فرهنگ ما در برابر عصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
ژانرها
على مثل هذه الرؤية المباشرة المزعومة، يعتمد المتصوفة، حين يزعمون لك أنهم قد «شهدوا» الحق شهودا مباشرا، فلا أدلة يستدل بها، ولا وسائط بين المرئي والرائي، وعلى مثل هذا الأساس الصوفي نفسه - بدرجات متفاوتة - تقوم الكثرة الغالبة من أحكامنا ورؤانا، لا أقول في حياتنا الخاصة وحدها، بل أضيف إليها شئون حياتنا العامة كذلك، فكم من قرار نتخذه، وقد يكون قرارا ذا نتائج بعيدة المدى في حياة الناس! ومع ذلك فإذا سألت الرجل المسئول الذي أصدر القرار: أين المبررات «العقلية» التي كانت بين يديك بمنزلة المقدمات، حتى لم تجد مفرا أمامك من اتخاذ قرارك هذا؟ لما وجدت لسؤالك عنده من جواب، إلا أن يكون موهوبا يرى الحقائق بمثل تلك البصيرة النافذة التي «تشاهد» الحق بحدس مباشر، وفي هذه الحالة لا يكون تحليل ولا تعليل.
وأي تحليل وأي تعليل تطالب به من ينظر أمامه فيقول: إني أرى بقعة صفراء؟ هكذا تكون الرؤية المباشرة، لولا أن رؤية اللون هنا قد جاءت إلى من أدركه عن طريق حاسة معلومة هي حاسة البصر، أما رؤية الحقائق عند أولئك الذين يدعون رؤيتها بموهبة حدسية خارقة، فكثيرا ما تكون ميلا مع دفعة الغريزة أو العاطفة، بل لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة ، فنقول إنها كثيرا ما تكون ميلا مع اندفاعة النزوة والهوى؟
ودعوى فلاسفة الرؤية الحدسية - مثل برجسون - ومن يلفون لفهم من صغار الناس في صغار الأمور، قائمة على أن الحدس فطرة لا تخطئ؛ لأنه كالغريزة أو لأنه هو نفسه الغريزة الملهمة التي تعرف طريقها المأمون؛ ولذلك فكلما اقترب الإنسان من حالة الغريزة الفطرية هذه، عددناه أقرب إلى رؤية الحق بصفاء روحه، كالأطفال أو كمن أصابتهم البلاهة والعته، أما إذا جاء الرأي ممن اكتملت له عوامل النضج، وقال لنا إنه رأي جاء بعد تحليلات وإحصاءات وتدقيق وتحقيق، فها هنا يغلب أن ننظر إليه نظرة المرتاب؛ لأن السماء - في ظننا - لا تفتح أبوابها لأمثال هؤلاء الحاسبين.
يقول برجسون: هنالك طريقان مختلفان أعمق اختلاف أحدهما عن الآخر في معرفتنا لحقائق الأشياء: أولهما يكتفي بأن يحوم حول الموضوع ناظرا إلى ظواهره الخارجية البادية للحواس، والآخر يقع في لب الموضوع وصميمه، فلا يقف عند الجانب المنظور من الشيء المراد معرفته، ولا هو يطمئن - كما يطمئن أصحاب الطريق الأول - إلى رموز اللغة يسوق فيها الحقيقة التي رآها، بل يغوص إلى الأعماق مجتازا الظواهر الخارجية ليدرك الجوهر الباطني إدراكا يستعصي بعد ذلك على التعبير بأدوات اللغة أو الأرقام؛ ولهذا كانت المعرفة في الحالة الأولى (وهي المعرفة العلمية) معرفة نسبية لا تبلغ مبلغ اليقين لأنها تتعرض للخطأ، وأما في الحالة الثانية (وهي الإدراك الصوفي)، فهنالك تكون المعرفة مطلقة اليقين.
وهذا الضرب من المعرفة اليقينية عن طريق الوجدان - حتى إن أنكرها العقل بمنطقه النظري المجرد - هو ما يصفه المتصوفة من أسلافنا؛ إذ يفرقون بين ما يسمونه بعلم القلوب، وعلم اللسان، فالمتصوف بوجدانه إذا ما كشف عن بصيرته الحجاب تبدلت حواسه بأخرى تمكنه من رؤية الغيب، كالذي يحدث للنائم في رؤياه؛ فما إن يغيب في نعاسه ويتحلل قليلا من أثقال الوجود المادي، حتى تنفتح له حواس أخرى إلى الغيب، فيرى ويسمع ويأكل ويتكلم ويمشي ويبطش ويصل إلى أقصى أرجاء الأرض، لا تحجبه أبعاد المكان، عندئذ يحيا في وجود أكمل من الوجود الدنيوي، وربما اكتسب في ذلك الوجود الخفي قوة الطيران والمشي على الماء والدخول في النار دون أن يحترق، فإذا كان مثل هذا هو ما يجده الإنسان من عامة الناس في نومه، فهو هو بعينه ما يحققه الصوفي في صحوه؛ لأن الجانب الشريف من وجوده له غلبة على الجانب الخسيس، فتراه قادرا في عالم الشهادة على فعل المعجزات (هذا كلام مأخوذ من بعض المتصوفة الأقدمين).
وخلاصة ما أردت قوله، هو أن المتصوفة - حديثهم وقديمهم على السواء مع اختلافات في العرض لا في الجوهر والأساس - متفقون على أن للإنسان قدرة على اكتساب ضرب من المعرفة لا عن طريق العقل ولا عن طريق الحواس؛ إذ يحدث - كما يقول برجسون - نوع من التعاطف بين الإنسان وما يدركه، تعاطفا يضع به الإنسان نفسه في صميم الشيء المدرك؛ ليقع منه على ما هو فريد فيه، لا يشاركه فيه شيء آخر، وما دام جانبا فريدا لا يتكرر في شيئين، بل يختص به الموضوع المدرك دون سواه، كان مستحيلا على التعبير اللغوي؛ لأن اللغة إنما تعبر عن الجوانب المشتركة العامة التي يتكرر وقوعها في مختلف الأفراد، ويسوق لنا برجسون مثلا لهذه الحالة الإدراكية التي يواجه بها الشخص المدرك صميم ما يدركه، معرفة الإنسان لنفسه، فهو إذا ما استبطن ذاته أدركها «بحدس» مباشر إدراكا لا يحتمل الشك ولا الخطأ، وهو في الوقت نفسه إدراك لا يتطلب تحليلا ولا تعليلا.
هذا الذي يقوله المتصوفة الأقدمون والمحدثون هو ما يؤمن بصدقه الكثرة الغالبة من أبناء الأمة العربية، لا فرق في ذلك بين أمي وعالم، ولا عجب أن وجد برجسون عند المشتغلين منا بالفلسفة رواجا وتأييدا، ويا ويل من غشيت عيناه عن الحق فاجترأ معترضا ليقول: لكن برجسون هذا لم يجد إلا الأداة الشائهة الناقصة - وأعني أداة اللغة ورموزها - ليبسط بها رؤيته الفلسفية التي قال عنها - شأن المتصوفة جميعا - إنها رؤية ليست مما تستطيع اللغة أن تحكيه، وتلك - عندنا نحن الذين غشيت أبصارهم عن الحق - هي العقبة التي يقع فيها حمار الشيخ ! فالمتصوفة يقولون، وجميع المؤيدين للرؤية الصوفية يقولون معهم: إن ما نراه من الحق لا يأتينا عن طريق الحواس الظاهرة، ولا هو مما يصاغ في كلمات؛ لأنه «حالات» يشعر بها الصوفي من الداخل، كشعوره بحلاوة العسل أو بمرارة الحنظل، والحالات لا توصف بأدوات اللغة، ومع ذلك تراهم يقولون ذلك لنا في «كلمات»!
قل لمن شئت: إن العقل الذي هو أداة العلوم مأمون الجانب، وينبغي الركون إلى تدبيره وحسابه، كلما هممنا بعمل نؤديه؛ تره يشيح بوجهه عنك حتى لو كان من رجال العلوم في أعلى مستوياتهم، طالما هو خارج معمله؛ لأن العقل عنده مكانه بين جدران المعمل لا يجاوزها، ولكن قل له: إن الإدراك الصوفي النافذ خلال الحجب والأستار قادر على رؤية الغيب رؤية حق وصدق، فقل أن تجد منه الشك والتكذيب؛ فالسائد فينا جميعا أن هذا الضرب من كشف المحجوب هو في مستطاع نفر مكرمين مقربين، وهؤلاء إذا ما اهتدوا بوجدانهم إلى الحق فلن يجد الباطل إليهم سبيلا.
فهل أصاب حقا هؤلاء جميعا في ظنهم بأن مثل هذا الإدراك الوجداني المباشر لما هو مغيب عن البصر وعن العقل صادق دائما؟ هل الرؤية المباشرة للمستور، وهي الرؤية التي يدعيها المتصوفة ويدعيها برجسون، كما يدعيها كل من اختار هذه الطريقة في النظر إلى الأمور، معصومة من الخطأ كما يظنون؟ لنأخذ المثل نفسه الذي ضربه برجسون للرؤية التي يستحيل عليها الخطأ، وهو مثل الإنسان يستبطن ذاته من داخل فيراها رؤية اليقين، فهل من الحق أن الإنسان في استبطانه يعرف حقيقة نفسه معرفة تبلغ حد اليقين؟ أيسهل عليه عندئذ أن يرى كل ما تنطوي عليه تلك النفس من حقد وحسد وخسة وغرور؟
لقد تناول برتراند رسل هذا الموضوع بالدراسة، في فصل من أهم ما أنتجه في بحوثه الفلسفية، وهو الفصل الذي يسميه «المنطق والتصوف»، ثم حدث أن أطلق هذا العنوان على كتاب له يضم ذلك الفصل مع فصول أخرى في موضوعات متفرقة، هناك يقول رسل في سياق حديثه عن الرؤية الحدسية التي تشبث بها برجسون ، ويتشبث بها المتصوفة، ويؤيدها الرأي العام السائد من حولنا، يقول: نعم، إن الإدراك الحدسي يفرض نفسه على صاحبه فرضا يحول بينه وبين أن يشك لحظة في صوابه، وكيف له أن يشك فيما يراه ماثلا أمامه؟ تلك خاصة لا تتوافر للإدراك العقلي؛ لأن إدراك العقل طريقه الاستدلال، والاستدلال معرض للخطأ، لكن هذا اليقين الجازم الذي يصاحب الإدراك الصوفي عند أصحابه، هو نفسه الذي قد يحول ذلك الإدراك إلى كوارث، فلو أن المعرفة الآتية إلينا عن طريق الوجدان معصومة من الخطأ؛ لكان اليقين الذي نشعر به إزاءها خيرا كل الخير، لكن تلك المعرفة معرضة للخطأ، كما يتعرض العقل للخطأ، وليس الأمر كما يزعمون لها من عصمة.
صفحه نامشخص