فرهنگ ما در برابر عصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
ژانرها
تلك كانت حياة الزارع، في حالات ليست هي أسوأ الحالات، فلا عجب - حين ضاقت الضائقة في الثلاثينيات الأولى - أن كان المعلم في المدرسة الإلزامية - وكان على الأغلب من أهل القرية - ذا مكانة عالية لا تدانيها إلا مكانة من يملكون رقعة كبيرة من الأرض؛ فهذا المعلم بأربعة جنيهاته كل شهر - فذلك هو راتبه عندئذ - كان أقدر على الشراء من مالك العشرين فدانا، أو ربما كان أقدر من مالك الثلاثين؛ ولذلك فسرعان ما كانت الأرض تنفرط من أيدي ملاكها، لتهبط في أيدي هؤلاء.
ومع ذلك فقد كانت الزراعة هي المبدأ والمنتهى، وكل ما عداها من أوجه النشاط والعمل، كان يبدو وكأنه من لوازمها وملحقاتها؛ ولهذا كانت الأصالة والعراقة لمن ملك الأرض - ولأن يملكها مالكها عن إرث خير من أن يملكها عن كسب بمجهود - أما من لا يملك أرضا فهو في المجتمع من نوافله وهوامشه، مهما بلغ من شأن في أوجه أخرى من أوجه الحياة، فكانت ملكية الأرض هدفا يسعى إليه كل من اجتمع له شيء من مال؛ لقد عرفت طبيبا جمع مالا من مهنته، ولم يكن له شأن بالأرض وزارعيها، لكنه اشترى بماله قطعة واسعة من أرض جرداء لا تنتج إلا القليل، فلما أبديت له عجبي قال: إن جزائي الأوفى هو أن يقال بين الناس إن الدكتور ذهب إلى العزبة، وإن الدكتور عاد من العزبة؛ ففي ذلك وحده ما يكفل لي أن تنفتح أبواب الجاه والمكانة.
كان العمل الزراعي يومئذ يدويا في معظمه؛ فلم يكن أحد ليتوقع أن تحرث الأرض بغير المحراث التقليدي، أو أن تدرس «الغلة» بغير النورج، أو أن تروى الأرض بغير الساقية والشادوف، ولم يكن أحد ليتوقع أن يحصد الحصاد بغير الأيدي، وأن تحش الجذوع بغير المنجل؛ فكنت تسير في الأرض الزراعية أميالا بعد أميال، قبل أن تصادف مكنة تدار ببخار أو كهرباء؛ العمل يدوي كله، والانتقال أسرعه على ظهر الدواب؛ ومن ثم انطبع الجو كله بالبطء والمهل؛ وعدت السرعة من عمل الشيطان، ومما يبعث آخر الأمر على الندم، وفيم الإسراع والزرع ينمو على مهل، والمحصول يجيء في أوانه من العام؟! لقد ضرب لي صديق في القرية موعدا أن نلتقي في صبيحة الغد، فزللت بالخطأ وسألته: في أي ساعة من ساعات الصبح تريدنا أن نلتقي؟ فما وجدت منه ومن الصحبة كلها إلا مر السخرية؛ فقد كدت أبدو في أعينهم «خواجة» لأنني أردت تحديد ساعة اللقاء؛ ففي كلمة «الصبح» تحديد لهم بما يكفي للحياة في الريف. وكان مما زاد في بطء الحركة رسوخا في النفوس أن صاحبها - نتيجة طبيعية لها - بطء شديد في تغير الأوضاع؛ أوضاع الفرد وأوضاع المجتمع، حتى تكاد بالنسبة لأي فرد - إذا عرفت كيف بدأ حياته - أن تجزم فيما يشبه اليقين كيف تنتهي. وكان من دواعي البطء الذي استحكمت في النفوس أسبابه؛ صعوبة اتصال الناس بعضهم ببعض إذا ما فرقت بينهم مسافة من الأرض؛ فالخطاب البريدي يحتاج إلى وقت طويل، والسفر يحتاج إلى وقت أطول، والأخبار تنتشر في أرجاء القطر الواحد - ولا أقول في أرجاء العالم - على فترة مديدة، قد تصل إلى بضعة أشهر؛ لم يكن في قريتنا مكتب للبريد، وكان لا بد لإرسال الخطاب أو لتسلم خطاب من الذهاب إلى القرية المجاورة حيث المكتب، وكان من ينوي السفر يعد له، مهما يكن من قصر المسافة، وقل في ذلك ما شئت بالنسبة إلى من يعتزمون السفر إلى أرض الحجاز لأداء فريضة الحج؛ فها هنا يكون الإعداد بما نظنه اليوم لا يتناسب إلا مع رحلة إلى المريخ!
2
لكن المفارقة العجيبة حقا هي ما كان بين هذه الصورة المعيشية من جهة، والصورة الفكرية والثقافية من جهة أخرى (وما زلت أتحدث عن الثلاثة العقود الأولى من هذا القرن)، فإذا كانت البساطة قد صحبت الأولى، فإن الحيوية قد صحبت الثانية؛ ففي الأولى سذاجة، وفي الثانية عمق؛ في الأولى نطاق محدود، وفي الثانية أفق واسع، حتى لأستطيع المجازفة بالقول فأزعم أن حياتنا - كما عرفتها إلى أن بلغت الثلاثين بل بعد أن جاوزتها - كانت مصابة بفصام خطير؛ فهنا بدن يعيش - أو يكاد - في امتداد العصر التركي، وهناك عقل يتابع ثقافة العصر في آخر تطوراتها؛ هنا المحراث والنورج والساقية والشادوف والمنجل - تراها حيثما توجهت على الأرض المزروعة بما يسودها من بساطة عيش وبطء حركة - وهناك لطفي السيد والعقاد وطه حسين وهيكل وسلامة موسى، تصادفهم في كل صحيفة ومجلة وكتاب.
لقد تجاورت في مجتمعنا أضداد نستطيع على وجه التعميم والإجمال أن نقول إنها أضداد استقطبتها حياة الريف في ناحية، وحياة المدن - أو قل حياة القاهرة - في ناحية أخرى؛ ففي الريف بلغ من الناس استسلامهم للخرافة حدا أقصى، وفي القاهرة بلغت النزعة العقلانية بأئمة الفكر شوطا بعيدا؛ في الريف كان الإنتاج، برغم حياة الشظف والفقر، وفي القاهرة كان الإنفاق في بذخ؛ في الريف امتداد للعصور الوسطى في وسائل العيش، وفي القاهرة القصور والمسارح وأماكن السهرات اللاهية؛ أضداد تجاورت حتى شطرت مجتمعنا مجتمعين لا يكادان يلتقيان، وقد انعكس هذا الانشطار في نوعين من التعليم: مدني هنا وديني هناك، وفي نوعين من المحاكم: مدنية هنا وشرعية هناك، وفي نوعين من أحياء السكنى وطرائق العيش: «إفرنجي» هنا و«بلدي» هناك، وفي نوعين من ضوابط السلوك؛ فالسلوك الجائز عند فريق «تفرنج» قليلا أو كثيرا، مجلبة للعار عند فريق آخر يرعى التقاليد.
على أن ما يعنيني الآن من هذه الأضداد ذلك التباين الحاد بين الحياة المعاشية في ركودها وبطئها وتخلفها، والحياة العقلية في نشاطها وحيويتها وسرعتها؛ وكان لا بد ليوم أن يجيء، يشتد فيه الجذب بين حياة الواقع المادي البطيئة وحركة العقل السريعة، بحيث لا يكون ثمة مناص من التصدع، وبحيث يتحتم على الحياة المادية البطيئة المتخلفة أن تعيد بناءها لتلحق بالفكر في طيرانه ووثوبه؛ وذلك هو ما حدث - بدرجة متواضعة أول الأمر - في الحركة الاقتصادية والصناعية التي بدأها رواد أوائل مثل طلعت حرب، ثم حدث بدرجة قوية طموح بالثورة الاقتصادية والاجتماعية الجذرية الشاملة، ثورة 23 من يوليو سنة 1952م، التي جاءت لتغير الصورة المعيشية تغييرا كاملا؛ فإذا كانت العين لم تألف - في السنوات التي رسمت صورتها سنوات العقود الثلاثة الأولى - أن ترى على الأرض الزراعية مكنة تدار ببخار أو كهرباء، فأحسبها اليوم واقعة على الآلات الزراعية المتقدمة، في الأرض المنزرعة وفي الأرض المستصلحة، بنسبة لا بأس بمقدارها، وإذا كانت العين خلال تلك الفترة لم تألف أن ترى في سماء المدن إلا المآذن فوق المساجد؛ فهي اليوم تألف أن ترى مداخن المصانع إلى جانب مآذن المساجد، فيكون ذلك عندها أجمل رمز وأصدقه، على أن حياتنا قد اتحد فيها دين ودنيا، كما أراد لهما الإسلام أن يتحدا.
تصدعت الحياة الاقتصادية البطيئة الراكدة بفعل الجذب الشديد الذي وقع عليها من ناحية الحياة الفكرية التي تقدمت حتى انقطعت كل صلة بينها وبين الركود الاقتصادي، كما يتبدى هذا الركود في حياة الفلاح المتوسط، وهل نخطئ إذا قلنا إن ثورة 1952م إن هي في صميمها إلا ثورة أريد بها أن تغير من أوضاع الحياة المادية تغييرا من شأنه أن يزيد من سرعة نشاطها لتلحق بالحياة الفكرية، حتى إذا ما توازيا، سار المجتمع بعدئذ في تكامله سيرا فيه اتزان بين الرأس والبدن؟!
انتقلت الحركة من الأسرع إلى الأبطأ، على نحو شبيه بما يحدث حين تنتقل الحرارة دائما من الجسم الأسخن إلى الجسم الأبرد إذا تلامسا؛ ضع قطعة من الحديد الساخن ملامسة لقطعة أخرى من الحديد البارد، تجد أن الحرارة تنساب من الأولى إلى الثانية حتى تتعادل بينهما درجة الحرارة، وليس في ذلك شيء من ضرورة التحتيم؛ فقد كان يمكن للعكس أن يكون هو الأمر الواقع، بحيث تزيد حرارة الحار، كما تزيد برودة البارد، على أن يظل مجموع الحرارتين ثابتا؛ كان يمكن لاتجاه السير أن يكون على هذا النحو العكسي، لكن هكذا وقع ما وقع، فرصدناه في قانون، يسمونه القانون الثاني للديناميكا الحرارية، وكذلك قل في الجانب الاقتصادي من الحياة، وفي جانبها العقلي، فإن الحركة تنتقل من أكثر الجانبين نشاطا إلى أقلهما، وقد حدث في مصر، كما عهدتها في العقود الأولى من هذا القرن، أن كان النشاط الأوفر في حياة الفكر، والنشاط الأقل في حياة الزراعة والصناعة، فانتقلت الحركة من الأولى إلى الثانية، لكنه انتقال تطلب ثورة كبرى لتحدثه، كما يتطلب المريض بالعصاب هزة كهربائية تصدمه ليفيق؛ على أني لا أريد أن أترك هذا الموضوع من الحديث، قبل أن أثبت ظنا يدور الآن في خاطري، وهو أن هذا الترتيب بين الحياتين قد يعكس في بلد آخر، بحيث يكون السبق للحياة الاقتصادية المادية على حياة الفكر، فعندئذ - فيما أظن - تجيء الثورة عقلية؛ ليزيد الفكر من حركته حتى يلحق بازدهار الحياة الاقتصادية، وربما كان ذلك هو ما حدث في القرن التاسع عشر في أوروبا، حين أحدثت الثورة الصناعية زيادة في الإنتاج، تلكأ دونها الفكر، فثار الفكر في منتصف القرن ليحدث في نفسه انقلابا يمكنه من سرعة السير.
وأعود إلى صورة بلدي كما رأيتها في النصف الأول من حياتي؛ لأرى كيف تبدلت، أما يزال الفرق شاسعا بين خط العرض الذي يعيش فيه مفكر القاهرة، وخط العرض الذي يعيش فيه زارع الأرض في الريف؟ هل ما تزال مسافة الخلف بين فلاح القرية اليوم وبين كاتب في القاهرة مثل الدكتور حسين فوزي، هي نفسها المسافة التي كانت بالأمس بين فلاح القرية وكاتب في القاهرة عندئذ كالعقاد؟ أو لأضع السؤال في صيغة أكثر توضيحا للنقطة المطروحة، فأقول: هل الصلة بين توفيق الحكيم حين أصدر مسرحية أهل الكهف في أوائل الثلاثينيات، وبين فلاح القرية حينئذ، شبيهة بالصلة بين توفيق الحكيم حين أصدر مسرحية الصفقة أو الأيدي الناعمة وبين فلاح القرية اليوم؟ لا أظن ذلك؛ فالمسافة قد قربت إلى درجة كبيرة بين الطرفين.
صفحه نامشخص