{ وإذا سمعوا ما أنزل } إلى قوله الصالحين داخل في التعليل أى حصل في جملتهم قرب المودة بسبب أن منهم قسيسين ورهبانا وسبب أنهم لا يستكبرون وبسبب أن أعينهم تفيض من الدمع بمعرفة الحق إذا سمعوا القرآن، وبسبب قولهم إنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، وبسبب قولهم ما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين، ومن كان من هؤلاء قبل النبى صلى الله عليه وسلم تسبب لقرب المدة لمن قبله ومن معه ومن بعده ومن كان معه تسبب لمن معه ومن بعده وكأنه قيل حصول أقربيه المودة للمسلمين فيهم تسبب فيها علماؤهم وعبادهم كل وأهل زمانه إلى أن جاء قسيسون ورهبان على عهد رسول الله الذين نزل فيهم قوله تعالى
بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون
[المائدة: 82]، وإذا سمعوا أنزل { إلى الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم وهو ما نزل من القرآن { ترى أعينهم تفيض من الدمع } لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق، والعين لا تفيض بنفسها بل دمعها فالمراد بتفيض تمتلئ لأن الامتلاء سبب الفيض لأن الفيض انصباب عن امتلاء وذلك مبالغة حتى كان الامتلاء نفس الفيض، أو أسند الفيض إلى الأعين إسنادا للمحل كأنها تفيض بنفسها مبالغة وإنما يفيض دمعها الذى هى محله، ومن الابتداء أى من كثرة الدمع، كذا قيل والأولى أنها بمعنى الباء { مما عرفوا } من التعليل أى لما عرفوه وقيل للابتداء على أن الأولى ليست له لأن الفيض نشأ مما عرفوا { من الحق } من للبيان أى مما عرفوه حال كونه هو الحق أى جنس الحق، أو للتبعيض أى فكيف لو عرفوا كل الحق فكأنهم يبكون دما أو تنسجم دموعهم { يقولون ربنا آمنا } بما سمعنا، وهو ما أنزل إلى الرسول أو بمحمد صلى الله عليه وسلم { فاكتبنا مع الشاهدين } مع الذين شهدوا من أمته بأنه حق من الله، أو بأنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى الناس كلهم، أو من الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة وهم أمته صلى الله عليه وسلم.
[5.84]
{ وما لنا لا نؤمن بالله } مع قيام الدلائل، والجملة من جملة المقول كأنه قيل ويقولون ما لنا إلخ، وقيل معطوفة على جملة محذوفة والمحذوفة من المقول أى ما لكم لا تؤمنون بالله وما لنا إلخ، واختار الزجاج أنها جواب سؤال كأنه قيل لم آمنتم؟ ويرده اقترانها بالواو والحق أن واو الاستئناف لا تصح لأن الاستئناف ليس معنى وزعم بعض عن الأخفش أن الواو تزاد في الجملة المستأنفة { وما جاءنا من الحق } وهو الوحدانية ونفى التثليث والتثنية، ومن للبيان أو الحق الله ومن للبتداء وكانوا من قبل ذلك مؤمنين محقين نافين للتثليث والتثنية كما قال الله جل وعلا
إنا كنا من قبله مسلمين
[القصص: 53] فالمراد ما لنا لا نؤمن هذا الإيمان الخاص وهو الإيمان بمحمد وما جاء به، وقيل أسلموا حين سمعوا ماأنزل إلى الرسول { ونطمع } عطف على لا نؤمن أى ما لنا نجمع بين ترك الإيمان والطمع، أو على نؤمن فالنفى متسلط عليه، أى ما لنا لا نؤمن ولا نطمع فانا إن لم نؤمن لم نطمع، أو خبر لمحذوف والجملة حال من ضمير نؤمن، أى ما لنا لا نؤمن ونحن نطمع فإن الطامع يسعى فيما يتحقق له ما يطمع فيه { أن يدخلنا } في أن يدخلنا { ربنا } جنته { مع القوم الصالحين } أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو عموم الصالحين نزل قوله لتجدن إلى قوله الصالحين في وفد النجاشى القادمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم صلى الله عليه وسلم يس فبكوا وأسلموا، فقالوا ما أشبه هذا بما نزل على عيسى عليه السلام، والوفد قبل الهجرة وهؤلاء آيات في المدينة لأن المائدة مدنية، وأما يس فمكية، وقيل: نزلت الآيات في أربعين رجلا من نصارى نجران من العرب من بنى الحارث بن كعب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم. وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب لم يخرجوا عن دين عيسى وآمنوا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويروى أن جعفرا وأصحابه رجعوا من الحبشة ووافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على خيبر هم واثنان وستون من الحبشة وثمانية من الشام عليهم ثياب الصوف، فقرأ صلى الله عليه وسلم يس فبكوا وآمنوا، فالآيات فيهم، وروى أن النجاشى رضى الله عنه، قال لجعفر رضى الله عنه: هل تعرفون شيئا مما أنزل على صاحبكم قالوا نعم. قال: اقرءوا فقرأ جعفر سورة مريم وهناك قسيسون ورهبان وسائر النصارى فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق ونزلت الآيات فيهم، وأرسل النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه أزهى في ستين من أصحابه وكلهم أسلموا، وكتب إليه: يا رسول الله إنى أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفرا وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابنى أزهى وإن شئت أن آتيك بنفسى فعلت والسلام عليك يا رسول الله. فركبوا في سفينة في أثر جعفر إذا كانوا في وسط البحر حتى غرقوا. وعن ابن عباس: المراد بالنصارى في الآية اثنان وستون من الحبشة وثمانية من الشام أبرهة وبحيرى وإدريس وأشرف وتمام وقثم ودريد وأيمن فهم سبعون جاءوا مع جعفر.
[5.85]
{ فأثابهم الله بما قالوا } بما اعتقدوا، والقول يطلق على الاعتقاد أو بقولهم المطابق لاعتقادهم، وقيل القول: بمعنى الرأى والمذهب، وفسر كثير القول بقولهم مالنا لا نؤمن وبعض بقولهم ربنا آمنا. وعن ابن عباس وهو قولهم: فاكتبنا مع الشاهدين، وقولهم ونطمع إلخ { جنات } مفعول آخر لأثاب أى جعل الجنات ثوابا لهم { تجرى من تحتها الأنهار خالدن فيها وذلك } ما ذكر من الإثابة أو الإشارة بلا تاء يعتبر مضافان أى إثابة أو إثابهم بكسر الهمزة كقوله تعالى
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
صفحه نامشخص