ثم نهض المنطاد وانساب في الفضاء، وما هي إلا فترة حتى جعل يهبط إلى أن استقر عند شفا هاوية، وخرج الركاب إلى أرض صخرية كالحة سوداء، فتمشى سلفاستروس وجوكوندا إلى أن بلغا إلى صف طويل من الشرفات المطلة على الهاوية فمكثا فيها، وأطلت جوكوندا وقالت مبهوتة: ما هذا! إني أرى مدينة عظيمة وأبنية شامخة وشوارع؟ - هذه مدينة الأبالسة، عاصمة بعلزبول زعيم الشياطين. - يا للعجب! هل يحذق الشياطين فن البناء أيضا. - تعلموه من ضيوفهم الأشرار الأرضيين. - أرى سيارات وترامات وأسلاكا ... - نعم، ترين كما في جهنم كذلك على الأرض، لقد اقتبس الخطاة الأرضيون كل ما عرفوه على الأرض، فصنعوا مثله في جهنم، وكلما جاء فوج جديد من الأرض اصطنع في جنهم ما جد على الأرض من الاختراعات. - إذن هم يتمتعون بجميع محاسن الأرض، فكيف يتعذبون؟! - يتعذبون بشرورهم، واختراعاتهم تزيدهم عذابا، وهو عذاب أبدي. أليس أهل الأرض أيضا يزدادون بؤسا وشقاء بازدياد معارفهم واختراعاتهم؟ - إذن، رأيك أن العلم والمعرفة سبب الشقاء. - لا، بل رأيي أن سوء استعمال الناس العلم والمعرفة هو السبب؛ فالأفراد الذين يستخدمون العلم لاستثمار أتعاب الأفراد، والأمم القوية التي تستخدم العلم لاستعمار الأمم الضعيفة، هؤلاء هم الذين يسببون الشقاء والبؤس، وكما فعل هؤلاء على الأرض جاءوا يفعلون هنا، وجاءوا يستعمرون جهنم ويبتزون أهل جهنم.
ما اكترثت جوكوندا كثيرا بهذا الشرح كأنها لم تفهمه؛ ولذلك اقتضبته قائلة: ولكن أين الحفلة؟ - الحفلة ستعقد هنا تحت في هذا الميدان العظيم الذي نشرف عليه، ألا ترين هناك ديوان بعلزبول منصوبا؟ وسيمثل أمامه كبار الرجماء الذين قاموا بمهمة الحرب، والجموع تحف حول ذلك الديوان لتشاهد الحفلة.
الفصل الثالث
وكانت طلائع الموكب جوقة موسيقية يتقدمها سرب من الراقصات، فلما بلغ الموكب إلى أول الميدان اختلجت جوكوندا وقالت: الموسيقى أيضا وعهدي بالموسيقى أنها وجدت لتسبيح الباري تعالى وتمجيده.
فقال سلفاستروس: ولكن البشر جعلوها من جملة أسلحة الحرب، والشياطين اقتبسوها من البشر. - إن فؤادي يخفق لهذا اللحن، وأشعر برعشة في بدني، كما كنت أشعر حين تعزف الموسيقى في الكنيسة. - إنه لحن حماسي، هو لحن النصر في الحرب، ولعله مقتبس من ألحان الكنيسة. - تبا لهم وألف تب، يدنسون لحن الكنيسة الطاهر، أكره البقاء هنا يا عزيزي، هلم نرجع. - لماذا لا نحول نحن هذا اللحن إلى تسبيح الباري وتمجيده؟ «وكل يغني على ليلاه». - هذا الرقص يشبه الرقص الروماني الذي كنا نرقصه في المدرسة، كما رقصه داود النبي - عليه السلام - أمام تابوت العهد، فهل هؤلاء الراقصات كن راهبات فأثمن؟ - بل هن فنانات التاريخ اللواتي جعلن الرقص عبادة في هياكل الجمال البشري، معابد الشهوات البهيمية، فحرم لأجلهن الرقص في المساجد الدينية. - يتراءى لي أن تلك الراقصة الأولى تشبه القديسة تيودورة الملكة زوجة الملك جستين. - بل هي هي بعينها. - لا أصدق، لا يمكن أن تنزل قديسة إلى جهنم لكي ترقص فيها. - بالطبع لا، ولكن تيودورة هي التي أمرت بأن تعين قديسة، فنفذوا أمرها بعد موتها، وهي قديسة جهنمية. - هل تعرف تلك الراقصة الأخرى؟ - أظنها كليوبترا، وأظن الثالثة ... - تبا لهن جميعا، كان يجب أن يكن راقصات في السماء أمام العرش الإلهي للتمجيد والتسبيح. - أظن عرش بعلزبول أكثر احتياجا للرقص يا عزيزتي، وأما عرش الله فالكون كله تسبيح وتمجيد له. •••
ثم تلا جوق الموسيقى والرقص صفوف من جنود الزبانية، فدخلوا إلى الساحة، واصطفوا في جوانبها، ودخل الموكب البعلزبولي، فقالت جوكوندا: ويحهم! ما هذا الهودج العظيم على أكتاف هؤلاء المردة؟ - هو عرش بلعزبول ملك الشياطين، والذين يمشون وراءه هم الرجماء، كقولك وزراء الدولة والحكام والموظفون الكبار. - ويل لهؤلاء الملاعين؛ ملك ووزراء ودولة! كأنهم ذوو نظام. - طبعا نظام شيطاني تعلموه من أهل الأرض. - ويحهم من أشرار! أما كان أحرى بهم أن يكونوا رجال دولة السماء يسبحون الله؟ - وهل تريدين أن تكون جهنم بلا سكان. - نعم، نعم، كان يجب أن يكون جميع الخلائق في السماء يسبحون. - يظهر أن السماء لم تعد للجميع، فتعين منذ الأزل فريق للسماء وفريق لجنهم. - إذن لم يكن الناس أحرارا في اختيار إحداهما. - صه، صه، لا تدخلي في هذا البحث لئلا تكفري بنعمة الله. احمدي الله أنك ستكونين من الفريق الأول. •••
ووضع عرش بعلزبول في إيوانه المرتفع، وامتثل أمامه كبار الرجماء، ووقف وراءهم بعض مشاهير الأرضيين، وكان سلفاستروس يسمي بعضهم لجوكوندا؛ انظري ذاك نيرون، وذاك إسكندر الكبير، وذاك نبوخذ نصر، وذاك نابوليون، وهذاك رسبوتين، وذاك جزار عكاء، وسنرى من هم الآخرون. - كيف عرفت من ذكرت أسماءهم؟ - من أزيائهم ومن رسومهم التي شاهدتها. •••
وتكلم بعلزبول قائلا: النصر النصر، ما ألذ النصر! بعد جهاد ألفي سنة، ألفا سنة قضيناها في الاستعداد لهذه الحرب العالمية التي زعزعت أركان السلام، السلام الذي قال به رب السلام على الأرض، وكان نصرنا عن أيدي المنتمين إليه، فهل هناك نصر أعظم من هذا؟!
وكانت إلى جنب بعلزبول عقيلته المتوجسة، فقالت: إنه لنصر عظيم ولكنه ناقص ...
فسألت جوكوندا صديقها سلفاستروس: من هذه المتكلمة إلى جنب الملك الجهنمي بعلزبول؟
صفحه نامشخص