فقال أرجنتوس موجها الخطاب إلى فينوموس: تؤكد لي حضرة القديسة أننا بالتوبة ندخل إلى ملكوت الإنسان بلا نزاع.
فقالت فينوموس: أجوكوندا تدعين يا سيدتي! أنه اسم جميل، ولكنه أقل من أن يرمز عن هذا الجمال البارع! لقد كان جديرا بأبويك أن يسمياك فنيس!
فابتسمت جوكوندا إعجابا بنفسها وقالت: هذا ما لقبني به الذين انتخبوني ملكة الجمال في العالم كله.
فحملقت فينوموس قائلة بتعجب: ألدى جلالة ملكة أنا؟
ثم انحنت إلى الأرض قائلة: طوبى للعرش الذي حملك، وللمملكة التي لمع فيها تاجك! ما أعظم حظك من نعم الله الذي وهبك ملك الجمال! كيف طقت خنوع الرهبنة في الدير الضيق، وأنت جديرة بالتمتع بسؤدد السلطة المطلقة في دولة الحسن العظيمة ومملكة الجمال الواسعة؟!
فتنهدت جوكوندا وقالت: آه! لم أجد غبطة في تلك المملكة الواسعة، فعكفت في الدير أبتغي فيه غبطة لنفسي. - عجبا عجبا! يزعم الفلاسفة أن الجمال مصدر الحب، والحب ينبوع الغبطة؛ وأنت تتبوئين عرش الجمال، فكيف لم تجدي الغبطة؟ ألم يكن في يدك صولجان الحب؟ - لا! كنت ملكة على عرش بلا صولجان. - غريب! هل تجردت القلوب على جمالك فاغتصبت منه صولجانه؟ - لا! بل جمالي تجبر مزدريا تلك القلوب، ففزعت منه وتحولت عنه، إلى أن أصبحت ملكة بلا رعية، فاشتريت بصولجاني قلبا، فإذا به صنم. - لعلك رمت أن تقايضي بجمالك حبا فخابت المقايضة؛ لأن الجمال لا يصلح ثمنا للحب بل هو غذاء له، لا تصلح المقايضة إلا قلبا بقلب، فأنت أعطيت جمالا بلا حب فأخذت صنما بلا قلب! - صدقت! لقد كان جمالي في ناحية وقلبي في ناحية أخرى. - كيف يمكن ذلك؟ - كان جمالي مقيدا بقلب غير القلب الذي كان قلبي مقيدا به. - عفوا يا مولاتي! من ابتلاك بذلك القيد الجائر؟ - دولة الجمال يا عزيزتي! آه منها دولة متعبة مشقية، دولة البذخ والبطر تحتاج إلى مملكة وافرة الذهب. - وتركت قلبك كبشا على محرقة تلك الدولة يتألم ويستغيث ولا تغيثينه لئلا تفقدي تاج الملك وصولجانه!
فقالت جوكوندا متنهدة: لم يكن إنقاذه ممكنا ما دامت كتائب أبهة تلك المملكة تحاصر عرش الدولة.
فابتسمت فينوموس وقالت: ما دام ذلك القلب يرقص على مجامر بخور العرش وشجوه، لا يسمع شيئا في ضجيج موكب تلك الكتائب. فكيف تشكين من حرمان الغبطة ورائحة دخان قلبك الملوع أذكى من البخور؟! - قسمتي. - وهل صولة الدولة وحول الملك وطوله تعين القسمة مقلوبة رأسا على عقب. - قسمة مقلوبة! - نعم، لقد خلق الجمال غذاء للحب الذي ينعم به القلب، وأما أنت فقد جعلت القلب غذاء للجمال. كان يجب أن يتبع جمالك قلبك أينما اتجه. - آه! لو فعلت لكنت ناكثة عهدا مقدسا، ونكثه إثم عظيم. - أي عهد أقدس من العهد الذي يعقده القلب؟ - عقد الزواج. - أزواج جمالك أم زواج قلبك. - عقد الزواج الذي يربطني بزوجي الشرعي. - الزواج الذي استوهب جمالك بدل قلبه الصنمي المذهب؟! - آه، نعم. - والزوج الذي بادلك قلبا بقلب ماذا فعلت به؟ - لم يكن ذاك لي زوجا. - عفوا ومعذرة، لقد أسأت التعبير يا سيدتي القديسة، كان أقرب إليك من زوج، كان شطرك الآخر. - ولكن لم يكن بيني وبينه عقد زواج.
فقالت فينوموس متهكمة: صحيح، فلقتا اللوزة لا تقويان على حجر المكسر؛ لأنه ليس بينهما عقد زواج، وشطرتا الترمسة لا تثبتان بين سبابتي الآكل؛ لأنه ليس بينهما قران، كذا القلبان المتعاشقان لا يصمدان في غلاف واحد؛ لأنه ليس بينهما عقد زواج. - عقد الزواج شيء مقدس. - وما رأيك باتحاد القلبين بالحب، أعقد منجس هو؟ - عقد الزواج مقدس بحكم الشريعة. - الشريعة القائلة: «حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك»؟ - نعم. - حسن، وهل في منطق هذه الشريعة أن الزوج الغني البغيض كنز أثمن من المحب الحبيب. - ولكن حدث ارتباط الزوجية من غير استشارة القلب، وبحكم الشريعة لم يعد ممكنا فكه. - رفضت مشورة القلب ثم لذت بالشريعة لكي تبرري هذا الرفض، فماذا بقي لك من مستشار فيما بعد؟! - لقد ندمت لإهمالي مشورة القلب أي ندم، ولات ساعة مندم. - لماذا بعد الندم لم تستشيري الشريعة التي تعتصمين بها؟ - ليس في شريعة الكنيسة حل. - آ ... لقد خفي علي أن عندكم شريعة أسمى من شريعة الله وأقدس هي شريعة الكنيسة. - لا، لا، أستغفر الله، إن شريعة الكنيسة مستمدة من كلام الله القدوس. - أمستمدة شريعة الكنيسة من كلمة الله حقيقة؟! و«الله محبة»، والمحبة كلمته، والمحبة شريعته، فهل تعدين عاصية شريعة الله إذا كنت تنقضين عهد جمالك لبعلك إذا كنت تبرين بعهد قلبك لحبيبك؟! - الكنيسة تحرم الطلاق. - تعصين شريعة المحبة الإلهية لكي تخضعي لشريعة الكنيسة البشرية!
فقالت جوكوندا متململة: ويحك! أأعصي أمر الكنيسة؟ هذه أعظم الخطايا المميتة.
صفحه نامشخص