وإذن أنا أفكر وأنا موجود، ولكن ما أنا؟ أنا موجود يفكر ويشك وينفي، وهذا يكفي ديكارت لأن الموجود الذي يفكر ويشك فهو موجود ناقص متناه، وهو فوق ذلك يعلم أنه ناقص متناه.
كيف يستطيع أن يعلمه؟ كيف يستطيع أن يدرك - وأن يدرك بوضوح - تناهيه ونقصه إن لم يكن حاصلا في ذاته على فكرة موجود كامل غير متناه؟ كيف يستطيع أن يفهم نفسه إن لم يكن حاصلا في ذات الوقت على فكرة الله؟
والواقع أن المنطق الديكارتي يعلمنا أن فكرة المحصلة والأولى، الفكرة التي يتصورها العقل بذاتها، ليست كما يعتقد العامة ويعتقد المدرسيون، فكرة المتناهي، بل بالضد، هي فكرة اللامتناهي، وليس يكون العقل فكرة اللانهاية بنفي تناهي المتناهي، بل بالضد إنما يتصور العقل فكرة المتناهي باستخدام النفي لوضع حد لفكرة اللانهاية.
إن العامة تنخدع باللغة التي تخلع اسما معدولا على فكرة محصلة (وبالعكس)، ولكن اللغة خادعة، وهي إنما تخاطب الذوق العام، كما أن الذوق العام هو الذي يضعها، فعند الذوق العام وعند المخيلة اللامتناهي ممتنع الإدراك من غير شك، عند العامة المتناهي أول، أما اللامتناهي فلا تبلغ إليه، وهذا هو خطأ المنطق القديم، ذلك الخطأ الذي يفسد كل الفلسفة القديمة: أي الجهل بالفكر المحرر من قيود التخيل، وبالإجمال الجهل بالفكر الحقيقي، فعند هذا الفكر، عند العقل الديكارتي، النسبة معكوسة: هو يتصور الكامل قبل الناقص، واللامتناهي قبل المتناهي، والامتداد قبل الشكل، إنه يعلم أن الفكرة الواضحة عن المتناهي تتضمن وتحوي فكرة اللانهاية.
كل هذا يؤدي إلى قضية تثير العجب: هي أن عندنا فكرة واضحة عن الله، وسينكر العامي ذلك من غير شك، وله بعض العذر؛ إذ إنه خلو من الأفكار الواضحة، وكل ما عنده خليط مضطرب من الصور والمعاني المجردة؛ لذلك هو خلو من فكرة واضحة عن نفسه وعاجز عن الإجابة عن سؤال: ما أنت؟
ومع ذلك فهو حاصل على فكرة الله وفكرة النفس، ولكنهما عنده غامضتان تغطيهما طبقة من الأفكار المختلطة التي تحجب ضوء العقل، تلك الطبقة التي كانت مهمة الشك المنهجي إزالتها.
الآن نحن نعلم أننا موجودون، ونعلم ما نحن، نحن موجود ناقص متناه، موجود يفكر، بل موجود كل ماهيته أنه يفكر، وموجود حاصل على فكرة واضحة عن الله.
هذا يكفي، أو على الأقل بالإضافة إلى ديكارت فهو مستطيع أن يبرهن على وجود الإله الكامل غير المتناهي.
ليس بإمكاني أن أدرس هنا أمامكم البراهين الديكارتية على وجود الله من حيث تركيبها الفني ومصادرها، لقد سبق لي هذا الدرس في كتاب يرجع إلى عهد الشباب، وهو درس طويل جدا وعلى شيء من التعقيد دون فائدة تذكر، فإن الأساس الحقيقي لهذه البراهين ومعناها العميق بسيطان جدا، كما يقول ديكارت نفسه؛ وذلك أن «الشعور بالذات يتضمن الشعور بالله.» عندنا فكرة عن الله، وهي فكرة فطرية بدونها نحن غير مفهومين، فقد قلت: إن الإنسان عند ديكارت ما هو إلا الموجود الحاصل على فكرة الله، هذه الفكرة بسيطة واضحة، بل هي أبسط وأوضح أفكارنا جميعا، هي من الوضوح والبيان بحيث تشمل وجود الله، إن الله هو الموجود الكامل اللامتناهي، فلا يمكن تصوره غير موجود، إنه موجود بفضل كماله اللامتناهي.
2
صفحه نامشخص