قال البراء: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى
قد نرى تقلب وجهك...
[البقرة: 144] الآية فكان يصلى إليها.
وفى رواية صلى إلى بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر، وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا، وقيل سبعة أشهر { ما ولهم } صرفهم إلى الكعبة { عن قبلتهم } صخرة بيت المقدس.
وأصل الكعبة نوع من الاستقبال فى ذات المستقبل وأحواله فى مكانه، ثم صار حقيقة عرفية عامة للجهة المسقبل إليها { التي كانوا عليها } فى صلاتهم ودعائهم وأمورهم، وذلك ظاهر فى اليهود والمنافقين من العرب المعتقدين لحقية قبلة اليهود تقليدا لليهود.
ومما ورد فى صخرة بيت المقدس، أن المياه تقسم عليها لأهل الأرض.
وأما مشركو العرب فقولهم، ما ولاهم... الخ مجرد طعن، بأن الانصراف بلا داع، وأما استقبال الكعبة فحق عندهم { قل لله المشرق والمغرب } وسائر الأرض دخل فيها تعميما للجوانب، أو كناية عن جميع الأرض، وذلك أبلغ من أن يقول، لله الأرض كلها، وأيضا فى ذكرها تلويح بذكر قبلة النصارى وهى المشرق، وقبلة اليهود، وهى المغرب، وأخره لأن الطلوع قبل الغروب، ومطابقة لمزيد ظهورها لكونهما مطالع النور والظلمة وكثرة توجه الناس إليهما للأوقات والمقاصد، ولا بد أنهما سميا لشروق الشمس وغروبها، لكن إما أن يعتبرا على طول الأرض وعرضها، وإما أن يعتبرا بمشارق الأرض ومغاربها { يهدي من يشآء } هدايته { إلى صراط مستقيم } هداية توفيق إلى قبول دين الله، سواء أعمل به، أو آمن، وقيل: وعمل الكبائر فهو للنار إن أصر، فهؤلاء أمة الإجابة، ومقابلهم من لم يهده التوحيد وقبول الدين، وهم اليهود والنصارى وكل مشرك، وهم أمة كفر من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كقوم نوح وقوم هود، وهداية توفيق للسعادة، وبدل للأول العموم فى قوله:
{ وكذلك } الخ، أى كما هديناكم إلى الصراط المسقيم، وجعلنا قبلتكم الكعبة لا تنسخ هى ولا دينكم، وهما أفضل دين وقبلة، ولو لم تصرح الآية بالأفضلية وعدم النسخ، لكن ناسبه التفضيل فى قوله " جعلناكم أمة... الخ " ولا شك أن الكعبة أشرف لأنها قبلة إبراهيم، وقبلة آدم، ومن بعد، وإذا صير إلى السبق فهى أسبق، لأنها قبل آدم بألفى عام تحجه الملائكة، ووضع الله بيت المقدس أيضا لكن بعد الكعبة بأربعين عاما { جعلنكم } يا أمة محمد { أمة وسطا } أفضل من غيركم بالعلم، والعمل من الواسطة التى هى المختار من الجواهر، أو من الواسطة بمعنى الاعتدال فى الشأن، لأن وسط الشىء مصون، والأطراف يتسارع إليها الخلل، ولأنها وسط معنوى، بين إفراط وتفريط، والوسط فى الأصل اسم لما يستوى نسبة الجوانب إليه كالمركز، ثم استعير للخصال المحمودة لكونها أوساطا للخصال المذمومة المكتنفة بها من طرفى الإفراط والتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين الجبن والتهور { لتكونوا شهدآء على الناس } أن أنبياءهم بلغوهم، والمراد بالكاف وواو تكونوا المجموع لا الجميع، لأن الأشقياء من هذه الأمة لا يكونون شهداء على الناس الذين قبل هذه الأمة { ويكون الرسول عليكم } لكم { شهيدا } بأنكم عدول تقبل شهادتكم على الأمم، وأنه بلغكم وقبلتم، كما دل عليه أمة وسطا وأنكم شهداء، فله مدخل فى التعليل، بخلاف ما لو فسرنا بمجرد شهادته صلى الله عليه وسلم، أنه بلغكم، فيخص عن الأنبياء بشهادته لنفسه بالتبليغ فتكون على بظاهرها، فتكون اللام للعاقبة فى هذا، ولو صح التعليل فى تكونوا فيجمع فيه بين الحقيقة والمجاز، أو تجعل لعموم المجاز، أو تجعل فى الأول للتعليل، وتقدر فى الثانى للعاقبة، أى، وليكون الرسول عليكم شهيدا.
تنكر كفار الأمم تبليغ الرسل، فيقول الرسل، تشهد لنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيشهدون لهم بالتبليغ، فيقول الكفار: كيف يشهدون علينا وهم بعدنا؟ فيقولون: يا ربنا، أرسلت إلينا رسولا: وأنزلت علينا كتابا فيه تبليغهم وأنت صادق ، فيسأل صلى الله عليه وسلم عن أمته، فيزكيهم، يشهد كل نبى على أمته باكفر بما بلغها
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد
صفحه نامشخص