وتمام هذا الكلام عن غلبة الآرامية أنها كانت تنازع العبرية بين اليهود وهي لغتهم الدينية، ومن ذلك ما جاء في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التكوين «أنهم أخذوا حجارة وعملوا رجمة ودعاها لابان (يجر شهدوتا) ... وأما يعقوب فدعاها جلعيد، وقال لابان: هذه الرجمة شاهدة بيني وبينك اليوم.»
ومعنى «يجر شهدوتا» بالآرامية حجر الشهود، وهي قريبة من لفظها ومعناها باللغة العربية الحديثة، أو هي اللغة العربية كما كانت تنطق في ذلك الدور من أطوارها.
ثم غلبت الآرامية على العبرية في المعابد والكتب الدينية؛ فترجمت إليها كتب التوراة والتلمود، وكتبت بها بعض الأسفار أصلا من عهد عزرا ودنيال، فلما كان عصر الميلاد كانت الآرامية هي اللغة التي يتكلمها السيد المسيح، ويجري بها الخطاب بينه وبين تلاميذه، وبينه وبين المستمعين إليه في عظاته ووصاياه.
جاء في الإصحاح الخامس من إنجيل مرقس حكاية عن السيد المسيح: «وأمسك يد الصبية وقال لها: طليثا قومي، وتفسيره ... لك أقول قومي.»
وجاء في الإصحاح الرابع عشر: «وقال يسوع: يا أبا - الأب - كل شيء مستطاع لك.»
وجاء في الإصحاح الخامس عشر منه: «وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم: إلوي، إلوي، لما شبقتني.» وتفسيره: إلهي، إلهي، لم تركتني؟ ومعنى شبقتني هنا «جاوزتني وتخليت عني» كما يمكن أن تعني اليوم بالعربية التي نتكلمها.
وعلى ذلك يصح أن نقول: إن الآرامية هي عربية تلك الأيام في مواطنها، وإنها قريبة جدا من اللغة العربية الفصحى بعد تطورها نحو ثلاثة آلاف سنة، لا يستغرب أن يحدث فيها مثل هذا الاختلاف في نطق الألفاظ، وتركيب بعض العبارات.
قال صاحب كتاب الكنز في قواعد اللغة العربية وهو يتكلم عن الآرامية ويسميها البابلية: «ثم انظر فيما يكون من التشابه الظاهر بين العربية والبابلية ولا سيما في الإعراب وحركاته، كالتنوين مثلا ... فهو في البابلية ميم وفي العربية نون، وهذان الحرفان من أحرف الإبدال، ونحن نعرف أن من العرب من يجيز إبدال أحدهما بالآخر، ومنها علامة الجمع: فهي في البابلية الواو والنون كما أنها في العربية الواو والنون أيضا، وفي السريانية الياء والنون، وفي العبرية الياء والميم، ومنها أن جميع الأفعال في البابلية أقرب إلى صيغها في العربية؛ فصيغ الأفعال التي وجدوها في هذه اللغة تبلغ اثنتي عشرة صيغة، وأكثر هذه الصيغ مشهور معروف في العربية والعبرية والسريانية ...» •••
وجملة القول: إن الثقافة الآرامية عربية في لغتها ونشأتها ونسبتها إلى عنصرها، ولا يمكن أن تعرف لها نسبة إلى أمة غير الأمة العربية في عهودها الأولى؛ فكل ما استفاده العالم من جانبها فهو من فضل هذه الأمة على الثقافة العالمية.
أسماء أخرى
صفحه نامشخص