فاشمأز القديس وعطس وقال: لله من هذه الرائحة الخانقة. أهي من بقايا غازات الحرب الأرضية الأخيرة؟
فقالت مستغربة: أية رائحة هذه التي تشمئز منها يا سيدي؟ - رائحة الاسم سلفاستروس، ألا تعلمين أنه اسم لاتيني ومعناه النجم الكبريتي، أفما وجدت صديقا باسم أطيب عنصرا؟ أوما وجد هو اسما أزكى رائحة من هذا؟ - هذا ما قدر فكان يا سيدي، فأرجو أن تتكرم باستدعائه. - ليس عندنا هذا البار الذي تزعمين يا بنيتي. - لعله غير اسمه. - ولئن غير اسمه نعرفه؛ لأننا لا نعرف الأبرار هنا بأسمائهم، بل بأرواحهم وبرهم، فثقي أنه لم يأت إلى هنا. - عجبا! لقد اشتهر بتقواه وورعه ووعظه وإرشاده ودعوته الناس إلى التوبة والتقوى وعبادة الباري، وفي السنة الماضية كان في ديرنا رياضة روحية، انقطعنا بها عن كل ماديات العالم إلى العبادة والصلاة، وكان هو يعظنا كل يوم إلى أن انتهى زمن الرياضة، فكيف لا يأتي إلى هنا. - لعله لم يتم واجباته الدينية قبل انتقاله من الدنيا، فذهب إلى المطهر لكي يتممها هناك، ويكفر عن بقية الذنوب التي يعرفها والذنوب التي كان يجهلها.
فوجمت الأخت جوكوندا، ثم قالت: لعله لم يكن لديه متسع من الوقت لإتمامها، فقد مات منتحرا، ولكنه مع ذلك كان يدري أنه سيموت، فلا بد أن يكون قد تناول القربان. - مات منتحرا؟ كذا قولي : أما كان يعلم أن الانتحار خطيئة؟ فهذه الخطيئة وحدها كافية الآن لقطع السبيل بينه وبين السماء. - الانتحار خطيئة؟ لا أدري أنه خطيئة يا سيدي، أليس الإنسان حرا أن ينتحر، وهو بانتحاره لا يؤذي أحدا ولا يأثم لأحد؟ ألم يخلقنا الله أحرارا؟ أما قال الكتاب المقدس: أنتم أحرار؟! - أجل، إن الله تعالى قال إننا أحرار، والإنسان حر أن ينتحر، ولكن شريعتكم التي استنبطتموها تقول إن الانتحار خطيئة، فالديان يدينكم أحيانا حسب شريعتكم. - شريعتنا! ألنا شريعة غير شريعة الله؟ - نعم، شريعتكم غير شريعة الله، لقد ملأت شريعتكم المجلدات، وجعلتم لها أصولا وفروعا وشروحا وهوامش، وأما شريعة الله فغير مكتوبة، شريعة مختصرة جدا.
فبهتت الراهبة وقالت: ما هي شريعة الله غير المكتوبة يا سيدي؟ إني أجهل أن لنا شريعة غير مكتوبة. - شريعة الله هي الضمير يا بنيتي، والضمير النقي وحده كاف لإرشاد الإنسان إلى الصلاح وتجنب الخطيئة، فلو حفظتم هذه الشريعة المختصرة وأطعتموها لكانت وحدها كافية لأن تجعل الأرض في جوار السماء. الضمير الصالح الذي يقيم فيه الله لا يضل، ولكنكم طمستم شريعة الضمير، وجعلتم تتفلسفون في التشريع كأنكم نواب الله في دينونته، فملأتم كتبكم شرائع وقوانين، ولكنكم لم تستطيعوا أن تحفظوها، ولا أن تعملوا بمقتضاها، والديان يدينكم بحسب شرائعكم، فهل ظلمكم؟ - لا، حقا. لا، إن الضمير الصالح يغني عن كل شريعة، الله محبة والمحبة هي الناموس، والأنبياء كما قال سيدنا يسوع له المجد: في المحبة كل شريعة الله. - إذن، لا تستغربي يا بنيتي أن صديقك سلفاستروس لم يأت إلى هنا، وإن كان قد ذهب إلى المطهر فيكون الديان قد رحمه، وأخشى أن يكون غير مستحق المطهر.
فوجمت الأخت جوكوندا وتجهمت ثم قالت: أيحتمل أن يكون قد حرم المطهر أيضا، إني أتأسف جدا إن كان ظني فيه خائبا. - يلوح لي يا بنيتي أن صداقتكما كانت عظيمة جدا، حتى أنك تأسفين هذا الأسف الشديد. - نعم يا سيدي القديس الجليل، كانت صداقتنا متينة، ولها تاريخ طويل لا أخفيه عنك، أعترف لك به عسى أن تتشفع بصديقي عند الله الديان الرحيم الرحمن. - إني مصغ لروايتك يا بنيتي، والله غفور رحيم، قولي. - لقد أنعم الله الجواد علي بنعمة الجمال يا سيدي كما ترى.
فضحك القديس وقال: أجل، جمال القداسة أعظم نعمة يا بنيتي. - نعم، كنت جميلة جدا في أول صباي، وكانت أبصار الأنام تطوقني أينما ظهرت، إلى أن كان معرض للجمال، فقدمتني عشيرتي إليه، وثمة اصطفتني لجنة من المحكمين ملكة الجمال في كل العالم، وكان ابتهاجي عظيما بهذا اللقب الذي تفردت به.
فقال القديس باسما: بالطبع تبتهجين بهذا الحكم العادل، وربما كنت ترتابين بعدالة أي حكم غير هذا، ولا ريب أنك أيقنت أنك ملكة الجمال، هاه؟ - نعم، إذا كان الذين انتخبوني من بين ثلاثمائة فتاة جميلات لهذا الملك هم من خيار الناس وأصدقهم نظرا، وألطفهم ذوقا وأخبرهم فنا، أفلا أوقن أني ملكة الجمال.
فقال: طبعا، طبعا، يكفي اختيارهم إياك ملكة للجمال برهانا لك على أنهم من خيار الناس الصادقي النظر، اللطاف الذوق، الخبراء بالفن، ولكن لو أن لجنة أخرى من أناس آخرين اختارت سواك ملكة لأيقنت أن أولئك الآخرين بلا ذوق. ترى ماذا كان مقياس الجمال عند مختاريك الصادقي النظر؟ - مقياس الجمال؟ كان المقياس دقيقا جدا يا سيدي - بالمليمتر. قاسوا حدقتي وأجفاني وخدي وشفتي وأذني وعنقي وكتفي وصدري وقامتي وهيفها وضيق قدمي، قاسوا كل هذه بالمليمتر، فوجدوا كل شيء تماما.
فقهقه القديس وقال: تماما؟! لله درهم من محكمين مدققين، بالطبع وجدوا فيك عينين لا عينا واحدة، وأذنين فقط لا أربع آذان، ولسانا واحدا لا لسانين ...
فارتبكت جوكوندا، وقالت: هل يمكنهم أن يجدوا في خلق الله نقصا أو شذوذا؟! - طبعا لا، ولكن أما وجدوا عينا أحدق من الأخرى، وأذنا أطول وأعرض من الأخرى مثلا؟! - لا، بل وجدوا كل شيء تماما. - وإذن لم يجدوا في غيرك كل شيء تماما. - بل وجدوا في غيري كل شيء تماما، ولكن لم يكن كل شيء طبق قاعدة الجمال. - قاعدة الجمال! ما قاعدة الجمال هذه؟ - عندهم قاعدة للجمال. - من وضعها لهم ومن كتبها؟ - ليست مكتوبة، بل هي في أفكارهم. - ليست أفكارهم إلا شهواتهم، فشهواتهم كانت مقياس جمالك يا ملكة الجمال. ومن كانت رعيتك؟ - أوه، لا تسل يا سيدي، تألب حولي ألوف من الشبان الظرفاء الوجهاء الأغنياء ينظمون الأشعار في وصف جمالي، ويتبارون في تبجيلي، ويتفانون في استرضائي. - إذن، ما كان أسعدك في مملكتك! - آه، إلا السعادة يا سيدي، كنت أطمح إليها فلا أجدها إلا سرابا خلابا. - عجبا! أجمال بلا سعادة! إذن، لماذا الجمال؟ - لم يكن الجمال إلا مشقيا لي، كنت أحسد وردة الربيع؛ لأنها كانت تجد شابا أنيقا يضعها على صدره، وأما أنا فلم أجد ذلك الشاب الأنيق الذي يستحق أن يضع ملكة ورود الجمال على صدره، فمضت بضع سنين والطلاب يتوسلون وأنا الملكة أتمنع، والخطاب يتضرعون وأنا أتدلل، إلى أن تقدم لي نبيل سري غني وجيه ذو نفوذ، فألح على أهلي أن أقبله زوجا قبل أن تذهب نضرة شبابي سدى، فأذعنت وتزوجت ذلك النبيل واثقة أني سأكون سعيدة معه، وما لبثت أن وجدت نفسي في بيئة لا ينقصني فيها شيء من الرخاء والرفاه والعز والمجد، وإنما كان ينقصني شيء واحد ... - ما هو؟ - ملكي، شعرت أني فقدت ملكي، لم أعد أشعر أني ملكة، شعرت أني أصبحت أسيرة الزواج، شق علي الأمر جدا؛ لأني لم أستطع أن أكون ملكة ذات سلطان على زوجي، ذهب ملكي هباء، أدركت أن السعادة ليست بالجاه ولا بالمال ولا بالترف. - إلى الآن لم أفهم ما الذي كان ينقصك. - الحب، شعرت أن هناك شيئا آخر يكفل السعادة وهو الحب، ولكني لم أكن أحب زوجي كل الحب. - لماذا؟ - لم أجده مثلي الأعلى، لم أجده يقدر جمالي حق قدره، لم أجده يذعن لسلطان دولتي، لم أعد أشعر أني ملكة حتى ولا في بيتي، فصرت أتوق إلى الحرية التي تمتعني بالحب التام. وقع النفور بيني وبين زوجي وصرت أتمنى فراقه، ولكن بحسب شريعتنا لا فراق إلا بالموت، فما نجوت من أسري الزواجي إلا بموته، كأن الله أشفق على نفسي فعتقني منه، وصرت حرة، بحثت عن الشخص الذي كنت أشعر بحب له منذ حداثتي، وما حرمني إياه إلا تاج الجمال، بحثت عنه فقيل لي أنه انتظم في سلك الرهبنة؛ فيئست ولم أجد مفرا عن يأس إلا أن أترهب أنا الأخرى أيضا، فأويت الدير وعكفت على العبادة والتوبة.
صفحه نامشخص