئذ لتسع نسوة، ولكنه كان إذا أكل أكلة طيبة أو شرب شربة ماء بارد قال لصحبه: «لتسألن عن نعيم هذا اليوم.»
واشتغل علي بن أبي طالب في الري ليهودي بثمرات معدودة (الترمذي، ص73، ج3).
ولما ابتنى الرسول على عائشة في الشهر السابع أو الثامن للهجرة لم يقم لها عرسا ولا فرحا، وقنعا بقدح من حليب، وعمل أبو بكر في البيع والشراء في سوق المدينة، واشتغل عثمان بن عفان فاكهيا يشتري التمر من بني قينقاع بالجملة ويبيعه بالمفرد، واختار عبد الرحمن بن عوف تجارة الألبان، وعكف ابن الخطاب على المساومة والدلالة، وأراد النبي أن يحرر أعناق المسلمين من ربا اليهود فحرم القروض على المواسم فلا يقترض الزراع مالا على تمره قبل جنيه؛ فقد كان اليهود يشترون نتاج المواسم بأبخس الأثمان عند اضطرار المزارعين، كما يصنع الروم في مصر في الأقطان والحبوب، وحاول بعض كبار المهاجرين أن يعملوا في النقل بين بلاد الفرس والمدينة (المسند، ج3، ص247).
ولم يقصر الرسول في احتمال العبء الأكبر من هذا الضيق المادي، ولم يميز نفسه أو أهل بيته بشيء، والأحاديث الصحيحة حافلة بما كان هو وأجلاء صحابته يعرضون له من حالات الحاجة الملحة، وأن الغالب فيهم كانت هذه الحالات، ولكنه كان دائم الوصية بالضعفاء فيقول: «ابغوني ضعفاءكم؛ فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم.» ومر به مصعب بن عمير وكان من الأغنياء في مكة وما عليه إلا بردة مرقعة بفرو، فلما رآه الرسول بكى للذي كان فيه من النعمة، وهذا يدل على أنه كان شاعرا بأحوالهم حساسا لما يمر بهم من الحوادث، ولكنه كان راضيا؛ لأنه ينشئهم نشأة جديدة ويعدهم لجلائل الأعمال، والذهب لا بد أن يصهر قبل أن يخلص من خبثه، وإن كانت تؤلمه بذاذتهم ورثاثة ملابسهم، وعن عائشة في البخاري ومسلم: «اشترى الرسول
صلى الله عليه وسلم
من يهودي طعاما بنسيئة وأعطاه درعا له رهنا .»
وقد أنكر بعضهم رواية رهن الدرع وروايات الجوع وقالوا: أما كان في المسلمين مواس ولا مؤثر ولا مقرض، وقد أكثر الله - عز وجل - الخير، وفتح عليهم البلاد وجبوا ما بين أقصى اليمن إلى أقصى البحرين وأقصى عمان، وكيف يجوع من يجهز الجيوش؟! وهؤلاء الذين دهشوا أو شكوا في هذه الروايات لم يعلموا إلا القليل من خلقه وفطرته
صلى الله عليه وسلم
فقد كان يؤثر على نفسه بأمواله ويفرقها على المحقين من أصحابه وعلى الفقراء والمساكين وفي النوائب التي تنوب المسلمين ولا يرد سائلا ولا يضع درهما فوق درهم، وكان يحزن إذا بقي في داره مال لم يقسم بين الناس.
وكيف يعلم المسلمون وأهل اليسار من صحابته بحاجته إلى الطعام وهو لا يعلمهم ولا ينشط في وقته ذلك إليهم به ولا يبادر بإخبارهم، وإنما رهن درعه عند اليهودي؛ لأن اليهود في المدينة كانوا يبيعون الطعام ولم يكن المسلمون يبيعونه؛ لنهيه إياهم عن الاحتكار؟!
فكل الذي روي عن جوعه باختياره وقبوله الفقر ورضاه بالزهد وتعففه عن الصدقات وتحريمها على نفسه وعلى أهل بيته صحيح، سواء أكان في وقت عسر عام كالأشهر التي تلت الهجرة، أو في يسر ورخاء كالأعوام التي تلت فتوح بدر وسائر الغزوات؛ فإن طبعه لم يتغير ولم يكن كالباباوات الذين مرحوا في نعيم أموال الناس باسم الدين، ولم يستثمروا شعوبهم، بل كان يوزع المال بين المسلمين وهم أمة لا طائفة ولا جمهرة، بل أمة تنشأ وتبنى، وكان في طاقته أن يفرض الضرائب، ولكنه كان يعلم وهو الحاكم العظيم والمنشئ المبدع أن الضرائب مكروهة وفارضها مبغوض إلى الناس، ولم يكن في حاجة أكبر من حاجته إلى تأليف القلوب وتحبيب الناس في الدين، وهو لا يريد أن يربي الجيل الجديد على الذل والخنوع، وأكبر مظهر لهما دفع الضرائب للحاكم القوي، ولو أنه فرضها فمن أين لهم كسبها وربحها وهم من علمنا فقرا بعد غنى، وعسرا بعد يسر، وضيقا بعد فرج في سبيل الله؟ ثم ألم نر فضيحة فنحاص والأحبار السمان الذين لم يقروا قروض الله، وضنوا بالقليل على من رفع ذكر بلدهم وأمن حياتهم وضمن لهم السلام والاطمئنان إلى حين؟ ألم تذكر عائشة أنهم قضوا أشهرا لا يوقدون النار في مطبخهم لطهي الطعام قانعين بالماء والتمر، وهي بنت أبي بكر وزوجة الرسول؟ وكم شكت فاطمة زوجة علي بن أبي طالب وبنت الرسول من الجوع؟ ولم يذق الرسول طعاما مهدى إليه قبل أن يدعو أهل الصفة ويقول لهم: إنه لا يطعم شيئا بدونهم، وما قيل عن أنه كان يبارك الطعام فيطعم منه المئات ولا يفرغ مبالغة فيه ولم يدعه الرسول لنفسه، وإنما البركة من القناعة والاجتماع وفرح الأضياف بمشاركته
صلى الله عليه وسلم .
فكان المهاجرون ينظرون شزرا إلى اليهود والذين ابتلاهم الله بالشح والصفاقة والشماتة في كل محتاج ولا ينال أحد منهم قرضا إلا برهن وضمان وتأمين، ثم إنهم يهرون بدن المدين بالربا والإلحاح والتعيير، وبينما كان المهاجرون وكثرة الأنصار يتضورون جوعا كان اليهود في آطامهم وقصورهم مختنقين بالتخمة والدفء منعمي البال بأمان الغد، لا يحملون هموم الرزق ولا يحارون فيما يأكلون غدا ولا يعوزهم ثياب ولا أثاث ولا زخرف ولا زينة، يلبس رجالهم أجود الصوف والحرير والكتان وأفخر الجلود أحذية لهم وقد حلوا نحور نسائهم ومعاصمهن وآذانهن وأرجلهن بالعقود والقلائد والأساور والأقراط من جوهر وذهب وفضة وهي المسروقة أو المرهونة والمغتصبة، وقد يكون فيها ملك مدينين بائسين لم يقدروا على تخليصها فراحت بسبيل عجزهم أولا وأخرا، واليهود لا يبالون بما ينهبون، وكيف لا يستغنون وهم الذين لم يحذقوا شيئا كما حذقوا صناعة المال ولهم أعمال رائجة ومتاجر نافقة ووسائل لجلب الكسب الحرام تعجز عنها الشياطين، ومهما كانت ثروة الأنصار فإنها تنضب حيال النفقات العامة؛ لأن هذه الحال لم يكن يكفيها إلا خزانة الدولة وبيت المال، وأين هما في هذه الآونة الحرجة؟ وكان رسول الله لا يستعين بيهودي أو مشرك إلا إذا آمنا، ولا يرضى للمسلمين إلا العزة والرفعة، ولا يرضى أن ينزل أحدهم إلى درك الاستجداء أو طلب المعونة؛ صيانة لحياء المسلم، وحفظا لعهد الله.
وعلى أن ما وصفنا أو بعضه يحرج صدر الحليم ويغري المسلم الصابر بالفتنة ويحرض غير القانع بالاعتداء على الأعداء الذين لبسوا ثياب الأصدقاء، والخونة الذين تشبهوا بالأمناء، والذئاب التي أخفت براثنها وأنيابها تحت جلود الحملان، فإنه لم يثر مسلم ولم ينهب ولم يسرق ولم يعتد على يهودي أو مشرك في المدينة؛ لأن «مركز الدائرة» كان قويا، والكل يخشى الرسول، وأقل مما رأينا كان خليقا بأن ينفث روح الثورة والشيوعية ويغري المسلمين بالتعدي والنهب، ولكن شيئا من هذا لم يحدث ولم يشك يهودي أو مشرك مسلما إلى رسول الله أنه اعتدى عليه أو طمع في شيء من ماله أو أخل بتعهد أو ود أو التزام؛ فقد كبحوا جماح أنفسهم وضبطوا أنفسهم وملكوا زمام عقولهم وقلوبهم في أشد أوقات الاضطرار، ولم يخطر ببال أحدهم أن يسأل: فيم إذن هذا الدين وهذا الخروج على الأوثان إذا كان المسلم يلقى مثل هذا الشقاء في أول عهده بالهجرة؟! وكيف تكون حالنا إذا طالت محنتنا بهؤلاء الأوغاد من اليهود والمشركين؟! وهذه كتب السنة والحديث والمؤرخين والمستشرقين لا نرى فيها سطرا أو كلمة تشير إلى حادث وقع خطأ يسجل ظلامة من هذا النوع، مع أن المجرمين في كل مكان وزمان إنما يوجدون بل يخلقون لظروف كهذه الظروف، وهؤلاء هم العرب الذين ألفوا الغزو والنهب وما زالوا قريبي العهد بالبداوة قد برئوا من هذه الأدواء ولم تظهر أعراضها على أحد منهم.
إنما كان المسلمون يحقدون على اليهود؛ لخبثهم وجشعهم وعدم مراعاة الجوار وفراغ قلوبهم من الرحمة.
وكان المسلمون يحقدون على قريش؛ لأنها أخرجتهم من ديارهم وضيعت أموالهم وأرزاقهم واحتلت ديارهم، ولولا اضطهادها إياهم لبقوا في بلدهم غارقين في نعمتين من الدين والدنيا، فهذا ثأر لا ينسى وضغينة لا تفتر وحقوق يحق أن تسترد، وأي رجل في أي زمان أخرج من دياره ونهب ماله وعفا عمن فعل به ذلك؟! لقد خرج الرسول إلى المدينة وتبعه من تبعه لا ليلهوا بالمدينة وهوائها ومائها ونخيلها وأعنابها وإن كانت كلها خيرا مما كان في مكة، ولم يذكر المهاجرون عسل مكة وبصلها ولا فومها وقمحها كما فعل أتباع موسى في حنينهم إلى خيرات وادي النيل! ولكن أهل مكة من المهاجرين وعلى رأسهم الرسول لم ينسوا أنهم خرجوا من مكة ليعودوا إليها غزاة فاتحين وليرغموا أهل الشرك فيها على الإيمان بالله لا بالأصنام؛ ليؤدبوهم ويستتيبوهم ويضعوا أنفوهم في التراب ويقتلوا منهم من استطاعوا؛ تثبيتا للدين الجديد، فما يزال الحق والعدل والخير حائرة ولهى إلى أن تهرق الدماء وتزهق النفوس على ظبا السيوف ورءوس الرماح، فيستقر الحق والعدل والخير في نصابها، وما يزال صاحب الحق والعدل والخير والداعي إليها مستضعفا مقهورا ما لم يجرد سيفه؛ ليغرسه في صدور أنصار الباطل والظلم والشر، فإن لم يفعل فعلى الحق والعدل والخير السلام، في هذا كان يفكر الرسول والمسلمون ولا سيما المهاجرون، وإني لفي عجب من الجهلاء والبلهاء الذين ينكرون أن الإسلام قام على السيف والرمح ويخشون أن تنسب إليه القوة والبطش وتنفيذ الرأي بالقتال، السيف أصدق أنباء من ألف كتاب وألف إصحاح وألف سفر، واليهود أول من أثبت ذلك وفعله، والنصارى ثاني من أثبت ذلك وفعله، والجاهليون والروسيون واللاتينيون وكل الأجناس، حتى المسيح الوديع قال: لم آت لألقى سلاما بل حربا. فكيف يفكر هؤلاء الناس في الدفاع عن الإسلام بأنه ليس دين حرب وقتال، بلى؛ إنه لكذلك، وإن لم يكن كذلك ما أفلح ذووه قيد شعرة، وإن كان الحق يعلو والعدل يعلو والخير يعلو بالوعظ والنصح والكلم الطيب فلم أخفق في مكة بعد ثلاثة عشر عاما؟!
ومن هم هؤلاء المكيون الضعفاء الجبناء الذين طردوا المسلمين وأرغموهم على التغرب والفاقة وهم الذين اخترعوا ألف حيلة وحيلة لاتقاء المواقع وحاطوا بلدهم الحرام بموانع القتال، أليسوا تجارا بخلاء يخشون على مالهم وعيرهم؟ لقد شرعوا في قتل الرسول وقتلوا من استطاعوا قتلهم من المسلمين، ففيم التورع في مهاجمتهم والنيل منهم والقضاء عليهم؟! أليس في هذا العمل ما يرهب اليهود ويقضي على تنطعهم ووقوفهم للمسلمين بالمرصاد والتحدي؟ ألا يقطع هذا النصر، إذا حازه المسلمون، ألسنة المنافقين والمهوشين والمضللين، ألا يفقأ أعين الجواسيس ويصم آذانهم؟!
نعم إن المهاجرين يحاربون أهل مكة وهم أهلهم وأصدقاؤهم وأصهارهم، ولكن أهل مكة قد قطعوا تلك الأواصر وقضوا عليها بأفعالهم، والإسلام عوضهم عنهم أهلا وأصدقاء وأصهارا وأقارب، وإن كان أهل مكة وقريش ما زالوا جبناء حرصا على دمائهم وعلى حياتهم المنصرفة للهو واللعب والملذات؛ فإن المهاجرين قد تبدلت أخلاقهم وتغيرت مناحي تفكيرهم وتطهرت أعرافهم من أدران الجاهلية وأرجاسها، وهم لا يحرصون على الحياة حرصهم على الجهاد الذي يعقبه استشهاد، ولم يخطر ببالهم في هذه الأوقات غنائم ولا أنفال ولا سلب ولا نهب كما يزعم خليفة الأعداء وحليف اليهود والمشركين المعلم مرغليوث الأرمني في ص239 من كتابه، ولم يكن المسلمون في فاقة ولا حاجة؛ لأنهم بدءوا الغزوات بعد سبعة أشهر من الهجرة، وهم لم تشتد حالهم إلا قرابة عشرين شهرا منها، فكان أول لواء عقده الرسول لعمه حمزة بن عبد المطلب في أول رمضان أدركوه في المدينة فحمله أبو مرثد كناز الحصين الغنوي حليف حمزة وكان لواء أبيض، وقوام السرية ثلاثون رجلا من المهاجرين، ولم يشترك أحد من الأنصار؛ لأنهم شرطوا له أنهم يمنعونه ويدفعون عنه في دارهم.
وكان أبو جهل يقود قافلة من الشام إلى مكة، فلما بلغوا ساحل البحر الأحمر من ناحية العيص اصطف الفريقان للقتال ولم يقتتلوا؛ لوساطة مجدي بن عمرو الجهني؛ لأنه حليف الفريقين فقبلوا وساطته، وعاد كل منهم إلى بلده، وقد كانت جرأة عظيمة من حمزة أن يستعد لقتال عشرة أضعاف رجاله، ولكنه بدأ تنفيذ الفكرة التي أقرها النبي والمسلمون، ولم يخفوا مقاصدهم على قريش، وفي الشهر التالي (شوال سنة 1ه) خرج عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف إلى بطن رابغ على ساحل البحر الأحمر، وهو المكان الذي يحرم فيه المقبل على مكة من مصر وأقرب إلى جدة منها إلى ينبع، وعددهم ضعف سرية حمزة وليس فيهم أنصاري، وكان رئيس قافلة قريش عكرمة بن أبي جهل في مائتين من أعوانه، وكانوا على ماء اسمه أحياء، فتراشقوا بالسهام ولم يخرجوا سيوفهم من أغمادها؛ لأنهم لم يلتحموا ولم يصطفوا، وهذا الذي يسمى مناوشة، وقد أصيب سعد بن أبي وقاص بسهم.
وأراد الرسول أن يمكن ابن أبي وقاص من ثأره، فعقد له في الشهر التالي لواء حمله المقداد بن عمرو البهراني وبعثه في عشرين رجلا ففاتتهم القافلة ولم يدركوها في المكان المنتظر فعادوا إلى المدينة.
فلما ختم المسلمون عاما في المدينة خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نفسه إلى الأبواء (صفر سنة 1ه) وحمل لواءه عمه حمزة، واستخلف الرسول على المدينة سعد بن عبادة أحد زعماء الأنصار، وسار الرسول حتى بلغوا الأبواء فاختلف وقت اللقاء بستة أميال ولم يعلم أحد ممن كان على رأس قريش، ولكن عرف المسلمون أن لهم في كل شهر قافلة أو أكثر، ولم يعد الرسول خالي اليدين، فالتقى بقبيلة بني ضمرة التقاء مودة، فتقدم إليهم سيدهم مخشي بن عمرو الضمري فوادعه على أن لا يغزو الرسول قبيلته، ولا تغزوه، ولا يتحالفوا مع أحد عليه، ولا يعينوا عدوا، وكتبوا محالفة بذلك، وفرح الرسول بمعاهدة هذا الفرع من بني كنانة، ولم يغب عن المدينة سوى أسبوعين، وكانت هذه أولى غزواته بشخصه، والأبواء محل دفن والدته.
وغزا بعدها بشهرين، وترك سعد بن معاذ على المدينة، وحمل لواءه ابن أبي وقاص، وخرج في مائتين من أصحابه، وكانت رياسة عير قريش لأمية بن خلف الجمحي، وهو من أسعد الناس حظا؛ فقد كان معه مائة رجل على ألفين وخمسمائة بعير، فلما بلغ المسلمون بواطا من جبال جهينة لم يجدوهم فعادوا إلى المدينة، وفي الشهر الثالث عشر خرج الرسول في طلب كرز بن جابر الفهري، واستخلف زيد بن حارثة، وحمل اللواء علي بن أبي طالب، وسبب هذه الغزوة أن كرزا أغار على إبل وغنم كانت ترعى على بعد ثلاثة أميال من المدينة، فطلبه الرسول إلى أن بلغ وادي سفوان من ناحية بدر ففاته وعاد الرسول.
وفي الشهر السادس عشر من الهجرة خرج الرسول إلى ذي العشيرة وهو مكان لبني مدلج بناحية ينبع ومعه مائتا رجل، وترك على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، الذي توفي بعد ذلك في أحد عن أرملته أم سلمة، فتزوجها الرسول بعد أحد، وكانت أول امرأة هاجرت من مكة إلى الحبشة والمدينة، وقد أفضنا في تاريخها في ذكر زوجات الرسول، فوجد أن قافلة قريش قد فاتته بأيام، والمهم في غزوة ذي العشيرة أن العير التي فاتت الرسول في ذهابها من مكة إلى الشام لم تفته في عودتها من الشام إلى مكة بعد ذلك بثلاثة أشهر، فخرج إليها فأدركها عند عودتها فلزمت الساحل، وبلغ قريشا خبرها فخرجوا بجيشهم؛ ليمنعوها، فلقوا رسول الله ببدر فحاربهم، ولم يفد النبي في غزوة العشيرة سوى محالفة بني مدلج من بني ضمرة.
ولكن المسلمين أفادوا المران والتدريب والصبر على العدو والتربص له وتراكم الغيظ في صدورهم إلى أن يلقوه لقاء حاسما.
وفي رجب - وهو الشهر ال 17 من الهجرة - أرسل الرسول عبد الله بن جحش الأسدي إلى بطن نخلة، وهو بستان ابن عامر قرب مكة، وكان عدد المسلمين اثني عشر رجلا، وقتل المشركون مسلما واحدا هو عمرو بن الحضرمي، وأسر المسلمون مشركين اثنين وفرت البقية، وكانت الغلبة لمقداد بن عمرو؛ فقد استاق وصحبه عير قريش وكان فيها خمر وجلود وزبيب من الطائف، وحرم سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان من المشاركة في القتال.
هذا غنم ضئيل بالنسبة للمغازي السابقة التي أخفق سعيها وهي بعد راجعة من الطائف إلى مكة فلم يكن لها كبير شأن.
ولكن المهم في هذه السرايا الصغرى والوسطى، أن المسلمين تمرنوا على السفر والانتقال وتحمل المشقات في القتال والاستعداد له، ولم يكونوا قبل اليوم يعرفون ما هو الجيش وما لقاء العدو لقاء منظما تحت قيادة معترف بها تطيع قائدا أعلى في المدينة وتكف يدها عن الغنائم حتى يأذن الرسول بتقسيمها.
ومرن المسلمون على عدم اليأس من الذهاب والعودة ومن فوات الفرصة في لقاء القوافل، وتجشموا الصبر على ذلك كله طاعة لله ورسوله، وتعودوا لقاء هؤلاء الذين كانوا صناديد قريش، وتعلموا المرافقة في الحرب وحمل السلاح، وفي ذي العشيرة كان المسلمون لا يبالون بالمتاعب؛ فكان علي بن أبي طالب ينام ويتمرغ في التراب وهو ربيب النعمة وحامل العلم، فخرجوا من نعومة أهل مكة وترفهم إلى خشونة الصحراء والنضال.
ولنا أن نسأل: لم فاتت هذه العير كلها سرايا المسلمين ولا سيما تلك التي خرج إليها الرسول؟
ليعلم الناس قاطبة أن الرسول لا يعلم الغيب في القتال، ولو علم لالتقى كل مرة بمن أراد، ولا يكفي أن نقول: إنه كان يعلم وأراد تدريب صحابته، فإن الخروج والعودة بغير ظفر محرج للصدور، ولو كان يعلمه بقوة خارقة لطلب الغلبة لقومه، ولم يكونوا في حاجة إلى تدريب أو تمرين، وإنما نحن نراه في الحروب بشرا سويا لا ملكا، ولا ينبأ بالغيب، ولا ضامنا لنفسه نصرا.
ونفيد أيضا أن الرسول لم يبدأ حروبه على قريش ببدر كما يظن بعض الناس، وإنما جاءت بدر في ترتيب طبيعي، وجاءت مصادفة سعيدة جدا لم تقدر قيمتها في يومها، وإن كانت من المعارك الحاسمة في التاريخ، وإن المسلمين لم يخرجوا لبدر للنهب؛ لأنهم بلغوا غاية الفاقة في الشهر 19 من الهجرة؛ فقد كانوا من قبل يخرجون كل شهر بعد نصف عام من وصول المدينة، فليس خروجهم بمبتدع ولا مبتكر، غير أنهم لم يوفقوا في المغازي السابقة لأسباب خارجة عن إرادتهم؛ منها: عدم خبرتهم بالطرق، وأهل مكة - ولا سيما زعماء القوافل - منهم دهاة يعرفون كل شبر ومتر بين مكة والشام، وقد رأينا فيها بأنفسنا مسالك وشعبا يضل فيها أعظم الأدلاء والمرشدين حذقا، ولم يكن يومئذ خرائط ولا رسوم جغرافية أو طوبوغرافية ولا تصوير شمسي ولا مركبات يستكشف العدو بواسطتها.
ومنها: أن أهل مكة لا بد أنهم كانوا ينفقون مالا كثيرا في تضليل المسلمين؛ خشية مواقعتهم، فيمدهم جواسيس قريش المدسوسون المأجورون بمعلومات، بل بمجهودات لا تنفع، كالدليل الذي ضلل بونابرت قبيل موقعته، والسوادني الذي ضلل حملة هيكس.
ولما فطن المسلمون إلى تكرار الإخفاق وتفاوت المواعيد والمسافات بأيام وأميال، صمموا على أن يترقبوا قافلة بعينها، ولذا ترقبوا تلك القافلة التي فاتتهم بذي العشيرة، وكان عليها أبو سفيان، ولم يعولوا على «إخبارية» جاسوس أو «خبير»، وقد علموا أن العير لا بد وأن تعود من الشام، فلا بد من تضييق الخناق عليهم والبحث عنهم في كل مكان، ولا يبعد أن يكون قد لحقهم مسلمون أمناء صحبوهم في العودة واتصلوا بالمدينة أسبوعا بأسبوع.
فليست أقلام المخابرات بحديثة العهد ولا ببدعة إسلامية، ولكن الذي يعنينا أن المسلمين صمموا أن لا يفلت منهم القرشيون في هذه المرة مهما تكلفوا أو تعبوا، وإن في المهاجرين والأنصار لرجالا من الدرجة الأولى في الفراسة والفطنة وتنسم الأخبار واقتفاء الآثار والمهارة في التغمية والاستخفاء وتضليل الأعداء، ولا يمكن أن يكون لقاء بدر محض مصادفة، بل عمل حربي متقن مسبوق بخطط محكمة، ومصحوب بشجاعة فائقة وصلت حد الاستماتة، وملحوق بحسن تدبير وفطنة سامية فيما نجم عن هذه الموقعة، فعرف الرسول كيف يستثمر النصر؛ وعندنا أن ثلاثماية رجل وعشرة كانت أقصى قوة للمسلمين في المدينة، وهي كتلته الحربية الكبرى في هذا الوقت، ولو كان لديه أكثر منهم ما تردد في خروجهم، ولعل مثلهم كانوا مرضى أو شيوخا أو عاجزين عن القتال.
كان في مقدور الرسول أن يحشد نصف ألف، ولكنه خشي أن يكون ضرهم أكثر من نفعهم؛ لضعف بقية الجيش، فآثر أن يخرج بأشجعهم وأخفهم وأصبرهم وأكثرهم إيمانا، وهذا الفعل نفسه ينطوي على خطأ حربي ننزه الرسول منه؛ وهو مهاجمة ألف رجل بثلثهم أو يقلون قليلا، ولكن في يقيني أن هؤلاء الثلاثمائة كانوا بمثابة ثلاثة آلاف، وقد كان لهم من الحمية والاستماتة والرجاء في النصر والخوف من فشل الهزيمة وسوء مغبة الإخفاق ما نفخ في روحهم حتى أيقنوا أنهم فائزون، هذه هي الروح المعنوية في أكمل مظاهرها، وليس الفاقة وليس العري والحفاء أو انطواء الأحشاء على معى ضامرة هي التي بعثت بجيش بدر إلى بدر، ولكن العقيدة والعزيمة والإرادة هي التي وثبت بهؤلاء فثبتوا في الميدان .
ثم إن بدرا مثل كل موقعة حاسمة كانت ملآنة بما اصطلح هذا العصر على تسميته بالمفاجآت، ليس الدارس في حاجة إلى التخصص في فنون التكتيك والاستراتيجي؛ ليتبين ظروف هذه الحرب من بدايتها لنهايتها؛ لأنها كانت من البساطة بحيث لا تخفى أساليبها عن ضابط صغير؛ فقد كانت خطتها رسوما مخططة، وكان موضعها مبهما، ولكن الرجل أو الرجال الذين أرسلهم الرسول أو أحد الصحابة لإرشاده عن عرب قريش قد نجح في تسليم البضاعة نجاحا باهرا، وماذا يهمنا لو عرفنا اسمه؛ فقد كان بطلا من أبطال التاريخ الإسلامي. (2) الموقعة
وقعت بدر في 17-18 رمضان وهو الشهر التاسع عشر من الهجرة أي السابع من السنة الثانية، وهذا التاريخ يعدل 15-16 مارس سنة 624م، فهي معركة الربيع، ربيع الإسلام وبداية انتعاشه بقوة السيف، وقعت صباح الجمعة بعد أن قضى الجيشان ليلة متقابلين، ليلة قضاها المسلمون في نوم عميق فأصبحوا في نشاط وصحو واستعدوا، وقضاها المكيون في سهر وأرق سببهما الخوف، فنهضوا كما ينهض السهران، وأمطرت السماء قليلا فأفاد المطر جيش النبي وأضر بجيش المشركين، وقد يكون قليل من المطر مقدمة الهزيمة كما حدث في موقعة وترلو فتعطلت المدفعية الفرنسية عن الحركة.
كانت موقعة بدر موقعة خاطفة بالمعنى الحديث؛ لأن النبي دعا إليها ولم ينتظر المتكئين والمترددين وقبل أعذار المرضى.
فكانت موقعة حاسمة في تاريخ الإنسانية وفي تاريخ العرب والإسلام.
وكان النصر فيها دليلا على مهارة النبي في القيادة وحذقه فنون الحرب وقدرته على إدارة المواقع وتقديره قوته وقوة الأعداء ومعرفته ما يجب على القائد من الاحتماء والابتعاد عن موضع الخطر؛ ليستمر في إصدار الأوامر، وفي الوقت نفسه قربه من جنده؛ لتشجيعهم وتقوية قلوبهم وشد أزرهم، وقد بدأ الرسول حياته الحربية قائدا ورئيس جيش في الرابعة والخمسين، فأظهر فطنة خارقة وصفات عليا يحسده عليها كبار أركان الحرب في كل جيل وقرن حتى عصرنا هذا، فإنه تمكن بفئة قليلة من قهر فئة أكبر منها ثلاث مرات، وتمكن بفرسين وبضع إبل من التغلب على قوة فيها مائتا جواد ومئات الجمال ، واستطاع بجنود حفاة عراة جياع (فقد وصفهم بذلك وهو يدعو لهم) أن يقهر جيشا ألفيا مكونا من أغنياء قريش وسادتها الطاعمين الشاربين المكتسين المسلحين سلاحا كاملا، ولم يكن في جيش محمد عدد من القواد وكبار الضباط من يعدل في الطغيان والقوة والثبات والمران طغاة قريش، وتمكن محمد وهو في مكان أقل ارتفاعا من مكان أعدائه أن يغلبهم ويشتتهم ويلجئهم إلى الفرار المخزي، ويرجع الفضل الثاني بعد الرسول في ربح هذه الموقعة إلى بيت عبد المطلب وبطليه علي وحمزة؛ وهو البيت الذي حارب في حرب الفجار دفاعا عن قريش جميعها وعقد له النصر، وفي حرب الفجار تمرن على المواقع كما ذكرنا في وصف شبابه.
وثبت من موقعة بدر أن الفئة القليلة المؤمنة الثابتة المستهينة بالحياة المادية طمعا في الجهاد في سبيل الله وما تعتقد حقا تغلب حتما الفئة الكبيرة التي ينقصها الإيمان ويدفعها حب المادية إلى القتال في سبيل المال والشهوات.
وكان محمد في بدر يقود كثرة من الأنصار وقلة من المهاجرين، ولكن الأنصار لم يخرجوا للحرب إلا باختيارهم ورغبتهم؛ لأن عهدهم مع الرسول لا يحتم عليهم الحرب خارج المدينة، ولكنهم خرجوا للهجوم بمحض ميلهم إلى غمار الحرب، فعادوا بمعظم الغنائم تعويضا لهم عما قدموه بسرور وفرح للمهاجرين عندما حلوا ضيوفا ببلدهم، ولم يكن الأنصار حتى هذه الساعة يعلمون شيئا عن كفاية الرسول الحربية؛ فقد خبروه نبيا وهاديا ومبشرا ونذيرا ومصلحا وزعيما، ولم يعرفوه قائدا، فلما رأوا قيادته ازدادوا فرحا واستبشارا، ولم تكن قريش تعرف فيه حنكة القائد؛ بل عرفته أمينا كريما، كلامه أقل من فعله، صبورا على اضطهادهم إياه وأذاهم، وهدفا لسبابهم وقذفهم وإهانتهم واعتدائهم عليه في المسجد، فلما رأوه قائدا هالهم منظره واضطربت صفوفهم، ولما ذاقوا مرارة سلاحه أفاقوا من غشيتهم، ولكن أفاقوا ليفر منهم من لم يمت، أما القتلى فقد وردوا القليب جثثا مكدسة عارية بعد أن نزعت عنها دروعها وخوذاتها.
لا شيء يعدل بدرا في تاريخ المسلمين، ولذا صار شهودها يعدل بألقاب الشرف الكبرى، وندم الذين لم يحضروها وحسبوا أنفسهم من أشقياء الدنيا حظا وطالعا، ومنذ الشهر السابع للهجرة والرسول يبعث البعوث المسلحة لترصد قوافل قريش وتتربص بها، وكانت كلها تفشل وترتد آسفة، حتى السريات التي خرجت تحت قيادته لم يكن نصيبها أكبر من نصيب سواها، ولكن هذه السريات التي وصفت مبالغة بأنها مغاز، أفادت التدريب والمران وتعرف الطرق وقياس الأبعاد وتحمل مشاق التعبئة والسير في الليل والنهار والجوع والظمأ، فهذه حكمة غالية، وكانت الطرق بين الشام ومكة غاصة بالجواسيس والمأجورين لمكة والقبائل المحالفة لها التي تؤمن طرقها في ذهابها وعودتها، فعاهد الرسول كثيرا من تلك القبائل وحالفها ونجح في دعوتها للإسلام، فأمن جانبهم عندما آن أوان المعركة الكبرى؛ فجمع بين فطنة السياسي وقدرة القائد ولم يخطئ في حساب حسبه، فكانت بدر دقة أستاذ أعظم في الحرب والسياسة وبعد النظر. •••
لم يلتفت مؤرخونا القدماء إلى ما في موقعة بدر من الجمال والجلال، أما المحدثون من الكتاب فقد درجوا على أن يبرئوا الإسلام من اللجوء إلى السيف وإهراق الدماء في سبيل نصرة الحق؛ درءا لما خوفهم به بعض كتاب أوروبا الخبثاء من تهمة قيام الإسلام على السيف.
نعم، وعلام كانوا يريدون أن يقوم هذا الدين؟
لقد جرب الله ورسوله طريق السلامة والسلام وآثر الدعوة بالقرآن والكلام على مدى عشر سنوات، وقيل ثلاث عشرة، وقيل خمس عشرة (على طريقة المؤرخين في تقدير الزمن!) فلم تثمر إلا قليلا، والعمر ينقضي، والأيام تتلوها الأسابيع، والأسابيع تتلوها الشهور، والشهور تتلوها الأعوام.
فساق الله الأنصار وصح عزم الرسول على الهجرة.
أفكان يجلس في ظل النخيل والأعناب بين اليهود والمنافقين إلى أن ينتقل إلى رحمة الله فيدفن في البقيع؟!
أهذا الذي كان يريده ويلهاوزين وجريمه ونولديكه وموير ومرجليوث ومن لف لفهم من أغبياء المسلمين الذين يظهرون أمام سادتهم بمظهر الكارهين للحروب؟
لو أن محمدا فعل ذلك أو فكر فيه ما وجد الإسلام ولا قامت له قائمة، ولطوى التاريخ ذكره طيه لتاريخ شيخ قبيلة أو شيخ طريقة أو نكتة من نكات التاريخ، بل لو فعل محمد هذا وفكر فيه وآثر السلامة والسلام لجنى على المهاجرين والأنصار وخيب آمال كل من وثقوا به وبربه.
بل لو فعل محمد هذا وفكر فيه وآثر حياة الدعة أو خشي عاقبة مصادمة المنافقين والمشركين واليهود، ما كانت حضارة الغرب والشرق منذ 1360 سنة، ولست أقول هذا من عندي ولا تدفعني إليه محبتي لمحمد
صلى الله عليه وسلم
وتمجيده، بل قاله قبلي بعشرات السنين أرنست رينان ونيكولسون وجولد زيهر وسنوك هيرجرونجيه وجوستاف ليبون وأوزالد شبنجلر وداير الأمريكي، وعشرات غيرهم أقروا واعترفوا وكتبوا على أنفسهم في كتبهم أن أصول المدنية الأوروبية في حضارة الإسلام، وأنه لولا حضارة مكة والمدينة وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة وغرناطة ما كانت لندن ولا باريس ولا رومة ولا برلين، لست أنا الذي أقول هذا القول (محمد لطفي جمعة المصري في رجب 1360/أغسطس 1941)، ولكن قاله علماء أعلام من الأوروبيين الذين تجمعت لديهم المراجع والمصادر والمكتبات، والذين خضعوا للحق بعد أجيال من نكران من سبقوهم من أجل مللهم وأممهم، ولو أرادوا أن يطمسوا الحق في كتبهم ما استطاعوا؛ لأن الأدلة ظاهرة شاهدة لا يمكن إنكارها أو الإغضاء عنها، وليس هنا مجال التبيين.
إذن كيف لا نفخر بأن محمدا صنع الشيء الواجب في الوقت المناسب، وهو الحرب دفاعا وهجوما، ولم يكن من قبل قائدا ولا جنديا، ولم يحضر من مواقع الجاهلية إلا حرب الفجار في جانب قريش وعلى الخصوص بيت عبد المطلب وبيت عبد شمس وبني أمية؟
إن الإسهاب في هذه النقطة يلقي شعاعا هاديا على مسلك النبي في بدر سواء في اهتمامه بترتيب الجيش وتعبئته أو تقدمه حيال الأعداء وهو يجوس الصفوف، أو ملازمته الدعاء الحار الذي أشفق منه أصحابه، أو سجوده ومناداته ربه ب «يا حي يا قيوم»، أو الإغماءة القصيرة التي لحقته عندما رأى لون الدماء عندما سال من جسوم أعدائه وهو الرقيق اللطيف الرءوف الرحيم:
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .
وهو الذي يقدر الحياة الإنسانية حق قدرها ويضن بدماء قومه أن تهراق لو كان حقنها مستطاعا ويفسر فرحه بالنصر ومخاطبته أهل القليب وتبشير الشهداء بالجنة ووعد المجاهدين بها.
لم يدرك المؤرخون سمو كل حادث من هذه الحوادث؛ لأنهم لم يدرسوها واكتفوا بسردها سردا فاترا ماديا كمن يحصي عدد الدراهم أو يحصي كمية من البر والشعير ولا يفهم أنه حيال حادث من أعظم حوادث التاريخ في كل العصور. •••
لما فات المسلمين كل ما ترقبوه من قوافل قريش على مدى عام كامل، أي من الشهر السابع للهجرة إلى الشهر التاسع عشر، حتى خرج الرسول في بعضها وعاد بغير نجاح، وأخراها غزوة ذي العشيرة، لم يزل مترقبا عودة القافلة الأخيرة من الشام، وهي التي فاتته في ذهابها إلى الشام بأيام، فدعا المسلمين إلى الخروج للتربص بهذه العير فأجاب قوم من المهاجرين والأنصار، وتثاقل أكثرهم؛ ظنا منهم أن النبي لن يلقى حربا في هذه المرة وأن العير ستفوته كما فاتته في الماضي؛ فقد تكرر هذا الفوات عليهم حتى قنطوا من وقوع العير، وهي الجمال المحملة بأموال قريش وبضائعها، في أيديهم، وسبب هذا القنوط إحكام القرشيين نظام تأمين الطريق بقوافلهم بين مكة والشام ذهابا وإيابا، وقد استجد لهم الخطر بوجود النبي ورجاله في المدينة وهي على طريقهم إلى الشام ذهابا وإيابا، فأتقنوا نظم التجسس والتضليل بالاتفاق مع القبائل المقيمة في الطريق بين مكة والمدينة، ودفعوا لهم أموالا وحالفوهم وعاهدوهم وكانوا كلهم مشركين على دين قريش، وهؤلاء العرب يعيشون منذ فجر التاريخ على الغزو والسلب إلا إذا أمنوا وقبضوا المال أجرا على الحماية، فإنهم يفون بوعودهم، وفي هذه الحالة كانوا يخدعون رواد النبي حتى تمرق العير في كل مرة وداموا على هذه الحال عاما كاملا، فكان النبي في الغزوات التي خرج إليها ولم يعد منها بطائل يتصل ببعض هذه القبائل ويحالفها ويدعوها للإسلام ويعدها بالغنائم، فبعد أن كانت قريش مستقلة مستأثرة باستخدام تلك القبائل ظهر المسلمون وطلبوا إلى بعضها أن تكف عن خداعهم وأن تستغني عن الأجور التي يدفعها لهم أهل مكة، وأفاد الرسول أيضا تعرف الطرق والمراسلات وطبيعة الأرض؛ لأنه لم يخرج من مكة إلا مهاجرا، ولم يدرس تلك الجهات دراسة القائد، فكان العام الذي مضى، إنما انقضى في الدرس والتجربة والاستكشاف.
كانت خزاعة في مكة تراسل النبي وتعينه بنقل أخبار قريش، وكان جواسيس قريش يخدعون جواسيس المدينة، ولكنهم أخفقوا في خداع بسيسة الذي نقل إلى المدينة خبرا صادقا عن عودة العير (المسند، ج4، ص325)، وكان على النبي أن يركن إلى معونة خزاعة وهم مقيمون في مكة وعلى بني ضمرة الذين عاهدوه على الأمن إذا وقعت معركة في أرضهم بينه وبين قريش، وأن يقبل محالفة جهينة التي أقبلت عليه في المدينة وسلمت له قيادها وأعانته على بني كنانة وهم من حر أنصار قريش وليس بينهم وبين جهينة قلوب عامرة بالمحبة، وقد أظهر الرسول في هذه المعاهدات حنكة السياسي القدير ومهارة القائد الناصح؛ فلما حل الوقت نادى الرسول: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها! فمن كان ما يركبه حاضرا فليركب معنا. ولم ينتظر الرسول من كانت مطيته غائبة أو بعيدة عنه، فكانت بدر حربا خاطفة، ولكن الدعوة كانت عامة وقد بلغت جميع الأسماع حتى عجائز النساء في زوايا بيوتهن، حتى أم ورقة بن نوفل
1
وهي شيخة فانية، التي مات ولدها ورقة بعد البعثة بقليل، استأذنته في الخروج لتمريض المرضى ولعلها تموت في الجهاد فتذهب شهيدة، فقال لها الرسول - قري في بيتك؛ فإن الله يرزقك الشهادة، وكانت قرأت القرآن ويزورها رسول الله؛ لأنها عمة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين الأولى، وإذا كانت الدعوة إلى الحرب قد وصلت إلى مسامع هذه السيدة فلا بد أن تكون قد وصلت إلى كل رجل قادر على الحرب في المدينة من المهاجرين والأنصار. ولكن يدهشنا قلة عدد المجاهدين الذين خرجوا مع الرسول وأن الأنصار فيها أكثر من المهاجرين، فالذين تخلفوا لم يتوقعوا حربا ولم يخطر ببالهم أنهم سيعضون بنان الندم على ما فاتهم من المجد والعظمة، وأن ميدان بدر سيكون أكبر ميادين الشرف في تاريخ الإسلام، ولم يصرح لهم الرسول بأكثر من الدعوة ولم يلحف في طلب الجند ولم يشرع خدمة عسكرية إجبارية ولم يحدد عددا، بل ترك الخيار لمن أراد الخروج؛ فتثاقل من تثاقل وتمارض من تمارض وارتاب من ارتاب ولم يتبعه إلا خلاصة الخلاصات، وليس معنى هذا أننا ننقص من قدر المتخلفين بأعذار شرعية؛ كعثمان بن عفان؛ فقد كان يمرض زوجته رقية بنت الرسول في مرض موتها فلا لوم عليه ، ولا آخرين كانوا مرضى حقا؛ وبعضهم من كبار الصحابة.
كانت هذه العير المحملة بالخيرات والبضائع والأموال تحت قيادة عدونا القديم أبي سفيان، فكان يتجسس أخبار الرسول عندما ترك أرض الشام ودنا من أرض الحجاز، فأخبره أحد جواسيسه بجلية الخبر، وهي أن الرسول كان قد عرض لهذه العير بالذات في طريقها ذهابا من مكة إلى الشام (غزوة ذي العشيرة) وأن الجاسوس ترك الرسول ورجاله مقيمين ينتظرون رجوعها من الشام إلى مكة، وأنهم متربصون يترصدونها، وكان هذا الجاسوس موضع ثقة عند أبي سفيان، وقد رأينا بين العرب في العصر الحديث من يشبه هذا الجاسوس في القوة والفطنة وصدق الخدمة لسادته، لم يذكر التاريخ اسمه وإن ذكر اسم بسيسة الذي صدق النبي في خبر السير، كما ذكر التاريخ اسم المنذر بالبلاء لأهل مكة يستنفرهم على لسان أبي سفيان، وهو رجل مأجور اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري، وأن نسبته إلى قبيلة أبي ذر التي كانت موالية للمسلمين لم تمنعه الانتفاع بحرفته التي حذقها! ما هي؟! دفع له أبو سفيان عشرين مثقالا فضة، وكان الرجل مشركا، فجدع أنف بعيره وحول رحله وشق قميصه من قبله ومن دبره، ودخل مكة يولول ويصرخ ليستنفر قريشا ويخبرها أن محمدا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه! ليتخيل القارئ هذا المنظر في مدينة كمكة وليسأل نفسه من أين جاءت هذه الفكرة؟ طبعا لم تكن المرة الأولى التي فعل ضمضم فيها بنفسه وبجمله هذه الأفاعيل، ولو كانت الأولى في حياته فلم يكن الأول الذي اخترعها وابتدعها؛ فهي عادة قديمة بالغة كل القوة في إثارة العواطف وإزعاج الخواطر. إن رجلا يركب جمله ووجهه إلى ذيل الجمل وأنف جمله مجدوع يقطر دما قبل أن يندمل ويكاد يكون عاري البدن وهو لا شك حاسر الرأس حافي القدمين، يدخل على بلد آمن غني ينتظر خمسماية وألفي بعير محملة أموال المكيين، لأقوى أثرا في النفوس من النواقيس التي تدق في الثغور منبئة بغرق السفن! ولم يدخل هذا النذير المشئوم على بلده صامتا بل مولولا ومعولا وصارخا ومنذرا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولعله ينظم شعرا وينشده كالنادبات أو يقرع طبلا مبالغة في التبليغ، ويلتف حوله الناس يسألونه فيعرفون أنه رسول أبي سفيان، ولعله أيضا صبغ وجهه الأغبر بالسواد أو حثا التراب على رأسه أو على استه كما كانوا يفعلون؛ إظهارا للحزن، واستثارة للشجون، فلم تكن عشرون مثقالا لهذا المسخ بالقليل، ولو اطلع هو وأهل مكة وأبو سفيان بالهلاك الذي سيعقب ندبه وعويله لرأوا الأجر قليلا جانب هذا التنبيه - هل كانت عادة عربية جاهلية أم يهودية أم يونانية؟! إنها لا شك عادة منقولة عن الأمم القديمة أبرزها خيال شاعر ناجع؛ فهو منظر من تراجيديا اليونان، أو من خيال كاهن جمع مظاهر الهلع والفزع فأوعاها ولم يقصر في تفصيلها وإجمالها.
لك الويل يا ضمضم بن عمرو الغفاري! فقد جلبت الويل على مكة ولم تقصر في أداء عملك الذي نقدوك عليه عشرين مثقالا! كيف تصنع غدا عند نعي أهل القليب؟! أم أنك ستخرج من مسرح الفاجعة المكية إلى الأبد؟ أليس هذا منظرا تمثيليا لا ينقصه شيء؟! ألم يكن ضمضم بن عمرو الغفاري أمهر ممثل محزن في الحجاز؟ لقد أرانا كيف يصنع الرجل بنفسه وببعيره مسرحا متنقلا، جمل يجدع أنفه فيبدو مشوها مكلوما ثم يسير بصاحبه فلا يقلبه ولا ينتقم منه، ورحل يقلب فلا يسقط راكبه وهو ناظر إلى خلفه، كأنه لا يقوى على مواجهة المنكوبين مقدما، فهو معرض عنهم أسفا وحزنا، وإنسان يشق ثوبه فيبدو عاريا فماذا بعد قد القميص من قبل ومن دبر؟ ثم هو يصيح ويحثو التراب على رأسه! يا له من منظر مروع، وموكب مفرد فاجع! كل هذا بعشرين مثقالا ... ما أقل الثمن! لم يدفع جمهور مكة أجرا أشد هزالا منه في التمتع بمثله!
أيها الصحفيون اطووا صحفكم، وأيها المذيعون سدوا أفواه مذياعكم وكمموها تكميما، ويا أسلاك البرق والمسرة كفي عن ذبذبتك فإنك - مجتمعة ومتفرقة - لن تصلي إلى بعض ما وصل إليه ضمضم بن عمرو الغفاري من جمع مظاهر الهول في «ركبة» واحدة! إنك لن تتجاوزي الألفاظ أو الكتابة، ولكنه فاجعة حية تسعى على أربعة أخفاف!
كيف دخل ضمضم إلى مكة؟ أمن المعلاة أم من المسفلة، أمن الحجون أم من الجعرانة؟ من أي باب دخل؟
إن مثل ضمضم لا يسأل عنه كيف دخل، ولكن يذكر أثر دخوله، لقد والله خرج أبو جهل يعدو من المسجد؛ إذ سمع صوتا صارخا، وكان أبو جهل - عمرو بن هشام - من أذكى قريش وأشجعهم وأجلدهم وأوسعهم حيلة، وكان رئيس الجماعة في محاربة الرسول، وكان الرسول يدعو الله أن ينصر الإسلام بأحد العمرين؛ أي ابن الخطاب، أو أبي جهل، فأدركه الله بالأول العادل العامل الشهم، وأخطأ سهم الحظ أبا جهل، وإن بغضنا إياه وعلمنا أنه كان يصفر استه؛ أي يدهنه بدهان أصفر لعلة معلومة أو مجهولة، لا يجعلنا ننتقص من قدر شجاعته وتدبيره وذكر محاسن عقله؛ فقد كان هذا البطل الوثني مرهف الحس دقيق السمع، فرآه الجالسون في المسجد الحرام يوما جاريا إلى الباب كأنه يفر من عدو فأدركه العباس بن عبد المطلب عم الرسول فإذا هو يسمع ما لم يسمع العباس، يسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي (طبعا على مقربة من فناء المسجد) واقفا على بعيره (وهذه حركة أكروباتية زادها على التمثيل وهي تقتضي مهارة خاصة وصبرا كريما من الجمل المجدوع الأنف)، قد جدع أنفه وأذنيه (يا لك من جمل أصم غير أشم! تخدم صاحبك بسمعك وشمك في سبيل عشرين مثقالا) وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، إن أصابها محمد لم تفلحوا أبدا! الغوث الغوث !
يا لها من رسالة قصيرة بالغة حد البلاغة والإيجاز، ثم تقول لي: كانت قريش معشرا جهلاء! أقادرة هي على هذا الوضع المسرحي وتعد جاهلة؟! نعم، إنها تعبد الأوثان وتضطهد محمدا وعمر وعليا، وتقتل المسلمين الصابئين، وتعذبهم وتحرمهم من ديارهم وتنهب منازلهم وأموالهم وتلجئهم إلى الهجرة مرتين أو عشر مرات، وتتآمر على قتل رجلهم الأوحد، ولك أن تعد هذه وتلك وهذا وذاك كما تشاء ، ولكنهم ليسوا جهلاء في فنون العجز والكهانة ونعي التجارة قبل ضياعها، هل كان أبو سفيان هو الآخر باعث هذا الناعي الناعب من المصفرين أسوتهم كأبي جهل؟ هل كانت أرستقراطية مكة من المصفرين مثل كل أرستقراطية في العالم؟! ألا إن مثل هذا الفعل الشامل للأذى بالحيوان والخالع لكرامة الإنسان لا يأتيه إلا أصحاب هذا الداء، والذين وإن عرفوا صفرة العجيزة لا يعرفون حمرة الوجه خجلا، نحن لا نتقول على أبي جهل كراهية أو بغضا؛ فقد قتل في بدر وهو ينافح عن أصنامه، ولا نحقد على مشرك دفع ثمن شركه بدمه، ولكن ننقل قول العباس عم النبي في مجلس حافل بالمسجد؛ قال جوابا على اتهام أبي جهل بيت عبد المطلب بالكذب رجالا ونساء ونعتهم بأنهم أكذب بيت في العرب.
قال العباس: هل أنت منته يا مصفر استه؟ فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. فغضب أذناب أبي جهل وهم ممن نعرف من أمثال أبي لهب والوليد: ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا! وهكذا أعداء الحق والمنافقون لا يقولون الحق أبدا ولا ينصفون الشريف المدافع عن شرفه، وسوف يرون عما قريب من الجهول الخرق، أمهل الظالمين أمهلهم رويدا.
عندما سمع المكيون رسالة ضمضم هاجوا وماجوا وحل بهم الهرج والمرج وغضبوا وهددوا وتوعدوا، وإني لأتخيلهم يرفعون عقيرتهم كأي شعب منحل مضمحل متدهور قبيل هزيمتهم بأيام معدودة: «إلى الأمام! النصر أو الموت! هيا!» ولكنها تخرج من قلوب خربة وأدمغة مخمورة على أطراف ألسنة مذبذبة؛ فقد كان الفزع أعظم مظاهرهم والخوف من الغد أقوى ما تملكهم، ولكنهم لا يملكون أن يترددوا أو يتقهقروا بعد رسالة ضمضم! وقال قائل منهم: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير الحضرمي؟ والله ليعلمن غير ذلك! يشيرون بذلك إلى سرية عبد الله بن جحش الأسدي إلى بطن نخلة السابقة على بدر بشهرين، بعثها الرسول في اثني عشر رجلا، إلى بستان ابن عامر الذي قرب مكة، فخرج واقد بن عبد الله التميمي يقاوم المسلمين فرمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وقيل إن الرسول بعث عمر بن الخطاب ليدفع دية عمرو بن الحضرمي لأخيه عامر فأوعز أبو جهل لعامر أن يرفض دية أخيه، واستبقى أبو جهل هذا الثأر ليستغله بعد ذلك في التحريض على القتال، فكان ما كان في بدر. - أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير الحضرمي؟ والله ليعلمن غير ذلك! وتجهز أهل مكة سراعا فخرج من قدر، وبعث من لم يقدر مكانه رجلا من المرتزقة التي تبيع دماءها؛ حاجة إلى المال، وطمعا في الغنيمة، وأعان قويهم ضعيفهم، وقام أشراف قريش (دائما هم الذين يصفرون أسوتهم)، يحضون الناس على الخروج؛ فقال سهيل بن عامر: يا آل غالب، أتاركون أنتم محمدا والصبأة من أهل يثرب يأخذون أموالكم؟! من أراد مالا فهذا مالي ومن أراد قوتا فهذا قوتي. ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب؛ خوفا من رؤيا عاتكة أخت العباس وعمة النبي؛ فقد كانت كأبيها عبد المطلب وابن أخيها محمد صادقة الرؤيا، وقد رأت قدوم ضمضم قبل وقوعه وهزيمة قريش قبل حصولها، ونحن نصدق هذا؛ لأن العلم الحديث أثبته وأقره في كتب كثيرة؛ أهمها: ما كتبه موريس مترلنك في «المضيف المجهول» وغيره كثير من علماء الأفرنج، دع عنك أن المواهب الروحية التي تخول للبعض موهبة الرؤيا الصادقة قد تكون في بضعة أفراد من أسرة واحدة، ولا يوجد بين قرائنا من لم ير بنفسه أو يسمع عن ثقة غيره حديث رؤيا صدقت كفلق الصبح، أو «كأخذ بيد» كما عبر أبو لهب عن رؤية عاتكة، ولكن أبا لهب وإن ضن بدمه الثقيل فلم يضن بماله الحرام.
فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم كانت لأبي لهب دينا عليه أفلس بها! فكانت رأس المبعوث من أبي لهب بالمال الحرام من نصيب عمر بن الخطاب اجتزها في موقعة بدر، فراحت دراهم أبي لهب من حيث أتت، ولم يخل الأمر من فكاهات لاذعة وتهكم مرير ونكات لا يتقنها إلا أهل مكة؛ فقد كان أمية بن خلف شيخا جسيما ثقيلا فأراد التخلف (أليس ابن خلف؟) فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس مع قومه بمجمرة فيها بخور حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا علي استجمر؛ فإنما أنت من النساء! ولم تكن هذه الفعلة إلا دسيسة من أبي جهل؛ ليسخر بها من أمية، فقال أمية لعقبة بن أبي معيط وكان من سفهاء قريشك: «قبحك الله وقبح ما جئت به!» فأدركه أبو جهل بعد هذا الكي بالنار وقال له: يا أبا صفوان، متى رآك الناس تخلفت، وأنت سيد أهل الوادي، تخلفوا معك، فسر يوما أو يومين، فنهض الشيخ مضطرا وتجهز يجرر أكداس لحمه وشحمه المترهلة.
ولم يكن نكوص أمية بن خلف (أبي صفوان وأبي علي!) سببه ثقل وزنه وترهل لحمه وشحمه، بل كان فيه أثر من الخرف والطيرة، وإن حديثه ليلقي شعاعا على علاقة الأنصار بقريش؛ فقد كان أهل مكة لا يكثرون من مخالطة الأوس والخزرج إلا في الحج، فلما استنصروهم على اليهود ردوهم وقالوا: هؤلاء تجار أغنياء، ونحن تجار أغنياء؛ فلا ننصر الأوس والخزرج عليهم. فلما حصلت المبايعة الثالثة والأخيرة أدرك المكيون سعد بن عبادة وهو يلحق بأهل بلده ودينه الجديد، فجعلوا يده إلى عنقه بسير مضفور وجعلوا يضربونه ويجرون شعره وكان ذا جمة يتساقط شعره على كتفيه، فتمكنوا منه حتى أدخلوه مكة، فخلصه منهم رجلان من أهل مكة فنجا بنفسه ولحق بأصحابه، وهم السبعون الذين بايعوا النبي البيعة الأخيرة.
ولعل هذا أول اعتداء وقع من أهل مكة على أحد الأنصار في موسم الحج ولعلهم كانوا قاتليه أو على الأقل معتقليه إلى حين.
أما أمية بن خلف فكان صديقا لسعد بن معاذ يتزاوران ويضيف أحدهما الآخر في مكة والمدينة، وسعد من الأنصار، فلقيه أبو جهل في صحبة أمية بن خلف يطوف بالكعبة فقال له: أتطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه وزعمتم أنكم تناصرونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما. فقال سعد وهو يرفع صوته لأبي جهل: أما والله لئن منعتني الطواف لأمنعنك ما هو أشد عليك منه؛ وهو طريقك على المدينة.
فنافق أبو صفوان لأبي جهل على سعد بن معاذ، فأنذره سعد بالقتل وتوعده، وكان أمية بن خلف جبانا فعلا، فلما آن أوان الحرب تحايل حتى يفلت منها فلم يمكنه أبو جهل، ولم يكن أمية بن خلف وحيدا في الرغبة عن القتل بل كان غيره، عتبة وشيبة أبناء ربيعة وزمعة بن الأسود (صهر الرسول، وهو مشرك) وحكيم بن حزام (ابن أخي خديجة وكانت تقيم في بيته بمكة) وغيرهم من أغنياء مكة، خافوا على أعمارهم وعرفوا قوة محمد وشدة بأسه وصدق عزيمته فتكهنوا بسوء العاقبة، ولكن أبا جهل وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث كانوا سياط الحرب المعاند، فلم يكفوا عن هؤلاء الناس حتى حملوهم على الحرب ولم يحملوهم إلا على الموت السريع.
قيل إن التعبئة لم تأخذ سوى يومين أو ثلاثة وإن الجيش المكي بلغ ألف محارب، وقادوا مائة فرس عليها مائة درع سوى دروع المشاة، وخرجوا على الصعب والذلول؛ لشدة حاجتهم إلى المطايا؛ فلم يتخيروا؛ لشدة إسراعهم، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ومن أراد أن يتخيل ما يشبه هذه التعبئة فليتصور الأيام السابقة للحج، فإن أهل مكة يملئون الأزقة والحارات والطرق بالجمال والعتاد فتسمع ضجيجها وترى استعدادهم فكأنك ترى التعبئة لبدر التي حدثت قبل ذلك بألف وثلاثمائة سنة، وقد أضافوا إلى السلاح والذخيرة والمئونة سلاحا أحد من السهام، وهو هؤلاء القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين وتحريض سادتهم وعشاقهم على القتال، فإنك لا تتخيل أن «زعيط» ومعيط وزمعة وحزام يخرجون إلى القتال دون أن يأخذوا نسوة للخلوات، فسوف تذبح الجزور وتملأ الجفان وتهراق قناني الخمر المجلوبة من الطائف وتنصب الخيام وتطهى الأطعمة، فلا بد من المرأة الخليعة، والقينة الرقيعة، والغانية المنشدة، والرفيقة المرشدة، يخلو إليها فحول قريش؛ ليحيوا ليالي ساهرة قبيل القتال وأثناءه! أما بعده فالنصر الموهوم والفوز المزعوم والإقامة أياما في الميدان، فيا له من احتفال تختلط فيه الحبال بالنبال! أهذه حرب دفاع، أم أورجيا على هيكل هبل، أم ليلة حمراء في معبد الخيف
2
بمنى؛ حيث تشعل الأضواء وتضرب الأنغام وتشرب الخمور وتنحر القربان وتباح كاهنات الهيكل باسم الآلهة الظمأى للدماء؟!
أعدت قريش العدة ولكن أبا جهل تذكر في اللحظة الأخيرة أن بينهم وبين كنانة ثأرا فخافوا أن تطعنهم في ظهورهم. •••
ولنترك الآن أهل مكة وجيشهم يسيرون خفافا وثقالا في طريقهم إلى بدر الكبرى! إلى بدر القتال! إلى بدر الحاسمة!
ولنعد إلى الرسول في معسكره خارجا من المدينة في ثلاثمائة رجل من الأنصار والمهاجرين وازدادوا تسعا، وكانوا كلهم يشقون خطواتهم الأولى في الحرب، فلم يغز بأحدهم من قبل، وكان أهل مكة محاربين قدماء، في ذي العشيرة، وهي لبني مدلج بناحية ينبع، وبينها وبين المدينة تسعة برد (جمع بريد، وهو مسيرة ثلاث أو أربع ساعات).
انتقى الرسول رجلين من خيرة رجاله فأرسلهما في 2 رمضان يتحسسان خبر العير العائد بقيادة أبي سفيان من الشام إلى مكة وقوامه 2500 بعير، وهما طلحة بن عبيد الله التيمي وسعيد بن زيد بن نفيل، فلما بلغا أرض الحوراء نزلا بحسن نية على كشد الجهني فأجارهما وأنزلهما، وكان من جواسيس قريش ومأجوريها، فكتم على الرجلين أمر العير وخطتها حتى مرت، فلما وثق من مرورها وانفلاتها وفواتها خرج مع مبعوثي الرسول خفيرا حتى أوردهما ذا المروة شمال المدينة بشرق وأقصى ما يكون عن طريق العير، وكانت العير قد سلكت ساحل البحر الأحمر وأسرعت مجدة في طريقها إلى رابغ فطريق مكة، تصل الليل بالنهار؛ خوفا وفرقا من طلب الجيش المحمدي، فعاد طلحة وسعيد خائبين إلى المدينة ليخبرا الرسول خبر العير الذي شرباه ساخنا من يد كشد الجهني بعد أن قضيا عشرة أيام في عملهما ، فوجداه قد خرج بجنوده يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان (الشهر 19 من الهجرة)، وتحديد هذا اليوم قاطع بأن بدرا وقعت صباح الجمعة 18 رمضان لا صباح الإثنين كما ظن كثير، وهكذا يكون النبي شرع في أول رمضان في الاستعداد بفكره، فبعث الرائدين في 2 رمضان فقضيا عشرة أيام في رحلتهما ذهابا وإيابا، وخرج هو في 12 رمضان وقطع خمسة أيام في الطريق إلى بدر فوقعت يوم الجمعة 18 رمضان.
ضرب الرسول عسكره ببئر أبي عتبة على ميل من المدينة، فعرض جيشه ورد من استصغر من الشباب المتحمس الذي يجازف في الحرب؛ طمعا في المجد قبل الغنيمة ويتعجل النضج؛ حبا بأن يعد في صفوف الرجال، ولما كان الرسول قد خرج متعجلا، فلم يستطع أن يقوم بكل ما يجب على الخارج لحرب، والمؤكد أنه خرج في طلب العير، والعير غير محروسة بأحراس مسلحين، ويكفي في مهاجمتهم هذا العدد الذي اتخذه، فالفرق كبير بين المسلمين وبين قريش؛ فقد خرجت جيشا مسلحا مستعدا للدفاع عن العير والهجوم على المسلمين، غير أن النبي منذ تسعة عشر شهرا قد اعتبر نفسه صاحب المدينة، فأخذ ما ظنه كافيا من الحيطة؛ فجعل أبا لبابة واليا على المدينة (صاحب الذنب المشهور والمغفرة المنزلة بعد التوبة)، وكان قد صحبه في الجيش إلى بئر أبي عتبة، وكلف ابن أم مكتوم على الصلاة في المدينة (وهو الأعمى الذي نزلت في حقه سورة عبس وتولى)، وترك الرسول عاصم بن عدي على قباء والعالية (قريتين من ضواحي المدينة)، ولم يدرك مبعوثاه من قلم المخابرات المحمدية طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد الموقعة، ولقياه منصرفا عن بدر بعد النصر، فلم يكن النجاح من نصيبهما في الذهاب ولا في الإياب، وجعل اللواء لمصعب بن عمير مفقه الأنصار الأول، وجعل لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، ولبس الرسول درعه ذات الفضول وتقلد سيفه «العضب»، وكان علي بن أبي طالب في نصف العقد الثالث، وإن لم يحمل لواء؛ فقد كان منظورا إليه بعين الإجلال والمهابة، وكان الحباب بن المنذر صاحب الرأي في الاحتفاظ بالآبار بين المدينة وبدر؛ لتنفع في التقهقر إن دارت الدائرة على المسلمين لا سمح الله.
وكان جريئا وعاقلا وسأل الرسول في صراحة عن قصده وهل يعمل بالوحي أم بتدبير الحرب، فلما قال بتدبير الحرب، أشار برأيه، ففرح به الرسول وأخذ به، ويغيظ أمر مرغليوث نجاح الحباب؛ فلا يجد مطعنا إلا أن الحباب من أسماء الشيطان، فلم يغيره الرسول كعادته في استبدال الأسماء الجميلة بالأسماء الرديئة، وهو في مجال آخر ينتقد عادة تغيير الأسماء ويراها بدعة، ولو أشعلنا أصابعنا لنضيء لمرغليوث المغرض أو عملنا له البحر المحيط «طحينة» وجعلنا له سقف قصره من لازورد وزبرجد فلا نرضيه أبدا!
نظر الرسول إلى جيشه وهو لم ير بعد جيوش الأعداء، فكان منظرهم محزنا حقا ومؤذنا بالخوف والوجل إلا لقلب الرسول المطمئن بالبشرى؛ فهذه سبعون بعيرا تحمل ثلاثماية رجل بالتعاون والتناوب، وفرقة خيالة قوامها فرسان، فلما رآهم تدفق قلبه بالدعاء: اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم. أليسوا روادا هؤلاء العراة الحفاة الجياع في كل ثورة عالمية، ألم يكن رجال ثورة فرنسا يطلق عليهم «من لا سراويلات لهم»
Les sans culottes ، عجبا وكيف لا يكونون كذلك وفيهم المنفي من وطنه والمسروق المحروم على أيدي المنافقين والمشركين واليهود.
لم يكن النبي ليقبل معينا من المشركين؛ خوفا من تأثير روحه السيئ ونجاسته ورجسه، ويعلم أن رجلا واحدا قد يفسد المئات بزخمته، فلما عرض حبيب بن يساف الخزرجي نفسه لنجدة الأنصار وطمعا في الغنيمة فرح المسلمون به؛ لشهرته وبطولته وقوة بأسه، وكان رجلا قويا كغزاة الحروب الصليبية وهؤلاء الفرسان المغامرين، فوقف لهم الرسول وقال: «لا يصحبنا إلا من كان على ديننا، ولا نستعين بمشركين على مشركين.» وهذا هو المنطق والإيمان واستقامة الخطط، وإلا فمتى تكون؟
وقد شعر حبيب بن يساف بقوة الرسول وقوة حجته فخضع لهما وأسلم وقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء حسنا.
كان النبي مفطرا، وبعض المسلمين يحتم الصوم؛ أي إنهم مشترعون أكثر من صاحب الشريعة التي أباحت الإفطار في السفر وفي الحرب واختصرت الصلاة، فقال لهؤلاء «الحنابلة» قبل أن يتفقه ابن حنبل: «يا معشر العصاة! أفطروا؛ ها أنا مفطر.» ولما كان كل ثلاثة يركبون بعيرا فإذا جاء دوره
صلى الله عليه وسلم
أرادوا أن يؤثروه على أنفسهم وهو في الرابعة والخمسين من عمره وقائدهم ونبيهم وسيدهم المطاع ومصدر الخير لهم، فيقول لهم: «ما أنتما بأقوى مني على المشي ، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما!»
هل كانوا 309 أو 313 عدة أصحاب طالوت الذين جاوزا معه النهر؟ وماذا يهم إذا كان بين عددهم والتاريخ القديم علاقة؟ إنها محض مصادفة، وإن طالوت هذا الذين هو جدعون، شاول أحد قضاة بني إسرائيل قد انتصر على أهل مدين في موقعة شهيرة واستقر السلام بسبب انتصاره أربعين عاما؛
3
لأن الرسول لم ينتق ولم يختر، ولكنه دعا وقام آخذا من أقدم وتاركا من أحجم أو تخلف، ولم تؤخذ الإبل إلا لنقل المجاهدين فكانوا مشاة، ولم يكن معهم إلا فرسان؛ واحدة للمقداد بن الأسود والأخرى للزبير، وقد ظهر لي أن الرسول لم يعتمد على الخيالة في حروبه كلها، وكل اعتماده على المشاة، فهكذا في أحد، وفي الخندق، وإن المشاة عماد الجيوش في كل الحروب قديما وحديثا، وكانت عمدة أهل مكة على الخيل؛ لأن خالد بن الوليد كان قائدا مهما للسواري، فخدم سلاحه الراكب خدما جلى، وإن المشاة لأقدر على الالتحام وضرب السيف، وهو السلاح الأبيض، ومنهم الرماة بالسهام، أما الخيالة فلا يفلحون غالبا إلا في الطعن بالرماح.
قلنا: لقد عرفت طريق الرسول من المدينة إلى بدر معرفة جيدة وجاشها سياح أوروبيون حققوها وأثبتوها، فمن بئر أبي عتبة إلى صفراء، ومن صفراء إلى وادي ذفران، وفي وادي ذفران حدثت أمور ذات خطورة كبرى؛ فقد جاء النبأ إلى الرسول بأن جيش مكة مسرع إلى لقاء المسلمين؛ ليذود عن تجارته، ولا بد إن كان هؤلاء «الجدعان» مجدين في سيرهم حقا؛ فقد قطعوا ثلاثة أخماس الطريق من مكة إلى المدينة في زمن وجيز وطووا في أربعة أو خمسة أيام ما يطويه المسافر في عشرة، ولا تنس ما كانوا ينوءون به من أحمال وعتاد، ولا نعجب؛ لأنهم أهل أسفار وحل وارتحال وحزم بضاعة وحمل أثقال، فالمكي أخف راحل على ظهر الجزيرة، وجواب آفاق لا يجارى إذا خرج من وطنه، وتراهم قديما وحديثا يصلون إلى أقصى الأرض غربا وشرقا وشمالا وجنوبا كالمستنفضين من جنس السكسون، وما الحث في القرآن على الضرب في مناكب الأرض والسير في طرقها وطي البيد وخوض البحار وركوب الأخطار في سبيل الرزق أو في سبيل المجد، إلا صورة من حياة هؤلاء المكيين وحبهم التنقل وقدرتهم على الاندماج في كل بيئة وقدرتهم على تحمل الأجواء، لقد نقل المخبر إلى الرسول أن جيش مكة مسرع؛ ليدافعوا عن عيرهم، فجمع الرسول مجلس حربه ووزرائه وطرح عليهم مسألة الساعة قائلا ما خلاصته ومعناه: إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فما تقولون؟ آلعير أحب إليكم من النفير؟ أتستولون على القافلة بتجارتها أم تلقون الجيش لتحاربوه معرضين عن المال؟
فقالت طائفة منهم: العير أحب إلينا من لقاء العدو، وعززت قولها وحجتها بأن الرسول لم يذكر لهم القتال حتى يتأهبوا له، فيا رسول الله عليك بالعير ودع العدو.
وإن سورة «الأنفال» لتلقي على هذه الحوادث نورا رائعا.
انظر! إن المهاجرين والأنصار لا يريدون الحرب؛ بل يريدون الغنيمة، ولا بد أن عدد المشركين الذين سمعوا به - وهو ألف - وعدد الخيل قد راعهم وأرعبهم، فظنوا الغنيمة خيرا من الحرب وأسلم عاقبة، وإن تكن سلبا ونهبا فهي خير من القتال المصحوب بالمخاطرة، وحاولوا الاحتجاج؛ لأنهم خرجوا على العير لا على الحرب، وإنها حجة وجيهة؛ فإن الخارج للسلب وغزو العير على طريقة الجاهلية لا يحمل من السلاح والميرة والذخيرة إلا ما يحتاج إليه قاطع الطريق، أما المجاهد في الحرب فشيء آخر، دع عنك اختلاف الروح والخطة.
ورأى الرسول ووزراؤه الاختلاف في وجهة النظر، فغضب؛ لتعلق بعض المجاهدين بأطماع هذه الدنيا، فنزلت آية:
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون .
انظر إلى قوله تعالى:
بالحق
هذه ما أقواها وأعظمها! وانظر إلى تلطف الله بهم فوصفهم بالإيمان، وما أعظم هذه الصفة في هذا المقام؛ لأنه قال قبل ذلك بآيتين في تعريف المؤمن:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون .
هل نسي الفريق من المؤمنين الكارهين للقتال أن الله وعدهم إحدى الطائفتين؛ أي العير، والنفير ، ولم يفضل إحداهما، ألا تعرفون كيف تختارون؟ ألا تميزون؟
وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون .
أيكون بعد ذلك شك وتردد وجدال؟
لما وصل الحوار إلى هذا الحد نهض أبو بكر وهو لها ورجلها وسداد الثغرات ومنقذ دعاة الهزيمة والتردد من العثرات، وخطب فيهم عمر فقال وأحسن.
وما يزال رسول الله صامتا منتظرا يريد أن يكون التصميم من ناحيتهم لا من ناحيته. إن الله يريد إحقاق الحق، وما خروج محمد من بيته في سبيل السلب والنهب، وليس بزعيم عصابة، ولكنه نبي مرسل، ويريد الله إبطال الباطل وقطع دابر الكافرين، وهذان لا يكونان إلا بالنصر في الموقعة التي ساقها الله لهم.
ونهض المقداد ليقول الكلمة التي تحرك الجماهير وترغم المترددين على الطاعة وترد أطماع طلاب الغنائم الباردة: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون! ولكن نقول (اسمع كلام المقداد وتخيل شخصيته الثائرة الحكيمة)؛ إنما نقول: اذهب وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، ما دامت منا عين تطرف، فوالله الذي بعثك بالحق؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد بأقصى الحبشة لجالدنا معك من دونك حتى نبلغه.
فضحك رسول الله وأشرق وجهه وفرح بالمقداد ودعا له وقال خيرا، وقضت كلمة المقداد وحضور بديهته وشجاعته على البقية الباقية من التردد، وإنك تقرأ هذا وتكاد تسمع كلاما في مجلس حرب حديث، أو في مجلس وزراء أمة رشيدة، أو برلمان قوم درجوا على النخوة والمروءة والشرف، يحمل أحد خطبائهم حملة كريمة فيخجل المعارضين ويمحو آية الضعف بآية القوة، ولا يأنف أن يفرغ رأيه في قالب حماسي يضع الخصوم في كفة الهزيمة ويتهكم بالذين يريدون إيفاد الرسول وربه للحرب وهم ينتظرون النتيجة المحتومة، فتابعه الجيش وانضم المعارضون إلى الرياسة وصفقوا للخطيب وبذلوا ثقتهم عن طيب خاطر.
فلما اطمأن الرسول إلى اتحاد الكلمة وتوافق الآراء اتجه إلى الوزراء قائلا: أشيروا علي. وهو يريد بذلك التعمق في البحث وتصفية المسألة وموازنة الأمور موازنة تؤذن بالعمل الجدي ورسم الخطط الخاتمة.
فقال عمر: «إنها قريش يا رسول الله وعزها، والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته.»
عمر بن الخطاب لا يوجه الحديث إلى رئيسه وقائده وحبيبه؛ لأنه يعلم أن الرسول يعرف قريشا وعزها وكفرها وقتالها وقوتها، لا يريد عمر أن يتهم بالتهاون والتساهل في شأن العدو، وهو من أصلبهم عودا وأعرفهم ببطولة هذه القبيلة التي لا عيب فيها إلا تخطيها الحق وتعلقها بالأوثان، وإلا فهم أبطال في الحروب أشداء في القتال لا يستهان بأمرهم ولا يستخف ببطشهم، وأليس المهاجرون من خيرتهم؟ وأليس فيهم بقية صالحة ستدخل الإسلام فيعتز بها؟ ألم يكن هو بالأمس من أعداء الإسلام وقد صار اليوم أعز أنصاره؟ فهو لا ينتقص قومه ولا يحط من أقدارهم ولا ينيم قلوب المجاهدين؛ ليستخفوا بخصمهم.
لقد كان بين الرسول والأنصار عهد بيعة لا يقضي عليهم بالحرب خارج المدينة، وها هم أكثر الناس وأغلبهم في الجيش، فلو تمسكوا بنص البيعة وقالوا: خرجنا للعير لا للنفير، فلن يبقى مع الرسول سوى ستين أو سبعين رجلا من المهاجرين، وهؤلاء لن يصلوا إلى رابغ فضلا عن برك الغماد التي لوح بها المقداد، إذن وجب الفصل في هذه النقطة قبل الخطوة الثانية. ألم تقل الأنصار في البيعة: علينا نصرتك إلا ممن دهمك بالمدينة من عدوك، وإنه ليس علينا أن تسير بنا إلى عدو من بلادنا، إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك بما نمنع به أبناءنا ونساءنا؟! وقد بروا إلى هذه الساعة ببيعتهم ووعدهم، وها هو الآن يدعوهم بالقرآن وبلسان وزرائه أن يخوضوا غمار حرب مجهولة النتيجة لديهم تدعو إلى معاداة قبيلة من أقوى القبائل ومدينة من أغنى المدن، وليس لهم عليها قدرة ولا تعدل قوة الأنصار قوتها، ألم يكف أنهم جابهوها بالبيعة والحماية داخل المدينة، حتى يمدوا حبل العداء إلى المعارك، فقال سعد بن معاذ سيد الأوس: لعلك يا رسول الله تخشى أن الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وأنا أقول عنهم، فاظعن من حيث شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، ولو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.
وإذن يكون ابن عبادة زعيم الأوس قد فسر المعاهدة وأضاف إليها نصا جديدا، فهدم القديم الذي يمنع خروج الأنصار للحرب مع الرسول ووعده بمعونة المال ومخاطرة الأعمار وأطلق يده في المسالمة والمحاربة، فسلمه توقيعا على بياض؛ ليكتب الرسول فوقه ما يشاء، وهذه ثقة فوق الثقة، أو هي أعلى درجات الثقة، وقد شاء الله أن لا تسحب أبدا بعد هذه الجلسة في وادي ذفران.
ضحك الرسول للمرة الثانية وأشرق وجهه؛ فقد رأى سياسته تسير من نصر إلى نصر وصفوف جديدة تنضم انضماما يؤمل به الفوز فقال: «سيروا وأبشروا؛ فوالله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.»
فعلم القوم أنهم ملاقون القتال، وأن العير لا تصل إلى أيديهم.
أترى هذه الخطوات وخطة الرسول الحكيمة منذ اعتزم إحقاق الحق وقطع دابر الكافرين، ترى لو أنه دعا المسلمين للقتال في المدينة أكانوا يلبون دعوته؟ إنه لم يغرر بهم ولم يخدعهم ولم يعدهم وعد الساسة، ولكنه دعاهم إلى إحدى الغنيمتين، لو دعا للنفير وحده أكانوا يخرجون؟ وإن خرج للعير ثلاثمائة فلعل النفير لا يخرج له أحد، وقد يؤثرون السلامة!
لقد آن أوان الرحيل من ذفران على نية صريحة جديدة وخطة محدودة وهي الحرب دون سواها، ومن لم يستعد لها فليرجع، ولكن لم يرجع أحد، فلننظر الآن ماذا فعل الجيش المكي الذي ركب كل صعب وذلول وسارع إلى القتال؛ لحماية العير بعد أن استنفرهم ضمضم بن عمرو الغفاري وجمله المجدوع ورحله المحول وقميصه الممزق المصبوغ بالنيلة ورأسه المعفر بالتراب.
فكأن أول موقف لهم بمر الظهران فنحر أبو جهل بن هشام عشر جزر، وقد أسرع الجزارون في ذبحها وتعجلوا فبقيت الحياة في بعضها فجالت في المعسكر فما بقي خباء أو خيمة من خيام الجند إلا أصابه من دمها، نحن لا نتطير، ولكن هم الذين تطيروا؛ فقد درجوا على الطيرة؛ وهي من العقائد التي قاومها الإسلام وذمها، وهذا لا يمنع أن الرسول كان يغير بعض الأسماء الرديئة بأسماء جميلة؛ لا طيرة؛ ولكن من حسن الذوق ورقة الطبع وخدمة المسمى، فإنك بلا ريب تفضل أن تدعو رجلا باسمه عسلا أو حلوا على أن تدعوه حنظلا أو مرا، وتحب أن تكون المرأة ميمونة أو صفية ولا تكون برة أو شعيرة أو قمحة.
وقد صادفت طيرة الجند بذبائح أبي جهل التي لوثت أخبية العسكر برشاش دمائها قبل أن تسلم أنفاسها الأخيرة أن رجع من الجيش بنو عدي وانفصلوا عنه وأبوا أن يواصلوا السير، ولعل بني عدي كانوا أكثر العرب اعتقادا بالطيرة، فعادوا أدراجهم إلى الجنوب، وواصل الجند سيرهم إلى الشمال حتى بلغوا عسفان، فنحر لحساب أبي سفيان بن أمية (والد معاوية وزوج هند الشهيرة بآكلة أكباد الرجال) تسع ذبائح، فانظر إلى حرصه؛ فقد اقتصد جزورا لانسحاب بني عدي ولم يشأ وكيله توسعة على الذين بقوا وكان ما يزال مع العير عائدا إلى مكة، وبلغوا قديدا، وهي تقع من عسفان شمالا بشرق، فنحر لهم سهيل بن عمرو عشر جزر، وساروا من قديد فضلوا بها (وهذا الضلال في الصحراء أمر عادي؛ لتشابه الوديان والجبال حتى لو كان معك خرائط وأدوات لضبط الأزمنة والأمكنة) وأصبحوا بالجحفة (وهي المكان الذي نفى الرسول إليه وباء المدينة في بعض الأقوال فأمست موبوءة) فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشر جزائر (جمع جزور)، وأصبحوا بالأبواء (مدفن آمنة بنت وهب والدة الرسول) فنحر نبيه ومنبه (أخوان!) ابنا الحجاج عشرا، ونحر العباس بن عبد المطلب عشرا، وتراه لم يتخلف عن قومه وأهل وطنه ودينه على الرغم من رؤيا عاتكة، ومن الملاحاة التي وقعت بينه وبين أبي جهل ورهطه في ساحة المسجد قبيل وصول ضمضم بموكبه الفذ، ونحر الحارث بن عامر بن نوفل تسعا، ثم بلغوا بدرا فنحر لهم أبو البختري على مائها عشرا، ونحر لهم مقيس الجمحي تسعا، فكانت آخر زادهم في هذه الدنيا، أي آخر زاد القتلى، وقد أحببنا هذا التفصيل الجميل؛ لأنه يدل على ثلاثة أمور:
الأول:
أسماء الزعماء وأصحاب المال الذين أنفقوا على الجند وأطعموهم طوال الطريق، وقد كان لكل منهم شأن في مكة وفي الموقعة.
الثاني:
رسم خطة الحملة وذكر الأماكن التي حطوا بها رحالهم؛ ليأكلوا ويستريحوا، وما تزال جميعها حتى الساعة ماثلة، وقد مررنا بمعظمها في سفرنا من مكة إلى المدينة، وقد بقيت على حالها وسطا بين محطة الصحراء والقرية الصغرى.
الثالث:
سرعة السير والدلالة على عدد الجيش؛ فقد جعل حساب كل جزور بمائة رجل فكانوا ألفا، وقد تعاون الكبراء على إطعام الجيش؛ لأنه لم يكن هناك خزانة عامة للتموين، وكان الواجب على أبي سفيان وحده أن ينفق من مال دار الندوة إن كانت لهم مالية معلومة، ولكن هذه المشاركة في الذبح دليل على خلوهم من وحدة المال ووحدة الإدارة، وكذلك لم تكن لهم قيادة موحدة بل تقاسموها، وفي كل حين يبرز اسم شهير كأبي جهل وعتبة وأبي سفيان. ولا يهولنا خروج العباس بن عبد المطلب لمحاربة ابن أخيه؛ فقد كان موقفه في مكة حرجا وقد اتهموه بالخروج عليهم ومعاندتهم لا لشيء إلا قرابته لمحمد، ولذا لم يجرؤ هو أو أحد من إخوته (غير حمزة) على الحلول محل أبي طالب، وقيل إن أبا لهب فكر لحظة في خدمة الرسول كما خدمه أبو طالب فضعف حيال مكر الزعماء وانقلب أعدى أعدائه حتى دمغه الله وزوجته أم جميل، وكانت من شهيرات النساء بسورة: «تبت يدا أبي لهب».
ولم يحفظ لنا التاريخ نظام التموين في جيش النبي، ولا أسماء الذين ذبحوا الجزائر، لعلهم كبار الصحابة وسادة الأوس والخزرج، ولكن مدة حملتهم كانت أقصر؛ لقربهم من المدينة، وعنايتهم بالطعام كانت أقل، وقد دعا لهم الرسول فقال: إنهم جائعون فأطعمهم، وحفاة فاحملهم، إلخ.
كانت جريدة المكيين إحصاء الجزائر وذكر أسماء الذابحين، وجريدة الأنصار والمهاجرين آيات القرآن وحديث الرسول وخطب العظماء وتنقيح المعاهدات، لا تلويث الأخبية بدماء الذبائح ...!
وإذن وقف الجيشان ببدر على مقربة من مائها.
كان أبو سفيان أثناء ذلك يجد السير في طريقه إلى مكة، وإنما سلك سبيلا لا يصطدم أثناءها بجيش النبي، وإن كان محتما عليه أن يمر ببدر؛ لأن خطته أن يلزم الساحل، وبدر أقرب إلى الساحل، وهو لا يعلم أن بني وطنه قد شدوا الرحال مسرعين، وأن العشرين مثقالا التي قبضها ضمضم قد آتت أكلها وزحزحت ألف رجل عن مراقدهم ومغانيهم ومفاسقهم وأغانيهم وشرابهم وطعامهم.
وصل أبو سفيان على مقربة من بدر ومعه العير في نفس الوقت الذي بلغ فيه جيش مكة قرية الجحفة، فعلم أن الرسول يدنو بجيشه من ماء بدر فصوب عيره عن الطريق وترك بدرا بيسار وانطلق حتى أسرع حتى اطمأن على أنه أنقذ العير واستقامت له الطريق بحيث لا يدركه جيش النبي، أرسل إلى جيش مكة وقد علم مقره بالجحفة يردهم عن الخروج، وجاء في كتابه: «إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجت وأحرزت (أي عادت إلى حيازتكم بعد أن ظننتها مضيعة) فارجعوا.»
إلى هنا يجب أن نسجل لأبي سفيان فضل المهارة والحذق وحسن الإدارة وحقن الدماء وشدة الدهاء وبعد النظر؛ فهو فحل من فحول قريش، وتيس كبير من تيوسها التي يصح لهم أن يمجدوه؛ فقد استطاع قرابة عامين أن يوجه العير توجيها حسنا ويتم رحلات القوافل المحملة بعناية وحذر، فلم تقع مرة واحدة في يد الغزاة من أصحاب الرسول، ولما استشعر الخطر في رمضان استأجر «ضمضم» فكان شر نذير أذهل المرضعات عما أرضعت ، وأجهض الحوامل فألقين حملهن، وانتزع الرجال من أحضان القيان، وأنهض كل من يطلق عليه اسم رجل حتى الذين يصفرون أسوتهم.
ولكنه كان حصيفا وخبيرا بالضرورات وبأدواء المدن وأدويتها، لقد أشار بتعبئة الجيش المرتجل وإنفاق المال في سبيل حشده وتسييره لا لتقع الحرب فعلا، ولكن ليذود الجيش عن العير إن هجم المسلمون عليها؛ ليخلصوها لا ليقتلوا ويقاتلوا، فإذا امتنعت هذه الضرورة فلا داعي لإهراق الدماء.
أترى دولة حديثة تأمر بالتعبئة لتنفيذ بلاغ أخير فتنال ترضية أو تحل مسألتها عن أي طريق تصر على إعلان الحرب، أم تأمر بسحب الجيش أو رد الأسطول؟ الجواب ظاهر، وهذا ما فعله أبو سفيان، وقارن بين روح هذا الفرد وروح بعض المؤمنين الذين كانوا يقصدون إلى العير؛ هم أيضا لا يريدون الحرب، محمد وخيار صحابته يريدون الحرب؛ لإحقاق الحق وقطع دابر الكافرين، وأبو سفيان كان يريد الحرب لحماية القوافل، فلما نجت بحنكته وحسن تدبيره نهى عنها وأمر جيش قريش بالعودة من حيث عاد بنو عدي وأبرأ ذمته من رغبة القتال، وقد اشترك في تموين الجيش وذبحت في غيبته عشر جزائر.
هنا تكلم القضاء والقدر بصوت ولسان أرفع وأبلغ وأسمع وأفصح وأعلى وأبرع من أصوات «الكارهين» وألسنتهم، ومن صوت أبي سفيان ولسانه.
وقد لبس القضاء في هذه المرة ثوب أبي جهل وتقمصه وحل فيه حلولا ونطق بجنانه وأشار بيده وبنانه، قال أبو جهل: كلا! والله لا نرجع حتى نحضر بدرا فنقيم عليه ثلاثة أيام، فلا بد أن تنحر الجزور ويطعم الطعام وتسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا بعدها.
دعونا أيها القراء الأعزة نضرب بسهم في فلسفة التاريخ الإنساني الذي لا يساوي عند الله جناح بعوضة! فنظهر إعجابنا هنيهة بهذا الفحل القرشي والبطل الوثني والقائد المكي، وليس في هذا حياد شعرة عن خطتنا؛ فقد كان الرسول به معجبا وفي خيره مؤملا، ودعا الله أن ينصر الإسلام بأحد العمرين، فوقعت ورقة الحظ لابن الخطاب، أترى إلى هذا البطل؟ لقد كانت له نفس عالية وروح سام ونظر بعيد على الرغم من وثنيته وشركه، لقد جمع في جوابه على أبي سفيان حياة الجاهلية في سطرين! أتراه كان يحشد الجيش ويسارع مئات الرجال على كل صعب وذلول ويستنفر أشراف قريش وسادة الوادي؛ ليعود أدراجه بخيبة وصغار؟ فيم ضمضم وموكب ضمضم وإزعاج الناس والرجال؟ وفيم هذه الجزائر والمراحل والقيان والغلمان والأخبية تضرب والجمال تناخ والأثافي تنصب والنيران تشعل والقدور تغلى والسماط يمد والجنود تعد والسيوف تشحذ والسهام تبرى والأقواس تشد؟ وفيم تلك الدروع تلبس والخوذات تنصب على الرءوس؟ وفيم القصائد تنشد والأغاني والأهاجي توقع على الدفوف لحماسة النفوس؟ وفيم اللحوم تطهى والخمور تحمل في الجلود والقرب وفي كل زق متين إن لم تفرغ في الكئوس؟ وكيف يؤتى بالقيان والغواني ولا توصل، وقديما قالوا: لا عطر بعد عروس؟!
هذه هي الجاهلية بمعلقاتها ومغامراتها وإباحيتها وأورجياتها؛ حيث يتجلى الإله بان ويمجد الرب باخوس!
أرأيت عظمة أبي جهل بن هشام وبطولته وفروسيته حتى لكأنه أحد أبطال طروادة يأبى النكوص عن القتال، فإن أبى غيره الحرب فلا أقل من الاحتفال.
ثم إنه لا يخفي غايته من استغلال تلك الفسحة الحربية والنزهة المكية، إنه يريد أن يذيع الخبر في العرب فتهابهم ولا تسجل عليهم الخوف والجبن وتفضيل السلامة على المجازفة.
وماذا يهمه حرص أبي سفيان ودهائه وحقنه الدماء؟
لقد ساس أبو سفيان هذه العير خير سياسة فأنعم به وأكرم، وله ما شاء من التحبيذ والتشريف على نجاح خطته! ولكن هذه الحملة وهؤلاء الرجال أيعودون إلى مكة منكسي الرءوس لم يجردوا سيفا ولم يشرعوا رمحا ولا يرووا من دماء المسلمين سيفا ولا مشرفيا ولا مهندا ولا بتارا؟
حسن، نعود، وأمرهم إلى أوثانهم، ولكن ألا نفرح ونطرب؟ ألا نغني ونشرب، ألا نخاصر ونعانق؟ ألا تفرش النمارق؟ ألا ترفع القباب على هند ودعد وليلى ورباب ولو فرحا بنجاة العير ومظاهرة بالقدرة على الحرب ولو كان خصمنا محمد والمهاجرون والأنصار.
أبو سفيان لا يريد الحرب.
والمؤمنون الكارهون لم يريدوا الحرب.
وبنو عدي عادوا لا يريدون الحرب.
والأشراف والسادة كأمية بن خلف يخافون الحرب.
وأبو جهل نفسه يكتفي بالسهرات الجاهلية، وعلى الرغم منه لا يريد الحرب، ولكن الله ورسوله يريدان الحرب، الحكم هنا للقلة لا للكثرة، بل هي للواحد الأحد، لقد تمكن محمد في تسعة عشر شهرا من تربية الجيل الجديد والأمة الفائزة، لم يحتج إلى أربعين عاما كالتي احتاج إليها موسى في خلق اليهود من جديد في وادي التيه، حتى ولا أربعين شهرا بل أقل من نصف هذه، وآية هذا الميلاد السعيد والنجاح الخارق، مجلس الحرب الذي عقد في وادي ذفران.
لقد آن الأوان لالتقاء مكة والمدينة وجها لوجه.
هل هما قريتان تلتحمان، أم مذهبان ومبدآن؟
هل هما مكة العريقة الغنية القوية العزيزة التي أخرجت أعداءها من وطنهم، ووضعت يدها على أموالهم، ونكلت بالباقين من أقاربهم، التي بلغت طور التجارة بعد الزراعة والصناعة، أم يثرب الصغيرة الفقيرة التي كان يحكمها اليهود والمشركون وأصبحت يحكمها محمد؟
هل هما جيشان أحدهما ألفي والآخر مئوي، وأحدهما مسلح مستكمل العدد والعدد، شبعان ريان سكران، والآخر جائع عار مجرد لا يضم بين صفوفه غير المشاة، إلا فارسين على فرسين؟
ترى لمن تكون الغلبة؟ وهل تلك الغلبة أزلية ثابتة في ألواح الأقدار كما تكون الهزيمة للفريق الآخر أزلية مدونة في سفر الأسفار، أم النصر والهزيمة طائران ما يزالان في ميزان القضاء مغيبا عن علم البشر على الرغم من البشريات؟
ما يزال أبو جهل وسفيان بن أمية (وهو غير أبي سفيان بن حرب) وسهيل بن عمرو وعتبة بن ربيعة ومقيس بن عمرو والحارث بن عامر يملكون حظهم وحظ بلدهم، فإذا عادوا أدراجهم عادوا بشيء من الخزي المبهم، والعار الغامض، ولكنهم يعودون بجيشهم كاملا ناجيا وحجتهم بأيديهم، ولكنهم إذا فرطوا في هذه الفرصة فلا يعلمون ما تخبئه لهم الأقدار، وهم الذين درجوا وشبوا وشابوا على استشارة الأصنام والاستقسام بالأزلام.
ولكن ألم يقل أبو جهل لمن أنذر شخصه بالقتل: «سيعلم غدا من المقتول: نحن، أم محمد وأصحابه!»
لقد كان لبدر موسم عند هلال ذي القعدة يدور ثمانية أيام، فيا حبذا لو اجتمع الموسمان؛ موسم بدر ورقصة أبي جهل على ماء بدر! ولكن حفلاته وسهراته لن تطول أيامها ما بقي من رمضان ثم شوالا حتى يحل هلال ذي القعدة، فقال لهم: لن نبقى إلى الموسم ولكننا نتعجله ونقيم ما هو أفخم منه وأعظم، ولم يدر أنه باق وسبعون من أقرانه حماة مكة إلى الموسم، وما بعد الموسم، وما بعد بعد الموسم عشرات الأعوام بل مئاتها بل ألوفها ...!
أين؟ ... في القليب!
إن صوت الدماء يعلو ويرتفع، وأجراس الموت ترن.
يا لهما من طنين ورنين!
بلغ جواب أبي جهل آذان أبي سفيان بن حرب (وهو غير سفيان بن أمية) فساءه طغيانه فقال: هذا بغي؛ والبغي منقصة وشر. فلما علم بنو زهرة بهذا قلدوا بني عدي وعادوا أدراجهم، ولا ندري عددهم وكان زعيمهم الأخنس بن شريق فتعب في إقناع أبي جهل برأي أبي سفيان فلم يفلح، فولى وجهه شطر أرض قبيلته.
رأى العباس أن بني عدي عادت، وأن بني زهرة عادت، وقد دب الضعف في صفوف الجيش؛ لأنهم علموا أن لا قتال؛ لأن أقصى ما يطلبه أبو جهل (ما أصدق كنيته وما أشد انطباقها عليه منذ الآن!) أن يرقص ويغني ويعانق على النمارق ويشرب الخمر على ماء بدر، فخمدت الحمية واطمأنت النفوس إلى نجاة العير وحماية صاحبهم وحليفهم مخرمة بن نوفل ورعاية ماله، ولا نفع في الحرب بعد النجاة، وهذا التخذيل يفت في عضد الجنود؛ لأن الجندي الذي ينصر إنما يحارب لأجل فكرة وعقيدة، والجندي الذي يهزم إنما يحارب لغير غاية أو لغاية مبتذلة مرذولة كالمرتزقة، وقد سلبت الغاية من قلوب القرشيين وتنحى عنهم قبيلتان، وقد أثبتت الحروب الحديثة أن النصر في جانب أصحاب المبادئ، يموتون في سبيلها أو يحيون لنصرتها.
وهذه الحملة القرشية التي أثارها ضمضم كانت ركيكة الغاية؛ لأن مدارها المال، فلما ضمن المال تلاشت حيويتها وقصفت فقارها والتوى سنانها وتهدم صرحها في نفوس ذويها والمسوقين إليها، فلما هزلت وتراخت وانتهت إلى الطبل والزمر والرقص والخمر عادت كالطلل الخالي والشبح البالي أو الحلم البائد والصيد في حبالة صائد.
رأى العباس بن عبد المطلب عم النبي هذه المناظر وهو خارج «مكره أخاك لا بطل.» فأراد أن يتملص وفاتح بني هاشم في الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع! وأغلب الظن عندي أنهم إذا رجعوا قد ينضمون إلى جيش النبي، أو أنه رأى أن يعرضهم للقتل أو يتخذهم رهائن وقد اطلعوا على خفايا الجيش وأشرفوا على أسرار الحرب فلا خير في فراقهم، فأبقاهم على ضغن.
صمم أبو جهل على خطته وأعرض عن نصح أبي سفيان والأخنس بن شريق زعيم بني زهرة، ولم يكن الأول ولا الثاني يرغبان نفع محمد والمسلمين في كف الحرب؛ فقد كان التغلب عليهم غاية أماني أبي سفيان وإن يكن يمثل حزب المعتدلين في السياسة، ولكنهما فكرا في نفع قريش فخيب أبو جهل أملهما.
ما زال جيش قريش سائرا حتى نزلوا بالعدوة القصوى، ولعل المنطق يقتضي أن قيادته تعقد لأبي جهل؛ لأنه أصبح سيد السير وصاحب الخطة، والعدوة القصوى قريبة من الماء، وهو عين حياة الصحراء.
ونزل النبي والمسلمون بعيدا من الماء بينهم وبينها مرحلة.
فشعر بعض المسلمين بشيء من المذلة وقالت ألسنة السوء فيهم، ولا يخلو ركب فضلا عن جيش من شياطين الإنس التي توسوس في صدور الناس، وقد أعانها الظمأ والتعب وحالة الضنك والضيق التي فيها المسلمون، وأرهبتهم كثرة قريش وأخبيتهم وقبابهم وبريق أسلحتهم، قالت ألسنة السوء: تزعمون أنكم أولياء الله وأنكم على الحق وفيكم رسول الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من شاءوا وساقوا بقيتكم إلى مكة!
إنه كلام مليح في ظاهره لا يأبى لسان سوء أن يتحرك به، إن مؤرخي القدماء يشفقون أن يجعلوه على ألسنة أحد ممن شهد بدرا؛ لأنهم قدسوهم، والقرآن مجدهم، والنبي زكاهم، ولكن التقديس والتمجيد والتزكية إجمالية، ولا يمكن أن يكون جيش كجيش المدينة خاليا من شخص أو شخصين تجول في أفكارهم خواطر كهذا الخاطر فيصرح بها ولو على سبيل النقد المباح، ألم تر في أول الأمر مؤمنين كارهين قد حملتهم فصاحة المقداد وسعد بن معاذ على أجنحتها فساروا تبعا لروح الجماعة منقادين لتأثير الساعة.
فإذا ما طال السير واشتد الجوع ولم تغن التمرة وجرعة الحليب أو البر المدشوش غناء اللحم والذبائح، واشتد الظمأ والماء قريب في يد عدو لا في يد حبيب، وقارن الرائي بين ألف وبين ثلاثماية، وبين ماية فارس وبين فرسين، وبين أغنياء يخبون خبا في الصوف والحرير ويخطرون في الدروع، وبين الحفاة العراة الجياع العطاش؛ فلا يمنعه عن هذا القول إلا إيمان شديد وثقة لا حد لها وتمسك بالشخصية قد لا تتوافر جميعها لكل الناس، وعندنا أن القائل بشر لا جان، وإنسان لا إبليس ولا شيطان، والقرآن يصف بعض الإنس بأنه شيطان:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن .
ويطلق الناس على الجن:
في صدور الناس * من الجنة والناس ، وعندي أنهم معذورون لو قالوا ذلك تبعا لظواهر الأمور، ودليل عذرهم وقبوله عند الله أنه سبحانه وتعالى لم يطل محنتهم؛ خوفا من فكاكهم، فبعث المطر فورا فأطفأ الغبار ولبدت الأرض واشتدت وهبط التراب وشربوا وملئوا أسقيتهم (أي قربهم) وسقوا الركائب واغتسلوا وطابت نفوسهم، وسجلها القرآن في آية:
وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم .
أما قريش فقد أصابهم من المطر ما لم يقدروا على أن يصلوا منه إلى الماء؛ فكان مطر واحد في مكان واحد: نعمة وقوة للمؤمنين، وبلاء ونقمة على أعدائهم.
قد يبدو هذا الكلام غريبا، ولكنه غريب لصدقه وصحته وتأييد التاريخ الحديث له.
انظر إلى موقعة واترلو الحاسمة في تاريخ العالم بين بونابرت وولنجتون وبلوتشر في سنة 1815؛ لقط سقط فيها المطر على الفريقين فكان سببا في انتصار فريق وانكسار آخر، والأعجب أنه كان سببا مباشرا للهزيمة؛ كان بونابرت ممتازا بالمدفعية، بها أحرز كل فتوحه في أوروبا وفي الشرق؛ فقد كان أعظم قائد مدفعي في التاريخ الحديث ، والمدافع في حاجة إلى أرض يابسة تتحرك عليها؛ لأن ثباتها في مكان واحد يعدمها قيمتها، وكانت أرض الميدان في واترلو قبل المطر يابسة صلبة ملبدة شديدة، فلما نزل المطر صارت هشة طرية تنزلق فيها الأقدام وتسوخ فيها عجلات المدافع، فعجزت حركتها، ولم يعجز خصومه؛ لأنهم لم يعولوا على المدافع، وفيكتور هيجو يناجي تلك الساعة المطيرة التي سبقت الموقعة مناجاة كنت أظنها جوفاء، ولكني أراها الآن بليغة، وهو يناجيها وقد دارت الدائرة على ملكه ومولاه وسيد وطنه، فما أحراني بمناجاة السحابة التي أنزلها الله على بدر، وقد نال بها ملكي ومولاي وسيدي النصر المؤزر، ودارت فيها الدائرة على أبي جهل وجنوده، وإن استمدت المناجاة على لسان هيجو من عظمته وعظمة سيده؛ وهو الذي خاب، فأستمد مناجاتي من فرحتي ونصر حبيبي، ولكن أبلغ وأعظم وأوقع من كل ما أستطيع كتابته أو التغني به تلك الآية الكريمة. •••
كان بلوغ الجيش حذاء بدر قبيل المساء؛ ولذلك كانت المطر، فبات كل مسلم قرير العين واستولى عليهم نعاس عميق، لعلهم لم يكونوا في تلك الأزمنة يخشون مفاجأة الليل، وكان كلا الجيشين منهوك القوة، فنعس المسلمون، ولكن المشركين لم تغمض لهم عين، ومع أنهم لم يناموا لم يفكروا في حرب خاطفة.
لم لم يناموا؟ لقد غاظتهم الأوحال، ولأنهم فرحوا بقلة المهاجرين والأنصار وحدثتهم أنفسهم بسهولة الظفر بهم لو شاءوا، وفرحوا؛ لأنهم بلغوا بدرا ولن يقاتلوا؛ لأن نهاية أبي جهل أن يحتفل، وقلقوا؛ لأنهم رأوا أعداءهم فتحركت الأحقاد والأضغان، وحنقوا؛ لأن هذه الحفنة من الرجال أقضت مضاجعهم وأخرجتهم من بلدتهم وكلفتهم نفقات الطعام والسلاح وأجور المرتزقة، ونفقات الإبل والخيل، كان المسلمون عراة حفاة، العاري في القافلة مرتاح مستربح وكانت قريش مليئة هنيئة، وللسعادة ثمن يدفعه صاحبها، فيتقاضاه الزمان بالأرق والسهد وحمل الهموم والتفكير في الغد.
ستظل حال محمد في موقعة بدر خالدة على وجه الدهر؛ فقد كانت حالا فذة في تاريخ القادة وأبطال الأمم؛ فقد نصبوا له عريشا فكان مقر القيادة العليا وجعلوا عليه حارسا؛ هو سعد بن معاذ نفسه.
لقد نام جيشه ولكنه لم ينم، فما كان فيهم قائم إلا هو يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده أن يقول: «يا حي يا قيوم!» حتى أصبح، فلما طلع الفجر نادى للصلاة فنهض الناس من تحت الشجر والجحف فصلى بهم، ثم ألقى خطبة القتال فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله سبحانه وتعالى، أما بعد؛ فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه ، وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله تعالى به الهم وينجي به من الغم.
ثم خرج يسابق قريشا على الماء فسبقهم إلى أن جاء أدنى بئر فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المكان اختاره لك الله وليس لنا أن نتقدم عليه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ أي نزولك هذا الماء بوحي من الله، أم من اجتهادك في الخطة الحربية؟
ماذا يقول رجل غير مرسل في موطن كبرياء وصلف يريد أن يخضع الجميع لرأيه؟ طبعا يقول: هذا وحي، وهذه خطة الله أمرني بها.
ولكن محمدا الرسول حقا قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. أي هو خطة من عندي لا دخل للوحي فيها. أرأيت أصرح وأصدق من ذلك، وأبعد عن الزهو والغرور وصلابة الفكر والعناد والكبرياء؟
فقال الحباب: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء القوم؛ فإني أعرف غزارة مائه وكثرته بحيث لا ينزح، فننزله ثم نغور ما عداه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون؛ لأن الآبار كلها تصير خلفنا، ولنا عليها السيطرة. فقال الرسول: لقد أشرت بالرأي.
أراد الرسول أن ينزل ويترك عيونا وآبارا بينه وبين العدو فإذا أرادوا شربا وجدوه، وأراد الحباب أن يصل المسلمون إلى أبعد ماء من الميدان وأقربها لقريش فيملكوها ويضعوا أيديهم على كل ماء وراءها ووراءهم؛ ليمنعوا قريشا ورودها، فصفق له النبي وأثنى عليه.
وفي نصف الليل نفذوا تلك الخطة وبنوا الحوض حول العين فملكوا زمام الماء ونزلوا بين الأعين الأخرى وبين قريش واستقوا وألقوا بالآنية في الحوض.
انفرد الحباب بتموين الجيش بالماء وقطعه عن قريش، وانفرد سعد بن معاذ بإعداد العريش وهو مقر القيادة وحراسته بشخصه وضمان خط الرجعة فأعد الركائب ببابه؛ لإنقاذ الرسول في حالة الهزيمة، فقال في لطف: «نعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى (أي الهزيمة، ولم ينطق بلفظها) جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من أهل المدينة؛ فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، إنما ظنوا أنها العير، يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك.» واختار سعد مكانا عاليا فوق تل يشرف على المعركة فبنى عليه العريش.
أرأيت شجاعة وفطانة وإخلاصا كالتي تجمل بها ابن معاذ؟
إنه يقدر الهزيمة ويعد الركائب بباب العريش؛ لينجو رسول الله إلى المدينة، ولا يقاطعه الرسول ولا ينهاه ولا يطمئنه ولا يبشره، ولكنه يشكره ويثني عليه، وإن ابن معاذ ليفرغ هذا الخوف كله على الرسول من عاقبة المعركة في قالب الرجاء: «فلو قتلنا جميعا أو أسرنا جميعا ونجوت أنت ستلقى أنصارا ومهاجرين يفضلونك على أنفسهم ويجودون في سبيل الحق بأرواحهم.» أليس في هذا الموقف الأعظم تقدمة مباركة للآية الكبرى التي ستنزل في أحد؟
وابن معاذ يقول: نحن في أول الأمر، فلو هلكنا جميعا وبقيت أنت فسيستمر الأمر ويتم، والله يقول بعد ذلك بثلاث سنين:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ...
الآية. أي لقد تربى الجيل وترعرعت الأمة الجديدة؛ فسيان لدى الله ما دام في الإسلام من تشبع بالإيمان وثبت قلبه في العقيدة وإقدامه في الجهاد. بمثل ابن معاذ تقوم الدول، وعلى مناكبه القوية تشاد الأديان الكبرى والمبادئ العليا، بهذه الشجاعة والصراحة التي اتبعها الحباب بن المنذر وسعد بن معاذ تتقوى القلوب وتشرق وجوه الأنبياء وتضحك أفواههم وتخف عن كواهلهم أعباء الدعوة، لا بالرجال الذين هم أشبه بالنساء، ولا بالرجال أشباه الرجال، ولا بالرجال أشباح الرجال، ولا بالمنافقين والأوغاد، ولا بالحاقدين والحساد، ولا بالطامعين في الأموال، ولا المباهين بالآباء والأجداد، ولا الخائفين الحذرين على النسوة والأولاد، هذه بضاعة زائفة وأعين زائغة وآذان صماء وقلوب مغلقة وهمم ميتة وإرادات خائرة وأرواح حائرة، تضر ولا تنفع، تثبط وتهبط، لا تعين ولا تشجع، تنشر الذعر وتنزع سلاح الرجل الكبير، وتجره من أعلى إلى أسفل، وتعصف بمواهبه وتطفئ سراج عبقريته ، وتدعوه إلى الشك في نفسه، فإذا ما شك وارتاب في نفسه اضطرب وارتبك وتسرب الشك من نفسه إلى ربه وزاغ بصره وتخلخلت ركبه وتزعزع عوده ثم هوى، وهذه الأمم التي قرأنا تواريخها، والأخرى التي رأيناها ونراها لم تخل من الرجال العظماء والأئمة الأمجاد والأفراد الذين يعدل الواحد منهم ألوف الرجال، ولكن عناصر الشر أحاطت بهم وغلبتهم وتغلبت عليهم، ومن هنا قال محمد عن صالح أو عن هود: هذا نبي ضيعه قومه، أو أضاعه ذووه، أو أهلكته خاصته. وهذا الأمر بنفسه وقع لعيسى من قومه؛ لشدة تواضعه، وقوة روحانيته، واليهود الذين نشأ فيهم لا يعرفون التواضع، ولا يجنحون إليه، ولا يدركون الروحانيات، ولا يؤمنون بها، ألا ترى أن الله؛ إذ أرسل إليهم شريعة أمر بها فحفرت في ألواح الصخر وكتل الحجر رمزا إلى جمود قلوبهم وتحجر أفئدتهم وصلابة عقولهم التي لا ترى ولا تفهم إلا النقش في الحجر! وهؤلاء اليهود أنفسهم في أول عهدم بالنبوة، ألم يذيقوا موسى وهارون علقما حتى أزهقا روحيهما ولم ينل أحدهما أربا ولم يبلغ موسى أرض المعاد! •••
أبو بكر وعمر وعلي والمقداد وسعد بن معاذ؛ أسماء يجب أن يرن صداها على أعواد المنابر، وأن يدعى لها ويشاد بذكرها لا بغيرها من الأسماء، ماذا كانت تكون الحال لولا هؤلاء الأماجد الصناديد، وأبو بكر هذا الوديع الودود الهادئ الضحوك ذو الحديث العذب والصوت الموسيقي والحس المرهف، كان أشجع الناس؛ شهد بشجاعته علي بن أبي طالب؛ فإنه لما كان يوم بدر قلنا: من يكون مع رسول الله على العريش لئلا يهوي إليه أحد المشركين. فما دنا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف خلف الرسول لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه. انظر؛ هو أول من صدق به، وهو معه في الغار وفي طريق الهجرة، وهو خليله وصهره وموضع سره ونجواه، وهو حارس جسمه وشخصه أمام الملأ، والله حارسه، وهو خليفته الأول، وهو العازم على محاربة المرتدين بمفرده مع تثبيط المؤمنين له؛ وفي مقدمتهم سيدنا عمر بن الخطاب. هؤلاء هم الأعوان الذين بدون إخلاصهم لا تقوم نبوة؛ فما حياة الأنبياء كلها دعوة وجهاد وعبوس ومحاربة ووحدة دون أن يتنفس الرجل أو يلقى من يشد أزره ويطمئنه ويبعث فيه الثقة. ألا والله إن الرجل ليفتح الدنيا ويضمن الآخرة لو كان له أصدقاء كمن ذكرنا؛ فبهم يرد عاديات الدهر ويهزم الشياطين وينال أسباب السماء.
في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر التي دعا إليها الرسول وبعد ليلة قضاها جيشه في النعاس استجماما بعد التروية والتطهر، وقضاها هو ونخبة من القواد والوزراء في المداولة والمشاورة وتبادل الآراء وفي بناء الحوض على عين الماء، أقبلت قريش بالجموع الوافرة في الدروع الساترة والأسلحة الشاكية والخوذ الواقية والرماح العالية والسهام الرائشة، وإنك لتتخيل زهوهم واعتزازهم بقوتهم وعددهم واستهانتهم بعدوهم واطمئنانهم إلى وعيدهم الذي نطق به أبو جهل: «سيعلم غدا من المقتول: نحن، أم محمد وأصحابه!»
ها هو الغد قد جاء، قالها أبو جهل عند البدء بالسير، واستجدت بعدها أمور وقصر أبو جهل آماله على الاحتفال، فما الذي جد بعد؟ عندي أن المسلمين كانوا مصممين على الحرب لا شك في ذلك، وقد اختاروها وأعدوا لها عدتهم، وقد فوتوا العير قصدا وكان في وسعهم أن يلحقوا بها.
وأن جيش قريش وسادته نسوا وعدهم بالاكتفاء بالاحتفال والتظاهر، وغلى الدم في عروقهم وأرادوا أن ينالوا من أعدائهم، فهم ليسوا كالحروب التي يحركها الساسة، ولكن لكل منهم ضغنا عند من يقابله، فهؤلاء آباء وإخوة وأعمام وخئولة وأصدقاء وأصهار فرق الدين بينهم ووقعوا وجها لوجه للقتال، فلما رآهم الرسول ناجى ربه وربنا قائلا: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وعجبها وفخرها تجادلك وتخالف أمرك وتكذب رسولك؛ فنصرك!
وقد اختص الرسول نفرا من زعماء قريش بسخطه ودعائه عليهم؛ وهم: أبو جهل ووصفه بأنه فرعون قريش، وزمعة بن الأسود، وسهيل بن عمرو.
وردت قريش واطمأنت وأرسلت عمير بن وهب الجمحي من أصحاب القداح وقالوا له: أحرز لنا محمدا وأصحابه، فصوب في الوادي وصعد ثم رجع فقال: لا مدد لهم ولا كمين، القوم ثلاثمائة؛ إن زادوا زادوا قليلا، ومعهم سبعون بعيرا وفرسا، ثم سكت، ثم عقب متمهلا: يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا؛ نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليست لهم منعة ولا ملجأ لهم إلا سيوفهم، أما ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، فإذا أصابوا منكم عددا فما خير في العيش بعد ذلك، فروا رأيكم!
كان تكليف ابن الجمحي أن يستكشف العدو، وقد دل بفراسته على صدق نظر الذي اختاره، فصدق ظنه في تقدير العدد وقياس القوى، ولكنه تطوع بالرأي، عجبا! أي تقرير الذي رفعه هذا الجاهلي للقيادة العليا؟! وكان خليقا بجيش فيه هذا الفحل أن ينتصر، أو على الأقل أن يسلك سبيل الحزم ويتبع المشورة، وقد ضننت به على المشركين إلى أن قرأت أنه أسلم - رضي الله عنه - وحسن إسلامه وجاهد مع رسول الله في أحد.
ألا تراه ألقى نظرة فاحصة شاملة وأبدى رأيا كاملا لا تخر منه نقطة شك أو ذرة من هفوة؟ تراه يصف النوق بأنها «بلايا»، من فصيلة كأخلص الكلاب، تبرك على قبور أصحابها فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت، فما بالكم بذويها؟! وهل يرضى الأنصار أن ينقلبوا إلى أهليهم زرق العيون كأنهم الحصى تحت الجحف؟ لا تغتروا بعددكم وعددكم؛ فإن الروح المعنوي في القوم قوي، وهم على جانب الإيمان وعلى حافة اليأس، لا أمامهم إلا أنتم، ولا وراءهم إلا اللوم وشماتة الأعداء من اليهود والمنافقين؛ فهم بين النجاح والتضحية من ناحية؛ وبين الخزي والخيبة من ناحية أخرى، ليس لهم تجارة ولا عير ولا ثروة يحملون همها، وليس لهم إلا الله الذي يعبدون، والرسول الذي يمجدون.
فنهض حكيم بن حزام ابن أخي خديجة بنت خويلد، وله في مكة خط يعرف باسم الحزامية فيه البيت الذي عاش فيه الرسول معها ودنا من عتبة بن ربيعة؛ لأن حكيما لم يكن خطيبا ولا مسموع الكلمة ولا مطاعا بقدر عتبة.
فقال له: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها المطاع فيها، هل لك أن يخلد ذكرك فيها بالخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟
قال: ترجع بالناس. وكأن عتبة لم يكن ينتظر إلا هذا، فقام خطيبا وقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك أكفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، واعصبوها اليوم برأسي واجعلوا عارها متعلقا بي (أي كما يقال الآن: امسح هذه السقطة في ذقن فلان أو لحيته)، وقولوا: جبن عتبة. وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.
بعد أن أنقذ أبو سفيان العير بدهائه وحسن تدبيره لم يبق هناك سبب للحرب بحسب القانون الدولي والعرف العربي، والعداء لأجل الدين قد قطع أبعد أشواطه بهجرة المسلمين بعد اضطهادهم، فليست قريش هي الدائنة؛ بل المدينة، وليست صاحبة الثأر؛ بل صاحبه محمد ومن معه، وهذا رأي أبي سفيان على صورة أوضح وأفصح وأكبر تفصيلا.
وبقيت مسألة صغرى معلقة لا تقتضي قتالا؛ وهي أن واقد بن عبد الله أحد أفراد سرية عبد الله بن جحش قتل عمرو بن الحضرمي حليف عتبة بن ربيعة وغنموا عيره في بستان قريب من مكة، فلا تطلب قريش من محمد إلا دية عمرو وتعويض العير، وقبل عتبة بن ربيعة أن يتحمل الدية والتعويض عن المسلمين ويؤديها إلى عامر بن الحضرمي صاحب الدم وولي القتيل، متابعا في ذلك رأي حكيم بن حزام، ولم يكن لعتبة فضل في هذا التطوع بسداد الدين والحق المدني عن محمد؛ فقد أرسل الرسول عمر بن الخطاب لدفعهما، فأبى عامر بتحريض أبي جهل، ولم تفت هذه النقطة مرغليوث فسردها في صفحة 257.
كان عتبة إذ يخطب الجيش يعتلي منكب جمل أحمر يجيله في صفوفهم ويلح عليهم في طاعته وسماع حكمه، والحق أن أفراد الجيش لا يريدون أكثر من هذا، ولكن الكلمة لم تكن ساعتئذ للضعفاء والجنود، ولكن لفئة قليلة من الرؤساء والأمراء مثل أبي جهل، فلم يكن عتبة متفضلا علينا ولكن على قومه تفضل بالرغبة في حقن الدماء بفض النزاع.
لما لم تجد خطبة عتبة أدار الكلام على صورة أخرى فملق قريشا وامتدحهم ونهاهم عن أن ينزلوا إلى درك المسلمين ويقفوا حيالهم، أليس قريش سادة العرب وهؤلاء المسلمون حثالة البشر ونفاية العرب؟! فقال: أنشدكم الله في هذه الوجوه التي تضيء ضياء المصابيح (يعني وجوه قومه) أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات (يعني وجوه الأنصار).
يا ولد! يا عتبة! بسم الله ما شاء الله، ما أقوى بصرك! وما أعجب الأشعة السينية التي ركبت في حدقتيك! وما أعظم خداع العين التي أرتك ضياء المصابيح في وجوه هؤلاء الفساق المعربدين، عباد الأوثان والمال، ضحايا الشهوات وخدام الخمر والنساء والغلمان، ولو كنت صادقا لصدق المثل القائل بأن القردة في أعين أمهاتها ظباء، والظلمة في نظر الأعمى ضياء. أترى أعين الحيات في وجوه الأنصار، والمصابيح في وجوه المشركين والكفار؟! يا لك من منافق! ثم ترى وجوه الأنصار غير خليقة بأن يقف أمامها وجوه قومك أو ينحدروا إلى مستواها؟! حقا؛ إنكم لذوو خيلاء وغرور، ولكن حسن حظنا شاء أن تنتفخ أوداج «المصابيح» التي تزري بأضواء «تنجزرام» و«فيلبس» وتصدق ما زعمه عتبة - حيلة منه ودهاء - وأن يعرضوا عنه؛ ليقضوا على «عيون الحيات»، وسوف نرى!
يدلك على خير النبي وتمسكه بالحق والنصفة ونشدانه الحقيقة أنى كانت، أنه لمح الجمل الأحمر وراكب الجمل الأحمر فذكر قس بن ساعدة وكان هو الآخر يخطب على جمل أحمر في عكاظ ويقول خيرا.
فأراد النبي أن يقف على الحقيقة فنادى على حمزة وكان في أقرب الصفوف إلى المشركين وسأله: من صاحب الجمل الأحمر؟
فقال له: عتبة بن ربيعة ينهى عن القتال. فقال الرسول: إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر. يقصد الخير لقومه؛ لأن الخير للمسلمين في الحرب، ولكن محمدا لا ينظر إلى الأشياء من ناحية واحدة؛ ولما رأى عتبة عناد القوم وظن لأبي جهل فيه يدا قال لحكيم: انطلق لابن الحنظلية (وهو أحد أسماء أبي جهل) وقل له. فانطلق إليه فوجده يسل درعا من جرابها ويستعد للقتال، فلما سمع كلام عتبة على لسان حكيم قال: لقد جبن، لو كان غيره لأعضضته (وهي كناية عن أقبح الشتم وأفحشه)، وبادر أبو جهل إلى سوء الظن ولم يكتف بسب عتبة؛ بل خونه؛ لأن ابنه أبا حذيفة بن عتبة كان مسلما مع الأنصار، ولبنت عتبة أم أبان أربعة إخوة وعمان؛ نصفهما مؤمن، ونصفهما مشرك، واستهان أبو جهل بالمسلمين وقال: إنهم قلة بحيث يكفيهم الجزور. وهو ما يكفي مائة شخص.
ولحكمة أرادها الله رأى المشركون قلة المسلمين قبل القتال وكثرتهم بعد الالتحام، ورأى المسلمون قلة المشركين وهم كثر من البداية إلى النهاية.
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم .
حتى قال قباث بن أشيم الوثني: «لو خرجت نساء قريش بأكمتها لردت محمدا وأصحابه.» مساكين هؤلاء المهاجرون والأنصار قبل الامتحان، فهم تارة بوجوه كأعين الحيات ويتلمظون تلمظ الأفاعي، وطورا تغلبهم النساء؛ فليسوا في حاجة إلى قتال الرجال ولا يتحملونه!
ولما رأى أبو جهل أن عتبة قد ينجح في إرجاع قريش استعان بسوءة عامر بن الحضرمي فبعث إليه وقال: حليفك عتبة يريد أن يخذل الناس عن القتال ويزعم أنك قابل الدية من ماله، ألا تستحي وقد رأيت الثأر بعينك؟! وحرضه، فقام عامر وهو رجل أخرق مفحش قليل الحياء فكشف عن سوءته وحثا عليها التراب ثم صرخ: وا عمراه! وا عمراه! فثارت النفوس وبدأت المعركة.
لقد كان في قريش أبطال يبرون بأقسامهم فيا ليتهم عقلوا الحق واتبعوه، ومن هؤلاء الأسود بن عبد الله المخزومي، كان شرسا سيئ الخلق شديد العداوة للرسول، أخذته الحماسة عندما رأى عامر بن الحضرمي يسد فوهة بدنه بالتراب فأقسم أن يشرب من حوض المسلمين أو يهدمه أو يموت دونه، فلما خرج برز إليه حمزة، فضربه حمزة فقطع قدمه بنصف ساقه فطارت وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما، فحبا إلى الحوض حتى شرب منه وهدمه برجله السليمة يريد أن يبر بيمينه، فأتبعه حمزة بسيفه حتى قتله، إنها لشجاعة معجبة وفروسية نادرة، كأنها ملحمة هوميرية أو فردوسية مما سجله بالشعر هومير في الإلياذة أو الفردوسي في الشاهنامة، وسوف نرى أن أبطال المسلمين في بدر أعظم من أبطال طروادة في اليونان وفارس، ورأى النبي إحكام الماء وسده على المشركين وسيطرة المؤمنين عليه برأي الحباب، فأشفق لما رأى حكيم بن حزام في نفر يردون الماء؛ فنهى الرسول عن منعهم، فما شرب منه رجل إلا قتل مشركا إلا حكيم بن حزام فإنه لم يقتل ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وإن كان لقي يوم بدر من الضيق والضنك ما جعله بقية حياته إذا اجتهد في قسمه يقول: «لا والذي نجاني ببدر» فكأنه كان يائسا من النجاة!
ولا نعلل نكوص أبي جهل عن نية الاكتفاء بالاحتفال دون القتال إلا بحسده عتبة على فصاحته وخطبته وميل قريش إليه وركونهم إلى السلامة، وهذا التدابر بين الزعماء أصل البلاء في كل مجتمع، وإن صبر عليه في السلم فلا يصح أن يصبر عليه في الحرب.
ولكنك أيها القارئ ترى كيف كانت عناصر النصر تتجمع للمسلمين وعناصر الهزيمة والخيبة تتجمع لقريش بفعلهم.
رأت قريش رسول الله يصف أصحابه ويعدلهم كأنما يقوم بهم القدح ومعه يومئذ قدح يشير به إلى هذا: تقدم، وإلى هذا: تأخر، حتى استووا، وهذا يريك أنه لم يركن إلى العريش طول وقته ولم يستخف ولم يعمل على نجاة نفسه أو صيانتها من أخطار الحرب.
وعليك أن تذكر موقعة الفجار منذ سبع وثلاثين سنة؛ إذ كان يعين عشيرته بإعداد السهام لهم.
نشبت الحرب وكان عتبة بن ربيعة صاحب أكبر رأس في قريش، فالتمس بيضة (خوذة)؛ ليدخل فيها رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعها فتعمم ببرد له ولم يجعل تحت لحيته من العمامة شيئا وخرج بين أخيه شيبة وابنه الوليد يستعدون للمبارزة.
وجاء عمير بن وهب فناوش المسلمين فثبتوا ولم يزاولوا صفهم، وشد عليهم كاشف سوءته عامر بن الحضرمي حتى قتله مهجع مولى عمر بن الخطاب، فتقدمت أسرة عتبة ودعوا المسلمين للبراز وقالوا: يا محمد، أخرج إلينا الأكفاء من قومنا. فقال لعشيرته: يا بني هاشم، قوموا قاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله، فقام حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث؛ فقتل علي الوليد بن عتبة وقتل حمزة عتبة بن ربيعة نفسه صاحب الجمل الأحمر، وهجم شيبة وهو موتور في أخيه وابن أخيه فقطع رجل عبيدة وهو أسن أصحاب الرسول فكر حمزة وعلي على شيبة فقتلاه:
فعدا حماز على العدو بطعنة
يبغي انتقاما واري الأحقاد
ولجت بأعلى ثديه في صدره
وقفت على رئة بنصل بادي
فدنا وأخرجها وسل حسامه
وبجوفه واراه غير مماد
نال المراد بسلب نور حياته
وبكسب سلب لم يفز بمراد
وعليهما تنهال من قوميهما
أجساد قتلى باشتباك أعادي
ورأى الحراب نوافذا وخوارقا
ورأى السهام غواديا وصوادي
والهول شدد والتفنن محكم
لا تعتريه لومة النقاد
وكسا أديم الأرض تيار الدما
وعديد قتلاهم بلا تعداد
كان عبيدة بن الحارث ابن عبد المطلب فحمله حمزة وعلي أولاد عمه إلى أصحابه فأضجعوه إلى جانب موقف الرسول، فأفرشه قدمه فوضع عبيدة خده عليها، وقال له: أشهد أنك شهيد. وتوفي بالصفراء ودفن بها عند عودة المسلمين إلى المدينة.
ونزل قرآن في علي وحمزة:
هذان خصمان اختصموا في ربهم .
وبعد هذه المنازلة المزدوجة تزاحم الجند ودنا بعضهم من بعض، وأخذ الرسول يعدل الصفوف وفي يده قدح؛ أي سهم لا نصل له ولا ريش أشبه شيء بعصا المشير الأعلى، ثم قال: إن دنا القوم منكم فانضحوهم عنكم بالنبل واستبقوا نبلكم - أي احرصوا على ذخيرتكم - ولا تصوبوا إلا عن قرب ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. وكرر خطبته الأولى، ثم رجع الرسول إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر وسعد بن معاذ على بابه متوشح بسيفه مع نفر من الأنصار.
والآن اشتد بأس المعركة ودنا وقت البطشة الكبرى؛ يوم نبطش البطشة الكبرى، عذاب يوم عقيم، وسيهزم الجمع ويولون الدبر:
عناجيج تخب على رحاها
تثير النقع بالموت الزؤام
إلى خيل مسومة عليها
حماة الروع في رهج القتام
عليها كل جبار عنيد
إلى سرب الدماء تراه ظامي
بأيديهم مهندة وسمر
كأن ظباتها شعل الضرام
فجاءوا عارضا بردا وجئنا
حريقا في غريق ذي اضطرام
وأسكت كل صوت غير ضرب
وعترسة ومرمي ورام
كان يوم الموقعة يوم الجمعة 18 رمضان، ووادي بدر حيث دارت رحى الحرب يتسع في سفح سلسلة الجبال الغربية التي تحاذي شاطئ البحر الأحمر، وعندها تترك القوافل والسيارة القادمة من الشام طريق الساحل؛ لتتصل بالدروب الموصلة إلى مكة، وهي دروب ضيقة صعبة شديدة المراس على الراكب والراجل، وقد يسهل على المهاجم أن يبطش بمن يسلكها، ولو كان عدد المهاجمين أقل من المدافعين، فلو مر مار بهذا الوادي في هذا اليوم الضاحي (16 مارس سنة 624م) في الساعة العاشرة صباحا يوم صيام لا يصومه أحد، ويوم جمعة يجوز فيه تأخير صلاة الظهر إلى ما بعد المعركة، لو مر مار لسمع أصوات السلاح ولرأى مثار النقع، ولكنه لن يسمع صوت الناس ولن يرى إلا أطراف الأعلام وسواد الخوذات وحفيف السهام وهي تخترق الفضاء، ولو أنعم ذلك المار المستطلع النظر في المسلمين لرأى صفوفا متراصة تعودت النظام في صلاة الجماعة وورثت الثبات عن مران سابق واستمدت الشجاعة والإقدام من الإيمان بالله وطاعة الرسول، ألم يصفهم خبير قريش بأنهم سكوت كالخرس يتلمظون تلمظ الأفاعي؛ فقد كانوا يخضعون لإرادة واحدة وعاكفين على تنفيذ خطة واحدة؛ وهي الشهادة، أو الموت، ولا يبالي أحدهم بعد ذلك شيئا.
لقد كان الرسول في العريش مشرفا على الموقعة، ولكنه كان ينزل يتجول بين الصفوف يعدلها حينا بقدحه إن أعياه الكلام ويخطب حينا إن رآهم في حاجة إلى شد الأزر بالاتصال الروحي الذي تغذيه الكلمة، يقول الواصف: إنهم يتلمظون تلمظ الأفاعي. ونحن نقول: إنهم كانوا في حالة استهواء كالتنويم المغناطيسي، ولعل قدح الرسول فعل بهم فعل عصا موسى؛ فقد لمسهم به فشحنهم بتيار من القوة الروحية التي لا تقاوم؛ لن يفر منهم أحد ولن يتردد أحد ولن يعرض أحد نفسه للقتل دون أن يقتل أضعافا مضاعفة من أعدائه. إن حلقة الاتصال بينه وبينهم لم تنقطع طرفة عين، فكانوا إذا نظروا إليه وسمعوا صوته جنوا به حبا، وتفانوا في الله طاعة، وتنافسوا في الشجاعة والإقدام إرضاء لله ورسوله.
ألا تراهم كتلة واحدة وبنيانا مرصوصا يصدرون عن فكرة واحدة، ولو أن طبيبا فاحصا لمس أيديهم أو وضع أذنه على قلوبهم للمس نبضا واحدا وقلبا واحدا ينبض ويخفق بنبض الرسول وخفقان قلبه، أتراهم يخيبون أمام هذه القوى المبعثرة المتفككة المفحشة العضاضة المطيبة؟ قد كان في جيش قريش أفراد - لا ننازع - ذوو بأس وبطش وشدة وثبات، موروثة من الآباء والأجداد ومغروسة بفعل الخمر واللحم؛ ففيهم نشوة القتال وحافز الطعن والضرب والهجوم والكر والفر، ولكن لم يكن فيهم قائد، وكان خيرهم للقيادة عتبة بن ربيعة، ولكن أبا جهل (ابن الحنظلية) خذله وأنبه وسبه فأحقده عليه وعلى قومه، فلم ير الرجل إلا أن يبادر فيقدم نفسه وولده وأخاه ليقتلوا فيخلصوا من تهمة الجبن التي ألصقها أبو جهل بزعيمهم صاحب أكبر رأس في قريش، وإلا فأي جيش لا يكون له قائد، وأي قائد يعرض نفسه في أول المعركة فيذبح ذبح الشاة مستسلما، وأي استسلام أكبر من تعريض رأسه للضرب والشج من تحت البرد الذي اعتم به؟! ألم تر النبي الذي لم يتعود القيادة يبني عريشا بأعلى التل؛ ليشرف على المعركة ويجعل ببابه أحراسا أشداء وقد أعدوا الركائب لركوبه إذا اشتد الخطر، وهو إن عرض نفسه فإنما ليخطب أو ليضم الصفوف أو يواسي شيخا جريحا مشرفا على الموت وهو ابن عمه، فقسم الأعمال في معسكره، ولم يخلط بين الأمور، ولم يشترك في القتال بنفسه، وهذه وظيفة القائد مع حداثة عهده بالحروب، ودهاة قريش قد ألفوها ودرجوا عليها منذ القدم، وكانت قريش مستهترة مغرورة مغترة بقوتها منهوكة القوة من سهر الليل وربما شرب الخمر والمعانقة؛ لأن أبا جهل وجد مطيبا مزعفرا من آثار فرحه بنجاة العير واستعدادا للاحتفال بالأورجيا التي سوف يمجد فيها باخوس والزهرة، أما المسلمون فكانوا حفاة عراة جياعا يمجدون الله ويتمنون الموت؛ ليلحقوا بالجنة، أو النصر؛ ليفوزوا برضوان الله.
فأي قوة في قريش تقف حيالهم أو تصمد لهم، وأي غريب في نصرة بدر الكبرى؟!
حدث بعد بدر معارك لا تعد انتصرت فيها الفئة القليلة المنظمة المتحمسة على الفئة الكبيرة المفككة الفاترة، ومن أخصها بالذكر موقعة بلاسي (1757م) بعد بدر بألف ومائة وثلاث وثلاثين سنة، تمكن فيها موظف إنجليزي مدني بألفي جندي من سحق عشرات ألوف من جنود سراج الدولة سلطان بنجال في الهند، ولم يكن لديه إلا بضعة مدافع، ولكن خيانة جنود السلطان الهندي لعبت دورها في هلاك جيشه، حتى فر بعد هزيمته وأسر ومات صبرا في غابة بيد أحد رعاياه، وهذا الموظف الإنجليزي صار لورد كلايف وسلب مئات الألوف وقتل نفسه في الخمسين من عمره بعد أن أدمن التخدير بالأفيون، وموضع الموقعة نفسه قد طغى عليه نهر الكنج. ولا شأن لنا بهذه الموقعة التي أسست إمبراطورية بريطانيا في الهند، إلا من ناحية واحدة؛ وهي قلة القوة المنظمة، وكثرة القوة المفككة، نعم؛ إن الله أراد نصرة بدر، وأراد إظهار الدين بهذه المعجزة التامة، وأراد إحقاق الحق وإبطال الباطل وقطع دابر الكافرين، ووعد نبيه الفوز، وبر الله بوعده ووفى لعبده، فهي أهم من ألف بلاسي؛ لأن بلاسي وإن أذعنت الهند وأخضعتها، فإن بدرا أسست الإسلام. وقد أردت أن أكتم الجانب الروحي وأنحي المعجزة في تاريخ الحروب المحمدية على قدر طاقتي؛ لأن الجانب الظاهر فيه الكفاية من الإرهاص والإعجاز والإقناع لكل ذي عقل بغير حاجة إلى الإيمان المستور من أسرار الكون، ولا نزاع في أن الأنصار والمهاجرين حاربوا حرب فناء، أما صفوف قريش بعد مقتل عتبة وأخيه وولده، وأبي جهل وهو مثقل بنشوة الراح له أعين أسد وقلب ذئب وجسم عملاق وقد طمح إلى سيادة قريش بعد مصرع عتبة وأخيه شيبة (وهما اللذان بعثا إلى الرسول بعنقود العنب في صحن عن يد عداس في الطائف يوم عرض نفسه على ثقيف فنبذته) ولكنه تظاهر بالحزن عليهما وعلى الوليد ابن الأول منهما فقال كلاما فارغا سئمنا من تكراره يغيظ المسلمين وما يغيظ إلا نفسه: «لنا العزى ولا عزى لكم.»
ونترك أبا جهل يترنح في حب ليلاه وعزاه ونتجه إلى الميدان؛ فقد أصاخ الأنصار والمهاجرون سكوتا؛ حرمة لله، وتهيبا للرسول، وأعملوا السيوف والرماح، وصارت قريش يرثى لحالها وهي تباد تحت التروس.
لأن أعاديهم وإن قل عددهم كانوا:
يحرقهم داعي الضرورة للوغى
لتحفظ أعراض وتسلم ولدهم
ففتحت الأبواب واقتحموا الوغى
مشاة وفرسانا يروع وفدهم
ولما تدانوا والنفوس سواخط
تدفقت الأجناد تصلي تسعرا
طعان تلاقت في صدور تدججت
وقرع به سود اليلامق ضرجت
وزفرة مقتول ونصرة قاتل
وسيل دماء فوق أرض ترجرجت
فزال ضحى الأقداس والنقع فائر
بحرب على القومين نارا تأججت
وعند انتصاف الشمس في كبد السما
لقسطاسه التبري قام محررا
وألقى به قدمين للموت والشقا
لكل من القومين سهما محققا
فسهم بني الإلحاد مال إلى الثرى
وسهم بني الإسلام للجو حلقا
فأرعد من أطواد «عزى» هديده
وما بين دراع الأجاويد أبرقا
فهدتهم من شدة الهول رعدة
وأجدرهم بالبطش ولى وأدبرا
لجأ الرسول إلى العريش في حرارة المعركة واتجه إلى الله وأخذ يناجيه ويذكره وعده: اللهم أنشدك عهدك. وما الله بمن ينسى عهده أو يخلف وعده أو يقهر نبيه وعبده، ولكنها حركة اتصال ومظهر عبودية ودعاء وسنة للمضطر يطلب بها الاستجابة إذا دعا، وقد أدرك الرسول المبشر بالنصر المشدود الأزر بالملائكة أن هذه موقعة حاسمة، وليس الله بحاجة إلى الحث أو الإلحاح إلا إظهارا لتمام العبودية، ومن هذا القبيل نجواه في العريش: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم (أي المسلمون) لا تعبد في الأرض! اللهم لا تودع مني ولا تخذلني، أنشدك ما وعدتني.
كيف كان محمد يدعو ويستغيث والحرب دائرة الرحى، تخيله - عليه الصلاة والسلام - بقامته المديدة وقده الممشوق ورأسه الجميل وشعره المنسدل على كتفيه وعرقه المتدفق، وقد ارتفع جبينه وتجلت نظرته مصوبة إلى السماء مادا ذراعيه مستقبلا القبلة، يهتز ويرعد ويميل ويتقدم ويخرج الألفاظ متلاحقة بصوت أجش تنبعث منه الزفرات ويصحبه التهدج، ووراءه صحابته ينظرون إليه بقلوب واجفة وخواطر منشغلة وعواطف مشتعلة يخافون على نبيهم شدة انفعاله وخفقان قلبه، وقد سبق أن أعياه التعب في الصباح فأدركته غشية بعد خشية؛ إذ رأى لون الدماء وهي تجري وتسيل وهو الذي أنزل الله عليه
لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين
ألم يكن المهاجرون إخوة للقرشيين؟ ألم يقتلوهم وبسطوا أيديهم لقتل نبيهم في فراشه؟
ولكن رؤية الدماء تزعج خاطره الشريف وتقلق باله وتهز إحساسه المرهف، ألم تره يثني على عتبة؛ لأنه سعى بالخير على جمله الأحمر؛ ليفض النزاع، ويرجع الجند من حيث أتوا، ويسمح لحكيم بن حزام أن يرد الحوض ومن معه ليشربوا؛ لأن حكيما كان صاحب فكرة العودة، بثها في نفس عتبة فحملها ونفذها؟ لأجل هذا أغمي عليه في الصباح فظن خصومه من جهلاء هذا الزمان أنه خاف وتخلخل وضعف؛ لأن أمثال مرغليوث من القصابين والجزارين وقطاع الطريق الذين لا تروق لهم الحياة إلا بعدد من يقتلون، ويرون أن الانزعاج من رؤية الدم خور في العزيمة، ولا يرون فيه رقة في الطبع وأسى على الموتى من المؤمنين على الأقل، وكلما حمي وطيس المعركة ازداد رسول الله تعبدا وارتفع صوته بدعائه، واهتز جسمه الشريف من هول هذه الساعة وهو بين يدي ربه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأخذ أبو بكر رداءه ورده إلى منكبه ثم التزمه من ورائه يسنده وتجرأ عليه محبة منه وعطفا؛ فقد كاد هو الآخر يطير فؤاده شعاعا، وقال في صوت خافت: «يا نبي الله، كفاك تناشد ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، ولينصرنك، وليبيضن وجهك.»
قالها وقد شق عليه تعب النبي في إلحاحه بالدعاء وهو يعلم أن الله يحب الملحين في الدعاء؛ لأن الإلحاح علامة الثقة وانحصار الأمل فيه سبحانه، وكان أبو بكر رقيق القلب شديد الإشفاق على الرسول وإن كان كل منهما في مقام وحال خاص، فالرسول في مقام الخوف وخليله وصديقه في مقام الرجاء، والمقامان لا يتفاوتان في الفضل، إلا أن النبي يرى هول الموقف ويعلم بعين اليقين خطورة التبعة وعظم العاقبة. وعج المسلمون بالدعاء فاستجاب لنبيهم ولهم وأمدهم:
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ،
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين .
نحن حيال نصوص صريحة في القرآن نصدقها ونؤمن بها سواء أكانت تؤخذ على ظاهرها أو لها معنى روحاني دقيق، ولا نلزم أحدا ممن لا يؤمنون بالتصديق، وإن دلت بحوث العلم الحديث على إمكان المدد بالملائكة؛ فقد تواترت أقوال المشاهدين في بعض مواقع الحرب الكبرى الأولى بظهور أرواح وملائكة وقديسين!
ومع ذلك فليس في القرآن ما يشعر بأن الملائكة حاربوا مع المسلمين فعلا ولكنهم جاءوا لينقلوا البشرى وليثبتوا أقدام المؤمنين:
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان .
وهناك آية تنقل العمل كله في بدر إلى الله وتنسب إليه الضرب والحرب والقتال والنصر:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم .
أما عن الملائكة في شهادة الذين قالوا إنهم رأوهم؛ فقد جاء في طبقات ابن سعد: وكانت سيماء الملائكة عمائهم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر من نور، والصوف في نواصي خيلهم، فقال رسول الله لأصحابه: إن الملائكة قد سومت فسوموا. فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم، وكانت الملائكة يوم بدر على خيل بلق (ص55، ج2، الطبقات الكبرى).
وروى حكيم بن حزام أن يوم بدر وقع نمل من السماء قد سد الأفق، وقال جبير بن مطعم: رأيت مثل البجاد الأسود مبثوثا حتى امتلأ الوادي. فالنصوص صريحة في المعونة الإلهية، وإنها والله لواجبة؛ فكيف لا يمد الله هؤلاء المؤمنين المجاهدين ولو بما يخرق العادات وكلهم وهب روحه لله وفي سبيله فسافروا وجاهدوا وتعبوا وقاتلوا، وإنك لو قاتلت عن فكرة حزبية أو رأي لعظيم لبذل لك ما في وسعه من تعضيد ومدد، والله الخالق أكرم من كل مخلوق.
ولكن أحدا من المشركين لم ير الملائكة وإلا لآمنوا، ولكنهم فروا وولوا الأدبار على قوتهم ومع أنهم لم يخسروا إلا سبعين قتيلا وسبعين أسيرا، ولا يعقل أن جيشا يفقد سبعه أو ثمنه ثم لا تصمد بقيته، على ما كانت عليه قريش من القوة والاستعداد. •••
نترك الرسول في مناجاته وننتقل إلى معسكر قريش فما يزال أبو جهل يتبختر ويصول ويجول يظن نفسه منفردا بالقيادة؛ فقد خطب يقول: يا معشر قريش لا يهمنكم خذلان سراقة؛ فإنه كان على ميعاد من محمد! ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة والوليد فإنهم قد عجلوا، واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالحبال، فلا تقتلوهم بل خذوهم باليد!
وفي تلك اللحظة خفق رسول الله خفقة ومالت رأسه للنعاس فأخذته سنة من النوم ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله. ثم خرج الرسول من العريش إلى الجيش فحرضهم وقال: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.
وقد تجلت في يوم بدر للمؤمنين بطولة لا تجاريها بطولة كالتي أظهرها عمير بن الحمام الذي قال وهو يهجم:
ركضنا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة لنفاد
غير التقى والبر والرشاد
وآخر نزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل، وأخذ رسول الله حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال: شاهت الوجوه. كما فعل في المتربصين به يوم هجرته من مكة، ولعل الرسول قاتل بشخصه مع أبي بكر كما قاتل في أحد، ولكن الروايات الواردة في هذا لم تقنعني وأعتقد أنه لم يأخذ من القتال بنصيب، بل قنع بالقيادة والتحريض والوعد والوعيد والدعاء والمناجاة، ولعله أثناء لحظة النوم رأى علامة النصر واضحة في عالم الغيب والشهادة؛ ليطمئن قلبه، فكل نبي وسيط عظيم، وليس كل وسيط نبيا، ومما يؤيد عندي أنه لم يقاتل كونه لم يجرح ولم يجرح أحدا، فإن القتلى والجرحى معروفون والضاربون والجارحون معروفون، ولم يقتل الرسول أحدا بيده إلا أبي بن خلف في أحد. والذي ثبت أنه بعد حصب الحصباء رعب القوم وأركنوا إلى الفرار، فكان النبي في أثرهم يتلو قوله سبحانه:
سيهزم الجمع ويولون الدبر .
وهي نزلت في مكة ونفذ حكمها في بدر.
إن موقعة بدر من أعظم مواقع التاريخ، ونحن نؤمن بالجزء المستور الخاص بالملائكة ورضى الله عن نبيه وعن المهاجرين والأنصار، ولا نقلل من شأن هذا الجزء، ونعتبره فصلا متمما لهذه الملحمة الكبرى التي لم يتناولها شاعر نابغ أمثال المتنبي وأبي تمام والبحتري الذين حصروا همهم في المديح للحصول على الأصفر الرنان وألهوا الأمراء والملوك الممدوحين، وقد تغير رأينا في رجال أمثال أبي الطيب؛ لقرب عهده بتاريخ الإسلام الأول، فهل كان سيف الدولة هذا أو فاتك أو حتى ذلك الأسود إخشيد وغيرهم ممن قدح المتنبي زناد فكره لمديحهم أعظم من أبي بكر وحمزة وعلي والمقداد وعشرات الأبطال من أهل الصدر الأول؟! كيف لم تشعل تلك المناظر التي كانت موصوفة وصفا كافيا في الكتب وعلى ألسنة التابعين وتابعيهم أخيلة هؤلاء الفحول؟! أكان علوج الروم و«جدعان» الفرس أقوى أثرا في أذهان هومير والفردوسي من أبطال بدر في أذهان شعرائنا؟! وا أسفا!
أبعث على سنان هذا القلم العاجز على مدى ألف وأربعماية عام أسمى التحيات وأعطرها وأسنى التسليم والتقدير إلى مقام محمد النبي الكريم بطل هذا اليوم العظيم، وأنحني حيال شخصه المقدس، وأنادي بطل الأبطال في كل زمان ومكان لا في كوكبنا الأرضي وحسب بل في سائر الأكوان. •••
يا لها من ساعة رهيبة جميلة تلك التي شاهت فيها الوجوه واضطربت أذهان المشركين وتبلبلت ألسنتهم وتغلغل المؤمنون في صفوفهم وأثخنوهم طعنا وضربا في أعناقهم وأقفيتهم وخرقا في صدورهم وظهورهم وتقطيعا في أيديهم وبنانهم وسوقهم وأقدامهم، يا لها من ساعة رهيبة جليلة تلك التي مكن الله فيها لمحمد وأبي بكر وعمر وعلي وحمزة من خصومهم فشفوا الغليل وأخذوا بالثأر وسقوا السيوف والرماح من دمائهم حتى رووها من دمائهم التي جرت خمرا ورجسا وفسقا وظلما وعنجهية وغرورا، فهذه أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك؛ فكان الإثخان في القتل أحب إلينا حتى بعد أربعة عشر قرنا من استبقاء رجل واحد أو الطمع في اتخاذه أسيرا.
أما أبو جهل فلم يهرب ولم يدبر، فما كان لهذا الفخور المغرور أن يولي أعداءه ظهره، وكان عملاقا قويا عريض الأكتاف كبير الهام، فلما اشتد الطعن والضرب أحاط به رهط من قومه كما كانوا يحيطون به في ساحة المنزل بمكة، يريدون أن ينقذوه من القتل ولو ذبحوا في سبيله وهم ينادون: «أبو الحكم لا يخلص إليه.» فسمعها معاذ بن عمرو بن الجموح فعمد نحوه وحمل عليه فضربه ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه؛ لأن الدروع لا تترك غير هذا النصف الأسفل معرضا للضرب، فطاحت كالنواة من تحت مرضخة النوى، فدنا ولد أبي جهل وهو عكرمة للدفاع عن أبيه - وقد أسلم عكرمة بعد ذلك - يضرب معاذا على عاتقه، فقطع يده ولم يفصلها فتعلقت بجلدة من جسمه، اسمع الآن إلى هذا الوصف المخيف المرعب الذي تقشعر منه أبدان الضعفاء وأهل اللين والنعومة؛ إن معاذ بن عمرو بن الجموح قاتل طول يومه بيد واحدة، ويده المقطوعة معلقة بجلدة وهو يشعر بها وراء ظهره، فلما آذته وضايقته وكادت تعوقه وتعطله وضع عليها قدمه ثم تمطى عليها حتى فصلها عن جسمها! كان أبو جهل قد سقط على الأرض وما زال به رمق فمر به معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وما يزال به رمق حتى وصل إليه عبد الله بن مسعود فوضع رجله على عنق «فرعون مكة» ثم قال له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟
فأجاب أبو جهل: وبم أخزاني؟! أعار على رجل قتلتموه؟! لو أن غير فلاح قتلني لكان خيرا لي! يقصد إلى معاذ بن عمرو؛ لأنه من الأنصار، والأنصار في اعتبار أهل مكة مزارعون، ثم نظر إلى عبد الله بن مسعود وكان أصغر الصحابة قامة وأصغرهم جسما وقد وضع قدمه على رقبة أبي جهل.
وقال له أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا! أخبرني لمن النصر والظفر اليوم؟ فأجابه ابن مسعود ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا؛ لأن ابن مسعود كان بحجم الأنملة بالنسبة إلى الرجل الضخم المعفر في التراب الذي ذهب طيبه ونزف دمه وما يزال عقله حاضرا وبديهته متحفزة، فبصق أبو جهل في وجه ابن مسعود وقال له: خذ سيفي فاحتز به رأسي من عرشي؛ ليكون أنهى للرقبة. والعرش أو التاج عرق في أصل العنق، فهو يشترك في الإجهاز على نفسه بإحكام الضرب في المكان الذي يقضي عليه، ففعل ابن مسعود ما أمر به أبو جهل وهو أول من أشرف على هلاك نفسه بعد أن أنب من عجز عن القضاء عليها، وحمل ابن مسعود الرأس وهو ينوء بحملها حتى أتى بها بين يدي رسول الله وقال له: هذا رأس أبي جهل. فقال: الله الذي لا إله غيره. ثلاثا، وسجد الرسول خمس سجدات شكرا.
ثم قام يمشي مع ابن مسعود الذي كأنه يحمل عن الأرض من شدة الفرح حتى وقف على جثة أبي جهل فخاطبه الرسول بقوله: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله. وأهدى سيفه إلى ابن مسعود، وكان كالسيف الروماني؛ قصيرا عريضا فيه قبائع وحلق فضة، وتذكر النبي أنه أخذ يوما بمجامع ثوب أبي جهل وقال له: أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى. فأجابه أبو جهل: ما تستطيع أنت ولا ربك بي شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها.
فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى .
هذا هو أبو جهل وهذه خاتمة أبي جهل، فلا تمكن من ربط محمد بالحبال، ولا سوق أصحابه إلى مكة، ولا من الاحتفال بالخمر والزمر على ماء بدر، ولم يمض عليه نهار بأكمله وذهبت أحلامه أدراج الرياح وطاحت بوعيده يد الأقدار التي خطت مضجعه بالقليب وجعلت آخر زاده ذلك الجزور الذي نحر عشية 17 رمضان وآخر طيبه ما تعطر به فرحا بنجاة العير، فما كان أخزى نهايته؛ وقد فر عنه ولده عكرمة، وجندله حدث أو حدثان من فتية الأنصار، وأجهز عليه رويعي من أهل مكة لو رآه حيا لهام على وجهه فزعا من هول خلقته، ولو لمحه أبو جهل لجعله على كفه فما يبين! كذلك العملاق جوليفار يفحص كائنا من أرض لولبتان في أساطير الغربيين، ولكن الله جندله وقطع رجله فأثقله وستر عنقه بخوزته فما استطاع أحد قتله حتى أقبل هذا القزم الكريم خادم الرسول الأمين فحز رأسه حتى فصله ثم انحنى عليه فحمله فكان كالطفل يحمل قنبلة!
لقد حارب أبو جهل واثقا بملته حاسبا أنها خير من الدين الجديد، وقد أظهر جلدا وشجاعة وكفرانا بالجبن والضعف، وكان خيرا له لو أسلم كما أسلم ولده عكرمة، ولكن الله شاء:
وحول القتيل اصطدام عنيف
وعج مخيف وصل الشبا
فما كان مصيبة الشرك في أبي جهل! وما كان أعظم حزنهم عليه! وما تشتيت جيش أبرهة بطير أبابيل بأعظم من تشتيت جيش قريش هناك منذ مائة عام، قال عبد المطلب جد محمد لأبرهة: إن للبيت ربا يحميه! وهنا قال حفيده: إن للإسلام والمدينة والأنصار والمهاجرين ربا يحميهم، فما أصدق الشاعر حين يقول على لسان قريش:
ولسنا بأول من فاته
على رفقه بعض ما يطلب
وقد يدرك الأمر غير الكبير
وقد يصرع الحول القلب
ولكن لها آمر قادر
إذا حاول الأمر لا يغلب
فما كان الأنصار بكبراء في القرى ولا زعماء في المدن، ولكنهم جندلوا الكبراء والزعماء بقدرة الله وأمره، لقد ضحك أبو جهل على أمية بن خلف وهو يدعوه بسيد أهل الوادي؛ ليستدرجه حتى يخرج للقتال وقال له: اخرج يوما أو يومين فتتبعك الناس ثم تعود في خفاء، ولكن أمية الشيخ المتثاقل بلحمه وشحمه لم يرجع ولم يمكنه أحد من الرجوع، وكان على دعته ودقة فكره ونعومة أخلاقه قاسي القلب غير رحيم، فهو الذي كان يعذب بلالا في مكة ويذيقه الوبال ويقلبه على الجمر ويصلبه في وهج الشمس في أشد الأيام قيظا في بطحاء مكة، ومن عجب أن ترى أقسى الناس أكثرهم نعومة كالنساء وأعجبهم تفننا في التعذيب! أدركت الهزيمة أمية وولده عليا فثقل عن النهوض ولم يستطع الهرب ولم يتركه ابنه، فمر بهما عبد الرحمن بن عوف يحمل دروعا سلبها فقال له: هل لك في؛ فأنا خير لك من هذه الأدرع؛ أي يحرضه على أسره؛ ليجيره من القتل، فيفدي نفسه، ويدفع له ألوف الدراهم، فألقى عبد الرحمن بالدروع وأخذ بيد الوالد والولد، والشيخ يقول وقد توهم أنه نجا من الخطر: «ما رأيت كاليوم قط!» ثم قال لي: من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. أي شهد ببطولته، وخرج عبد الرحمن من معسكر قريش يمشي بأسيريه؛ إذ رآه بلال: رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا. فقال له عبد الرحمن: أتفعل ذلك بأسيري؟! قال: لا نجوت إن نجا. ثم رفع عقيرته وهو المؤذن المشهور: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فأحاطوا بهم، فسل رجل سيفه وضرب رجل ابنه، فوقع علي بن أمية وصاح أمية صيحة ما سمع أحد مثلها قط لا قبلها ولا بعدها، كفيل أو خنزير بري يصاب في مقتل، إنها صيحة تجمع الفجيعة في الولد وتحقق الهلاك لنفسه بعد أن ظن أنه آمن وبعد أن انصرف ذهنه للتندر والسؤال عن أبطال الموقعة، ولو ظن يوم يعذب بلالا أن بلالا ملاقيه في أحرج ساعة في حياته وحياة ولده لأعتقه وحمله على حمر النعم ورده إلى بلده في الحبشة معززا مكرما، هذه الصيحة نتخيلها فلا يسمعها المرء إلا مرة في حياته، لا يذيقها الله للأذن إلا مرة واحدة، حتى إنك لتعجب أن يقدر إنسان على إخراجها وأن يصبر آخر على سماعها، إنها الخوف، إنها صدى صوت الموت المؤكد، إنها الرعب انقلب صرخة تنطلق ولا حكم لصاحبها عليها، وكأنك سمعتها من قبل وتتوسل إلى الأقدار أن لا تذوقها مرتين، فضربوهما بأسيافهم فهبروهما أي خرطوهما تخريطا حتى تفتت بدنهما، فأضاع بلال أدرع عبد الرحمن وفجعه في أسيريه، وما دام الأسر مباحا والفداء مشروعا فما كان لبلال أن يصمم على قتل الرجلين ولا سيما أنهما في حمى صحابي جليل، وأن أمية لم يخرج إلى بدر إلا مكرها.
وفي الظن أنه لم يضرب أحدا وهو في مكة، وإن عذب بلالا فلم يقتله، ولكن حقد العبيد على السادة والسود على البيض قديم غير مقصور على جنس أو زمن، وها هو رسول الله يسأل عن بني هاشم وعن ابن البختري ويوصي بأن لا يقتلهم أحد وفيهم عمه العباس؛ لأنهم خرجوا مكرهين وإن كانوا مشركين، وحكم أمية بن خلف حكمهم، ولكن بلالا - رحمه الله - تعجل وتنمر وراجعته فورة الأحباش وحب الدماء، ونحن نعذره ولا نقره، ونكرر قول ابن عوف - رضي الله عنه: «يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.» ويزيد تبعة بلال في نظر التاريخ أنه قتل أسيرين، وهما منذ سلما نفسيهما وجبت لهما الصيانة، وقتلهما صبرا مستعينا برهط من الأنصار وبعد نهاية المعركة؛ لأن ابن عوف كان يجمع الأسلاب، وكل هذه مخالفة لقوانين الحرب، ولكن بلالا كان له دلال خاص؛ لأنه من أول من أسلموا من الرقيق، وكان الرسول يكثر من اصطحابه في الخلوات والنزهات يسير في أثر الرسول وأبي بكر. وهكذا رأينا نهاية أمية بن خلف الذي ارتفعت ستار هذه المأساة عليه في مكة وهو يجمره أبو جهل؛ تشبيها له بالنساء، وحطا من كرامته؛ ليقحمه في الحملة وهو لا يريدها، ثم أمر رسول الله بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم وأن يطرحوا في القليب إلا أمية بن خلف؛ فإنه انتفخ في درعه فملأه فحركوه فتقطعت أوصاله فطمروه بالتراب والحجارة.
وكان رجل من بني النجار قد حفر هذا القليب، وكانوا يجرون القتلى إلى القليب فلما ألقي بعتبة بن ربيعة تغير وجه ابنه أبو حذيفة وكان الرسول قد نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه.
وبعد ثلاثة أيام بلياليها أقامها المسلمون في بدر يجمعون الأسلاب ويستريحون ويدفنون موتاهم الأربعة عشر ويكدسون السبعين جثة من المشركين ويشدون وثاق السبعين أسيرا، أمر رسول الله براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وأتبعه أصحابه حتى أقام على شفة القليب وجعل ينادي القتلى بأسمائهم وأسماء آبائهم: هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا؛ فإني وجدت ما وعدني الله حقا؟ بئس عشيرة النبي كنتم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. فسأله عمر عن مخاطبة الأشباح بلا أرواح.
فقال له: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا.
وأكتفي بأن أقول هنا: إن العلم الحديث في الروحيات أقر النبي على قوله وأيد صحته، وكثير من علماء السلف الصالح على هذا العلم، كالبيهقي في حياة الأنبياء والشمس الرملي والجلال السيوطي ومؤلف الدر المنثور، دع عنك كثيرا من أقوال الرسول والصحابة كأنهم كانوا يقرءون في كتاب المستقبل الذي كشف عن حقائق الروح بعد وفاتهم بمئات السنين.
وأنكرت عائشة قوله: لقد سمعوا ما قلت. وقالت: إنما قال: لقد علموا أن الذي كنت أقول حق. محتجة بقوله تعالى:
إنك لا تسمع الموتى .
وبقوله:
وما أنت بمسمع من في القبور .
وإني أحترم رأي أم المؤمنين بعد نصوص القرآن، وإن كان لحفيد الحفدة أن ينطق بكلمة فلي أن أقول: إن الله في القرآن شبه الكفار والجاحدين والملحدين والمشركين الأحياء بالموتى في القبور في أنهم لا ينتفعون بالدعوة إلى الإسلام، ومن هذا القبيل:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
وإنما هي تهكم وتقريع؛ لأن المنادى في هذه الحال حي حقيقة ولكن لا فؤاد له يعي به ما يقال له.
وأرسل الرسول المبشرين إلى المدينة فذهبت عقول اليهود والمنافقين وكذبوهم وقالوا: لئن قتل هؤلاء الأشراف لبطن الأرض خير من ظهرها! فلم يمهلهم الله طويلا حتى شرفوا بطن الأرض باختيارهم. (3) الشخصيات المهمة في بدر والروح المعنوية
كان جيش المسلمين صغيرا قليل العدد، ولكنه كان حسن التنظيم ، وكان روحه المعنوي قويا لا بالنظر إلى حاجة المسلمين إلى الغنائم وشدة تعطشهم للنصر ليستجيب الله دعاء نبيهم الذي وصفهم إلى الله (وهو العزيز الحكيم) بالفقر والجوع والعري، بل لاعتقادهم أنهم على حق وأن قائدهم رجل عظيم جدا، مرسل من الله إلى العالمين؛ فلم يرهبوا الكثرة والغنى، ولم يهابوا القوة والعدد، ولم تكن عداوتهم لقريش هي الدافع الوحيد لاستقتالهم؛ فإن عددا كبيرا من جيش المسلمين يكاد يكون ثلاثة أرباع الجيش كان من الأنصار من الأوس والخزرج وهم أهل المدينة، ولم يكن بينهم وبين قريش قبل هذه الموقعة عداء شديد؛ لبعد الشقة بين البلدين، وتفاوت الطبقات، وقلة الاختلاط.
وقد بدا لنا أن نلقي شعاعا هاديا على بعض الشخصيات الممتازة من الفريقين؛ لما صار بعد ذلك من الشأن العظيم لأهل بدر، ولأن الله قضى على أئمة الشرك من قريش في موقعة واحدة لم تدم سوى ساعات معدودة كانوا مقبلين عليها وهم يحسبونها نزهة عسكرية فانقلبت فناء لرجالهم وخزيا لهم في العرب وترتب عليها أهم النتائج.
جعل رسول الله لجيشه ألوية كما رأى في حرب الفجار، ولم تجعل مكة لجيشها ألوية مع أنها عريقة في حروب الميدان وخبيرة بفنون الحرب، بل لم يجعلوا لهم قائدا في غيبة الداهية أبي سفيان الذي كان ناقما على الموقعة؛ بل إن الرجلين اللذين كانا يجمعان كلمتهم؛ وهما: أبو جهل، وعتبة اختلفا فيما بينهما على ما شرحناه، فكان هذا الخلاف أول أسباب الهزيمة.
جعل الرسول للمهاجرين لواء حمله مصعب بن عمير، وللخزرج لواء حمله الحباب بن المنذر، وللأوس لواء مع سعد بن معاذ، وجعل لكل منهم نداء أو شعارا، فكان شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله، وكان للجميع شعار جامع وهو: «يا منصور، أمت!»
فلما رأى المكيون نظام المسلمين جعلوا لأنفسهم ثلاثة ألوية؛ أحدها مع أبي عزيز بن عمير وهو شقيق مصعب، وآخر مع النضر بن الحارث، والثالث مع طلحة بن أبي طلحة، وكلهم من بني عبد الدار؛ لأنهم لم يأمنوا أحدا من بني هاشم الذين كانوا معهم وفي مقدمتهم العباس بن عبد المطلب.
مصعب بن عمير
كان مصعب بن عمير حامل أول الألوية الإسلامية ممن أسلموا في دار الأرقم، وكتم إسلامه؛ خوفا من أمه وقومه، فكان من أوائل المؤمنين الذين بكروا باعتناق الدين، فاستحق مجد الصحابة وكرامتها وفخرها، فرآه عثمان بن طلحة فوشى به لأمه وأهله فحبسوه في دارهم، وما زال محبوسا إلى أن هاجر إلى الحبشة، وعاد من الحبشة إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة بعد العقبة الأولى؛ ليعلم الأنصار القرآن ويصلي بهم، فكان مصعب أول مبشر في المدينة، فنزل على أسعد بن زرارة أحد نقباء الأنصار وكرامهم الذين مهدوا السبيل لهجرة الرسول وإقامته.
ومن حسنات مصعب أنه أول من جمع لصلاة الجمعة في المدينة، وأسلم على يده أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكفى بذلك فخرا وأثرا في الإسلام.
غير أن هذا القدر لا يكفي في التعريف بمصعب الذي حمل لواء الرسول في بدر ثم حمله في أحد واستشهد بها.
كان مصعب بن عمير من أجمل شبان مكة وأغناهم وأشرفهم، وكان أبواه من خاصة بني عبد الدار، وهم من الثراء في الذروة، وكان والداه يدللانه وينفقان عليه من المال والبذل والعناية ما جعله في عداد أمراء الأزياء والنعمة والرفاهية؛ كان أنعم غلام بمكة وأجوده حلة، بل كان يعتبر فتى مكة شبابا وجمالا وسيبا، وكان أبواه يحبانه حبا جما، وكانت أمه تكسوه أحن ما يكون من الثياب، وكان أفخر أهل مكة عطرا، وقد عرفه رسول الله قبل إسلامه فقال: «ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير.»
أترى إلى هذا الشاب المرفه؛ لقد عشق الدين الجديد فاعتنقه وأحب الرسول وصحابته فالتجأ إليهم في دار الأرقم، والإسلام إذ ذاك كما وصفنا «جمعية سرية»، فلما وشى به عثمان بن طلحة من عشيرته حقد عليه والداه وحبساه، وكان رسول الله حريصا عليه فدبر له طريق الهرب من حبس والديه، وأمره بالهجرة إلى الحبشة وهو شاب لم يبلغ الثلاثين من عمره لم يتعود الأسفار، وإن تعودها فلم يتعود شظف العيش في بلد بعيد غريب لا يعرف لغته ولا أهله، وليس لديه مال قليل أو كثير لخروجه على والديه وعلى أغنياء قريش الذين يمدون أمثاله في الضيق، فتحمل التكتم والإخفاء أولا، ثم الحبس، فالنفي والهجرة، ولم يضع وقته في الحبشة ولا بعد أن عاد منها إلى مكة، فتفقه في الدين وأتقن حفظ القرآن، حتى إن الرسول لم يجد رجلا أليق منه لزعامة الأنصار في الدين عندما طلبوا من الرسول في العقبة الأولى (وكان عددهم اثني عشر رجلا) أن يبعث معهم من يعلمهم دينهم؛ فقد كان مصعب - عليه رضوان الله - شجاعا وجيها جميلا سيدا كيسا مؤمنا ثبتا، فصحبه النجاح في رسالته بالمدينة، وكانت له زوجة رزق منها بنتا هي زينب بنت مصعب، ولكن قلبه وحبه وعقله لم تتجه نحو أسرته بقدر ما اتجهت نحو ربه ونبيه، فتعلق بربه ونبيه وقرآنه تعلقا شديدا وتفرغ لها، شأن الرجال الشرفاء إذا أخلصوا لشيء بالغوا في الإخلاص وعانوا وتعبوا، ولم يكن مصعب قبل الإسلام بذي تجارة أو غاية معينة في الحياة سوى أنه عين ابن أعيان وغني ابن أغنياء، فلما كشف الله له عن غايته جعل الدين الجديد مثله الأعلى بحق، فلم يتخذه تسلية أو ذريعة، ولم يكتف بأن يكون في الصفوف الثانوية بل جهد حتى صار في أول الصفوف، فلما أصاب البلاء المسلمين بمكة؛ وهو الاضطهاد والتعذيب، جهد مصعب في الإسلام جهدا شديدا حتى كان جلده يتحشف كما يتحشف جلد الحية، وحالة مصعب واحدة من حالات عديدة أصابت المسلمين في فترة البلاء قبل الهجرة، فانظر إلى تلك البشرة التي تعودت النعومة والطراوة والعطور والأطياب تتحشف كما يتحشف جلد الحية، كان مصعب عفيفا أبيا ولم يكن أحسن تجارة أو صناعة يمارسها في المدينة، فاستمرت حالته المادية في الهبوط.
روى علي بن أبي طالب: «إنا لجلوس مع رسول الله في المسجد (بالمدينة)؛ إذ طلع علينا مصعب بن عمير وما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه رسول الله بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو فيه.» لم يخف رسول الله عاطفته ولم يكتم عن أصحابه سر حزنه وبكائه، وهذا من أدلة صدقه وإخلاصه؛ لأنه يعلم أنه سبب فيما صار إليه مصعب، ولو لم يكن محمد على حق لخجل أن ينظر إلى مصعب ولم يجد مجالا للتعليق على حالته، ولكن محمدا مع شدة إشفاقه على مصعب وشدة حبه إياه كان يرى فيما وصلت إليه حالته المادية رفعة لقدره وتعظيما لشأنه؛ لأن الرسول نفسه كان في كثير من الأحوال يعاني بعض ما يعانيه مصعب؛ لأنه لم يكن من الزعماء الذين يسخرون الأفراد؛ ليجلبوا لأنفسهم الخير، ولم يكن ممن يتسلقون إلى المجد والشهرة والمال على كواهل أتباعهم ليرفسوهم بعد ذلك؛ بل كان كل سعيه إلى إيمانهم أولا ثم إلى رفعتهم في الدنيا والآخرة، فمنهم من مات أثناء الجهاد لم يأكل من أجره شيئا في الدنيا، ومنهم من أينعت له ثمرته فهو يهديها، فمسلك الرسول في قضية مصعب في المسجد ينطق على الحق والخير ويضيف إلى مجد الرسول وعظمته وصدق نبوته لمن يريد الدليل النفساني.
لم يضرب الرسول صفحا عن حالة مصعب ولم يدعه إلى الجلوس، بل جعله مثالا يحتذى وتعمق في أمره، فقال لأصحابه ومنهم علي بن أبي طالب الذي روى هذا الخبر: «كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووضعت بين يديه صفحة ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟» أي إنه جمع لهم نعيم الدنيا في الملبس والمطعم والمسكن، فقالوا : نحن يومئذ خير منا اليوم؛ (لأنهم كانوا يقاسون شظف العيش بنسبة مختلفة تتفاوت بقدر اجتهاد كل منهم وبقدر قسمته، وهم أبطال الساعة الأولى الذين حملوا العبء الأثقل): «نتفرغ للعبادة ونكفى المئونة.» أترى في هذا القول المنطقي روحا للثورة أو التململ أو الضجر أو الاحتجاج؟ لقد كانوا جميعا من أعزة مكة؛ أرزاقهم متيسرة، وحياتهم ناعمة آمنة، وها هو زعيمهم وبطل العالم يريهم بصيصا من نعمة الحياة، وهم يعتقدون أنه إذا دعا لهم استجاب له الله، ولكن كيف يجمعون بين نعمة الدنيا والآخرة في لحظة؟ وأي فضل لهم إذا لم يجاهدوا أنفسهم ويقبلوا حالتهم، وهي التربية العليا التي تصهرهم وتصقلهم وتعدهم للعظمة الحقة، فما كان من الرسول إلا أن علمهم وأرشدهم قائلا: «أنتم اليوم خير منكم يومئذ.» وإذن يكون مصعب بن عمير أرقاهم درجة وأرفعهم شأنا.
وشاءت الأقدار لمصعب أن يأخذ أجره في الآخرة كاملا.
كان مصعب في روحه من أرقى الأرواح، وحب النبي له عظيما، ولا شك عندنا في أن حادث المسجد كان قبل بدر، ولكن مصعبا الذي حمل لواء الرسول في بدر لم يكن نصيبه من الغنائم بحيث يغير أو يبدل من حالته التي أبكت محمدا؛ فقد حمل لواء الرسول في أحد؛ أي بعد بدر بعام واحد، فاستشهد في سفح هذا الجبل وهو لم يبلغ الأربعين من عمره، فلم يترك إلا ثوبا قصيرا؛ كان إذا غطوا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا به رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله: غطوا رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر، ثم وقف الرسول عليه وهو منجعف على وجهه وتلا الآية الشريفة:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .
ثم قال: «إن رسول الله يشهد عليكم أنكم شهداء عند الله يوم القيامة.»
وهكذا ختمت تلك الحياة المجيدة بآية من القرآن وشهادة من الرسول، ولم يكن مصعب قد بلغ الأربعين، صرف الخمس عشرة سنة الأخيرة منها في الهجرة والتفقه وتعليم الأنصار والجهاد حاملا لواء الرسول، وختمها بالشهادة الكبرى في أحد، فماذا يهم بعد ذلك تحشف جلده وبردته المرقوعة بفرو؟
الحباب بن المنذر
وكان حامل لواء الخزرج الحباب بن المنذر الأنصاري الخزرجي وكانت سنه في بدر ثلاثا وثلاثين سنة، وكان يسمى ذا الرأي؛ لأنه كان من أهل الذكاء والفطنة وأصالة الفكر، وهو الذي أشار على الرسول باجتياز ماء بدر؛ عملا بمكيدة الحرب، وقد أظهر شجاعة وإخلاصا بسؤال النبي: يا رسول الله، منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ وقد عاش الحباب وتوفي في خلافة عمر، وكان على شجاعته وفصاحته وذكائه من أخلص المؤمنين وأطوعهم، وقد ظهرت شجاعته الأديبة يوم سقيفة بني ساعدة عند بيعة أبي بكر يوم وفاة الرسول فقال: «أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؛ منا أمير ومنكم أمير.» أي من المهاجرين والأنصار، ولا شك أن الحباب كان من صفوة الصحابة ومن سادة الخزرج؛ ولذا تكلم بلسان قومه، ولعله كان يذكر خدمته للمسلمين يوم بدر بإبداء الرأي الذي وافق عليه الرسول، وقلده لواء قبيلته، ولكن أبا بكر وعمر رأيا في توزيع السلطة بين المهاجرين والأنصار في الساعة الأولى قد يؤدي إلى الانشقاق، رحم الله الحباب ورضي عنه؛ فقد كان في مقتبل عمره شجاعا فصيحا حصيفا واضح الفكر.
سعد بن معاذ
وكان لواء الأوس لسعد بن معاذ من كبشة بنت رافع، كان زعيم بني عبد الأشهل من الأوس، أسلم على يد مصعب بن عمير، والأشهل صنم كانت تعبده الجاهلية واتخذوه لقبا لعشيرتهم، ولم نعرف لهذا الصنم الذي ذكره صاحب «تاج العروس» مكانا ولا زمانا ولا عبادا معينين؛ فهو في فترة سابقة للتاريخ، وربما كان مقصورا على الخزرج؛ كان سعد رجلا كل رجل، لا يعرف المماحكة ولا المداجاة ولا المطاولة، فلما اقتنع بالإسلام اعتقد أيضا أن قومه أحق بأن يتبعوه؛ فقد فكر لهم واعتقد بالنيابة عنهم، والناس على دين ملوكهم وزعمائهم وسادتهم، فليس في حاجة إلى أن يتناول كل واحد منهم بالإقناع، فإن الأعمار لا تتسع لهذا الجدل والأخذ والعطاء؛ فقال لبني عبد الأشهل: «كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تسلموا!» فأسلموا، وشهد بدرا وأحدا والخندق.
رأته عائشة في الخندق عليه درع له مقلصة قد خرجت منها ذراعه وفي يده حربة وهو يقول:
لبث قليلا يلحق الهيجا جمل
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
وهو الذي كلمه الرسول في بني قريظة، وهو صاحب الخطبة الرنانة التي عجلت باقتناع الأنصار بخوض غمار المعركة، قتل في الخندق بسهم قطع أكحله؛ لأن درعه كانت مقلصة، وودت عائشة لو أنها أسبغ، وحثته أمه على الإسراع إلى الوغى قائلة: «الحق يا بني؛ قد والله أخرت.» ولما حضرته الوفاة بعد حكمه في بني قريظة اختلط بكاء أبي بكر بنواح عمر، ولما انفجر دمه احتضنه رسول الله فسالت دماء سعد عليه فجاء أبو بكر وقال: وا انكسار ظهراه! فقال له النبي: «مه»، وقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون. فلما انصرف الرسول من جنازة سعد جعلت دموعه تحادر على لحيته ويده في لحيته، وندبته أمه كبشة التي كانت تستحثه على القتال فقالت:
ويل أم سعد سعدا
براعة ومجدا
ويل أم سعد سعدا
صرامة وجدا
فلما سمعها النبي قال: كل نادبة كاذبة إلا نادبة سعد. وكان سعد من أبطال الأنصار وأبطال الإسلام وأبطال المشاهد الكبرى، وكان شهما فصيحا كما وصفته أمه، وهو ممن لم يأكل من أجره شيئا في الدنيا كصديقه مصعب بن عمير، فلحق به وزاد أنه كانت له أم ثكلته وندبته، وكانت لها صحبة الرسول وصداقة عائشة، أما أم مصعب فقد حبسته بمكة وعذبته بعد أن دللته وأسعدته يافعا وشابا؛ ففرق الإسلام بين قلبها وقلبه لسعادة حظه وسوء حظها! رحم الله البطلين. (4) شهداء بدر
أما الذين استشهدوا في بدر من المسلمين فكانوا أربعة عشر رجلا، وهو جزء من عشرة من قتلى قريش وأسراهم، وهذه نسبة غريبة، فكلما فقد المسلمون رجلا ضاع على خصومهم عشرة؛ إما قتلى، وإما أسرى، وكان المهاجرون بنسبة ربع الأنصار فمات منهم ستة ومن الأنصار ثمانية؛ وهذا يدل على استبسال المهاجرين؛ لأنهم لو حاربوا بنسبة عددهم لمات منهم ثلاثة، وقد حفظ لنا التاريخ أسماءهم؛ وهم: عبيدة بن الحارث بن المطلب من بيت الرسول، عمير بن أبي وقاص، عاقل بن أبي البكير، مهجع مولى عمر بن الخطاب، صفوان بن بيضاء، سعد بن خيثمة، مبشر بن عبد المنذر، حارثة بن سراقة، عوف بن عفراء، معوذ بن عفراء، عمير بن الحمام، رافع بن المعلى، يزيد بن الحارث بن فسحم، حذافة بن أمية بن خلف. •••
أما المشركون فكانت مصيبتهم كبيرة؛ فقد فقدوا مائة وأربعين رجلا بين قتيل وأسير، فقضي على معظم أئمة الشرك ما عدا أبا سفيان الذي لم ينقذه من القتل إلا بلوغه مكة على رأس العير، فلم يدرك الجيش ولم يكن على رأي الحرب، وقد ترك الأمر لأبي جهل وأصحابه، فقتل: عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، وهما الأخوان اللذان اشتركا في اضطهاد الرسول في الطائف، وكان خادمهما عداس الذي عرف نبوة الرسول واعترف بها وقدم له وعاء فيه عنقود عنب، والوليد ابن عتبة بن ربيعة ثاني الأخوين والعاص بن سعيد بن العاص وأبو جهل بن هشام وأبو البختري (وكان رسول الله يود أن يعفو عنه لو وقع في الأسر؛ لأنه أجاره عند عودته من الطائف ولكنه مات في بدر ولم يسلم)، وحنظلة بن أبي سفيان بن حرب والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي وزمعة بن الأسود بن المطلب (والد سودة زوجة الرسول)، ونوفل ابن خويلد من زوجته العدوية والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط والعاص بن هاشم بن المغيرة خال عمر بن الخطاب وأمية بن خلف وولده علي بن أمية ومنبه بن الحجاج ومعبد بن وهب.
قتل منهم اثنان صبرا؛ وهما: النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط؛ مخالفة لقوانين الحرب، لأنهما كانا بين الأسرى ولم يذبحا في الموقعة، ولكن هذين الرجلين كانا من أقسى وأفظع وأغشم أعداء الإسلام؛ فقد نكلا بالرسول تنكيلا شديدا في مكة كما شرحنا في فترة البلاء الذي أصاب الرسول والمسلمين في البلد الحرام، فمنهما من شرع في قتله وهو يصلي، ومن ألقى عليه الأقذار وهو ساجد، ومنهما من بصق في وجهه، ومن كان يقلده ساخرا؛ ليضحك شرار قريش، ولم يكن فيهما خير يرجى ولا يؤمل، وقوانين الحرب الحديثة تبيح مثل هذا الفعل وتقره، أما ما زعمه بعض الرواة من أن الرسول أسف لقتل النضر بن الحارث بعد أن سمع عتاب أخته شعرا، وقال إنه لو سمع الشعر قبل مصرع الوغد النضر لعفا عنه! فلا نميل إلى تصديقه، وإن كان عليه صبغة من طباع الرسول؛ فقد طبع على الرحمة والشفقة والصفح الجميل، ولكن مقتل النضر وعقبة لم يكن نزوة ولا انتقاما، ولكن كان حكما عادلا؛ قد سبق للرسول أن استغاث الله من بعض أعدائه؛ عن عبد الله بن مسعود أن الرسول استقبل البيت فدعا على نفر من قريش سبعة فيهم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وعقبة بن أبي معيط (ولعل عبد الله نسي النضر بن الحارث؛ لأنه لم يذكر إلا خمسة من السبعة)، فأقسم بالله لقد رأيتهم صرعى على بدر قد غيرتهم الشمس، وكان يوما حارا.
ومن أمثلة التاريخ القديم والحديث التي ذكرها التاريخ قتل إسكندر الأكبر لأصدقائه؛ لأنه رأى منهم ميلا إلى الغدر، وقتل إيفان المهول ولده وولي عهده؛ لأنه ظن أنه يتآمر على قتله، وقضت الملكة إليزابث على مارية الإيقوسية؛ لأنها زاحمتها على الملك، وقتل لويس الحادي عشر دوق نيمور لسبب تفه ويتم أولاده وأشهدهم مصرع أبيهم، وأمر نابوليون بونابرت بخطف دوق وأنجال ابن برنس كونديه من أرض ألمانية وأمر بإعدامه في غابة فينسن سنة 1804 وقامت حول مقتله ضجة كبيرة، ولكن بونابرت عزا حكمه إلى أسباب سياسية عليا، ولو أننا فحصنا كل حادثة من هذه الحوادث على حدتها لا نجد واحدا من الذين قتلوا قد استحق القتل إلا لظنون حامت حوله أو شبهات كان يمكن أن تدرأ الحدود، فلم يتعد واحد منهم على شخص الملك ولم يقبض عليه متلبسا بجريمة الاغتيال أو التآمر أو حتى الاتفاق الجنائي الذي هو في نظر بعض رجال القانون الحديث «بدعة»، ولم يعلم عن الرسول أنه انتقم لنفسه من شخص حتى ولا من رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول الذي وصفنا أعماله في المدينة؛ فقد مات هذا الشرير على فراشه ودفن مكفنا في قميص الرسول؛ إكراما لولده الذي كان من خيرة الصحابة.
ولكن النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قد عملا فعلا على قتله؛ فقد وضع أحدهما قدمه على عنق الرسول وهو ساجد حتى كاد يزهق روحه لولا عناية الله، فلو اتبع الرسول فيهما معاملة الأسرى وقبل منهما الفداء وهو بضعة دراهم لعادا إلى مكة فرحين ظافرين، ولعادا إلى قتاله في أحد وفي الخندق، غير ما يفعلانه من حبك الدسائس والمكايد، خصوصا وأن أحدهما زعم أنه كالرسول وجمع حوله الأوغاد والأوشاب يحدثهم بأحاديث مفتعلة يزعم أنه يحاكي بها الرسول في تلاوة القرآن وذكر الحديث، وفي هذا من لاذع التهكم وقاذع السخرية ما يمس الدين في أساسه، فالأمر لا يحتاج إلى دفاع، وعمل الرسول ليس مفتقرا إلى تزكية أو تبرير، فهو عمل من أعمال الدولة كالحرب نفسها، وقد قام علي بن أبي طالب نفسه بقتل النضر بن الحارث، وحاشا لعلي أن يقتل رجلا صبرا لو لم يكن يستحق القتل؛ فإنه لم يلبث الرسول في طريق عودته أن بلغ الصفراء حتى مر بالأسرى، فرآه النضر وكان النضر نفسه يعلم أنه يستحق القتل فقال للأسير الذي بجانبه: «محمد والله قاتلي! فإنه نظر إلي بعينين فيهما الموت.» فقال له الأسير المجاور: «والله ما هذا منك إلا رعب.» يريد أن يطمئنه، ولعله لم يعلم كل ما فعله النضر، فاتصل النضر بمصعب بن عمير وهو يعلم مكانته عند الرسول فقال له: يا مصعب، أنت أقرب من هذا إلي رحما، فكلم صاحبك (أي الرسول) أن يجعلني كرجل من أصحابي الأسرى! هو والله قاتلي. فقال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيه كذا وكذا، وكنت تعذب أصحابه. وتوسط له المقداد لأنه أسره، كما توسط ابن عوف لأمية بن خلف وولده علي عند بلال وهو مؤذن الرسول فقتلهما بلال وهما أسيران، فقال المقداد: أسيري يا رسول الله. فشرح له الرسول بعض ما كان يعمله النضر ويقوله، فصدع المقداد بأمره وهو أحد أبطال بدر وفرسانها، بل فارسها المغوار الأوحد.
أما عقبة بن أبي معيط فقد هلك بعرق الظبية فقال للرسول: من للصبية يا محمد؟! فقال: النار! أي صبية أيها المجرم؟! هل لك صبية؟! وهل تلد الحية إلا حية؟! وهل يصح أن يكتفى بقتلك دون بقية عشيرتك وأهلك؟! وهل مثلك من يسترحم أو يستعطف؟! نعم، إن مثلك من يجبن ويضعف ويخر إلى الأذقان خوفا وخورا وحرصا على حياته؛ لخلوك من المروءة والشهامة والرحمة، ومثلك من يذل لخصمه ويبذل ماء وجهه لعله ينجو، ولكن مثلك لا يرثى له ولا يرثى لصبيته؛ فإنك لم تقدم إلا كل سوء في الفعل وفحشا في القول، ولم تكن بعد من الشرفاء ولا الأتقياء حتى في الضلالة؛ فلم تخلص للأصنام ولم تعرف بفضيلة ولم يؤثر عنك خير للأحياء أو الأموات؛ فقد كنت مأجورا وأمسيت عند الموت مذعورا، ولم يكن لديك عذر يبرر تهجمك، ولو تهجمت كان عليك أن تكون معتدلا لا رحيما؛ فإن الرحمة لا تلتمس من أمثالك. فلما أجابه الرسول بأن لأولاده النار كنصيبه، فلما يئس من استغاثة الرسول ظن أنه في حكم الجاهلية يستنجد قومه وهم أسرى فينجدوه، فلم يخجل أن نادى: يا معشر قريش، ما لي أقتل من بينكم صبرا؟! فقال له النبي: بكفرك وافترائك على رسول الله. فلم ينتهز هذه الفرصة؛ ليعلن إسلامه؛ لينجو من القتل، وكذلك النضر لم يسلم، فلو أسلم لنجا. ولم يكن لأخته أن ترثيه بمقطوعتها القافية التي مطلعها:
أمحمد ولأنت خير نجيبة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
كان عقبة يكثر مجالسة الرسول، فأدب مأدبة دعا الرسول إليها، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن خلف (قتل في أحد وهو أخو أمية بن خلف الذي قتله بلال في بدر بعد أسره على يد عبد الرحمن بن عوف) فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟! قال: ولكن محمدا أبى أن يأكل طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له الشهادة وليست في نفسي. وبذا يكون عقبة مرتدا؛ فقد أسلم أمام الرسول، وعقوبة المرتد القتل، فقال له أبي بن خلف يتهدده: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ عنقه وتلطم عينه ... إلخ.
فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل به ذلك، فقال له الرسول: لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف بكفرك وفجورك وعتوك على الله ورسوله. وقد أنزل الله فيه قرآنا:
ويوم يعض الظالم على يديه ...
الآية.
ولم يكن لعقبة أن يستنجد قريشا؛ لأنه كان يهوديا من أهل صفورية؛ لأن أمية جد أبيه وقع في الشام على يهودية متزوجة فولدت له أبا عمرو والد معيط على فراش زوجها اليهودي، فاستلحقه بحكم الجاهلية، ثم قدم به مكة وكناه بأبي عمرو وسماه ذكوان، وكان أمية جد أبي معيط أخفش أزرق ذميما يقوده عبده ذكوان وهو أعمى، فصلة معيط ببني أمية ثابتة، ومعظم أنسابهم مدخولة بالزنا، ولم يكف معاوية نفسه عن استلحاق زياد بن أبيه بوالده أبي سفيان وجعله أخاه؛ ليستعينه في محاربة بيت النبوة! والزرقاء جدتهم كانت من صواحب الرايات، ولهند قصة مشهورة قبل زواجها بأبي سفيان، فهذا الشخص الجبان الذليل المأجور كان دخيلا وكان سافلا وكان نذلا ومرتدا، وقد صلبوه على شجرة؛ لأن الصلب عادة يهودية، فعوقب بعقاب أهل أمه.
فهذان الشخصان قد أصاب الرسول في قتلهما كل الإصابة، ولو رأى أحد الصحابة غبارا على مصرعهما لتوسط لهما، ولكن الحق كان في جانب الرسول، فلا يعقل أنه ندم لسماعه شعر المرأة ولا انتقم لنفسه، ولم يكن مغيظا محنقا كما زعمت في شعرها؛ فقد كان أرفع وأسمى من أن يستمع إلى صوت الغيظ والحقد وهو إلى الرحمة أقرب. (5) وقع هزيمة بدر في مكة
بدأت مصائب مكة بحضور ضمضم الذي بعث به أبو سفيان إلى مكة مأجورا بمثاقيل فضة فشق ثوبه ونقل رحله وحثا التراب على رأسه وجدع أنف جمله وقطع أذنيه، وانتهت بوصول خبر الانكسار الشنيع الذي أصاب قريشا، فكان أول من قدم مكة بعد هزيمة بدر ابن عبد عمرو، فدخل المسجد وعدد أسماء من قتلوا من أشراف قريش، ولم يكن في مكة بريد منظم يحمل إليهم أنباء الموقعة، وهم الذين ألفوا الانتقال وحمل الأخبار وأحاطوا العير بالمخبرين والبصاصين والعيون والآذان وتكبدوا في سبيل ذلك ما تكبدوا، ولكن المال عندهم أغلى من الأرواح؛ فإنهم لما أحرزوا عيرهم لم يكترثوا لجيش الألف الذي غادر مكة منذ عشرة أيام، فلما سمع زعماء الكفر هذا النبأ لم يصدقوه وظنوا ابن عبد عمرو دسيسة، فقال صفوان بن أمية لأصحابه: لا يعقل هذا، فاختبروه بسؤاله عني. فقالوا: ما فعل صفوان؟ فأجاب ابن عبد عمرو: وهو ذاك الجالس بينكم، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
كان في مكة مسلمون أخفوا إسلامهم ولم يهاجروا، وكتموا دينهم؛ خوفا على أعمارهم وعلى أموالهم وأهليهم، وقد أدى بعضهم خدمة جلى للإسلام، ومنهم العباس بن عبد المطلب، وقد تمكن بكتمان إسلامه من تأدية واجبه نحو ابن أخيه وحل محل أبي طالب دون أن يعلم أحد بحقيقته، فلم يكن جاسوسا على قريش، ولكنه كان معينا لمحمد وعشيرته، وكان مركزه المالي ومكانته الاجتماعية تمنع قريشا أن يجبهوه أو يضطهدوه، وإن بسطوا ألسنتهم فيه أحيانا كما فعل أبو جهل في المسجد قبيل بدر، ولو أن العباس أعلن إسلامه لذهب ماله وجاهه وعجز عن خدمة المسلمين، وقد بلغت به المحافظة على الظواهر أنه خرج مع الجيش المكي، وكانت قريش تخشاه فراقبوه ومن معه من بني هاشم طوال الطريق وأثناء المعركة، فأخذ أسيرا ودفع الفداء وأطلق سراحه وعاد إلى مكة.
ومن هؤلاء المسلمين المتكتمين أبو رافع وهو الذي روى عن أبي سفيان بن الحارث أنه قال يصف موقعة بدر لأبي لهب: «لقينا القوم (أي المسلمين) فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا.» وقد حدث منظر طريف أثناء رواية الخبر ووصف المعركة؛ فقد كان المتكلم أبو سفيان بن الحارث وهو ممن شهدوا القتال وولى الأدبار وأسرع إلى مكة يروي الخبر، وكان المستمع اللئيم أبو لهب والشاهد أبو رافع مولى العباس، ويظهر أن أبا سفيان أعاد وصف المنظر الذي اعتقد الناس أنه ينطوي على معونة الملائكة لأهل بدر، فقال أبو رافع في ذهوله وهو فرح بانتصار المسلمين: «والله تلك الملائكة.» فحنق أبو لهب وكان شديد الحماقة ورفع يده فضرب وجه أبي رافع ضربة شديدة، ثم تواثبا فحمله أبو لهب وضرب به الأرض ثم برك على صدره يضربه، فقامت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب إلى عمود وضربته به ضربة في رأسه أثرت فيه شجة منكرة وقالت: استضعفته أن غاب سيده؟!
فقام أبو لهب موليا ذليلا كما ولى أبو جهل عندما شج حمزة رأسه في المسجد انتقاما للرسول، ويظهر على هذه القصة مسحة الصدق؛ لأنه وصف واقعي لمشاجرة عربية في مكة، فإن النساء كن يقمن مقام الرجال أحيانا في الأخذ بالثأر، وإحدى عمات الرسول قتلت يهوديا بعمود بعد أن جبن حسان بن ثابت عن ضربه دفاعا عن السيدات، وكن يشاركن الرجال في الحرب ويرقبن المعارك عن كثب، ومنهن من أصابتها جراح كثيرة في الدفاع عن الرسول في أحد، وما زالت لهن بقية من همة وعزيمة من آثار عهد الكفالة عندما كانت المرأة هي المتحكمة في الرجل، فلا نستبعد دفاع السيدة أم الفضل عن خادمها وخادم زوجها العباس، وأبو لهب أخو زوجها، ولعلها خبيرة بضعفه، ولم يجعل لها حرمة فاهتاج شهامتها وغضبها لزوجها ولنفسها، ولم نكن لنروي هذا الخبر بالتفصيل لو لم تكن عاقبته قاضية على أبي لهب؛ فقد مرض عقيبها ومات ببثرة خبيثة تشبه العدسة من جنس الطاعون، فخاف أولاده العدوى وتركوه ثلاثة أيام، ثم حفروا له ودفعوه بعود في حفيرته؛ فكان هو الآخر من قتلى بدر؛ لأن خبرها أهلكه، وكان لذكر الملائكة الفضل في القضاء عليه، وكانت عائشة إذا مرت بقبره غطت وجهها تشفق أن يقع نظرها عليه ؛ لأن النظر إلى قبره مدرجة للمعصية.
فلما تثبتت قريش من صحة الخبر ومن قتل سبعين وأسر أمثالهم وفي القتلى والأسرى فطاحلهم وفحولهم وسادتهم وقادتهم، نصبوا السرادقات وأقاموا المآتم الطويلة وناحوا عليهم وشقوا ثيابهم وجزت النساء شعورها، وناهيك بالحداد الوثني الذي ترى بعض آثاره في مصر الفرعونية إلى يومنا هذا، وكن يحضرن فرس القتيل أو راحلته وتستر بالستور وينحن حولها في موكب فيه النادبات والشواعر الملهمات بالشياطين، فيرتجلن الشعر فيه تعديد مناقب الهالك الأصيلة والكاذبة، وما زال الناس في عصرنا هذا يسوقون جواد الملك أو القائد في الجنازة؛ لأن الخيل وبعض الإبل والكلاب اشتهرت بالوفاء لأصحابها بعد موتهم، ثم يخرجن إلى الشوارع والأزقة يندبن «أبطال بدر» المقتولين، ولعلك تتخيل هندا وقد ماتت ثلة من ذويها لم تبرد نارها عليهم حتى أكلت من كبد حمزة الذي قتل بعضهم، فأشار بعض دهاة قريش بالكف عن هذا التمثيل؛ لئلا يشمت المسلمون بهم، وقد فقد الأسود بن زمعة بن عبد المطلب ولدين وحفيدا، وكان أعمى ويود لو يبكيهم بعد النهي عن البكاء خوف الشماتة، وكان هذا الرجل شديد السخرية من المسلمين، فكان إذا رأى الرسول وأصحابه يقول هازئا: «قد جاءكم ملك ملوك الأرض ومن يغلب على ملك كسرى وقيصر!» وهو لا يدري أن كهانته وإن كانت ساخرة قد تحققت بعد ذلك بعشرة أعوام، فيا ليته انتظر حتى يرى! ولكن العمي يسمعون بآذانهم وإن لم يروا بأعينهم.
وكان يسهر الليل؛ لثكله المثلث، فإذا سمع في جوف الليل باكية يقول لغلامه: «انظر هل أبيح النحيب؟ هل بكت قريش على قتلاها؛ لعلي أبكي؛ فإن جوفي قد احترق.» فعاد إليه الغلام بنبأ امرأة تبكي بعيرا ضالا فقال شعره المشهور:
أتبكي أن يضل لها بعير
ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر تفاخرت الجدود
ألا قد ساد بعدهمو رجال
ولولا يوم بدر لم يسودوا
وكان زمعة يشير معرضا بأبي سفيان؛ لأنه اعتقد أن الزعامة قد انحصرت فيه بعد قتل سادة قريش في بدر.
إن كتمان الحزن دليل على نية الانتقام، وهذه الأمة مشهورة بالثأر حتى أحفاد أحفادهم إلى الآن يخفون اسم القاتل وهم يعرفونه؛ ليثأروا بأنفسهم، ولا يبالون بقوانين الأمم المتمدنة، فيرضع الأحفاد والأبناء حب الانتقام مع اللبن ويجعلونه غاية حياتهم! وليس هذا مقصورا على العرب؛ فقد وصفه هومير وصفا بليغا في الإلياذة عند الثأر لأبطاله آخيل وفرطقل وغيرهما، ووصف شكسبير الثأر للوالد وصفا قويا في رواية همليت، فلا نعيب على العرب في الجاهلية والإسلام هذه الخلة وإن كان فيها خروج على القانون، ولكن نقرر أن طبيعة الإنسان لا تتغير بحكم الحضارة (انظر قصة اللغز القاسي تأليف بول بورجيه)؛ فإنه لا يوجد شيء في الحياة ألذ وأكرم من إهراق دماء من أهرق دماء الوالد، ولا معنى للبنوة ولا شرف إن لم يصحبها هذا الشوق للثأر، ولكن أهل مكة نسوا شيئا جوهريا؛ وهو أنهم هم المعتدون أولا وأخيرا، وأن الموتور هو محمد
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه الذين عذبوا وحبسوا وأخرجوا من ديارهم! فلو كانت قريش على حق لقلناه، ولكنها كانت في كل أدوارها وأطوارها ظالمة! أيمحون حسابهم في قتل من قتلوا وتعذيب من عذبوا ونفي من نفوا حتى إذا عرضت لهم حماية أموالهم وجردوا جيشا واستعدوا وساروا وجزروا ثم وافاهم بريد أبي سفيان بأن يكفوا أو يعودوا أدراجهم؛ حقنا للدماء، فلا يعيروه اهتماما ولا يستمعون إليه ويعزمون على العربدة والمفاخرة حول ماء بدر؛ لتهابهم العرب، فإذا فعلوا والتقى الجمعان وتحمسوا فأعطوا أقفيتهم ومنحوا رءوسهم الصلعاء للسيوف والرماح فهلكوا، عادوا يطلبون بالثأر؟!
لقد كتموا رغبة الثأر، ثم تواصلوا على أن لا يعجلوا في طلب فداء الأسرى؛ لئلا يتغالى محمد وأصحابه في الفداء، ولكن بعض أهل مكة لم يلتفت إلى نهيهم؛ لأنهم نزلوا إلى درك المساومة على حياة أقاربهم، وكان قيمة الفداء تتراوح بين ألف وأربعة آلاف، حسب مكان الأسير، أما أبو سفيان فما يزال التاجر الحريص على ماله ولو كان في حرصه ضياع ولده؛ فقد أسر ولده عمر وطلب إليه أن يفديه فقال: أيجمع علي دمي ومالي ؛ قتلوا حنظلة (شقيق حبيبة زوجة الرسول) وأفدي عمرا؟! دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم! وترقب أبو سفيان حتى تمكن من اعتقال سعد بن النعمان وقد وفد مكة معتمرا، فاستبقاه حتى استبدل ابنه به، وكان سعد أغلى؛ لأنه مسلم من الأنصار، أما ابن أبي سفيان فقد هلك مشركا.
وكان أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله وزوج ابنته زينب وابن خالتها هالة، زوجتها منه أمها خديجة أم المؤمنين في حياتها وبقي على شركه، وقد رزقت منه زينب بنت محمد بن عبد الله عليا الذي أردفه الرسول خلفه يوم فتح مكة، وأمامة التي كان يحملها الرسول أثناء الصلاة على عادته البر بأحفاده، وتزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة خالتها فاطمة، ثم المغيرة بن نوفل بعد وفاة علي بن أبي طالب، فبعثت زينب إلى أبيها في فداء زوجها أبي العاص قلادة كانت أمها خديجة أهدتها إليها ليلة زفافها، فلما رأى الرسول هذه الحلية تذكر زوجته الأولى وابنته فرق لها رقة شديدة، فطلب من الصحابة أن يطلقوا الأسير ويردوا القلادة إن شاءوا، فقالوا: نعم. وشرط الرسول عليه أن يعين زينب على السفر إلى المدينة فوعده خيرا، ولما بلغ أبو العاص بن الربيع مكة أمر زوجته زينب بنت الرسول باللحاق بأبيها بالمدينة (بعد بدر بشهرين) فتتبعها شرار قريش بذي طوى وتقدم مجرم منهم اسمه هبار بن الأسود ضرب الهودج ونخس البعير بالرمح فوقعت وألقت حملها، وهذا المجرم هبار يقول عنه المؤرخون: رضي الله عنه؛ لأنه أسلم بعد ذلك، رجل يعتدي على امرأة راكبة (دع عنك أنها بنت الرسول)؛ ليلقي بها ليلا فتجهض وتمرض حتى تموت، يقال رضي الله عنه؛ لأنه أسلم، وفي العالم مئات الملايين أسلمت ولا يلحق اسمهم بعبارة الرضا! وقد علم الرسول بهذه الحادثة وقال: زينب أفضل بناتي أصيبت بي (أي بسببي). غير أن الذي حدث بعد ذلك أعجب، فإن الرسول قال: إن لقيتم هبارا هذا فاحرقوه بالنار. والرسول يعرفه جيدا؛ لأنه من أحفاد قصي وقد وصل هذا الرجل القاتل إلى المدينة بعد أن ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، كما حدث لوحشي الذي اغتال حمزة مأجورا من هند، ودخل المسجد وسلم على الرسول وأسلم وقال: لقد هربت منك في البلاد فأردت اللحوق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك وصفحك عمن جهل عليك، فاصفح عني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي. فقال الرسول: قد عفوت عنك، والإسلام يجب ما قبله.
أقول: والله أنا مندهش من مكارم أخلاق هذا النبي الأعظم ؛ فقد تعادي لحبك إياه أعداءه بعد هلاكهم بألف وثلاثماية سنة، وتحقد عليهم كأنك تراهم وتود تلقاهم لتأخذ بثأره منهم، وما ترى من أفعالهم ولا تسمع من أقوالهم إلا ما تقرؤه في الورق، ثم تراه بعد ذلك يتلمس أوهى الأسباب للعفو عنهم، وما على الرجل منهم إلا أن يسلم ويعتذر ويندم ويعترف بذنبه بلباقة وفصاحة، كما فعل هذا الماكر هبار حتى يعطف عليه الرسول ويقول له: «قد أحسن الله إليك؛ حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما قبله.» حتى وحشي الذي قتل حمزة غيلة لم ينتقم منه، بل أمره بالانصراف من وجهه!
كان يجب علي أن لا أكون أكثر غيرة على الله ورسوله من الرسول نفسه، ولكن قلبي لم يهاودني قط؛ فالرسول من حقه أن يعفو عمن أساء إليه، ولكن أليس له محبون يتجاوز حبهم إياه قدرته على الصفح؟! أستغفر الله؛ فقد كان المثل الأعلى في كل شيء، وإنما لا يهون على النفس أن تترك أزكى نفس في العالم نهبا لمن ينال منها، ثم يعفو عنهم، والإسلام غني عن أمثالهم، وأيديهم ملطخة بدماء الأبرياء، فلا بد أن جرائم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط مما لا يقبل الصفح ولا سيما أنهما لم يسلما، فلو أسلما فلا بد أن يعفو عنهما؛ فقد كان إسلام الرجل أعظم في نظره من أي أذى يلحقه أو يلحق ذويه، ولذا كان على حق في قتلهما، لا لأنهما آذياه وأهاناه؛ بل لأنهما لم يؤمنا، وأحدهما مهرج، والآخر يهودي مأجور، وقد وجب علي أن أتبع السنة المحمدية فلا أسرف في نقد أعدائه الذين أسلموا بعد ذلك، وأن ألحق أسماءهم بدعوة الرضا الإلهي إذا كانوا من الصحابة، فإن وجد القارئ غير ذلك، فزلة سبق بها القلم، وحكمة من القضاء لم يلحقها الاستغفار والندم. وقد كانت لأبي سفيان يد في مؤامرة هبار، فإنه بعد سقوط زينب - رضي الله عنها - ظهر أبو سفيان وقال بمكر ودهاء لحارس الهودج الزينبي: ردها وسر بها سرا فألحقها بأبيها. فنزل الحارس على إرادته. وعلى كل حال فقد كان مسلك قريش مع بنت الرسول وهي سيدة حامل خارجة من وطنها؛ لتصل إلى أبيها مسلكا شائنا لا يجدر بشريف، وقد فعلوا من قبل مثله مع أم سلمة ففرقوا بينها وبين ولدها وزوجها وخلع أحدهم ذراع سلمة الصغير، ولكنهم لم يعتدوا عليها، وكان هذا قبل بدر.
وكان بين الأسرى سهيل بن عمرو العامري وكان من أشراف قريش وخطبائها المفوهين كالأسود بن عبد المطلب ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن الزبير وعتبة بن أبي سفيان، فاقترح عمر بن الخطاب نزع ثنيتي سهيل؛ ليبطل نطقه ويفسد بيانه فلا يخطب ضد النبي، فقال الرسول: لا أمثل به فيمثل الله تعالى بي وإن كنت نبيا، وقبل فيه الفداء، وقد وقف سهيل بن عمرو موقفا محمودا أيام الردة، ومن خطبته يومئذ في مكة: «والله إني أعلم هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها وغروبها (ما أقرب هذا إلى القول الحديث: دولة لا تغيب الشمس عن أراضيها!) فلا يغرنكم هذا من أنفسكم (يعني أبا سفيان)؛ فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربكم؛ فإن دين الله قائم وكلمته تامة وإن الله ناصر من نصره ومقو دينه.» ومعنى هذا أن سهيل بن عمرو أسلم بعد افتدائه وعودته إلى مكة وأقام بها إلى خلافة أبي بكر، فلما هم الناس بالردة بتحريض أبي سفيان واختفى عتاب بن أسيد أمير مكة؛ خوفا، وقف سهيل هذا الموقف، فحقق الله نظرة الرسول، فلم يحرم الرجل من منطقه وفصاحته، فخدم بهما دينه وأمته واندحر المحرضون على الردة بمكة، وكف الناس عما هموا به، وظهر الأمير بعد أن انحاز إليه الرأي العام.
وتآمر صفوان بن أمية (قبل أن يسلم رضي الله عنه) وعمير بن وهب - رضي الله عنه - (لأنه أسلم بعد ذلك) وهما جالسان في المسجد على قتل الرسول بسيف مسموم بعد بدر، وتعهد صفوان لعمير بسداد دينه ومراعاة عياله، وانطلق عمير - رضي الله عنه - إلى المدينة؛ ليقتل الرسول في مسجده بسيفه المسموم، فرآه عمر بن الخطاب متوشحا سيفه ينيخ راحلته على باب المسجد، فقال: هذا الكلب عدو الله ما جاء إلا بشر (هذه ألفاظ عمر). فدخل على رسول الله وأخبره، فأدخله آخذا بحمالة سيفه في عنقه، فقال الرسول: «أرسله يا عمر، ادن يا عمير.» فدنا ثم حياه بتحية الجاهلية: أنعموا صباحا. فقال له الرسول: ما جاء بك؟ قال: جئت لهذا الأسير ولدي وهب! قال الرسول: فما بال السيف؟! قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا؟! فكلمه الرسول بكلام لا يعلمه إلا هو وصفوان، فأسلم عمير بن وهب وأطلقوا له ولده فأسلم. وهذا حديث دعانا إليه أحد أسرى بدر؛ وهو وهب بن عمير حامل أحد ألوية قريش يوم بدر وهو ليس أخا لمصعب بن عمير حامل لواء المسلمين ببدر؛ فإن مصعب بن عمير كان له أخ هو أبو عزيز بن عمير كان من أسرى بدر، فلما رآه مصعب قال لآسره: شد يدك؛ فإن أمه (وهي أمهما) ذات متاع؛ لعلها تفديه منك!
وكان أبو الفضل العباس بن عبد المطلب عم الرسول بين الأسرى؛ فقد قدمنا أن بني هاشم لم يستطيعوا التخلف عن السير في جيش قريش وجعلوا لواءهم وهو راية العقاب خفاقا رغم إرادتهم؛ لأن منهم من كان يأبى الحرب، فكانوا مكرهين موروطين؛ لقلتهم في قريش وعداوة قريش لهم؛ لأن محمدا منهم، والذي أسر العباس أبو البشر كعب بن عمرو، فشد وثاقه حتى أن وسمع الرسول أنينه فأمر بتخفيف وثاق الأسرى جميعا؛ إكراما له، ولكنه لم يعفه من الفداء، فدفع عن نفسه وعن عقيل بن أبي طالب أخيه وكان من أراذل الناس في معاملة الرسول وقد اغتصب بيوته في مكة وصادر أمواله.
وعاد المؤرخون فقالوا: إن العباس احتج بإسلامه سرا وكتمانه خوفا من قريش كما رواه غلامه أو مولاه أبو رافع في عرض الشجار الذي انتهى بمرض أبي لهب وموته، فحدث ما يدل على أنه لم يسبق تفاهم بين الرسول وعمه العباس؛ ليكون عينه وأذنه في مكة، إنما كان العباس يدافع عنه بصلة الرحم وكرامة العشيرة؛ فقد علمنا أن أبا طالب عاش إلى السنة العاشرة من البعثة ولم يسلم، وكان أحق من العباس بالإسلام؛ لأنه كان ولي أمر الرسول وكفيله في صغره، وقاسى بسبيله ما قاسى وأنفق من ماله ما أنفق، فلا ندهش لبقاء العباس على ملة آبائه، ولا سيما أنه كان من أرباب الأموال ومن أهل الربا، وميله إلى الدنيا أشد، فهو يجاري قريشا على الأقل احتفاظا بثروته، وقد رأينا رجال المال في هذا العصر لا يدينون بدين ولا يضالعون مع حزب سياسي؛ خشية أن ينفروا الناس منهم، وهم لا يكتمون عقيدة؛ لأنه لا عقيدة لهم إلا عبادة المال! ولا ينتظر منهم أن يكونوا من رجال المبادئ، وهكذا كان العباس، فإذا احتج بين يدي الرسول عند طلب الجزية بأنه مسلم ويخفي إسلامه فإنما هو احتجاج ليتقي به الدفع، فقال له الرسول وهو حديث يقطع كل قول: «الله أعلم بما تقول، إن يك حقا فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا.» وتلا الآية الكريمة:
يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ، وكان العباس خرج من مكة يحمل عشرين أوقية من ذهب؛ ليطعم بها الجيش، فأخذت منه في الحرب، فلم يفته وهو المالي الكبير والمرابي الشهير أن يفرض طلب المقاصة لتحسب له الأوقيات العشرون من أصل مال الفداء، وهذا يدل على شدة تمسكه بالنقد ومكافحته للحظة الأخيرة في سبيل الاحتفاظ بالمال، ولكن الرسول كان بنور الله وشدة الذكاء أقدر منه وأكفأ وأقنع بالحجة وأنصع، فقال: أما شيء خرجت به تستعين علينا فلا نتركه لك. وقد صدق محمد؛ لأن العباس لم يدفعها لأحد معين، ولكنها أخذت في الغنائم والأسلاب وهي أصلا منقولة من مكة؛ لتقوية جيش مكة على جيش المسلمين، فكيف تعمل هذه الأوقيات أعمالا شتى ويصل صاحبها إلى غايات متعددة ويفيد بها فوائد كثيرة حتى يشركها في خلاصه من يد آسريه، ومما يؤيد عندنا أن العباس لم يسلم سرا ولا جهرا إلى أن وقع أسيرا في بدر أن وجوده بين الأسرى في المدينة أحدث ضجة هائلة، فلم يجد رجلا يعيره قميصا يلائم جسمه الضخم سوى عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، ولو كان الرجل مسلما حقا لأقبل عليه المهاجرون والأنصار يخلعون عليه ويطلقون سراحه ويفكون وثاقه، ولكننا نرى النقيض أن وثاقه قد شد حتى أن، وأن الأنصار عزموا على اغتياله، وأن الرسول شدد في طلب الفداء ودحض حجة العباس، وأن أعيان المهاجرين التفوا حوله؛ ليؤنبوه، وجاء علي يعيره بالكفر وقطيعة الرحم، فدافع العباس عن نفسه بتعمير المسجد والسهر على الكعبة ومنع التشبيب والهجر في المسجد وسقاية الحجيج إلخ، وكلها شعائر وثنية لم يزد العباس أو غيره عليها شيئا، وهي المظاهر التي جاء الإسلام لمحوها، فلا يجوز الاحتجاج بها على الإسلام نفسه، وأن القيام بها يعد محاسن تمحو سيئة البقاء على الشرك، فجاءت آية:
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله .
وآية:
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله .
ولا يظن عاقل أن العباس يكون مسلما في الباطن ثم تنزل فيه هذه الآيات ردا على حجته التي يتقي بها نقد المهاجرين والأنصار، والثابت أن هذا الرجل أعلن إسلامه يوم الفتح، والذي ينسب إليه من خدمة النبي سرا غير مقطوع به، ولعله دس بعد ذلك في كتب التاريخ في عهد الدولة العباسية، ولا أعلم مكان الرواية التي نسبت له استئذان الرسول في الهجرة إلى المدينة فأجابه كتابة: «يا عم، أقم مكانك الذي أنت فيه، وإن مقامك بمكة خير لك.» ولكننا دائما نراه ونسمعه يعتذر عن الإسلام ويحتج بديونه المتفرقة في قريش وخوفه إن أظهر إسلامه من ضياعها، فعقليته وتفكيره وإحساسه هي عقلية الرأسمالي وتفكيره وإحساسه، وعقيدته بعيدة عن الإسلام؛ فإن المسلم إذا آمن حقا لا يكترث للمال، أو يدبر أموره على مدى أشهر؛ ليستخلص نقوده.
وإن كان العباس أكثر مالا من أبي بكر وعمر وعثمان وابن عوف وابن معاذ وابن أبي وقاص ومصعب بن عمير وغيرهم فهو أقل فضيلة وشرفا وإخلاصا وتوكلا على الله، بل إن الله لم يرد على خاطره مطلقا؛ لأن حياته كانت تدور حول ماله وديونه وخوفه من الإفلاس، حتى إنه لما طلب إليه أن يدفع مائة أوقية لفدائه ومن معه من أهل بيته قال للنبي كذبا: «تركتني فقير قريش ما بقيت أسأل الناس في كفي.» وهذا كذب ولكنه ينطبق على عقلية الغني البخيل يتظاهر بالفقر ويستميت؛ لينجو من الدفع، ويزعم الفاقة غير حريص على كرامته؛ لأن الفقير الصادق لا يرضى بذل الاعتراف، ولكن الغني المخفي أمواله لا يكترث لهذه المهانة ويحسبها مهارة وحذقا، والحقيقة أن العباس قبل أن يغادر مكة استودع بنادق الذهب زوجته أم الفضل وقال لها: «إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت!» وقد دفنا مالهما معا، فنفسية العباس إلى أن أسر في بدر (رضي الله عنه؛ لأنه أسلم فيما بعد، والإسلام يجب ما قبله) كانت نفسية منحطة لاصقة بالتراب، حريصة كل الحرص على الذهب والفضة، مرتابة كل الريب في صدق وعود الله ورسوله، شاكة كل الشك في حسن الجزاء الذي ورد في القرآن في عشرات الآيات، وأقل ما يقال فيه: إنه كان ينافق لقريش ويحارب المسلمين في الظاهر؛ لينجو بجلده وماله، فلم يعلن إسلامه إلا بعد أن وثق من نجاح ابن أخيه، وقد كان سببا في إنقاذ أبي سفيان؛ فقد احتال حتى أدخله على الرسول وضمن العفو عنه، وكان خيرا للإسلام أن يذبح هذا الرجل؛ أبو سفيان (رضي الله عنه؛ لأنه أسلم فيما بعد والإسلام يجب ما قبله)، فإن هذه سنة الرسول، ولكن للتاريخ حكما آخر، ونحن نحاول تحليل هذه الشخصيات الأولى التي كافحها محمد حتى قهرها وغلبها، وقد لازم الحرص والشح روح العباس وعقله وقلبه حتى بعد إسلامه؛ فقد روى البخاري عن أنس؛ جاءه من خراج البحرين مائة ألف درهم فقال: انثروه في المسجد فكدسوه حتى يرى الرسول رأيه فيه، فخرج للصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جلس إلى المال فكان لا يرى أحدا إلا أعطاه، فجاء العباس وقال: «يا رسول الله، أعطني؛ إني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا.»
لم ينس الرجل حتى بعد إسلامه وبعد الفتح ومجيئه إلى المدينة واسترداده ديونه من أهل مكة أنه دفع مال الفداء؛ وهو أوقيات معدودة قاسى في سبيل التخلص من دفعها المر، فقال له الرسول: خذ. فحثا في ثوبه ثم شرع يحمله فلم يستطع، فقال للنبي: مر بعضهم يرفعه من الأرض إلى كتفي. قال محمد: لا. قال: فارفعه أنت علي! قال: لا. فارتبك الرجل؛ لأنه كان بين أمرين: إما يبقى كالجمل البارك تحت حمله، وإما يخف حمله، فنثر منه وما زال يفعل حتى بقي ما يقدر على حمله، فرفعه على كاهله وهو ينظر تحسرا وأسفا على ما لم يقدر على رفعه، ثم انطلق إلى أم الفضل وهو يقول: «إنما أخذت ما وعد الله، لقد أنجز!» فما زال رسول الله يتبعه ببصره؛ عجبا من حرصه، حتى خفي.
هذه درة من دراري الحديث في البخاري وأعجوبة من أعاجيب التاريخ الشخصي في ثنايا كتب السنة ودليل على دقة الملاحظة وقوة الذاكرة التي انفرد بها رواة الحديث الصادقين أمثال أنس بن مالك، سجلها البخاري، وهي حاسمة في أخلاق العباس.
لقد أفدى العباس نفسه في بدر وابن أخيه عقيلا بعد أن سال عرقه اجتهادا في التخلص وديست كرامته تحت مناسم التأنيب والتعيير، ثم تم الفتح وأسلم؛ كأحد وسطاء وول ستريت بنيويورك أو بوند ستريت في لندن، ولم ماله وانتقل إلى المدينة؛ لا حبا بالإسلام ولا بمحمد، ولكن لانتقال الحركة المالية ونشاط الأسواق فيها بعد أن صارت عاصمة الإسلام، وتوارت مكة إلى الصف الثاني، ولم تبق لها إلا كرامة المسجد والبيت الحرام، وأمثال هذا الرجل يشتمون ريحة المال وتصدق أحداسهم ويصح تخمينهم بالفطرة وطول الاختبار. فلما جاء المال من البحرين كان المنتظر أن يعطى لفقراء المهاجرين والأنصار الذين أبلوا بلاء حسنا في المغازي، والذين تركوا ذرية ضعافا أحق من العباس وأبي سفيان الذين كانوا أمراء بأرواح متسولين، وكانوا سائلين مستجدين في صورة سادة، واستغلوا إسلامهم؛ لأنهم علموا أن الرسول يسلك سبيل تأليف القلوب، فلم يتنحوا عن أموال المسلمين؛ بل كانوا أشد الناس جشعا وطمعا، وقد نال أبو سفيان من أسلاب حنين أضعاف ما يستحقه، وكان الرسول لا يمنع أحدا، ولكنه عامل العباس الذي لم ينس مال الفداء معاملة مدهشة؛ فأباح له أن يأخذ ما يطيق حمله وأبى أن يعينه أو يأمر أحدا بعونه، والعباس لا يظن إلا أن الله أنجز وعده، فأثنى عليه ثناء الدائن على المدين الأمين الذي يوفي ويدفع في الميعاد.
ألا تسمع لقوله: «إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز.» وكان يتحرق على اضطراره لترك ما لم يطق حمله، ولو علم ما يخفيه الرسول لدعا أهله وأولاده وزوجته وخدمه؛ ليحملوا ما يقدرون على حمله، ولو كانت المائة ألف كلها! فدهش الرسول وهو يتبعه بنظره، ففي يقيني أن هذا الرجل لا يصلح لخدمة الإسلام سرا أو يكتم دينه لينفع ابن أخيه أو سواه، وأن كل ما قيل في هذا المعنى منتحل وموضوع ومدسوس بأقلام أعوان الدولة العباسية؛ نوعا من الدعايا السياسية، وبقي في الكتب إلى اليوم؛ لأن المؤرخين لم يغربلوا ولم ينتخلوا، بل ساقوا الأخبار معتمدين على النقل دون تمحيص.
فإذا نظرنا في التاريخ عندهم وقلبنا صفحات مؤلفاتهم (ما عدا مقدمة ابن خلدون، وبعض الرحلات كرحلتي ابن بطوطة وابن جبير، وابن مسكويه والكندي)، فإنها تدلك على أن فكرة النقل والتقليد قد تملكتهم فلم تترك لغيرها من مجال؛ حوادث متتابعة على حسب ترتيب السنين لا تواصل بينها ولا علاقة تربطها، فهي في الواقع مدونات حوادث لا كتب تاريخ، قيمتها تنحصر في أنها كتبت في عصر قريب من العصر الذي وقعت فيه الحوادث التي ترويها، فهي مآخذ للتاريخ وليست تاريخا، مراجع يصح أن يعتمد عليها في كتابة التاريخ بعد النقد والفحص والتحليل؛ لأن فيها من النقائض ما يدهش، وقد يدهشك أن علماء العصر الحديث يرون أنه يجب أن يعاد تدوين التاريخ والنظر فيه من حين إلى حين، لا لأن حقائق كثيرة تكون قد عرفت على مر الأيام، بل لأن أوجها من النظر قد تظهر في أفق البحث العقلي، ولأن المعاصرين الذين هم ذوو ضلع كبير في تقدم عصورهم وارتقائها يساقون دائما إلى غايات ينتهون بها إلى حيث تصبح ذات صبغة يقتدر بها على تدبر الماضي والحكم عليه بصورة لم تكن معروفة من قبل.
هذه آراء العلماء في التاريخ الصحيح المترابط الأطراف المتواصل الأسباب المحبوكة سلسلته حول فكرة بعينها، فما بالك بحكمهم على بعض كتب السيرة وعلى بعض كتب ابن الأثير والطبري والمسعودي؛ وهي مؤلفات لم تتعد أنها مدونات حوادث وقعت في عصر من عصور الحياة وفي بقعة خاصة من بقاع الأرض لم يتناولها الفكر بنظر أو تحليل.
نعود إلى أسرى بدر الذين كان منهم العباس سبب هذا الاستطراد فنقول: إن الرسول عفا عن بعضهم بغير فداء؛ منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر، وكان في مكة يؤذي المسلمين بشعره ويهجو النبي، فتقدم إلى الرسول وقال: «يا رسول الله، إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها؛ فامنن علي، وإن لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن.» فتأثر الرسول وأعتقه وأخذ عليه عهدا أن لا يظاهر على المسلمين أحدا، والرسول يعرف شخصه وأخلاقه وتاريخه ويعرف أنه كان مأجورا على هجو المسلمين، ولكنه أشفق عليه وأضمر له العقوبة إن خان عهده؛ فقد منحه فرصة التوبة، وكان الرسول أحن ما يكون على رب الأسرة ووالد البنات.
فلما بلغ شاعر السوء عمرو الجمحي مكة قال لقومه: «سحرت محمدا.» ولو صدق الجمحي فما يكون هذا النبي الذي يسحره هذا الهلفوت بين البشر ؟! ولكنه الغرور والشر وجحود النعمة، وسيرى القارئ عاقبة هذا النظام الوقح في أحد؛ فإنه خان عهد الله وخرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعره، فأسر وقتل صبرا كالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وحملت رأسه إلى المدينة. وعفا الرسول بغير فداء عن أبي العاص زوج زينب ووهب بن عمير؛ لأسباب ذكرناها.
لقد أهرق مداد كثير فيما يتعلق بمسألة الأسرى واختلاف الصحابة في أمرهم: أيبقون عليهم ويقبلون مال الفداء فيهم، أم يقتلونهم؟ فكان عمر وسعد بن معاذ وغيرهما من أنصار فكرة القضاء عليهم، وكان أبو بكر ميالا إلى الفداء؛ أبو بكر يريد أن يأخذ مالا وقوة منهم، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام بعد ذلك، وابن الخطاب يذكر المظالم والقسوة الوثنية والاضطهاد والقتال والتشريد والإرغام على اللجوء إلى الهجرة والنفي، فقال الرسول لهما: «لو توافقتما ما خالفتكما، فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق.» ولكن القرآن جاء بما يؤيد رأي عمر:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .
وكان سعد بن معاذ وابن رواحة على رأي عمر، ولكن رحمة الله ورحمة الرسول سبقت؛ فكان العفو والفداء، بل إن محمدا - عليه الصلاة والسلام - لما رأى جبير بن مطعم في المدينة يسأل في أسرى بدر قال له: «لو كان شيخك (أي أبوك) حيا فأتانا فيهم لشفعناه»؛ لأنه كان أجار النبي لما قدم من الطائف، وكان ممن سعى في نقض صحيفة المقاطعة، فلا حيلة لأحد مع حنان هذا النبي وعطفه وميله إلى الرحمة والصفح، ولله وحده حق التمجيد والتسبيح الذي خلقه وجعله على هذا المثل الأعلى والنموذج الأكمل.
وعلى كل حال فقد كانت خطة العفو والفداء سليمة العاقبة، فإن أكثر من الأسرى السبعين الذين أطلق سراحهم أسلموا، وقام بعضهم بتعليم أطفال المدينة القراءة والكتابة، فاحتكوا بالمسلمين أثناء أسرهم في مدينة حرة لهم فيها كل سلطة، يعبدون فيها ربهم في غير خوف أو رعب أو حذر فأثرت هذه المناظر في أنفسهم، وقد رأوا النبي كل يوم في المسجد وسمعوا أقواله وشهدوا أفعاله فكانت دعاية قوية للإسلام، ومن هؤلاء الأسرى سهيل بن عمير الذي خدم الإسلام بعد الردة، ولو أنهم قتلوا لزادت الأحقاد واتسع نطاق الخصومات وفقد المسلمون أدوات إعلان حية ناطقة تذيع فضل الدين الجديد، وفوق هذا كله فإن العفو وافتداء الأسرى كان عملا ينطبق على خلق النبي وطبيعته في كل أدوار حياته. •••
وكان لانتصار بدر أثر كبير في بلاد الحبشة؛ فإن قريشا حاولت الانتقام من المهاجرين المسلمين الباقين فيها من الهجرة الثانية، فأرسلت عمرو بن العاص ووفدا يحمل هدايا للنجاشي يطلب تسليم المهاجرين من أتباع محمد، وأن يمكنهم من قتل رسوله إلى النجاشي وهو عمرو بن أمية الضمري، وكان رجلا ذكيا نشطا يصلح لأداء المهمات في البلاد البعيدة ويخلص في تنفيذها، وقد علم الرسول بالمدينة بما عزم عليه أهل مكة، فأسرع في إرسال مبعوثه بخطاب إلى النجاشي؛ ليبلغه خبر النصر في بدر، ويوصيه بالمهاجرين عنده خيرا، ومع أن المدينة أقصى من مكة بالنسبة إلى الحبشة فقد وصل إليها عمرو بن أمية الضمري مبعوث النبي قبل وصول الوفد المكي، فحقد ابن العاص عليه وحنق حنقا شديدا ولكنه كتم غيظه وكظم حقده واستأذن على ملك الحبشة فأذن له فقدم له الهدايا التي يحملها، ثم سأله أن يسلمه مبعوث النبي وبقية المهاجرين؛ لينتقم منهم مقابل هزيمة بدر، فكبر الأمر على النجاشي، وقيل إن النجاشي ضرب أنف عمرو بيده حتى أسال دمه. وقيل إنه ضرب أنف نفسه؛ لأنه لا يستطيع أن يهين الضيف والرسول الذي يحمل إليه هدايا قريش. وقد يحنق بعض الكبراء فيتحامل على نفسه فيؤذيها؛ ليكون ذلك أوقع في نظر الشاهد إذا كان من فصيلة ابن العاص الداهية المرهف، فأصاب عمرا من الذل والاستكانة والأسف ما لو انشقت الأرض وابتلعته لدخل فيها فرقا وندما، فلما رأى منه النجاشي صغاره وتضاؤله قال له: أمن الجائز أن تطلب مني تسليم رسول رجل كمحمد والمهاجرين اللاجئين إلي بسبب اضطهادهم لدينهم الذي يقرب من ديني ولا يكذبنا؟! فنهض ابن العاص يعض بنان الندم وأخبر أعضاء الوفد الذين كانوا بانتظاره عذرا مختلقا كعادته قبل أن يسلم ووضع ذيله في فكه وطار إلى الميناء ومرسى السفن فركبها ومن معه إلى الشعبية، وهي الثغر الذي كان يوصل إلى ساحل جدة قبل وجودها.
ومن أغلاط المؤرخين القدامى في هذه النقطة، والله يعلم أنني لا أتتبع أخطاءهم إلا احتراما للحقيقة وجعل تاريخ النبي جديرا بكرامته، من أخطائهم زعمهم أن عمرو بن العاص طار إلى المدينة المنورة؛ ليعلن إسلامه، فلقي بمحطة «الهداة» خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة (الذي وشى بمصعب بن عمير لوالديه فكان سببا في تعذيبه وحبسه) يقصدان إلى المدينة ليسلما، فاجتمع ثلاثتهم وساروا إلى هذه الغاية، وهذا كله محض اختلاق وخلط؛ لأن خالد بن الوليد سيف الله بقي في غمد الكفر والشرك إلى أن حارب الرسول في أحد وفي الخندق وكان ينوي الغدر بالمسلمين في الحديبية وهم قائمون للصلاة، فلا يعقل أنه أسلم بعد بدر بشهرين، وكذلك ابن العاص، لم يسلم أحد من الثلاثة إلا قبيل الفتح بقليل لما ضمنوا أنهم يكونون في الكفة الراجحة والصف الظافر، ولكن المؤرخين القدامى لا يعرفون التواريخ ولا تسلسل الحوادث ولا نفي النقائض، رحمهم الله رحمة واسعة ورضي عنهم وغفر لهم. (6) عودة الرسول إلى المدينة بعد بدر
كان الرسول قد استخلف على المدينة عمرو بن أم مكتوم (الضرير صاحب سورة عبس)، وأقام الرسول بعد الموقعة يوما وبعض يوم؛ لأن الحر كان شديدا وروائح الموقعة بعد القتال ودفن أصحاب القليب لا تطاق، فقفل راجعا هو وجيشه عدا من دفنوا من الشهداء، واكتسبت بدر شهرة عالمية، وكانت المسافة بينها وبين المدينة خمسة أيام فقطعها المسلمون في ثلاثة وهم يسوقون الغنائم والأسلاب والنعم، وقد استجاب الله دعوة النبي لهم.
بين ساعة وأخرى، فلم يمض نصف نهار حتى اغتنوا واكتسوا وتزودوا، وفوق هذا وذاك انتصروا على خصمهم العنيد القوي ودحروه وأعملوا السيوف في أقفية «سادة» قريش وزعمائها.
فلما قرب الرسول من المدينة خرج المسلمون للقائه وتهنئته فتلاقوا بالروحاء، فقال لهم سلمة بن سلام متهكما على قريش ومستهترا بالنصر على جماعة عجزة: ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله ما لاقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقولة فنحرناها. وهو تهكم لاذع وتقليل من غرور المنتصر ووضع للأشياء في موضع يمنع الحسد ويصرف الأذهان عن مظنة السوء بأهل بدر، فلم يعودوا منتفخي الأوداج إعجابا وصلفا.
ولم يكن غير الرسول ليفطن إلى ما انطوت عليه كلمة سلمة بن سلام فتبسم وقال: «أولئك (أي العجائز الصلع) الملأ من قريش.» وهذا حق؛ فقد فقدت قريش أقوى أئمتها وسادتها سواء كانوا عجائز صلعا أم شبابا ناهضا.
وقابلته الفتيات بالأناشيد:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
وهؤلاء الفتيات ما زلن بأبواب المدينة يستقبلن القادم ويودعن الراحل وقد رأيناهن في زيارتنا لمدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وتأثرنا لنشيدهن وتغرغرت أعيننا بالدموع في الذهاب وفي العودة، وذكرنا مواقف الرسول حين قدومه من كل موقعة ...
وبعد الأناشيد تقدمت إليه امرأة يهودية (دائما نعثر على يهوديت متربصة، وما أكثرهن في حياة النبي!) على رأسها جفنة فيها جدي مشوي، وكان الرسول جائعا بعد سفر طويل، فقالت بلسان عربي فصيح: «الحمد لله يا محمد الذي سلمك الله! كنت نذرت لله إن قدمت المدينة سالما لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكل منه.»
فنظر إليها الرسول نظرة فاحصة وألقى على شوائها نظرة أخرى ففاح ريح السم من لسانها ومن كتف الجدي، ولو كان للجدي لسان لنطق بتحذير الرسول قبل أن يأكل، فحماه الله وصرفها ولم يوقع بها، وكفاها خسرانا جديها الحنيذ وثمن السم وأجر الشواء، فلتطعمه أبناءها وحلفاءها المنافقين! وهكذا خطة هؤلاء القوم لا تختلف على مر الدهور؛ فقد قامت حياتهم العامة والخاصة على القتل بالاغتيال وإهراق الدماء إن عجزوا عن امتصاصها من عروق الأحياء.
وعاد الرسول إلى بيته ومسجده واستقبل أحبابه، وخطب أسيد بن الحضير أحد سادة الخزرج في المسجد فقال: «الحمد لله الذي أظهرك وأقر عينك.» واستوصى الرسول بالأسرى خيرا بعد أن فرقهم على الصحابة، ولم يظهر أحد من المنافقين ولا اليهود غير صاحبة الجدي المسموم؛ فقد اكتفوا بها تحية للقائد الظافر، وكيف يظهرون وهم الحاسدون الحاقدون الذين غشيهم من الغم ما غشيهم، وأصابهم من الهم والغيظ ما أصابهم، وقد أيقن اليهود والمنافقون أن خطة الرسول ستتبدل بعد انتصاره، فإن العدو الألد الذي كان يحسب المسلمون حساب هجومه قد هلك واندحر، وقد مات من زعمائه من مات، وأرغمت أنوف الأحياء منهم في تراب بدر حتى تعفرت، وماء بدر الذي كان أبو جهل يؤمل أن يرقص حوله ويأدب المآدب ويمزج به الخمر لا يكفي لغسل العار الذي لحق قريشا أبد الآبدين ودهر الداهرين. (7) محمد واليهود
كان دخول الرسول إلى المدينة بعد بدر دخولا عظيما، لا يقل عن دخوله يوم شرفها بهجرته، ولكن يوم هجرته كان استفتاحا لقادم؛ أما اليوم في العشرين من رمضان من السنة الثانية الهجرية، فكان دخول الظافر المتواضع لله المطمئن لنصرته، الآمن على مستقبل رسالته راجيا في الله أن يتم عليه نعمته، لا يخشى شيئا إلا إعجاب المسلمين بقوتهم أو حسن ظنهم بأنفسهم، فكم جلب الغرور بعد النصر بلاء على صاحبه.
ولكن جيش بدر كان من أفضل الرجال؛ لقد دخل الرسول المدينة أول مرة في صحبة أبي بكر لا يعرفه إلا مائتا رجل في بلد يسكنه ألوف معظمهم مشركون ومنافقون ويهود، وكان كلهم يترقب وينتظر ويتحفز للنقد والاعتراض ولا يعرفون - إلا قليلا منهم - أن دولة جديدة تؤسس وشعبا فتيا ينشأ ويربى وقوة حربية مهولة تعد لتثب، ونظما اجتماعية لا تحصى ولا تعد تغرس بذورها لتتعهدها أمة أراد الله لها الحياة، ونورا جديدا يشعل سراجه ولن يطفأ أبدا؛ أما اليوم فقد دخل الرسول على رأس جيش منتصر على جيش أكثر منه عددا وأكثر مالا وعضدا، كان مدخل محمد منذ سنة ونصف «أملا»، أما اليوم فقد صار حقيقة وقوة ذات بأس يخشى وبطش يحسب له حساب، فاصفرت أوجه اليهود وارتسمت على تقاطيعهم صورة الرعب والوجل فلووا ألسنتهم في أفواههم بين أسنانهم الصفراء النخرة وتضاءلت أحشاء أحبارهم، وتحشفت جلود وجوههم وأخذوا يسألون أنفسهم: أليس هذا الرجل نبيا كموسى وداود وسليمان ذوي البأس الجبابرة؟! ألم يحطموا جيش سادة قريش ويقتلوا ويأسروا ما شاءوا من قتل وأسر وغنموا الغنائم والأسلاب التي سوف تغنيهم عن الاقتراض، وكيف بعهدنا معهم؟ إنه يقول قول الأنبياء ويعمل فعلهم ولا يجرؤ أحد عليه، وقومه أكثر ما يكون القوم طاعة لنبيهم ورئيسهم وزعيمهم.
كنت تراهم يسيرون متوارين مسرعين في شوارع المدينة وأزقتها يكادون يطلبون إلى الأرض أن تنشق لتبلعهم، فلا أفجع لقلب العدو من أن يرى انتصار عدوه انتصارا حاسما ويتوقع أن يتحكم فيه ذلك العدو!
وقد حرموا لذة التهكم عليه وعلى أصحابه، وحرموا لذة امتحانه وسؤاله واستدراجه كما استدرج أجدادهم الخبثاء نبيهم عيسى ابن مريم حتى أصعدوه إلى خشب الصليب بعد أن استعدوا عليه الحاكم الروماني: يا عيسى، ما تقول في هذا؟ دعوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر. أما هذا العربي المكي فلا يتذوق المزاح ولا يرضخ للهوهم الذي ظاهره مرح وباطنه سم زعاف وفتنة نائمة.
وهنا لا يوجد بيلاطوس المندوب السامي الروماني؛ ليطيعهم في ذبح نبيهم، ليلطخوا يديه بدمه بعد أن غسلهما من جريرة صلبه. فالحاكم هو محمد والوزراء صحابة محمد وسلطة التشريع هي لله وسلطة التنفيذ جيش محمد والقضاء مجلس محمد، ومجلس الشورى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن معاذ وعبد الرحمن بن عوف والحباب بن المنذر ومصعب بن عمير ومن بلغوا درجتهم، فيا ويل يهوذا! ويا سوء حظهم! فليجتمعوا في آطامهم ليدبروا أمورهم، وليطيلوا النظر في كتابهم؛ لعلهم يجدون فتوى تدلهم على مخرج من مأزقهم، فذهبوا إلى لبيد بن الأعصم؛ ليسحر الرسول، ولكن سحر لبيد لم يؤثر في هذا الرجل العجيب مهما صنع لبيد للرسول من تماثيل الشمع ليغرز فيها الإبر أو يجعل معها وترا يعقد فيه إحدى عشرة عقدة، فإن زمن السحر الأسود قد ولى كما ولى عهد الكهانة والكهان، فليتركوا إذن ساحرهم لبيدا وليتجهوا إلى أعلمهم بأحكام التوراة وهو ابن صوريا، وكان شابا أمرد أبيض أعور يسكن «فدك»، ألا تقول يهود: إنه أعلم أهل الأرض بما أنزل الله على نبيه موسى؟ ولكن ابن صوريا قد صدق عندما استحلفه الرسول بأغلظ الأيمان أن يصدق، حتى وثب عليه سفلة اليهود من قومه، فقال لهم: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. والتفت إلى الرسول وقال: لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبتك ما اعترفت لك!
وما محمد بصاحب مال وإن كان صاحب دولة ناشئة وجيش شديد وشرع جديد، فلا يخضع لهم كما خضع أصحاب الدول وأرباب المنافع في كل عهد وكل جيل إلى أن يشاء الله فيجعل الكرة الأرضية مربعا أو مثلثا أو ذات شكل مستطيل، وما محمد بزير نساء يستهوي برفقة إستر ويهوديت من اللواتي اتجر بهن رجالهن وجعلوهن شباكا وحبائل لعظماء الرجال، ولا بذي نهم يلبي الدعوة إلى مآدب كوهين وصمويل، والمآدب مصايد الرجال.
فمن أين يؤخذ هذا الرجل العجيب؟! يا خيبة بني إسرائيل! لقد تبدل أمنهم خوفا، وراحتهم تعبا، وسرورهم غما، وطمعهم في أهل المدينة رعبا وجزعا، ويل لكم ووبال عليكم! ما أجدركم بالنواح على ما ينتظركم! وما أخلق أن تندبوا على أنغام المزامير التي كانت تشق أكباد أجدادكم في عهد داود! هذا نبي لم يبلغ شأوه أحد من أنبيائكم ولن يبلغوا شأوه، وهذا قائد لا يعرف غير النصر، وحكيم مرسل لا ينطق عن الهوى، وعادل مذاب في وعاء من الرحمة والرقة، ولكنكم سلكتم معه وأصحابه مسالك الجفوة، فلن تعرفوا الراحة بعد اليوم ولن تذوقوا للسعادة طعما، فحطموا أوعية الذهب والفضة التي اتخذتموها من دماء الأمم؛ لتأكلوا فيها وتشربوا، واحرقوا فراشكم وقطائفكم، واهدموا حصونكم وآطامكم، فلن يعصمكم من الله ورسوله بعد اليوم عاصم، فروا بجلودكم وهيموا في الأرض على وجوهكم والتمسوا في غير هذه البقعة الطاهرة مباءة لسروركم وجرائمكم وخبائثكم، ولكن أنى لكم أن تفروا وقد فقدتم رجولتكم وتعودتم الدعة والنعومة وعنيتم ببطونكم وفروجكم وخزائنكم، وأمنتم فنمتم؟ لقد سدت الدنيا في وجوهكم وضاقت عليكم مسالكها جزاء وفاقا بما فعلتم، لقد فلت أسلحتكم وانثلمت أسيافكم وصدأت رماحكم وأصاب العوج دروعكم وتربت أيديكم فما عدتم تلبسون خوذة ولا تتخذون بيضة، وألفتم أن تندسوا في فرشكم وقد شبعتم وإن سهد الناس وجاعوا، وأن تغلقوا أبوابكم وإن بات الناس في العراء وجزعوا، وأن تطربوا لأنين المريض وبكاء الطفل وصيحة المظلومة وصرخة المستغيث ما داموا ليس من لحمكم ودمكم!
أتظنون أن الله لا يعلم ورسوله لا يعلم ... أتحسبون الله لكم وحدكم أم خلق الأرض لتستأثروا بها وخيراتها دون سواكم ثم تهزءون وتتهكمون وتغتابون وتحرضون وتحالفون المنافقين وتضعون أيديكم في أيديهم وكنتم من قبل تقتلونهم؟ •••
لما قدم عبد الله بن رواحة على المدينة من بدر ينبئ بالنصر العظيم، تصدى له ليفي وكوهين وصمويل بالتكذيب، وقالوا: هارب مسكين من جيش مهزوم والبقية الباقية ممن ساقهم محمد للذبح حيال جيش قريش المتين. ولم يقنعوا بالتكذيب بل زادوا عليه التهكم الأليم، وقضوا يوما وليلة في مرح قصير الأجل وسبوا المسلمين وقال قائلهم: كلوا واشربوا واطربوا على أنغام الانكسار لهؤلاء الدخلاء الفقراء، واخرجوا وغنوا وارقصوا تغنموا تشفيا، والعنوا واقذفوا ما شاءت ألسنتكم، كيف يعقل أن يعقد النصر لهؤلاء الحفاة العراة الجياع وقائدهم لا يعرف من فنون الحرب حرفا، وفي قريش أبطال صناديد؟! وكيف يعقل أن يتقدم رجل ليس بيده دليل؟! إنهم ليبغضون أن يفوز، وبغضهم غذى حقدهم وفتح أفواههم كأبواب المجاري، لقد اقترفوا في السبعة عشر شهرا الماضية ما جعلهم يحكمون على أنفسهم ويعلمون ما ينتظرهم عندما يطلع البدر على ثنيات الوداع، فأفرغوا حشو صدوهم وأخرجوا عصارة القرح التي تنز ولا تندمل، فما هالهم بعد ليلة قضوها في أحلام العصافير بين هوسة المحنق اليائس ورعب الجازع المهيض إلا ظهور صفوف الأسرى تتقدم الجيش الرهيب، وإذا بالرسول نفسه يحف به وزراؤه وصحابته وقواده، وقد خلع الله عليهم حللا من المجد الخالد يزينها التواضع له سبحانه وتعالى، وإذا بسورة الأنفال تتلى في المسجد وفيها من رحمة الله وعزته وحكمته ما أخرس لسان كل هماز مشاء بنميم:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون .
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان .
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم .
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون .
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين .
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم .
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون .
فما أروع الاستقبال الذي أعده الله للمؤمنين؛ ولكن اليهود عموا عن وحدة المدينة التي ولدها النصر، فزعموا أن الرسول فرق بينهم وحاد بهم عن الصراط المستقيم، ودفعوا بشواعرهم وشعاريرهم لهجاء الرسول، لقد كان الرسول قبل بدر سائدا بنفوذه وقوة شخصيته حتى أجبر اليهود على أن يحتكموا إليه في قضاياهم فيحكم لهم بنصوص التوراة، وكان المهاجرون والأنصار يطيعون الله ورسوله وأولي الأمر منهم، ولم يتذمر أحد ولم يثر أحد ولم تتيقظ فتنة على ما كانوا عليه من شظف العيش وضيق أعطان الحياة، فما الذي دعا اليهود إلى تلك الدعاية الظالمة وتحريض النساء والرجال على نظم الأشعار الخبيثة؟! إنه بلا ريب انتصار بدر الذي كمد نفوسهم وحرق أكبادهم فاستأجروا من يحرض بشعره على قتل النبي، وما يزالون في كل زمان ومكان يشترون الأقلام والألسنة التي جعلها أصحابها ذريعة ووسيلة للكسب من أدنأ الطرق، وإن شاعرا واحدا في بلاد العرب لأكبر أثرا من صحيفة يومية ذائعة الصيت سريعة الانتشار، وما يزال ذيوع الأخبار بسرعة البرق في أنحاء الجزيرة سرا عميقا ولغزا محيرا!
لقد ضاق المسلمون ذرعا بعصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، وكانت زوجة يزيد بن زيد بن حصن الحطمي، وكانت امرأة فرعاء هيفاء فصيحة بذيئة اللسان ذات جمال وقدرة على المعاني والألفاظ، ولكنها أشربت كراهية المسلمين، فاستأجرها اليهود وحسنوا لها المزيد فأخذت قبل بدر وبعدها تؤذي النبي وتحرض على قتله شعرا، فتطوع عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام وكانت ولودا للذكور والإناث وولادة للقوافي المقذعة تضع حملها من رحمها وتنفث السموم من فمها، وكانت امرأة شبقة هووية المزاج لا تشبع من نهم الطعام والشهوة، وكان شعرها نوعا من اللذة التي تعتريها فتطيب نفسا بعد أهاجيها وتلقى اليهود فرحة بما تقول مما تقر له أعينهم، وكانت على ود وخلوة بكعب بن الأشرف شاعر اليهود الهجاء الذي اتخذ التحريض على قتل النبي صنعة وفنا وغواية كصاحبته عصماء التي لم يكن لها من اسمها نصيب، وأعجب ما في أمر عمير بن عدي أنه كان أعمى، فجسها بيده ونحى صبيا كان يرضع من أحد ثدييها وهي نائمة ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من صدرها، ثم صلى الصبح بالمدينة، ثم سأل الرسول: قتلت ابنة مروان فهل علي من شيء؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان. وهكذا امتزج دم هذه الفاجرة بلبن أولادها ومات شيطانها الذي كان يعلمها وينطق بلسانها، ولم تنطفئ جذوة غرامها حتى يلحق بها كعب، ولكن قبل كعب توجه سالم بن عمير العمري إلى شاعر آخر هجاء محرض على القتل هو أبو عفك اليهودي وكان من بني عمرو أبي عوف وقد عمر عشرين ومائة سنة، وكان سالم ممن شهد بدرا وعليه نذر أن يقتل هذا الأفاك أو يموت دونه، فانتهز غرته في ليلة صائفة وهو نائم بفناء داره، فأقبل البدري الناذر ووضع سيفه على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش في الفراش، وصاح الشاعر الفاني بالعبري فثاب الناس إليه فأدخلوه منزله وقبروه.
وحان حين كعب بن الأشرف، وهو صاحب عصماء، يهجو النبي وأصحابه ويحرض على قتلهم ويؤذيهم، فلما انتصر الرسول في بدر كبت وذل وقال: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها. ولم يطق العيش بالمدينة؛ لأنه علم أنه لن يتمكن بعد اليوم من إفراغ سمومه، فخرج طريدا حتى قدم مكة فبكى قتلى قريش وحرضهم بالشعر على الرسول وأصحابه، ثم قدم المدينة فقال الرسول: «اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار!»
وكان بين المسلمين أبو نائلة سلكان بن سلامة، أخا لكعب من الرضاعة، فأتى كعبا من موضع هواه وتظاهر بالطعن في النبي، وفي ليلة مقمرة قصد إليه أبو نائلة ومحمد بن مسلمة ونفر من الأوس حتى انتهوا إلى قصره بالعوالي وكان منذ قتلت عصماء قد تزوج، فلما نادوه لينزل إليهم ويعقد صفقة بيع تمر وسلاح ويرتهن أولادهم أو نساءهم، أخذت عروسه بملحفته وقالت: أين تذهب؟ وتشبثت به؛ فقد أوجست خيفة وأنكرت النداء وذعرت، وكان على كعب مسحة من شجاعة وضرب بيده الملحفة وقال: «لو دعي الفتى لطعنة أجاب.» ونزل إليهم يفوح ريحه فقالوا: ما هذه الريح يا كعب؟ قال: عطر أم فلان، زوجته، ثم قال: ترهنوني نساءكم؟ قالوا: أنت أجمل الناس ولا نأمنك عليهن، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! فقال معجبا: صه صه؛ لئلا تسمع أم فلان، ثم دنا بعضهم ليشم رأسه فاعتنقه وقال لأصحابه: اقتلوا عدو الله. فطعنوه بسيوفهم، فصاح الشاعر الهجاء المحرض صيحة ما بقي أطم من آطام يهود إلا أوقدت عليه نار علامة الخطر، ثم حزوا رأسه وحملوه معهم، وولولت عروسه من شرفة بيتها وناحت كأنها بجدار المبكى؛ فقد أرقت ونبذت فراشها وتأيمت في ساعة واحدة، فخافت اليهود، فلم يطلع منهم أحد ولم ينطقوا وخشوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف، ثم جمعوا شجاعتهم وذهب وفد منهم إلى الرسول فقالوا: قتل سيدنا غيلة، فذكرهم النبي صنيع قتيلهم وما كان يحض على المسلمين ويحرض في قتالهم ويؤذيهم به ثم دعاهم إلى أن يكتبوا بينه وبينهم صلحا، وكان ذلك الكتاب مع علي - رضي الله عنه - بعد تلك الحوادث، وهو غير الصحيفة التي نقضها كعب هذا نفسه يوم مزق شراك نعله.
وكان كعب رجل شر وسوء حتى نزل فيه قرآن:
ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا (آل عمران: 186).
وكانت عروسه شديدة الحب له والغيرة عليه؛ لأنه كان ذا شباب وجمال وشهرة، ولذا حدثها قلبها بما يضمر له الطارق ليلا فقالت له: ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب. والمرأة العاشقة كثيرة الظنون، وقد يكون عندها شعاع من جلاء البصيرة، ولكن ابن الأشرف كان يطمئن لكل من يطعن له في النبي، فلما احتالوا عليه بالطعن وشكوا إليه فقرهم وحاجتهم إلى قرض برهن قال: «لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل.» وهو لا يعلم أنهم جاءوا ليقوا «هذا الرجل» شره وشعره.
أيجوز لنا أن نرثي لعصماء أو صاحبها كعب أو وليهما أبي عفك؟ وقد تطوع رجال من الأوس والخزرج في قتلهم؟
لا ينتطح فيها عنزان، لقد أسلمت قبائل عصماء وأبي عفك وكعب بن الأشرف، وهذا اعتراف صريح بأن الذين أراحوا منهم المدينة كانوا على حق، ولا يقال إن تلك القبائل والعشائر أسلمت رهبة وخوفا؛ لأن كل واحد منهم لم يكن شاعرا هجاء ولم يكن بينه وبين المسلمين ضغينة، ولو أن حادثا كهذا حدث في دولة عصرية لاعتبره الرأي العام وأولياء الدم عملا مشروعا وتنفيذا لحكم أمر به الحاكم صاحب السلطة التنفيذية، فإن عصماء قد حرضت أهل المدينة على قتل النبي تحريضا صريحا، فليس قتلها أمرا تعسفيا ولا ظلما تؤخذ به الدولة، فالتحريض على قتل الحاكم جناية يعاقب عليها بالإعدام ولا سيما إذا كانت أداة التحريض هجاء لاذعا وشعرا مسموعا مرويا يؤثر في بلاد حياتها وتاريخها وحروبها وأفراحها وأحزانها في الشعر، غير أن القتل بغير محاكمة قد يهز النفس، ولكن ما الفرق بين القاتل والجلاد إذا صدر الحكم، وأي فرق بين الشنق وقطع الرأس بالمقصلة والرمي بالرصاص والجلوس على كرسي الكهرباء؟!
من لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحد
وعذر الحكومة في المدينة أن هؤلاء المشركين واليهود لا يمكن إعدامهم بيد الجلاد أو صلبهم في ميدان المسجد؛ فلو كانوا مسلمين كخادمي أخت ورقة بن نوفل اللذين خنقاها ليسرقا مالها لأعدموا كما أعدمها عمر إعداما علنيا، وإن حفظ النظام بين المشركين واليهود يقتضي استعمال القوة مجردة من مظاهر السلطة التنفيذية، فكان الحذق في اختيار الزمان والمكان والمنفذ للوصول إلى الغاية في حكومة ناشئة لم يتم تنظيمها خير بديل للإجراء القانوني من محاكمة واتهام ودفاع وحكم ونفاذ في حكومة تامة النظام، أضف إلى هذا أن الجاني وحده هو الذي دفع ثمن جريمته، فلم تمتد يد العقاب إلى أحد من قومه وعشيرته، وهو تقدم ظاهر وتحسن عظيم؛ فقد كان هجاء الفرد داعيا للحرب بين قبيلتين فأكثر، فبدأ المسلمون بتطبيق قاعدة المسئولية الفردية؛ لئلا تزر وازرة وزر أخرى، ولئلا يؤخذ بريء بذنب مذنب، فكان قتل الشاعرين والمرأة خيرا وبركة على مبادئ قانون العقوبات في المدينة (انظر هذه النظرية الصحيحة، في مرغليوث، ص279)، لقد خمدت ثلاثة أنفاس وقطعت ثلاثة ألسنة مع أنها كانت تحرض على قتل مئات الناس من المسلمين وعلى رأسهم حاكم المدينة وقائدها الأعلى.
هذا بعض ما جناه اليهود على أنفسهم قبل بدر وبعدها، فلما حزت السيوف أعناق الثلاثة المجرمين خضعوا كعادتهم حيال القوة واعترفوا بأخطائهم وكفوا ولو إلى حين عن نفث سمومهم.
كان أكثر الذين اشتركوا في قتل الشعراء المحرضين ممن شهدوا بدرا، وقد اتخذ أبطال بدر شهرة عظيمة ونالوا فخرا كبيرا فما زادهم إلا خضوعا لله وتواضعا وطاعة، حتى قيل إن الله غفر لهم ذنوبهم غفرانا شاملا، وكان الرسول يكره أن يشتم أحد رجال بدر في حضوره أو في غيابه، وكان يعدل جهادهم يوما واحدا بعبادة أربعين عاما، وكان يكرمهم ويقدمهم على غيرهم، كما يفعل المعاصرون للمحاربين القدماء وللسابقين من الجنود الظافرين في جيوش أعاظم الملوك، أو كما فعل الإنجليز لجنود وترلو بعد هزيمة بونابرت، أو كما فعل الإسكندر بتوزيع ملكه بين قواده. جاء جماعة من أهل بدر للنبي وهو جالس في مكان ضيق ومعه جماعة من أصحابه فوقفوا بعد أن سلموا؛ ليفسح لهم القوم، فلم يفعلوا، فشق وقوفهم على النبي فقال لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين: قم يا فلان، قم يا فلان، بعدد الواقفين، فرأى الرسول الغيظ في وجه من أقامه، فقال: رحم الله رجلا يفسح لأخيه. فنزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا ...
الآية.
فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك.
ولم تكن في المدينة نياشين ولا أوسمة ولا درجات ولا رتب ولا علاوات ولا معاشات رسمية ولا مرتبات تدفع بنظام، فخص الرسول أهل بدر بهذه الكرامة وأمثالها؛ كأن يزادوا في الجنازة على أربع تكبيرات؛ تمييزا لفضلهم على غيرهم، وأئمة المسلمين على أن الله لم يسخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم.
قد يشعر قارئي بملل أو كلل لإسهابنا في هذه المعركة، مع أنه لم يحدث في تاريخ الإسلام حادث أهم منها؛ فقد كانت معركة النجاة وحرب الخلاص، وأجدت على المسلمين قوة بعد ضعف وشهرة بعد خمول وحياة بعد موت وسلطانا بعد ذل، كانت الأقدام التي وقفوا عليها ليسعوا، والأيدي التي بطشوا بها ليفوزوا، والألسنة التي نطقوا بها ليسمعوا، والصولجان الذي قبضوا عليه ليطاعوا. أما قيمتها للرسول نفسه فلا يمكن تقديرها مهما بالغنا أو أغرقنا وغالينا في التقدير؛ فقد كانت معجزة ظاهرة لا ريب فيها، ولم يرتب في ذلك أحد من رجاله أو من خصومهم الذين دب في قلوبهم الرعب فولوا الأدبار، فوقع منهم من وقع، وفر من فر، وأسر من أسر بأسهل مما لو كانوا قطيعا من غنم حكم عليهم القصاب بالذبح، ألا تسمع:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .
فلم يكن للرسول من الأمر شيء إلا إحكام الخطة وطاعة أمر الله:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم .
ويصف مرغليوث موقعة بدر بأنها معجزة كاملة تامة فيقول: «الآن قد زالت من طريقه العقبة وتمت المعجزة» (ص269). ولكن رسول الله لم يستغل نصره لمصلحته أو مصلحة أصحابه، وإنما اعتز بالنصر للإسلام دون سواه، لقد عرض عليه المال والملك والقوة والحكم في مكة فرفض وأبى وبكى عندما ألح عليه أبو طالب، والآن جاء المال والشهرة والمجد والقوة والحكم، فلن يمدد إليها يدا إلا لمجد الإسلام، ولو رأى العرب غير ذلك لثاروا واهتاجوا، ألا تراهم يكرهون أن يقوموا لأهل بدر حتى يجيء قرآن في تأنيبهم، فكيف يصبرون على استغلال النصر لصالح أحد؟ صار نصيب أهل بدر خمسة آلاف درهم في العام في عهد عمر بن الخطاب، وكان أطولهم عمرا سعد بن أبي وقاص فعاش حتى قبض هذا المرتب مساناة.
وعقب بدر أقبلت القبائل المجاورة بهداياها ونعمها تتقرب إلى الرسول فأبى أن يقبل ما لم تعتنق الإسلام، فأذعن من أذعن وأعرض من أعرض، فندم المعرضون وفاز المذعنون.
وفي المدينة نشطت الحياة الاقتصادية وتحركت التجارة ونفقت البضاعة وأقبل الناس على الشراء والبيع، كما حدث في لندن بعد وترلو من ارتفاع أسعار الأسهم والقراطيس، وشغل بعض الأسرى المعدمين بتعليم أولاد المسلمين في المدينة بدل الفداء، ونزلت آيات محكمات في كتابة العقود وتوقيع الطرفين والشهود، وتجددت فنون المحاسبة، فكان تدوين الدواوين الأولى، وربط المعاملات وتوضيح الالتزام، والتفريق بين الحقوق العينية والشخصية، وكأن المدينة تنتقل بالتدريج ولكن بسرعة خاطفة من طور الزراعة إلى التجارة تاركة الصناعة لليهود الذين حان حينهم ودق ناقوسهم.
ولأجل أن يعلم القارئ أن بدرا معجزة ساقها الله إلى المسلمين فليقدر لو أن أبا جهل وأصحابه أطاعوا نصيحة أبي سفيان وردوا عقولهم إلى رءوسهم وعادوا من حيث أتوا، فما كان يفعل الرسول غير العودة إلى المدينة للمرة السابعة أو الثامنة بغير حرب ولا غنيمة، وإن عودة كهذه لخير منها موقعة خاسرة.
أراد أبو جهل أن يخوض الحرب بعد أن وعد بالاكتفاء بالغناء والرقص والسكر وأكل اللحم والاستمتاع بالقيان على ماء بدر؛ لأنه أحسن الظن بنفسه وأساء الظن بقدرة النبي على الحرب، ولكن أصحاب النبي أنفسهم لم يعرفوا عن شهرة حربية ولا قدرة الوقوف في الميدان، ورأى أبو جهل من الرسول في مكة صبرا وحلما وتحملا وصفحا، فهل ينقلب هذا الرجل في عام ونصف عام قائدا محنكا يقود جيشا ويضمن نصرا، أيقف هذا المهاجر وهم بالعدوة القصوى أوطأ منا موطنا في الوادي ونحن أعز عددا وأحد سلاحا؟! وفيم التقهقر وما يلازمه من عيب ولعلنا نظفر بالمسلمين ونقتل محمدا؟! فلو تركناهم يفلتون منا لعلنا نندم على هذه الفرصة السانحة وقد تولي فتعقبنا حسرة.
هكذا وعلى هذا النمط كان أبو جهل وعتبة يكلم أحدهما نفسه مرددا رأيه معددا عوامل النجاح لصفه، فكان حتفهم في تصميمهم، وفناؤهم موكولا بأقدامهم ولو أنهم رجعوا ما كان حظهم ليحسن أو نجمهم ليعلو أو يصعد متلألئا في سماء الجزيرة؛ فقد آذنت شمسهم بالمغيب حقا منذ حجل ضمضم في أم القرى على ظهر جمله المجدوع الأنف المقطوش الأذنين وراكبه القدير على سير الهيدبى أو القهقرى بعد أن شق قميصه وحثا التراب على رأسه وصبغ وجهه بالنيلة، لقد كان في مجرد ظهوره صائحا مستنفرا علامة النهاية، كالمدافع التي تطلق عند قبر العظيم المدفون، وفي هذا اليوم ووريت مكة التراب حقا، فيا لها من حيلة أموية صاغها خيال أبي سفيان، فبعث زعماء قريش إلى المجزرة؛ ليخلو له الجو فيصبح سيدها غير منازع! أيكون أبو سفيان قد تواطأ مع المسلمين على قتل إخوانه؛ ليكون ملك مكة وسيدها المطاع؟! ولكن هل تواطأ الجيش نفسه مع المسلمين على أن يهزموا ويمتنعوا عن الدفاع عن أنفسهم وشرفهم وأعراضهم؟! إنه لغز عميق تفسيره سهل، وهو أن مرد النصر والظفر ليس كثرة الجيوش وقوة العدد، وأن مرد الهزيمة ليس قلة العدد وضعف التسليح، فهناك قوة أخرى هي الروح المعنوية والعزيمة الصادقة والإرادة القوية والثقة بالنفس والإيمان بالنصر وامتلاء النفس بالتفاؤل والأمل؛ فتدفع الروح المعنوية الجيوش إلى الاستبسال في القتال وتملأها بأمل الغلبة، فلا يتخذ اليأس إلى قلبها سبيلا ولا تجد خيبة الرجاء في قلبها موضعا.
وقد كان الرسول حريصا على تسليح جيشه بتلك الروح، حتى إنه لم يوجه خطاهم إلى العدو ولم يأمر بالمسير إلا بعد أن تعرف فيهم تلك الروح ولمسها واطمأن إليها، وهو ما تم في مجلس الحرب الذي عقده وخطب فيه المهاجرون والأنصار، ولا تنس أبدا خطبة المقداد وهو من أبطال الساعة الأولى في الإسلام، وخطبة سعد بن معاذ، وهما خطبتان أين منهما خطبة طارق بن زياد وإن كانت هي الأخرى من آيات البلاغة، ولكنه كان مقتديا ومقلدا لا مهتديا ومبتكرا، وقد زاد على خطبته تهديد جنده بانقطاع الأمل من الرجعة فأوجد عنصر اليأس من النجاة في حالة الهزيمة، أما الرسول فقد أفرغ الأمل الضحاك في أنفسهم وبشرهم بالنصر والظفر؛ ليزيدهم قوة إلى قوتهم ويبعثهم على التضحية والفداء، فقال لهم: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين: العير أو الجيش.» فأنار لهم الطريق وأوضح المحجة وعرفهم إلى خططهم ونتيجة جهادهم، فلن يقف في طريقهم جيش ولا جبل ولا سلاح ولا عدو، وسيغلبون وهم لا يملكون غير فرس واحدة جيشا له من رباط الخيل مائتا جواد بفرسانها.
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . •••
اتخذ المسلمون المسجد الأقصى قبلة، فزعم اليهود أنه تقليد واقتداء يدل على افتقار الدين الجديد إلى العهد القديم، فأمر الله باتخاذ الكعبة قبلة، فندم اليهود وعرضوا على المسلمين أن يعودوا إلى القبلة القديمة فيدخلوا كلهم في الإسلام، وهذا كلام مصدره الخوف والرعب وحقيقته الخداع والحيلة، أظنوا أن محمدا حر في اتخاذ القبلة التي يريدها وأنه يتقلب بالمسلمين كطاحون الهواء بين عشية وضحاها؟! وهل بيده أن يعود إلى قبلة أورشليم بعد أن أمره الله بتركها، ولو فعل ذلك ولو كان بأمر الله لأصبح أمره منتقدا. كانت القبلة إلى المسجد الأقصى ما دام المسلمون في مكة، فلما نزحوا وهاجروا جعل الله الكعبة هدفهم الأسمى وبشرهم بأنهم سيدخلونه، فوجههم إليه في الصلاة، وأمر الله الرسول بالتخلي عن كل ما يربط الشريعتين بشبه أو مناسبة في الصلاة والصوم والزواج والطلاق والطهارة والطعام والأعياد والقضاء والعقوبات والربا وسائر المعاملات، حتى قال أحبارهم: ما نرى هذا الرجل إلا يخالفنا في كل ما نحن عليه! حتى ترجيل شعر الرأس وتصفيفه وفرقه وتدليته وخضابه خالف المسلمون فيها اليهود، وحتى تغسيل الميت وتكفينه ودفنه وتشييع جنازته لم يكن بين اليهود والمسلمين فيها ما يتشابه.
ولو زعم أحد أن الرسول اتخذ مرشدا أو معلما أو ناموسا من بني إسرائيل ما كان أمره ليخفى وهو يعيش في المدينة ، وهي مجمعهم ومدرستهم ومقرهم ومستودعهم وحصنهم وركنهم ومثواهم، يدبرون فيها مؤامراتهم، ويحشدون في آطامها جموعهم، فلو وجدوا خرم إبرة في حياته أو تعليمه أو آيات قرآنه أو حديثه لاستلوا ألسنتهم من أغمادها وأقلامهم من محابرها وأقاموا عليه حربا عوانا، وقد سمح لهم الرسول في أول الأمر أن يجالسوه ويناقشوه في الطبيعة وحركة الأرض وسر الخليقة ومساتير الأديان واللاهوت والفلك وما وراء الطبيعة والروح والأهلة وغاية الإنسان من الوجود والحساب والثواب والعقاب، وقد كانت هذه المسائل الثلاث الأخيرة خفية عليهم؛ لأن توراتهم خلو من ذكر القيامة والبعث والنشور وتواريخ الأنبياء القدامى وقارون وهارون وجالوت وهاروت وماروت والإنباء بالغيب والزنا والخنا والزواج والطلاق وطمث النساء والذبح والفوائد والربح والخمر والقمر والنرد والشرد، ولم يتركوا مسألة عرضت لآبائهم وأجدادهم على مدى مائتي وألفي سنة حتى سألوه عنها ودققوا وحققوا بعد أن جهزوها في معابدهم واستعدوا لها، فكان يجيبهم على الفور بأحكم الإجابات وأسدها وأوسعها.
وهؤلاء الناس لا تلين قلوبهم ولا تقتنع عقولهم، وصدق من قال: إن أشد الآذان صمما أذن لا يريد صاحبها أن يسمع.
وهناك إجماع على أن من دعوات اليهود قبل مبعث الرسول إذا قاتلوا مشركي العرب في يثرب كأسد وغطفان وجهينة وعذرة أن يقولوا: «إنا نستنصرك بحق النبي الأمي الذي وعدت أنك باعثه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم.» فلما أغلظوا على الرسول وتناسوا قولهم ودعاءهم جاء القرآن يدمغهم بنصه:
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
وهذا التحدي ظاهر جلي، فلو كان مخالفا للحقيقة لردوا عليه واحتجوا، ولكنهم خرسوا وأخذوا يسألون الرسول عن أشياء - ذكرنا بعضها - ليلبسوا الحق بالباطل، وإنما سألوه لا ليستفيدوا، ولكن تعجيزا وتغليظا، وكانوا يكمنون له فإذا رأوه يمشي مع أحد أصحابه في حرث أو حقل أو تحت ظلال النخيل يتوكأ على عشيب هاجموه وأمطروه وابلا من الأسئلة العنيفة، وإليك أنموذجا من جدلهم لما نزلت في حقهم آية:
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
قالوا: أوتينا علما كثيرا - التوراة - ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا! فتلا عليهم:
لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا .
قالوا: نحن مخصوصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ قال: نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا. قالوا: ما أعجب شأنك (كذا!) ساعة تقول: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وساعة تقول هذا؟!
وسألوه عن الساعة وموعد قيامها، وعن الفرق بين جبرائيل وميكائيل، وأن الأول ملاك الحرب والثاني ملاك الرحمة؛ فلم نزل عليه الأول ولم ينزل عليه الثاني؟! ولو نزل الثاني لآمنوا به ... وعن آيات موسى التسع وهي المسماة عندهم «العشر كلمات»، فسردها الرسول سردا، وسألوه عن خلق السموات والأرض وما بينهما، وتجرءوا يوما فسألوه عن خلق الله نفسه ومن أية مادة هو بما أنه خلق الملائكة من نور الحجاب وآدم من حمأ مسنون وإبليس من لهب النار والسماء من دخان والأرض من زبد الماء؟ فغضب رسول الله حتى امتقع لونه، أتراهم يدسون وينافقون، إذا كان الله قد خلق من مادة فمن خالقه؟ فإن كان له خالق فكيف يعبد المخلوق ويهمل الخالق؟! ألا يغضب رسول الله من تلك الفتنة وتلك الحماقة؟!
يا محمد، ما أول أشراط الساعة؟ ما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ما بال الولد ينزع إلى أبيه أو أمه؟ (قوانين الوراثة في التناسل) فأجاب، ودل بإجابته على أنه أعلم من أعلم أحبارهم، وأنه ينبئهم بغيب الأمور ويخالفهم من الساعة الأولى في كل شيء من عبادتهم، حتى قالوا: «ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئا إلا خالفنا فيه!» فأثبتوا غناءه عنهم، وسألوه عن السواد الذي يرى في القمر فقال:
فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة .
وهو جواب صحيح في العلم الحديث؛ لأن القمر جرم خامد لا حياة فيه.
فانمحاء آيته خير تعبير عن انطفائه، وسألوه عن البرق والرعد وعن كل ظاهرة في السموات والأرض، فلم يتركوا شاردة ولا واردة، فإن سلموا به أنه أمي؛ وهو أمر لا شك فيه، فمن أين يأتيه هذا العلم كله، ما داموا هم يمتحنونه ولا يمدونه، وما دام قد سلك مع نصارى نجران وأساقفتهم ومطرانهم وبطركهم هذا المسلك فأسكتهم.
فما كان أطول صبره وأفسح صدره وأعمق حلمه وأوسع عطفه! ولو أنهم سألوا ليقتنعوا ليسلموا لكان خيرا، ولكنهم سألوا ليغلظوا ويوقعوا، فهم على كل حال عناصر سوء وشر ونكاية وغيظ.
وكان منهم من يأتي ليقبل يديه ورجليه ويقول: أخاف أن أسلم فيفتك بي قومي! ومنهم من يطلعه على دسائسهم ونياتهم، ومنهم من ينتصر للحق حنقا على قومه، وكلهم متقلبون كالأفاعي، متحايلون لؤما، لا يستقرون على رأي، ولا يتنحون عن باطل، ولا يثبتون على حق. •••
ووراء هؤلاء جميعا ومن أعظم أعوانهم حزب المنافقين وعلى رأسه عبد الله بن أبي ابن سلول الذي وصفناه في كلمتنا العاجلة على المنافقين. من كان ابن أبي الذي رشحته قبائل يثرب للملك قبيل وصول النبي إليها؟
في يوم بعاث الذي تكلمنا عنه رفض عبد الله بن أبي الخزرجي أن يفتكوا برهائن من الأوس، ووصفه صاحب الأغاني بأنه كان «سيدا حليما»، وأثبت قوله لعمرو بن النعمان: «هذا عقوق ومأثم وبغي، فلست معينا على سليمان بن أسد القرظي (يهودي حليف للأوس) ولا أحد من قومي أطاعني.» فخلى عنه وأطلق أناس من الخزرج نفرا فلحقوا بأهليهم.
واجتمعت الخزرج وجاءت إلى زعيمها عبد الله بن أبي وعرضوا عليه مقاتلة الأوس المنضمين إلى قريظة والنضير (أشهر قبائل اليهود) قتال فناء، فخطب فيهم عبد الله وقال: إن هذا بغي منكم على قومكم وعقوق، ووالله ما أحب أن رجلا من جراد لقيناهم، وقد بلغني أن الأوس يقولون: هؤلاء قومنا منعونا الحياة، أفيمنعوننا الموت؟! والله إني أرى قوما لا ينتهون أو يهلكوا عامتكم، وإني لأخاف إن قاتلوكم أن ينصروا عليكم لبغيكم عليهم، فقاتلوا قومكم كما كنتم تقاتلونهم، فإذا ولوا فخلوا عنهم، فإذا هزموكم فدخلتم أدنى البيوت خلوا عنكم.
هذه الخطبة تدل على العقل والزعامة والجنوح إلى السلم، فهو يقر بأن الأوس يظلمون وأنهم مستقتلون، فإذا كان لا بد من حربهم فلا تكون حرب فناء، بل ينتهي النضال إذا أظهر فريق عجزه عن الاستمرار، أي إنه يجعل الحرب في أضيق مجال، ولكن بعض قومه اتهموه بممالأة اليهود، فقال له عمرو بن النعمان الخزرجي: «انتفخ والله سحرك يا أبا الحارث حين بلغك حلف الأوس قريظة والنضير.»
فغضب ابن سلول وقال: «والله لا حضرتكم أبدا ولا أحد أطاعني أبدا.» ثم مرت به نسمة من الكهانة والدعاء على صاحبه الذي غاظه فقال: «ولكأني أنظر إليك قتيلا تحملك أربعة في عباء.»
وانشق حزب الخزرج، فريق تبع ابن سلول وانسحب، وفريق تبع عمرو بن النعمان البياضي وولوه أمر حربهم.
وإذن يكون ابن سلول صاحب رأي وصاحب أتباع وذا إرادة ينفذها وذا نظر بعيد في الحوادث وله ضلع مع اليهود حتى أبى أن يقاتلهم ولو شاء قومه قتالهم، فهو إذن زعيم سياسي يطاع.
وكان أبو أسيد حضير الأوسي سيدا مطاعا، ويسمونه حضير الكتائب الأشهلي، وهو والد أسيد بن حضير الذي استقبل النبي على باب المدينة بخطبة يهنئه بظفره وعوده سالما. وكان سيدا ندبا خطيبا فحرض الأوس على الحرب فصام واعتزل الشراب والطعام، وأقسم حضير الكتائب أبو أسيد ألا يشرب الخمر أو يظهر ويهدم «مزاحما» أطم عبد الله بن أبي؛ لأنه سيد الخزرج، فلما التقى الجمعان؛ الأوس ومعهم قريظة وبنو النضير، والخزرج وحلفاؤهم، فانهزمت الأوس، فطعن حضير بسنان رمحه فخذه ونزل وصاح: وا عقراه! والله لا أريم حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا . فتعطفت عليه الأوس قومه، والتفوا حوله، وأصاب سهم من الأوس عمرو بن النعمان رأس حزب الحرب الخزرجي فقتله، زعمت بنو قريظة أنصار الأوس أن أبا لبابة هو الذي أصابه.
أين كان ابن سلول في تلك اللحظة الحامية التي يفصل فيها بين فريقين من قومه؛ أحدهما أقرب إليه وقد خرجوا عليه؟ كان يتردد على بغلة له قريبا من بعاث يتجسس الأخبار؛ إذ طلع عليه بعمرو بن النعمان ميتا في عباءة يحمله أربعة إلى داره، فلما رآه قال: من هذا؟ قالوا: عمرو بن النعمان. قال: ذق وبال العقوق! لأنه كان نصحه بالمسالمة فسبه، فأنذره ابن سلول بهذه الخاتمة، فشمت به ولم يعف عنه حتى بعد أن رآه محمولا في عباءة كما تكهن.
انهزمت الخزرج ووضعت الأوس فيهم السلاح، وسلبتهم قريظة والنضير، وحملت الأوس بطلها حضيرا من الجراح التي به وهم يرتجزون أنشودة النصر:
كتيبة زينها مولاها
لا كهلها هد ولا فتاها
وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها، ولم يفز بالغنيمة إلا اليهود الذين يودون أن يهلك الحزبان فيخلو لهم الجو.
وأقسم كعب بن أسد القرظي اليهودي ليذلن عبد الله بن أبي وليحلقن رأسه تحت أطمه (مزاحم)، وهذا اليهودي من بني قريظة حلفاء الأوس تجاهل الدور الذي قام به ابن سلول لمنع الحرب؛ لأن اليهود كانوا يريدونها؛ ليهلكوا الأوس والخزرج جميعا! وكان عبد الله بعد انتهاء المعركة وانتصار الأوس على قومه الخزرج قد لاذ بالفرار ولجأ إلى حصنه وأقفل أبوابه، وهذا الحصن من آطام المدينة واسمه مزاحم، كما تسمي أعيان أوروبا قصورهم في الريف.
ولكن الأوس أجمعوا على أن يهدموا حصن ابن سلول؛ تنكيلا بسادة الخزرج، وحلف حضير ليهدمنه، فذهب إليه كعب بن أسد القرظي ونادى ابن سلول: انزل يا عدو الله!
فأطل عليه عدو الله أو عبد الله فقال: أنشدك الله وما خذلت عنكم. أي وما فعلته مع قومي حتى كدت أمنعهم عن حربكم (وهو الشجار الذي نشب بينه وبين عمرو بن النعمان حتى تكهن بموته وحمله في عباءة)، فسأل كعب عما قال فوجده حقا فرجع عنه.
وكان أبو عامر الراهب الوثني الأوسي الذي قام بدور ذميم في موقعة أحد قد حلف ليركزن رمحه في أصل مزاحم أطم عبد الله، فأحاطوا به وكانت امرأته بنت ابن سلول نفسه فلم تمنعه هذه المصاهرة، فأطل عليهم عبد الله وقال: إني والله ما رضيت هذا الأمر ولا كان عن رأيي، وقد عرفتم كراهتي له؛ فانصرفوا عني. وكان حنظلة بن الراهب في حصن جده لأمه جميلة زوجة الراهب وبنت ابن سلول، فلما رأى أن أباه لا ينصرف قال لجده: إن أبي شديد الحب لي فأشرفوا بي عليه ثم قولوا: والله لئن لم تنصرف عنا لنرمين برأسه إليك. فقالوا له ذلك، فركز رمحه في أصل الأطم؛ برا بيمينه؛ هذا الخاسر الذي لا يمين له، ثم انصرف عنهم. •••
هذه صورة واضحة جلية لأخلاق عبد الله بن أبي ابن سلول الذي كان مرشحا للملك قبل قدوم النبي والذي انقلب رأس المنافقين؛ كان يتفانى في حب اليهود ويتفانى في الجنوح إلى السلم، يدفع له أي ثمن ويشمت بقومه الذين أرادوا الحرب؛ زعما منه أن الأوس مظلومون، ويتمنى الموت لمن يخالفه في الرأي، ويشمت به إذا رآه ملفوفا في عباءة ومحمولا قتيلا مرابعة إلى بيته، فلم ينسه الموت حقده، وقد اتجر بعد ذلك بمسلكه، ووصفه عند اليهود والأوس بأنه تخذيل لقومه، والصورة صادقة؛ لأنها مدونة قبل الإسلام يؤيدها الشعر وتاريخ يوم بعاث.
وهذا هو الرجل الذي وقف للنبي واضطهده وحالف عليه اليهود وأعانهم وأعان قريشا وانسحب بجيشه وجيش حلفائه اليهود يوم أحد، فلما دارت الدائرة على المسلمين شمت بهم، ولما عاد النبي وأصحابه إلى المدينة تملقهم.
تكاد تكون صورة لبعض رجال السياسة في عصرنا الحديث عندما تدول دولة، كأنك تصف أخلاق وزير عثماني في عهد عبد الحميد أو فارسي في عهد مظفر الدين شاه، أو أرمني في عهد إسماعيل!
وإذن لن تدهش للدور الذي مثله رأسه المنافقين مع المسلمين منذ وصولهم إلى أن هلك. (8) القضاء على بني قينقاع في المدينة
كل الذي دونه المؤرخون عن سبب القضاء على تلك العشيرة مختلق؛ فقد زعموا أن امرأة عربية قدمت المدينة بعد بدر بشهرين بإبل وغنم تبيعها، فباعته بسوق قينقاع وجلست إلى صائغ منهم فجعل اليهود يراودونها عن كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ كل فريق قومه فوقعت الموقعة.
هذه القصة المنتحلة مأخوذة بحذفارها من أسباب حرب الفجار الأولى، وهذا يشككنا فيها، ويظهر أنها «عقدة» كل رواية حربية لا يعرف أصلها؛ سهلة، مؤثرة، امرأة وحيدة ذات جمال وشباب ومال تقصد إلى دكان صائغ، فيمزج بين الغزل والتجارة، كما يحدث كل يوم في دكاكين صاغة القاهرة ونراه بأعيننا، واليهود أهل فجور وفسق ولا كرامة للأعراض عندهم، فلا غرابة أن يفعلوا هذا، وكانت قينقاع صاحبة السوق وكلهم صاغة، ولكن هذه القصة منقوضة ومرفوضة؛ لأنها مختلقة ومعادة.
والحق أن النبي حارب بني قينقاع؛ لأنهم أبوا أن يعترفوا بانتصاره في بدر، لم يتحرش النبي بهم، ولكنهم قالوا وهو عائد من ظفره المعجز: «ولو!»؛ ولو أنك انتصرت بفئة قليلة على فئة كبيرة، ولو أنك قهرت قريشا التي كنت تخشاها، ولو أنك صرت سيد المدينة وملكها، فلا نخضع لك ولا ندخل دينك ولا نحترمك. وبلغة سياسية أظهروا البغي بعد بدر والحسد ونبذوا العهد المكتوب في الصحيفة فغدروا بالعهد؛ فكان مسلكهم سببا لتوتر العلاقة.
وكان النبي قد ضاق ذرعا باليهود والمنافقين، وبنو قينقاع شوكة في جنب المسلمين؛ لأنهم في المدينة نفسها، وقد رأينا الشارع الذي كانوا يحتلونه ولعله لم تتغير أوضاعه وإن تغيرت مبانيه، ولا يزال مشغولا بصاغة وتجار من الهنود والجاويين والغرباء عن المدينة. لم يحتفلوا به ولم يهنئوه ولم يظاهروه، بل تظاهروا بالشجاعة والازدراء للنصر العظيم، وحقهم لو كانوا على العهد أن لا يكونوا له أو عليه، فكانوا عليه بأقوالهم وفعالهم.
كان عدد قينقاع أصحاب أغنى أسواق المدينة ثلاثمائة محارب وأربعمائة أعزل، أغنى أهل البلاد؛ لأن تجارتهم الذهب والفضة والإقراض بالربا والرهون، وقد فطروا على خلة المعاكسة المحنقة لغير غاية، المعاكسة والمكايدة لأجل المعاكسة والمكايدة، والنفخة الكاذبة والظهور بما ليس فيهم، والكلام الجارح والتهكم المرسوم على الوجوه والأحقاد الكامنة في القلوب التي تطفح أحيانا وتطغى على الألسنة والأعين. كانوا ينتظرون معجزة؛ ليؤمنوا بمحمد كالتي تمت لأحد أبنائهم على جبل الكرمل، فظن الرسول أن في بدر معجزة كافية لإقناعهم، فقصد إلى سوقهم وسار بين ظهرانيهم يحييهم ويتودد إليهم ويسألهم رأيهم في ذاك الذي أتمه الله على يديه، ألا يعدل انتصاره قبول الضحية والتهامها بالنار المقدسة؟! طبعا إنها لمعجزة أعظم ألف مرة من التهام قطع من الغنم بنار من السماء، فكان جوابهم جواب المخنثين الثقلاء، فوصفوا قومه من قريش بالجبن والضعف، أي إنهم استصغروا شأنه ونسبوا النصر لا لله ورسوله والمؤمنين من أهل بدر، ولكن لخيبة قريش وعجزهم، وتباهوا بقومهم لو أن محمدا تصدى لحربهم، والله يعلم ورسوله أنهم أجبن من الجبن، وأنهم أشد الناس حرصا على حياة، وأن عهد حروبهم قد انقضى وقد صاروا صناعا قاعدين لا رجال حرب وكفاح، وما أبعدهم الآن عن يوم بعاث آخر أيام حروبهم، وقال الله ساعتئذ:
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
الآية.
لم يكتف بنو قينقاع بتهديد خفي بالحرب وتصغير شأن بدر، بل قاطعوا الذين أسلموا من ملتهم؛ مثل عبد الله بن سلام وكان من أحبارهم، وسخروا من شعائر الإسلام سخرية جارحة، وغاظهم أن الله حرم الخمر في تلك الأيام فجرت شوارع المدينة بالنبيذ المسفوك والدنان المحطومة، وقد عزا اليهود هذا التنزيل إلى شجار نشب بين بعض الصحابة وعقر بعيرين لعلي بن أبي طالب.
فتأثرت تجارة اليهود عامة وبني قينقاع خاصة؛ لأنهم كانوا يجلبون الأنبذة من الشام ويربحون بها أرباحا طائلة، وما كان منه جيدا يستخرج من نخيل المدينة ومعظمها مرتهن لديهم، وتحريم الخمر يقضي على هذه الصناعة ويجعل التمر مأكولا لا مشروبا، وهو أقل ربحا من «نبيذ البلح»، واليهودي يرجو أن تعض قلبه قبل أن تعض درهمه وديناره! فغالوا في خصومتهم وأظهروا العصيان والغدر؛ لئلا يطمع المسلمون في ضعفهم، ولكن المسلمين كانوا يعدونهم أشجع اليهود وأغناهم حيازة أسلحة؛ فمتاجرهم عامرة بالدروع الفاخرة وبيوتهم تكاد تكون حصونا مقفلة، بيت اليهودي حصنه وقلعته كبيت السكسوني.
فقال النبي: «ما على هذا أقررناهم.» أي إنهم خالفوا شروط الصحيفة وهي المعاهدة، فتبرأ حليفهم عبادة بن الصامت، وكان رجلا جسيما جميلا أصيلا في الجاهلية والإسلام، مات في العقد الثامن بعد حياة مباركة، وهو أنصاري خزرجي ومن نقباء الأنصار، شهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع الرسول، واستعمله النبي على بعض الصدقات، وكان من الخمسة الذين جمعوا القرآن في زمن النبي، وكان يعلم أهل الصفة، وأول من تولى قضاء فلسطين، ونصره عمر على معاوية، وكان في البيعتين الأولى والثانية، وعاهد الله على ألا يخشى في الحق لومة لائم؛ فلما رأى الحق في جانب المسلمين وكان حليفا لقينقاع قال للرسول: «أبرأ من حلف هؤلاء الكفار.» ولكن رأس النفاق تشبث بهم ولم يتبرأ من حلفهم، ونزلت فيه الآية:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض
الآية.
ولكن لا حياة لمن تنادي، فلم يكن رأس المنافقين ليسمع أو يعي، وكان يموت حبا في اليهود، ولما كان الرسول أشرف وأسمى وأعدل من أن يقاتل قوما قبل أن ينذرهم ببلاغ أخير، وقد أنزل الله:
قل للذين كفروا ستغلبون
الآية.
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء .
ردا على أنهم نسبوا نصره ببدر لجبن قريش؛ إذ قال قائلهم والرسول يدعوهم للصلح والإسلام: يا محمد، أتظن أننا قومك؟! فلا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت لهم فرصة، إنا والله لو حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس!
فما تظن هؤلاء الشجعان قد فعلوا بعد هذه الطنطنة والشنشنة؟ إنهم لاذوا ببيوتهم وأغلقوها عليهم، فحاصرهم أسبوعين فلم يبرز منهم أحد ولم يبادلوا نبلا ولم يلقوا حصاة! ونسوا ما تهددوا به وما نوهوا به من علم الحرب والشجاعة! ولم يستعملوا درعا ولا خوذة ولا سيفا، وكانوا سبعماية؛ بين دارع وحاسر، ولكن قذف الرعب في قلوبهم وعرفوا بالتجربة كيف هزمت قريش لا جبنا ولا وهنا، وفي ختام الأسبوعين عندما بدأت مخازن أقواتهم في بيوتهم تخلو وضاقت أنفاسهم من سجنهم الاختياري، ولم يمد أحد من بني جلدتهم يد المعونة؛ لأن الشقاق دب من قديم بينهم؛ لانقسامهم في الدين، وتزاحمهم في التجارة واختلافهم في الرأي في معاملة المسلمين، عرضوا شروط الصلح وطلبوا من الرسول أن يجلوا عن المدينة بنسائهم وأولادهم، وله الأموال والسلاح والبيوت، ولم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع كعادتهم في كل بلد، يملكون المنقول ويرهنون العقار، فإذا صفوا مراكزهم باعوا ديونهم وعقودهم ورهونهم لمن يشتريها، أما البيوت فلا حيلة فيها، فأرادوا أن ينجوا بجلودهم، ولا بأس أن تكون نساؤهم قد أخفت كثيرا من المصوغ فيما ستر الله من أبدانهم، ولا نرى الرسول قد أمر بتفتيشهن أو فحصهن؛ فقد كان أعلى وأكرم من أن يفعل، ولكن كل خروج لليهود من أي مكان لا يخلو أن يصحبه إخفاء الذهب، فلما نزلوا من بيوتهم أمر الرسول أن يكتفوا فكتفوا، فأراد قتلهم فكلمه فيهم نصيرهم وبوقهم ورأس المنافقين ابن سلول وألح عليه فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع الرسول من خلفه فقال: «ويحك أرسلني.» وغضب الرسول حتى رأوا لوجهه سمرة؛ لشدة غضبه وقال: ويحك أرسلني! فقال المنافق: والله لا أرسلك حتى تحسن في أوليائي؛ فإنهم عترتي (كذا!) وأنا امرؤ أخشى الدوائر! فقال الرسول: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم. خذهم لا بارك الله لك فيهم، وأمر بإجلائهم عن المدينة، ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت حليفهم السابق، ولم يكتف المنافق الأكبر بمضايقة الرسول، أحلم أهل الكون وأصبرهم على أذى، بما فعل من توريطه وتضييق الخناق عليه، وهو عداوة مكتومة وغل مستور وراء «القسم الكاذب»، ولم يتقدم أحد من الصحابة بضرب عنق ابن سلول؛ خوفا على الرسول، ولأنه لا يرضى أن يقتل أصحابه؛ ولو كانوا من هذا الصنف المزيف الزائغ الخسيس المراوغ، لم يكتف بهذا بل قصد إلى بيته ليراجعه في إقرارهم (أي يلغي قرار الإجلاء!) فرفض لقاءه وحجب عنه، فأراد الدخول عليه عنوة؛ ليمثل دور إدخال اليد في الدرع، فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه فانصرف مغضبا، ولم تكن إصابته بإذن الرسول ولا بقصد الصحابي ولكنها جاءت لمقاومته وكان بادنا دموي المزاج ثقيلا، فلما رآه بنو قينقاع ملطخ الوجه بالدم قالوا: «لا نمكث في بلد يفعل فيه بأبي الحباب هذا ولا ننتصر له.» وتأهبوا للجلاء، كأنهم يستطيعون الانتصار لأحد! ولو تمكنوا لانتصروا لأنفسهم، شنشنة نسمعها من أخزم! وقسم الرسول غنائمهم على أصحابه ولا سيما سلاحهم الشهير بالجودة وغلاء الثمن.
خرج بنو قينقاع على ركائبهم كاسفي البال نادمين على طغيانهم وبغيهم إلى أذرعات أحد بلاد الشام بوادي القرى، ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا جميعا إلا رجلين ورد ذكرهما في الواقدي (ص398) تمكنا من البقاء في المدينة، وليس غريبا أن يبقى رجلان من سبعماية؛ أولهما: رفاعة بن زيد، استمر يحمل لواء الناقمين من اليهود سرا إلى السنة الخامسة هجرية، وزيد بن اللكيب أقام إلى السنة التاسعة.
فأي خير أفاده بنو قينقاع من العلم والشجاعة وهم لم يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم؟! إن علما وشجاعة لا تؤيدهما قوة البقاء والكفاح لا خير فيهما، كانت قينقاع أغنى اليهود وأقواهم، ولكن المسلمين لم يطمعوا في أموالهم، وإنما صادروها كما تفعل أي دولة حديثة في فريق من السكان لم يرعوا حرمة الجوار ولم يحفظوا العهود المعقودة، فلا أقل من أن يعيشوا في كنف رجل قوي صبر معهم وتحمل أذاهم وانتصر على خصومه؛ فأرادوا التقليل من نصره!
وترى المستشرقين يقرون الرسول على فعله؛ يقول مرغليوث: «لم يكن هذا الفعل في تلك الفترة مخالفا للسياسة» (ص286). ولا يملك أحد غيره أن يقول غير ذلك مهما كان متحزبا لليهود، حتى ولو كان رأس النفاق نفسه الذي تتكشف حقيقته يوما فيوما.
وفي هذه الفترة انتهز علي بن أبي طالب فرصة الرضا وهو أحد أبطال بدر فخطب إلى الرسول ابنته فاطمة الزهراء، وكان عمره إحدى وعشرين سنة، وهي أصغر منه بست سنين فأصدقها أربعماية درهم، وأولم لها وليمة فاخرة، وباركها الرسول، وفرحت المدينة بأفراح الأنجال، وأقامت معالم الزينة، وأطعموا الفقراء، وبارك الله في الختن، لعلي أبي الحسين والحسن، وفيها أن عليا شرع في بيع درعه؛ ليحصل على الصداق؛ لأنه من غنائم بدر بأكثر من جملين اثنين، فرآها عثمان تعرض في السوق فأدركته نخوة النسب والصحبة وقال: هذه درع علي فارس الإسلام لا تباع أبدا. ورد الدرع والمال وأخذ عهدا على غلام علي أن لا يبوح بأمره. وكان عثمان من أهل المروءة والنجدة، وقد اشترى أرضا مرتين بألوف الدراهم؛ لتوسعة المسجد، واشترى بئر أريس؛ ليشرب منها المسلمون، وكان له جانب من الخير العام لا ينكر. وأقام علي وفاطمة في بيت الرسول، وما يزال بيتهما داخل مقصورته حتى اليوم، وقد نزلت في علي ثلاثماية آية من القرآن الكريم، وأكثر ما أخذه المفسرون منه، وكان من أشجع المسلمين وأخطبهم وأبلغهم حجة وأصدقهم وأطولهم صحبة؛ بل كان بمثابة الابن الصحيح للرسول، وهو ابن عمه وختنه وربيبه وبطل جيوشه في جميع المواقع كلها.
وكان الرسول شديد الحرص على شعور فاطمة، وهي وأخواتها وأولادهما أحب الناس إليه، وهم وعلي أهل البيت بنص القرآن وحديث الرسول وفعله. وكان يحرص ألا تغار ولا تغاظ ولا تهتاج؛ فقد استأذنه بنو هشام بن المغيرة في أن يزوجوا ابنتهم من علي بن أبي طالب مع فاطمة فقال: «لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم؛ فإنما هي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.» ومن ذلك اجتماع الضرة.
كان رسول الله صريحا في مسائل القرابة والأسرة؛ فقد ظن بعض بني شمس ونوفل أن فضل بني هاشم عليهم في غنائم قينقاع مع أنهم ينحدرون جميعا من أصلاب عبد مناف، فقال لهم: «إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد هكذا (وشبك بين أصابعه)، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام.»
فهذه المسائل الثلاث؛ تصريحه بأسماء أهل البيت وتحديدهم على سبيل الحصر بمسمع ومرأى من إحدى زوجاته - سودة بنت زمعة، وغضبه لزواج علي من فتاة أخرى مهما بلغت في الغنى والشهرة فلن تبلغ شأو فاطمة الزهراء، وتعريفه بفضل بني هاشم. هذا لا يمنع أنه خلع لقب السيادة على سلمان الفارسي عندما قال: «سلمان منا آل البيت.» فلم يكن إلا لقبا كبيرا، كما جعل بسمرك برنسا؛ جزاء له على خدمة وطنه ومولاه.
كانت الغزوات اللاحقة سرايا تأديب وحماية للمدينة من أعراب يطمعون في أطراف العاصمة لا ليغزوا ولكن ليسلبوا، وكان معظم أعمالهم باتفاق مع اليهود أو أبي سفيان الذي لم يكن قد استعد بعد لموقعة أحد، ولكن الرسول كان يخرج فيها جميعا بفرق لا تزيد عن نصف ألف رجل ويترك على المدينة رجلين من خيرة الصحابة كعثمان وابن أم مكتوم، فإن لقي جيشا حاربه أو غنيمة ظفر بها على أنها عقوبة لقطاع الطريق والجناة الذين يقتلون رجلا أو يحرقون نخلا وعنبا، كما فعل أبو سفيان، ولا نرى ضرورة لذكر هذه المغازي بالتفصيل، إلا أنها كانت في كل شهر تقريبا، وقد قصد الرسول بها إلى تدريب جيشه وتدريب صحابته على الحكم في غيبته، وإدخال الرعب على من يجترئ على عاصمته والضرب على أيدي الخطافين، إلا أن واحدة منها تستحق العناية؛ لأنها دالة على حماية الله لشخصه وعلى شجاعته النادرة وقدرته وهو في منتصف العقد السادس على حركات الفروسية والدفاع عن النفس حتى لو أخذه العدو على غرة؛ ففي الشهر الخامس من هجرته أي أول السنة الثالثة ه، خرج إلى غزوة تعرف بثلاثة أسماء (ذي أمر، أنمار، غطفان) فلما سمعت به الأعراب من المشركين وأحلاف اليهود وقريش لحقت بذرى الجبال، فعسكر بذي أمر وخرج يتمشى بمفرده كعادته، فأصابه مطر فبل ثوبيه فخلعهما وعلقهما على شجرة حتى يجفا، فرآه نفر من قبيلة غطفان فقالوا لسيدهم وقائدهم دعثور بن الحارث الغطفاني: «انفرد محمد عن أصحابه، وأنت لا تجده أوحد منه هذه الساعة فانتهزها لتقتله.» فأخذ سيفا صارما ثم انحدر ورسول الله مضطجع ينتظر جفاف ثوبيه، فلم يشعر إلا بدعثور واقفا على رأسه بالسيف وهو يقول: من يمنعك مني يا محمد؟ وكان دعثور شجاعا نبيلا لم يقدم للاغتيال ولكن للمحاربة، وكان الرسول أعزل، فنظر إليه نظرة أفقدت دعثورا توازنه فوقع السيف من يده، فأخذه الرسول وقام على رأسه وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، فقال الرسول: قم فاذهب لشأنك. فقال له: أنت خير مني. قال الرسول: أنا أحق بذلك منك. ثم رجع دعثور إلى قومه فلقوه بضجة من التأنيب والعجب: ما رأينا مثل ما صنعت! وقفت على رأسه بالسيف؟ فقال: والله لا أكثر عليه جمعا. وذكر القصة ثم أسلم، وفي اسم دعثور بعض خلاف؛ فقد ذكره بعضهم غورث بن الحارث وربما تصحف أحد الاسمين من الآخر، ولكن الإجماع على الواقعة بتفصيلها. (9) شخصية النبي بعد بدر
سافر الرسول من المدينة إلى بدر مثقل الكواهل بالهموم، وبذل من جهد الجسم والنفس ما بذل في الاستعداد إلى النصر، وعاد آمنا مطمئنا، وقد أدخل على المدينة بدخوله حيوية جديدة كانت في حاجة إليها، ولكن اليهود كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، ولم يكونوا على شيء من حذق أحفادهم الذين جاءوا بعدهم بمئات السنين، يضاربون على الحرب والسلم ويضاربون على الرجال ويقامرون على الحظوظ المرتقبة وكثيرا ما يربحون، فلو أنهم فطنوا إلى فرصة المضاربة على بدر وتعقبوا الموقعة وتجسسوا أخبارها كما صنع عبد الله بن أبي يوم بعاث، وسارع المراقب إلى قبائلهم يخبرهم بما رأى وسمع، إذن لعلهم عدلوا خططهم وحولوا عجلتهم عن مآزق الطرق وسلكوا مسلكا حسنا لأنفسهم، ألا ترى في التاريخ كيف فاز روتشيلد في موقعة وترلو بأموال طائلة؛ لأنه عرف خبر الهزيمة قبل غيره، وفاز قبل ذلك لأنه عرف انتصار أوسترليتز قبل غيره، وفاز هو وإخوته كلما خطا الفاتح المنصور خطوة في الغرب والشرق؛ إذ لم يكن لهؤلاء الصائدين المهرة إلا الصيد في الماء والهواء وتنسم الأخبار؛ لتسنم ذروة الأسواق، ولكن يهود المدينة ألفوا الرقاد وارتهان النساء والأولاد ومكايدة المسلمين، ولم يعيروا نفعهم الذاتي جانبا من الالتفات .
ماذا يكون تاريخهم لو أنهم أخلصوا لأنفسهم وعهدهم المدون في الصحيفة، ثم أسلموا وخدموا الدولة في شئون المال والإدارة وتشجيع الصناعة في مهدها؟! ألم ير اليهود كيف نظم الرسول حياة المدينة الداخلية والخارجية، وأنه إذ يجرد الجيوش ويحشد الحملات ويوجه السرايا لا يحتاج إلى معونتهم ولا يقصد إليهم في قرض؟ ألم يدهشهم أن رجلا واحدا يسير دفة الأمور في بلد كبير ولا مال لديه مما يحسب مالا تدون له الدواوين ويستوزر له الوزراء، وأنه لم يمض عليه عامان وشهران حتى استغنى أهل المدينة من مهاجرين وأنصار، وقد اتسعت أمامه الآفاق وتفتحت أبواب النجاح وسددت خطاه وتحققت آماله وأحلام المسلمين، ولكن اليهود ازدادوا عمى وصمما كأنهم يسعون إلى حتوفهم بأظلافهم ويرون أقدامهم تريق دماءهم، فكلما نزلت آية فيها إنذار ووعيد استهزءوا بها، وكلما استكمل الرسول تشريع المسلمين غمزوا بأعينهم ورفعوا حواجبهم وأشاروا ببنانهم؛ ليوهموا أن ما جاء ونزل إنما ذنب وذيل من شريعتهم الشوهاء المحرفة التي أكل عليها الدهر وشرب، وأدركتها العفونة بعد أن لبثت في معاطن الأحبار ومزابل الهياكل المنتنة بروائح الضحايا البشرية وغيرها أكثر من ألف عام.
وإن المرء ليحمد الله ويثني على تعصب اليهود وجمودهم، فإنهم لو دخلوا في الإسلام جملة لأفسدوه بدسهم وخبثهم، ولجعلوا من إسلامهم الظاهر مؤامرة خفية يقضون بها على الحياة الجديدة، وإنهم أول من يشترك في جرائم الاغتيال السياسي، وأول من يدس السم في الطعام، وأول من يبيع أسرار الدولة بالدرهم والدينار، وأول من يفرط في الفرائض ويتهاون في العبادات، ويقاوم أداء الزكاة ويتحلل من أشراط الصدقات، ويبيع أحكام القضاء بيع السماح، ويختلس في المواريث، ويغتصب أموال القصر، ويأكل أموال اليتامى والضعفاء، فلا يأسف المؤرخ على أن اليهود استمروا في طغيانهم، ومد الله لهم في بغيهم وكبريائهم وغرورهم؛ فقد كان هذا وقاية للإسلام منهم وحماية للمؤمنين وبعدا لهم وإقصاء، كبعد الجراثيم المهلكة والأمراض الفتاكة؛ فلا أخلاق يقتدى بها ولا عقول ناضجة تثمر ثمرا يانعا ولا قلوب خالصة ولا أجسام قوية تتحمل مصادمة القتال ولا مال حلال يدخله المسلمون في صلب دولتهم فيبارك لهم فيه.
كعب بن الأشرف وعصماء
سيقولون: كان كعب شاعرا، وكان فتى جميلا، وكان محكم النظم حتى إن قدامة الناقد الكبير يستشهد بشعره، وكان عرسا حديث العهد بالزفاف، وكان سيد قومه بني النضير، وبنو النضير لم يتعرضوا للمسلمين في وقعة قينقاع، ولكن الذين يقولون نسوا أن لكعب بن الأشرف لسانا وفصاحة وقدرة على الهجاء تعدل سلاح قبيلة، وأن المسلمين كانوا أحوج إلى الدعاية لأنفسهم، لا أن يحرض عليهم ويحط من قدرهم، ولكن النبي كان حليما إلى أقصى فسحات الحلم وصابرا إلى أبعد حدود الصبر، وصافحا إلى أعلى ذروة الصفح التي لا يعلوها إلا صفح الله وعفوه، فلما تقدم محمد بن مسلمة إلى الرسول في قتل كعب بن الأشرف بعد عصماء الفاجرة التي قتلها الأعمى، لم تكن مؤامرة ولا اغتيالا ولكن عملا من أعمال الدولة يقتضي الكتمان والسرعة، ولم يكتف الرسول بأمره وهو ولي الأمر ولا برأيه وهو صاحب الرأي ولا بحقه وهو صاحب الحق، وقال لمحمد بن مسلمة الذي كان قبل إسلامه شاعرا وخبيرا بأخلاق اليهود؛ لأنه ولد ومات بالمدينة ولم يستوطن غيرها ولم يخرج منها إلا للغزوات والمشاهد، واستخلفه النبي عليها أحيانا، وكان رجلا أسمر شديد السمرة طويلا أصلع ذا أسرة كبيرة، وكان أمينا على المال بعيدا عن الفتن، وكان عند عزمه على قتل كعب بن الأشرف في الثلاثين من عمره فخاف الرسول أن يكون عجولا، فأمره أن يشاور سعد بن معاذ وهو الأنصاري العظيم المحالف لليهود والواقف على حقيقة أمرهم.
نعم؛ إن كتاب العرب يظنون أن محمد بن مسلمة استدرج كعبا؛ ليرهن عنده سلاحا مقابل أقوات من التمر وغيره، ولكن ظني أن اليهود لم يألفوا أن يعقدوا صفقاتهم تحت جنح الظلام وما هم بالذين يدفعون البضاعة ويقبضون الرهان في سواد الليل والناس نيام خشية أن يخدعوا، وما كعب بالذي يترك حضن امرأته الدافئ وصدرها الخافق وحرارة أنفاسها المترددة وذراعها الذي توسده تضمهما ملحفة واحدة؛ ليربح دراهم معدودة، وإن أفقر مرتزقة اليهود في حاراتهم لا يترك فراشه نصف الليل في الخريف؛ ليربح عشرة دنانير، فما بالك بهذا الشاعر الرقيق والفتى الأنيق والسيد الخطير في بني النضير؟!
الغالب على ظني أن فرقة الخلاص من كعب التي قادها محمد بن مسلمة خدعته وأوهمته أنها تنوي اغتيال النبي، وهذا أحب شيء إلى كعب، وهو الطعم الوحيد الذي يخرج هذا الثعبان من وكره في أي وقت من أوقات الليل أو النهار؛ لأن هواه في قتل محمد أقوى وأعظم وأعصف من هواه في حب عروسه، وشغفه بإهراق دماء النبي، أشد من شغفه بوصل زوجته، واحتراق قلبه على عصماء التي قتلها المسلمون، وأبي عفك زميله ورفيقه، جعلته يعمى عن الحذر ويغفل عن الدسيسة ويستسلم لكل من يلوح له بشبح من أشباح الآمال في الانتقام من الرسول، وإلا كيف نفسر قوله لزوجته وهي تتشبث بملحفته لتعوقه وتنشب أظفارها المخضوبة بالحمرة في غلالته وبطانة قبائه وهي بعد لم تشف غلتها من حبه ولم يقضيا أسبوعا من شهر العسل، يقول لها: لو دعي الفتى لطعنة أجاب، أي طعنة؟ يأخذها الفتى، أم يعطيها؟!
ولذا كانت فاتحة المؤامرة على النبي، أن قال أحدهم لكعب: «إن قدوم هذا الرجل كان علينا من البلاء! حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، ونحن نريد التنحي منه، ومعي رجال من قومي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاما وتمرا.»
من هذا القول إلى مشاركة كعب إياهم خطوة واحدة؛ ها هم رجال من العرب مسلمون حتما ضاقوا ذرعا «بهذا الرجل» الذي يبغضه، وقد جاءوا جائعين لتقرضهم تمرا، منكوبين بالنبي الذي جلب عليهم البلاء كله، ألا تأخذ بيدهم وتنصرهم أنت الذي سار شعرك في الآفاق بهجائه والتحريض على قتله؟
إنها مكيدة محبوكة الأطراف وضع خطتها محمد بن مسلمة ومن معه؛ ليحصروا القتل في كعب وحده، فواعدهم كعب على مصاحبتهم ليلة اعتزموا اغتيال النبي، أليس التمر والقوت عربون الاشتراك في العمل؟
وهذا وحده الذي أقام شاعر السوء من فراشه وأخلى ذراعي زوجته من صدره وظهره وعنقه !
فحدثتها غريزة الأنوثة أن هذه الرأس لن تبقى طويلا على هذين المنكبين، وأن عينيها لن تقع بعد الساعة على أنفه الأقنى ولمته السوداء الكثة وشاربيه المتهدلين على شفتيه الغليظتين؛ فقد كان كعب نصفا من شيلوخ ونصفا من عمانوئيل؛ يتملك الفن والأدب، والوطن نصفه، والنصف الآخر للربا والشهوة والقتل والطمع، ولذا رأت زوجته في وجهه التناقض فأحبت بعضه وأعجبت ببعضه الآخر، وهي عما قليل تفقد الأديب والتاجر والعاشق المتآمر. •••
نترك كعب بن الأشرف يتخبط في دمه ويصرخ صرخة تكفي لإيقاظ أمة في قبرها، لا لفجيعة عروسه وحدها، وقد تعود هؤلاء الشرار أن يصرخوا عند الموت صرخات تقلق الجن في مغاورها؛ لشدة تعلقهم بالحياة، وعدم إيمانهم بالبعث والثواب والعقاب، ولننظر فيم كان يقضي الرسول أيامه فيه بالمدينة التي حامت حولها ملائكة الرحمة والرخاء والنعمة بعد العسر والشدة.
وفيم كان يقضي لياليه في تلك السنة الثالثة للهجرة.
فإذا هو في المدينة يحكم ويفصل بين الناس بالعدل، ويشجع القوم على العمل ويعدهم بالجزاء الأوفى، ويعفو عمن أذنب، ويولي النصح من هم في حاجة إليه، ويتلقى الوحي من السماء ويبلغه بأمانة إلى أهل الأرض، ويوفد أخصاء من النجباء في تقصي أخبار القبائل المجاورة، إلى مكة فتأتيه الأنباء تترى لا تفوته مما يقع بين جدرانها صغيرة ولا كبيرة، وها هو يصل إلى علمه بعد بدر بخمسة أشهر أن أبا سفيان قد حرم الدهن والعطر على نفسه وحرمت هند نفسها «على النمارق» حتى يثأر من محمد وأصحابه؛ لقد قتل لهند ثلاثة أو أربعة من أقاربها، ففيم فكرت تلك الفاجرة (رضي الله عنها؛ لأنها أسلمت فيما بعد وإنما فجرها ينصب على فترة وثنيتها)؟! لقد فكرت في نبش قبر أم النبي في أبواء، وهددت زوجها أبا سفيان بأن تفارقه ولا ترقد على النمارق إن لم يمكنها من ذلك، وكان رجلا متزنا حسابا للعواقب؛ فقال لها: لو فعلنا لقابلونا بالمثل ونبشوا قبور أجدادنا وآبائنا! ففترت حدتها وهدأت نارها، ولكنها لم تلبث أن دفعت بأبي سفيان من «أعلى النمارق.» ودحرته، فجرى إلى آخر جدار في غرفة رقادهما، وحرضته على قتال محمد فقام يتعثر في أذياله ويتجسس صلعته وسعة بطنه حتى كان الصباح فخرج في مائتي راكب فسلكوا طريق النجدية حتى طرقوا حيي بن أخطب؛ ليستخبروه من أخبار الرسول فأبى أن يفتح لهم، وقد كانت هذه يدا لبني النضير حفظها لهم النبي، فلم يهرق في الحرب نقطة من دمهم، واتخذ من ابنة زعيمهم زوجة رفعها الله إلى مقام أمهات المؤمنين، وهي صفية النضيرية التي كانت تحلم أحلاما تدنيها من فراش الرسول ومكانة زوجاته كعادة الصالحين من بني إسرائيل، وكأحلام يوسف الصديق قبل أن يجعله فرعون على خزائن الأرض، لقد كان حيي بن أخطب رجلا شهما لولا أن أفسدت ضميره أشعار عصماء وكعب بن الأشرف وذبذبة قريظة ونفاقها، ولو أنه بقي على خطة الولاء والوفاء للصحيفة إذن لبقي في وطنه وآطامه؛ ولو بقي على ملة آبائه وأجداده.
فعاد أبو سفيان من باب حيي بن أخطب بالخيبة، وقصد إلى يهودي آخر؛ وهو سلام بن مشكم، ففتح لهم وسقاهم خمرا وقراهم، ويظهر أن أبا سفيان لم يحلف على الخمر فيما حلف عليه؛ فقد حلف على العطور وحلفت هند على النمارق، أما الطعام الجيد والنبيذ العتيق فلم يحلف أبو معاوية عليهما، فلما تزود منهما ومن أخبار اليهودي عن الرسول خرج ليلا مثقل الرأس والبطن بالخمر واللحم إلى أن وافى مكانا على ثلاثة أميال من المدينة فعربد وقتل فلاحا وأجيرا وحرق كوخا وتبنا ثم ولى هاربا، وأفتى لنفسه أن يمينه قد حلت وأصبح حلالا له أن يتعطر ويتدهن بالعطور والأدهان وأن يأمن أن تدحرجه هند مرة أخرى من أعلى النمارق، فلما خرج المسلمون؛ ليقتفوا أثر أبي سفيان الذي نزل إلى حضيض قطاع الطريق، والحريق العمد وقتل الرعاة العزل من السلاح، كان الرجل قد لاذ بالفرار، وهو خير من يطوي البيداء طيا محكما، فهو قائد عير حاذق ودليل طرق ومسالك، وأخذ يخف حمله كالمنطاد المنفوخ، يلقي بأكياس الرمل؛ ليرتفع في الجو، ولا بد أن مونجو لفييه الذي أطار في سنة 1780 منطادا فلما تلكأ ألقى عنه بعض ما حمله من رمال؛ ليخف ويعلو قد تلقت روحه عن روح أبي سفيان هذه الطريقة؛ فقد جعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون فيلقون جرب (جمع جراب) السويق عن ظهور ركائبهم وهي عامة أزوادهم، والسويق: أي نوع من الحبوب المدشوشة تكون أقوات المحاربين في الوقائع، فجعل المسلمون يأخذونها ولم يلحقوهم، فعاد أبو سفيان إلى مكة بخفي أبي جهل وعتبة، وعاد المسلمون بجراب أبي سفيان، وقد سميت هذه النزهة الحربية غزوة السويق.
ورأى الرسول رعاء فيهم غلام يقال له يسار، فاستظرفه النبي فسأله عن الناس فأجاب: «لا علم لي بهم، إنما أورد لخمس وهذا يوم ربعي، والناس قد ارتفعوا إلى المياه ونحن عزاب في النعم.» فأعجب الرسول بالراعي الصغير ولا بد أنه تذكر أيام رعيه الغنم، ولم تطاوعه نفسه على أن يترك الصبي المليح الفصيح فأخذه وأعتقه؛ لأنه رآه يصلي ويحسن الصلاة، ثم إن الرسول بعث يسارا في لقاح في الحرة فأقام بها، وهي في ضواحي المدينة، وكانت طائفة من عرينة (اسم قبيلة) أظهرت الإسلام ووردوا المدينة وشكوا أمراضهم إلى النبي وقد انتفخت بطونهم بداء الاستسقاء وورم المعى وامتلأت أجوافهم بالهواء واصفرت وجوههم وكدرت ألوانهم، فأشفق النبي عليهم وأرسلهم إلى يسار وهو يرعى إبل النبي وغنمه وأمره أن يعالجهم باللبن، فكانوا يشربون ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم وهبط انتفاخها، فكان أول ما فعلوا أن قتلوا الراعي المليح الفصيح الذي عالجهم حتى شفوا وسملوا عينيه، وارتدوا وفروا.
وحمل يسار ميتا إلى قباء فدفن هناك.
وهكذا يصح أن يضم اسم يسار إلى اسم سنمار، فنكران الجميل هنا أظهر فيقال «كما يجزى يسار.» أو يقال «أجحد من عرينة أو أخبث من عرينة أو أكفر من عرينة.» •••
كان الرسول في المدينة أبعد الناس رغبة عن خيرات الدنيا، إلا ما كان منها لخير المسلمين، وكان أشدهم ميلا إلى التعفف، والحرص على أن لا يعرف الفقر عن أحد من المهاجرين والأنصار، وإن كان فقرهم لا شك فيه، ولم يكن أحد يعرف كيف يتسلل إلى كمين الرضا من سريرته إلا من يطمئنه على الحاضر ويبشره بالمستقبل، ما لم يكن هذا الأريب المتحدث منافقا من طراز ابن سلول أو أحد اليهود الذين نصبوا له وللمسلمين حبائل مكايدهم وأضمروا لهم الانتقام كلما سنحت فرصته أو هبت ريحه، فهؤلاء إن مدحه أحدهم ساءه مدحهم.
وكان للنبي شعراء يلوذون به وينشدون أشعارهم في مسجده، وقد يجلس أحدهم على منبره؛ فإن «بانت سعاد» قد أنشدت من على أعواده ، وتصدى حسان بن ثابت للنيل من كل من تجرأ على مقامه، فكان الرسول يشير إليه بالكف عن المديح والثناء فيقول له حسان: إنا نثني على أنفسنا وعلى بلادنا بما أنجبت من فضلك، فإنما يعيبنا ولا يعيبك أن نقصر في هذا أو نتمادى في نسيانه، وها هم الغرباء يمدحونك، ويضيرنا كل الضير أن يثني عليك الغرباء ونحن سكوت! وحقيقة كانت الوفود ترد في كل وقت تقول الشعر وتلقي الخطب وتحمل الهدايا. لقد مدح الناس من ملل الأرض أنبياءهم وحكماءهم، فلا بد أن يمدح هذا النبي ويشاد بمناقبه وسجاياه، وكأنما يطلق ألسنتهم إصغاء الرسول وارتياحه وحياؤه، يقول حسان: «الغرباء»، وهو في الحق غريب منهم بالنسبة للنبي؛ لأنه كان من الأوس، فإذا انتسب فهو مدني أنصاري، وليس قرشيا ولا مهاجرا.
ولكن حببه إلى الرسول إخلاصه وشعره وإن يكن جبانا أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، حتى إنه ليفزع من خياله ويجزع من جثة يهودي قتيل قضت عليه صفية عمة الرسول بضربة واحدة من عمود. كان محمد يحب الصراحة والفكاهة، فلما سمع بهذه القصة أضمر أن يفاتح فيها ابن ثابت؛ ليرويها بنفسه فيضحك محمد ويتفتح للسمر البريء، ويجري مع أصحابه في مجراهم؛ لأنه وإن زهد في المجد والسلطان وإن اختار العزلة والفاقة، فلا عن صغر في النفس أو قناعة بحظ متواضع، وإنما استخفافا بعرض الدنيا وتحديدا لقدرها وقيمتها في نظر الله، وحرصا على أن لا يفتن به الناس إن جمع بين رسالة الله وسيادة الدنيا؛ فقد أتيح له أن يصبح مليكا في مكة وأتيح له أن يعطل تتويج ابن سلول في المدينة، وها هو سيدها فعلا لا قولا، وعملا لا خيالا، ولكنه أصبح باختياره زاهدا متبتلا يعرض عن الدنيا وينثر المال بمئات الألوف في المسجد يعطي منه من يشاء، يكف عنها ويتركها تسيل بين كفيه نضارا، ولعله حين يعطي لا يمس المال ولا ينظر إليه، وتراه يجعل خيرة رجاله على الزكاة والصدقات وإدارة الحرب، ولا يجعل لنفسه نصيبا إلا فيما يغنمه غازيا ومجاهدا، وإنك ترى بعض نوابغ الصحابة وإن صغرت سنهم يجلسون إليه يطيلون النظر ويحسنون السماع؛ ليشرق شعاع من حقيقة الرسول على أذهانهم:
يكررني ليفهمني رجال
كما كررت معنى مستعادا
وإنهم في ظاهر الأمور ليفرحون؛ إذ لا تخفى عليهم خافية من خواطره ولا تغيب عنهم خالجة من خوالج طبعه؛ فقد بلغت نفسه صفاء الجوهر الفرد ونقاء أشعة الشمس، فليس فيه غموض ولا ألغاز ولا سر مستور يدعو إلى الحيرة، إنه لمناضل لا يكل ومغامر شجاع لا يحب الجلوس، وإن نفس الزاهد منه لمقرونة بنفس السيد الذي لا يدين في الحياة لغير حكم الله، ثم حكم العقل، ثم مشورة أصحابه كما فعل في بدر، ويأنف أن يموت قبل أن يتم أمره، ولكنه لا يحتاط لنفسه، ألا تراه ينام تحت الشجرة أعزل لا سلاح بيده ولا مشرفيا يضاجعه وهو ينتظر جفاف ثوبه فيهاجمه عدوه ويشهر سيفه ليقتله، وهو آمال أمم لا أمة، ورجاء دول لا دولة، وهناء شعوب لا شعب؟! ولكن شجاعته كانت فوق حرصه على الحياة، واتكاله على الله أقوى من رغبته في إتمام رسالته وخجله من أن يصطحب أحدا وهو يتمشى حول المعسكر أكبر من أن يدركه عدو كامن لينال منه في غفلة من حرسه، ولكن الله كان يعصمه من الناس على الرغم منه، ويقيه شرور أعدائه في المدينة.
وكم عدو للرسول! إنهم لا يحصيهم العد؛ فقد كان محسودا من كل جانب، ومعادى من أكثر النواحي، وإن عددت أعداءه لا تحصيهم.
ففي مكة أعين لا تغمض وأنفس لا تنام، كانت قبل بدر تحرض على قتله، وهي بعد بدر تريد النساء منهم أن ينبشوا قبر أمه، وفي القبائل المجاورة شيوخ وفتيان نفسوا على المسلمين أنهم حرموهم أموال قريش التي كانوا ينقدونها أجرا على تأمين الطريق وثمنا للتجسس، ففكر أبو سفيان في سلوك خطط أخرى عن سكة العراق، وذلك في الشهر الرابع من السنة الثالثة للهجرة، فخرج بالعير على ذات عرق طريق العراق، فوجه الرسول زيد بن حارثة على جيش، فأصاب مائة ألف درهم وآنية من فضة وكان عليها صفوان بن أمية، وهذه عداوات جديدة يحصدها النبي؛ لأن القبائل على طريق الشام وساحل البحر الأحمر غدا تجوع وتوحش فتوجه همها وغيظها إلى صاحب المدينة الذي لا يكفيه إلا أن تدخل في ملته ولا يقنعه إلا أن يقلعوا عن الشرك والإجرام.
أما في المدينة فالأنون، فهنا اليهود والمنافقون يحصون على المسلمين فلتات اللسان وشوارد الأماني وشطحات الأوهام، ويضمرون العداء، وكثيرا ما يظهرون ما يبطنون بالأقوال والأفعال ويحثون شعراءهم على قتله، وإذا سنحت لهم فرصة التآمر على اغتياله فلا يتأخرون، وأما المنافقون؛ فقد رأينا بعض أساليبهم في مسالك ابن سلول الملتوية؛ فهو يظهر المزاح ويبالغ في توكيد «القسم»؛ ليرغم الرسول على العفو عن بني قينقاع، ثم يتهجم عليه في بيته يريد الدخول بغير استئذان! كأن بيت الرسول حمى مباح لأعدائه! فيلقى من يشفي غليلا بشج وجهه الصفيق.
وكان النبي صبورا على هذا وذاك؛ فقد وقر في نفسه أن الناس ليسوا أهل ورع أصلا أو أصحاب كرم وتقوى ولم يكونوها في غابر الأزمان، وأن الأديان قد اتخذت نظرية سوء الظن بالإنسان؛ لأن الله يعلم فطرتهم وهو الذي خلقهم، هل كان الناس في غابر أزمانهم وسالف عصورهم وأوانهم أهل خير وبر ونجدة وشرف ومروءة ثم عدت عليهم عوادي الزمن فصدوا عن سبيل الخير؟ فإن كان كذلك فهناك أمل في عودتهم إلى ما كانوا عليه، ومن قال إنهم اليوم جاهلون، وغدا يعلمون، وإنهم على عوج وغدا يستقيمون، فذلك خليق بتبديل الرأي فيهم عصرا بعد عصر وأمة بعد أمة.
ولكن الرسول قد بلاهم فعلم أنهم هكذا كانوا منذ كانوا، وأخبار الأمم القديمة في الكتب المنزلة التي بين يديه وخاتمتها القرآن حافلة بأحوال الأمم، نعم قال المسيح يوما: «اللهم اغفر لهم؛ فإنهم يجهلون ما يفعلون.» ولكنهم يفعلونه سواء أجهلوه أم لم يجهلوه، وإنك لتسأل نفسك: لم جهلوا الخير وعلموا الشر، وعدلوا عن الأول وانغمسوا في الأخير؟ ثم إن النبي رجا صلاحهم واستأنف الرجاء، وإنك لتعجب من أمره معهم على شدة علمه بهم ، وما يوم ثقيف ببعيد، وما يوم هجرته ببعيد، وما يوم المقاطعة والنفي إلى شعاب أبي طالب ببعيد، وما يوم دخوله بلده مستجيرا بمشرك ببعيد، وما يوم الاعتداء على بنته زينب واعتداء النضر وعقبة عليه في الكعبة والمسجد وفي غيرهما ببعيد، ولكنه أحسن عندما أيقن بفساد بيئته الأولى وقطع حبل الأمل فيها بالفرار منها بدينه وحياته وأصحابه وبعض أهله.
ولكن الرسول إذا تذكر تلك كلها واستبقاها في نفسه فهيهات أن ينجح في رسالة، فإن بعضها من قاصمات الظهور وفي تواردها على الخاطر مما تضيق له الصدور، فلا بد أن يصر وأن يصفح وأن ينسى.
لقد أنقذ الله محمدا بخلقه وشيمة السمت والوقار وأدب البيئة وأصول اللياقة، والقرآن والحديث وسيرته الشخصية ومناقبه حافلة بمظاهر هذه الشيمة، كان يبغض اللفظ النابي والحركة الطائشة ويكره الغضب وينهى عنه ويؤنب الثقلاء ويعرض عن السفهاء حتى يحسوا سفاهتهم، وهذه الشيمة وازع قوي عظيم الهيمنة على جميع النفوس، ولعل الدين وحده لا يكفي إلى الإصلاح إن لم يصحبه وازع السمت والوقار والاعتداد برأي الناس، وكان الرسول المثل الأعلى والقدوة البالغة بسلطان البيئة وأدب العرف والتقاليد.
وكانت بيئة المدينة تختلف عن بيئة مكة اختلافا كبيرا؛ فالمدينة تكاد تكون على الفطرة لولا الدخلاء من اليهود، وما زال أهلها في طور الزراعة وليس لهم معبد وثني أو غير وثني سوى معبد اليهود لليهود، أما مكة فمدينة تاجرة وبيئة فاجرة تعرف الحق وتحيد عنه وترى الصدق وتسمعه وتقاومه وتسخر منه وتهزأ به وتقذف به في وجه صاحبه، وقد وصلوا في التهتك درك الخلاعة؛ وهي غاية السقوط عند العرب، ففيها ولا سيما في أشرافها المعاصرين للرسول، كل عاص وكل جارم وكل آثم، وسواء أفسدهم طول الزمن أو كثرة المال أو قدوم المسافرين في المواسم أو تعودهم الارتحال وكسب الاختبار في بلاد غير بلادهم وتهاونهم في الأخلاق بحكم هذه الخلال مجتمعة أو متفرقة؛ فقد صح للعاقل الحكيم أن ينفض يديه منهم، وما أقام محمد فيها ثلاث عشرة سنة بعد البعثة إلا مضطرا بأمر الله، وقد عرض على فكره بالوحي والذكاء وحسن الاستعداد كل أصل من أصول الحكمة وكل مذهب من مذاهب الدين، فلم يقبل إلا ما ارتضاه الله وما ارتضاه العقل الراجح والذوق السليم وأدب النفس.
وإنه الذي جمله بالوقار ليحسب الوقار نعمة لا تدانيها نعمة وجمالا للرجال لا يدانيه جمال؛ كالعفة في المرأة، وإنه لأشد تحرجا من كثيرين، وإنه ليحظر على نفسه ما يبيحه آخرون، أما مسألة تعدد زوجاته حتى بلغن اثنتي عشرة زوجة مات عن تسع منهن، التي أثارت عند صغار الأحلام من الباحثين ريبة فدونوها تحت عنوان: «محمد يشرع للناس ويستثني نفسه»، فقد فصلناها تفصيلا وافيا في كلامنا على بيت الرسول وحياته الزوجية؛ فلا نعود إليها، وأما من زعم أن عائشة كانت عند زفافها إليه أصغر سنا من أن يعقد عليها، فلا يقوله إلا جاهل بأدب البيئة، ولو كان في الأمر ما يخالف السمت والوقار ما فعله، دع عنك أنه زوج بنتيه رقية وأم كلثوم على التعاقب لعثمان بن عفان وتقدم كل من أبي بكر وعمر في فاطمة بنته وكانت في حدود المراهقة، وعقد لنفسه على حفصة بنت عمر وهي صغيرة، فهذه كانت تقاليد البيئة وعرف البلاد، فلا غبار عليه، وقد أنتجت زيجته بعائشة أنفع النتائج للتاريخ والدين وسياسة الدولة، وعقد آخر ملوك فرنسا لويس السادس عشر على ماري أنتوانيت وهي في الرابعة عشرة في سنة 1774؛ وهي سن لا تتزوج فيها البنات ولا سيما بنات الملوك، ولكن آداب اللياقة والعرف في أواخر القرن الثامن عشر المسيحي كانت تبيحه، وكذلك زواج محمد من عائشة كانت تبيحه آداب اللياقة والعرف والسمت والوقار.
نشأ محمد فقيرا، هذا أمر لا ريب فيه، وتركته من أبيه معروفة للجميع، ولكن أباه مات في الشباب، ولم يرث شيئا عن أبيه عبد المطلب.
فلما احتضنه جده، وجد نفسه في بيئة الوجاهة والصلاح والغنى وإن لم يكن عبد المطلب زعيم قريش، فهو من زعمائها وهو حافر زمزم بعد طمرها، ومن أولاده العباس السري، وكان بنو هاشم وبنو عبد المطلب يتوارثون الجاه والصلاح ويعيشون بين الناس كما يعيش أهل الجاه والشرف والسيادة والمناصب العامة، أي على شعائر المروءة والتعفف والأنفة من غشيان مواقع الشبهات، وعلى الهيبة التي لا غنى عنها لمن يسوسون الرعية باسم الآلهة واسم القبيلة والمدينة، يفهمون أن العرض قوام الشرف والعزة، وأن الابتذال هو الهوان الذي ما وراءه هوان، وأن الرجل الذي يجترئ عليه المجترئ بمذمة أو سخرية هو حمى مستباح، وأن من لا عرض له لا حياء له، ومن لا حياء له لا حياة له ولا خير فيه، والعرض جماع المكرمات، لا ينصب على حرمة النسوة كمدلول لفظه الآن، ولكن النبي صبر على الأذى والمذمة والسخرية في مكة وفي المدينة، صبر عامين طويلين إلى أن شعر أن السكوت يؤخذ حجة عليه ويخرج صحابته ورعيته عن السمت والوقار، فعاقب الشعراء الثلاثة بما استحقوا، وقتل النضر وعقبة والجمحي بحكم القانون، لا انتقاما لنفسه ولكن حرصا على كرامة الأمة التي يربيها ويعدها لحضارة من أعظم الحضارات إن لم تكن أعظمها، فإن محمدا كان خاليا من الكبرياء، ولكنه ملآن بعزة نفسه؛ لأنها من عزة الله، ولذا لم يفكر في ملك ولا تاج ولا عرش ولا صولجان، وكانت هذه المظاهر المادية معروفة، حتى السخيف ابن سلول كان يؤمل أن يكون ملك المدينة، لم يفكر محمد في شيء من هذا، ولم يفكر أحد من صحابته أن يعرض الرأي عليه؛ لأنه يعلم ما يلقاه به، ولم يتخذه أحد منهم لنفسه إلى أن بلغ سوء طالع الإسلام إلى معاوية، وكان أبوه يوم إسلامه ورؤيته جيش النبي يدخل مكة يقول للعباس بن عبد المطلب: «لقد صار ملك ابن أخيك كبيرا.» فقال له: إنها النبوة يا أبا سفيان. فقال: «لقد صار ملك ابن أخيك كبيرا.» وقد ورثها عنه ولده معاوية ووعاها حتى صار ملكا بالفعل؛ ولكن الرسول والخلفاء الراشدين أبرياء من هذا النظام
1
بعد آيات القرآن الواردة في نعته وذمه.
ومن شيمة الوقار ووجاهة الأهل وشرف البيئة وسمو النفس التي توجها الله بالرسالة، نشأت في نفسه خصلة النسك والزهد في الحياة، ولكنه زهد الأنبياء لا يأبى من نعيم الدنيا ما فيه نظافة البدن والزينة المباحة والصدوف عن اللذات والشهوات، وإلا فكيف يجتمع الزهد في أطايب الطعام والشراب إلى اللذات والشهوات، ومن دأب الزهد والقناعة أن يضعفا البدن إلى حد ما، وما كان محمد ولا أحد من أصحاب محمد - ما عدا معاوية - أبيقوريين، وها نحن قد رأيناه يفحم الحبر السمين ويدله على آية التوراة التي تنص على كراهية الله للحبر السمين؛ لأنه لا يجوز للأحبار أن يسمنوا على حساب الدين:
ويعجبني فعل الذين ترهبوا
سوى أكلهم كد النفوس الشحائح
ويزيدك إعجابا بأخلاق الرسول ووقاره وعفته وزهده أنه نشأ في البلد الحرام، الذي تحلل معظم أهله عن الفضائل، وفي عصر فتنة واضطراب وجزع على الأنفس والأموال، والدليل على ذلك بعثته هو نفسه لمحاربة البيئة، ومن بقايا هذه الحال وجود رجال كعمر بن أبي ربيعة الخليع الذي ما زال يشبب بالنساء حتى في المطاف وفي منى، فهذا عصر شاع فيه الفساد وندرت العصمة وكثر فيه اغتنام الفرص والتهافت على اللذات ولا سيما في الحجاز، وهو ملتقى الطرق بين حضارة الروم وحضارة الفرس، وحياة مكة والطائف وكلها حضارات آخذة في الزوال، ولم تستبق من المناعة والتماسك ما يزجر النفوس ويعصم الأخلاق ويحيي شرائع الآداب، حتى مبادئ الأخلاق كالوفاء لم يمكنوا منها رجلا كالسموأل بن غريض بن عادياء، أراد أن يفي لامرئ القيس في أمانته ووديعته، فذبحوا ابنه بمرأى منه؛ عقابا على المروءة!
فقال أبياته المشهورة:
وفيت بأدرع الكندي إني
إذا ما ذم أقوام وفيت
وقد أعان الرسول على بعثته وسيره قدما لا يحيد، أنه كان أميا فاختار له الله سواء السبيل، ولو كان محمد متعلما مثقفا على ما كان يزعمه المستشرقون وادعاه معاصروه من اليهود والنصارى لما أمكنه أن يختار لنفسه هذه السبيل، لا لما فيها من الوعورة والصعوبة والأشواك ومرارة الفشل وسخرية الأعداء وتهكم السفهاء، بل لعل الحيرة والتردد أظهر وأقوى حين يختار الحكيم المثقف لنفسه، فينظر في مختلف الشئون قياسا على كثرة ما يرى وكثرة ما يستوعب من المزايا والنقائض وكثرة ما يعلم للمسألة الواحدة من وجوه وأطوار، لقد كان زوجا لخديجة باختيارها وموافقة عمه وعمها، وكان زوجا لزمعة وعائشة باختيار خاطبة، وهاجر إلى المدينة بأمر الله وورود الأنصار، وفي موقعة بدر دله الحباب بن المنذر على مكيدة الحرب، وفي الخندق رسم له سلمان الفارسي خطة الخندق، أما اختصاصه فكان في دعوته التي لا يفتر عنها وفي تبليغ رسالته التي بذل دونها حياته وراحته، وكانت حكمته تتجلى حين يختار لغيره، فيأمر وينهى وينصح ويبذل المال، ويجود بنفسه لأصحابه وفي نصرة الضعفاء ونصفة المظلومين، وبلغت نفسه أشدها في هذه السنوات الثلاث في المدينة، تراه سيدا جليلا ينظر بعين إلى السماء، وبالأخرى إلى الأرض، وتنظر الدنيا إليه، وينعم بنصيب من الحياة يعلن منه ما يعلن ويبطن منه ما يبطن، ويسأله الناس في العلم والدين، ويقصده القاصدون فيما يشكل عليهم من قضايا الفكر وقضايا المصالح والحاجات، فيحلها ويحكم فيها ويرد الفروع إلى الأصول بلا ملل ولا ضجر، روى عاصم عن أبي وائل الأسدي قال: كنت في إبل لأهلي أرعاها فمر بي ركب فنفر إبلي، فقال رجل من القوم: أنفرتم عن الغلام إبله؟ ردوها عليه كما أنفرتموها. فردوها، فقلت لرجل منهم: من الذي قال: ردوا على الغلام إبله؟ قال: رسول الله
صلى الله عليه وسلم (ص3، ج3، أسد الغابة).
كان في هذه السنوات الثلاث بالمدينة لا تغيب عنه أخبار مكة ولا تخفى فيها خافية، وكان يعرف أن الحرب آتية في الشهر التاسع والعشرين من الهجرة؛ فقد وقعت بدر في 24 مارس سنة 624 وتتلوها أحد في 16 مارس سنة 625؛ فقد عجل أبو سفيان أسبوعا؛ لتحرقه على الثأر، ولكن النبي لم يكن مشغولا بمكة لاستقاء أخبارها وحسب، بل كان يشتاق إليها وإلى الكعبة ويحن إلى العود إليها:
بلاد بها نيطت علي تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
وقد عرفها وما كاد يعرف غيرها إلى أوائل العقد الخامس من عمره مع أنه عافها؛ لما تجشم فيها من عناء، وما فوجئ فيها من سوء وما ذاق من مرارة العيش وما امتحن ببلواه، وإن كانت الدنيا بدأت تبتسم له ويفتر ثغرها عن ضحكات بعد طول العبوس، فهذه المدينة آخذة في النمو والعظمة، وها هم أهلها قد تركهم الشقاء والضيق وانصبت الأموال في خزائنها والمتاجر في مخازنها والإبل والنعم في مرابضها وحظائرها، وامتلأت بيوتها بالسلاح والميرة وحوانيتها بالأقوات، وساد السلام عليها، وحفظ النظام في ضواحيها، وأضاءت آطامها وقصورها، وأينعت أثمار بساتينها، واخضلت مزارعها، وجرت السيول في وديانها، واطمأنت النفوس إلى الشرع الجديد، وأخذت الأفراح تقام احتفالا بالزواج في كثير من الأسر والبيوتات، وقد خفت وطأة اليهود بجلاء بني قينقاع، وكان يظن أن خروجهم يصيب اقتصاد المدينة بضربة قاسية كما يشيع اليهود عن أنفسهم في كل مكان، ولكن قد يصح إن سحبوا معهم أموالهم، أما في هذه المرة فقد جلوا وخلوا أموالهم مرغمين وإن أخفوا بعضها، فدخلت بيت مال المسلمين غنيمة هنيئة مريئة؛ فما اتخذوها إلا من لحم العرب ودمهم فردت إليهم، وخلوا بيوتهم وهي تزيد على مائتي بيت وفيها الآطام؛ فقد كانوا سبعماية رجل بين دارع وحاسر، عدا عن نسائهم وأطفالهم وشيوخهم، خرجوا يغذون أسطورة اليهودي التائه ويحتفظون بشعلة التيه المتقدة من عهد موسى إلى آخر الزمان! وخف عن كاهله حمل أسئلتهم وامتحانهم وهم لم يسألوا أحبارهم بل ولا أنبياءهم عن عشر معشار ما سألوه، كأن أنبياءهم وعلماءهم كانوا مدلجين في الظلام يحملون مصابيح على قدر ضيائهم، فيرون ما هنا ولا يرون ما هناك، فلا يسألونهم إلا عما يجوز علمه أو يجوز وجوده؛ حيث يراه المدلج، وحيث يقع عليه شعاع المصباح.
ولكنهم يتبعون هؤلاء العلماء والأنبياء (وإن قتلوا بعضهم أحيانا كأشعيا) ويصدقونهم، أما الذين أبهظوا كاهله بالأسئلة وفتنهم بكل جواب فلا يتبعونه ويصدقونه، فلما كسرت الأيام شوكتهم وألجمتهم الحوادث وكفت عنه بعض شرهم تنفس الصعداء وأخذ يعد نفسه وقومه لما هو أعظم من جدلهم وثرثرتهم ولغوهم وزبدهم، فالوقت أثمن ما في الحياة، وهؤلاء اليهود لا قيمة للوقت عندهم؛ لأنهم لا غاية لهم ولا رسالة أمامهم يودون أداءها، إنما هم عابثون.
وقد علم الرسول وتأكد أن قصارى ما يملك المرء في هذه الدنيا عمر واحد يعلم فيه كل ما قدر له من العلم، ويعمل فيه كل ما وسعه من العمل، ويختبر فيه اختباره، ويستوفي منه أحواله وأطواره، فإذا قضاه فتلك حصته من الزمن لا حصة له بعدها، وقد ضيع عليه أهل مكة ثلاث عشرة سنة، وجاء اليهود يضيعون العشر الباقية، كلا لن يمكنهم من ذلك ولو كان فيه هلاكهم.
عليه بعد بدر أن يوطد أركان الحكومة المدنية، وأن يجعل من يثرب نموذجا لكل ما يؤسس بعدها من بلاد، ونظمها منهاجا ومثالا لما يتلوه من نظم، فلن تكون حكومة الإسلام جورا ومظلمة ولا فتنة ولا استبدادا مكنونا، ولن يقول أحد من ولاته وخلفائه: إنه معصوم لا يحاسب، أو إنه رب يدان له بطاعة الراكعين الساجدين، وها هو يعمل جاهدا على أن يفرغ صحابته في قوالبه؛ لينشئوا على غراره، ولن يرضى هو أو أحدهم أن يقال في حقه:
تلوا باطلا وجلوا صارما
وقالوا صدقنا فقلنا نعم
كما هي الحال في كل أنحاء العالم في عصره حتى في مكة، لا بد أن يبطل هذا التحكم، ولا بد أن يشعر الإنسان بقيمته وأن يكون للفرد مكانة غير مكانة العبد والرقيق، ولا بد أن تخف وطأة الفقر والجهل والمرض عن مناكب العامة والدهماء، ولا بد أن تزول الفوارق بين الطبقات بالقضاء على فوضى الجاهلية والحمية الجاهلية وتارات الجاهلية، وقد فكر الرسول أثناء هذه السنوات الثلاث : هل يخضع الناس على كره منهم أم على رضا؛ لأنهم يؤمنون إيمان الحاكمين ويفكرون تفكيرهم ويريدون مرادهم ويفرحون بعظمتهم؟ ألم يقل أهل مكة: اللهم إن كان هذا الحق من عندك؟! إن كان الأمر كذلك فقد سلبت أفكارهم وطمست عقولهم وأمسوا آلات وعجماوات بل أضل سبيلا، والله لا يريد للإنسان هذا الدرك الأسفل، ولا يحب الناس كالأنعام لهم أعين لا ينظرون بها وأفئدة لا يعقلون بها وآذان لا يسمعون بها، ورسوله لا يريد أن يبقى الناس على هذه الحالة من الحيوانية والجهالة، ويجب أن يدركوا أن الظلم والجهل والاستبداد قد ذهبت وولت، وأن حجاب الزمان قد هبط بعدها فلا منفذ من ورائه إلى تلك المخزيات التي كانت سائدة على الأذهان والأبدان، وأنهم خليقون بأن يشهدوا الدنيا في صورة علانية وهيئة مثالية، وأنها بغير هذه الصورة وتلك الهيئة لا تستحق النظر ولا تستحق المعرفة، فإن الظلم والجهل والاستبداد والتمييز بين الطبقات واستئثار فريق دون فريق بالمال والتطاحن على النفوذ والاندفاع في الشهوات قد قضت على الحضارات القديمة وإن كانت قوية الأساس رفيعة العماد، وهذه الأمة العربية تجري منذ الخليقة على وتيرة لا يشذون عنها ونظام لا يهاودون فيه من سلب وغزو وقتل وحرب ومبالغة في استجلاب المال واستمتاع بالشهوات وإغراق في الملذات المادية وتضييع لمواهب الروح وإهمال لترقية النفس، وهذه النظم السائدة في دار الندوة أو في المسجد أو حلف الفضول لا تحمي من الفوضى ولا نفع لها يعاش به في أزمان القلاقل، وقد وفقه الله إلى الإنشاء في المدينة لا التبديل والتغيير، فلم يتخذ مكة أو غير مكة من المدن الناجحة نموذجا يحتذى، ولم يكن لديه خطة مرسومة، وإنما شاء حسن الطالع أن يكون منهاج السنوات العشر في المدينة كفيلا بالنجاح، وكأنه منهاج ألف عام، وهذا الذي تم في ثلاث كثير، فليس أمامه في المدينة آلهة وأصنام تعبد كالتي في الكعبة، ولا طغاة يظنون أنهم معصومون، كما كان أبو جهل وعتبة وأبو سفيان والوليد أبو خالد الذي وصفه القرآن بزحمة من المثالب؛ لعتوه وطغيانه، ولا كأبي لهب ورهطه وصفوان بن أمية وأترابه، ولا سدنة للهياكل كالأحبار السمان، فما أحمق هذا وما أحراه أن لا يكون في مكة، كما أنه لن يكون في المدينة، ولم تكن في مكة رعية بالمعنى الصحيح تحب هؤلاء المتسلطين أو تطيعهم وهي راضية بما تطيع، أما في المدينة فهنا رعية تحب الراعي وتطيعه عن نفس طيبة وعين قريرة وخاطر راض، وتؤمن بالتوافق بين مشيئة الله وحكومة الراعي، فهذا بيت جديد يشاد على دعائم قوية وفي مكة بيت قديم يتداعى ويريد أن ينقض على رءوس ذويه.
كان محمد سابقا لأوانه بألوف السنين، وحجة لله والطبيعة على حجج المتعجلين والمتحاملين، ومعجزة خارقة للمساواة بين البشر، وموجدا لنظرية العقد الاجتماعي قبل وجودها باثني عشر قرنا، فإن جاك روسو حكيم الثورة الأوروبية لم يزد على أن الناس تواطئوا على أن يتنازلوا عن نصيب من سلطانهم؛ ليكون وديعة بين أيدي الحاكمين وهم منهم، وما زالت جمهرة الأمة مصدر السلطات تولي من تشاء وتعزل من تشاء، فتعاقد الرسول مع القبائل والمدن أنواعا من التعاقد المكتوب والتعاقد المحكي المضمون بشرفه، غير أنه زاد تعاقده أمانا بأن كان الله كفيلا له وأصحابه.
فكانت حياته وأعماله ورسالته ملائمة لأسلم العقول وأصوب الآراء، والدليل عليها لا نأخذه من القرآن ولا السنة، وإن كانا مصدرين مسلما بهما من أشد خصومه؛ القدامى والمحدثين، ولكن نأخذ البرهان الناصع على قولنا من كلام كاتب غربي كبير في سنة 1940 بعد رسالة النبي بستين وثلاثمائة وألف سنة.
قال جون جنتر مؤلف كتابي «أحشاء أوروبا» و«أحشاء آسيا» في الكتاب الثاني، مطبوعة سنة 1940، ص565، ما نصه: لا يمكنني أن أقاوم فكرة تملكتني؛ وهي أن أشمل حياة محمد في معرض لتراجم الأبطال الأحياء، فإنه ليس، لمن قرأ تاريخه، شخصا من أشخاص التاريخ القديم، بل إنه من أشخاص التاريخ الحديث، يلقي ظل حياته النابضة على المعاصرين من أبطال هذا الزمان، إن سلسلة أعماله البادئة بنبذ الدين القديم وقيامه بالدعوة لدين جديد وفتوحاته المدوخة تثب كلها من الماضي تاركة العصور القديمة في هوة لتتبوأ مكانها في حوادث هذه الأيام، فإنك تجد في خطواته وأعماله أشياء تجلب إلى ذهنك أشباها لحوادث هذه الأيام، وكلما بحثت في تاريخه وخططه وطرائق فهمه للرجال والحوادث تشعر بأنك حيال رجل عصري لا شك في معاصرته.
ثم أخذ يضرب أمثالا منتزعة من حياة النبي؛ ليقارن بينها وبين حياة نابوليون ووشنطون ولينكولن وغيرهم من قادة الأمم الذين سادوا في العصور الحديثة فليرجع إليها من شاء الاستزادة في هذا الباب (صفحات 566-569)، وإن هذه الفكرة كانت تعاودنا كلما رأينا تلك النظائر والمشابهات، بل نعترف بأننا كنا نتساءل فيم تدوين السيرة المحمدية مع تكاثر الكتب التي ألفت فيها قديما وحديثا؟ وكلما حاولنا أن نلقي القلم من قبيل اكتفاء القنوع بما هو مخطوط ومطبوع في لغات الأرض، كنا نشعر بدافع يدفعنا إلى الاسترسال لاستكمال هذه الناحية من النظر والعرض، فلما وقع لنا ما كتبه جون جنتر وجدنا عنصرا قويا من عناصر التبرير للاستمرار في العمل الذي كنا نخشى عدم انطباقه ورغبة الناس في زيادة الفهم والاستنارة، وقد دهشنا لظهور تلك المعالم ووضوحها حتى لذهن كاتب سياسي دولي يعالج المسائل في اتجاه لا يجبره على الإقرار بفضل محمد، والاعتراف به بوصفه شخصية كونية لا يؤثر فيها مر الزمان ولا يحجبها تواتر القرون والأجيال.
وها هي السنوات الثلاث الأولى التي عاشها في المدينة قد أثبتت أنه استعاد نشاطه ونفذ خططه وبنى على أساس متين واتسع أفق التفكير والتدبير يدعمه القرآن ويوحى إليه؛ ليرد على خصومه ويفحمهم، وليشد أزر أصحابه المخلصين، وليفتح له الطريق الممهد إلى نصر المؤمنين.
غزوة أحد
هل كانت أحد ثأر بدر المرتقب؟ أم كانت وثبة اليأس من خطر المصادرة وقطع الطريق على عير قريش؟ فقد رأت قريش أن محمدا لم تقف همته بعد بدر عن متابعة الجهاد، وقد اتسع نفوذه واتخذ من رقعة الأرض الممتدة من المدينة إلى مكة ميدان حرب فسيح، ولعله أول من أدرك أن الهجوم خير من الدفاع، فلا يكاد يعود إلى المدينة من غزوة أو سرية ناجمة أو صامتة ليستقر فيها بضعة أيام إلا ليعاود الخروج مستخلفا عليها؛ ليسير قدما؛ فلوى أعناق القبائل المعادية له والموالية لقريش، وتألف قلوب المسالمين والمحايدين؛ وصار ظهور أعلامه المظفرة علامة ونذيرا للأعراب، فيلوذون بذرى الجبال، أو يتوارون في بطون الأودية ما لم يكونوا ممن يستحقون العطف والمعونة، فصارت الأعراب تأتي إلى جيشه من كل فج إذا كانت تنوي الحياد أو المسالمة، ويسير في ركابه زعماؤها ويلتمسون رفده وحمايته، وفقدت قريش ومكة أنصارهما لا تعففا عن الأرزاق التي كانت تجريها قريش ومكة عليهم، ولكن خوفا وفزعا وإيثارا لجانب السلامة على جانب المخاطرة، وأدرك أبو سفيان الذي وقع على كاهله عبء القيادة والسيادة والزعامة بعد موت صناديد قريش (العجائز الصلع)، ورأى أن لا بد له من البحث عن طريق أخرى وحلفاء آخرين؛ يسلكونها ويركنون إليهم، وليس شيء أصعب على تجارة سلكت سبيلا معبدة معروفة أن تتخلى عنها مرغمة؛ لتبحث عن طريق آخر، فإنها ألفت علائم الطريق وعرفته إجمالا وتفصيلا، وقاسته قياسا دقيقا بالأيام والليالي والساعات والدقائق، وجعلت لها فيه محطات ومواقف ومبارك ومخازن، ودرسته دراسة حربية وعرفت نقط القوة والضعف فيه، وبالجملة تعودته وألفته وذللت صعوباته وهونت مشقاته وضمنت الراحة لها ولإبلها والأمان لمتاجرها وبضاعتها، وإنك ترى الفرد في الحضارة يألف البلد الواحد؛ فيألف فيه الفندق الذي به ينزل، والمطعم الذي فيه يطعم، والمقهى التي إليها يقصد والأشخاص والوجوه التي لا تتغير ولا تتبدل، فيلتمسها جميعا ويطمئن إليها، فلا يكتمل سروره بغيرها، فما بالك بقوافل في الصحراء تحمل أرزاق المدن؟ ويغلي في قلب أبي سفيان أن المدينة قد انتعشت وأخذت تنمو وتكبر، وأن محمدا لم يهمل الجيش بعد بدر، بل استمر يدربه ويعوده ويمرنه ويوجهه إلى مناورات متتابعة، وهكذا استفحل الخطر، فإن سلم أبو سفيان وقومه واستسلم وضعف وخاف العواقب فلا بد أن يتمكن محمد من محاصرة مكة وتضييق الخناق عليها واستئصال شأفة تجارتها ولو لبضع سنين، كما فعلت قريش مع بني هاشم وبني عبد المطلب في شعاب أبي طالب ثلاث سنوات طوال لم يترك فيها مجالا للتضييق عليهم حتى سارت فيه وتذرعت به للقضاء عليهم، وتنبه أبو سفيان القصير الأصلع السمين إلى أن تارات محمد على قريش كثيرة وكبيرة وثقيلة وأنها تحتاج إلى الكفاح والنضال وإلا أخذوا على غرة، فرسم خطة في دار الندوة بعد أن عقد مجلسا للشورى من أحلاس قريش والبقية الباقية من طغمة الشرك، ولا بد أن هندا ومثيلات هند من المكيات ذوات العنف في الشهوات والهياج الدائم قد اشتركن في المداولات.
وأخيرا استقر القرار وانجلى الرأي على أن تتخذ قريش طريقا غير الطريق الأولى التي يستهدفون فيها للخطر؛ فلم تعد نذور أبي سفيان أن لن يقرب الخمر والنساء حتى ينتقم لتكفي حيال هند المتعنتة، ولا سيما وأن هذه النذور قبل الوفاء بها لا تصلح لصاحبة النمارق، فأدى بهم البحث إلى اكتشاف رحلة شتوية إلى الشمال الشرقي تؤدي إلى الفرات يقتحمون فيها النفود التي لا تطاق صيفا؛ لقلة الماء، وتهون شتاء؛ بفضل المطر، فأعد المكيون عيرا كبيرا واختاروا فصل الأمطار (يقع في ديسمبر)، وأقيمت حفلة في بني النضير أدبوا لها مأدبة أكلوا فيها وشربوا حتى لعبت الخمر بالرءوس، وكان اليهودي الذي أولم الوليمة ممن تحل الخمر عقدة من ألسنتهم، فباح بسر القافلة، فالتقطه مسلم دعي إلى العشاء وحضر الاحتفال وأسرع به إلى الرسول، ولعله كان عينا وأذنا للمسلمين؛ فأعد الرسول سرية قوية جعل عليها زيد بن حارثة الغلام الظريف الذي وهبته خديجة إياه فأعتقه وتبناه، وكان الرسول يحبه ويعطف عليه ويثق به، وقد وافقت هذه الحملة هلال جمادى الآخرة، وهو الشهر الرابع من السنة الثالثة الهجرية وسميت السرية باسمه، وكانت أول سرية خرج فيها زيد بن حارثة أميرا، وكانت وظيفة السرية محددة وهي اعتراض عير قريش في القردة من أرض نجد بين الربذة والغمرة ناحية ذات عرق، وهذه العير فيها صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى وعبد الله بن أبي ربيعة، وفيها مال كثير نقد وآنية فضة، وكان دليل قريش رجلا هماما حذرا عارفا خبيرا هو فرات بن حيان العجلي، فخرج بهم على ذات عرق طريق العراق كما أنبأ مخبر الرسول المكي الذي حضر وليمة اليهودي، وكان أبو سفيان نفسه مصاحبا للعير كعادته، وقد شد أزره بالأعيان الذين اشتركوا معه في الرأي، ولم تكن سرية زيد تزيد عن مائة راكب كلهم دارع مستعد للقتال، فاعترضوا العير وأصابوه وأفلت أعيان قريش وكاد أبو سفيان نفسه يقع في الأسر، ويا ليته وقع؛ إذن لكفى المؤمنين موقعة أحد، ولكن أبا سفيان أحذق هارب وأمهر من يولي الأدبار. وفي رأيي العاجز أن قريشا لم تكن تظن أن المسلمين يعلمون بأخبارهم، وطالما فروا وضللوا في طريقهم القديمة القريبة من المدينة، فكيف لا ينجون في طريق جديدة مجهولة لأهل المدينة؟ ونسي أبو سفيان أن المسلمين تدربوا وتمرنوا وكسبوا بالتجربة، فوق أنهم لم يعتمدوا في هذه المرة على سؤال القبائل التي كانت محالفة لقريش وتتعمد تضليلهم وإخفاء خطط العير عنهم، فبلغ ما أخذه زيد من عير قريش مائة ألف درهم، وعاد زيد بفرات بن حيان فأسلم وسلم من القتل.
وكان لوصول المال إلى المدينة فرحة، وأكبر منها فرحة النصر وخذلان قريش بدقة أحسن زيد تصويبها وأثبتت حسن فراسة الرسول فيه، وكان عثمان يرجو أن يعقد على أم كلثوم بنت النبي بعد وفاة أختها رقية التي توفيت أثناء موقعة بدر وعاق مرضها عثمان بن عفان عن شهود هذه المعركة الحاسمة، فأذن الرسول، وسمي عثمان بذي النورين، وزاد الأفراح أن فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - ولدت لعلي الحسن أحد حفدة الرسول وأحبهم مع الحسين إليه، وها هو قبل اكتمال العام الثالث قد أتم الله النعم على محمد والمؤمنين بالمال والخير وأفراح الأنجال، وزال الضيق الذي كان جاثما على بعض الصدور بسبب حداثة العهد بالإقامة وتقلقل الأحوال الاقتصادية الذي يصحب كل تغيير في السياسة والاقتصاد، وانطلق المؤمنون من عقالهم ونشطوا من قيودهم يفكرون في فتوح أفسح نطاقا وأوسع آفاقا، واتخذت خاصة الصحابة هيئة المجالس الحكومية التي تحل وتعقد وتأمر وتنهى مسترشدة بالوحي والرياسة الممتازة .
لو أن سرية زيد لم توفق هذا التوفيق التام، ولو أن أعيان قريش لم يدهموا ولم يؤسر دليلهم ولم يؤخذ عيرهم حتى ينجحوا في رحلتهم ويطمئنوا إلى «السكة الجديدة»، لما فكر أبو سفيان تفكيرا جديا للانتقام من بدر؛ فقد رأيناه نذر نذرا ثم تحلل منه في غزوة السويق التي اكتفى فيها بالطعام والخمر والعربدة بعد بدر بخمسة أشهر؛ فقد رأى أبو سفيان إذ ذاك أن يمينه قد حلت.
ولكن نجاح زيد في غزوة طريق العراق أشعلت نفسه بالغيظ والقلق، فما مائة ألف درهم بقليل، فهي تزيد عن ستين أو سبعين ألف جنيه ذهبا بنقدنا الحديث، يضاف إليه مذلة الفرار وخيبة المسعى من الوهلة الأولى، ولا بد أن بعض أعيان قريش «أكلوا» وجه أبي سفيان وعابوه ونسبوا إليه التسرع والعجلة، وعللوا نجاحه السابق في إنقاذ العير باستناده إلى آراء «الصناديد» الذي لقوا حتفهم ببدر وفي مقدمتهم أصحاب القليب، ورأى أبو سفيان أنه آن الأوان لزعامته ومخاطرته وذكر أنه كان في حرارة من الأسى على «أبطال بدر» قد فرض مال العير الناجي على يديه؛ ليكون نفقة لجيش الانتقام الذي يعده، وذكر أن كنانة وقبائل أخرى من سكان سواحل البحر الأحمر ما تزال على عهدها، ويزيدها تظاهرا بالإخلاص إعداد حملة جديدة؛ لأنها كالذئاب والثعالب التي تسير في مؤخرة النمور والضباع، فلا بد من نفع يعود عليها؛ ليعوض عليها طول الإقامة في تلك الأودية المجدبة ويخفف عنها ضغط سرايا رسول الله التي تلجئها إلى الفرار إلى ذرى الجبال والاختفاء في بطون الوديان، وانضم إليه أبو عامر الراهب أحد شياطين الأوس الذين بقوا على ملة آبائهم، وقد اتحد الراهب وكعب بن الأشرف واجتهدا في إثارة كوامن الأحقاد في مكة، وكانت رحلة كعب إلى مكة عقيب جلاء بني قينقاع دليلا على أنه جعل من نفسه «بعثة» سياسية لا ينوب فيها عن أحد؛ لأنه لم يندبه أحد، ولكنه يمثل روح الناقمين من أهل مكة، وقد ساءه أن بقية اليهود في يثرب لم يحركوا ساكنا عندما رأوا إخوانهم «قينقاع» يطردون أذلة ويجلون عن بلادهم جزاء ما قدمت أيديهم، فوجد هذا الشاعر آذانا صاغية إلى شعره الجيد وآرائه التي وافقت أهواء في قلوب أعيان مكة، ولم يأت لهم بيد خالية بل حمل معه معونة أبي عامر الرهاب وكان من أشرس شيوخ الأوس وأخبثهم، وهو ختن عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان ذا حيلة ومكيدة في الحرب وغرور بنفسه، يحسبها في مكانة الصدارة والزعامة من الأوس، حتى من آمن منهم بالله ورسوله، فلما عاد كعب إلى المدينة لقي حتفه على الصورة التي وصفناها، فلم يعش حتى يرى موقعة أحد. أما أبو عامر الراهب فقد كان غامضا قبل هجرة النبي وبعدها، ولعله سمي بالراهب لانتحاله النصرانية وظهوره بالتحنث أو الاعتكاف أياما أو شهرا يرجو أن يصلح دين قومه؛ ليكون رئيس الدين كما يكون حموه ابن سلول ملك المدينة، ولكن وصول النبي خيب آمال الزعيمين فحقدا على النبي ورضي عبد الله بالنفاق وعزم الراهب على النضال.
ولذا أحضر معه إلى مكة خمسين تابعا من أتباعه جعلهم كتيبة لحرب المسلمين، فاستقبله المكيون استقبالا حافلا وأدبوا له ولرجاله وطافوا به الكعبة ومخادع الأوثان التي فضلها على النصرانية واليهودية والإسلام! وإنك تجد مثال هذا الرجل في أعيان عهد الالتزام، ذكاء فطري وخشونة في الطبع وعناد في العداء وقلة في الوفاء مع تعصب شديد لرأيه وحب مفرط لأهله وولده، وقد زادت هذه الصفات فيه بكهولته، وكان رجلا قصيرا دميما كبير الرأس أشيب متدلي اللحية ميالا لقهر الدهماء واحتقار الجماهير، يصلح زعيما لحزب ذي قلة ضئيلة وقوة على النضال بل قد يصلح ليكون حزبا وحده.
فعلم الرسول أن أبا سفيان يعد جيشه ولم ينس فرقة الموسيقى الحربية، ولكن لم يكن في أهل مكة إلا الملحنون والمغنون والمخنثون وهم لا يصلحوا لإشعال الحماسة في الصدور كما يصلحون للصبوح والغبوق، وكانت هند راكبة على صدر زوجها فاقترحت أن يجهزها ومثيلاتها بالدفوف والمزامير والطبول والصنوج؛ لتكون هي رئيسة هذا «التخت» المحارب، ونظمت الأشعار التي فيها الوعد بالنمارق والعناق، والوعيد بالهجر والفراق، يقول ويلهاوزن في كتابه «الزواج» (ص451): «لا وازع عن الفرار من الميدان عند العربي أشد من تأنيب النساء.» وهذا أمر مشهور معلوم، وهو يقابل خوف الصيني من فقد وجهه أي كرامته، ولعلهن اشتركن فعلا في المعركة، وكن يعنين بالخيل المستريحة يقدمنها لمن يفقد جواده أو يضعف عن حمله، ويقمن بالإسعاف للجرحى وتضميد جروحهم والسقاية والنجدة، ولكن هندا كانت مشتعلة الخيال شديدة الحقد على النبي وأهله، فأصرت على نبش قبر السيدة آمنة بنت وهب أم النبي المدفونة في الأبواء لتبقي جثتها رهينة! وهي سيدة توفيت منذ خمسين عاما ولكنها ظنت أن جفاف الصحراء يحفظ الأجسام من البلى، ولو كانت هذه الجثة محنطة لآمنا ببقائها متحملين جريمة نبش قبر سيدة لها حرمتها قد توفيت قبل أن تولد وليس بينهما ضغينة، وإن تكن هند ممن لا يرعين الكرامة لأحد ولا نفسها، ولكن رجال قريش اعتذروا إلى هذه الميسالين المهتاجة بأنهم يخشون مقابلة الفعل بمثله وينتهي العرب بتبادل نبش القبور بدل الحرب والقتال! وتشجعت عمرة حليلة غراب فحملت اللواء عند سقوطه ودعت الجيش للالتفاف حولها وحوله فمثلت دورا صغيرا في بضع دقائق إلى أن حمله عنها رجل.
وسنرى في تفصيل المعركة أن بعضهن حاربن فعلا وخضن غمار الوغى، ولكن رجال المسلمين لم يمدوا إليهن يدا؛ خشية أن يلوثوا سيوفهم بدماء أنثى إذا لقوهن بمثل فعالهن، وقد اخترن لأنفسهن مؤخرة الجيش؛ ليكن رقيبات على الصفوف فيشجعن ذوي الإقدام ويعيرن الجبان إذا فكر في الفرار أو شرع فيه، وقد تعودت قريش أن تولي الأدبار منذ بدر.
وسيرى القارئ أن جيش المسلمين قد هزم في أحد، هذا أمر لا ريب فيه، ولكن أمرين يلفتان النظر: الأول: أن محمدا أحكم خطة هذه الموقعة إحكاما بديعا. والثاني: أنه بمحض صبره وشجاعته وفطنته وحضور بديهته تمكن من توليد النصر من الهزيمة. ونحن مجبرون أن نصدق سبب الهزيمة، وأن نؤمن به؛ لأنه ورد في القرآن والحديث، ولأن أهل قريش لم يكذبوا هذا السبب ولم ينقضوه.
وإن خالد بن الوليد نفسه وهو بطل المعركة الذي قلب موازينها أيد رواية القرآن والحديث، وإن لم يكونا في حاجة إلى تأييده، وأيدها عمرو بن العاص نفسه وهو قائد محنك، وغيره من صناديد قريش الذين أسلموا فيما بعد.
لقد زرنا ميدان أحد؛ لانشغالنا من سنوات طويلة بالوقوف على أسرار هذه الموقعة، وقرأنا أن المرحوم مصطفى كمال كان مهتما بوضع كتاب في حروب النبي في ضوء العصر الحديث، وكان بعض خصوم النبي يزعمون أن أسباب الهزيمة التي وردت في الأثر وسير الأقدمين مصطنعة؛ لدرء التبعة عن الرسول؛ لأنه معصوم لا يخطئ، وفي الحديث: «أحد جبل يحبنا ونحبه.» وإذا ملنا إلى تصديق الخصوم المغرضين صح أن نصدق بعض القرآن ونكذب بعضه ونصدق بعض الحديث ونكذب بعضه! وإذن يختل ميزان عملنا، وإن في عصيان الرماة الذين كانوا يحمون ظهر الرسول وتكالبهم على الغنائم قبل نهاية المعركة ما يعقل حدوثه وإن لم يفعله أمثالهم في بدر وإن كانوا في بدر أفقر وأحوج إلى الطعام والشراب منهم في أحد، ولكن أبطال بدر على قلتهم كانوا أقل عناية بالمادة وأبعد ما يكون المجاهد عن الطمع وأميل إلى الاستشهاد منهم إلى النجاة والاستغناء بالأسلاب، ولا نخوض في التعليل النفساني والوعظي؛ كأن كانت هزيمة أحد درسا للمسلمين وتحذيرا وزيادة في استعدادهم، ولكنها هزيمة على كل حال لم نكن نريدها، ولكن الله أرادها ورسول الله قبلها وحول تيارها من انكسار فظيع إلى أمل أقوى وخطة حكيمة لم تقض على الروح المعنوية لا في الجيش ولا في المدينة، وزاده أدبا أنه لم ينح باللائمة على أحد، ولم ينسب الخطأ إلى أحد، واتخذ الأمر على أنه لا يخرج عن قواعد الحرب وحظوظها، وأنها كانت دائما سجالا بين سائر الأمم، وأن للنصر شرائط ومقدمات ونتائج.
أما أن الرسول أحكم خطة الموقعة قبل حدوثها فلا ريب فيه؛ فقد ظهر جيش قريش غربي المدينة على جبل اسمه «عينين»، وبعثوا إبلهم وغنمهم ترعى في «عريد» كلأ لبعض أهل المدينة، وهذه مناوشة يعلم القصد منها، ولما سئل ابن سلول أجاب بما أجاب به في يوم بعاث؛ وهو أن لا يخرج أهل المدينة إلى الحرب حتى يهاجموا، وأن جانب السلم خير وأكثر أمنا، ولعل هذا الخبيث كان يرجو أن تتمكن قريش من اقتحام البلد ليعينهم من الداخل أو يتمكن من قتل من يشاء من المسلمين أثناء الفتنة التي تصحب هجوم عدو على بلد غير محصن؛ فقد كان مطمئنا إلى بني قريظة وإلى كتيبة الراهب، ولا ريب في أنه كان على نوع من التفاهم الخفي مع زعماء الحملة القرشية، وقد صار الآن مسلما ولكن قلبه لم يشف من نفاقه، وسوف يصحبه النفاق إلى قبره لا يخرج من هذه الدنيا بغيره، ولعل النار تحرق قلبه ولا تصل إلى قميص الرسول الذي كفن فيه، وشرح للرسول خطته وهي أن قريشا لن تقتحم المدينة، وإن اقتحمتها فلن يشق الدفاع عنها، وإن حاصروها فلا يطول حصارها. وإني أكاد أرى لونا من خبث تاليران وزير نابوليون ومستشاره؛ كان يؤلب عليه ويتآمر ويشارك خصومه ويحرضهم ويقويهم، وإن يكن الفرق شاسعا بين تاليران في ذكائه وفطنته، ولكن ابن أبي كان مثله لا يرعى ذمة للرسول ولا حرمة للمسلمين وهذا وجه الشبه بينهما، وكان كل ما يصيب نابوليون يثلج صدر تاليران، وكذلك كان عبد الله بن أبي يفرح لما يصيب المسلمين من سوء، غير أن تاليران دون أخباره وأخبار مولاه في مذكراته وتاريخ حياته، أما ابن سلول فقد نزل في حقه وحق حزبه قرآن صريح:
إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ، هل ترى من فرق بين الأمرين؟!
لما رأى النبي جيش قريش انتوى أن لا يخرج إليه، وتحمس أصحابه وألحوا عليه في الخروج؛ لأنهم تذكروا بدرا وظنوا أنهم ملاقون نصرا مؤزرا، وطمع الذين لم يشهدوا بدرا؛ وهم كثرة؛ أن يعوضوا عنها بهذه الموقعة، ولم يكن محمد يأبي الخروج تبعا لنصيحة المنافقين، ولكن لأن عاملا نفسانيا نهاه، وهذه الحالة هي إحدى الحالات التي يورط فيها الزعماء بتأثير الأتباع والتي يسير فيها الزعيم وراء أتباعه ليرضيهم، وكانت العادة من قبل أن يسيروا هم وراءه بهديه، فلا نعدها هفوة، ولكن نعدها قضاء وقدرا؛ لحكمة يعلمها الله، وأهم من ذلك أن تخلف الرسول وهو في عنفوان قوته الحربية عن الخروج إلى جيش مهاجم سبق للرسول أن هزمه يضعف كثيرا من قوة المسلمين ويشهر بهم في العرب ولا يدرك الناس مسلك دولة ناشئة تعتدي على الغير بالأمس ثم إذا جاءهم النفير يختفون وراء بيوتهم، وكانت المدينة بلدا مفتوحا ينال من كل مكان، فلا يبعد أن اليهود والمنافقين يدفعون المشركين وحلفاءهم إلى أن يدهموا المسلمين في بيوتهم وفيها النساء والأطفال والشيوخ والمرضى فتكون كارثة! ولذا كانوا حيال معضلة وأمام شرين أهونهما المجازفة بالحرب، وتجمع لدى الرسول نحو من ألف مقاتل، واستعد الجيش للسير رغم رؤيا رآها الرسول وهو المعروف بالرؤيا الصادقة من قبل النبوة أبانت له ما سوف يحصل حتى مصرع عمه حمزة، فخرج مثقلا بالهم كاسف البال موروطا، ولكن هذه الحال لا تمنع من حضه جنوده على القتال؛ فقد أصبحوا جميعا أمام الأمر الواقع، وكان المنافق ابن سلول قد وضع خطته في الحالين، فلما فشل في التخذيل وغلبت كلمة المحاربين، أضمر خطة أخرى، وهي أن يتظاهر بالخروج ثم ينسحب بجيشه في نصف الطريق بين المدينة وأحد، وكان أتباع المنافق ثلث الجيش، ونفذ هذه الخطة فأدخل الرعب في قلوب المترددين وهم من قبيلتي بني سلامة وبني الحارث اللتين اعتدى جيش قريش على كلأهما وأرضهما وأباح لأنعامه كلأها! •••
يبلغ طول أحد أربعة أميال من الغرب إلى الشرق، ويربض هذا الجبل الشامخ حيال المدينة حجابا من الصخر الصلد، يغلب عليه لون البياض وتعكس عليه أشعة الشمس فترتد ذات ألوان بهيجة، وهو كغيره من جبال الحجاز تسر العين برؤيته، وله جمال وجلال وهيبة كأنه ملك بين الجبال الراسخة، وليس بجانبيه جبال أخرى؛ فهو معزول عنها ومرتكز على الوديان، تنساب تحت سفوحه مجاري السيول، وقد تغيرت مواضع الأرض الآن بفعل الزلازل والبراكين واتسعت مضايق وضاقت فسحات، فإن الأرض الصخرية النارية لا تبقى على حال واحدة في ألف سنة فيما عدا اللابتين المحيطتين بالمدينة فما تغيرتا ولا تبدلتا، فكانت الطريق من المدينة إلى أحد على قصرها تحتاج إلى دليل.
أراد الرسول أن يتخذ أحدا وراء ظهره يرتد إليه عند الحاجة، وأن يخرج خفية فلا يراه ولا يرى جيشه أصحاب مكة؛ لئلا يقطعوا خط مواصلته، وأن يحصر جيش العدو بينه وبين المدينة، حتى إذا هزموا وولوا الأدبار لم يجدوا غير المدينة ملجأ فيتلقاهم أهلها ليجهزوا عليهم فلا يكون لهم مفر، وقد نفذ هذه الخطة بحذافيرها ونجح في تنفيذها، فلم يمكن قريشا من اعتراضه أو اللف حول مؤخرته عند خروجه، ولم يشعرهم بضرورة تغيير موقفهم، فكانت جبهة جيشه نحو أحد وبينهما واد فسيح هو ميدان المعركة، وخير ما يحددها تماما أضرحة الشهداء السبعين وفي مقدمتهم قبر حمزة الذي ما يزال ماثلا؛ لأن الصحيح الثابت على أنه وقع وصلوا عليه ودفن في مكان واحد، ولأجل أن يسلك الرسول طريق النجاة والتغمية، ساروا في حرة بني حارثة وخاض هو وجنوده أرضا زراعية تحيط بالمدينة من الشمال وتحف بها بعد البقيع وينتشر نخيلها وكرومها مظللة كثيفة تبدو كسواد الغابة؛ لكثرة ما بها من أشجار، وقد حجبوا عن قريش فلم يروهم إلا وهم مصطفون أمامهم، واتخذ كل منهم مكانه واتخذ الرسول لنفسه معسكرا فوق هضبة عالية تشرف على الميدان وعلى الجيشين، وكان تقسيم الكتائب محكما طبقا للخطة المرسومة، فلما رأى الرسول أن جبل عينين منال ينال منه المسلمون، وضع عليه خمسين من مهرة الرماة؛ ليحموا المضيق ويحولوا دون قطع الطريق، وأمرهم أمرا صريحا أن لا يتحركوا مهما طرأ على الجيش المحارب، وهذه قصة مشهورة يزعم بعض الخصوم أنها اصطنعت فيما بعد؛ لتخفف من تبعة الهزيمة! ولكن هؤلاء المرجفون لا يبالون، يختارون فيما لديهم من الأخبار فيصدقون ويكذبون، ولو كانت أحد حاسمة كبدر ولم تتلها وقعة الخندق وصلح الحديبية وفتح مكة ونصر حنين، إذن لكان للاختلاق والترقيع سبب قوي، أما أن أحدا لم تكن سوى حادثة طارئة في تاريخ الجيوش والدول فلا مانع يمنع المسلمين من ذكر الحقيقة عنها! وأي شيء غريب في أن يوزع قائد جيوشه ويأمرها وينهاها؟! وهل عصيان الرماة أمره بدافع الطمع في الغنائم أو غيرها أو بدافع الخوف من فرسان خالد بن الوليد الذي دهمهم أعجب وأغرب مما وقع في بدر نفسها؟! كان جيش قريش في وادي قناة، وهو موضع أوطأ من موضع جيش المدينة، وهو الذي ما يزال بين أحد والمدينة، وإن يكن شكله الجيولوجي قد تغير بفعل الزلازل وفيضان الماء بسيول غيرت وجه السهول، وكان هذا التغيير مشاهدا في زمن السمهودي فنص عليه (وفاء الوفا في تاريخ مدينة المصطفى).
ولذا لا يملك المعاصرون أن يتعرفوا على مدلولات تلك الأسماء بالدقة لولا حرص الحديث والمعاصرين على التوسع في الوصف والتعريف، حتى لكأن المواطن منقوشة محفورة لا موصوفة وصف اللسان، وما يصدق على أحد كذلك يصدق على الخندق الذي عفت آثاره وانمحت رسومه فلا ترى له اليوم شبحا، ولا يمكنك أن تحقق من أصل موضعه شبرا، ولكن الذي نجزم به أن موطن الجيش المحمدي كان أقوى من موطن الجيش القرشي، وأن تصرفه الذي سهل عليه حصر قريش بينه وبين المدينة كان تصرفا سليما؛ لأن ظنه أن قريشا لا تهاجم المدينة قد صح وصدق حتى في حالة انتصارها، فكل ما حسبه الرسول كان دقيقا، وكل ما رسمه كان محكما محبوكا، وكل الذي أسفرت عنه حيلة الراهب الأسود الأشمط أنه انتهز فرصة الظلام وجعل في الأرض حفرا ومهاوي وغطاها؛ لتكون مساقط لجنودنا، أي إنه ألغم بعض أرض الميدان بالقش وأوراق الشجر، فلم يكن أعلم ولا أفطن من إخوة يوسف الذين حفروا له حفرة، والذي أعان هذا الناقم معرفته بطبيعة أرض الضواحي في المدينة، وما هو إلا ابن بجدتها ومن سادة أوسها وأنصار يهودها ومنافقيها، فلم يأت بجديد ولم يتح نصرا حاسما لحلفائه.
تاريخ الموقعة عقيب عيد الفطر مباشرة (7 شوال سنة 3ه الموافق 24 مارس سنة 625م).
سيرى القارئ أن جيش الرسول هزم جيش قريش، وأن الذعر دب في صفوف المشركين، وأن سبعة من حملة علمهم قتلوا واحدا بعد آخر حتى وصل إلى يد امرأة، وكان السبعة من آل عبد الدار، (يسمون أحدهم عبدريا)، وبعد قتل فحول قريش وحملة ألويتهم ولت قريش أدبارها تاركين معسكرهم نهبا لجيشنا الذي بدأ رجاله بالوقوع على الأسلاب، أما نساء قريش فقد أفلتن الطبول والدفوف ولجأ الشباب منهن إلى سفوح الجبال، أما الضعيفات فقد رضين الأسر فسلمن أنفسهن للأبطال الذين أبوا أن يمسوهن بسوء، وأوشك أبو سفيان نفسه أن يهلك كعادة الحظ معه أن ينجو طوال حياته بقيد شعرة من الخطر المحقق، وهنا أكلت حكة السلب بعض أيدي الرماة حماة مؤخر الجيش، ولمعت أعينهم ببريق الرغبة في الوقوع على الغنائم وظنوا إخوانهم الذين انتصروا يحرمونهم منها، وسرت العدوى من الفرد إلى الجماعة؛ فانحطوا كالسيل الجارف ونسوا أمر النبي، وكان يجب إعدامهم بعد ذلك شنقا وصلبا في ساحة المسجد بالمدينة! فانتهز ابن الوليد هذه الفرصة وهجم بخيله وفرسانه على الثغرة التي أحدثها العصيان، ووقع المسلمون بين نارين، ورأت قريش المدبرة بريق الأمل، فاستردت قوتها ونظامها كما حدث يوم بعاث الذي دارت فيه الدائرة أولا على الأوس، فلما فرح الخزرج وضعفت قوتهم باعتقاد النصر القريب جمع حضير الكتائب صفوفهم بحيلة الجرح الذي أحدثه في فخذه بحربته.
اختلط الحابل بالنابل، وانفرط عقد النظام، وقتل بعض المسلمين إخوانهم يظنونهم أعداء، وأوشكت الدائرة أن تدور على صفوفنا، وظن خالد بن الوليد أن أكبر ضربة تصوب إلى المسلمين قتل النبي، فقصدوا إلى خبائه، وفطن أبطال المسلمين إلى هذا الخطر فأحاطوا بشخصه
صلى الله عليه وسلم
والتفوا حوله ورموا بأجسامهم عليه؛ ليقوه شر الرماح والسيوف والخناجر والسهام، وتقدم إليه رجل كان يسمن فرسه ويشحذ سلاحه؛ ليقتل النبي، فضربه الرسول برمح جرحه في عنقه جرحا مكتوما لم تسل منه نقطة دم، ولكن الرجل وثق أنه ميت لا محالة!
وكان من شهداء الموقعة بعد حمزة مصعب بن عمير الذي يشبه الرسول شبها شديدا، فقتله ابن قمئة وأشاع أنه قتل محمدا، فحمي وطيس المعركة بين رجال عاهدوا الله على الموت في سبيل دينهم، فاشتدت سواعدهم وتراخت قوة قريش؛ لأنهم ظنوا نجاحهم كاملا بقتل النبي وقتل سبعين من أعدائهم بعدد الذين ماتوا في بدر من المشركين، فكانت تضحية مصعب وسكوت الصحابة عن تكذيب الشائعة سببا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأكد ابن قمئة لأبي سفيان الذي عاد أدراجه متفائلا أنه قتل النبي بيده، وهو يحسب مصعبا هو محمد نفسه، ولكن أبا سفيان لما بحث في الميدان عن محمد الذي لن يلقاه بعد اليوم إلا وهو في موقف المذلة في المدينة أولا، وفي فتح مكة ثانيا، يوم جاءه يحبو على ركبتيه؛ ليعلن إسلامه، ويقدم خضوعه، وكان الباحث معه الراهب أبو عامر، فلم يجداه، فأسقط في يدهما وعادا بخفي ابن قمئة يلطمان بهما خدودهما الصفيقة، وذهبت جهودهما وجنودهما أدراج الرياح وخسرا أرباح العير وأهل النفير، فإن المشاهد الأولى من الفصل الأول من المعركة غيرت مواضع قريش وزحزحتهم بالقتل فيهم وفرارهم عن جهة المدينة، فتمكن المسلمون من السلوك إليها فكانت خط رجعة بديعا أعدته المصادفة السعيدة لهم، ولو أن القرشيين ثبتوا ولم يغيروا مواضعهم لقضوا على الجيش كله ودخلوا المدينة ظافرين واحتلوها وعلى رأسهم أبو سفيان والراهب المنحوس طالعه، ولم تأخذ قريش أسرى ولا أسلابا ورضيت من الغنيمة بالرجوع، وهذا يدلنا على جهل أبي سفيان بفنون الحرب وعزوفه عن الاحتلال الحربي أو التوسع في السيادة، وبقائه على فكرة الجاهلية، وهي الاكتفاء بأخذ الثأر، على نقيض الرسول الذي جعل للحروب ثمارا سياسية، فانتفع من كل حرب بالتوسع في امتلاك الأرض وإخضاع القبائل إما بالحسنى والإسلام وإما بالحرب والقتال، وكان الظلام قد خيم على الميدان فاتجه أبو سفيان وجيشه نحو مكة، وعاد المسلمون إلى مدينتهم وقد أمنوا عودة قريش لفتح البلد، ولكنهم حرسوا البيت الذي كان الرسول يعالج فيه من جراحه.
وكان مسلك النبي بعد أحد مثيرا للدهشة والإعجاب؛ فقد اعتلى صهوة جواده واقتفى أثر أعدائه إلى حمراء الأسد على بعد اثني عشر ميلا، فلما بلغت قريش الروحاء عضت بنان الندم على أنها لم تتبع نصرها بالفتح، وقد نهاهم عنه صفوان بن أمية الذي مات أبوه في بدر، فأشار عليهم بأن لا يحرجوا صدور المسلمين فيحركوا فيهم شجاعة وعزما واستقتالا قد تودي بجيش قريش. وأوهم رسل محمد أبا سفيان بأن للنبي جيشا احتياطيا ضخما، وأمر الرسول بإشعال نيران هائلة على أبعاد شاسعة؛ ليؤيد هذا الخبر في أذهان قريش المنسحبة، وأقام الرسول في ضواحي المدينة على أهبة الاستعداد بجيشه خمسة أيام حتى وثق أن أهل مكة لن يعودوا أدراجهم، ثم دخل البلد يوم الجمعة، ولم تؤد أحد إلى شيء غير إقبال رجال من أقوى المشركين على الإسلام والدخول في حظيرة الإيمان وهم لا يعلمون الدافع لهم، ومنهم قواد كبار وأبطال اشتركوا في أحد، ولا بد أن هؤلاء كانوا يعتقدون أن نصر قريش كان نصرا مفتعلا، وأن الرسول ورجاله لم يفقدوا غريزة القتال ولم يجهلوا فنون الحرب، وآية أخرى أظهرتها أحد وهي اشتداد عداوة اليهود والمنافقين، وقد خسرت قريش خمسين ألف دينار، وهي الأموال التي أنفقوها على الحملة، وهي ربحهم من العير الذي أنقذه أبو سفيان قبيل بدر.
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله .
وكانت أرباح قريش من تجارتهم مائة في المائة، يربحون في تجارتهم للدينار دينارا. (1) الموقعة
لما قتل أشراف مكة ببدر وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ترأس فيهم أبو سفيان بن حرب؛ لذهاب أكابرهم، وكان أبو سفيان من أشد أعداء النبي ولم ينل ما في نفسه، فأخذ يؤلب عليه وعلى المسلمين ويجمع كلمة قريش بفكرة الثأر والانتقام من محمد.
وكان من جهة أخرى جماعة من أعيان قريش يرون رأي أبي سفيان ويسعون في إغراء العرب بمحمد ومن معه من المهاجرين والأنصار لغرضين: الانتقام منه ومن الذين تبعوه لأقاربهم الذين قتلوا في بدر، والغرض الثاني: محاولة القضاء عليه وعلى دعوته بعد أن شهدوا استفحال أمرها.
ويظهر أن ثلاثة من أعيان قريش كانوا أظهر من غيرهم في المطالبة بهذا الانتقام؛ وهؤلاء هم: (1)
عبد الله بن أبي ربيعة. (2)
عكرمة بن أبي جهل. (3)
صفوان بن أمية.
فألفوا وفدا من بعض شرفاء قريش وقصدوا إلى أبي سفيان ودعوا إلى اجتماع يحضره من رجال قريش كل من كانت له تجارة في العير التي سببت واقعة بدر.
وكانت تلك العير لا تزال موقوفة في دار الندوة، وهي مقر الحكم وقصر البلدية لجمهورية مكة، فلما انتظم الاجتماع قام عبد الله بن أبي ربيعة وألقى الكلمة الآتية: يا رجال قريش، ويا أصحاب الدم والمال في وقعة بدر! إن محمدا قد وتركم! وقتل خياركم ولم تدركوا دماءهم. وها هي العير موقوفة لا ينتفع بها أحد، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا.
فقام عكرمة بن أبي جهل وقال: تطيب نفوسنا إن جهزتم بربح هذه العير جيشا إلى محمد.
فقال أبو سفيان: وأنا أول من يجيب هذه الدعوة، وبنو عبد مناف معي.
ونهض صفوان بن أمية وقال: نجعل لحرب محمد ربح المال، فأرى أن يسلم لأهل العير رءوس أموالهم وأن تخرج أرباحها لكل دينار نصفه.
ونظر في حساب الربح فإذا هو خمسون ألف دينار، وتعدل في زماننا هذا حوالي عشرين ألف جنيه، فكان هذا المال الذي أعان على معركة أحد، وهو مبلغ ضخم بنسبة الزمان والمكان، ولكن العرب كانوا يعلمون هم أيضا أن المال عصب القتال، فكان اجتماعهم وخطبهم بمثابة اجتماع البرلمان للموافقة على ميزانية الحرب قبل الشروع فيها.
فكان القسم الأول بمثابة الخطب التي يلقيها وزراء الحربية قبل تقديم مشروع القانون بالمبلغ المطلوب.
ويظهر أن الموافقة في دار الندوة كانت عامة، ولذا بدءوا بتدبير المال قبل إنشاء الجيش أو الدعوة للتجنيد.
فإذا صح أن عدد جنودهم كان 3000 فيكون كل جندي قد تكلف سبعة جنيهات مصرية في ذهابه من مكة إلى المدينة وأوبته منها بعد المعركة.
وكل ما رويناه يعد تاريخا صحيحا؛ فقد ثبت بنص في القرآن الشريف، فإنه بمجرد أن جمع المشركون كلمتهم وشرعوا في جمع مالهم للحملة نزلت الآية الشريفة:
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون .
وإن مسلك زعماء قريش يدل على أنهم كانوا على جانب حسن من نظام الحكم وتدبير الحرب والسياسة، ولم يقتصر نظامهم على الاجتماع والخطابة وتدبير المال بل نظروا إلى الدعاية أو البروباجندا، ولم يكن لديهم ما يقوم مقام الصحف سوى الشعراء، وقد استعمل الحلفاء في الحرب العظمى ألفرد هارمز ورث لورد نورثكليف رئيسا للبروباجندا واتخذت في حرب 1939 نطاقا واسعا.
وكان صفوان بن أمية ذا حنكة في اختيار الرجال لهذا العمل؛ فقد قصد شاعرا هو أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي وقد وقع أسيرا في بدر، فلما مثل بين يدي رسول الله في الأسارى قال له: إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن علي صلى الله عليك وسلم!
فأطلق النبي سراحه بعد أن أخذ عليه عهدا أن لا يظاهر عليه أحدا.
فلما جاءه صفوان بن أمية قال له: يا أبا عزة، إنك رجل شاعر، فساعدنا بلسانك، ولك علي إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أجعل بناتك مع بناتي في السراء والضراء.
أبو عزة: إن محمدا قد من علي وأطلقني وأخذ علي أن لا أظاهر عليه أحدا فلا أريد أن أظاهر عليه.
فقال له صفوان: بلى! فأعنا بلسانك!
ويظهر أن فقر الشاعر وعيلته التي كان يعرفها النبي وبسببها أطلقه - كانت لا تزال ملحة عليه، فوقع تحت تأثير المال والتهديد من جانب شرفاء قريش، فإنه كان طليقا «بكلمة شرف» أعطاها النبي، وأراد المسكين أن يتمسك بها، لولا إلحاح صفوان وماله، أو المصاريف السرية التي نال منها نصيبا فأرغمه ذلك على نقض عهده وخيانة كلمته، فكلفه ثمنه غاليا.
وخرج أبو عزة يحرض تهامة ويدعو بني كنانة.
وتمكن صفوان من استئجار شاعر آخر هو مسافع بن عبد مناف، فخرج إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم لمحاربة النبي.
وصار الشاعران المأجوران ينظمان الشعر ويحرضان العرب على الانضمام إلى قريش لمحاربة محمد في المدينة؛ انتقاما لموقعة بدر.
وأخذ أشراف قريش من جانبهم يعملون أعمالا فردية لإنجاح الحرب وقتل قادة الأنصار والمهاجرين، ومن هؤلاء رجل اسمه أبي بن خلف أخو أمية بن خلف الذي أسر ثم قتل ببدر، أخذ يعلف فرسا له اسمها «العود» في مكة ويقول: سأقتل عليها محمدا! وهو الوحيد الذي قتله الرسول بيده.
وأخذ أبو عامر عبد عمرو بن صيفي الراهب (وصار اسمه الفاسق) الأوسي الذي وصفناه بعد أن خرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على محمد باسم حزب أعداء محمد في المدينة ويحضهم على قتاله، وأوهم قريشا أن قومه وهم الأوس إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه، ففرح به أعيان قريش واستبقوه معهم وأعطوه في الجيش مكانة رفيعة تقرب من القيادة، ومنهم جبير بن مطعم بن عدي، وقد كان موتورا في عمه طعيمة بن عدي؛ قتله حمزة في بدر، وكان لجبير هذا عبد حبشي منحوس يقال له «وحشي» كان وحشيا بالاسم والطبع، يحسن الرمي بالحربة على طريقة الحبش؛ قلما يخطئ بها، ولا يزال الحبشان يتقنون الرماية إلى يومنا هذا، فأحضره مولاه جبير وقال له: ثمن حريتك رأس حمزة قاتل عمي، فإن قتلته فأنت عتيق. ومالت إليه هند وحرضته على اغتيال حمزة، وهكذا تجمعت الأحقاد والسياسة والتعصب والمال والشعر والعدد والعدد ضد محمد، وصمم أهل مكة على محاربته حرب استئصال لا حرب غنائم وأسلاب، وإن في اجتماع 3000 جندي في ذلك العهد من مدينة تجارية كمكة وإنفاق عشرين ألف جنيه عليهم لأجل معركة، لدليلا على أن قريشا أرادت أن تكون فاصلة حاسمة ماحية ساحقة لعار بدر، غاسلة لدماء صناديدها (العجائز الصلع).
أعدت قريش جيشها وجعلوا للنساء نصيبا في الحملة؛ فقد خرجت من نساء الأشراف أو الأعيان خمس عشرة امرأة، كل منهن مع زوجها أو أبيها أو أخيها؛ فهند مع زوجها أبي سفيان، وأم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وسلافة مع زوجها طلحة بن أبي طلحة، وأم مصعب بن عمير وعمرة بنت علقمة الحارثية، وقد أعوزتهم الموسيقى الحربية فأخرجوا معهم النساء بالدفوف وساروا بالقيان والطبول والمعازف والخمور والبغايا، وليس هذا غريبا عليهم؛ فقد فعله أسلافهم في بدر منذ عام، وكانت مأمورية النساء أن يبكين قتلى بدر وينحن عليهم ويحرضن جيش قريش على القتال وعدم الهزيمة والفرار.
كيف علم النبي بالحملة؟
علم العباس عم النبي بهذا الاستعداد الضخم وتقدم إليه أشراف قريش وطلبوا منه أن يخرج معهم، وكان العباس لا يزال وثنيا، ولكنه كان يضمر الحب لابن أخيه، ولعله كان ينتظر اليوم الذي يميل فيه ميزان القوة نحو ابن أخيه فينضم إليه؛ لأنه كان من أرباب الأموال وكان يخشى على ماله، كما كان يتكهن لابن أخيه بمستقبل عظيم، وقد رأى فعلا بوادره، فلما طلب إليه أن يشترك مع قريش في الحرب ضد رسول الله اعتذر لهم بما أصابه يوم بدر، ولم يساعد قومه بشيء من ماله.
ثم استحضر العباس رجلا من بني غفار وهي قبيلة أبي ذر الغفاري الصحابي الشهير وسلمه مكتوبا سريا إلى النبي واستأجره في أن يحمله إليه وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها، فقبل الرجل وأدى الأمانة خير أداء.
والذين علموا بالخطاب في أول الأمر من حاشية النبي أبي بن كعب الذي قرأه لمحمد، وسعد بن ربيع الذي فاتحه النبي في أمر المكتوب، وتسمعت امرأة سعد بن ربيع ما دار بين محمد وزوجها وأفضت به إلى زوجها فشكاها إلى رسول الله فلم يكترث.
وكان عمل العباس جميلا بالنسبة للمسلمين ولابن أخيه ومن معه من المهاجرين والأنصار، ولكنه كان من جرائم الحرب وكان يستحق المحاكمة عليه؛ لأنه مكون لجريمة المخابرة مع الأعداء وإفشاء أسرار الدولة؛ فهو نوع من الخيانة العظمى.
وقد كان في وصول هذا الخطاب ليد النبي بقباء فائدة عظمى؛ لأنه كسب الفرق في الوقت بين وصول الرسول وبين وصول الجيش وهو بضعة أيام مكنته فعلا من استشارة أصحابه والاستعداد للقاء العدو المهاجم.
الأعمال التي عملها النبي في المدينة
علم النبي بما في الخطاب فجمع أصحابه وشاورهم في الأمر، وكان رأيه ما يأتي: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتتركوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلنا فيها ونحن أعلم بالمدينة منهم.
وكانت المدينة بعد هجرة النبي قد شبكت بالبنيان من كل ناحية حتى صارت كالحصن المنيع.
وكان هذا رأي أكابر المهاجرين والأنصار.
وأرسل النبي في طلب عبد الله بن أبي ابن سلول (الذي كان يسمى رأس المنافقين) واستشاره في الحرب، ولم يكن استشاره قبل هذه المرة، فقال عبد الله: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج! فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلناهم، الرجال منا يقاتلونهم في وجوههم والصبيان يرمونهم بالحجارة من ورائهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين.
وهذا هو الرأي الصائب، وادعى بعض المؤرخين ليثبتوا صفة النفاق على عبد الله أنه حرض النبي على الخروج، وهذا قول ظاهر الخطأ؛ لأن عبد الله لو أبدى رأيا ضد رأي كبار الأنصار والمهاجرين، كان أمره ينكشف، فهو بالطبع يميل إلى الرأي الراجح الذي عليه الأغلبية، ولما كان النفاق دليل الذكاء، فكان عبد الله يعلم طبعا أن محمدا ليس من البساطة بحيث يوافق رأيه بغير تمحيص، فلو أنه خدعه وحرضه على الخروج، لكان ذلك سببا في هتك ستره والقضاء على البقية الباقية من كرامته.
وإذن كانت الأغلبية في جانب البقاء في المدينة، ولكن طائفة من الشباب التي تغلي الدماء في عروقها أرادت لقاء العدو، أظهرت رغبة في الخروج لإحراز المجد أو لمجرد حب الحركة، وربما تغلبت الشبيبة في الحياة العامة على الكهول وفازت حرارة الفتوة على الآراء الناضجة، وقد يحدث ذلك كثيرا فيرغم الرجال على طاعة الشباب والانقياد لهم ويتورطون وهم يعلمون نتيجة التساهل للشباب في مطالبهم، ولذا ترى بعض المؤرخين يقولون: «غالبهم أحداث أحبوا لقاء العدو.»
وكان في المدينة فريق آخر يميل إلى قتال العدو، وهم الرجال الذين لم يشهدوا بدرا، فأرادوا أن يخوضوا غمار المعركة، وهم يظنون أنهم سيهزمون العدو فيفوزون بالغنائم ويكتب لهم النصر أو الاستشهاد.
وقد أوفدوا واحدا منهم يقول لرسول الله: اخرج بنا إلى الأعداء، لا يرونا أنا جبنا عنهم وضعفنا، والله لا تطمع العرب أن تدخل علينا منازلنا!
وقال فريق من الأنصار: يا رسول الله، ما غلبنا عدو لنا أتانا في دارنا؛ فكيف وأنت فينا؟
ولعمر الحق إن هذه مجادلة مقنعة، ومن شأنها أن تمس كرامة الزعيم؛ وهو رسول الله، وقد زاد في قوتها تدخل حمزة عمه وقوله: والذي أنزل عليك الكتاب لا أذوق طعاما حتى أجادلهم بسيفي خارج المدينة!
فكانت أقلية متحمسة قد غلبت كثرة هادئة مفكرة، فإن هذه الأقلية التي صار على رأسها حمزة بن عبد المطلب لقضاء سبق في علم الله ما زالت برسول الله حتى وافق على الخروج وهو كاره.
ونحن نعتقد أن نظرية كرهه للخروج صادقة في التاريخ، ولم تنتحل بعد الهزيمة لتجعل رأيه الأعلى، ولتصوره لنا راغبا عن القتال؛ لعلمه بما سوف يكون؛ وذلك لأن طبيعة النبي كانت تأبى الحرب وسفك الدماء في غير سبب قوي، وحتى خصومه شهدوا له بذلك، قال ديبل
Dieble (ص86):
Mohemed wisely confined his originality and his daring strictly to his mental activities and fought only when self preservation necessitated it.
وفي هذه الحالة لم تكن هناك ضرورة ملجئة، ولا سيما أن قوة النبي كانت في بحر السنة بين بدر وأحد في ازدياد ونمو، وهذه حالة لا تستدعي الحرب والمجازفة وهو المنتصر في بدر وليس لديه ثأر يطالب به أو يطالب به أنصاره، وقد خضعت له الشقة بين مكة والمدينة، حذاء الشاطئ، وقد أرغم قريشا أن يشقوا لأنفسهم طريقا شرقيا نحو وادي الفرات، وأعدوا قافلة عظيمة ليرسلوها في الشتاء فنقل خبرها إلى النبي فأعد حملة بقيادة زيد بن حارثة فهاجمت القافلة، وكاد أبو سفيان يقع أسيرا، واستولى زيد على ثروة قدرها 100000 درهم.
وفي الوقت نفسه ولدت فاطمة لعلي سيدنا الحسن حفيد رسول الله.
فكان لمحمد بعد هجرته بعامين مال كثير وأرض واسعة وأتباع وأنصار ذوو عدد وجاه، وكان في راحة وهناء، وكل ذلك لا يدعو للحرب ولا يجعله مقبولا في نظر رجل سياسي، ولو أن النبي فكر في حرب، فكان الأولى أن يفكر في حروب فتح وانتصار، لا في حرب دفاع غير مأمونة العاقبة، ولا سيما وأنه علم بها فجأة وبطريقة سرية.
ولما اضطر النبي للخروج إلى الحرب استعمل على المدينة ابن أم مكتوم وكان ضريرا ولكنه حازم. (2) جيش النبي
كان جيش النبي مؤلفا من ألف رجل، فهو ثلث جيش قريش، وكانت أركان حربه مكونة من صحابته وقرابته أبي بكر وعمر وحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير ومصعب بن عمير والحباب بن المنذر وسعد بن عبادة وطلحة بن عبيد الله والنضر بن أنس وسعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف وكعب بن مالك والحارث بن الصمة وسعد بن أبي وقاص وحنظلة بن الراهب.
وقبل الخروج قال سعد بن معاذ لبعض أهل المدينة: استكرهتم رسول الله على الخروج فردوا الأمر إليه.
ومن النساء اللواتي ورد ذكرهن في جيش النبي أم أيمن وفاطمة بنت الرسول وأم عمارة المازنية وعائشة - رضي الله عنها. (3) كيف كان شخص النبي يوم المعركة؟
لبس النبي لأمته ثم لبس درعه «ذات الفضول» وعليها درعه الأخرى «فضة» ولكل من الدرعين تاريخ، فإن «فضة» هي الدرع التي غنمها محمد من بني قينقاع.
وذات الفضول قدمها إليه سعد بن عبادة عندما خرج النبي إلى موقعة بدر، ومات عنها وهي مرهونة عند يهودي من المقرضين بالمدينة على دين شخصي دفعه أبو بكر بعد وفاة محمد وتسلم الدرع.
ولما لبس محمد درعه الثانية أظهرها وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه، وتقلد السيف وألقى الترس في ظهره.
وركب فرسه «السكب» وتقلد القوس وأخذ قناته بيده.
وهذا الوصف الذي أجمع عليه المؤرخون يدل على أن النبي قد جمع بين سائر الأسلحة الصالحة للقتال، وبدا لأعين أهل المدينة محاربا كامل العدة مقبلا على الموقعة بثبات وصدق عزيمة، وكان الناس قد اصطفوا ينتظرون خروجه من بيته بعد أن دخل إليه ومعه أبو بكر وعمر وهما اللذان عمماه وألبساه.
فلما رأى الناس تمام استعداده وكانوا سمعوا كلمة سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: «استكرهتم رسول الله على الخروج.» فخشي بعض أهل المدينة عاقبة الخروج، وأرادوا أن يبرئوا ذمتهم من النتائج بعد أن علموا أن النبي أراد في أول الأمر أن لا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها، فإن دخلها أهل مكة قاتلهم المسلمون؛ أهل المدينة على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، والأولاد من خلفهم، فلما مر بهم النبي وهو مسلح على الصورة التي وصفنا ضج بعضهم قائلا: «ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج، فاصنع ما شئت، فإن شئت فاقعد ولا تخرج لهم!»
وعندما سمع النبي هذا الضجيج، عجب من تقلب الشعب والعامة، وعجب من ظنهم أنه يعود فيعدل عن الخروج بعد أن صمم عليه، فقال لهم: «قد دعوتكم إلى القعود فأبيتم، وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه.» فأيقن أهل المدينة أنه من ذوي العزم وأنه إذا صمم على أمر لا ينقضه ولا يرجع عنه حتى يتم على الصورة التي يريدها له الله.
ولم تكن هذه الخطبة الوحيدة التي ألقاها النبي على أهل المدينة في هذا اليوم؛ فقد كان يوم الخروج يوم الجمعة فصلى النبي بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصرة ما صبروا، وأمرهم بالاستعداد لعدوهم.
وكان خروجه بسلاحه وعدته بعد صلاة العصر من ذلك اليوم.
وقد قسم النبي جيشه إلى ثلاثة لواءات: واحد منها للأوس؛ وجعله بيد أسيد بن حضير، ولواء للمهاجرين؛ بيد علي بن أبي طالب، وقد حمله بعد ذلك مصعب بن عمير؛ لأن لواء الأعداء كان يحمله طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار، وهم أصحاب اللواء في الجاهلية كما فصلناه في وظائف أهل مكة عند الكلام على أبي المطلب، فأراد النبي أن يعقد لواء لمصعب بن عمير وهو من الأنصار وأصله من بني عبد الدار؛ ليكون قرنا لطلحة حامل لواء المكيين، وهكذا صار حملة ألوية المسلمين ثلاثة: أسيد بن حضير للأوس، مصعب بن عمير للمهاجرين، الحباب بن المنذر وسعد بن عبادة للخزرج.
وكان عدد جيش النبي في أول الخروج ألف مقاتل وسار الجيش وأمام النبي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وهما متدرعان، وفي الجيش مائة جندي دارع مثلهما، وكان السعدان يعدوان على فرسيهما أمام النبي، فلما وصل الجيش رأس الثنية رأى النبي كتيبة كبيرة قوامها ثلاثمائة جندي فسأل عنها فقيل له: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول وهم من اليهود!
فقال النبي: هل أسلموا؟
قالوا: لا.
قال: إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك. ثم استغنى عنهم وردهم.
وغير خاف أن محمدا كان يعلم أن جيش أعدائه أكبر من جيشه ثلاث مرات، وكان في حاجة إلى جند، وكتيبة قوامها 300 لا يستهان بها.
ولكن آثر القلة مع إخلاص المحاربين على الكثرة مع الاختلاط بعسكر قد لا تؤمن عاقبة الاستعانة بهم، ولا سيما وأنهم حلفاء رجل كان النبي يعرف أنه رأس المنافقين؛ وهو عبد الله بن أبي، وكان قد أشار بعدم الخروج، فما الذي دعاه إلى تجنيد حلفائه بهذه السرعة، حتى سارعوا وسبقوا جيش النبي إلى رأس الثنية؟!
على أنني أنظر إلى المسألة من جهة أخرى؛ وهي أن هؤلاء اليهود سواء أكانوا حلفاء عبد الله المنافق وخرجوا للحرب إجابة لدعوته أو أنهم وطنيون محبون لبلدهم يريدون الذود عنها، فمما لا شك فيه أن لهم حق الدفاع عن المدينة؛ لأنهم مقيمون فيها، ولم تثبت خيانتهم حتى يصح الحكم بحرمانهم من حق الدفاع عن أنفسهم وأموالهم وبيوتهم، وكان يمكن استخدامهم في أي عمل خاص بالحرب، وجعلهم تحت مراقبة فرسان بعض المسلمين.
غير أن كلمة النبي فوق رأينا، ويرى الحاضر ما لا يرى الغائب.
وقد حدثت في الهزيمة أمور فظيعة، فربما كان هؤلاء اليهود وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ينضمون إلى أهل مكة فتكون كارثة، والخطوة الثانية بعد الاستغناء عن اليهود كانت عرض الجيش؛ فإن النبي عسكر في ظل جبلين وعرض الجند، فرد كل من لم يبلغوا أربعة عشر عاما، وكان بين المردودين عدد كبير من الشبان الذين صاروا في طليعة أبطال الإسلام؛ أمثال: عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وعرابة بن أوس.
وكان النبي لا يرد الشباب ردا قطعيا بل كان يقبل التظلم؛ فقد أجاز رافع بن خديج لما قيل له: إنه يحسن الرماية، وكان النبي قد رد سمرة بن جندب؛ لصغر سنه، فاحتج بأنه أقوى من رافع وهو يغلبه إذا تصارعا، فأمر بمصارعتهما فتغلب سمرة على رافع فأجازه النبي.
وقد استغرق العرض والتظلم من رد الشباب والفصل في الطعون بقية اليوم وغابت الشمس ونام الجند في ظل الجبلين.
وكان رئيس الحرس محمد بن مسلمة وتحت إمرته خمسون جنديا يطوفون المعسكر، وقام ذكوان بن عبد قيس بحراسة النبي أثناء نومه، ولما كان الصباح، كان الجيش قد بلغ مكانا اسمه الشوط وهو جدار بين المدينة وبين جبل أحد.
وفي هذا المكان انسحب عبد الله بن أبي ومعه ثلاثمائة رجل وهم محنقون يتميزون من الغيظ، ولم يستطع عبد الله أن يكظم غيظه فقال ينتقد النبي ويتوعده: «عصاني وأطاع الولدان ومن لا رأي له! سيعلم! ما ندري علام نقتل أنفسنا؟! ارجعوا أيها الناس!» فرجعوا.
يظهر أن عبد الله بن أبي كان يملك قياد ثلث الجيش، وكان يحالف ثلاثماية يهودي وهم الذين ردهم النبي عند رأس الثنية، ولما أيقن عبد الله بن أبي أن الحرب واقعة لا محالة، ولعله أيضا تخيل أن الغلبة سوف تكون لقريش؛ لكثرة عددهم أو لأي سبب آخر، فإن رجلا مثله لا يخلو من مصادر العلم بالتجسس، فوقف على عدد جيش مكة، فدخل قلبه الرعب، وأبى أن يجازف بحياته وحياة أصحابه المنافقين، وكان قد أشار على النبي بالقعود ووافقه النبي وخيرة الصحابة، ثم أرغم النبي على الخروج بتأثير الشباب وغيرهم من طلاب المجد أو الاستشهاد أو الغنائم.
انتهز عبد الله بن أبي هذه الفرصة لما ظنه انتقاما، فلما بلغوا الشوط انسحب هو ومن معه.
فتبعه عبد الله بن عمرو بن حرام، وكانت مكانته في الخزرج تعدل مكانة عبد الله بن أبي، وأخذ ينصح الفارين الخاذلين، أو دعاة الهزيمة ويحذرهم ويذكرهم بدينهم؛ لأنهم كانوا مسلمين في الظاهر ويقول : يا قوم! أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم.
فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتال!
فقال لهم لما يئس من عودتهم: أبعدكم الله، أعداء الله! فسيغني الله تعالى عنكم نبيه.
وقد أوشكت الفتنة أن تقع في جيش المسلمين بسبب هذا الخذلان؛ لأن طائفتين من الأوس والخزرج اختلفتا في محاربة المنافقين الذين انسحبوا بزعامة عبد الله بن أبي، وقيل إن هاتين الفئتين؛ وهم بنو سلمة وبنو حارثة، لما رأتا انصراف المنافقين همتا بالرجوع . وفي هاتين المناسبتين نزلت آيتان:
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم ،
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا .
ولم يكن في جيش النبي إلا فرسان: فرس النبي، وفرس لأبي بردة.
ولما رأى بقية الجند انسحاب المنافقين أو الذين اعتبروا أنفسهم عقلاء، عرضوا على النبي الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة، وكان لبعض الأنصار من الأوس حلفاء من اليهود كما كان للخزرج حلفاء منهم، فإن اليهود كانوا من المهارة أو اختلاف المصالح بحيث قسموا أنفسهم على الأحزاب، ولكن النبي الذي رفض معونة حلفاء عبد الله بن أبي، رفض أيضا حلفاء الأنصار؛ لأنه أراد أن يكون جيشه مؤلفا من المسلمين دون سواهم، ولا يكون فيه عنصر أجنبي.
وإذن كانت بداية هذه المعركة لا تبشر بخير كثير؛ فقد خرج النبي على غير رغبة منه، وانشق الرأي بين المسلمين وانقسموا على أنفسهم، وظهرت عداوة المنافقين، وانسحب ثلث الجيش، وكادت تدب الفتنة في الصفوف، فإذا كان لإنسان أن يتفاءل أو يتشاءم فقد كانت تلك المقدمات كلها مما يدعو إلى التشاؤم، مع أنني ضربت صفحا عن الرؤى التي قيل إن النبي رآها قبل الخروج من المدينة وفسرها بأن رجالا من أصحابه يقتلون، ورجلا من أهل بيته يقتل؛ لأنني أحاول إبعاد العنصر الخفائي عن هذا المبحث، وأن النبي جعل أمر الحرب والسلم خاضعا لقوانين الطبيعة الظاهرة، ولو أراد إخضاعها لسلطته النبوية ولعلمه الروحاني، إذن لأصر على القعود مهما ألح الشباب أو المتحمسون، خصوصا وقد كان العقلاء في جانبه. •••
إذن سار محمد
صلى الله عليه وسلم
ومعه 700 رجل وفرسان ليلقى جيشا مكونا من 3000 رجل ومئات النساء من الشريفات وغير الشريفات عدا عن العدد الكاملة والخيل المطهمة والإبل الضخمة.
وكان من الحكمة أن لا يدخل النبي في معركة في هذا اليوم؛ لأن الحالة المعنوية في صفوفه لم تكن على ما يرام، وكذلك كان يحب أن يستعد للأعداء براحة يوم وليلة، فإذا هو خرج عليهم فربما اشتبكوا في الموقعة، فطلب إلى رجل أن يخرج بالجيش على أهل قريش من طريق قريب ولا يمر عليهم، فتطوع أبو خيثمة للقيام بهذا العمل وسار بالجيش فنفذ به من حرة بني حارثة وخاض في أموالهم حتى دخل في حائط (بستان) لرجل أعمى منافق اسمه المربع بن قيظي، فلما علم الأعمى بمرور جيش المسلمين من أرضه، وهذه كانت بالطبع إحدى ضرورات الحرب وتبيحها القوانين الدولية العامة، ولكن الأعمى تهيج وقام يحثو التراب في وجوه الجند ويقول مخاطبا النبي: إن كنت رسول الله، فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي.
كان هذا الأعمى يخلط في حديثه وفي يده حفنة من تراب وقال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك!
وحاول بعض المسلمين قتله فمنعهم رسول الله بلطفه المعهود وقال: لا تقتلوه؛ فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر.
وانتصر له بعض المنافقين في الجيش وهم من بني حارثة فهم بهم أسيد بن حضير، فأومأ إليه رسول الله بالكف عن أذاهم، ولا أذكر إن كان هذا الأعمى قد نجا بجلده، بعد أن عاب في الذات النبوية؛ وهي جريمة فظيعة جديرة بالمحاكمة العسكرية والعقاب السريع، أم أن واحدا شج رأسه وأبقى على حياته.
وقد تضيف هذه الحادثة نقطة قاتمة إلى صفحة تلك الحملة، وقديما عاتب الله تعالى نبيه على أنه عبس وتولى أن جاءه الأعمى، وها هو أعمى آخر جاء متعديا متهجما متصديا رسول الله، وبادر رجال من المخلصين للقضاء عليه فعفا النبي عنه وحمل هياجه ووقاحته على تبرمه بالدنيا، وحقده على الإنسانية، وقديما قالوا: كل ذي عاهة جبار. •••
دنا النبي وجيشه من جبل أحد، فعسكر هناك واستقبل المدينة وجعل ظهر معسكره للجبل، وبات يوم السبت وليلة الأحد وهي الليلة الثانية من خروجه، فلما أصبحوا كانوا في مقابلة العدو، فخطب النبي خطبة وجيزة جاء فيها: ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث إلي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء؛ وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم وأجملوا في طلب الرزق، لا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية الله.
والمؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده، والسلام عليكم.
ثم نظر النبي إلى أرض الميدان، فرأى أن يحمي مؤخرة الجيش بشرذمة من الرماة الماهرين، فأمر بخمسين منهم بحماية ظهر الجيش وجعلهم تحت إمرة عبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس، وهو من أبطال العقبة وبدر، وأصدر لهم أمرا صريحا قائلا: لا تبرحوا حتى أسمح لكم، ولا يقاتل أحد حتى آمره بالقتال، واثبتوا مكانكم إن كانت لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وواطأناهم فلا تبرحوا، وإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في معسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا.
وكان الأمر صريحا إلى قائدهم: انضح الخيل عنا بالنبل، فارشقوهم بالنبل؛ لأن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم.
وبعد أن فرغ النبي من حفظ خطة الرجعة رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فأمر الزبير بن العوام أن يكون بإزائه.
وقد مثل النبي دور القائد العام للجيش، فلم يخض غمارها، ولم يخاطر بنفسه على غير طائل؛ لأنه كان روح الجيش وقلبه ورأسه المدبر.
وأراد إظهار أبطال الموقعة؛ فأخرج سيفا مكتوبا على إحدى صفحتيه:
في الجبن عار وفي الإقبال مكرمة
والمرء بالجبن لا ينجو من القدر
وقال لأصحابه: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فتقدم لأخذه أبو دجانة وقال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: تضرب به في وجه العدو حتى ينحني.
فقال: أنا آخذه بحقه.
فأخذ أبو دجانة السيف وأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه فقالت الأنصار: «أخرج أبو دجانة عصابة الموت.» وهكذا كانت تقول له إذا تعصب بها.
والعجيب في الأمر أن اللون الأحمر كان منذ القديم لون الموت وشعار الفدائيين، وقد اتخذه الاشتراكيون والفوضيون في العصور الحديثة رمزا للثورة والدم والإقبال على الموت والاستهانة بالحياة، واتخذ الألمان فرقة تلبس خوذة عليها جمجمة وعظام وسموا أنفسهم «فرسان الردى»، وخوذتهم هذه أشبه الأشياء بعصابة أبي دجانة في معركة أحد.
ولما ربط أبو دجانة رأسه بعصابة الموت الحمراء وتقلد سيف النبي وكان شجاعا، أخذ يختال ويمشي بين الصفوف مشية الإعجاب ويتبختر، قال محمد: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
وفي هذه المشية دليل على عدم الاكتراث بالعدو.
وفي تلك الساعة، وهي ضحى يوم الأحد سابع شوال سنة 3ه، بدأت موقعة أحد.
وكان جيش النبي مقسما إلى قلب وجناحين، وكان رسول الله في القلب ومعه مصعب بن عمير، والجناح الأيمن بقيادة الزبير، والأيسر بقيادة المنذر بن عمرو.
وكان جيش قريش ذا قلب وجناحين؛ القلب فيه أبو سفيان واليمين خالد بن الوليد واليسار عكرمة بن أبي جهل، وجعلوا بينهما مائتا فرس قد جنبوها.
وقد حدث في معسكر قريش نزاع على اللواء، فإن أصحاب اللواء من قديم هم بنو عبد الدار، وقد أراد أبو سفيان أن يحرضهم ويحفز همتهم فقال لهم: يا بني عبد الدار، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم؛ إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه! فغضب بنو عبد الدار وهموا بأبي سفيان ونالت منهم كلماته أعظم منال، وكانت هذه هي الغاية السامية التي يرمي إليها؛ فإنه لم يكن يرمي لأكثر من تحريضهم ، وقد تحركوا وغضبوا وقال قائلهم: نحن نسلم إليك لواءنا؟! ستعلم غدا إذا التقينا بأعدائنا كيف نصنع!
وهنا يجب علينا أن نقف موقف الإعجاب من أبي سفيان؛ فقد أظهر من الوطنية والحنكة وحسن التدبير ما يستحق الثناء في ذاته؛ فقد أصاب الإصابة كلها في وصف العلم والراية وقال بنص صريح: إن العلم رمز أماني الأمة، فإذا زالت زالت الأمة، وما أجدر الشرقيين باحترام هذه الكلمة!
وما كان للراية من الاحترام في تلك الجماعة المكية القريبة من البداوة منذ أربعة عشر قرنا لا يزال موجودا في أرقى ممالك أوروبا، ولكن بعض أمم الشرق لم تعرف قيمة الراية ولم تحترم رايتها؛ لانصرافها عن القتال في ميادين الحرب، فماتت قلوبهم واندثرت معالم الهمة من نفوسهم.
انظر إلى قول ذلك الوثني: «وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا!»
والمعلوم أن جيش الأوثان كان قد جلب النساء للتحريض، وجعل من ضرب الدفوف والعزف على بعض الآلات نوعا من الموسيقى الحربية، ويدهشنا أن أبا سفيان سمح لهند أن تغني معهن تلك الأغنية الفظيعة:
ويها بني عبد الدار!
ويها حماة الأدبار!
ضربا بكل بتار
إن تقبلوا نعانق!
ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
ثم بدأت المعركة فتقدم أبو سفيان، وقال مخاطبا أهل المدينة من الأنصار، وهم من الأوس والخزرج، وهي كلمة تعد كالبلاغ الأخير، ويرمي بها إلى تفريق الكلمة بين المهاجرين وأهل يثرب: يا معشر الأوس والخزرج، خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم!
فشتموه وسبوه.
فتقدم أبو عامر الراهب وهو من بني ضبيعة وكان من أهل المدينة وخرج منها إلى مكة مباعدا لرسول الله ومعه خمسون غلاما من الأوس، فرحبت به قريش بالنكاية في النبي، فتوهم أن له مكانة في قومه، فأخذ يوهم قريشا أنه لو قد لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، مثله كبعض الزعماء الخائبين الذين يفرون من أوطانهم؛ لعجزهم عن مكافحة البطل الفاتح أو المحالف، فهو قد عجز عن مكافحة النبي في المدينة ففر منها إلى مكة، ولكن عبد الله بن أبي كظم غيظه وأسلم وأقام، وعندنا أن معدن عبد عمرو بن صيفي وهو الراهب أرقى من معدن ابن أبي؛ لأنه لم يطق صبرا فرحل وجاء محاربا بشجاعة، ولكن المنافق أسلم وحقد وأخذ يدس ويشمت، وشتان بين الرجلين.
نقول: تقدم هذا الرجل في الأحابيش وعبدان أهل مكة، ويظهر أنه ألف منهم حزبا أو شرذمة فنادى في الأوس الذين هم قرابته وأهله وقومه من قبل أن يفر من وجه الرسول إلى مكة: «يا معشر الأوس أنا أبو عامر!»
فكان جوابهم: «لا أنعم الله بك عينا يا فاسق!»
فلما سمع جوابهم دهش وذعر وقال: «لقد أصاب قومي بعدي شر!»
قال مرغليوث في كلامه على أحد: «وكم خاب زعيم كان مخدوعا في قومه كما خاب الراهب!»
وقد قاتل أبو عامر الراهب أو الفاسق قتالا شديدا ثم راضخ قومه بالحجارة.
ثم دارت رحى المعركة، ودارت حول لواء الوثنيين معركة حامية؛ فقد حمله طلحة بن أبي طلحة ثم أخوه وهو عثمان بن أبي طلحة فحمل عليه حمزة فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد فرماه سعد بن أبي وقاص، فحمل اللواء بعده مسافع بن طلحة ثم الحارث بن طلحة أخو مسافع، وقد قتل مسافع والحارث على مرأى ومسمع من أمهما سلافة، وقد ماتا في حجرها، ثم حمل اللواء كلاب بن طلحة ثم أخوه الجلاس بن طلحة.
وهكذا قتل سبعة أبطال من بني عبد الدار وهم أشد ما يكونون حرصا على «الراية» التي عيرهم أبو سفيان بالتفريط فيها، وبعد أن هلك السبعة حمل العلم أرطأة بن شرحبيل ثم شريح بن قارظ ثم أبو زيد بن عمرو ثم ابن شرحبيل وكلهم من بني عبد الدار، إلى أن انتهى حمل العلم إلى غلامهم الحبشي وهو «صواب»، فقاتل عن العلم حتى قطعت يداه وقتل، فحملت اللواء عمرة بنت علقمة الحارثية حتى اجتمعوا عليه.
وكانت المعركة ذاتها خليطا من المبارزة والمناجزة، والهجوم بالسيف والرمح والرمي بالنبال.
وقد أبلى حمزة وعلي والزبير وأبو دجانة ومصعب وحنظلة والسعود الثلاثة أو الأربعة وغيرهم عشرات من أبطال المهاجرين بلاء حسنا.
ولما قتل أصحاب اللواء صار جيش قريش كتائب متفرقة فأمعن المسلمون فيهم ضربا حتى أزالوهم عن أثقالهم، وكان شعار المسلمين يوم أحد «أمت! أمت!» وشعار قريش «يا للعزى ويا لهبل!»
وكان أبو بكر في الجيش، وكان ابنه عبد الرحمن مع أبي سفيان، فخرج عبد الرحمن يطلب مبارزا فتأهب أبوه لنزاله، ولكن النبي منعه قائلا: شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك!
وكان أصحاب مكة قد انهزموا فعلا وولوا الأدبار لا يلوون على شيء، وانقلب فرح النساء ترحا بعد أن كن يضربن بالدفوف، وقد أجمع المؤرخون أن النصر قد صاحب المسلمين في أول المعركة على الرغم من شجاعة القرشيين واستبسالهم، وعلى الرغم من الدور العجيب الذي مثلته هند؛ فإن هذه المرأة العجيبة بعد أن قتل أبوها عتبة في بدر أبت أن تبكي عليه حتى تأخذ بثأره، وقد عاهدت زوجها أنها لا تقربه في فراشه إلا إذا أخذ بثأر أبيها وقرابتها الذين قتلوا في بدر، ولم يرو التاريخ خبر امرأة حقود مثل هند؛ فقد كانت فاجرة فاسدة فاسقة قبل إسلامها، وكانت ذات فضائح وأخبار طوال، وكانت مصابة بالهيستريا، فإنها لما وصلت الأبواء أشارت هند على زوجها ومن معه من زعماء قريش بنبش قبر آمنة أم محمد التي مضى على دفنها نحو خمسين عاما، وقالت لهم في ذلك: لو بحثتم قبر أم محمد فإن أسر منكم أحدا فديتم كل إنسان بأرب من آرابها. أي بعضو من أعضائها!
فقال أحد عقلاء قريش: لا تعملوا برأي هذه المرأة، ولا يفتح هذا الباب وإلا نبش بنو بكر قبور موتانا عند مجيئهم.
وفي رواية أن هذه المرأة كانت تحارب حرب الرجال؛ فقد روى أبو دجانة الذي كان يحمل سيف رسول الله ويقاتل به: رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة. (4) مقتل حمزة
كان مقتل حمزة غيلة، بل كان نتيجة مؤامرة مدبرة، ولعله أول قتل سياسي في الإسلام، ولكنه حدث أثناء موقعة حربية، فإن الرجل الذي اسمه وحشي الذي استحق بغض الله والناس؛ لاغتياله حمزة؛ لم يكن محاربا ولم يجئ ليستهدف للقتل كما يصنع الرجال، بل جاء ميدان الحرب بمأمورية محددة معينة؛ وهي اغتيال حمزة، وله مقابل ذلك العتق والمال وعدد من الإبل من مولاه جبير بن مطعم ومن هند بنت عتبة.
لقد أبلى حمزة يوم أحد بلاء حسنا، وقتل ثلاثة وعشرين من أهل قريش، ولكنني أشك في هذا العدد؛ لأن بعض المؤرخين يقصرون قتلى قريش على عشرين، والثابت في فكرنا أن حمزة حارب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل أحد حملة لواء قريش، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغيساني وكانت أمه ختانة للبنات في مكة، فدعاه حمزة بصنعة أمه فضربه حمزة فقتله، وقيل إن حمزة عثر فانكفأ أو انحنى ليأخذ درع سباع، وكان وحشي الفتاك المأجور عليه لعنة الله ينتظر هذه الفرصة؛ لأنه كان متربصا ومترصدا يلتمس هذه اللحظة؛ ليقترف جريمته، فيقبض ثمنها، فهز وحشي حربته، وكان يحسن القذف بالحربة على طريقة الحبشان ولا أعلم إن كان حبشيا أم عربيا، حتى إذا رضيها واعتقد أنها تصيب من البطل المنحني أو العاثر مقتلا دفعها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فنهض حمزة وحاول الهجوم على الوحشي المأجور، فغلبه الألم والنزيف فوقع، وأمهله الوحشي حتى مات، فأخذ حربته ثم تنحى إلى المعسكر؛ لأنه لم يكن له بشخص غير حمزة حاجة.
يظهر أن المؤامرة على قتل حمزة كانت عميقة جدا، فإن هندا دعت إليها وحشيا وحرضته على قتل حمزة، فلما قتله وبشرها بذلك أعطته ثيابها وحليها وتعرت أمامه، ووعدته إذا وصلت إلى مكة بالدنانير والإبل وما هو أعظم من الدنانير.
وكان تحريض هند قد بلغ أشده، حتى استغاث منها رسول الله بقوله: «اللهم بك أحول وبك أصول وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل.»
ولما قتل حمزة خرجت هند ومن معها، وصرن يمثلن بقتلى المسلمين يجدعن آذانهم وأنوفهم، واتخذن من ذلك قلائد، وبقرت هند المثلومة بطن حمزة الشهيد وأخرجت كبده فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها؛ لأنها كانت نذرت إن قدرت على حمزة لتأكلن من كبده، وقيل إنها قطعت مذاكيره وجعلت ذلك كالسوار في يديها وقلائد في عنقها! واستمرت كذلك حتى قدمت مكة، والتقت بوحشي، ووفت بنذرها السري له، وكل ذلك كان طبعا قبل إسلامها، وهذه الأعمال الوحشية من تلك المرأة المصابة بداء الساديزم تدل على خلل في قواها العقلية.
أما أبو دجانة الذي تقلد سيف الرسول وتعصب بعصابة الموت الحمراء؛ فقد صار لا يلقى أحدا من العدو إلا قتله، وكان إذا كل السيف من القتل شحذه بالحجارة ولم يزل يضرب به العدو حتى انحنى وصار كأنه المنجل.
وكان رجل من الوثنيين لا يرى جريحا من المسلمين حتى أجهز عليه؛ لشدة البغض والانتقام، فلقيه أبو دجانة وتبادلا ضربتين فقتل ذو العصابة الحمراء ذلك الاختصاصي في الإجهاز على الجرحى.
وعندما أحرز المسلمون النصر وانهزم جيش قريش وفر الرجال والنساء كاشفات عن سيقانهن، تبع المسلمون المشركين يضعون السلاح في أقفيتهم، وبدءوا للأسف ينتهبون الغنائم، وعندئذ طمع الرماة الخمسون حماة الأدبار في الغنيمة وظنوا النصر للمسلمين نهائيا، فخالفوا أمر الرسول وحاولوا الهجوم للاشتراك في الأسلاب، فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير وذكرهم بأمر رسول الله، فقالوا له: انهزم المشركون فما مقامنا ههنا؟! وانطلقوا ينتهبون، وثبت عبد الله بن جبير مكانه وثبت معه أقل من عشرة من الرماة وقالوا مع أميرهم: «لا نجاوز أمر رسول الله.»
وكان خالد بن الوليد يترقب هذه الفرصة هو وعكرمة والخيل، فلما رأى خلو الجبل من الرماة وقلة من به منهم، كر بالخيل فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم مع أميرهم عبد الله ومثلوا به وأخرجوا أحشاءه وأحاطوا بالمسلمين بحركة التفاف جميلة تدل على مهارة خالد بن الوليد الذي صار فيما بعد أكبر قواد الإسلام وفتح الشام وغيرها، وقد كان منذ حداثة سنه جنديا موهوبا يعرف كيف ينتظر وكيف يتربص، ومتى يهجم في الوقت المناسب، وصدق عليه مثل: «الشجاعة صبر ساعة »؛ فقد صبر إلى أن حانت الفرصة التي كان يتوقعها؛ فهو بطل أحد، وهو الذي هزم المسلمين وغلبهم؛ لأنه رسم خطة واستعد لها، وحسب حسابا صحيحا وصدق استنتاجه وطابق الواقع، وهنا نظهر عبقرية الجندي.
وبينما كان المسلمون مشغولين بالنهب والأسر، دخلت خيول المشركين تنادي فرسانها بشعارها، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون فتفرقوا في كل مكان، وتركوا ما نهبوا وخلوا من أسروا مرغمين، وانتقضت صفوفهم واختلطوا وصاروا يضربون بعضهم بعضا من غير شعار، وهو اللفظ الذي كان يتعارفون به عند اختلاط الحابل بالنابل وهو «أمت أمت!»؛ وذلك لدهشتهم وحيرتهم.
وفي تلك اللحظة تقدمت امرأة من المشركين وهي عمرة بنت علقمة، وتناولت لواء قريش ورفعته فالتفوا حوله من جديد.
وسمع صوت فظيع ينادي بكلمة مهولة مزعجة، هزت قلوب المشركين والمسلمين معا وهي: «إن محمدا قد مات!»
لقد كانت كلمة كبيرة ومزعجة تلك التي نادى بها منادي السوء، وكانت كلمة مباركة وسعيدة يحسب نتيجتها كما أثبتته الحوادث التالية.
كان خبرا فظيعا أن ينعى محمد
صلى الله عليه وسلم
في وسط المعركة، ولهذا نرى بعض مؤلفي السير يقولون: إن الذي أشاع إشاعة السوء هو إبليس نفسه. وقال ابن هشام: إن الصارخ هو أزب العقبة! يعني الشيطان بنفسه. وقال آخرون: إن المنادي هو إبليس تمثل في صورة جعيل بن سراقة وهو من أهل الصفة ومن أسبق العرب إلى الإسلام، ووثب فريق من المسلمين على جعيل؛ ليقتلوه فتبرأ من تهمة النداء بالنعي، وتمكن من تقديم شاهدي نفي؛ هما: خوات بن جبير، وأبو بردة، فشهدا بأنه كان عندهما وفي جوارهما حين صرخ ذلك الصارخ، وتوهم عبد الله بن الزبير أنه رأى رجلا طوله شبران على رحله، وضربه عبد الله حتى هرب! ونحن نظن هذا من بحران حمى الحرب عندما حمي وطيسها، ولكن الذي أثق به، هو أن الذي نادى هو ابن قمئة؛ لأنه قتل مصعب بن عمير وظنه رسول الله؛ لأن مصعبا كان فيه بعض الشبه من النبي، وقد ساعده الخيال فتوهم المجنون ما توهم.
ولكن هذه الصرخة كان لها في أول الأمر أثر سيئ، فانهزم المسلمون وأخذوا يضربون بعضهم بعضا، وانهزمت طائفة منهم تقصد إلى المدينة؛ لأن وجوههم كانت نحوها بوضع الجيش؛ لأنه كان قد استقبلها واستدبر أحدا.
وصاح بعضهم: يا عباد الله، أخراكم!
وصاح آخر: ارجعوا إلى قومكم يؤمنوكم، بعد أن قتل الرسول!
وكلاهما من دعاة الهزيمة.
ونادى بعض المخلصين: إن كان رسول الله قد قتل أفلا تقاتلون عن دين نبيكم وعلى ما كان عليه حتى تلقوا الله شهداء؟!
وقال بعضهم: يا معشر الأنصار ، إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم.
ولم يرو هذه الرواية إلا المقريزي في «الإمتاع بما لرسول الله من الحفدة والمتاع.»
وهجم ثابت بن الدحداح، وهو المنسوبة إليه هذه الكلمة الجليلة، على خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، فتغلب فريق الأوثان وفيه هؤلاء الأبطال العظماء على فريق الدحداح.
وكم يأسف الإنسان كلما قرأ عن هؤلاء العظماء الذين حاربوا الإسلام في أول الأمر وكانوا حزبا عليه ثم أسلموا فخدموه أجل خدمة، وأنت مضطر لكرههم والحقد عليهم في وثنيتهم بقدر ما تسر بهم وتترضى عليهم بعد إسلامهم ... ولكن المنصف يعجب بهم في الحالتين؛ فقد كانوا وهم وثنيون يعتقدون صدق ما يدافعون عنه بإيمان وقوة يدلان على ثبات الرأي وقوة الإرادة، فلما تبين لهم الرشد من الغي طلقوا آلهتهم القديمة، إلا نفرا لا تهضمهم النفس أمثال وحشي قاتل حمزة وهند آكلة الأكباد، فإن النفس تعاف أن تترضى عليهم ... ولكن هذا الأسف وهذا الندم يزيدان النفس حرقة وألما، فكم تفوتنا في الحياة على قصرها صداقات وفرص، نأسف معها على ما مضى من أعمارنا بدونها، وهكذا دأب الحياة، وفي ظني أن إعجابي بالمشركين لتمسكهم بما كانوا يعتقدونه حقا إلى أن دخلوا في الإسلام بعد أن اعتقدوه حقا، قليل جدا في جانب الأسبقين، أمثال علي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، فهؤلاء لم يهدهم الله فحسب، ولم تؤثر فيهم شخصية محمد فقط، بل كانوا أيضا أسلم عقلا وأبعد نظرا وأصدق منطقا وأحسن حظا من سواهم.
فهؤلاء الثلاثة خالد وعمرو وعكرمة كانوا من أكبر العناصر في إحداث هزيمة أحد وهم لا يعلمون أنهم يؤخرون نصرة دينهم ويوشكون أن يقضوا على مجدهم الذي كان لهم بعد بضع سنين، ولا يعلم إلا الله وحده مصير الإسلام لو تمت الهزيمة والعياذ بالله!
ويدهشك أن بعض فضلاء الصحابة كانوا في مقدمة المنهزمين الذين فروا إلى المدينة؛ ليفوزوا بجلدهم، ومنهم أحد الخلفاء الراشدين وهو عثمان بن عفان صهر النبي وصديقه، والوليد بن عقبة وخارجة بن زيد ورفاعة بن معلى.
فقد فر هؤلاء السادة وأقاموا في حالة اختفاء ثلاثة أيام، ثم رجعوا لما اطمأنوا، فكان عتاب محمد لهم قوله: ذهبتم فيها عريضة.
وفي حقهم نزلت آية:
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ...
إلخ، وكانت أم أيمن جارية النبي قد رأت بعض المنهزمين فجعلت تحثو التراب في وجوههم وتقول لهم: هاك المغزل فاغزل به وهلم سيفك!
تعيرهم بأنهم كالنساء!
ولم تعش حتى ترى المغزل تقاوم به الدول المستعمرة!
وقيل إنها كانت في الميدان تسقي الجرحى والعطشانين.
ولما كان المنهزمون يفرون أمام النبي ويمرون به وكلهم من أصحابه كان يقول لهم: إلي يا فلان! إلي يا فلان! أنا رسول الله! أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، فلا يعرج عليه أحد، والنبل يأتي إليه من كل ناحية، والله يعصمه منه.
وفي وصف موقعة وترلو، كان الحرس الإمبراطوري يسير إلى موت مؤكد؛ ليقع في الهاوية التي تكدست فيها الجثث، وكل جندي يحيي بونابرت: يحيا الإمبراطور!
ولا شك أن نفسية هؤلاء الجنود كانت أرقى من نفسية هؤلاء المنهزمين من العرب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
وفي لحظة واحدة تجلت بطولة بعض الأفراد من أصحابه بطولة خالدة؛ فقد ثبت مع النبي رجال هم بحق منقذو الإسلام؛ منهم أبو طلحة - رضي الله عنه وأرضاه - وسعد بن أبي وقاص، وأم عمارة المازنية، ومصعب بن عمير، وأبو عبيدة بن الجراح، وكعب بن مالك، وأبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، والحارث بن الصمة، وأبو دجانة، وسهيل بن حنيف؛ فإن المحاربين من قريش بعد أن هزموا المسلمين وكشفوهم خلصوا إلى رسول الله فدثوه بالحجارة حتى وقع، وأصيبت رباعيته وشج في وجهه وكلمت شفته، والذي أصابه عتبة بن أبي وقاص، وسال دمه الزكي الطاهر على وجهه الجميل الشريف، وجعل يمسحه وهو يقول محنقا، وقد غضب وحق له أن يغضب: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟!
وفي ذلك جاءت آية:
ليس لك من الأمر شيء ، وفي رواية أن الآية نزلت لاشتداد غضب النبي على أعدائه عندما سالت دماؤه على وجهه، فلعن زعماء قريش واحدا واحدا.
وعتبة بن أبي وقاص هو الذي رمى محمدا فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى، وعبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وسقط رسول الله في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر في الميدان؛ ليقع فيها المسلمون.
لقد وصل النبي إلى حال سيئة عند هجوم القوم عليه؛ لأنهم كانوا يقصدون إليه بالذات، وكانوا يريدون أن يصيبوا أعز وأفضل شيء في الرجل؛ وهو الوجه والرأس، واستغاث محمد قائلا عندما غشيه القوم: من رجل يشري لنا نفسه؟!
فلبى هذا النداء غير من ذكرت من أبطال الساعة الأخيرة زياد بن السكن ومعه خمسة من الأنصار، فقاتلوا دون محمد حتى قتلوا واحدا إثر آخر، وكان آخر من قتل منهم زياد نفسه.
وكان بين المحاربين من قريش رجلان يقصدان إلى قتل النبي بالذات؛ وهما: قمئة، وأبي بن خلف.
أما قمئة فقد أقبل يقول لإخوانه من قريش في وسط معسكر المسلمين: «دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا.»
فاعترضه مصعب بن عمير والسيدة نسيبة المازنية، فقتل مصعبا وضرب السيدة على عاتقها فأحدث لها جرحا أجوف له غور لم يزل أثره بها إلى أن ماتت.
وهذه المرأة النبيلة كانت زوجا لزيد بن عاصم وأما لخبيب وعبد الله ، وقد جرحت اثني عشر جرحا وقال النبي عنها: ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد، إلا ورأيتها تقاتل دوني.
والثاني أبي بن خلف أدرك النبي بعد أن نهض من الحفرة وهو يقول كقول ابن قمئة: أين محمد؟ لا نجوت إن نجوت! وكان تهديده وجها لوجه، والنبي مجروح ومنهوك القوى وناهض من الحفرة.
وكان هذا الرجل يلقى محمدا في مكة قبل الهجرة فيقول له: يا محمد، إن عندي فرسا اسمه «العود» أعلفه كل يوم فرقا من ذرة، أقتلك عليه.
فكان النبي يقول له: أنا أقتلك إن شاء الله.
وكان الخلف في يوم أحد ممتطيا صهوة جواده العود، وجاء ليفي بنذره ويقتل محمدا على فرسه المعلوف بالذرة، فلما دنا أبي من محمد قال من حوله من الصحابة: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟
فقال محمد: دعوه.
وتناول النبي الحربة من الحارث بن الصمة واستقبل المعتدي وطعنه في عنقه طعنة تقلب بها أبي عن فرسه العود فجعل يتدحرج.
وكان الجرح صغيرا ولكن دم الرجل احتقن فمات في الطريق بين المدينة ومكة.
وكان هذا الرجل قويا، حتى كان إذا أصيب بسهام في أضلاعه أخرجها ورمى بها! ولكن يظهر أن طعنة محمد النجلاء والرعب الذي دخل في نفس أبي من وعيد محمد: «أنا قاتلك إن شاء الله.» كان لهما الأثر في القضاء عليه وإن يكن الجرح صغيرا، فمات قتيل وهم وطيرة، وقد يفعلان بالعقل أكثر من جراح السنان.
وكانت الطعنة نجلاء حقا؛ لأن محمدا أبصر ترقوة الرجل من فرجة من سابغة الدرع وهي غطاء العنق فأصابه في تلك الفرجة.
ولم يقتل النبي بيده أحدا سوى أبي بن خلف؛ لا قبل أحد ولا بعدها.
وهذا القتل فضلا عن أنه حدث في الحرب، إلا أن رسول الله كان في حالة دفاع عن نفس؛ فإن المعتدي كان يتوعده من قديم، وقد سبق إصراره إلى قبل الهجرة، وفي مكة نفسها، واتخذ لتنفيذ وعيده عدته من فرس وسلاح، وجاء قاصدا قتل محمد متعمدا القضاء عليه بعد أصحابه، ونحن نعلم أن هذا الأمر كان شديدا على نفس محمد؛ لأنه مأمور باللطف والشفقة على عباد الله ولم يحمله على قتل أبي إلا تيقنه من قصده.
ذكرنا أبا طلحة بين المدافعين بأشخاصهم عن النبي الذين كانوا له يوم أحد دروعا، وكان من أمهر الرماة، وصار يقول لمحمد وهو ينثر كنانته ويستنفد ذخيرته: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، ونحري دون نحرك.
وكان فعلا يقف ببدنه؛ ليتلقى عن النبي نبل الأعداء.
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو مهاجم شخصيا أعظم ما يكون الرجل العظيم شجاعة؛ فإنه كان يشرئب بعنقه؛ لينظر إلى القوم، ويرى مواضع النبل، فيخشى عليه طلحة وينهاه عن تعريض شخصه للخطر قائلا: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم! ويتطاول أبو طلحة بصدره ليقي محمدا، ولم يأنف النبي أن يناول السهام لمن دافعوا عنه ومنهم سعد بن أبي وقاص، وفي ذلك اليوم قال محمد لسعد: فداك أبي وأمي!
لم يقلها لأحد سواه؛ لما رآه من إخلاصه في أشد الأوقات خطرا، ولا عجب؛ فإن سعدا من بني زهرة وهم خئولة محمد.
أما عبد الله بن شهاب الزهري الذي شج وجه الرسول وكسر خوذته على رأسه بضربة سيف فقد أسلم، وقد روى عن نفسه أنه قال هو أيضا: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا!
وكان النبي واقفا بجواره وليس معه أحد فجاوزه عبد الله الزهري، فعاتبه صفوان وقال له أثناء الهجوم على النبي: ألا ترى محمدا الذي تريد قتله؟!
فأجابه: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع.
وقد لقي عتبة حتفه في اليوم نفسه، قتله حاطب بن أبي بلتعة وأحضر سيفه وفرسه لرسول الله فرآهما ولم ير رأسه؛ لأنه كان ينفر بطبعه من رؤية الدماء والأشلاء والأعضاء الممزقة أو المفصولة عن مجموع البدن؛ لرقة إحساسه وشدة شعوره.
أما أبو دجانة فقد تترس دون النبي، فصار النبل يقع على ظهره وهو منحن حتى أثخنته الجراح.
ولما قتل ابن قمئة مصعبا ظنه رسول الله فعاد إلى قريش وهو يصرخ: قتلت محمدا!
وهذا النداء هو أصل الشائعة الكاذبة.
ولكن أبا قمئة كاد يقتل النبي فعلا؛ فقد علاه بالسيف فلم يؤثر فيه السيف، إلا أن ثقله أثر في عاتقه واشتكى منه شهرا.
وكانت ضربة ابن قمئة هي التي جرحت وجنتيه بدخول حلقتين من المغفر فيهما.
بل إن فرص قتله
صلى الله عليه وسلم
في يوم أحد كانت كثيرة جدا فنجا منها وانتهى الأمر بالهزيمة، وفيها درس وموعظة.
ويحاول بعض المتصوفين تعليلا آخر؛ فيقول محيي الدين بن عربي : لا يخفى أن أجر كل نبي في التبليغ يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين له على قدر ما يقاسيه منهم، وله أجر الهداية لمن أطاعه ولا أحد أكثر أجرا من محمد
صلى الله عليه وسلم .
وقد دهش المسلمون مما أصاب النبي من الجراح والألم، والتعريض للخطر وأخذوا يتساءلون: كيف هذا مع قوله تعالى:
والله يعصمك من الناس ؟!
وأراد بعض المفسرين حسن التعليل فادعوا أنها نزلت بعد أحد، وهذا تعليل مردود؛ لأنها لو كانت نزلت بعد أحد ما وجد المعترضون وجها للاحتجاج بها، أي بأن الله لم يف بوعده لنبيه لعصمته!
ولكن الصحيح هو أنها نزلت قبل أحد، وقد وفى الله بوعده حقا وأنقذ حياة محمد؛ لأن هذه الجراح مهما كبرت لا تبلغ قيمة الحياة.
وكان الدم الذي نزف من وجهه ورأسه غزيرا حتى أضعفه؛ فقد أراد أن يعلو صخرة يشرف منها على الوادي، فلم يستطع، فحمله طلحة بن عبيد الله حتى استوى على الصخرة.
وبلغ حب الصحابة له درجة عظيمة، فإنهم عندما رأوا دمه يسيل على وجهه ضنوا به فامتصه مالك بن سنان وازدرده.
وقد قام أصحابه بالإسعاف، فنزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجنة الرسول بأسنانه فسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى.
وملأ علي بن أبي طالب درقته ماء وغسل به آثار الدم على وجهه الشريف، وتقدمت فاطمة بنت الرسول واعتنقت أباها وجعلت تغسل جراحه وعلي يسكب الماء، فزاد الدم فكمدته برماد من بردي محروق فانكتم الدم.
وعطش رسول الله عطشا شديدا ولم يشرب من الماء الذي جاء به علي في درقته؛ لأنه وجد له رائحة غير طيبة فعافه، فخرج محمد بن مسلمة وجلب للرسول ماء عذبا فشرب حتى روي.
وما زال القوم يظنون محمدا قد قتل إلى أن رآه كعب بن مالك فكان أول من رآه وعرفه بعد الهزيمة؛ فقد عرف عينيه المضيئتين المتقدتين من تحت المغفر، فلم يملك نفسه من شدة السرور بعد اليأس فصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا؛ هذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
فأشار النبي عليه بالصمت.
ولما عرف المسلمون رسول الله ناجيا ورأوه يمشي متكئا إلى السعدين وعرفوا تكفيه في مشيته، فرحوا به وعادت إليهم القوة المعنوية ونهضوا به نحو الشعب، وحتى فوق الصخرة التي علا إليها محمد لم يتركه جيش قريش؛ فقد تتبعتهم كتيبة فيها خالد بن الوليد فقاتلهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوهم.
ويظهر أن المعركة كلها لم تستغرق أكثر من بضع ساعات؛ فقد بدأت صباحا مع البكور أو عند شروق الشمس وانتهت قبل الظهر؛ لأن النبي صلى ظهر ذلك اليوم وهو جالس من الجراح التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعودا، ولا تكون الصلاة إلا بعد انصراف العدو، ولو أن الظهر أدركهم أثناء الموقعة لنص المؤرخون على أنهم صلوا صلاة الخائف، ولكن هذا لم يرد.
وإذا عددنا جراح النبي وقد كان بمثابة الشغاف من القلب، فما بالك بجراح صحابته ورجاله المقربين الذين دافعوا عنه بأنفسهم وأبدانهم؟! فقد رووا أن طلحة جرح في سبعين موضعا، وقد قطعت أنامله وشلت يده حتى وقى بها رسول الله من سهم أصاب أعصاب الذراع فمنع حركتها طول حياته.
وأصيب عبد الرحمن بن عوف بعشرين جرحا، وكعب بن مالك بمثل ذلك، وأصيبت عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته فردها النبي بيديه إلى مقلته.
وإن تعجب فاعجب لأخوين كسعد وعتبة ابني أبي وقاص؛ فقد كانا في صفين مختلفين؛ أحدهما يحاول تهشيم رأس الرسول، والثاني يذود عنه ويفديه بحياته، كما كان آباؤه وأبناؤه في الصفين المختلفين، وكل يدافع عن عقيدته ويعتقدها صحيحة.
وكان الراهب هو وعبد الله بن أبي ابن سلول من رءوس أهل المدينة وعظمائها المتوجين للرياسة على أهلها والمرشحين للسيادة المطلقة، أبو عامر من الأوس وعبد الله من الخزرج، عبد الله أظهر الإسلام وأبو عامر أصر على الكفر.
وعبد الله تنحى عن جيش النبي وعاد إلى المدينة متخلفا واستقبل النبي شامتا، وأبو عامر هو الذي حفر الحفائر وأول من افتتح المعركة وضرب بأسهم في وجوه المسلمين، وطلب حنظلة من رسول الله أن يقتل أباه؛ فنهاه.
وكان ابن عبد الله مخلصا لمحمد بقدر ما كان أبوه منافقا، وكاد حنظلة أن يقتل أبا سفيان.
وقد مثلت قريش بجميع القتلى من المسلمين وأجهزوا على جرحاهم، ما عدا حنظلة بن أبي عامر الراهب؛ إكراما لأبيه؛ لأنه كان معهم.
وقد تقدم أبو قتادة يحث النبي على التمثيل بقتلى قريش فقال له محمد: يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى إلى فيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم، لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله.
قتادة: والله يا رسول الله ما غضبت إلا لله ورسوله.
محمد: صدقت! بئس القوم كانوا لنبيهم. (5) الشخصيات المهمة في أحد
ومن أغرب الشخصيات التي ظهرت في موقعة أحد، رجل غريب كان اسمه قزمان يظهر الإسلام ولا يعرف أصله، وكان ذا بأس وقوة فقاتل قتالا شديدا، وكان أول من رمى من المسلمين بسهم، وكان يرمي النبال كالرمل، ثم فعل بالسيف الأعاجيب فجرح إلى أن شارف على الهلاك، فأخذ المسلمون يبشرونه بالجنة والاستشهاد فقال لهم وهو في آخر رمق من الحياة: بماذا أبشر؟! فوالله ما قاتلت إلا على أحساب قومي! ولولا ذلك ما قاتلت! أتسير قريش إلينا حتى تطأ أرضنا؟!
ولما اشتدت به الجراح ولم يعالجه أحد، أو عالجوه ولم ينفع معه علاج مات ميتة أبطال الرومان؛ فقد أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه بأن قطع عروقا في باطن الذراع.
وظاهر أن الرجل كان يحارب دفاعا عن الوطن والشرف، فأرض الوطن وأحساب الأجداد هي التي ذكرها ومات في سبيلها!
ولكن هذا المثل الأعلى وهو حب الوطن كان غريبا في فجر الإسلام، بل كان مكروها؛ لأنه قد يزاحم الفكرة الجديدة؛ وهي الجهاد في سبيل الله، وكان الإسلام يحب أن يقضي على فكرة العصبية للقبيلة والجماعة والوطن؛ لأنها فكرة جاهلية؛ لتحل محلها فكرة الله ورسوله، ولذا ترى النبي يقول: من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
وكان النبي يستبيح كل شيء من الرجل الذي يحارب للفكرة الدينية، ولا يقبل الرجل الذي يحارب للفكرة الوطنية؛ خوفا من رجوع المسلمين لعصبية الجاهلية.
ولذا ترى المؤرخين يمثلون قزمان هذا، وهو الوطني الوحيد من أهل المدينة بأنه من أهل النار؛ لأنه انتحر.
وكانت عائشة وأم سليم تسقيان الناس، تفرغان من القرب في أفواه القوم.
ولم ينته دور هند بعد أن زينت نحرها وأذنيها ومعصميها بتلك الزينة المقبرية؛ فقد صعدت على صخرة مشرفة وصرخت بأعلى صوتها وأنشدت أبياتا.
ولما هبطت صعد بعلها الذي كان أضعف منها وكان منقادا لها وقال: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم أحد بيوم بدر.
وعلى هذا جاءت آية:
إن يمسسكم قرح ...
واستمر: إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسرني، أما إنه إن كان كذلك لم نكرهه.
ويظهر أن أبا سفيان اشترك أيضا في التمثيل بحمزة، فرآه الحليس فاحتج لدى بني كنانة، فرجاه أبو سفيان أن يكتمها عنها واعترف بأنها زلة.
وختم أبو سفيان خطبته الوجيزة بقوله: اعل هبل!
كما كان يقول لو كان ملكيا أو جمهوريا: يحيا الملك أو الجمهورية! ولما سمع المسلمون خطاب أبي سفيان غضبوا له، وانبرى عمر طاعة لأمر النبي وقال: الله أعلى وأجل لا سواه! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
فقال أبو سفيان: إنكم تزعمون ذلك! وإن لنا العزى ولا عزى لكم!
فأجابه النبي: الله مولانا ولا مولى لكم.
ثم دعا أبو سفيان ابن الخطاب إليه فأذن له النبي بالدنو منه، فلما دنا عمر من أبي سفيان سأله: أنشدك الله يا عمر؛ أقتلنا محمدا؟
فأجابه عمر: لا، وإنه ليسمع كلامك الآن.
أبو سفيان: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر! إن موعدكم بدر العام المقبل.
فأجاب الرسول على لسان أحد أصحابه: نعم؛ بيننا وبينكم موعد.
وتركت قريش الميدان وقصدوا مكة، ودلوا على ذلك بركوب إبلهم وتجنيب الخيل، وكانوا قد تداولوا في نهب المدينة فمنعهم صفوان بن أمية قائلا: لا تفعلوا؛ فإنكم لا تدرون ما يغشاكم.
وكان مركز المسلمين خطرا للغاية عند نهاية الموقعة؛ فقد تحطم الجيش وفر منه الكثير، وقتلت أغلبية الأبطال وعلى رأسهم حمزة، وجرح النبي وهذا أكبر البلاء، ولم تجد البشرى بحياة النبي في رد القوة المعنوية للجيش، ولم يكن هناك مجال للتفكير في الاستفادة من النداء بحياة الرسول بعد النداء بقتله، وقد انصرف جيش العدو بعد أن تواعدوا على اللقاء ببدر في العام المقبل.
وكان النبي وأصحابه المخلصون وبقية المحاربين من المسلمين بين خطرين كبيرين: الأول: خطر جيش أبي سفيان الذي لم يقتل منه أكثر من سبعين محاربا، وقيل إنهم عشرون. فإذا افترضناهم خمسين كانوا جزءا من ثلاثين من الجيش، في حين أن عشر المسلمين قتلوا وربعهم جرحوا وعدد غير قليل انهزموا وفروا إلى المدينة، فكانت البقية الباقية لا تصلح للقتال، وبشق النفس تكاد تلم شعثها وتستجمع من ضعفها قوة؛ لتعود أدراجها إلى المدينة، ولم يكن الحظ بالمدينة بأفضل منه في ظلال أحد؛ فقد كان فيها اليهود المناوئون والمسلمون المنافقون، ولم يكن المسلمون يعلمون بعد أن خسروا اليوم كيف يقابلهم الفريقان من الأعداء لو عادوا على هذه الحال بعد أن سبقتهم أنباء الهزيمة وشائعة قتل النبي.
وكان محمد، وهو قائد محنك وسياسي مفطور على تدبير الأمور، يظن أن المشركين لن يتخلوا عن انتصارهم بعد أن أحرزوه، ولن يتركوا الغنيمة تفر من أيديهم، وما الفريسة إلا المدينة بأهلها، لا سيما وأن كثيرين من الفارين والمترددين أشاروا على بعضهم بالتوبة والرجوع إلى قريش لاستعطافهم، وطلب الأمان منهم!
ولأجل هذا كان النبي يحسب حساب استمرار جيش مكة في السير حتى المدينة؛ ليفتحوها وينهبوها، وقد أشار بعض قريش بذلك فعلا ونهاهم البعض الآخر، فكانت الغلبة لرأي العدول عن المدينة والعودة إلى مكة، والنبي لا يعلم شيئا من ذلك، ولم يأمن خطة أبي سفيان حتى بعد أن واعدهم على بدر وانصرف، فخشي أن ينتهزوا فرصة تحطيم القوة المدافعة عن المدينة فيقصدوها ويقضوا على البقية الباقية، ولذا بعث بعلي وقال له: اخرج في أثر القوم فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم.
وكانت هذه الخطة محتمة على النبي؛ وفاء للأنصار، وحفاظا لمن بالبلد من شيوخ ونساء وأطفال، وهي إذ ذاك معقل الإسلام وقلعته، ولكن نتيجة مثل هذه المعركة التي تدور حول المدينة أو في شوارعها لم يكن يعلمها إلا الله، وقد كفى الله المؤمنين القتال.
ولما اطمأن المسلمون من ناحية العدو، أخذوا يدورون في الميدان؛ لينظروا في الجرحى من لا يزال على قيد الحياة؛ ليسعفوه، وليواروا التراب شهداءهم الذين بينهم حمزة ومصعب وسعد بن الربيع، وكان المسكين قد أصابه ثمانون جرحا، ومات وهو يقول لبقية الجيش: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.
ولما رأى النبي جثة عمه حمزة التي فعلت بها هند ما فعلت، شعر بأنه لم ينظر إلى شيء قط أوجع لقلبه منها، فرثاه قائلا: لن أصاب بمثلك! ما وقفت موقفا أغيظ لي من هذا، رحمة الله عليك؛ فإنك كنت ما علمتك؛ فعولا للخيرات وصولا للرحم، والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك! وجزع النبي على عمه جزعا شديدا وانتحب حتى شهق.
وقد حدث أمران لهما دلالتهما؛ الأول: أن محمدا عندما جاءته آية:
ولئن صبرتم لهو خير للصابرين
الآية، عفا وصبر عن الانتقام ونهى عن التمثيل بالسبعين من قريش الذين أقسم عليهم، وكفر عن يمينه الذي صحب وعيده.
والأمر الثاني أن الفوضوي المنحوس المأجور وحشي الذي اغتال حمزة؛ ليبرد حرقة هند وغيرها، ضاقت به السبل، فأشار عليه رجل بالإسلام وقال له: ويحك، إنه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه وتشهد شهادة الحق.
ومن غرائب أمور هؤلاء الشهداء من الصحابة أنهم كانوا فقراء، فلما قتلوا لم يوجد لكثير منهم ما يكفن فيه إلا بردة إن غطي رأسه بدت منها رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدت رأسه.
وقال أنس يصف حالة القتلى في الموقعة وحاجتهم إلى الأكفان: «كثرت القتلى وقلت الثياب، فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد ثم يدفنون في قبر واحد.»
وحدث أن وثنيا واحدا قتل بضعة نفر من المجاهدين؛ فإن صفوان بن أمية قتل خارجة بن زيد وأوس بن أرقم وأبا نوفل.
ومن بطولة النساء في موقعة أحد أن امرأة من بني دينار قتل زوجها وأخوها وأبوها وابنها في المعركة، فلما نعوا إليها قالت: ماذا فعل رسول الله؟
فأجابوها: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه.
فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك صغيرة، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب! •••
وممن دفنوا مصعب بن عمير الذي دافع عن النبي وقتله ابن قمئة وهو يظنه رسول الله؛ لأنه كان يشبهه بعض الشبه، وكان قبل الإسلام فتى مكة؛ شبابا وجمالا ولباسا وعطرا، فلما أسلم تقشف وتزهد حتى تشعث، وكان زوجا لحمنة بنت جحش بنت عمة النبي وأخت زينب إحدى زوجات النبي وهي مطلقة زيد، فلما نعي إليها زوجها مصعب صاحت وولولت لما تذكرت يتم أولادها، وقيل إنها لم ترزق منه إلا بنتا سميت باسم خالتها، وكانت شائعة موت الرسول من النعم على المسلمين في المعركة؛ لأنها حمست المؤمنين للانتقام وأضعفت همة قريش الذين ظنوا أنهم نالوا بغيتهم بقتله، فإن كان الشيطان هو الذي صرخ بها فقد أدى إبليس في ذلك اليوم خدمة نافعة للمسلمين!
وكان معظم القتلى من الأنصار ؛ فقد قتل أربعة من المهاجرين، وستة وستون رجلا من الأنصار.
وعلى الرغم من الجراح التي أصابت النبي وهي كثيرة؛ فقد شج وجهه وكسرت رباعيته وجرحت وجنتاه وشفته السفلى من باطنها ووهى منكبه بضربة سيف وجحشت ركبته، وأبى بعد هذا كله إلا أن يقول في قومه خيرا فقال: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون! (6) العودة إلى المدينة بعد أحد
ولم يحنق النبي ولم يغضب، بل قابل الهزيمة بالرضا والحمد لله؛ لأنه كان يعلم سببها ويعتبرها درسا للمسلمين الذين لم يطيعوه وأطاعوا هواهم في الأسلاب والغنيمة.
ولما أراد أن يعود إلى المدينة ركب فرسه وسار المسلمون حوله ومعظمهم جرحى ومعه أربع عشرة امرأة، فلما بلغوا سفح جبل أحد قال لفلول جيشه: اصطفوا حتى أثني على ربي عز وجل، فلما اصطفوا نظر إلى الأفق وبدا في عينيه لمعان كالبرق الخاطف ثم تملكه خشوع سرى تياره في نفوس الواقفين، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب.
ونطق النبي بتلك التحية الهادئة الجميلة، التي يتجلى فيها التسليم والإيمان ويتخللها الاطمئنان لقضاء الله، قال: «اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت.»
ولا يمكن أن يكون ثناء على الله أكثر موافقة لمقتضى الحال من هذا الثناء؛ لأن موقعة أحد أسفرت عن هزيمة لكافة المسلمين بسبب فعل جماعة منهم خالفوا أمر أميرهم وقائدهم ونبيهم.
ولما وصل النبي المدينة بادر بتعزية النساء وقد أظهرن من الثبات والصبر والفرح بنجاة النبي ما يدعو إلى الإعجاب.
ولم يكن النبي ليغفل في وسط هذه المأساة من فحص الأخلاق ودرس النفوس وإبداء الرأي صراحة، فإنه لما نعى إلى حمنة بنت جحش خالها حمزة أسد الله وأخاها عبد الله بن جحش كانت تهنئهما بالشهادة وتترحم عليهما، فلما نعى إليها زوجها الشاب الجميل مصعب بن عمير فصوتت وندبت، نظر إليها محمد وقال: إن زوج المرأة لبمكان ما هو لأحد!
وكان يعامل المرأة معاملة الاحترام والتكريم؛ فقد تقدمت إليه أم سعد بن معاذ تعدو وهو على فرسه، فقال له سعد بمثابة التعريف: أمي يا رسول الله!
فوقف لها محمد وقال: مرحبا بها، وعزاها في ابنها عمرو بن معاذ، فدنت منه وتأملته وقالت: أما إذا رأيتك سالما فقد هانت المصيبة!
ولما ظهر النبي في المدينة أظهر المنافقون واليهود الشماتة والسرور وصاروا يقولون أقبح القول، مثل: ما محمد إلا طالب ملك. - ما أصيب بمثل هذا نبي قط. - أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه. - لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل .
أما عبد الله بن أبي فقد عاد إلى المدينة قبل الموقعة، فلما رجع ابنه جريحا أخذ يؤنبه والولد يرد عليه تأنيبه بالحسنى.
وأراد عمر بن الخطاب أن ينتقم من المنافقين بالقتل فمنعه النبي.
وكانت عادة عبد الله بن أبي إذا جلس النبي يوم الجمعة على المنبر أن يقوم فيقول: أيها الناس هذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا!
وفي الجمعة التالية لأحد أراد أن يفعل ذلك، فلما قام أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له: اجلس عدو الله! والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت!
فنهض وخرج وهو يتخطى الرقاب ويقول: كأني قتلت هجرا.
وقال له بعضهم: ارجع يستغفر لك ربه. فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر له!
الكتاب العاشر
فتح مكة
جلاء بني النضير عن المدينة
عاد أبو سفيان إلى مكة بعد هزيمة أحد في غاية السرور، فقصد الكعبة قبل أن يدخل بيته ورفع إلى هبل آي الثناء والحمد، ثم حلق لمته ورجع إلى داره موفيا نذره ألا يقترب من زوجته هند حتى ينتصر على محمد.
وكان زفافا بالدماء بينه وبين هند، ولا يعلمان ما يضمر لهما الله عما قليل! وقد طمع حقراء العرب في المسلمين؛ فسار طليحة وسلمة ابنا خويلد في قومها لمهاجمة المدينة فهزمهما أبو سلمة بن عبد الأسد ومعه ابن الجراح وابن أبي وقاص، كما حاول خالد بن سفيان الهذلي غزو المدينة فقتله غيلة عبد الله بن أنيس.
وإن ضعف شوكة المسلمين بعد أحد شيء طبيعي؛ فهو رد فعل بعد هزيمة قريش في بدر، فطمع الناس في المسلمين، غير أن المهم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكن يتردد في إرسال المسلمين للدعوة؛ فإنه بعد مقتل الستة الصالحين يوم الرجيع (سنة 625م) أرسل أربعين مع أبي براء لدعوة أهل نجد إلى الإسلام فقتلوا، فحرض أبو براء ابنه ربيعة على قتل عامر بن الطفيل الذي أخفر أباه، فطعنه برمح، واستمر النبي يدعو الله على قتلة الأربعين شهرا لينتقم لهم.
أما اليهود والمشركون في المدينة فقد تشجعوا بما أصاب المسلمين يومي الرجيع وبئر معونة، وضعفت هيبة النبي في نفوسهم، وطمع العرب الحقراء في المسلمين، وتربص اليهود والمنافقون بهم الدوائر، فأعمل النبي فكره في هذا الموقف وفكر تفكيرا سياسيا عظيما، فأراد أن يقف على نيات اليهود، فقصد منهم بني النضير وهم حلفاء بني عامر، وذهب إليهم على مقربة من قباء في عشرة من كبار المسلمين، فتآمر اليهود على اغتياله
صلى الله عليه وسلم ؛ إذ دخل عمرو بن جحاش بن كعب وأراد أن يرمي عليه حجر طاحون؛ انتقاما لكعب بن الأشرف، ولكن النبي نجا بوحي من الله وترك أصحابه وذهب إلى المدينة ودخل المسجد، وخشي اليهود أن يوقعوا بأصحابه العشرة وفيهم أبو بكر وعمر وعلي فتركوهم.
فأرسل الرسول إلى بني النضير محمد بن مسلمة الأوسي فقال لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي؛ لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي، لقد أجلتكم عشرا؛ فمن رؤي بعد ذلك ضربت عنقه.
فلم يتكلموا، وعاتبوا رسول النبي وقالوا: ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس!
فقال لهم: تغيرت القلوب!
أما عبد الله بن أبي رأس المنافقين في المدينة؛ فقد أرسل إليهم يوعز لهم بالبقاء وعدم الخروج؛ لأنه رأى أنصاره اليهود يبعدون عن المدينة بالتدريج، وأمرهم بالتحصن ومعه ألفا رجل، فكان عبد الله بن أبي مثل فرديناند دلسبس مع المصريين، وعد بني قينقاع بالمعونة والمساعدة ثم أرغموا على الجلاء، فلم يثق به بنو النضير؛ لأنه تخلى عن إخوانهم من قبل، وعملوا برأي حيي بن أخطب ودخلوا الحصون ولم يخرجوا.
فجاء المسلمون ونشبت حروب في شوارع المدينة والديار، وصار النبي يهدم ديارهم ويحرق نخلهم، فاحتجوا عليه فنزلت آية:
ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله .
ولم ينقذهم عبد الله بن أبي كوعده، فخرجوا بعد أن سلموا وأخذوا بعض مالهم وأخذ النبي بقية أسلابهم وكل أرضهم وقسمها بين المهاجرين ؛ لتحسين حالتهم؛ ليستغنوا عن معونة الأنصار، ولم يسلم من بني النضير إلا اثنان أحرزا أموالهما.
وهكذا جلا بنو النضير عن المدينة، وفي جلائهم جاءت سورة «الحشر» وأمن محمد
صلى الله عليه وسلم
الفتنة والتحريض.
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون . •••
كان كاتب سر النبي إلى حين إجلاء بني النضير عن المدينة من اليهود؛ ليتسنى له
صلى الله عليه وسلم
أن يبعث من الرسائل بالعبرية والسريانية ما يريد، فلما جلا اليهود خاف النبي أن يستعمل في أسراره غير مسلم، فأمر زيد بن ثابت بتعلم هاتين اللغتين، وأصبح زيد كاتب سر النبي في كل شئونه، وقد أدى زيد إلى الإسلام خدمة جليلة جزيلة بجمع القرآن.
وقد قوت حرب النبي لليهود المسلمين وأراحت الأنصار والمهاجرين وأعادت الهدوء إلى المدينة ونظفتها من اليهود ودسائسهم.
بدر الثانية
في ختام العام بعد غزوة أحد خاف أبو سفيان من الخروج كما وعد المسلمين يوم أحد، ولكنه خرج كمظاهرة مع ألفي رجل إلى بدر، ولكنه عاد محتجا بجدب العام، ورجع الناس وانتظرهم المسلمون في بدر ثمانية أيام ونزلت آية:
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير .
هذه هي بدر الثانية، وقد محت هذه الغزوة أثر هزيمة أحد محوا تاما، ورزحت قريش عاما تحت عار جبنها لا يقل عن عار هزيمتها في بدر الأولى.
غزوة الخندق
كان محمد
صلى الله عليه وسلم
شديد الحذر؛ لأنه كان عربيا قبل أن يكون نبيا، وهو يعرف ويقدر ما ركب في غريزة العرب من الغدر والطمع في الضعيف وحب السلب والحرص على الثأر، وكانوا أفرادا وأسرا وقبائل مضطرين إلى الاحتماء بعادات وتقاليد خاصة؛ فكان يقدر ضرورة الحذر والحيطة، وكان دائما حذرا غدرة العدو، وكان دائما يبث عيونه وأرصاده في أنحاء الجزيرة ينقلون إليه من أخبار العرب وما يأتمرون به على المسلمين ما يمهد له دائما فرصة الأهبة لدفاع المسلمين عن أنفسهم، وكانت خطته أن يأخذ العدو في غرة قبل أن يعد العدة لدفعه، فعلم بشروع غطفان في الهجرة في غزوة ذات الرقاع ودومة الجندل، فكانت القبائل عندما تسمع بمجيئه تولي الأدبار وتترك له المتاع والأسلاب، وهكذا ارتاح الرسول بضعة أشهر فرغ خلالها إلى التشريع.
وبعد خمس سنين من هجرته أصبح الرسول
صلى الله عليه وسلم
من الحول ومن القوة ما جعله مرهوب الجانب من أشد مدائن بلاد العرب ومن أشد قبائلها حولا وطولا، وقد كرهه اليهود أشد الكراهية وحقدوا طردهم عليه، وخشوا على مستقبلهم، وكانوا يفهمون قيمة دعوته وانتصاره وإن كانوا موحدين فهو موحد بأقوى وأفصح وأعدل وأنظم من موسى، والنفس السامية تميل إلى كلامه أكثر من كلامهم الذي صار عتيقا، والمسيح الذي كانوا ينتظرون وأملوا أن يكون محمدا ظهر أنه لغيرهم.
فبنو النضير بعد طردهم أوفدوا حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس، وأبا عمار إلى قريش وقالوا لهم: تركنا قومنا بين خيبر والمدينة حتى تأتوهم فتسيروا معهم إلى محمد وأصحابه، وإن قريظة تقيم بالمدينة؛ مكرا بمحمد؛ حتى تأتوهم فيميلوا معكم، فأدركت قريش حيلة اليهود وأنهم يريدون لينتقموا لأنفسهم، فترددت وكأنها هابت جانب محمد؛ لقوته، وأرادوا أن يستوثقوا من اليهود عن قيمة دينه فقالوا: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول وأصحاب العلم مما أصبحنا نختلف فيه ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟!
وهذا السؤال يدل على أن عرب قريش أرادوا أن يعلموا جيدا من أشباه محمد في التوحيد قيمة دينه، ولا نعلم ماذا كان يترتب على فتوى اليهود بأن دين محمد خير من الوثنية، ولكن اليهود أجابوا: «بل دينكم خير من دينه، وأنتم بالحق أولى منه.» ففضلوا الوثنية على التوحيد! فنزل قوله تعالى:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ...
الآية.
وخرج اليهود من مكة وطافوا بأعداء النبي؛ غطفان من قيس عيلان ومن بني مرة ومن بني فزارة ومن أشجع ومن سليم ومن بني سعد ومن أسد ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر وحرضوهم على الأخذ بثأرهم؛ يشجعونهم باتحاد قريش معهم ويمدحون وثنيتهم ويعدونهم بالنصر.
وقد نجحت اليهود في هذه البروباجندا نجاحا باهرا، ولا بد أن اليهود مولوا هذه الحملة، أو على الأقل ساهموا في تمويلها بإعطاء الفقراء مالا كما يصنعون في كل الحروب.
والآن ننظر ماذا حدث ...
الموقعة
جمعت قريش أربعة آلاف جندي برئاسة أبي سفيان، وثلاثمائة جواد تحت لواء عثمان بن طلحة، وألفا وخمسمائة راكب بعير، وجمعت بنو فزارة تحت لواء رئيسها عيينة بن حصن بن حذيفة ألفي رجل، وألف بعير، وحشدت أشجع ومرة ثمانمائة رجل إمرة الحارث بن عوف ومسعر بن رخيلة، وجمعت سليم سبعمائة رجل، وبنو سعد وأسد حوالي ألف وخمسمائة، فصاروا عشرة آلاف رجل مسلحين ومعهم كل العدة تحت إمرة أبي سفيان جميعا وساروا إلى المدينة، ولما بلغوها تداول زعماء هذه القبائل الزعامة أثناء الحرب، كل واحد منهم يوما على التوالي.
لقد كانت هذه عدة وعديد ما لها في حروب العرب جميعا من قبل مثيل، رجال وإبل وذخيرة، وقد فزع المسلمون، ورجع الرأي إلى فكرة عبد الله بن أبي ابن سلول في وقعة أحد: لقد كنا يا رسول الله نقاتل فيها ونجعل النساء والأطفال في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، فإذا أقبل العدو رمته النسوة والأطفال بالحجارة وقاتلناه بأسيافنا في السكك، إن مدينتنا يا رسول الله عذراء ما فضت علينا قط، وما دخل علينا عدو فيها إلا أصبناه، وما خرجنا إلى عدو قط منها إلا أصاب منا، فدعهم يا رسول الله وأطعني في هذا الأمر؛ فإني ورثت هذا الرأي عن أكابر قومي وأهل الرأي فيهم!
ولكن هذه قوة ساحقة هل يكفي التحصن أمامها؟
هنا تدخل سلمان الفارسي وكان يعرف من الحرب ما لا يعرفه العرب، فأشار بحفر الخندق حول المدينة وتحصين داخلها، واستعان المسلمون ببني قريظة الذين بقوا على ولائهم مع أنهم يهود، فأقرضوهم آلات الحفر (مساح وكرازين ومكاتل)، فحفر الخندق في ستة أيام وحصنت جدران المنازل وأخليت المنازل التي خارج الخندق وجهزت الأحجار لرمي الأعداء.
وكانت قريش تظن أنها تلقى النبي في أحد، فلم تجده فسارت إلى المدينة، ففاجأها الخندق، وخرج محمد
صلى الله عليه وسلم
في 3000 رجل، فجعل ظهره إلى جبل سلع وجعل الخندق بينه وبين أعدائه، وضرب عسكره، ونصبت له خيمته الحمراء وراء العريش، ولم يكن من سبيل أمام العدو إلى اجتياز الخندق فاكتفوا بتبادل الترامي بالنبال عدة أيام متتابعة.
وكان اليهود وعدوا غطفان متى تم النصر ثمار سنة كاملة من ثمار مزارع خيبر وحدائقها، ولكن النصر بعيد، وكان الخندق في وقت شديد البرد، وقريظة تمد المسلمين؛ لأنها رأت مصلحتهم في ذلك ما داموا غير منهزمين.
وخاف اليهود المحرضون للعرب ضياع الفرصة فحاولوا أن يوقعوا بين المسلمين وبني قريظة بنقض عهد موادعتهم لمحمد؛ ليقطعوا عنه المدد ويفتحوا المدينة، فذهب حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة، فلما شعر كعب بمجيئه أغلق دونه باب حصنه، وهو يعلم أنه إذا خان محمدا وانتصر محمد فإنه سيمحو قومه اليهود من الوجود، ولكن كعبا رفض وأخذ حيي يحرضه ويصف له قوة الأحزاب وعددهم وعدتهم، ويعده الوعود ويؤمنه من ناحية المسلمين ويذكره بما أصاب اليهود من المسلمين، ولسوء حظ كعب تغلبت يهوديته عليه ولان في نهاية الأمر.
وأعطى حيي موثقا إلى كعب إن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن يدخل معه في حصنه فيشاركه حظه، ولكن ما الفائدة؟! فبدلا من أن يسحق محمد
صلى الله عليه وسلم
يهوديا سيسحق يهوديين! فكان كعب أبله؛ لأنه قبل ونقض عهده مع المسلمين وخرج من حياده.
وبلغ الخبر إلى النبي فأرسل سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير؛ ليقفوا على جلية الخبر، فوجدوا قريظة على أخبث ما بلغهم عنهم، فلما حاولوا ردهم إلى عهدهم، طلب كعب إليهم أن يردوا إخوانهم يهود بني النضير إلى ديارهم، وحاول سعد بن معاذ؛ وهو حليف قريظة أن يقنعهم بالعدول؛ خوفا عليهم، فلم يقبلوا وانطلقوا يحاربون النبي، وقال كعب: «من رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.» وكادا يتشاتمان.
واتفق اليهود مع الأحزاب على أن تصلي الأحزاب المسلمين حربا حامية عشرة أيام يستعدون هم فيها داخل المدينة، وفعلا بعد أن عاد حيي بن أخطب ظهرت حركات في معسكر الأحزاب وأخذوا يستعدون للقتال، فجاءت كتيبة عيينة بن حصن من الجنب، وكتيبة الأعور السلمي من فوق الوادي، وكتيبة أبي سفيان من قبل الخندق، ونزلت سورة الأحزاب:
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا .
وأهل المدينة معذورون، قال أحدهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!
وقال آخر: ما كان أجدر محمدا بأن يقضي على بني النضير وعلى حيي والذين معه بدل أن يذرهم يرتحلون موفورين.
وتشجع الأحزاب وخطا بعض فرسانهم الخندق، ومعهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، فمات بعضهم، وفر البعض الآخر، وسقط البعض في الخندق.
وأعظمت الأحزاب نيرانها؛ مبالغة في تخويف المسلمين، وبدأ يهود قريظة مناوشات لإرهاب المسلمين في المدينة؛ كانت صفية بنت عبد المطلب في قارع حصن حسان بن ثابت، فرأت يهوديا يطوف بالحصن فقتلته بعد أن استنجدت بحسان فلم يجبها؛ لجبنه والتصاقه بالنساء والأطفال!
وجد محمد أن القوة لا تنفع فلا بد من الالتجاء إلى الحيلة، فماذا يصنع؟ بعث إلى غطفان يعدهم ثلث ثمار المدينة إن هي ارتحلت، وكانت غطفان قد بدأت تمل فامتعضت من طول الحصار.
وكان نعيم بن مسعود أسلم سرا، وكان نديما لقريظة في الجاهلية، فأرسله محمد إلى قريظة وقال: إنكم ظاهرتم قريشا وغطفان على محمد وقد لا تستطيعان المقام طويلا فتخليان ما بينكم وبين محمد فينكل بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا يكونون بأيديكم؛ حتى لا تتنحى قريش وغطفان عنكم.
فاقتنعوا.
وذهب إلى قريش وقال لهم: إن قريظة ندموا على ما فعلوا من نكث عهد محمد وإنهم عاملون على استرضائه بأن يقدموا له من أشراف قريش من يضرب أعناقهم، فإن بعثوا لكم يطلبون رهائن من رجالكم فلا ترسلوا أحدا.
وصنع كذلك مع غطفان.
وأرسل أبو سفيان إلى سعد سيد بني قريظة: يا سعد، طالت إقامتنا وحصارنا هذا الرجل، وقد رأيت أن تعمدوا إليه في الغداة ونحن من ورائكم.
فجاء الرد: «إن غدا السبت، ولا نستطيع فيه قتالا ولا عملا.»
فغضب أبو سفيان وصدق حديث نعيم، وأرسل لهم: اجعلوا سبتا مكان هذا السبت ولا بد من قتال محمد غدا، وإن لم تفعلوا لنبدأن بكم قبل محمد! فقالت قريظة: لا يمكن ولا نتعدى السبت، وقد تعداه قوم فغضب الله عليهم وجعلهم قردة وخنازير، ثم أشاروا إلى الرهائن؛ ليطمئنوا، فلم يرتب أبو سفيان في كلام نعيم.
وتكلم أبو سفيان مع غطفان فترددوا؛ طمعا في إتمام وعد محمد لهم بثلث أثمار المدينة.
وكان هذا الوعد قد انتقده سعد بن معاذ وغيره من الزعماء.
وجاء الفرج من الله في الليل فعصفت الرياح وهطل المطر وقصف الرعد وخطف البرق، واشتدت العاصفة فابتلعت خيام الأحزاب وكفأت قدورهم، وظنوا أن محمدا سينتهز هذه الفرصة؛ ليبادئهم بالعداء، فقالوا: «إن محمدا قد بدأكم بشر ، فالنجاة النجاة!»
وقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف (يعني الغنم والإبل) وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا منهم ما نكره، ولقينا من الريح ما لقينا؛ فارتحلوا فإني مرتحل.
فارتحلوا جميعا ليلا، وفي الصباح لم يجد محمد
صلى الله عليه وسلم
منهم أحدا فرفع المسلمون أكف الشكر لله، وعادوا إلى المدينة.
القضاء على بني قريظة
لقد كان الشتاء جند الله في هزيمة الأحزاب، وأول ما فكر فيه النبي هلاك بني قريظة، وكانوا محصنين في حصون كالتي كانت لبني النضير وهي تنفع في الدفاع ولكن لا ترد هجوم المسلمين، وقد أصبح لديهم ميرة وعدد وعدد، وكان قائد حملة بني قريظة علي بن أبي طالب.
ولما دنا محمد من حصون بني قريظة ناداهم: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟
وكان غيظ اليهود شديدا فكانوا يكذبون رسالته ويطعنون عليه وينالون من عرض نسائه، فلما رأوه وسمعوا نداءه لهم قال أحدهم: يا أبا القاسم ما كنت جهولا!
فأمر بحصارهم.
ودام الحصار 25 يوما، ثم طلبوا من الرسول أبا لبابة؛ ليستشيروه في أمرهم؛ وهو من حلفائهم الأوس، ومثلوا منظرا مسرحيا؛ فقام إليه الرجال، وأجهشت النساء والأطفال بالبكاء فسألوه: أننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، إنه الذبح إن لم تفعلوا. وأشار بيده إلى رقبته وانصرف.
فعرض كعب بن أسد أن يتابعوا محمدا على دينه فينجوا بمالهم وحياتهم وأولادهم.
فرفض أصحاب سعد سيدهم وقالوا لا يفارقون التوراة أبدا ! فعرض عليهم فكرة فوضوية؛ يقتلون أهلهم ويخرجون رجالا للحرب! فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟! فما خير العيش بعدهم؟! وصحيح هم متعلقون جدا بنسائهم وأطفالهم، وكل حبهم للمال من أجل النساء والأولاد.
وأخيرا قالوا: نطلب الخروج مثل بني النضير، وعرضوا على النبي الخروج إلى أذرعات تاركين وراءهم ما يملكون.
فلجئوا إلى الأوس، والأوس كلموا النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال لهم: اجعلوهم يختارون رجلا، فاختاروا سعد بن معاذ الذي كان قدم إليهم أول نقضهم العهد وردوه أقبح الرد، وكان حذرهم عاقبة نقضهم العقد، وسبهم المسلمين، وأخذ سعد المواثيق على الفريقين أن يسلم كلاهما لقضائه وأن يرضى به، فأعطوه المواثيق، فأمر ببني قريظة أن ينزلوا وأن يضعوا السلاح، ففعلوا، فحكم سعد فيهم أن تقتل المقاتلة، وتقسم الأموال، وتسبى الذرية والنساء، وهذا هو نزولهم على حكمه.
وضربت أعناق اليهود ودفنوا في خنادق عامة، وكان اليهود لا ينتظرون هذا من سعد بن معاذ حليفهم، ونسوا أنهم خذلوه مع النبي لما جاء وسيطا.
وفيم الرحمة بهم؟! إنهم لو انتصروا لفعلوا ذلك وأكثر منه بالمسلمين!
وأظهر بعض اليهود شجاعة لدى الموت، وعرف حيي بن أخطب كيف يموت بعد أن مثل دوره المدهش، فقال له النبي حين تقدم لضرب عنقه: ألم يخزك الله يا حيي؟
فأجاب: كل نفس ذائقة الموت، ولي أجل لا أعدوه، ولا ألوم نفسي على عداوتك.
ثم خطب الناس: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله؛ كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل.
وفضل الزبير بن باطا
1
القرظي الموت على البقاء بعد زعمائه وأهله بعد أن عفا عنه النبي ووهبه ماله وأهله وولده.
وكان زعماء بني قريظة الذين قتلوا: كعب بن أسد، وحيي بن أخطب، وعزال بن سموأل.
وكان المسلمون لا يقتلون النساء والأطفال، ولكنهم قتلوا امرأة (مثل ميس كافل)؛ لأنها طرحت الرحى على مسلم فقتلته، فطابت نفسها لدى القصاص، وكانت تضحك وهي تعرف أنها تقتل، وحازت إعجاب عائشة، قالت - رضي الله عنها: «ووالله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل!»
ولم يسلم من اليهود إلا أربعة فنجوا من القتل، وإن دم الذين قتلوا جميعا في عنق حيي بن أخطب.
ورقة اتهام ضد حيي بن أخطب! (1)
حنث بالعهد الذي عاهد قومه من بني النضير حين أجلاهم محمد
صلى الله عليه وسلم
عن المدينة ولم يقتل منهم بعد النزول على حكمه أحدا. (2)
ألب قريشا وغطفان وخدعهم بأن دينهم أحسن من الإسلام. (3)
حزب العرب كلها لقتال محمد
صلى الله عليه وسلم . (4)
جعلهم يعتقدون ضرورة استئصال النبي والمسلمين. (5)
أفسد نفوس يهود بني قريظة وخدعهم حتى نقضوا عهدهم. (6)
دخل الحصن مع كعب ووضع حظه في كفة حظه، فنال جزاءه. (7)
عرض بني قريظة كلهم للقتل بعد أن انقلبوا كلهم على المسلمين في أحرج الأوقات.
وقسمت أموال بني قريظة على المسلمين وشري ببعضها خيل من نجد وسلاح للمسلمين (زيادة في ميزانية الحرب)، ووقعت ريحانة اليهودية الحسناء في سهم محمد
صلى الله عليه وسلم
فعرض عليها الإسلام فأصرت على يهوديتها، وعرض عليها أن يتزوجها فقالت: «تتركني في ملكك؛ فهو أخف علي وعليك.» وبقيت في ملكه حتى ماتت عنده.
وبهذه الوقائع ثبت مركز النبي والمسلمين في المدينة واطمأن
صلى الله عليه وسلم
على الشئون الداخلية.
تحريم الزنا
كانت هند امرأة فاسدة، وكانت تنشد:
إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وكانت مع زواجها من أبي سفيان لها أحاديث غرام ومغامرات، ولم يكن الزنا جريمة، والمرأة تلد ولا يعرف أبو ولدها (ماترياركا).
وخيال العربي خصب بطبيعة عيشه تحت السماء وتجواله الدائم في طلب الرزق واضطراره للمغالاة وللكذب أحيانا في شئون التجارة.
والعربي لكع بطبعه، حتى لقد كانت لكاعة العرب مضرب المثل، فإذا وقف زيد في السلم يحادث هندا حديث هوى لم يزد على شهي اللفظ، تساقطه لآلئ الثنايا العذاب، رأيت زيدا حين الخصومة والحرب يرفع عقيرته بهند وقد لقيها أمامه متجردة يقول في نحرها وصدرها ونهدها وخصرها وعجزها وما دون ذلك ما شاءت له أفانين الخصومة واهتياج الخيال الذي لا يعرف في المرأة غير الأنثى وغير ما تفرش من النمارق.
ولم تكن صلات الرجل والمرأة في الجماعة العربية تعدو صلات الذكورة بالأنوثة مع تفاوت تملي به مراتب الطوائف والعشائر، لا يخرجها عن هذا الوضع القريب من مراتب الإنسان الأول، وكان النساء يتبرجن في الجاهلية ويبدين من زينتهن ما لا يقف أمره عند بعولتهن، وكن يخرجن فرادى ومثنى وزرافات لحاجتهن يقضينها في غوطة في الصحراء، فيلقاهن الشبان والرجال وهن يتهادين في جماعاتهن فلا يأبى هؤلاء ولا أولئك أن يتبادلوا أشهى النظرات ومعسول الحديث مما يستريح له الذكر وتطمئن له الأنثى.
ففكرة الجنس إذن كانت وحدها المتغلبة، فحاربها الإسلام وجعل الزنا جريمة ونظم علاقة النسب وأصول الزواج.
غزوة بني المصطلق
كان لغزوة بني المصطلق أهمية؛ فقد كاد الشقاق يفشو بين المسلمين فحسمه الرسول، وفيها تزوج الرسول من جويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق، دخلت على النبي وقالت: «أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في سهم فلان فكاتبته على نفسي فأغلى الفداء؛ علما منه بأن أبي قدير على ما طلب، فجئت أستعينك على كتابتي.»
فقال الرسول لها: فهل لك في خير من ذلك؟
قالت: نعم.
قال: أقضي كتابتك وأتزوجك.
فقبلت وأطلق الناس أسرى بني المصطلق؛ إكراما لهذه المصاهرة، قالت عائشة - رضي الله عنها: ما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.
وفي هذه الغزوة أيضا كان حديث الإفك وقد أسلفنا الكلام عليه.
لقد وقف الرسول من بدوي على سر بني المصطلق، وهم في حي قريب من مكة يحرضون على قتله، وكان زعيمهم الحارث بن أبي ضرار، فسلم بنو المصطلق جميعهم وأخذوا أسرى، نساؤهم وإبلهم وماشيتهم، وجاء المسلمون بماء المريسيع، واقتتل رجلان على الماء فقال أحدهم: يا معشر المهاجرين! وقال الآخر: يا معشر الأنصار!
وانتهز عبد الله بن أبي، الأفعى العجوز، هذا النداء ابتغاء الغنيمة فقال لجلسائه: «لقد كاثرنا المهاجرون في ديارنا، والله ما عدنا وإياهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.»
وبلغ النبي هذا الحديث.
وسمعه عمر فقال بعد أن هاج: مر بلالا فليقتله.
فقال محمد: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا: إن محمدا يقتل أصحابه؟! (انظر هو يعتبر عبد الله صاحبه!)
وأمر محمد بالرحيل، ولما علم عبد الله بما قاله النبي جاء إليه وأنكر ما نسب إليه وحلف بالله ما قاله ولا تكلم به، وفي المدينة نزل قوله تعالى:
هم الذين يقولون لا تنفقوا ...
الآية.
وحسبوا أن النبي سيأمر بقتل عبد الله بن أبي، فذهب ابنه عبد الله بن عبد الله، وكان مسلما حسنا ويأمنه النبي على المدينة، فذهب إلى النبي وقال: «يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس؛ فأقتله،؛ فأقتل رجلا مؤمنا بكافر؛ فأدخل النار.» وفي كلام عبد الله كفاح بين الإيمان والعاطفة والخلق؛ فقد كان في مأساة نفسية.
فقال له محمد
صلى الله عليه وسلم : «إنا لا نقتله؛ بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.»
وأصبح عبد الله أضحوكة أهل بلده، يقولون له: حياتك هبة من محمد! فقال محمد لعمر: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.
فقال عمر: قد والله علمت، لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري.
صلح الحديبية1
الهدنة قبل فتح مكة
في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة
2
عزم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على الخروج إلى مكة معتمرا لا يريد حربا، واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي، وقد لاحظنا أنه كان في كل مرة يستعمل رجلا غير الذي استعمله في المرات السابقة.
ثم دعا الرسول العرب ومن حوله من أهل البادية؛ ليخرجوا معه، وقد أخبرهم أنه يريد الخروج للعمرة وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن الكعبة، فأبطئوا عليه، فخرج بمن معه
3
من المهاجرين والأنصار وكانوا حوالي سبعمائة رجل، وقيل ألف وأربعمائة، منهم 200 فارس، وساق معه الهدي (سبعين ناقة)، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وليعلموا أنه خرج زائرا لبيت الله ومعظما إياه، وقد جعل الهدي سبعين بدنة ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر، وأمر النبي أن لا يكون معهم سلاح غير السيوف في القرب، ولما رأى عمر بن الخطاب ذلك، ظن في هذا المظهر ضعفا أمام قريش، ولم يفطن إلى أن غاية الرسول من بداية الأمر أن يثبت للملأ أنه خارج للعمرة لا للحرب، فقال للرسول: أتخشى يا رسول الله من أبي سفيان وأصحابه؟! ولم تأخذ للحرب عدتها.
فقال الرسول: لست أحب أن أحمل السلاح معتمرا.
وما زال النبي وصحبه سائرين حتى كانوا بعسفان، وهو مكان قريب من مكة، تقدم إليه بسر بن سفيان الكعبي
4
وقال له: يا رسول الله، هذه قريش سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل، وقد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا عنوة، وهذا خالد بن الوليد
5
في خيلهم قدموها إلى كراع الغميم (وكلاهما مكان قريب من الحديبية)، فقال رسول الله: يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة.
فما تظن قريش؟!
فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة. ثم قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟
فتقدم رجل ممن أسلم، وسلك بالنبي ومن معه طريقا وعرا بين شعاب حتى بلغوا ثنية المرار فبركت ناقة الرسول.
فقال بعض ذوي الألسنة الطويلة الذين ينتظرون العثرات: لقد خلأت الناقة!
فرد عليهم الرسول وهو أبدا حاضر البديهة: ما خلأت الناقة وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، فلا يدخلها قهرا.
ثم قال مسالما: لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم زجر ناقته فقامت.
ثم أمر الناس بالنزول في الوادي، ولما اطمأن جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي، وكانت خزاعة مصادقة لرسول الله مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة ، وربما فطنت قريش لذلك، فقال له بديل: ما الذي جاء بك؟
محمد: ما جئت أريد حربا، وإنما جئت زائرا للبيت ومعظما لحرمته.
وهو مثل ما قاله لبسر بن سفيان، فعاد بديل إلى قريش وقال لهم ما سمعه من النبي، فاتهموه وجبهوه هو ومن معه، وقال أحد رجال قريش: وإن كان لا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تتحدث العرب عنا بذلك وبيننا من الحرب ما بيننا!
وإنني أحب أن أذكر المبعوثين من قريش إلى محمد؛ لغرابة أخلاق بعضهم، وكأن دهاة قريش أرادوا أن يقفوا على الحقيقة من اختلاف مشارب رسلهم؛ فقد بعثوا أولا بديلا الخزاعي وهم يعلمون موالاة خزاعة للرسول، فهو أقرب إلى المسلمين وأحب، وكان من أمره ما كان، ثم أرسلوا الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش،
6
فلما عاد برأي يؤيد المبعوث الأول وهو بديل الخزاعي ويعظم لهم من شأن النبي سخروا منه وقالوا له: اجلس؛ فإنما أنت أعرابي لا علم لك!
فغضب الحليس لكرامته وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم! أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد!
فقالوا له: مه! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما ترضى به!
فسكت وصبر على مضض، وكانت غاية قريش أن يتأكدوا من غاية النبي من مجيئه، فاستعملوا هذه الطريقة التي تدل على الدهاء والسياسة وبعد النظر، وذلك بعد أن أرسلوا له بشر بن سفيان يصف للرسول استعداد قريش للحرب بخيلهم ورجلهم وجنودهم المدججة بالحديد، ثم أرسلوا مكرز بن حفص بن الأحنف، وكان رجلا غادرا فعلم من الرسول ما علم السابقون.
ثم اختارت قريش رجلا كان قبل إسلامه خبيثا طويل اللسان واليد ذا بذاءة وقذاعة بعيد الغور اسمه عروة بن مسعود الثقفي وكلفوه بمقابلة الرسول، فقال لهم بعد أن سمع توبيخ المفاوضين السابقين: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا عاد إليكم من التعنيف وسوء اللفظ؛ وقد سمعت بالذي أصابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي.
فقالوا له: صدقت! ما أنت عندنا بمتهم!
ووعدوه أن يأخذوا برأيه وأن لا يغلظوا له القول مهما كانت نتيجة بعثته.
وهذا الرجل الذي يخشى التعنيف وسوء اللفظ كان هو نفسه يستحق التعنيف؛ لما فطر عليه من الحقد وسوء اللفظ مع أنه من أشراف قريش؛ لأنه حفيد عبد شمس بن عبد مناف.
فقد سار حتى أتى الرسول وجلس بين يديه ثم قال في وقاحة وغلظة، وقد تخيل له أنه لا يرى في أصحاب النبي عظماء، بل رأى أسرابا خليقا أن يفروا ويتركوا الرسول!: يا محمد! أجمعت أوشاب الناس (يقصد المسلمين من المهاجرين والأنصار والعرب الذين جاءوا لزيارة الكعبة) ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم! إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا (يريد المهاجرين والأنصار)، وكان أبو بكر قاعدا خلف رسول الله فغاظته هذه الكلمة من عروة وهو رسول صلح أو مفاوضة فانقلب دساسا ومتهددا، فقال لعروة: امصص بظر اللات! أنحن ننكشف عنه؟! وهذه أكبر مسبة تصدر من مسلم لمشرك.
فقال عروة: من هذا يا محمد؟!
محمد: هذا ابن أبي قحافة.
عروة: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها. ثم جعل يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه.
وكان المغيرة بن شعبة واقفا على رأس رسول الله مدججا بالسلاح، فجعل يقرع يد عروة إذا تناول لحية رسول الله ويقول: اكفف يدك عن وجه الرسول قبل أن لا تصل إليك!
فيقول عروة: ما أفظك وأغلظك!
فتبسم رسول الله، فقال له عروة: من هذا يا محمد؟
محمد: هذا ابن أخيك؛ المغيرة بن شعبة.
عروة: أي غدر! وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس (يشير إلى أن المغيرة قتل ثلاثة عشر رجلا ثم دفع ثلاث عشرة دية في خبر طويل لا محل لذكره).
وكان المغيرة من دهاة العرب، وعمر وحكم الكوفة وخطب بنت النعمان بن المنذر، وكلم النبي عروة بما كلم الذين سبقوه فقام وعاد إلى قريش وقال لهم: يا معشر قريش، إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فروا رأيكم؛ فقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
ولا نعلم إن كان هذا الرجل صادقا في أنه رأى هؤلاء الملوك في مقر ملكهم أو أن هذه العبارة ذكرها المؤرخون ليفخموا من شأن النبي؛ لأنها تكررت في مواضع كثيرة بنصها؛ وإن كانت في جوهرها صادقة صحيحة، بل إن وزراء هؤلاء الملوك ورجال حاشيتهم وأعوان البلاط لم يكونوا ليقدموا بين أيدي ملوكهم ما كان يقدمه الصحابة بين أيدي النبي؛ لأن خادم الملك مأجور على خدمته، والصحابة محبون بقلوبهم مخلصون بأفئدتهم؛ فقد كان الصحابة لا يرونه يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وشربوا ماءه أو مسحوا به وجوههم، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، دع عنك استعدادهم للدفاع عنه بأبدانهم وأرواحهم وفدائه بكل عزيز من أنفسهم، فكان هذا المنظر يبهر رسل قريش وغيرهم؛ لأنهم لم يتعودوا رؤية مظاهر الحب والإخلاص من رجال هم سادة قومهم لزعيمهم بمثل ما رأوا، وقد تعود العرب الصراحة والحرية وعدم الملق والزلفى، ومع ذلك فقد رأى عروة بعينه الرسول إذا تكلم خفض أصحابه أصواتهم عنده، ولا يحدون النظر إليه تعظيما .
وقد خرج النبي من مكة مهاجرا مع رجل واحد، وطارده الكفار مطاردة المجرمين وجعلوا لرأسه ثمنا، وها هو يعود إليهم بعد ست سنين على رأس ألف رجل، فيراه رجل من أعاظمهم فيكبر في عينه عن جميع الملوك الذين رآهم على عروشهم في عواصم ملكهم، وهم أعظم ملوك الدنيا في عصره، وفي عبارة عروة لقريش ما يشعر بأنه يميل إلى مصالحة الرسول، فلما وقفت قريش على رأيه صحت عزيمتهم على عقد الصلح مع النبي.
وعروة هذا هو أحد عظيمي القريتين الذي قصدت إليه قريش بقولها:
لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم .
والآخر الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان عروة يشبه بالمسيح - عليه الصلاة والسلام - في صورته، وسبب إسلامه وقتله أنه لما انصرف الرسول عن ثقيف اتبع عروة أثره فأدركه قبل أن يصل المدينة فأسلم ثم حث النبي على دعوة قومه إلى الإسلام معتمدا على منزلته عندهم، فلما أشرف عليهم وأظهر لهم دينه الجديد لم يبالوا بمنزلته ورموه بالنبل من كل جانب فأصابه سهم فقتله.
وهذا مرغليوث العالم المعاصر غاظه فرح كعب بن مالك بغفران الله له فأراد الخروج من كل ماله صدقة، فوصفه مرغليوث بأنه طفل يستحق السخرية؛ لشدة فرحه بما ناله من عفو الله ورسوله.
فكان كلام عروة بن مسعود الثقفي لقريش دليل مكره ودهائه؛ فإنه لم ينصحهم بشيء واكتفى بتفويض الأمر لهم بعد أن وصف استقتال أصحاب محمد في سبيله.
وكان محمد إذا بعث لهم رسولا أهانوه وفعلوا به الأفاعيل، كما حدث لخراش بن أمية الخزاعي ليبلغ أشراف قريش عن الرسول ما جاء له، فعقروا جمله وأرادوا قتله لولا أن منعته الأحابيش، وهم رجال الحليس بن علقمة، وترسل قريش كتيبة من الجند فترمي الكتيبة أصحاب محمد بالنبل والحجارة، وهذا سبب صريح للحرب، فيعفو عنهم النبي ويخلي سبيلهم.
وأخيرا وقع اختيار الرسول على عمر بن الخطاب؛ ليبعثه مفاوضا، وقد أعجبنا جواب عمر قال: يا رسول الله، إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها.
وقد أحسن عمر؛ لأن قتله كان خسارة كبرى، وهو رجل لا يصبر على الإهانة، ولا يعد رفضه جبنا، ولكنه حكمة وإصابة رأي وضن بشخصه الذي خدم الإنسانية والحضارة أجل خدمة بعدله وحكمه وفتوحه.
غير أنه قال للنبي: ولكني أدلك على رجل أعز بها مني؛ عثمان بن عفان.
فدعا رسول الله عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش.
فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعد بن العاص، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله وهي: إن محمدا لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.
فلما أدى أمانته قالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله.
فاحتبسته قريش عندها، فشاع أنه قتل، فقال الرسول: لا نبرح حتى نناجز القوم.
فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، بايعه العرب على الموت أو على عدم الفرار، وأول من بايعه سنان بن أبي سنان الأسدي على الحرب إلى النهاية، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس؛ فقد رأوه لاصقا بإبط ناقته يستتر بها من الناس، وهذا الرجل هو نفسه الذي اعتذر عن غزوة تبوك بشدة شوقه لنساء الروم وخوفه من فتنة الجمال والحب ...!
وظهر أن نعي عثمان كان سابقا لأوانه وأن قريشا خجلت وخشيت عاقبة الإصرار على الرفض، فأرسلوا سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.
وكان نظره صائبا، فإن سهيلا كان يحمل شروط الصلح؛ وأهمها: أن يرجع الرسول هذا العام؛ لئلا يقال إنه دخل مكة عنوة! ولكن سهيلا كان كثير الإلحاح والتهجم، ولعلها عادة المفاوض الذي يحمل رسالة التسليم بمطالب العدو القوي، وقد أطال الكلام وخرج في ألفاظه كما سيأتي، حتى غضب عمر ووثب، فأتى أبا بكر ودار بينهما الحوار الآتي:
عمر :
يا أبا بكر، أليس رسول الله؟
أبو بكر :
بلى.
عمر :
أولسنا المسلمين؟
أبو بكر :
بلى.
عمر :
أوليسوا بالمشركين؟
أبو بكر :
بلى.
عمر :
فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!
أبو بكر :
يا عمر، الزم غرزه؛ فإني أشهد أنه رسول الله.
عمر :
وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم تقدم عمر إلى النبي وقال: عمر: يا رسول الله، ألست برسول الله؟!
محمد :
بلى!
عمر :
أولسنا بالمسلمين؟!
محمد :
بلى!
عمر :
أوليسوا بالمشركين؟!
محمد :
بلى!
عمر :
فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!
محمد :
أنا عبد الله ورسوله! لن أخالف أمره ولن يضيعني.
فاقتنع عمر وهدأ روعه وعاد إليه حلمه.
وكان بعد ذلك يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا.
وهذه حقا كانت غضبة عمرية، وكان عمر على حق، ونحن نقره على ذلك؛ لأنه كان يحكم بظاهر الأمور، ولا يعلم ما يبطنه الرسول من الحكمة والحنكة وسعة الحيلة؛ فإن الوصول إلى معاهدة الصلح ودخوله مكة معتمرا وطائفا كان أمرا عظيما له شأنه. نعم؛ إن مسلك سهيل كان لا يطاق، وفيه بعض الإهانة للمسلمين، ولكن السياسة تقتضي الصبر على الشدائد وانتهاز الفرص، وكانت قريش على حق في عدم السماح للنبي بدخول مكة على رأس جيش فيه نحو ألف مقاتل بسلاحهم.
وقد ادعى مرغليوث أن عمر كان على وشك الردة لو أنه وجد من يتبعه! ويستند في ذلك إلى رواية في الواقدي.
ونحن نعلم مقدار أمانة مرغليوث في التلاعب بالنصوص فلا نأبه له! وكل من عرف أخلاق عمر لا يعجب لغضبه، ولكن إيمان عمر كان أرسخ من رضوى، وأثبت من أحد؛ ولو كره الحاقدون، وكان صدر محمد أوسع من البحر، وحلمه أعمق من طبقات الأرض، وكان داهية زمانه بل باقعة كل زمان ومكان
صلى الله عليه وسلم ! ولننظر الآن في عقد الهدنة الذي تم بين الرسول وقريش.
فإنه بعد أن تمت المفاوضة الشفوية اتفقوا على تدوينها بالكتابة، وكان الكاتب لها علي بن أبي طالب، ومن مجرى الوثيقة تظهر أسباب غضب عمر.
أملى الرسول: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل: لا أعرف هذا (يقصد الرحمن)، اكتب : باسمك اللهم (وهي صيغة الجاهلية).
فقال النبي: اكتب باسمك اللهم. فكتبها.
ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.
فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك!
فقال الرسول: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.
وهذا صحيح في رأي سهيل؛ لأنه لو سلم برسالة النبي فلا معنى للعداء والحرب بل يكون من صحابته وتابعيه، ولكنه في هذا المقام - مقام الند للند - فلا معنى لتعظيم أحد الفريقين، ولكن عمر بن الخطاب عز عليه تساهل النبي في أمرين هما من أسس الإسلام؛ الأول: صيغة البسملة وذكر اسمين من أسماء الله الحسنى لا يعترف بها الكفار، وتنحيه عن صفة الرسالة مؤقتا وفي صك رسمي يعد حجة على الطرفين، ولكن غاية محمد كانت أبعد وأسمى مما رمى إليه عمر - رضي الله عنه - وقد اصطلحا على: (1)
وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. (2)
وعلى أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يرده (وفي هذا الشرط إجحاف بالمسلمين). (3)
أن بينهم عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. (4)
أن الرسول يرجع عن قريش عامه هذا فلا يدخل مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجوا عنها فيدخلها بأصحابه فيقيم ثلاثا معه سلاح الراكب؛ السيوف في القرب، لا يدخلونها بغيرها.
فلما فرغوا من الكتابة والتوقيع من الطرفين أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص. وكان سهيل يشترط شروط القوي، بل كان يملي شروطا؛ فقد أبى أن يكتب العهد أحد سوى علي أو عثمان، وحذف صفة رسول الله واسم الرحمن الرحيم، ونص على التزام الرسول بتسليم المسلمين الذين يفرون من مكة، وكان المسلمون كلما سمعوا شرطا ضجوا ولا سيما بعد أن علموا أنهم سيرجعون أدراجهم خائبين بلا حرب ولا عمرة، وكان الرسول وعدهم بالنصر والفتح القريب، وكان المسلمون يرفعون أصواتهم ويهزون أسيافهم، واتخذوا احتجاج عمر شعارا لهم فصاروا يقولون: لم نعطي هذه الدنية في ديننا!
فجعل الرسول يخفضهم ويومئ بيده إليهم أن اسكتوا.
ولم يكن أبو بكر أقل حبا بالحرب من عمر، فإن رسول الله لما تأكد أن قريشا تريد منعه من البيت قال: أشيروا علي أيها الناس، أتريدون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟
فقال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حربا فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه.
وقال المقداد: يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله يا رسول الله، لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل! •••
وحدثت حادثتان عند تدوين هذه الصحيفة: الأولى: أن خزاعة تواثبت فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده.
وتواثبت بنو بكر فقالت: نحن في عقد قريش وعهدهم.
وأثناء الكتاب جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو (وكان مسلما مقيما بمكة) وهو يرسف في الحديد، وقد انفلت إلى رسول الله.
وكان المسلمون القادمون مع النبي وقد تكبدوا المشاق والانتظار الطويل لما رأوا الصلح والرجوع وما تحمله الرسول دخل عليهم أمر عظيم من الغم والغيظ وخيبة الأمل، مما يدلنا على أن عمر كان معذورا في غضبه، فكاد المسلمون يهلكون من الألم والحسرة، وليسوا كلهم في مكانة النبي ولا في قوة عقله وخلقه، ولكنهم كظموا غيظهم وأطاعوا ولم يخرجوا على النظام ولم يتسرب إليهم الفشل.
فلما رأى سهيل ابنه قادما يلجأ إلى النبي قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ثم قال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. - صدقت. - ومعنى هذا أننا اتفقنا على أن من يأتيك من قريش ترده إلينا.
وأغرب ما في الأمر أن يكون اللاجئ ابن المفاوض نفسه، ولعله لو كان غيره لسلك سهيل مسلكا لينا، ولكنه رأى في إسلام ابنه وفراره والتجائه إلى النبي في نفس الوقت الذي يتم فيه الصلح إهانة لكرامته وهو ممثل قريش ولسان حالها وصاحب كلمتها.
ثم جعل سهيل ينثر ابنه بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!
فزاد هذا النداء نار المسلمين اشتعالا ولكن النبي نظر إليه وقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا! إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.
فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل؛ فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب. وهو يدني قائم السيف منه؛ يرجو أن يأخذ أبو جندل السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.
وهذا المسلك من عمر مشكوك فيه؛ نعم إنه يتفق مع مزاجه وحالة سخطه وسخط المسلمين على قريش وعلى مفاوضتهم سهيلا، وفيه نجدة للمسلم المستغيث، ولكن قتل سهيل وهو آمن يحمل شروط الصلح وقد تمت، غلطة لا تغتفر ولا يليق أن تصدر عن الرسول وأصحابه، وكانت تعطي قريشا سلاحا قويا، ولم يكن عمر أغير على الإسلام من محمد، ثم إنه المسئول في هذا كله؛ لأن عمر لم يكن حينئذ سوى صحابي فاضل، وقد رأيناه بعد ذلك وهو خليفة كيف سلك مسالك الحكمة والتروي حتى صار مثلا حيا للعدل ومضربا للأمثال.
غير أن المعزو إلى عمر في كتب السير أنه كان يرجو أن يضرب أبو جندل أباه، ولكنه لم يوعز إليه بذلك، فكان اغتيال سهيل مجرد رغبة تجول في نفس عمر ولكنه لم يبح بها، وإن كان يظن أنه سهل السبيل لأبي جندل بدنو قائم السيف من يده، وقد كان أبو جندل في حال انكسار واضطراب واستغاثة، ولم يخطر بباله فكرة قتل أبيه ونعم ما فعل؛ لأنه ببلادته أو بغضه عن إشارة عمر أنقذ موقف النبي والمسلمين في هذا الصلح الذي أعقبه خير كثير.
فإن هذه الهدنة وقد أطلق عليها اسم «صلح الحديبية» كانت من أحكم الأعمال، وقال الزهري: إنه ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه؛ ذلك أن القتال بين المسلمين والكفار في كل مكان، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس؛ كلم بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة؛ فلم يكلم أحد في الإسلام وهو يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في الإسلام في سنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر.
والدليل على قول الزهري؛ أن الرسول خرج إلى الحديبية في سبعمائة، وقال بعضهم: في ألف وأربعماية مسلم، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف. •••
ولما فرغ النبي من تدوين وثيقة الهدنة من صورتين أمر أصحابه بالنحر والحلق ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد؛ لشدة سخطهم وألمهم مما وقع، وهم لا يعلمون ما انطوى عليه هذا العهد من المنافع للإسلام.
فدخل الرسول على زوجته أم سلمة وهو شديد الغضب، فاضطجع فسألته عن حاله مرات وهو لا يجيبها، ثم ذكر لها ما لقي من الناس وقال لها: هلك المسلمون؛ أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا؛ وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي! - يا رسول الله، لا تلمهم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح.
ثم أشارت عليه أن يخرج ولا يكلم أحدا منهم وينحر بدنة ويحلق رأسه.
ففعل ذلك، فلما رأوه قاموا فنحروا وحلقوا وانصرف إلى المدينة بعد أن أقام بالحديبية تسعة عشر يوما، وكان المسلمون معذورين حقا؛ فقد تعبوا في السفر وفي الانتظار عشرين يوما وقد تقذرت أبدانهم وثيابهم وأصابتهم عدوى الهوام والطفيليات، فامتلأ شعرهم بها حتى إن كعب بن عجرة قال: جعل القمل يتساقط على وجهي فمر بي رسول الله فقال لي: احلق!
ولا عجب إذا انتشر هذا التذمر في جيش الرسول، ولكن العجب لتأثيره فيهم؛ فإن مجرد ظهوره في الناس وأخذه بنحر ضحيته وحلق رأسه جعل المتذمرين والساخطين والمنتقدين والمتأففين يعودون إلى عادتهم من طاعته وتقليده في سنته، فأقبلوا يحلقون وينحرون، ثم عادوا أدراجهم إلى المدينة في صفوف منتظمة.
وبعد الصلح وعودة النبي إلى المدينة فر من سجون مكة مسلم محبوس اسمه أبو بصير عتبة بن أسيد، وقدم على رسول الله مستغيثا مثل ما فعل أبو جندل، فرده رسول الله تنفيذا لمعاهدة الحديبية وسلمه إلى رسول قريش وهو رجل من بني عامر أوفده المكيون؛ ليتسلم الأسير المسلم - الفار - من المدينة ويعود به إلى سجنه.
فخرجا واستغفل أبو بصير حارسه وخطف سيفه وقتله، فلما سمع الرسول بهذا النبأ قال: ويل أمه! محش
7
حرب لو كان معه رجال. ثم جاء أبو بصير بنفسه إلى النبي بعد قتله الحارس ونجاته وقال له: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتني ليد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتتن فيه أو يعبث بي.
ثم خرج أبو بصير هائما على وجهه وقد عزم على أن يعيش عيشة الغزو والمعاكسة لقريش ويعلن عليهم حربا بمفرده، فنزل مكانا اسمه العيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش إلى الشام.
وعلم المسلمون المحبوسون بمكة بخبره ففروا وانضموا إليه، فاجتمع منهم قريب من سبعين رجلا، وتربصوا بتجارة قريش وقوافلها حتى ضيقوا عليها، فكانوا لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها.
فلما ضاقت قريش ذرعا بهؤلاء العصاة الذين لا يطيقون الإقامة في مكة، ولا يقبلون في المدينة؛ تنفيذا للمعاهدة التي خرقتها نخوة رجل مغامر بقوة إيمانه فخرج على قانون لا يعترف به وخالف صلحا لم يكن فيه طرفا؛ لأنه على الحالين من بعض الرعايا، فليس صلح الحديبية حجة على أحد سوى محمد، ومحمد قال له: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا فانطلق إلى قومك.
ثم سلمه إلى رسول قريش يدا بيد، ولم يكن الرسول وحده، بل كان معه أحد الموالي، فذمة محمد بريئة، وقد وفى بعهده كما قال له أبو بصير بعد قتله الحارس.
وكانت قريش قبيلة تجارة وأسفار ولم يقدروا على هذا العدد من قطاع الطريق المؤمنين، أي الذين يدفعهم إيمانهم إلى التربص والقتل والغنيمة، فإنهم لم يكونوا مجرمين، بل كانوا آبقين لا وطن لهم ولا ملجأ لهم، فهم يقتلون قريشا وينهبونها؛ انتقاما لحريتهم وحياتهم، فلما عجزت قريش عن مقاومة هؤلاء السبعين، كتبوا إلى الرسول يسألونه بأرحامهم أن يئويهم فلا حاجة لقريش بهم!
فآواهم رسول الله فقدموا عليه المدينة واستراح منهم القرشيون.
وهذا خرق في المعاهدة لم يتكهن به سهيل بن عمرو، خلقته الحوادث وطبيعة الأشياء وحيلة فتقها ذهن الزمان وتمخض بها فكر المصادفة، وحل لم يخطر ببال عمر عندما غضب؛ لأنه رأى في النص إجحافا بحق المسلمين، وقد خلق أبو بصير وأصحابه قاعدة ثابتة؛ وهي أن كل من يستطيع من المسلمين الفارين أن يجعل نفسه مرغوبا عنه لدى قريش يدخل المدينة برجاء من قريش نفسها!
وها نحن نرى الحوادث قد أنتجت العدل في المعاهدة، فإنها نصت على التزام النبي برد من يفر إليه من مسلمي قريش، وليس على قريش أن تفعل مثل ذلك إذا فر إليها أحد من المدينة، وكان في هذا النص أكثر من عدم المساواة؛ لأن المنتظر أن يفر إلى المدينة أكثر ممن يفرون إلى مكة؛ لأن كل من جاء المدينة مهاجرا جاءها مختارا متشوقا؛ ليقيم، فلا ينتظر أن يعود إلى مكة، فجاء أبو بصير وأعاد ببأسه واستبساله الحق إلى نصابه، وصحح خيط الميزان وجعل أهل مكة يتوسلون إلى محمد بأرحامهم أن يكف عنهم أذى الهاربين الذين انقلبوا عليهم حربا.
وحدث بعد أن قتل أبو بصير الحارس القرشي منظر مضحك؛ وهو أن سهيل بن عمرو وهو المفاوض المعلوم كان شأنه شأن كل وزير يوقع على معاهدة؛ وهو التفاني في احترامها وتنفيذها (ما أشبه اليوم بالبارحة!) فجاء سهيل وأسند ظهره إلى الكعبة ثم قال: والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يودى هذا الرجل.
أي أن يلزم المسلمون بدية الحارس الذي قتله أبو بصير.
فقال أبو سفيان بن حرب: إن هذا لهو السفه! والله لا يودى. ثلاثا.
لقد تغالى سهيل وأعمته سياسة المحافظة على المعاهدة، وصدق نظر أبي سفيان؛ لأن محمدا تعهد برد الهارب ولم يتعهد بحماية حارسه.
سهيل بن عمرو
كان سهيل بن عمرو أحد أشراف قريش وعقلائهم وخطبائهم وسادتهم، وكان أعلم الشفة أي ولد مشقوقها، فلما أسر يوم بدر كافرا أشار عمر على رسول الله بنزع ثنيتيه؛ ليفسد منطقه فلا يقدر على الخطابة ضد النبي، فرفض الرسول رأي عمر، وأسلم سهيل في الفتح أي في اللحظة الأخيرة، وكان في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب لرسول الله بدنه والرسول ينحرها بيده، وهو الذي أبى على المسلمين ذكر الرحمن الرحيم ووصف محمد بأنه رسول الله، وقد شهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وهو معاند للمسلمين.
ولما توفي رسول الله ارتجت مكة لما رأت قريش من ارتداد العرب، واختفى عتاب بن أسيد الأموي أمير مكة للنبي، فقام سهيل بن عمرو خطيبا فقال: يا معشر قريش، لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد! والله إن هذا الدين ليمتدن امتداد الشمس والقمر من طلوعهما إلى غروبهما أيها القوم!
ومات سهيل في طاعون عمواس بالشام في خلافة عمر سنة ثمان عشرة.
غزوة خيبر
بعد الحديبية بشهر شرع الرسول في غزوة خيبر؛ ليطهر الأرض من اليهود، على شرط أن لا يخرج معه إلا من شهد الحديبية، وأن يكون غازيا متطوعا ليس له في الغنيمة، فخرج معه ألف وستمائة رجل، ونزل قوله تعالى في سورة «الفتح»:
سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا * بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا .
وتم المسير إلى خيبر سرا، وبينها وبين المدينة ثلاثة أيام، فرأى يهود خيبر المسلمين فجأة فقالوا: هذا محمد والجيش معه! لقد خربت خيبر! وكانت خيبر تنتظر هذا الغزو؛ فقد كان بعضهم يفكر في محاربة الرسول، والبعض الآخر يفكر في الانضمام إليه، وكان المسلمون قبل الغزو قد قتلوا اثنين من زعمائهم؛ وهما: سلام بن أبي الحقيق، واليسير بن رزام.
ولا نعلم إن كانت غطفان قد ساعدتهم أم أن جيش محمد حال بين الفريقين، ولم يكن أحدهما من القوة بحيث يطبقان عليه جميعا.
كانت خيبر أقوى اليهود بأسا وأوفرها مالا وأكثرها سلاحا، ووقفت جزيرة العرب تنظر إلى الموقعة الحاسمة بين الإسلام واليهودية، حتى إن قريشا كان منهم من يتراهنون على نتائج الموقعة.
وكانت خيبر مشهورة بالجبال والحصون، وقد تمرن أهلها على الحرب، وكان زعيمهم سلام بن مشكم، وكان عندهم جملة حصون؛ منها حصن الوطيح والسلالم للمال والعيال، وحصن ناعم للذخائر، وحصن نطاة للمقاتلة وأهل الحرب، وحول هذا الحصن الأخير حصلت الملحمة، فقتل زعيمهم سلام بن مشكم ومات من المسلمين خمسون، ومن اليهود مئات، وتولى الحارث بن أبي زينب زعامة اليهود بعد مقتل سلام بن مشكم، وخرج من حصن ناعم فرده الخزرج واستمات اليهود في القتال.
وذهب أبو بكر لفتح حصن ناعم فارتد ولم يفتح، وفي الغداة عجز عنه عمر، وفي ثالث يوم تمكن علي بن أبي طالب من فتحه بعد أن فقد ترسه واستعان بباب استعمله ترسا، وجعل الباب جسرا عبر عليه المسلمون إلى داخل الحصن، وقتل الحارث بن أبي زينب، واستولى المسلمون على حصن القموص وجاعوا فأكلوا لحم الخيل، ثم استولوا على حصن الصعب بن معاذ فوجدوا فيه طعاما وذخيرة.
وبقي مرحب اليهودي مسلحا يتغنى بأغنية القتال، فقتله محمد بن مسلمة في ثأر أخيه الذي قتل بالأمس.
أما حصن ابن الزبير فقد أتعب المسلمين ولم يفتحوه إلا بتعطيش أهله.
ووصل المسلمون إلى الوطيح والسلالم بعد أن استولوا على حصون الشق ونطاة وكتيبة، فطلب اليهود الصلح، فحقن النبي دماءهم، وسلمهم التوراة التي وجدت أثناء الغزو ولم يعتد عليها، وملك أرضهم بحق الفتح، وأعطاهم نصف الثمار مقابل عملهم، وقد رأى ذلك؛ لغنى أرض خيبر وحاجتها إلى اليد العاملة، وضنا بجيوشه والأنصار.
ولكن بعد أن فقد أهل خيبر سلطانهم السياسي ضعفت قوتهم المعنوية وانحط نشاطهم؛ فبارت زراعتهم بالرغم من حسن معاملة محمد
صلى الله عليه وسلم
ورسوله عبد الله بن رواحة في القسمة كل عام.
ودان للرسول أهل فدك وأهل وادي القرى؛ نتيجة لشهرة فوزه وانتصاره على خيبر، وكذلك دانت له يهود تيماء، بل دانت له الجزيرة من شمالها إلى جنوبها، وتهاون المسلمون في عودة بعض اليهود منكسرين إلى يثرب. ولما مات عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين من الغم والغيظ وقف النبي مع اليهود الذين بكوه! وعزى ابنه عبد الله.
وبالجملة لم يجد اليهود لهم عيشا في الجزيرة فتضعضعوا وهاجروا، ومن بقي بها منهم عاش ذليلا يدفع الجزية، ولكن نفوس بعضهم كانت خبيثة.
كان لسلام بن مشكم زعيم خيبر زوجة هي زينب بنت الحارث، فقدمت للرسول بعد الصلح بينه وبين أهل خيبر شاة مسمومة فجلس هو وأصحابه ليأكلوها فلفظها النبي وازدردها بشر بن البراء فمات، واعتذرت زينب بغيظها، فعرض عليها
صلى الله عليه وسلم
الزواج والإسلام، وقيل إنه قتلها ببشر. وقيل إنه عفا عنها.
وكانت صفية بنت حيي بن أخطب النضيرية زوج كنانة بن الربيع، وقد أخذت في السبايا فتزوجها الرسول مثل الفاتحين العظماء، وهي سيدة بني قريظة والنضير ولم تكن تصلح إلا له
صلى الله عليه وسلم .
وخشي أبو أيوب خالد الأنصاري أن تمثل دور يهوديت مع هلوفزن؛ لأن محمدا قتل أباها وزوجها وخرب قومها، فبات مسلحا حول الخيمة التي أعرس فيها الرسول بصفية في طريق عودته من خيبر، ولكن صفية كانت وفية لمحمد ومعجبة به فأخلصت له إلى أن مات، ولما حضرته الوفاة قالت : أما والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي. فتغامز أزواجه عليها! فقال لهن: والله إنها لصادقة.
الدعوة إلى الإسلام خارج الجزيرة العربية
بعد الحديبية انتهت الجزيرة كلها حربا أو صلحا، ففكر الرسول في البلاد الخارجية، فصنع خاتما من فضة نقش عليه: «محمد رسول الله» وأرسل الكتب إلى الملوك، فسار دحية بن خليفة الكلبي بكتابه إلى هرقل، وعبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية الصخري إلى النجاشي، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، وعمرو بن العاص إلى ملوك عمان، وسليط بن عمرو إلى اليمامة، والعلاء بن الحضرمي إلى ملوك البحرين، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث الغساني، والمهاجر بن أمية المخزومي إلى الحارث الحميري ملك اليمن.
ولما ترجم خطاب محمد
صلى الله عليه وسلم
إلى هرقل لم يغضب ورد ردا حسنا، وكان عامله الحارث الغساني أكثر تحمسا منه فأرسل يستأذنه في مقاتلة النبي، فهدأ هرقل من روعه وصرف نظرا عن تحمسه.
وكانت الفرس حديثة العهد بالهزيمة من هرقل، فلما وصل الخطاب إلى كسرى أرسل إلى عامله باليمن بازان أن يرسل إليه رأس محمد! ولكن بازان نفسه أسلم وبقي عاملا على اليمن من قبل الرسول؛ لأن كسرى مات وحل محله شيرويه ابنه، وضعفت حال الفرس ففضل بازان أن يبقى حيث هو تابعا للنبي العربي، وظن بازان أن هذا أمر بسيط مع أنه أعطى الإسلام قوة عظمى في جنوب الجزيرة.
أما المقوقس فقد أرسل امرأتين وركوبتين وهديتين من نفائس مصر. ورد النجاشي ردا جميلا، وأعاد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة ومعهم رملة أم حبيبة بنت أبي سفيان أرملة عبد الله بن جحش الذي تنصر وبقي نصرانيا إلى أن مات، وقد تزوجها النبي على ما قدمنا. وقد فرح النبي بلقاء جعفر بن أبي طالب عائدا من الحبشة مع المسلمين المهاجرين وبلقاء الرسل العائدين من الملوك العظام، على أن بعض أمراء العرب ردوا على كتب النبي إليهم ردا قبيحا، وبعضهم اشترط الملك لقبول الدعوة.
وعاد جميع رسل النبي ولم يقتل منهم أحد أو يسجن أو تلحقه إهانة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هؤلاء الملوك لم يتعاونوا على محاربة الرسول؛ لأن الزمن كان زمن أنانية ومادة وتفكك روابط بين الأمم والطوائف، وترف ونعومة في العيش، وغلبة للشهوات، وأصبحت الأديان رسوما وطقوسا، والنفوس تحب الخضوع لمن يحميها، ولذا فقد خاف هؤلاء الملوك سطوة النبي الجديد ولم يجدوا قوة في نفوسهم على مقاومته.
عمرة القضاء
مضى على صلح الحديبية عام وحل للمسلمين أن يذهبوا للحج، فسار الرسول ومعه ألفا رجل للحج ومائة فارس، ولكن الحجاج كانوا بغير سلاح سوى السيوف في قرابها والفرسان بعيدا عنهم، وانجلت قريش عن مكة؛ ليتركوها لمحمد
صلى الله عليه وسلم
وصحبه؛ غيظا منهم وتنفيذا لعهد الحديبية، ودخل الرسول مكة على ناقته القصوى يأخذ بخطامها عبد الله بن رواحة، وقد أحاط به كبار الصحابة وخلفهم الصفوف راكبة وراجلة، يا له من منظر فذ من مناظر التاريخ، فلما رأوا الكعبة قالوا: لبيك!
وأخذ القرشيون من أعلى الجبال ينظرون على هذا المنظر التاريخي والنبي يطوف بالكعبة مهرولا وماشيا وخلفه ألفان من الحجيج، وصرخ عبد الله بن رواحة: لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وخذل الأحزاب وحده! فدوى بها الوادي وارتفعت رهبتها إلى قلوب الذين تسنموا ذرى الجبال حوله.
وصلى المسلمون في المسجد العتيق وأذن بلال عليه الأوقات ثلاثة أيام، وظهر المسلمون بمظهر العفة؛ لا يشربون خمرا، ولا يأتون منكرا، ولا يغريهم الطعام ولا الشراب، ولا تفتنهم فتنة الحياة.
وقد اهتزت قلوب قريش وارتعدت فرائصهم وتزعزعت ثقتهم بأصنامهم وكادوا يقعون ليدخلوا في دينه ولكن الكبرياء منعتهم.
وفعلا هوى قلب ميمونة أخت أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب إلى الإسلام، فعرض العباس أمرها على محمد
صلى الله عليه وسلم
وهي خالة خالد بن الوليد، فقبل محمد وأصدقها 400 درهم، وجاء سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى من قبل قريش قبل آخر المهلة بثلاثة أيام يطلبان رحيله عن مكة، فعرض عليهما أن يبقى حتى يعرس بميمونة فرفضا، فلم يتردد في قبول رأيهما وخرج، وترك أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى بها، وهي آخر زوجاته عمرت بعده 50 سنة ودفنت حيث بنى بها كطلبها، وحمل محمد معه أختيها سلمى أرملة حمزة عمه وعمارة البكر التي لم تتزوج، وعاد محمد والمسلمون إلى المدينة وهم واثقون أن مكة قد دانت لهم.
أما خالد بن الوليد وهو بطل أحد فقد وقف في مكة بعد النسب الجديد يقول: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدا ليس بساحر ولا بشاعر وأن كلامه من رب العالمين؛ فحق على كل ذي لب أن يتبعه!
فقال له عكرمة بن أبي جهل: لقد صبأت يا خالد! فقال: لا والله أسلمت.
وحاول عكرمة أن يستفزه بأن محمدا وضع شرف أبيه حين جرح وقتل عمه وابن عمه ببدر، ولكن خالدا قال: هذا كلام الجاهلية، والله أسلمت!
وبعث خالد إلى النبي أفراسا وبإقراره بالإسلام وعرفانه بالدين الجديد ولم يخش أبا سفيان، ودار بينهما الحوار التالي:
أبو سفيان :
أحق ما بلغني عنك؟!
خالد :
إنه حق!
أبو سفيان :
واللات والعزى لو أعلم أن الذي تقول حق لبدأت بك قبل محمد (يعني هو يشك في إسلام خالد وإلا قتله) .
خالد :
فوالله إنه لحق على رغم من رغم.
فهجم عليه أبو سفيان في غضبه، فحجزه عكرمة وكان حاضرا، وخرج خالد من مكة إلى المدينة وانضم إلى صفوف المسلمين، وأسلم بعده عمرو بن العاص وعثمان بن طلحة فارس الكعبة وكثيرون من أهل مكة اتبعوا هؤلاء الأشراف.
غزوة مؤتة
حشد الكفار والروم مائة ألف رجل، بينما كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، وفي هذه الغزوة قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وكانت سنه إذ ذاك 33 سنة، وعبد الله بن رواحة، فكان موت هؤلاء الأبطال خسارة كبرى للإسلام، وكان المسلمون قبل الحرب يريدون العودة؛ لكثرة عدد جيش العدو، ولكن ابن رواحة هو الذي شجعهم بإيمانه.
وانتقلت الراية إلى ثابت بن أرقم ولكنه رفضها وقال: اتفقوا على رجل. فاختاروا خالد بن الوليد فقام بمناورات أوهم بها العدو وانسحب بانتظام بجيشه إلى المدينة، فاستقبلهم أهلها استقبالا سيئا وقالوا لهم: يا فرار فررتم في سبيل الله!
ولم ينتصر جيش العدو في هذه الغزوة.
وقد عطف الرسول على زوجات أبطاله الثلاثة وعلى أطفالهم وبكاهم بكاء مرا.
ثم أراد الرسول أن يعيد هيبة المسلمين في الشام فبعث عمرو بن العاص وأبا عبيدة بن الجراح، فصلى عمرو بالناس وتقدم بالجيش فشتت جموع أهل الشام الذين أرادوا محاربته وأعاد هيبة المسلمين في تلك الناحية.
عاد جيش المسلمين من مؤتة راضيا من الغنيمة بالإياب، مع أن خالدا كسر تسعة أسياف في الحرب بعد موت أصحابه الثلاثة، ولكن هذه المظاهرة رفعت شأن الإسلام؛ فأسلم بعض الزعماء والقبائل، وفضل فروة بن عمرو الجذامي أحد قواد جيش الروم أن يموت على أن يترك دينه الجديد.
أما العرب الذين اشتركوا مع هرقل في الشام في الحرب ضد المسلمين فلم يأخذوا مرتباتهم؛ لاضطراب المالية البيزنطية، فانصرفوا عنه وشموا رائحة الجاه والمال عند الزعيم الجديد، فاعتنق ألوف منهم الإسلام من قبائل سليم بقيادة العباس بن مرداس ومن أشجع وغطفان خلفاء اليهود سابقا، وقد يئسوا بعد سقوط خيبر، ومن عبس وذبيان وفزارة، فكانت مؤتة سببا في ازدياد قوة الإسلام، ولم يذهب دم الذين ماتوا فيها هدرا.
فتح مكة
علم الرسول أنه لن يستتب له أمر بالسكون، ولا بد من المحاربة المستمرة وتحمل التضحيات وإرهاب العدو، لقد كانت لموقعة مؤتة آثار مختلفة؛ فالروم رهبوا جانب المسلمين، والطوائف الأخرى من العرب الذين جاءوا معهم انقلبوا؛ لعدم دفع مرتباتهم، وقابل أهل المدينة خالدا وجيشه بالسخط، ودخلت قبائل كثيرة الإسلام، وظن القرشيون أن هذه الواقعة أضعفت قوة المسلمين من نفوسهم إثر عمرة القضاء، وكان من نتيجة ذلك أن ساعدت قريش بني بكر على خزاعة حلفاء النبي، وبذا نقضوا عهد الحديبية، ذلك أنه في السنة الثانية من صلح الحديبية ثار بنو بكر بن كنانة على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له الوتير يطلبونهم بدماء قديمة، فكانت قريش تمد بني بكر بالسلاح وتقاتل معهم خزاعة مستخفين بالليل حتى جاوزا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قال أبو بكر لزعيمهم نوفل: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك! إلهك! فقال نوفل كلمة عظيمة: لا إله له اليوم؛ يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟!
فلما تغلبت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين الرسول من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة وكانوا في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على الرسول المدينة؛ ليخبره بما فعلت قريش، وأنها نقضت عهد الحديبية الذي يوقف الحرب بين المسلمين والمشركين سنوات عشرا، فلما مثل الخزاعي بين يدي الرسول في المسجد روى له ما وقع من بني بكر ومن قريش، فقال رسول الله: نصرت يا عمرو بن سالم.
ولم تكتف خزاعة بإرسال عمرو بن سالم؛ بل بعثت بعثة بإمرة بديل بن ورقاء إلى المدينة، فأخبر الرسول بما أيد أقوال عمرو بن سالم ثم قفل وبعثته راجعا إلى مكة.
وعلم المكيون ببعثة عمرو بن سالم وبديل بن ورقاء، فدخلهم الرعب والقلق؛ لأنهم أخلفوا العهد ونقضوا محالفة الحديبية، فارتبكوا واضطربوا ولم يجدوا حلا لعقدتهم إلا أن يرسلوا أبا سفيان؛ وهو أكبر داهية عندهم؛ ليحاول حل المسألة بالاعتذار تحت ستار شد العهد وإطالة مدته، فقابل أبو سفيان في عسفان بديل بن ورقاء وأصحابه؛ فسأله إن كان قد لقي محمدا فأنكر بديل، ولكن أبا سفيان عاد إلى عادته القديمة وفحص بعر راحلته فوجد النوى وعرف أنه كان بالمدينة، فقدم على رسول الله المدينة ودخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش الرسول طوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟! قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس ولم أحب أن تجلس على فراش الرسول. قال وهو يحاول التشبه بأهل الخجل؛ لأنه ليس منهم: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر!
والله يعلم أن الشر أصابه هو ولم يصب بنيته التي أصابها الخير كله بزواجها من رسول الله، لم يكتف هذا الرجل بهذا الكسوف الذي لو أصاب الجبل لتصدع وخرج يقصد إلى الرسول فكلمه فلم يرد عليه شيئا، أليس أبو سفيان هذا هو الذي صرخ بأعلى صوته في موقعة أحد: «اعل هبل!» ها هو هبل قد علا، ولكنه علاك وركب قفاك وحط بكلكله على ظهرك فاحمله يا أبا سفيان إلى يوم القيامة، «اعل هبل!» إن محمدا قد مات وها أنت ترى بعينيك (قبل أن تفقأ إحداهما ) أن هبلا لم يعل، وأن سيدك ومولاك، أستغفر الله، بل سيد الكون، لم يمت، وأنه عاش وانتعش وفاز وانتصر إلى أن عفا عنك وعتق عنقك من النار يا سليل الأوثان وزعيم الشرار! ولعلك تفغر فاك وتتعثر في أذيالك وتتخبط في مشيتك عندما تسمع أن محمدا قد جعل من يدخل دارك آمنا، ولكن لا أحسب أن شعاعا من نور الحق قد وصل إلى قلبك، أو أن ذرة من ضمير حي تعمر قلبك، لقد أسلمت فرقا وجبنا وضعفا وأنت تضمر الكفر والبغضاء، وقد قبل المسلمون خضوعك سياسة وتأليفا كما أغدقوا عليك من الغنائم؛ ليملئوا عينك الفارغة وقلبك الظمآن للسلب ونفسك الجاهلية المتعطشة لخطف ما ليس لك بحق، فلم يرك أحد تتعفف ولا تقدم بين يدي الله شيئا يغفر الله لك به ما جنيته فيما مضى، إن الله ورسوله غنيان عن إسلام أمثالك.
النبي الذي لم يعرف عنه أنه ترك سؤالا بغير جواب لم يرد عليك شيئا، ثم ذهبت إلى أبي بكر فأبى أن يكلم رسول الله لك، أتدري ماذا كان يريد أبو سفيان من هذه المساعي الخائبة في عاصمة الإسلام في السنة الثامنة للهجرة؟
لقد بعثته قريش كما قدمنا إلى الرسول؛ ليشد عهد الحديبية ويزيد في مدته مع أن العقد لما يقطع سنتين من السنوات العشر المنصوص عليها في صلبه؛ وذلك لأن قريشا غدرت ونقضت المعاهدة على ما فيها من الضيم للمسلمين والغبن عليهم والنفع لقريش، فرهبت قريش الذي صنعت وأرادت أن تسبر غور المسلمين وتمتحنهم، فأرسلت هذا العتل العتيق في الكفر والطغيان؛ ليعجم عودهم بحيلة شد العهد وزيادة مدته وهو لعشر سنوات لم يمض منها سوى اثنتين! فلما أصابه الفشل في بيت بنته وهي إحدى زوجات الرسول وبين يدي الرسول نفسه الذي كظم غيظه عندما رآه ولم ينبس ببنت شفة، وعند أبي بكر الذي أذاقه أبو سفيان الأمرين خلال ثلاث عشرة سنة وأرسل في أثر النبي وأثره جواسيس يقتلونهما؛ لينالا جائزة مالية كما لو كانا عدوي الشعب المكي عدد 1 وعدد 2 ... ذهب بصفاقته المعهودة إلى عمر فقال أبو حفص الشجاع العادل: أأنا أشفع لكم إلى الرسول؟! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
وسيدي عمر هذا هو الذي أجاب أبا سفيان يوم أحد من أعلى الجبل أن محمدا لم يمت وأن أبا بكر لم يمت وأن عمر لم يمت، فمت أنت بغيظك وسنلقاكم في العام المقبل. فكانت وقعة الخندق التي مزق الله فيها شمل المشركين بقيادة هذا الرجل نفسه، والفضل يرجع إلى فطانة رسول الله ومشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق، وترك أعداءنا يتلوون تلوي الأفاعي من الجوع والبرد وتفرق الكلمة بين القبائل المتألبة على الإسلام.
صفع أبو سفيان على وجهه من عمر فجرر أثقاله إلى علي وعنده فاطمة وابنهما الحسن بن علي فتذلل الشيخ الخبيث (حينئذ؛ لأنه أسلم بعد ذلك والسيف على عنقه وعنق المرأة هند أنثاه آكلة الأكباد) وكان يعرف كيف يتذلل؛ لأن الكرامة بريئة منه، فقال لعلي بن أبي طالب وهو أحد ضحاياه قبل الإسلام وضحية ولده معاوية، وكما سوف يكون الحسين ضحية حفيده يزيد (زاده الله عذابا) تذلل الرجل وقال لعلي: إنك أمس القوم بي رحما (؟!) وإني قد جئت في حاجة فاشفع لي إلى رسول الله: فقال علي: ويحك يا أبا سفيان! فالتفت إلى فاطمة متوسلا وقال في ذلة الشيخ الخرف: هل لك أن تأمري بنيك هذا (الحسن) فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟! فقالت: والله ما بلغ ابني أن يجير الناس! فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس. كل ذلك الهوان لينجو بجلده النجس (كما وصفته ابنته أم حبيبة)، وخوفا على دمه المهراق، ولك أن تتخيل كيف قابله الناس في المسجد وكيف تقبلوا استجارته واستشفاعه، وركب بعيره وانطلق في طريقه إلى مكة ولعله تذكر عودته من أحد ظافرا منذ خمس سنين وهو يحسب إذ ذاك أنه قضى على المهاجرين والأنصار وقتل الإسلام في مهده، فما كان أذله هذه المرة وأحقره وأوجده وأضعفه، لقد سرته السنة الخامسة للهجرة فساءته الثامنة أضعاف ذلك، لقد سر في الحرب وساءه الله في السلم وأذله حتى التمس جوار طفل يحبو، وحتى زعم في عمى الوجل والاضطراب أن عليا أمس القوم به رحما، ونسي أن أمس القوم به رحما حقا وهي ابنته من صلبه أم حبيبة قد خذلته وطردته من بيتها، وكانت امرأة ذات فضل وعقل مسموعة الكلمة عند النبي، وقد هاجرت الهجرتين وجهزها النجاشي لرسول الله وزوجها منه وأحبها الرسول لإخلاصها وعلمها ومكانتها، وهي التي أنقذت موقف المسلمين في الحديبية وأسدت إليهم النصح بأن يحلقوا شعورهم ويطيعوا الله ورسوله فعملوا بنصحها.
وإني لا أنكر أن هذا البيت الأموي قد حبته الطبيعة بأفراد من ذوي الرأي الراجح وفي مقدمته هذه الفضلى، ولكن عنادهم في الشرك وقسوتهم في المعاداة وجحود قلوبهم وعجزهم عن تصديق الصادقين ذهبت بفضائل العقل وحسن التدبير، فلم ينالوا من الدنيا شيئا إلا اختلاسا وغدرا، وإنك لتجد من في قلوبهم مرض يزخرفون القول ويدسون عليك شظايا اليقين بقولهم: ألا تعجب بهذا التمسك بالمبدأ حتى ولو كان باطلا؟ ألا ترى قوة الخلق والإرادة متجليتين في أبي سفيان وهند، فلما أسلما حسن إسلامهما؟! ألم يكونوا سراة البلد وأحق الناس بالاحتفاظ بالعقيدة والتقاليد؟! إلخ.
هؤلاء لا كلام يقنعهم؛ لأنهم أمويون وسفيانيون قلبا وقالبا! أترى أبا سفيان أعظم من أبي بكر ومن عمر بن الخطاب ومن عبد الرحمن بن عوف ومن العشرة المبشرين بالجنة؟! إن أبا سفيان لم يتمسك إلا بمطامعه وشهواته وأمواله وجاهه ، لا بعقيدته ولا تقاليد قومه، نعم إن هندا فقدت أعز الناس عليها في بدر ولم يبق لها إلا زوجها، ولكن ما ذنب المسلمين وقد كان قومها أئمة الشرك وقادة كفار قريش، وما ذنب المسلمين وقد كانوا ثلاثماية وأهل مكة ألف رجل فأراد الله أن ينصر الفئة القليلة على الفئة الكبيرة، وماذا تقول هند في أن قومها الذين ندبتهم ولطمت خديها عليهم وشقت ثيابها حزنا لمصابهم مذ انقلبوا في القليب، أخرجوا المسلمين من ديارهم وقتلوا وعذبوا وسجنوا وقيدوا من قدروا عليه من رجال ونساء ثم تآمروا على قتل النبي؟! أهذه كلها تنسى لأن المسلمين فقراء، وتذكر تلك المرأة ما أصاب قومها في بدر؟! ألم تكن بدر موقعة حرب بين صناديد قريش الذين يلبسون جلود النمور وبين ضعفاء الإسلام الذين كانوا حفاة وعراة وجائعين حين انتصروا على الأقوياء الطاعمين الكاسين المنتعلين المسلحين بخير الأسلحة؟!
هذا هو أبو سفيان الذي ما زالت مكة محتفظة بداره.
أخذ محمد
صلى الله عليه وسلم
يستعد ليأخذ قريشا على حين غرة، وأرسل حاطب بن أبي بلتعة خطابا مع امرأة اسمها سارة إلى قريش يخبرهم باستعداد النبي، فأدركها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وأخذا منها الخطاب.
وكان حاطب ممن شهدوا بدرا، فأشار عمر بن الخطاب بقتله، ولكن النبي سأله في رفق، فقال: أصانعهم لأجل ولدي وأهلي الذين بين أظهرهم.
فنزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ... .
وقال محمد: لقد غفر الله لأهل بدر ما شاءوا. •••
في رمضان خرج الرسول يريد فتح مكة جزاء بما غدر القرشيون، وقد عاد أبو سفيان وهو يعلم أن رسول الله ينتظر هذا اليوم الذي هيأه الله، فإنه بعد أن وصل مكة على بعيره قالوا: ما وراءك يا أبا سفيان؟ فقص عليهم ما جرى، فقالوا: ذلك لا يغني شيئا. قال: ما وجدت غير ذلك. فأعلن فشله وأشهر خيبته بعد أن أظهر الله جبنه وذله في المدينة التي كان يود أن يدخلها منذ بضع سنين فاتحا مرتين فلم يوفق في الأولى وانكب على منخاره في الثانية.
وعندما علم بنو هاشم بقرب محمد من مكة فرحوا ليسلموا؛ وهم: العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه - عليه الصلاة والسلام - وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عمة الرسول، فرفض الرسول لقاء أبي سفيان وعبد الله عندما حضرا إليه بنبق العقاب؛ لأنهما كانا قد آذياه في مكة، ولكن أبا سفيان هدد بالهيام على وجهه هو وابنه حتى يموتا عطشا وجوعا؛ فرق له الرسول
صلى الله عليه وسلم .
والمشاهد في أخلاقه - عليه الصلاة والسلام - دائما أنه كان يقسو في أول الأمر مع العدل ثم يلين، وكان هذا دأبه في أشد المواقف، فكان قلبه يرق دائما بعد أن يصدر العقل حكمه، فصفة الرحمة والشفقة كانت أظهر صفاته حتى على أشد أعدائه وخصومه.
أما العباس فقد لعب دورا مهما؛ وهو أنه بعد أن زار الجيش الإسلامي عاد إلى مكة وأدخل في قلوب المكيين الرعب.
وبلغ المسلمون مر الظهران على بعد أربعة فراسخ من مكة، وكاد المكيون يؤخذون على غرة، ولكن محمدا
صلى الله عليه وسلم
أراد أن يدخل وطنه بدون إهراق دماء.
وأرسلت قريش ثلاثة يتجسسون الأخبار وعند اللزوم يكونون سفراء؛ وهم: أبو سفيان الخصم الألد وكنيته أبو حنظلة، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حكيم قريب خديجة وصهر النبي، وعثر العباس على أبي سفيان فاستغاث به وقال: لله فداك أبي وأمي يا أبا الفضل! ما الحيلة؟ فقال له العباس: والله لئن ظفر الرسول بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة أصل بك إلى رسول الله فأستأمنه لك. حتى بلغا مقر عمر بن الخطاب، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله؟! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج عمر يشتد نحو الرسول وقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه، رضي الله عنك يا سيدي عمر؛ لقد أثلجت صدور المسلمين بهذه العزيمة.
فقال العباس: إني قد أجرته يا رسول الله.
فقال الرسول: يا عباس، اذهب به إلى رحلك؛ فإذا أصبحت فأتني به.
كيف قضى أبو سفيان هذه الليلة؟ إنه يدري ولا يدري، يدري مكانة العباس عند رسول الله وهو ابن أخيه، ولا يدري إن كان صوت عمر ورأيه ينفذان عند محمد
صلى الله عليه وسلم
فيصبح مقطوع العنق، انظر إليه وهو بعد هذا كله لا يسلم ولا يبالي ولا يعترف بهزيمته، وغن لي أغاني قوة الإرادة والتمسك بالعقيدة، بل إنهم ليلتهم النيران في جوفه؛ ليغذي أتون البغضاء والحقد على النبي، وإنه في ليلته ليرى الرؤى المزعجة ويذكر نمارق هند وعناقها تلك الحجمرش الدردبيس من عجائز قريش التي لم تستح أن تنشد أناشيد الغرام في ميدان أحد؛ إغراء وترغيبا، وإنه ليرى في صحوه أو في غفوته سقوط هبل كأنه ينحط من أعلى الجبل فيدق عنق عابده ثم يقع وقعة لا قيام بعدها ووراءه بقية الأصنام التي لا نفع في ذكرها، وتداس بالأقدام وتجعل عتبات للمساجد ويطأها الناس في دخولهم إلى الصلاة وخروجهم منها، فتنهار آمال الشيخ التعس الذي تفرق بيته بين الإيمان والكفر، بين الإسلام والشرك، فإنه بينا كان أبو سفيان أسير حرب قد وضع رأسه في فم الأسد؛ طمعا في النجاة بجوار العباس؛ فقد كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو قد جمعوا حثالة الناس بالخندمة أحد جبال مكة، ومن هذه الحثالة حماس بن قيس من بني بكر بن كنانة حلفاء قريش، ولكن حديث هؤلاء الناس يخرج عن نطاق هذا الموضوع ونحن هنا لا نتكلم إلا عن أبي سفيان وتفصيل نجاته من القتل وإسلامه رهبة لا رغبة، ورعبا لا حبا، وخوفا لا شوقا، وخداعا لا اقتناعا، ونفاقا لا اتفاقا، فإنه بعد أن قضى هذه الليلة في رحل العباس؛ رجاء أن يهديه الله ليسلم من تلقاء نفسه أو ليراجع ضميره المظلم قبل أن يجبر ويرغم، عاد به العباس إلى الرسول فلما رآه قال له: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ فقال المشرك الهرم: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد!
فاعتبر النبي هذه الكلمة تسليما بالتوحيد، فقال الرسول: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا!
انظر تمسك هذا الرجل بالباطل وسماحة رسول الله ! فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك! فشهد (حيال هذا التهديد) شهادة الحق فأسلم (أكتب بين قوسين: مكرها) وأمن رسول الله داره؛ إجابة لالتماس عمه العباس.
فلما ذهب أبو سفيان لينصرف قال الرسول: احبسه يا عباس بمضيق الوادي عند خطم الجبل؛ حتى تمر به جنود الله فيراها. قال فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حتى مر رسول الله في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. فقال مشرك الصبح مغرما ومسلم الضحى مرغما: سبحان الله يا عباس! من هؤلاء؟ (وهو يعرفهم كأبنائه؛ وهل يخفى القمر؟!) قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة (الحمد لله، يقولها كاتب هذه السطور لا الجحود أبو سفيان) والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة لا الملك. قال: فنعم إذن. قلت: النجاة إلى قومك. فلما جاءهم يهز عجيزته ويهرول رعبا ويتيه فخارا للشرف الذي ناله، صرخ بأعلى صوته، لم يقل: «اعل هبل» في هذه المرة، بل قال: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به.
وأذاع فيهم ما جعل له الرسول فخرا، فتطرق أهل مكة إلى دورهم وإلى المسجد آمنين كالأرانب والسنانير والذئاب والثعالب التي فرت من قسورة، دخلت هذه الحشرات إلى أوكارها من هيبة ذلك الذي اضطهدوه وعذبوه وسبوه وضربوه وشجوا رأسه!
اسمع إلى قول هذا الذي أسلم: لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! ولم يقل: «رسول الله»، وهو الذي استجار بعمه وببغلته البيضاء التي أردفه عليها العباس؛ ليمرق به في الظلام إلى خيمة الرسول، فجازت الحيلة إلا على عمر بن الخطاب، هذه الكلمة: «ملك ابن أخيك» قد أورثها ولده معاوية الذي لم يكن في قلبه من الإيمان بقدر ما كان فيه من حب السلطان والطغيان! «ملك ابن أخيك» نزلت في صلب معاوية إلى بطون أولاده وأحفاده فأشعلتها غيرة وحسدا وطمعا فتهافتوا على العرش والصولجان ولم يكن للنبي ولا لخلفائه الأربعة شيء منهما.
ولم يخلص أبو سفيان للإسلام وإن كان اشترك في بعض حروبه؛ فإنه فرح باضطراب صفوف المسلمين في حنين وظن في لحظات أنه يعود إلى مجده القديم! ولكن الله خذله؛ لأنه بدأ في تخذيل المسلمين ولم تملأ عينه الثانية كل الغنائم التي رمى الرسول بها إليه كما ترمى الرمة إلى ... الجائع النهم!
لنترك هذا الشيخ الطموح في انطفائه ونحوس كوكبه الكفري، وصعود النجم المحمدي في أجواز الفلك.
ولننظر ما صنع الرسول بعد فتح مكة والأمن الشامل الذي نشر لواءه؛ فقد ضربت له قبة في أعلى مكة، وكان قد جاءها من واد قريب عند مر الظهران، فجاء البيت الحرام فطاف به سبعا طواف القدوم على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، ولما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ومحا صور الشرك من جدرانها وقال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ فقالوا: خيرا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فكان العفو الشامل الذي تلا التأمين والتطمين، ورد مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة قائلا: اليوم يوم بر ووفاء.
أترى قد قنع المكيون؟ كلا! لقد أراد المجرم السخيف فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أن يغتال رسول الله وهو يطوف بالبيت في يوم هذا الفتح والعفو، فلما دنا منه قال الرسول: أفضالة؟ قال: نعم؛ فضالة يا رسول الله. قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء؛ كنت أذكر الله عز وجل! فضحك النبي ثم قال: استغفر الله. وقد عصمه الله من يد هذا القاتل الذميم كما عصمه من جميع الناس في الحرب والسلم.
وخاف الأنصار أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
يقيم في مكة بعد الفتح وسمع همسهم فقال: معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم!
وأذن بلال على الكعبة، وما يزال الأذان ينطلق خمس مرات منذ ألف وثلاثماية وخمسين عاما.
واستثنى الرسول سبعة عشر من أهل مكة من عفوه العام وأمر بقتلهم وهم: عبد الله بن أبي السماح، الذي أسلم وكتب الوحي ثم ارتد، وزعم أنه كان يزيف الوحي حين يكتبه (وهذا دليل قاطع على أن محمدا كان أميا)، وعبد الله بن خطل الذي أسلم وارتد وقتل مولاه ثم أمر جاريتين بالغناء بهجو النبي، وعكرمة بن أبي جهل وهو من أشد أعداء النبي، وهند آكلة الأكباد، وصفوان بن أمية، والحويرث الذي أغرى على زينب بنت محمد حين رجوعها من مكة إلى المدينة، ورجلين كانا قد أسلما ثم ارتكبا قتلا في المدينة ثم ارتدا عن الإسلام وفرا إلى مكة، وقينة ابن خطل التي كانت تؤذي النبي بغنائها.
ولكن النبي عاد وعفا عن هؤلاء جميعا ولم يأمر إلا بقتل أربعة منهم. وأراد الرسول أن يؤكد حرمة مكة والبيت الحرام فخطب: يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد فيها شجرا، لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة؛ غضبا على أهلها ثم رجعت كحرمتها بالأمس. وكانت خزاعة قد عثرت على رجل من هذيل مشرك فقتلوه، فغضب النبي ثم ودى القتيل.
فدهش أهل مكة من عفوه
صلى الله عليه وسلم
وسماحه ودفاعه عن حرمة مكة، فدخلوا في الإسلام أفواجا:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .
ثم أمر النبي بتحطيم أصنام المنازل، وأحضر أبو بكر أباه الأعمى فأسلم بين يدي الرسول، وأسلمت قريش وبايعته وأقام بمكة أسبوعين، وحدث أن قتل خالد بن الوليد رجالا من بني خزيمة بعد أن وضعوا سلاحهم، وعلم الرسول بذلك، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.
ثم بعث إليهم علي بن أبي طالب بالدية والترضية .
ومحا الرسول كل وظائف مكة الجاهلية فيما عدا السدانة وجعلها لعثمان بن طلحة، والسقاية وجعلها لعمه العباس.
ثم أرسل الرسول يجمع الزكاة من القبائل؛ لأن الدولة الناشئة تحتاج إلى المال، فلم يشذ في ذلك إلا قليل خضعوا بعد ذلك.
حنين والطائف
تقع هوازن جنوب مكة في جبال، وقد خشيت بعد فتح مكة أن يهجم محمد على جبالها ويقضي على استقلالها بعد أن قضى على كل قوة في الجزيرة وأخضعها للإسلام وحكم الله، فجمع مالك بن عوف النضري هوازن وثقيفا ونضرا وجشما، رجالا ونساء وبعيرا وإبلا وأغناما وخيلا إلخ.
وأشار دريد بن الصمة (زعيم جشم) برأي خالفه مالك، ولكن الناس تبعوا رأي مالك، فأمر بالتربص عند قمم حنين، وعند مضيق الوادي، ورسم لهم الخطة الآتية: إذا نزل المسلمون واديه فليشدوا عليهم شدة رجل واحد فيختلط حابلهم بنابلهم ويهزموا. وخرج المسلمون من مكة في اثني عشر ألف، وبينهم أبو سفيان بن حرب تلمع درعهم وترفرف عليهم الأعلام، والإبل تحمل الميرة والذخيرة، ولم تعرف العرب مثل هذا الجيش من قبل وقالوا: لن نغلب؛ لكثرتنا!
وركب محمد في المؤخرة على بغلة بيضاء، وسار خالد بن الوليد على رأس بني سليم في المقدمة.
وانحدروا من مضيق حنين في وادي تهامة فشدت قبائل مالك بالنبال وهم في عماية الفجر، فاختلط المسلمون وعادوا منهزمين وفزعوا، واغتبط أبو سفيان وقال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر.
وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: اليوم أدرك ثأري من محمد ، وكان أبوه قد قتل في أحد.
وقال كلدة بن حنبل: ألا بطل السحر اليوم!
وارتدت القبائل منهزمة تمر بالنبي، أيضيع جهاد اثني عشر عاما في دقائق؟! وأحاط به قوم من أهله والمهاجرين والأنصار وهو يرد الناس ويقول: أين أيها الناس؟! أين في عماية الفجر؟!
ولكن الناس من هول الفزع لا يسمعون لشيء، وكانت هوازن وثقيف تنحدران بقيادة رجل على جمل أحمر بيده راية سوداء ورمح يطعن به الناس، فتحمس النبي وأراد أن يخوض غمار المنايا على بغلته، ولكن أبا سفيان بن الحارث حال دون ذلك.
وصرخ العباس بصور جهوري: يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، إن محمدا حي فهلموا! وحصلت معجزة وتذكروا وقوف محمد في أحد في وجه الأعداء فقالوا: لبيك لبيك! وارتدوا إلى المعركة مستبسلين.
وعادت الطمأنينة إلى النبي ورأى حمو المعركة فقال: الآن حمي الوطيس! إن الله لا يخلف رسوله وعده. وأخذ حفنة من الحصى ألقى بها في وجوه العدو قائلا: شاهت الوجوه.
وانهزمت هوازن وثقيف وتركوا وراءهم غنيمة مهولة، وهي التي ساقها مالك رغم إرادة دريد بن الصمة، فأخذ المسلمون النساء والأطفال والغنم، وجعل للأسرى معسكرا في الجعرانة وكان عددهم 6 آلاف، وقتل دريد بن الصمة شر قتل بيد رجل كان دريد أنقذ أمه وجدته!
أما مالك بن عوف فقد فر إلى الطائف فاحتمى بها.
ونزل قوله تعالى:
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين .
وفقد المسلمون رجالا كثيرين؛ نحو قبيلتين.
وحاصر النبي الطائف؛ ليوقع بمالك بن عوف، كما حاصر خيبر بعد أحد، وحاصر قريظة بعد الخندق، وتذكر التجاءه إلى الطائف.
كانت الطائف مدينة غنية قوية ولها أبواب تقفل مثل كل المدن في الجزيرة وفي القرون الوسطى، فعقد النبي مجلسا في مكان بعيد عن مرمى النبل، وأسس مسجدا، وأخذ يبحث مع أصحابه في الخطط ، فقال أحد المسلمين: إنما ثقيف في حصنها كالثعلب في جحره لا سبيل إلى إخراجه منه إلا بطول المكث؛ فإن تركته لم يلحقك منه ضر.
وطلب النبي من بني دوس استعمال الدبابات والمنجنيق بعد أربعة أيام من حصار الطائف وحضرت العدة ولكن لم يفلحوا.
فشرع في إحراق النخل وقطع الكروم وهي ثروة عظيمة، فاسترحموه وقالوا: خذ الكروم لك ولا تقطعها، وبعد ذلك، وبعد الحصار شهرا رفع الحصار؛ لبداية الأشهر الحرم، وعاد إلى مكة، وفي طريقه عرج على معسكر الجعرانة؛ ليقتسم غنائم هوازن ، وجاء وفد من هوازن يستعطفونه ويذكرونه بأنه نشأ بينهم، وكانت بين السبايا امرأة تخطت الكهولة عنف عليها الجند فقالت: «تعلموا، والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة!» فجاءوا بها النبي فإذا هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى فأدناها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه ومتعها وردها إلى قومها.
لقد كان شأن محمد مع كل من أسدى إليه يوما من الدهر يدا أن يعطف عليه ويجيبه إلى مطلبه، كان عرفان الجميل بعض شأنه والبر بكليم القلب في جبلته، وردت نساء هوازن وأبناؤها إليها بعد أن أعلنت إسلامها؛ وذلك لأن وفد هوازن جاء محمدا وذكره بنشأته بينهم.
وعلم محمد من وفد هوازن أن مالك بن عوف في ثقيف، فأمر بتبليغه أنه إذا أتى مسلما رد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل، ففر مالك من الطائف ونال هذا العطاء، وأجزل محمد العطاء من نصيبه في الغنائم إلى الذين كانوا إلى أيام غير بعيدة أشد الناس عداوة له؛ نصيبا على نصيبهم، فأعطى مائة من الإبل لمعاوية وأبي سفيان وعليم بن الحارث بن كلدة وسهيل بن عمرو وسائر الأشراف وزعماء العشائر، وخمسين لمن أقل منهم؛ وهكذا، وكان «يقطع لسان» الطامعين بالعطايا وقضاء الحاجات مثل: عباس بن مرداس.
وغضب الأنصار وقالوا: «لقي والله رسول الله قومه.» فبلغها سعد بن عبادة فجمعهم وقال: أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك! أوجدتم يا معشر الأنصار في العلالة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؛ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
فبكوا وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا!
وكذا أظهر النبي رغبته عن هذا المال الذي غنم في حنين والذي بلغ ما لم يبلغ فيء من قبل، أظهر رغبته عنه وجعله وسيلة يتألف بها قلوب الذين كانوا إلى أسابيع قليلة مشركين؛ ليروا في الدين الجديد سعادة الدنيا والآخرة.
وخرج محمد من الجعرانة إلى مكة، فلما قضى عمرته ترك بها عتاب بن أسيد على أم القرى، ومعاذ بن جبل ليفقه الناس في دينهم ويعلمهم القرآن، وعاد هو والأنصار والمهاجرون قافلين إلى المدينة.
وبدأ الشعراء الذين كانوا يهجونه يأتون إليه، والقبائل تقدم طاعتها.
وكان عدي بن حاتم الطائي المسيحي الشهير بالكرم عدوا للنبي ففر إلى الشام بعد أن سمع انتصاره، وذهب المسلمون وهدموا صنم طيء واحتملوا الغنائم والسبايا وبينها بنت حاتم، فلما مر بها النبي محبوسة قالت له: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الرافد، فامنن علي من الله عليك! فأعرض عنها لما علم أن رافدها عدي بن حاتم، ولكنها راجعته وذكر ما كان لأبيها من الكرم في الجاهلية، فأمر بتسريحها وكساها كسوة حسنة وأعطاها نفقتها وحملها مع أول ركب قاصد إلى الشام، فلما لقيت أخاها وأخبرته عاد إلى الإسلام وتاب.
حملة تبوك1
آخر غزوات رسول الله
في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة الموافق النصف الأخير من أكتوبر وصدر نوفمبر سنة 630م دعا النبي
صلى الله عليه وسلم
لمهاجمة البيزنطيين في تبوك.
2
وسبب الدعوة إلى تلك الحملة ما رواه ابن سعد من أن بعض تجار النبطيين نقلوا إلى النبي أن البيزنطيين (الروم) قد جمعوا قوة كبيرة من الجند واتحد معهم الأعراب من أربع قبائل معادية للإسلام؛ هي: لخم، وجذام، وغسان، وعاملة ، وأن هرقل دفع لجنده مرتبات سنة سلفا.
وفي رواية أخرى أن سبب ذلك أن متنصرة العرب كتبوا إلى هرقل أن هذا الرجل الذي قد خرج يدعي النبوة هلك وأصابت أصحابه سنون أهلكت أحوالهم، فأرسل بجنده؛ لينتهزوا فرصة فشلهم، فيقضي على دولة الإسلام قبل استفحالها.
ويظهر أن النبأ كان مبالغا فيه، ويظهر أيضا أن الدعوة إلى هذه الحملة لم تصادف كل الإقبال الواجب؛ لأسباب طبيعية واقتصادية.
فأولا صادفت الدعوة زمن عسر وأزمة في الناس وجدبا في البلاد، وصادفت وقتا طابت فيه الثمار وجني المحصول الزراعي، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على تلك الحال إلى مكان بعيد مثل تبوك والدعوة إلى الحرب على المتحضرين مثل الأنصار صعبة على النفس في كل مكان وزمان، خصوصا وأنهم لم يشعروا بخطر مداهم أو هجوم محقق من الأعداء فاستبعدوا الشقة.
وكانت عادة رسول الله في الدعوة إلى الغزوات أن يلمح إليها ويكني بها، ولكنه في غزوة تبوك صرح بالدعوة، ومن تصريحه أنه لقي الجد بن قيس أحد بني سلمة فقال له: يا جد! هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟
الجد: يا رسول الله، أوتأذن لي ولا تفتني؟! فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر! فأعرض عنه رسول الله؛ لاعتذاره بعذر أقبح من ذنبه ثم قال له: قد أذنت لك!
ثم إن رسول الله أخذ في الجهاز وجد فيه وحض أهل الغنى على النفقة والاكتتاب في سبيل الله، فحمل رجال من الأغنياء واحتسبوا، فجاء أبو بكر بجميع ماله، وجاء عمر بنصف ماله، وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن، فكان أسرع المكتتبين أبو بكر، وأكرمهم عثمان، وأعدلهم عمر.
وتبرع عثمان بما لم يتبرع بمثله أحد، فقدم ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها، وألف دينار عينا، فقال النبي: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم.» ودعا له بخير، وبجانب المنعمين وأرباب «المصالح الحقيقية» ودعاة الهزيمة الذين كانوا يتمحلون الأعذار بسبب قرب موسم المحصول أو بسبب الحر كالذين نزلت فيهم آية:
وقالوا لا تنفروا في الحر ، كان جماعة من المجاهدين في سبيل الله ورسوله لا يملكون غير إيمانهم وحميتهم؛ وهم سبعة رجال من فقهاء الصحابة، فجاءوا يبكون إلى رسول الله ويسألونه وأعينهم تفيض من الدمع؛ حزنا، أن يحملهم معه، فاعتذر لهم: لا أجد ما أحملكم عليه.
وقد أحصى المؤرخون هؤلاء البكائين وذكروا سبعة منهم.
ثم بدأت تظهر ألوان من المعذرين لأسباب مختلفة وعددهم اثنان وثمانون رجلا، فلم يعذرهم رسول الله.
وقد تخلف نفر من المسلمين غير المشكوك في إسلامهم؛ منهم: (1)
كعب بن مالك. (2)
هلال بن أمية. (3)
مرارة بن الربيع. (4)
أبو خيثمة السلمي. (5)
أبو ذر الغفاري.
ثم لحقه أبو خيثمة وأبو ذر فلم يكن تخلفهما إلا مؤقتا.
أما كعب بن مالك؛ فقد كان من أعيان الأنصار، وقد شهد بيعة العقبة، ولم يشهد بدرا ولا تبوك، ولما قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المدينة آخى بينه وبين طلحة بن عبيد الله حين آخى بين المهاجرين والأنصار.
أما بدر فلم يعاتب رسول الله فيها أحدا، وقد تخلف كعب للسرعة، وقيل إن عذر كعب في التخلف عن تبوك كان شدة الحر، وقد نزلت فيه وفي رفيقيه المتخلفين مرارة وهلال آية:
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت .
ولا ننسى أن كعبا أبلى في أحد بلاء حسنا ولبس يومها لأمة النبي وكانت صفراء، ولبس النبي لأمته؛ فجرح كعب يوم أحد أحد عشر جرحا، وكان كفار قريش يحسبونه رسول الله؛ لمقاربة الشبه بينهما، فلا يمكن اتهامه بالجبن أو النفاق، وقد سبقت له مجاهدة بسيفه وروحه، كما أنه كان أحد شعراء النبي الثلاثة؛ وهم: (1)
حسان بن ثابت، وكان يقبل على الأنساب. (2)
كعب بن مالك، وكان في قصائده يخوفهم الحرب. (3)
عبد الله بن رواحة، وكان يعيرهم بالكفر.
وكان كعب يقول: «ولعمري إن أشهر مشاهد رسول الله في الناس لبدر، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة؛ حيث توافقنا على الإسلام.» وظاهر من نفسية هذا الأنصاري الشاعر أنه كان يفخر بالعقبة، ولا يأسف على بدر (ص248، ج4، أسد الغابة).
أما هلال بن أمية؛ فهو الأنصاري الواقفي، شهد بدرا وأحدا، وكان قديم الإسلام، وكان يكسر أصنام بني واقف، وكانت معه رايتهم يوم الفتح، وأمه أنيسة بنت هدم أخت كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه النبي لما قدم المدينة مهاجرا.
أما مرارة بن الربيع فقد كان من الأنصار وشهد بدرا.
وأخيرا المتخلفان النادمان؛ وهما: أبو خيثمة، وأبو ذر.
أما أبو خيثمة فقد رجع إلى أهله بعد أن سار رسول الله أياما، وكان يوم رجوعه حارا، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه (بيته) وقد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له ماء، وهيأت له طعاما، فلما دخل الرجل وقف بباب العريش ونظر إلى امرأتيه وما صنعتا فقال: رسول الله في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء؟! ما هذا بالنصف! والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله! فهيئا لي زادا.
ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل تبوك، فلما لقيه أخبره بما وقع له، فقال له الرسول: خيرا!
ودعا له بخير.
فهذا رجل تنبه ضميره عندما رأى الراحة والدعة والنعيم وأصلح خطأه، فما أغرب المقارنة بينه وبين الجد بن قيس الذي اعتذر بعدم صبره إذا رأى نساء بني الأصفر، وهو لم يرهن! واعتذر بشدة شهوته وقوة ذكورته (العفو).
أما أبو خيثمة فقد كان مقبلا على النعيم والراحة وعلى زوجتيه في وقت القيظ والتعب والقيلولة. وبضدها تتميز الأشياء والنفوس.
وقد استحق الجد أن تنزل في حقه آية:
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني
وكان هذا الرجل سيد بني ساعدة، وكان مشهورا بالبخل الشديد، ومات في خلافة عثمان.
أما أبو ذر فسبب تخلفه أن بعيره تلوم عليه، فلما أبطأ لم يبال به وأخذ متاعه على ظهره، كما يفعل جنود المشاة في عصرنا الحاضر، وخرج يتبع رسول الله ماشيا ، فلما أقبل على معسكر النبي وتبينوه قال الرسول: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده! (ص186، ج5، أسد الغابة.)
ولم يكن رسول الله متشددا على المتخلفين بعد أن دعا للحملة؛ فكان إذا تخلف رجل فيقولون للرسول: تخلف فلان! فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراد حكم الله منه.
ولما خرج رسول الله من المدينة استخلف عليها محمد بن مسلمة الأنصاري وخلف على أهله علي بن أبي طالب.
فتألم علي لذلك فقال له النبي: خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي؟ فرجع علي إلى المدينة.
ولأجل أن تعلم مقدار ما كان يقاسيه رسول الله من لؤم المنافقين والنمامين، نشير إلى أن عتاب علي لم يكن من تلقاء نفسه؛ بل كان لأن المنافقين أرجفوا وقالوا: ما خلف النبي ابن عمه وصهره إلا استثقالا وتخفيفا منه!
وكان علي سليم النية بسيط القلب فصدق وشاية المنافقين، وأراد أن يتحقق بنفسه مبلغ هذا النبأ من الصدق، فأخذ سلاحه وخرج حتى لحق بالنبي وهو نازل بالجرف وقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني؛ لأنك استثقلتني وتخففت مني؟!
فأجابه: كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟!
فرجع علي إلى المدينة كما قد قدمنا، ولم يتخلف علي في مشهد من مشاهد الرسول إلا في هذه الغزوة.
أما عدد جيش الرسول في هذه الحملة، وهي آخر مشاهده في الجهاد ضد العدو الأجنبي وضد الاستعمار البيزنطي، فكان ثلاثين ألفا من الناس والخيل؛ عشرة آلاف فارس بقيادة خالد بن الوليد قائد الفرسان الذي لعب الدور المشهور في واقعة أحد، ثم خدم الإسلام في فتوحه أجل خدمة.
وكان النبي بعث إلى مكة وقبائل العرب؛ ليستنفرهم.
أما نظام الجيش فكان:
القيادة العليا للنبي
صلى الله عليه وسلم .
اللواء الأعظم لأبي بكر .
رايته
صلى الله عليه وسلم
العظمى للزبير.
راية الأوس لأسيد بن حضير.
راية الخزرج للحباب بن المنذر.
قيادة الفرسان لخالد بن الوليد كما قدمنا.
واستعمل الرسول على حرس العسكر عباد بن بشر.
وكان حزب المنافقين في المدينة قويا، ولكن عبد الله بن أبي رأس المنافقين لم يتحرك في هذه المرة، وقد كان أعقل من أن يعيد تمثيل الدور الذي مثله في أحد، وإن كان بعض المؤرخين صنع أسطورة تعيد إلى الأذهان ما سبق له من خيانة وغدر، ولعله اشتغل من وراء الستار، ولكن جماعة المنافقين - وكان معظمهم من اليهود - التفوا حول رجل منهم اسمه سويلم واتخذوا بيته وكرا لاجتماعات سرية؛ للتدبير ضد النبي فعاقبه النبي بعد ذلك بإحراق بيت المؤامرة، فهلك في الحريق منهم من هلك.
ومن طريق الدعاية العدائية التي قام بها المنافقون أنهم قالوا للمجاهدين؛ إرجافا وترهيبا: أتحسبون جلاد بني الأصفر (الرومان) كقتال العرب بعضهم لبعض؟! والله لكأنكم غدا مقرنين في الحبال!
فأرسل الرسول أحد رجاله يعنفهم ويكذبهم فأتوا الرسول يعتذرون وقال أحدهم؛ وهو وديعة بن ثابت: كنا نخوض ونلعب! •••
ترجع أهمية حملة تبوك إلى خمسة أمور: (1)
أنها حملة ضد العدو الأجنبي. (2)
أنها بعيدة الشقة. (3)
كانت تحت قيادة النبي نفسه. (4)
أنه استنفد فيها جميع الوسائل، فبذل كل ما كان يملك هو وأصحابه الأقربون. (5)
كانت آخر غزواته
صلى الله عليه وسلم .
المرور بآثار ثمود
ولما بلغت الحملة آثار ثمود الذين ورد ذكرهم في القرآن في مواطن عدة، أصدر النبي أمره لجيشه فقال: لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له.
ولما مر رسول الله بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال: لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم.
فقام رجل فيه روح السياحة وحب الاستطلاع وزيارة الآثار وقال: نعجب منهم يا رسول الله!
فأجابه: ألا أنبئكم بما هو أعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم! استقيموا وسددوا، فإن الله - عز وجل - لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا.
وظاهر أن الرسول أمر جنوده بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه.
ويريد مرغليوث أن يقلل من شأن هذه الحادثة ويشكك في خبر ثمود فيزعم (ص420) أن بعض المكتشفين حققوا أن ما ظنه النبي آثار بيوت إنما كان قبورا! ولكنه لم يجرؤ أن يذكر أسماء هؤلاء المكتشفين، ولم يقل لنا: إن كانت هذه الآثار سواء كانت بيوتا أو قبورا لثمود أو لغير ثمود، فزعمه باطل وحجته ضائعة، ولا يبعد أن تكون الديار التي مضى على خرابها مئات السنين أشبه شيء بالقبور، أو على الأقل لا يمكن تمييزها عن القبور، وهذه ديار قدماء المصريين وقبورهم في أرض مصر متشابهة.
وقد أصاب رسول الله في الجمع بين حكمة الجهاد وموعظة أمته لدى مرورهم بآثار ثمود البائدة.
وليس في كلام مرغليوث ما يدعو إلى تصديقه. •••
وعلى الرغم من تكبد المشاق وحشد الجيش وتكليف النفقات لم تقع مقاتلة بتبوك، ولم يلتق جيش الرسول بجيش الروم، ولا حصل فيها غنيمة! ولما بلغ النبي تبوك أقام فيها بضع عشرة ليلة
3
ولم يجاوزها، واستشار في مجاوزتها أصحابه فقال عمر: إن كنت أمرت بالسير، فسر!
فقال رسول الله: لو أمرت بالسير لم أستشركم فيه!
فأجاب عمر: إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا، وأفزعهم دنوك، فلو رجعنا هذه السنة حتى نرى، أو يحدث الله أمرا.
فانصرف النبي قافلا إلى المدينة.
معاهدات صلح
حضر للنبي وهو بتبوك يوحنا بن رباح صاحب أيلة؛ وهي بلدة على رأس خليج العقبة، وصحبته أهل جرباء إحدى قرى الشام وأهل أذرح؛ وهي مدينة تلقاء السراة وأهل مكناء.
وأهدى يوحنا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
بغلة بيضاء، فكساه الرسول بردا وصالحه على إعطاء الجزية، فكتب له رسول الله عهدا يعد وثيقة حماية من العدو الخارجي نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد النبي
صلى الله عليه وسلم
لأهل أذرح وجرباء أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين.
ومن نصوص معاهدة يوحنا بن رباح أيضا: هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة؛ سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا؛ فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يردونه من بر أو بحر.
وفي البلاذري أن الجزية كانت ثلاثمائة دينار على كل إنسان، وهو يعادل أربعين قرشا بمالنا.
وعلى هذه الجزية نفسها صالح أهل البلد الأخرى، أما أهل مكناء فقد صالحهم الرسول على ربع ثمارهم؛ لأنهم يهود، وهم بنو حبيب، وأعطاهم ميثاق أمن وحماية وقد جعل الجزية شاملة نتاج نخيلهم ومصايد أسماكهم ومناسجهم، وللنبي حق في رقيقهم وخيلهم وأسلحتهم.
وربع الإيراد يعادل عشرة أمثال ما كان يدفعه المسلم زكاة.
وأهم ما يلفت نظرنا في هذه الحوادث أن خضوع أهل أيلة على خليج العقبة مهد السبيل لفتوح مصر، وكان هذا من نتائج حملة تبوك التي فضحت المنافقين.
أسر أكيدر بن عبد الملك
بعث رسول الله خالد بن الوليد على رأس كوكبة من الفرسان عددها أربعمائة وعشرون رجلا إلى أكيدر بن عبد الملك الكندي النصراني ملك دومة الجندل التي ورد ذكرها في التوراة، وكان النبي يعلم شغف هذا الملك بصيد البقر، فأوصى خالدا بانتهاز فرصة خروجه للصيد، ولقيه خالد بفرسانه في ليلة مقمرة يصيد ومعه أخوه ونفر من أهل بيته، فأسره خالد وقتل أخاه؛ لأنه قاوم وأراد حربا، ولكن الملك لم يقاوم، وفتح خالد دومة الجندل، وغنم قباء القتيل وهو من ديباج مخوص بالذهب، وأقبل خالد على الرسول بالملك فحقن دمه وأكرم مثواه وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته، وقد اجتمع أكيدر مع يوحنا عند النبي، ونال أكيدر وثيقة حماية وأمن لقاء الجزية من بعير وغنم وسلاح.
مسجد الضرار
إن مسجد الضرار الذي ورد ذكره في سورة براءة بناه اثنا عشر رجلا (وهو كعدد المتآمرين على قتل الرسول ليلة الهجرة، ولعلها مصادفة)، انفرد بذكرهم ابن إسحاق؛ وهم: خذام بن خالد وهو صاحب الفكرة وفي بيته دبروها، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف، وجارية بن عامر، ومجمع بن جارية، وزيد بن جارية؛ ولدا جارية بن عامر، ونبتل بن الحارث، ويحزج من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، ومعظم هؤلاء من بني ضبيعة، وبعضهم من بني أمية.
وكان للمسلمين من المدينة إلى تبوك أربعة عشر مسجدا، فلم يكونوا بحاجة إلى هذا المسجد الذي وصفه المؤرخون بأنه مسجد الشقاق، وقد كان الغرض منه سياسيا؛ وهو جعله نواة لحزب يناوئ النبي.
وقد بنوه قبل حملة تبوك، وجاءوا للنبي يسألونه أن يفتتحه بالصلاة فيه، وأعلنوا غايتهم من بنائه؛ وهي غاية بريئة في ظاهرها؛ قالوا: يا رسول الله، بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه!
فاعتذر قائلا: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه.
فلما عاد من الحملة ونزل بذي أوان؛ وهي محطة قبل المدينة بساعة، دعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه واحرقاه.
فأخذ مالك بن الدخشم سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم دخل هو وصاحبه المسجد وفيه أهله فأحرقاه وهدماه ففر المنافقون الذين بنوه.
وكانت غاية هؤلاء المتآمرين - وكلهم من الأنصار - أن ينفذوا خطة قيل إن الذي رسمها لهم أبو عامر الناسك أو الفاسق حافر الحفرات في أحد، أو رجل على شاكلته، وهي أن يدعوا أن المسجد ملجأ خير وضيافة ودار عبادة ، وفي الوقت نفسه يملئونه بالعدة والسلاح فيجعلونه قلعة سرية، وأن أبا عامر يستعدي قيصرا ملك الروم على النبي فيأتي بجند يلجئون إلى المسجد خفية ثم يعلنون الحرب على محمد وصحبه فيخرجونه من المدينة.
وبعد هذا كله يأتي مرغليوث العالم المؤرخ ويدافع عن مسجد الضرار ويأسف على هدمه ويعجب لمسلك النبي ويدعي أن سبب هدمه غامض! مع أن مرغليوث نفسه يقرر (ص424) أن أبا عامر فر بعد غزوة حنين إلى إمبراطور بيزنطة مستنجدا به على النبي.
ويدعي مرغليوث بكهانة أن المسجد لم يكن فيه سر، وأن أصحابه دعوا النبي؛ ليصلي لهم فيه، وأن إمامه «مجمع» كان مشهورا؛ لاجتهاده في جمع القرآن، وقد غضب عمر على مجمع هذا، واستمر غضبه إلى أن صار خليفة، فاعتذر له مجمع بصغر سنه مذ كان إماما لمسجد الضرار وأن بناته جعلوه إماما؛ لحفظه القرآن! فقبل عمر عذره وعفا عنه!
وهل يخفى على رجل كمرغليوث أن مسجد الضرار كان جامعا للصلاة في الظاهر، ومركزا لجمعية سرية إجرامية في الحقيقة، وملجأ لحزب أبي عامر الناسك الفاسق؟!
مؤامرة على قتله صلى الله عليه وسلم
عند انصراف النبي من تبوك اجتمع رأي من كانوا معه من المنافقين وهم اثنا عشر رجلا على أن ينكثوا به في العقبة التي بين تبوك والمدينة فقالوا: إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي.
ويقول المؤرخون: إن الله أعلم رسوله بسر المؤامرة. ويقول مرغليوث: إن جواسيسه هم الذين أخبروه! ويستنتج أن هذه المؤامرة دليل انتقاض المسلمين على النبي، وفاته أن اثني عشر مجرما من المنافقين لا يحسبون شيئا بجانب ثلاثين ألف مسلم، وقيام فوضوي أو جمعية فوضوية بالمؤامرة على ملك في عصرنا الحاضر يعد جريمة فردية ولا يعد انتقاضا على الملك والدولة، فانظر إلى تعصب هذا الرجل واختلاقه!
فلما وصل الجيش العقبة نادى منادي الرسول: «إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد، واسلكوا بطن الوادي؛ فإنه أسهل لكم وأوسع.» فسلك الناس بطن الوادي وسلك الرسول العقبة.
فلما سمع المتآمرون بذلك استعدوا وتلثموا وسلكوا العقبة، فأمر الرسول عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوق من خلفه.
فسمع النبي صوت المتآمرين وقد غشوه فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه، فغضب وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع إليهم وجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجنه وقال لهم: إليكم إليكم يا أعداء الله!
فولوا مدبرين، وانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي واختلطوا بالناس، فقال له النبي: هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم؟
حذيفة :
لا؛ كان القوم ملثمين والليلة مظلمة، وقد عرفت راحلة فلان وراحلة فلان.
النبي :
هل علمت ما كان من شأنهم وما أرادوه؟
حذيفة :
لا.
النبي :
إنهم مكروا ليسيروا معي في العقبة فيزحموني فيطرحوني منها، سأخبركما بهم واكتماهم.
وفي الصباح جاءه أسيد بن حضير وقال: يا رسول الله، ما منعك البارحة من سلوك الوادي؛ فقد كان أسهل من سلوك العقبة؟
فذكر له القصة، فقال أسيد: قد نزل الناس واجتمعوا، فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي هم بهذا، فإن أحببت بين بأسمائهم، والذي بعثك بالحق لا أبرح حتى آتيك برءوسهم.
فأجاب النبي هذا الجواب العظيم الشأن: إني أكره أن يقول الناس إن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم!
أسيد :
يا رسول الله، هؤلاء ليسوا بأصحاب!
النبي :
أليس يظهرون الشهادة؟!
ولم يكتف النبي بهذا؛ بل جمع المتآمرين سرا وأخبرهم بما قالوه وأجمعوا عليه، فحلفوا بالله ما قالوا ولا أرادوا الذي ذكر، فأنزل الله تعالى:
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر .
وأسر النبي إلى حذيفة أحد حارسيه ليلة المؤامرة بأنه لا يصلي على فلان وفلان، فلما توفي الرسول كان عمر إذا مات الرجل ممن يظن أنه من أولئك الرهط المتآمرين، أخذ بيد حذيفة فقاده إلى الصلاة عليه؛ فإن مشى معه حذيفة صلى عليه عمر، وإن انتزع يده من يده ترك الصلاة عليه.
أشخاص المتآمرين
أما المتآمرون عليه
صلى الله عليه وسلم
فهم: عبد الله بن أبي رأس المنافقين وسعد بن أبي سرح، وأبي خاطر الأعرابي، وأبو عامر الفاسق، والحلاس بن سويد بن الصامت، وقد نسب إليه أنه قال: لا ننتهي حتى نرمي محمدا من العقبة الليلة، وإن كان محمد وأصحابه خيرا منا إنا إذن لغنم وهو الراعي ولا عقل لنا وهو العاقل!
ومن المتآمرين أيضا مجمع بن حارثة، ومليح التيمي وهو الذي سرق طيب الكعبة وارتد عن الإسلام وانطلق محاربا في الأرض فلا يدري أين يذهب، وحصن بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه، ولما قبض عليه قال له الرسول: ويحك! ما حملك على هذا؟!
فقال: حملني عليه أني ظننت أن الله لا يطلعك عليه، فأما إذا أطلعك عليه وعلمت؛ فأنا أشهد اليوم أنك رسول الله وأني لم أؤمن بك قط قبل هذه الساعة!
فأقال رسول الله عثرته وعفا عنه، وهذا الجواب هو صورة طبق الأصل من جواب اليهودية التي دست السم لرسول الله وصحبه في كتف الشاة المشوية، وهي كانت صادقة ومخلصة، وفي الشعب اليهودي مثيلات لها في التضحية في سبيل الوطن والدين ممزوجة بالذكاء والصراحة مثل يهوديت وربيكا وراحيل وغيرهن، أما حصن بن نمير فكان كاذبا ومنافقا وظن أن هذا الجواب يرضي النبي، ولكن النبي كان صبورا على المنافقين ويأخذ بالظاهر ويترك سرائرهم لله.
أما بقية المتآمرين فهم طعيمة بن أبيرق، وعبد الله بن عيينة وهو الذي قال: اسهروا هذه الليلة تسلموا الدهر كله، فوالله ما لكم أمر دون أن تقتلوا هذا الرجل! فقال له رسول الله: ويحك! ما كان ينفعك من قتلي لو أني قتلت؟!
فقال: فوالله يا رسول الله لا نزال بخير ما أعطاك الله النصر على عدوك، إنما نحن بالله وبك!
وأخيرا مرة بن الربيع وهو الذي قال: نقتل الواحد الفرد فيكون الناس عامة بقتله مطمئنين.
فقال له الرسول: ويحك! ما حملك على أن تقول الذي قلت؟!
فقال: إن كنت قلت شيئا من ذلك إنك لعالم به، وما قلت شيئا من ذلك!
وقد قيل إنهم أربعة عشر. ولعلهم عشرة فقط؛ فإن عبد الله بن أبي رأس المنافقين تخلف عن تبوك، وسعد بن أبي سرح لم يسلم البتة، وأبو عامر الذي كان مع الكافرين في أحد لم يسلم، وسماه رسول الله أبا عامر الفاسق، وكان بعد أحد خرج إلى الشام فمات طريدا وحيدا، أو إنهم اثنا عشر ولم يعرف اسم اثنين أو ثلاثة منهم، فدس بينهم اسمان أو ثلاثة من أسماء مشاهير المنافقين.
وقد سبق أن هؤلاء المتآمرين لم يعرفهم أحد حتى عمر بن الخطاب نفسه، سوى حذيفة الذي سمي صاحب السر الذي لا يعرفه سواه، فلعل هذه المواجهة والتحقيق حصلت سرا، وإن كان النبي عرفهم فلا بد أن يسألهم، وقد تعود العظماء بعد حبوط المؤامرات لاغتيالهم أن يجروا تحقيقا سريا؛ لمعرفة المشتركين في المؤامرة.
نصوص قرآنية عن تبوك
إن معظم سورة براءة خاص بحملة تبوك والمنافقين، ومن أهم ما فيها نص على بعد المسافة وشقة الحملة:
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون .
والإشارة إلى اعتذار جد بن قيس وإلى شدة الحر.
وذكر العبرة بثمود:
كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا .
ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات .
وفيها إشارة إلى مسجد الضرار وغاية المنافقين من بنائه؛ ليكون مركزا للدعاية ضد النبي والتآمر عليه:
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين * أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم .
وفيها أيضا إشارة إلى المتآمرين على قتل الرسول في العقبة.
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .
وكان حذيفة وحده يعلم بهم، ولذا سموه صاحب السر.
ومن أمهات آيات سورة براءة قوله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .
وهي من أروع التنزيل الحكيم.
وجدير بكل عاقل أن يتدبر ما جاء في تلك السورة من الآيات المحكمة. وقد لاحظ بعض المفسرين وبعض النقاد أن أسلوب السور المكية يختلف عن أسلوب السورة المدنية، ويصفون القرآن المكي بالشدة والجبروت والقرآن المدني باللين والهوادة لحكمة التشريع، ولكن سورة البراءة؛ وهي مدنية، لا تقل قوة وروعة عن أقوى السور المكية؛ مما يدل على أن مصدر القرآن واحد، وأسلوبه واحد، وأن الاختلاف في الشدة واللين راجع إلى ظروف الوحي ومناسبات التنزيل.
العودة من تبوك
ولما دنا رسول الله من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا، فقال رسول الله لأصحابه: لا تكلموا رجلا منهم ولا تجالسوهم حتى آذن لكم، فأعرض عنهم هو والمسلمون.
أما المنافقون فجعلوا يحلفون ويعتذرون، فقبل رسول الله علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله واستغفر إلى الله.
أما الثلاثة المتخلفون وأولهم كعب؛ فقد لقيه الرسول بابتسامة الغضب وقال له: ما خلفك؟!
كعب: والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، ولو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، والله ما كان من عذر.
فقال الرسول: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك.
وقال مرارة وهلال قول كعب.
فمكثا في بيوتهما يبكيان، أما كعب فكان يشهد الصلاة مع المسلمين ويطوف بالأسواق فلا يكلمه أحد.
وبعبارة حديثة أمر الرسول الناس بمقاطعتهم، وبعد أربعين يوما من المقاطعة أمر الرسول ثلاثتهم بعدم قرب نسائهم فأطاعوا، وقضوا عشرة أيام في هذا الحرمان.
وفي تمام الخمسين دعا رسول الله كعبا وقال وهو يبرق وجهه من السرور، وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر: أبشر بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك أمك!
ونزلت آية:
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم .
وآية:
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم .
فقال له كعب بن مالك الخزرجي: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله.
فقال الرسول له: أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك.
تشريع اللعان وإعفاء الزوج القاتل من العقوبة إذا رأى زوجه متلبسة بجريمة الزنا
لما قدم النبي من تبوك، وكان عويمر العجلاني من رجال الحملة، فتوجه عويمر إلى داره فوجد امرأته حبلى، ومن المؤكد أن المرأة الحامل في ثلاثة أشهر تبدو لزوجها فيعرف حملها من علامات كثيرة أهمها «الوحم» فلا تحتاج للبحث في كيف عرف عويمر حمل زوجته، وهذه المرأة كانت خويلة بنت قيس ابنة عم زوجها عويمر.
أما شريكها في الجريمة فهو شريك بن سحماء ابن عم الزوج، فالمسألة عائلية محض، وتهمة عويمر أنه ضبطهما متلبسين، وفي كتب السير تعبير أوضح، ولا حياء في العلم؛ لأن هذه الحادثة كانت سببا في تشريع اللعان، وقال الزوج: إنني ما قربتها منذ أربعة أشهر، ومن هنا استنتجنا أن حملة تبوك استغرقت هذه المدة.
ويظهر أن المرأة خويلة لم تفرط في نفسها؛ لطول فراقها عن زوجها، وهي أقصى مدة تصبر فيها المرأة على البعد عن الرجال كما حققه عمر بن الخطاب عندما أراد تحديد المدة التي يغيبها الجندي بعيدا عن داره، وقد حدد الشرع أربعة أشهر لعدة الأرمل التي يتوفى عنها زوجها أي زادها شهرا عن عدة المطلقة.
فاستدعى رسول الله الزوجة المتهمة وحقق معها وقال لها: اتقي الله ولا تخبريني إلا بما صنعت.
خويلة: يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور، وإنه يأتي وشريكا (المتهم معها وهو الشريك!) يطيل السهر ويتحدث (أي معها) فحملته الغيرة على أن قال ما قال.
فاستدعى رسول الله شريكا، فكان دفاعه كدفاع المرأة، أي إنهما أنكرا التهمة، فأنزل الله آية اللعان:
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ...
الآية .
فأمر الرسول أن ينادى بالصلاة جامعة، فلما صلى العصر واجتمع الناس قال الرسول لعويمر: قم. فقام وقال: أشهد بالله أن خولة زانية، وإني لمن الصادقين.
وكررها خمس مرات، وفي الثانية ذكر ما رآه بعينه، وفي الثالثة أنها حملت من غيره، وفي الرابعة أنه ليس مفتريا عيها، وفي الخامسة لعن نفسه إن كان كاذبا.
وقامت خولة ونفت التهمة عن نفسها بخمس صيغ تعادل ما قاله زوجها.
وجاء في بعض السير أنها في الخامسة تلكأت ونكصت؛ لأن النبي قال لها: إن اللعنة موجبة لعذاب الآخرة، وعذاب الدنيا أهون.
فقالت: والله لا أفضح قومي سائر الأيام!
وقالت الخامسة.
ففرق رسول الله بينهما.
وفي هذه النقطة يقول الإمام الشافعي: إن الفرقة تحصل بين الزوجين بنفس التلاعن أي لا يستطيع الزوج بعده أن يطلقها ولا يحتاج إلى ذلك؛ لأن الرسول قال: لا سبيل لك عليها.
فالطلاق يقع بالقانون؛ أي من تلقاء نفسه، وهو ما يسميه الشراح الإفرنج بقوة القانون أو بحق القانون
de plein droit ، وظن بعض الفقهاء أن عويمرا طلق زوجته ثلاثا، وهذا خطأ.
وقال النبي: إن جاء الولد على صفة كذا فعويمر صادق، وإن جاء على صفة كذا فعويمر كاذب. فجاء الولد على الصفة التي تصدق عويمرا فنسب إلى أمه.
حق القتل والإعفاء من العقوبة
جاء في البخاري أن عويمرا أتى عاصم بن عدي شيخ قبيلته وسيد بني عجلان فقال له: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فيقتلونه؟ أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله.
وذلك الحوار حدث قبل ظهور جريمة الزنا، مما يدل على أن عويمرا كان يشك في امرأته وكان يتأهب للانتقام ويريد أن يعرف مركزه القانوني من ناحية العقوبة.
فتوجه عاصم إلى رسول الله وسأله، فغضب النبي؛ لأنه كان يكره المسألة التي لا يحتاج إليها؛ أي التي لم تكن وقعت، لا سيما إن كان فيها هتك ستر مسلم أو مسلمة.
وبعبارة أخرى: إن النبي لم يكن يستحسن التشريع إلا للضرورة وعند الحاجة، وهذا هو نفس الخطة التي تسلكها الحكومات الحديثة في التشريع؛ فإنها لا تضيف نصوصا جديدة إلا لمواجهة أحوال طارئة.
ثم إن سعد بن عبادة قال للنبي: يا رسول الله، أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا؛ أيقتله؟
فقال: لا.
فقال سعد: بلى! والذي أكرمك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف من غير صفح!
فقال رسول الله: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم! إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني.
وفي هذا رأي النبي صريح، بعد أن حل القرآن المسألة حلا مدنيا باللعان، ووجه النبي السؤال نفسه إلى أبي بكر فقال: كنت فاعلا به شرا!
وقال عمر: كنت والله قاتله.
فهذا الإجماع من النبي وخليفتيه ورجل يعد سيد قومه دليل على أن القانون الإسلامي يبيح للزوج المغدور أن يقتل غريمه.
ولكن لما وقت الحادثة لعويمر جاء رسول الله وقال له: يا رسول الله، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا إن تكلم جلدتموه (أي عقابا على القذف في حق المحصنة)، وإن قتله قتلتموه (أي على افتراض عدم إباحة القاتل بسبب القتل)، أو سكت سكت على غيظ؟!
فقال رسول الله: اللهم افتح. وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان.
فاشتكى عويمر زوجته، وتم ما تقدم.
أثر تبوك
لقد كان أثر تبوك عظيما جدا في جميع القبائل؛ لأن ارتداد الروم ورجوع النبي بغير حرب أظهر هيبته
صلى الله عليه وسلم
في قلوبهم، والروم كانوا قد غلبوا الفرس فأصبحوا منفردين بالسلطة في العالم، فأخافهم محمد، وإذن فهو أعظم منهم.
وكان من أثر حملة تبوك أيضا أن أسلم أهل اليمن، ومال العرب إلى الإسلام، كما أسلم عروة بن مسعود أحد سادة ثقيف؛ وهو أحد مفاوضي قريش في الحديبية، وعاد عروة يدعو إلى الإسلام في ثقيف فرفضوا وقتلوه وهو يؤذن، ثم خافوا فجاء وفد منهم يطلب الصلح بقيادة عبد ياليل وطلبوا إبقاء اللات سنة أو شهرا! فرفض النبي، فطلبوا إعفاءهم من الصلاة! فرفض أيضا.
ثم صارت الوفود تترى إلى المدينة، وحج أبو بكر بالناس.
وفي حجة الوداع ألقى الرسول خطبة الوداع.
مرض النبي صلى الله عليه وسلم ولحوقه بالرفيق الأعلى
قبل مرض الرسول وبعد الانتصارات العظيمة المتتالية قام بعض السخفاء يدعون النبوة؛ ففي نجد قام طليحة زعيم بني أسد وأحد أشاوس العرب في الحرب، وزعم أنه نبي! وأيد ذلك بإدلال قومه على مكان ماء، ولكن لم يجاهر بذلك أثناء حياة النبي، فهزمه خالد بن الوليد في ثورته فتاب وعاد إلى الإسلام. وادعى مسيلمة النبوة وظهر كذبه.
وادعى الأسود العنسي النبوة وظهر كذبه أيضا، وكان يدعي السحر، ودعا لنفسه خفية واستفحل أمره، وطرد عمال النبي في اليمن وتقدم إلى نجران وقتل ابن بدهان ووارث عرشه واغتصب زوجته ونشر سلطانه فتألبت اليمن بأمر النبي عليه، وقتلته زوجته؛ انتقاما منه لقتله زوجها الأول ابن بدهان.
وبعد حجة الوداع تذكر النبي
صلى الله عليه وسلم
أن العدو القوي هو من الشمال أي الرومان والإمبراطورية المسيحية، وقد حاربهم خالد في مؤتة ولكنه انسحب، فجرد هو عليهم حملة تبوك فانسحب الروم كما تقدم، فجهز الجيش الثالث نحوهم.
وأمر فيه بالمهاجرين الأولين أبي بكر وعمر وأمر على الجيش أسامة بن زيد بن حارثة بالرغم من صغر سنه؛ إذ كانت سنه إذ ذاك حوالي عشرين سنة، ومع ذلك فقد خضع له أبو بكر وعمر، والحقيقة أن محمدا أراد أن يكافئ أسرة زيد بن حارثة الذي استشهد في موقعة مؤتة ورسم له خطة الحرب والنصر ومفاجأة العدو وسرعة العمل والمباغتة.
وخرج الجيش إلى الجرف على مقربة من المدينة يتجهزون ، وفي تلك الأثناء مرض النبي
صلى الله عليه وسلم .
والملاحظ أنه لم يسبق للنبي أن مرض، اللهم إلا فقد الشهية أو حاجة إلى احتجام، فحياته
صلى الله عليه وسلم
كانت طاهرة؛ تقية وعفة وزهدا واعتدالا وتقشفا وسموا عن عبث الأهواء ورفعة إنسانية واتصالا دائما بالحياة العليا في أعظم الصور وأدق الأسرار، وهذا يمنع المرض، وإذن كان هذا التوعك دليلا على النهاية في نظر أصدقائه الذين رأوا أنه أتم الدين.
أما المصاعب التي عاناها الرسول في عشرين عاما؛ فهي: العنت والظلم والإهانة وهجرة أصحابه الأول إلى الحبشة والنفي إلى شعاب مكة عند مقاطعة قريش إياه ودعوة ثقيف وما جرى فيها، ومشاجرات الطريق، وفراره إلى الغار والهجرة إلى المدينة، والغزوات (بدر وأحد وحنين وغيرها)، ووفاة أهله؛ أبيه وأمه وجده وعمه وزوجته وأولاده وبناته ما عدا فاطمة، وشدة نزول الوحي؛ قال - عليه الصلاة والسلام: «شيبتني هود وأخواتها.»
وآلام النفس ومخاوف الحياة مع شدة الأمل في الله سبحانه وتعالى.
وقد أرق الرسول في أول مرضه وأخذ معه غلامه أبا مويهبة، وخرج إلى بقيع الغرقد وقال مخاطبا أهل القبور: السلام عليكم يا أهل المقابر! ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى.
ثم قال لخادمه: «لقد اخترت لقاء ربي!»
وقد أخر مرض النبي جيش أسامة بن زيد بن حارثة.
والبعض يظن أن بعض المسلمين تذمروا من قيادة أسامة لجيش فيه أبو بكر وعمر!
ولا يستغرب شعوره
صلى الله عليه وسلم
بدنو أجله وحديث أهل المقابر؛ فقد نادى - عليه الصلاة والسلام - من قبل أهل القليب، ولما اشتدت الحمى على الرسول، خرج إلى المسجد، وأوصى المهاجرين بالأنصار، وأمر أبا بكر بأن يصلي بالناس.
وتحدث إلى فاطمة وبشرها بأنها أول من سيلحق به عند الرفيق الأعلى، وشرع يملي كتابا للمسلمين لا يضلون بعده.
وعاد أسامة بن زيد بن حارثة وجيشه إلى المدينة.
وقد عولج الرسول بوصفة حبشية جاءت بها أم سلمة فعاد وخرج صباحا إلى المسجد فاغتبط المسلمون بذلك، ولكنه عاد فاشتدت عليه الحمى، فمات
صلى الله عليه وسلم
في يونيو سنة 632، فأنكر عمر بن الخطاب موته فدخل عليه أبو بكر وتأكد من ذلك وتلا قوله تعالى:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
وقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
فهدأ عمر من روعه.
ودفن
صلى الله عليه وسلم
حيث مات، ولم يترك ميراثا، وإن كان قد ترك أعظم ميراث في العالم، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
محمد لطفي جمعة
صفحه نامشخص