[2.250]
{ ولما برزوا } ظهروا وتصافوا للقتال، أو صاروا فى الأرض البراز، أى الخالية من الشجر المستوية { لجالوت وجنوده } ودنوا منه ومن جنوده، وهو كافر من العمالقة، وهم برابرة، قيل، برزوا كلهم. من شرب ملء بطنه وغيرهم، وقيل، بقوا قبل النهر ولم يجاوزوه ولم يحضروا القتال، وقد وصفهم الله بالتولى، فإن صح حضوركم القتال فمعنى توليهم فرارده من الزحف { قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكفرين } جالوت وجنوده، صرح باسم كفرهم ولم يضمر لهم، وهو علة النصر عليهم، هذا كلام من لم يطعمه، أو طعم غرفة، وزعم بعض أنهم كلهم وطنوا أنفسهم على القتال وتقووا بقول من لم يطعمه. أو طعم غرفة، ربنا أفرغ... الآية، وإفراغ الصبر صبه فى القلوب بالكمال والإكثار على شدائد الحرب، والقلب ملاك الحسد فلذا قدمه، وتثبيت الأقدام نفى الفرار، والصفف فى القتال، وتثبيت أقدامهم فيه لمصلحة النجدة من العدو والكر عليه. وذلك مسبب للنصر، ولازم له، ولذا عقبه للصبر، وسألوا النصر بعدهما لترتبه عليهما، وأشاروا بأن قتالهم بغض للكفر وأهله.
[2.251]
{ فهزموهم بإذن الله } غلبوهم بأمر الله، أو بنصره، وأصل الهزم دفع الشىء بقوة حتى يدخل بعضه فى بعض، وفى الغلبة ذلك، لتحاطمهم فى قرارهم، وذلك إجمال وذكر أوله، وبعض تفصيله بقوله { وقتل داود } النبى آبن إيشى من جيش طالوت لم يبلغ الحلم، سقيما أصغر، يرعى غنما، أصغر ولد إيشى، وهم ثلاثة عشر، حضر القتال منهم معه سبعة، أحدهم داود، وقيل كلهم { جالوت } جبار من العمالقة من ولد عمليق بن عاد فى بيضة ثلاثمائة رطل حديد، وظله ميل، وقيل طوله، روى أن جالوت قال، أبرزوا إلى من يقاتلنى، فإن قتلنى فلكم ملكى وإن قتلته فلى ملككم، أوحى الله إلى نبيهم، أى الذى يقلته داود، فطلبه طالوت من أبيه، ومر إلى جالوت داود على ثلاثة أحجار، واحد بعد واحد، كل يقول: يا داود تقتل جالوت بى، فحملهن، وقيل قال له الأول، احملنى فأنا حجر هارون، والثانى احملنى فإنى حجر موسى، والثالث احملنى فإنى حجرك الذى تقتل بى جالوت، وحملهن فى مخلاته، وصات حجرا، ولعل الثالث هو الذى يتصل بجالوت ويخرقه، والآخران متصلان به كعصا، وعرض عليه طالوت سلاحا أو ألبسه سلاحا فامتنع، فقال أقاتله بنصر بى، فلما قابل جالوت بالحجارة والمقلاع قال: تقاتلنى كالكلب، قال، أنت شر منه لكفرك بربى، فقال، لأطعمنك الطير، روى أنه امتنع بنو إسرائيل من مقابلة جالوت لعظم جسمه وطوله، فنادى طالوت فى عسكره، من قتل جالوت زوجته ابنتى وناصفته فى ملكى، فلم يجبه أحد، فسأل طالوت نبيهم أشمويل أو غيره على ما مر، وهو معهم، فدعا الله، فأتى طالوت بقرن فيه دهن القدس، وقيل له، يقتله الذى إذا وضع القرن على رأسه سال الدهن حتى يدهن رأسه، ولا يسيل على وجهه، فجربه على بنى إسرائيل، فلم يسل إلا على داود، فقال، اقتله وأزوجك بنتى وأناصفك ملكى، وجعل الحجارة الثلاثة فى مقلاعه، فقصد جالوت ودخل الرعب فى قلب جالوت، وروى أنه قال باسم إله إبراهيم، وأخرج حجرا، وقال، باسم إله إسحق، وأخرج حجرا، وقال، باسم إله يعقوب، وأخرج حجرا آخر، ووضعهن فى مقلاعه، فصرن حجرا واحدا، فرمى به جالوت، فحملته الريح حتى أصاب أنف البيضة فخرق دماغه وخرج من قفاه وقيل،، مكث فى دماغه، وقيل أصاب صدره، وقتل ثلاثين رجلا خلفه، وقيل، قال دواد: ما تفعلون بمن قتل هذا الأقلف؟ فزجره إخوته، فأتى من الجهة الأخرى، فقيل له، ابنة طالوت ونصف ملكه، فقتله داود فجره بإعانة الله مع طوله وثقله حتى ألقاه بين يدى طالوت، فزوجه بنته وناصفه ملكه، ومكث معه أربعين سنة واستقل بعد موته داود بالملك سبع سنين، كما قال الله جل وعلا { وءاته } أى داود { الله الملك } فى بنى إسرائيل، ووفى طالوت لداود بما وعد له، وظهر شأن داود فحسده فأراد قتله وعلم به داود فسجا له زق خمر فى فراشه، فضربه، فسالت، فقال رحم الله أخى داود، ما أكثر شربه للخمر، ووضع داود عند نومنه فى القائلة سهمين عند رأسه ورجليه وجنبيه فلما يقظ قال، رحم الله أخى داود قدر على قتلى ولم يقتلنى وقدرت على قتله ولم أعف، ووجده طالوت فى برية على رجليه، فقال، اليوم أقتله على فرسى، فهرب، وكان لا يدركه الفرس ودخل غارا ونسج عليه العنكبوت، ولما بلغ طالوت الغار قال، لو دخله لا نفسخ، وقتل كثيرا من العلماء وغيرهم على نهيهم له عن قتل داود، ثم ثاب وخلى الملك، وجاهد مع بنيه العشرة حتى مات معهم كفارة فخلص الملك لداود عليه السلام { والحكمة } النبوة بعد موت أشمويل وطالوت، ومات أشمويل قبل طالوت، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد من بنى إسرائيل قبل داود، وكان داود من سبط الملك، وكذا اجتمعا لابنه سليمان، وهما من أولاد يهوذا بن يعقوب، وفيهم الملك، وأما النبوة ففى أولاد لاوى بن يعقوب { وعلمه مما يشآء } كصنع الدروع من الحديد، ليلين فى يديه كالطين، وفهم صوت الطير وسائر ما له صوت من الحيوان، وقد يعلمه صوت الريح والماء والجمادات كصرير الباب والقلم، فإن التحقيق أن تسبيح الجمادات بلسان المقال لا بلسان الحال، والله يخلق التمييز لمن يشاء { ولولا دفع الله الناس بعضهم } أى المشركين والفساق { ببعض } أى المؤمنين ويكون الدفاع أيضا بالفساق أو بالمشركين، يدفعون ظلم الظالم كالسلطان الجائر وسلاطين الفرس، ولا مشرك الآن يدفع ظلما إلا وهو يفعل من الظلم أكثر مما يدفع { لفسدت الأرض } هذا الجنس السفلى، آدميوه وجنه، بالشرك والظلم، وقتل المسلمين وتخريب المساجد وتعطيل أمور الدين، وأرضه وجباله بالقحط والوباء والمضار، فتموت الحيوانات ويقل نفعهما، والحرث والشجر، وفى الآية تعظيم شأن الملك، فيقال: الدين والملك توأمان، وذهاب أحدهما ذهاب للآخر، والملك حارس، والدين أس، وما لا أس له مهدوم، وما لا حارس له فهو ضائع، ولا يصح أن يقال، ولولا دفاع الله الناس، كافرهم وفاجرهم بطاعة البر وتقواه، لأن الآية فى الدفع بالبعض عن البعض، لا فى دفع نقمات الله عنهم ببعض، ولو فسر أحمد الآية بذلك، واستأنس له بقول ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم:
" إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء "
، ثم قرأ، ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، وذلك أولى من تفسير فساد الأرض بفساد دين أهلها { ولكن الله ذو فضل على المسلمين } ومن فضله الدفع عنهم.
[2.252]
{ تلك } ما تقدم من قوله تعالى، ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم إلى هنا { ءايت الله نتلوها } نقصها بالقراءة بلسان جبريل، والجملة حال من آيات، لأن المبتدأ اسم إشارة، أو مستأنفهة { عليك بالحق } المطابق للواقع بحيث لا يرتاب فيه صاحب التواريخ المحقق، وقارىء الكتب الأولى، متعلق بنتلوها، أو بحال خاصة من ضمير نتلو، أو من ها أو من الكاف { وإنك لمن المرسلين } لدلالة ما نقص مع أنك فى أبعد أرض عن أهل الكتاب وأنك لا تقرأ كتابا ولا تكتبه، وأنك لا تجالس القصاص ولا تصاحبهم.
[2.253]
{ تلك الرسل } المذكورة العامة فى قوله، وإنك لمن المرسلين، وهذا أولى من أن يجعل المراد الرسل المذكورين فى السورة، أو معلوميه صلى الله عليه وسلم، والاستغراق هكذا بلا نظر إلى ذكرهم فى قوله، لمن المرسلين { فضلنا بعضهم على بعض } بخصائل حميدة بمحض فضلنا، فيفضل بالحسنات أيضا، ومن ذلك أنه شرع لبعض وأجرى بعضا على شرع من قبله، وليس التخصيص باستعداد وقابلية كما زعم بعض الحكماء { منهم من كلم الله } موسى ليلة الاختيار وفى الطور، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على أنه بالجسد، وآدم { ورفع بعضهم درجت } على درجات أو بدرجات، أو فى درجات، أو رفع درجات بعض على التمييز، كذا قيل، أو مفعول مطلق، لأن الدرجة رفعة، كأنه قال: ورفعنا بعضهم رفعات، أو حال، أى ذا درجات، أو مفعول ثان لرفعنا على تضمين معنى بلغنا بشد اللام، وذلك بفتضيله على غيره بمراتب متعددة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، كبعثه صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كلهم، الإنس والجن والملائكة وغيره بعثة لا تنسخ، وتفضيل أمته، وما أوتى نبى إلا أوتى صلى الله عليه وسلم مثلها زيادة على ما خص به، وقد أطلت فى شرح نونية المديح ما شاء الله وأما آدم فأرسل إلى أولاده وأولادهم، لكن لم يكن فى الدنيا سواهم، ولم يرسل إلى الجن، وأما نوح فعم بعد الغرق الناس ولم يبعث للجن، ولم يكن له العموم فى زمان البعثة، وقيل التكليم لموسى خاصة، ولا ينافى أن محمدا أفضل منه، لأنه يوجد فى المفضول ما لم يكن فى الفاضل، وقيل: البعض المرفوع درجات إبراهيم، إذ خص بالخلة، وهى أعلى المراتب، سوى الحبيبة، ومحمد حبيب الله، والحبيبة أعلى رتبة من الخلة، إذ الخليل محب لحاجته، والحبيب محب لا لغرض، والخليل يكون فعله برضاء الله، والحبيب يكون فعله برضاه، والحبيب مرتبته فى مرتبة اليقين، والخليل مرتبته فى حد الطمع، وروى فى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم خليل الله كإبراهيم وأنه حبيب الله أيضا، وقيل إدريس لقوله تعالى، ورفعناه مكانا عليا، وفى القولين ضعف لجمع الدرجات إلا أن يقال جمعت تعظيما، أو باعتبار ما يترتب، وقيل أولو العزم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وزيد، يعقوب ويوسف وأيوب وداود عليهم السلام { وءاتينا عيسى ابن مريم البينت } إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والتنبئة بما يؤكل وما يدخر وسائر آياته { وأيدنه } قويناه { بروح القدس } جبريل، يسير معه حيث سار حتى رفع إلى السماء، وخصه بالذكر لإفراط اليهود فى تحقيره، والنصارى فى تعظيمه، وجعل معجزاته سبب تفضيله، لأنه محسوسات، ولا خوف أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من كل نبى على حدة، وأما أن يكونوا كلهم دفعة دونه ففيه التوقف، وجزم بعض بأنهم دونه لقوله تعالى: فبهداهم اقتده؛ فإنه إذا اقتدى بهم كلهم فقد عمل عملهم كلهم فهو أفضل منهم مجموعين، ويدل له أيضا ما روى أن الملك قال: فلو وزنت به الناس كلهم لرجحهم، ويبحث بأن الأنبياء لم يذكروا كلهم فى الآية، بل بعضهم، وبأنه أمر بالافتداء بهم فى الأصول وما لا يختلف، وكيف يتصور أن يعمل بما تخالفوا فيه، وقيل أفضل من مجموعهم من حيث إن أعمال أمته كلها، ما نووه له وما لم ينووه راجعة إليه صلى الله عليه وسلم مع ما يقصد به من الصلاة والسلام عليه عدد التراب والأنفاس وذرات الأجسام والأعراض وغير ذلك { ولو شآء الله } قدر بعض، لو شاء الله عدم الاقتتال، وهذا التقدير هو الأنسب بالقاعدة من تقدير مفعول المعيشة بعد لو من جنس جوابها، ويقبل من جهة المعنى تقدير لو شاء الله ألا يختلفوا، أو ألا يؤمروا بالقتال، أو يهتدوا كلهم، وأشكل بأن الأعدام الأزلية لا تتعلق بها الإرادة، وإلا كانت حادثة فلا يقدر لو شاء الله عدم الاقتتال، أو ألا يختلفوا، أو ألا يؤمروا { ما اقتتل الذين من بعدهم } بعد الرسل، أى ما اقتتلت كل أمة بعد موت رسولها { من بعد ما جآءتهم البينت } المعجزات أو الآيات المتلوات، الهاء راجعة للرسل جاءتهم البينات من الله ليعلم الناس أنهم رسل الله عز وجل، أو للذين من بعدهم، أى جاءتهم من جهة الرسل، ومن بعد متعلق باقتتل، أو بدل من قوله، من بعد، والمراد بالاقتتال الاختلاف، لأنه سبب الاقتتل، ولذا قال { ولكن اختلفوا } وهذا أولى من رد اختلفوا إلى معنى اقتتلوا، عكس ما مر، أى لم يشأ عدم اقتتالهم، بل شاء اقتتالهم لاختلافهم { فمنهم من ءامن } ثبت على إيمانه السابق { ومنهم من كفر } كالنصارى بعد المسيح { ولو شاء الله ما اقتتلوا } تأكيد، وهو من باب البلاغة، أو تأسيس، أى ولو شاء الله عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة من الاختلاف والشقاق والمستتبعين للاقتتال بحسب العادة ما اقتتلوا { ولكن الله يفعل ما يريد } من توفيق وخذلان، فاختلفوا إيمانا وكفرا، ونقول من خارج، الله يفعل بإرادته ما يشاء لا بقهر قاهر، وهو مستقبل بالفعل، ولو جعل له أسبابا، وكل شىء مستأنف منه.
صفحه نامشخص