فالعواطف هي أكثر الأشياء سلطانا على الأذواق، فإذا كانت العواطف سقيمة كانت الأذواق كذلك، ولا شيء يفسد العواطف مثل مزاولة المرذول، فإن المرء لا يزال حتى يراه لأسباب الفضل جامعا ولأصناف الحسن شاملا، وحتى لا يرى الفضل إلا فيه، فإنك لتنشد الأزهري في أزهره والشاب في دار تمثيله ما يسمع الصم، فلا يسوءك إلا أنك طربت ولم يطرب، وعرضت بضاعة لو صادفت ذا ذوق صحيح ما ردها عليك ولكن:
تعرض الأشياء في أوطانها
آفة الجوهر أن لا يعرفا
وإذا بالأول ينشدك من حواشيه ومتونه ما يزيده في فتونه، وإذا بالثاني يتغنى بشعر ملؤه الوهن والغميزة، فأنشدهما قول البحتري:
إن الخطوب طوينني ونشرنني
عبث الوليد بجانب القرطاس
وقل لهما انظرا كيف جعل الخطوب لا تعرف ما هي فاعلة به كما يعبث الطفل بجانب الورقة، فتارة يطويها وتارة ينشرها، وأنشد قول الشريف:
ينأى ويدنو على خضراء مورقة
لعب النعامي بأوراق وأغصان «النعامي ريح» فإنه جعل مرح الإنسان في النعيم، مثل لعب الريح بالأغصان والأوراق، فلا تجد منه بعد ذلك إلا ازورارا مثل ازورار التقي عن مظان الريبة.
اجتمع أعاظم المصورين وصنع كل صورة أملاها عليه ذوقه، زعم أنها بلغت غاية الجمال، إذا رأيتها وجدت اختلافا عظيما ينبئ عن مثله في أذواق هؤلاء المصورين، وربما كان بين تلك الرسوم ما يستسمجه بعضهم. على أنك لو قلت لهم: ما هي أصول الجمال؟ لقالوا: كذا وكذا، واتفقوا على أشياء عامة، حتى إذا عرضوا عليك ما يستملحونه من معاني الجمال عجبت لاختلافهم فيما يعرضونه عليك، ومن أجل ذلك قال العلامة داود هيوم: الأذواق تتفق في الأصول العامة وتختلف في الأمثلة الخاصة والأفكار. بعكس ذلك تتناكر في النظريات العامة، حتى إذا ولج بها البحث إلى الدقائق أدت بها إلى التعارف.
صفحه نامشخص