فرهنگ ما در برابر عصر

زكي نجيب محمود d. 1414 AH
79

فرهنگ ما در برابر عصر

ثقافتنا في مواجهة العصر

ژانرها

ذلك مثل أعلى عند الهمج الطغاة، ولكنه ليس بالمثل الأعلى عند من هذبته الحضارة وصقلته الثقافة. ولقد كان ذلك هو الحلم الذي طاف برأس هذا الرجل العجيب، منذ أول صباه، حتى ليروى أنه ما كاد يكون له نفر قليل من الأتباع، حتى جمعهم في مجلس، ليعلن فيهم قائلا: لقد زعم لنا الحكماء الكهول أن القلوب والعقول إذا تباينت استحال عليها أن تجتمع في جسد واحد، لكنني سأجعل من حياتي برهانا على كذب ما زعموه، وسأجمع في شخصيتي شتى أرجاء العالم من حولي، مهما اختلف أهلوها عقولا وقلوبا. ثم استمع إليه وهو في بدء قوته يقول لخلصائه: لئن اعتمد التاجر على بضاعته التي يعرضها للبيع كسبا للربح، فاعتمادنا نحن على شيئين: الدهاء والقوة - وبالدهاء والقوة امتد له السلطان - وبسط سلطانه من أقصى اليابس إلى أول المحيط! وإننا لنعجب - كما عجب مؤرخ فارسي - حين قال: ألم يصل إلى أسماعكم أن عصابة من الرجال، موطنها عند مشرق الشمس، قد نهبت الأرض نهبا على ظهور جيادها، حتى طرقت أبواب قزوين؟ لقد نشروا الدمار بين الشعوب، وبذروا الهلاك على طول الطريق، ثم عادوا سالمين، يحملون الغنائم إلى سيدهم، وكل ذلك قد تم في أقل من عامين.

لكن هذا البهرج لا يخدع من آتاه الله حكمة، فهذا حكيم من الصين، كان الطاغية قد اصطفاه، حذره يوما قائلا: لقد غزوت إمبراطورية وأنت على صهوة جوادك، ولكنك لن تستطيع أن تحكمها وأنت على صهوة هذا الجواد. وقد صدق الحكيم؛ لأن الحكم قوامه فكر وبصيرة ورؤية وسياسة وبناء، وهذه كلها لا تجيء خطفا، كما قد يجيء الغزو خطفا. ثم حدث لهذا الطاغية مرة أخرى أن سمع بحكيم صيني؛ فأرسل إليه يدعوه للشورى، وجاءه الحكيم واثقا من قوة روحه - وإن لم تكن في يده قوة السلاح - حتى مثل أمام الطاغية؛ فلما استنصحه الطاغية ماذا يفعل وقد غزا ما غزا، وحكم ما حكم؟ قال الحكيم: النصح عندي هو أن تعيش في سلام، وأن تكف عن إزهاق أرواح الناس.

ولكن من نشأ نشأة جنكيز خان، ومن نجح نجاحه، هيهات أن يعرف الحياة المسالمة، وأن يكف عن سفك الدماء إلا مرغما، أفتدري من ذا الذي أرغمه، وأوقفه، ورده على أعقابه أو على الأصح: رد أتباعه؛ لأنه كان قد لقي حتفه ورجع مع الراجعين جثمانا محمولا على عربة؟ إنهم هم العرب المسلمون، وإنه لفضل لهم يضاف إلى أفضال في تاريخهم المجيد، أن يكونوا دعامة للحضارة وللثقافية، كلما أحاق بالحضارة وبالثقافة خطر داهم ... فليست عظمة الإنسان في أن ينتفخ كالفقاعة الفارغة، ثم ينفجر جداره الهش، فيذهب كأن لم يكن منذ لحظة، بل عظمة الإنسان هي في أن ينتج ما يمكث في الأرض تراثا للإنسانية خالدا.

4

لم يكن السؤال الضخم الذي ألقته الحضارات البشرية على نفسها هو: كيف يكون النصر في الحروب؟ بل كان: كيف يمكن التغلب على الحروب لتزدهر الحياة في ظل السلام؟ وهو سؤال جاءت محاولات الإجابة عنه في إحدى صور ثلاث: الصورة الأولى هي أن تحاول الدولة القوية بسط سلطانها على بقية العالمين - إذا أمكن ذلك - لتسكت فيها كل صوت للمعارضة، ومن ثم فهي تخرج من معارك الحروب بحالة من الصمت الأخرس عند المغلوب، وتخيل لنفسها أنها في حالة السلام المنشود، ولا عليها عندئذ أن تفرق بين استسلام وسلام. والصورة الثانية هي أن تعقد الدولة الراغبة في كتم أنفاس الآخرين أحلافا مع مجموعات من دول تجد صوالحها محققة في التحالف معها، بحيث يكون لتلك الأحلاف من القوة ما يضمن لها أن تظل سيوف الأعداء مشلولة في أغمادها؛ فتعد هذا الشلل سلاما، ما دام قد كفل لها امتناع القتال. والصورة الثالثة أن تسعى الدولة الراغبة في اجتناب الحرب نحو إقامة حالة من التوازن بين سائر القوى؛ لعل هذا التوازن أن يحقق السلام.

ولما كانت روح «العسكرية» هي التي استبدت بإسرائيل؛ رأيناها تبدأ شوطها لا بالبحث عن سلام، بل بالبحث عن طريق للنصر في حروب تشنها؛ حتى إذا ما وجدت حولها عالما يسعى إلى السلام، سايرت بدورها هذا التيار الساعي إلى السلام باللفظ لا بالحقيقة؛ ولذلك اختارت لنفسها الصورة الأولى من الصور الثلاث التي أسلفناها، أعني الصورة التي تفرض بها سيادتها العسكرية المطلقة، فإذا استطاعت بذلك أن تخنق أصوات العرب في حناجرهم، فلم يرتفع لهم لفظ مسموع، ولم تصطك لهم سيوف بسيوف؛ قالت للعالم: ها هي ذي منطقتنا قد شملها السلام المطلوب.

لقد عرف التاريخ هذه الصورة من سلام مفروض بقوة الغالب منذ قديم؛ عرفها مثلا في السيادة التي فرضتها روما على العالم بقوة جيوشها، حتى سكت الصوت وانصرفت الشعوب إلى حقولها تزرع لنفسها ولسيدتها روما معا. ومثل هذا السلم المفروض بقوة السلاح، كان هو الأمل الذي راود نابليون، وراود هتلر. وهو نفسه الأمل الذي يراود الولايات المتحدة الأمريكية في يومنا الحاضر.

ولهذا الاتفاق في تصور السلام بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية؛ نتج بينهما التحالف الذي يوشك أن يكون دمجا لهما في دولة واحدة! وهكذا تولدت الصورة الثانية - من الصور الثلاث التي ذكرناها - فأصبح السلام الذي تدعي إسرائيل أنها تسعى إليه سلاما من الصورتين الأوليين معا ؛ فهو سلام يراد فرضه بقوة السلاح أولا، وهو سلام يراد فرضه عن طريق تحالف القوى ثانيا.

ونستطيع القول - استطرادا مع منطق حديثنا هذا - إنها في المرحلة الأخيرة التي انبثقت من حرب أكتوبر 1973م، قد ترغم على سلام من الصورة الثالثة، وهو السلام الذي يقوم نتيجة لتوازن القوى توازنا يمنع إحدى الكفتين من الطغيان على الكفة الأخرى، لا اختيارا منها، بل إرغاما يجيء أساسا من القوة الذاتية لتلك الكفة الأخرى، موضوعة في ظروف دولية متوازنة.

جاء ما يلي في البحث الذي قام به «جانيس تيري» وعنوانه «سياسة إسرائيل تجاه الدول العربية» (وتجده ضمن مجموعة البحوث المنشورة في كتاب «تهويد فلسطين»).

صفحه نامشخص