بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى
أما بعد فَهَذِهِ فُصُول جليلة الْمِقْدَار ينْتَفع بهَا الْمطَالع فِي كتب الحَدِيث وَكتب السّير وَالْأَخْبَار وأكثرها مَنْقُول من كتب أصُول الْفِقْه وأصول الحَدِيث
الْفَصْل الأول
عنوان
فِي بَيَان معنى الحَدِيث
الحَدِيث أَقْوَال النَّبِي ﷺ وأفعاله وَيدخل فِي أَفعاله تَقْرِيره وَهُوَ عدم إِنْكَاره لأمر رَآهُ أَو بلغه عَمَّن يكون منقادا للشَّرْع وَأما مَا يتَعَلَّق بِهِ ﵊ من الْأَحْوَال فَإِن كَانَت اختيارية فَهِيَ دَاخِلَة فِي الْأَفْعَال وَإِن كَانَت غير اختيارية كالحلية لم تدخل فِيهِ إِذْ لَا يتَعَلَّق بهَا حكم يتَعَلَّق بِنَا وَهَذَا التَّعْرِيف هُوَ الْمَشْهُور عِنْد عُلَمَاء أصُول الْفِقْه وَهُوَ الْمُوَافق لفنهم
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى إِدْخَال كل مَا يُضَاف إِلَى النَّبِي ﵊ فِي الحَدِيث فَقَالَ فِي تَعْرِيفه علم الحَدِيث أَقْوَال النَّبِي ﵊ وأفعاله وأحواله وَهَذَا التَّعْرِيف هُوَ الْمَشْهُور عِنْد عُلَمَاء الحَدِيث وَهُوَ الْمُوَافق لفنهم فَيدْخل فِي ذَلِك أَكثر مَا يذكر فِي كتب السِّيرَة كوقت ميلاده ﵊ ومكانه وَنَحْو ذَلِك
1 / 1
وَقد رَأَيْت أَن أذكر هُنَا فَائِدَة تَنْفَع الْمطَالع فِي كثير من الْمَوَاضِع وَهِي أَن مثل هَذَا يعد من قبيل اخْتِلَاف الْعبارَات لَا اخْتِلَاف الاعتبارات وَهُوَ لَيْسَ من قبيل الِاخْتِلَاف فِي الْحَقِيقَة كَمَا يتوهمه الَّذين لَا يمعنون النّظر فَإِنَّهُم كلما رَأَوْا اخْتِلَافا فِي الْعبارَة عَن شَيْء مَا سَوَاء كَانَ فِي تَعْرِيف أَو تَقْسِيم أَو غير ذَلِك حكمُوا بِأَن هُنَاكَ اخْتِلَافا فِي الْحَقِيقَة وَإِن لم تكن تِلْكَ الْعبارَات مُخْتَلفَة فِي الْمَآل
وَقد نَشأ عَن ذَلِك أغلاط لَا تحصى سرى كثير مِنْهَا إِلَى أنَاس من الْعلمَاء الْأَعْلَام فَذكرُوا الِاخْتِلَاف فِي مَوَاضِع لَيْسَ فِيهَا اخْتِلَاف اعْتِمَادًا على من سبقهمْ إِلَى نَقله وَلم يخْطر فِي بالهم أَن الَّذين عولوا عَلَيْهِم قد نقلوا الْخلاف بِنَاء على فهمهم وَلم ينتبهوا إِلَى وهمهم وَكَثِيرًا مَا انتبهوا إِلَى ذَلِك بعد حِين فنبهوا عَلَيْهِ وَذَلِكَ عِنْد وقوفهم على الْعبارَات الَّتِي بنى الِاخْتِلَاف عَلَيْهَا النَّاقِل الأول وَقد حمل هَذَا الْأَمر كثرا مِنْهُم إِلَى فرط الحذر حِين النَّقْل
وَقد أَشَارَ إِلَى نَحْو مَا ذكرنَا الإِمَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية فِي رسَالَته فِي قَوَاعِد التَّفْسِير فَقَالَ الْخلاف بَين السّلف فِي التَّفْسِير قَلِيل وغالب مَا يَصح عَنْهُم من الْخلاف يرجع إِلَى اخْتِلَاف تنوع لَا اخْتِلَاف تضَاد وَذَلِكَ صنفان
أَحدهمَا أَن يعبر وَاحِد مِنْهُم عَن المُرَاد بِعِبَارَة غير عبارَة صَاحبه تدل عل معنى فِي الْمُسَمّى غير الْمَعْنى الآخر مَعَ اتِّحَاد الْمُسَمّى كتفسير بَعضهم الصِّرَاط الْمُسْتَقيم بِالْقُرْآنِ أَي اتِّبَاعه وَتَفْسِير بَعضهم لَهُ بِالْإِسْلَامِ فالقولان متفقان لِأَن دين الْإِسْلَام هُوَ اتِّبَاع الْقُرْآن لَكِن كل مِنْهُمَا نبه على وصف غير وصف الآخر كَمَا أَن لفظ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم يشْعر بِوَصْف ثَالِث
1 / 38
وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ هُوَ السّنة وَالْجَمَاعَة وَقَول من قَالَ هُوَ طَرِيق الْعُبُودِيَّة وَقَول من قَالَ هُوَ طَاعَة الله وَرَسُوله وأمثال ذَلِك فَهَؤُلَاءِ كلهم أشاروا إِلَى ذَات وَاحِدَة وَلَكِن وصفهَا كل مِنْهُم بِصفة من صفاتها
الثَّانِي أَن يذكر كل مِنْهُم من الِاسْم الْعَام بعض أَنْوَاعه على سَبِيل التَّمْثِيل وتنبيه المستمع على النَّوْع لَا على سَبِيل الْحَد المطابق للمحدود فِي عُمُومه وخصوصه مِثَاله مَا نقل فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا﴾ الْآيَة فمعلوم أَن الظَّالِم لنَفسِهِ يتَنَاوَل المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات والمقتصد يتَنَاوَل فَاعل الْوَاجِبَات وتارك الْمُحرمَات وَالسَّابِق يدْخل فِيهِ من سبق فتقرب بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَات فالمقتصدون أَصْحَاب الْيَمين وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون
ثمَّ إِن كلا مِنْهُم يذكر فِي هَذَا نوعا من أَنْوَاع الطَّاعَات كَقَوْل الْقَائِل السَّابِق الَّذِي يُصَلِّي فِي أول الْوَقْت والمقتصد الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ والظالم لنَفسِهِ الَّذِي يُؤَخر الْعَصْر إِلَى الاصفرار أَو يَقُول السَّابِق المحسن بِالصَّدَقَةِ مَعَ الزَّكَاة والمقتصد الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة فَقَط والظالم مَانع الزَّكَاة
ثمَّ قَالَ وَمن أَقْوَال الْمَأْخُوذَة عَنْهُم ويجعلها بعض النَّاس اخْتِلَافا أَن يعبروا عَن الْمعَانِي بِأَلْفَاظ مُتَقَارِبَة كَمَا إِذا فسر بَعضهم ﴿تبسل﴾ بتحبس وَبَعْضهمْ بترتهن لِأَن كلا مِنْهُمَا قريب من الآخر اهـ
وَقَالَ بعض الْعلمَاء فِي كتاب ألفة فِي أصُول التَّفْسِير قد يحْكى عَن التَّابِعين عِبَارَات مُخْتَلفَة الْأَلْفَاظ فيظن من لَا فهم عِنْده أَن ذَلِك اخْتِلَاف مُحَقّق فيحكيه
1 / 39
أقوالا وَلَيْسَ كَذَلِك بل يكون كل وَاحِد مِنْهُم ذكر معنى من مَعَاني الْآيَة لكَونه أظهر عِنْده أَو أليق بِحَال السَّائِل وَقد يكون بَعضهم يخبر عَن الشَّيْء بلازمه وَنَظِيره وَالْآخر بثمرته ومقصوده وَالْكل يؤول إِلَى معنى وَاحِد غَالِبا اهـ
ولنرجع إِلَى الْمَقْصُود فَنَقُول قد عرفت أَن الحَدِيث مَا أضيف إِلَى النَّبِي ﵊ فَيخْتَص بالمرفوع عِنْد الْإِطْلَاق وَلَا يُرَاد بِهِ الْمَوْقُوف إِلَّا بقرينه
وَأما الْخَبَر فَإِنَّهُ أَعم لِأَنَّهُ يُطلق على الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف فَيشْمَل مَا أضيف إِلَى الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَعَلِيهِ يُسمى كل حَدِيث خَبرا وَلَا يُسمى كل خبر حَدِيثا
وَقد أطلق بعض الْعلمَاء الحَدِيث على الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف فَيكون مرادفا للْخَبَر وَقد خص بَعضهم الحَدِيث بِمَا جَاءَ عَن النَّبِي ﵊ وَالْخَبَر بِمَا جَاءَ عَن غَيره فَيكون مباينا للْخَبَر
وَأما الْأَثر فَإِنَّهُ مرادف للْخَبَر فيطلق على الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف وفقهاء خُرَاسَان يسمون الْمَوْقُوف بالأثر وَالْمَرْفُوع بالْخبر
وَأما السّنة فَتطلق فِي الْأَكْثَر على مَا أضيف إِلَى النَّبِي ﵊ من قَول أَو فعل أَو تَقْرِير فَهِيَ مرادفة للْحَدِيث عِنْد عُلَمَاء الْأُصُول وَهِي أَعم مِنْهُ عِنْد من خص الحَدِيث بِمَا أضيف إِلَى النَّبِي ﵊ من قَول فَقَط وعَلى ذَلِك يحمل قَوْلهم اخْتلف فِي جَوَاز رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى فَيَنْبَغِي للطَّالِب أَن يعرف اخْتِلَاف الْعرف هُنَا ليأمن الزلل
وَبِمَا ذكرنَا من أَن بعض الْمُحدثين قد يُطلق الحَدِيث على الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف يَزُول الْإِشْكَال الَّذِي يعرض لكثير من النَّاس عِنْدَمَا يحْكى لَهُم أَن فلَانا كَانَ يحفظ سبع مئة ألف حَدِيث صَحِيح فَإِنَّهُم مَعَ استبعادهم ذَلِك يَقُولُونَ أَيْن تِلْكَ الْأَحَادِيث وَلم لم تصل إِلَيْنَا وهلا نقل الْحفاظ وَلَو مِقْدَار عشرهَا وَكَيف سَاغَ لَهُم أَن يهملوا أَكثر مَا ثَبت عَنهُ ﵊ مَعَ أَن مَا اشتهروا بِهِ من فرط الْعِنَايَة
1 / 40
بِالْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَن لَا يتْركُوا مَعَ الْإِمْكَان شَيْئا مِنْهُ
ولنذكر لَك شَيْئا مِمَّا رُوِيَ فِي قدر حفظ الْحفاظ نقل عَن الْأَمَام أَحْمد أَنه صَحَّ من الحَدِيث سبع مائَة ألف وَكسر وَهَذَا الْفَتى يَعْنِي أَبَا زرْعَة قد حفظ سبع مئة ألف قَالَ الْبَيْهَقِيّ أَرَادَ مَا صَحَّ من الْأَحَادِيث وأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عمر الرَّازِيّ الْحَافِظ كَانَ أَبُو زرْعَة يحفظ سبع مئة ألف حَدِيث وَكَانَ يحفظ مئة وَأَرْبَعين ألفا فِي التَّفْسِير
وَنقل عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ أحفظ مئة ألف حَدِيث صَحِيح ومئتي ألف حَدِيث غير صَحِيح
وَنقل عَن مُسلم أَنه قَالَ صنفت هَذَا الْمسند الصَّحِيح من ثَلَاث مئة ألف حَدِيث مسموع
وَمِمَّا يرفع استغرابك لما نقل عَن أبي زرْعَة من أَنه كَانَ يحفظ مئة وَأَرْبَعين ألف حَدِيث فِي التَّفْسِير أَن ﴿النَّعيم﴾ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم﴾ قد ذكر الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ عشرَة أَقْوَال كل قَول مِنْهَا يُسمى حَدِيثا فِي عرف من جعله بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ وَأَن ﴿الماعون﴾ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون الَّذين هم يراؤون وَيمْنَعُونَ الماعون﴾ قد ذكرُوا فِيهِ سِتَّة أَقْوَال كل قَول مِنْهَا مَا عدا السَّادِس يعد حَدِيثا كَذَلِك
1 / 41
قَالَ الْعَلامَة أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن الْجَوْزِيّ فِي تَفْسِيره الْمُسَمّى ب زَاد الْمسير فِي تَفْسِير سُورَة التكاثر وللمفسرين فِي المُرَاد بالنعيم عشرَة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه الْأَمْن وَالصِّحَّة رَوَاهُ ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي ﷺ وَتارَة يَأْتِي مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَبِه قَالَ مُجَاهِد وَالشعْبِيّ
وَالثَّانِي أَنه المَاء الْبَارِد رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ
وَالثَّالِث أَنه خبز الْبر وَالْمَاء العذب قَالَه أَبُو أُمَامَة
وَالرَّابِع أَنه ملاذ الْمَأْكُول والمشروب قَالَه جَابر بن عبد الله
وَالْخَامِس أَنه صِحَة الْأَبدَان والأسماع والأبصار قَالَه ابْن عَبَّاس وَقَالَ قَتَادَة هُوَ الْعَافِيَة
وَالسَّادِس أَنه الْغَدَاء وَالْعشَاء قَالَه الْحسن
وَالسَّابِع الصِّحَّة والفراغ قَالَه عِكْرِمَة
وَالثَّامِن كل شَيْء من لَذَّة الدُّنْيَا قَالَه مُجَاهِد
وَالتَّاسِع أَنه إنعام الله على الْخلق بإرسال مُحَمَّد ﷺ قَالَه الْقرظِيّ
والعاشر أَنه صنوف النعم قَالَه مقَاتل
وَالصَّحِيح أَنه عَام فِي كل نعيم وعام فِي جَمِيع الْخلق فالكافر يسْأَل توبيخا إِذْ لم يشْكر الْمُنعم وَلم يوحده وَالْمُؤمن يسْأَل عَن شكر النعم
1 / 42
وَقَالَ فِي تَفْسِير سُورَة الدّين وَفِي ﴿الماعون﴾ سِتَّة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه الإبرة وَالْمَاء وَالنَّار والفأس وَمَا يكون فِي الْبَيْت من هَذَا النَّحْو رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ وَإِلَى نَحْو هَذَا ذهب ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة وروى عَنهُ أَبُو صَالح أَنه قَالَ الماعون الْمَعْرُوف كُله حَتَّى ذكر الْقدر والقصعة والفأس وَقَالَ عِكْرِمَة لَيْسَ الويل لمن منع هَذَا وَإِنَّمَا الويل لمن جمعهن فراءى فِي صلَاته وسها عَنْهَا وَمنع هَذَا قَالَ الزّجاج والماعون فِي الْجَاهِلِيَّة كل مَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَة كالفأس وَالْقدر والدلو والقداحة وَنَحْو ذَلِك وَفِي الْإِسْلَام أَيْضا
وَالثَّانِي أَنه الزَّكَاة قَالَه عَليّ وَابْن عمر وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة
وَالثَّالِث أَنه الطَّاعَة قَالَه ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة
وَالرَّابِع المَال قَالَه سعيد بن الْمسيب وَالزهْرِيّ
وَالْخَامِس الْمَعْرُوف قَالَه مُحَمَّد بن كَعْب
وَالسَّادِس المَاء ذكره الْفراء عَن بعض الْعَرَب اهـ
هَذَا وَقد اعْترض بعض النَّاس على المؤلفين الَّذين ينقلون فِي الْمَسْأَلَة جَمِيع الْأَقْوَال الَّتِي وقفُوا عَلَيْهَا كَمَا فعله بعض عُلَمَاء التَّفْسِير وعلماء الْأُصُول وَمن نحا نحوهم وَذَلِكَ لجهلهم باخْتلَاف أغراض المصنفين ومقاصدهم ولتوهمهم أَن طَرِيق التَّأْلِيف يجب أَن لَا يُخَالف مَا تخيلوه فِي أذهانهم
وَقد أحببنا أَن نختم هَذَا الْفَصْل بِالْجَوَابِ عَن اعتراضهم فَنَقُول
إِن تِلْكَ الْأَقْوَال إِن كَانَت مُخْتَلفَة فِي الْمَآل عرف النَّاظر الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة
1 / 43
وَفِي معرفَة الْخلاف فَائِدَة لَا تنكر وَكَثِيرًا مَا يستنبط من أمعن النّظر فِيهَا قولا آخر يُوَافق كل وَاحِد من الْأَقْوَال الْمَذْكُورَة من بعض الْوُجُوه وَكَثِيرًا مَا يكون أقوى من كل وَاحِد مِنْهَا وأقوم وَقد وَقع ذَلِك فِي مسَائِل لَا تحصى فِي عُلُوم شَتَّى
وَإِن كَانَت تِلْكَ الْأَقْوَال غير مُخْتَلفَة فِي الْمَآل كَانَ من توارد الْعبارَات الْمُخْتَلفَة على الشَّيْء الْوَاحِد وَفِي ذَلِك من رسوخ الْمَسْأَلَة فِي النَّفس ووضوح أمرهَا مَا لَا يكون فِي الْعبارَة الْوَاحِدَة على أَن بعض الْعبارَات رُبمَا كَانَ فِيهَا شَيْء من الْإِبْهَام أَو الْإِيهَام فيزول ذَلِك بغَيْرهَا وَقد يكون بَعْضهَا أقرب إِلَى فهم بعض الناظرين فكثيرا مَا تعرض عبارتان متحدتا الْمَعْنى لاثْنَيْنِ تكون إِحْدَاهمَا أقرب إِلَى فهم أَحدهمَا وَالْأُخْرَى أقرب إِلَى فهم الآخر وَهَذَا مشَاهد بالعيان لَا يحْتَاج إِلَى برهَان وَمن ثمَّ ترى بعض المؤلفين قد يأْتونَ بِعِبَارَة ثمَّ إِذا بدا لَهُم أَن بعض المطالعين رُبمَا لم يفهمها أَتَوا بِعِبَارَة أُخْرَى وأشاروا إِلَى ذَلِك
وَإِذا عرفت هَذَا تبين لَك أَن مثل هَؤُلَاءِ المعترضين مثل غر جال فِي الْأَسْوَاق فَصَارَ كلما رأى شَيْئا لم يشْعر بفائدته أَو لم تدع حَاجته إِلَيْهِ عد وجوده عَبَثا وسفه رَأْي عماله والراغبين فِيهِ وَكَانَ الأجدر بِهِ أَن يقبل على مَا يعنيه ويعرض عَمَّا لَا يعنيه
وَكَأن كثيرا مِنْهُم يظنّ أَن الِاعْتِرَاض على أَي وَجه كَانَ يدل على الْعلم والنباهة مَعَ انه كثيرا مَا يدل على الْجَهْل والبلاهة وَلَا نُرِيد بِمَا ذكرنَا سد بَاب الِاعْتِرَاض على المؤلفين والمؤلفات بل صد الَّذين بتعرضون لذَلِك ببادىء الرَّأْي لَا غير وَإِلَّا فالاعتراض إِذا كَانَ معقولا لَا يُنكر بل قد يحمد عَلَيْهِ صَاحبه ويشكر
1 / 44
الْفَصْل الثَّانِي
فِي سَبَب جمع الحَدِيث فِي الصُّحُف وَمَا يُنَاسب ذَلِك
كَانَت الصَّحَابَة ﵃ لَا يَكْتُبُونَ عَن النَّبِي ﷺ غير الْقُرْآن أخرج مُسلم فِي صَحِيحه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ لَا تكْتبُوا عني وَمن كتب عني غير الْقُرْآن فليمحه وَحَدثُوا عني فَلَا حرج وَمن كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار
قَالَ كثير من الْعلمَاء نَهَاهُم عَن كِتَابَة الحَدِيث خشيَة اخْتِلَاطه بِالْقُرْآنِ وَهَذَا لَا يُنَافِي جَوَاز كِتَابَته إِذا أَمن اللّبْس وَبِذَلِك يحصل الْجمع بَين هَذَا وَبَين قَوْله ﵊ فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ ايتوني بِكِتَاب أكتب لكم كتابا لَا تضلوا بعده وَقَوله اكتبوا لأبي شاه وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث
وَلما توفّي النَّبِي ﵊ بَادر الصَّحَابَة إِلَى جمع مَا كتب فِي عَهده فِي مَوضِع وَاحِد وَسموا ذَلِك الْمُصحف واقتصروا على ذَلِك وَلم يتجاوزوه إِلَى كِتَابَة الحَدِيث وَجمعه فِي مَوضِع وَاحِد كَمَا فعلوا بِالْقُرْآنِ لَكِن صرفُوا هممهم إِلَى نشره بطرِيق الرِّوَايَة إِمَّا بِنَفس الْأَلْفَاظ الَّتِي سمعوها مِنْهُ ﵊ إِن بقيت فِي أذهانهم أَو بِمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهَا إِن غَابَتْ عَنْهُم فَإِن الْمَقْصُود بِالْحَدِيثِ هُوَ الْمَعْنى وَلَا يتَعَلَّق فِي الْغَالِب حكم بالمبنى بِخِلَاف الْقُرْآن فَإِن لألفاظه مدخلًا فِي الإعجاز فَلَا يجوز إِبْدَال لفظ مِنْهُ بِلَفْظ آخر وَلَو كَانَ مرادفا لَهُ خشيَة النسْيَان مَعَ طول الزَّمَان فَوَجَبَ أَن يُقيد بِالْكِتَابَةِ وَلَا يكْتَفى فِيهِ بِالْحِفْظِ
1 / 45
قَالَ الإِمَام الْخطابِيّ فِي كِتَابه فِي إعجاز الْقُرْآن إِنَّمَا يقوم الْكَلَام بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة لفظ حَامِل وَمعنى قَائِم بِهِ ورباط لَهما ناظم وَإِذا تَأَمَّلت الْقُرْآن وجدت هَذِه الْأُمُور مِنْهُ فِي غَايَة الشّرف والفضيلة حَتَّى لَا ترى شَيْئا من الْأَلْفَاظ أفْصح وَلَا أجزل وَلَا أعذب من أَلْفَاظه وَلَا ترى نظما أحسن تأليفا وَأَشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه
وَأما مَعَانِيه فَكل ذِي لب يشْهد لَهَا بالتقدم فِي أبوابه والترقي إِلَى أَعلَى درجاته وَقد تُوجد هَذِه الْفَضَائِل الثَّلَاث على التَّفَرُّق فِي أَنْوَاع الْكَلَام فَأَما أَن تُوجد مَجْمُوعَة فِي نوع وَاحِد مِنْهُ فَلم تُوجد إِلَّا فِي كَلَام الْعَلِيم الْقَدِير
فَخرج من هَذَا أَن الْقُرْآن إِنَّمَا صَار معجزا لِأَنَّهُ جَاءَ بأفصح الْأَلْفَاظ فِي أحسن نظم فِي التَّأْلِيف مضمنا أصح الْمعَانِي من تَوْحِيد الله تَعَالَى وتنزيه لَهُ فِي ذَاته وَصِفَاته وَدُعَاء إِلَى طَاعَته وَبَيَان لطريق عِبَادَته وَمن تَحْلِيل وَتَحْرِيم وحظر وَإِبَاحَة وَمن وعظ وتقويم وَأمر بِمَعْرُوف وَنهي عَن مُنكر وإرشاد إِلَى محَاسِن الْأَخْلَاق وزجر عَن مساويها وَاضِعا كل شَيْء مِنْهَا مَوْضِعه الَّذِي لَا يرى شَيْء أولى مِنْهُ
وَلَا يتَوَهَّم فِي صُورَة الْعقل أَمر أليق بِهِ مِنْهُ مودعا أَخْبَار الْقُرُون الْمَاضِيَة وَمَا نزل من مثلات الله بِمن مضى وعاند مِنْهُم منبئا عَن الكوائن المستقبلية فِي الْأَعْصَار الْآتِيَة من الزَّمَان جَامعا بَين الْحجَّة والمحتج لَهُ وَالدَّلِيل والمدلول عَلَيْهِ ليَكُون ذَلِك آكِد للُزُوم مَا دَعَا إِلَيْهِ وأنبأ عَن وجوب مَا أَمر بِهِ وَنهى عَنهُ
وَمَعْلُوم أَن الْإِتْيَان بِمثل هَذِه الْأُمُور وَالْجمع بَين أشتاتها حَتَّى تنتظم وتتسق أَمر تعجز عَنهُ قوى الْبشر وَلَا تبلغه قدرتهم فَانْقَطع الْخلق دونه وعجزوا عَن معارضته بِمثلِهِ أَو مناقضته فِي شكله اهـ
1 / 46
وَقَالَ إِمَام الْمُتَكَلِّمين على طَريقَة السّلف تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية فِي الرسَالَة الملقبة بالتسعينية وَهِي رِسَالَة تبلغ مجلدا كَبِيرا ألفها فِي الرَّد على الْمُتَكَلِّمين على طَريقَة الْخلف فِي مَسْأَلَة الْكَلَام فِي الْوَجْه الثَّالِث وَالسِّتِّينَ وَيجب أَن يعلم أصلان عظيمان
أَحدهمَا أَن الْقُرْآن لَهُ بِهَذَا اللَّفْظ وَالنّظم الْعَرَبِيّ اخْتِصَاص لَا يُمكن أَن يماثله فِي ذَلِك شَيْء أصلا أَعنِي خَاصَّة فِي اللَّفْظ وخاصة فِيمَا دلّ عَلَيْهِ من الْمَعْنى وَلِهَذَا لَو فسر الْقُرْآن أَو ترْجم فالتفسير والترجمة قد يَأْتِي بِأَصْل الْمَعْنى أَو بِمَا يقرب مِنْهُ وَأما الْإِتْيَان بِلَفْظ يبين الْمَعْنى كبيان لفظ الْقُرْآن فَهَذَا غير مُمكن أصلا وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّة الدّين على أَنه لَا يجوز أَن يقْرَأ بِغَيْر الْعَرَبيَّة لَا مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا وَلَا مَعَ الْعَجز عَنْهَا لِأَن ذَلِك يُخرجهُ عَن أَن يكون هُوَ الْقُرْآن الْمنزل وَلَكِن يجوز تَرْجَمته كَمَا يجوز تَفْسِيره وَإِن لم تجز قِرَاءَته بِأَلْفَاظ التَّفْسِير وَهِي إِلَيْهِ أقرب من أَلْفَاظ التَّرْجَمَة بِأَلْفَاظ أُخْرَى
الأَصْل الثَّانِي أَنه إِذا ترْجم أَو قرئَ بالترجمة فَلهُ معنى يخْتَص بِهِ لَا يماثله فِيهِ كَلَام أصلا وَمَعْنَاهُ أَشد مباينة لسَائِر مَعَاني الْكَلَام من مباينة لَفظه ونظمه لسَائِر اللَّفْظ وَالنّظم والإعجاز فِي مَعْنَاهُ أعظم بِكَثِير كثير من الإعجاز فِي لَفظه وَقَوله تَعَالَى ﴿قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضهم لبَعض ظهيرا﴾ يتَنَاوَل ذَلِك كُله انْتهى
هَذَا وَلم يزل أَمر الحَدِيث فِي عصر الصَّحَابَة وَأول عصر التَّابِعين على مَا ذكرنَا وَلما أفضت الْخلَافَة إِلَى من قَامَ بِحَقِّهَا عمر بن عبد الْعَزِيز أَمر بِكِتَابَة
1 / 47
الحَدِيث وَكَانَت مبايعته بالخلافة فِي صفر سنة تسع وَتِسْعين ووفاته لخمس بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى ومئة وعاش أَرْبَعِينَ سنة وأشهرا وَكَانَ مَوته بالسم فَإِن بني أُميَّة ظهر لَهُم أَنه إِن امتدت أَيَّامه أخرج الْأَمر من أَيْديهم وَلم يعْهَد بِهِ إِلَّا لمن يصلح لَهُ فعاجلوه
قَالَ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي كتاب الْعلم وَكتب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى أبي بكر بن حزم انْظُر مَا كَانَ من حَدِيث رَسُول الله ﷺ فاكتبه فَإِنِّي خفت دروس الْعلم وَذَهَاب الْعلمَاء
وَأَبُو بكر هَذَا كَانَ نَائِب عمر بن عبد الْعَزِيز فِي الإمرة وَالْقَضَاء على الْمَدِينَة روى عَن السَّائِب بن يزِيد وَعباد بن تَمِيم وَعَمْرو بن سليم الزرقي وروى عَن خَالَته عمْرَة وَعَن خالدة ابْنة أنس وَلها صُحْبَة
قَالَ مَالك لم يكن أحد بِالْمَدِينَةِ عِنْده من علم الْقَضَاء مَا كَانَ عِنْد أبي بكر بن حزم وَكتب إِلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز أَن يكْتب لَهُ من الْعلم مَا عِنْد عمْرَة وَالقَاسِم فَكَتبهُ لَهُ وَأخذ عَنهُ معمر وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك وَابْن أبي ذِئْب وَابْن إِسْحَاق وَغَيرهم وَكَانَت وَفَاته فِيمَا قَالَه الْوَاقِدِيّ وَابْن سعد وَجَمَاعَة سنة عشْرين ومئة
وَأول من دون الحَدِيث بِأَمْر عمر بن عبد الْعَزِيز مُحَمَّد بن مُسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهَاب الزُّهْرِيّ الْمدنِي أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وعالم أهل الْحجاز وَالشَّام
أَخذ عَن ابْن عمر وَسَهل بن سعد وَأنس بن مَالك ومحمود بن الرّبيع وَسَعِيد بن الْمسيب وَأبي أُمَامَة بن سهل وطبقتهم من صغَار الصَّحَابَة وكبار التَّابِعين
1 / 48
وَأخذ عَنهُ معمر وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك وَابْن أبي ذِئْب وَغَيرهم ولد سنة خمسين وَتُوفِّي سنة أَربع وَعشْرين ومئة
قَالَ عبد الرَّزَّاق سَمِعت معمرا يَقُول كُنَّا نرى أَنا قد أكثرنا عَن الزُّهْرِيّ حَتَّى قتل الْوَلِيد بن يزِيد فَإِذا الدفاتر قد حملت على الدَّوَابّ من خزائنه يَقُول من علم الزُّهْرِيّ
ثمَّ شاع التدوين فِي الطَّبَقَة الَّتِي تلِي طبقَة الزُّهْرِيّ ولوقوع ذَلِك فِي كثير من الْبِلَاد وشيوعه بَين النَّاس اعتبروه الأول فَقَالُوا كَانَت الْأَحَادِيث فِي عصر الصَّحَابَة وكبار التَّابِعين غير مدونة فَلَمَّا انتشرت الْعلمَاء فِي الْأَمْصَار وشاع الابتداع دونت ممزوجة بأقوال الصَّحَابَة وفتاوى التَّابِعين
وَأول من جمع ذَلِك ابْن جريح بِمَكَّة وَابْن إِسْحَاق أَو مَالك بِالْمَدِينَةِ وَالربيع بن صبيح أَو سعيد بن أبي عرُوبَة أَو حَمَّاد بن سَلمَة بِالْبَصْرَةِ وسُفْيَان الثَّوْريّ بِالْكُوفَةِ وَالْأَوْزَاعِيّ بِالشَّام وهشيم بواسط وَمعمر بِالْيمن وَجَرِير بن عبد الحميد بِالريِّ وَابْن الْمُبَارك بخراسان وَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي عصر وَاحِد وَلَا يدْرِي أَيهمْ سبق قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر إِن مَا ذكر إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجمع فِي الْأَبْوَاب وَأما جمع حَدِيث إِلَى مثله فِي بَاب وَاحِد فقد سبق إِلَيْهِ الشّعبِيّ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ هَذَا بَاب من الطَّلَاق جسيم وسَاق فِيهِ أَحَادِيث اهـ
وتلا الْمَذْكُورين كثير من أهل عصرهم إِلَى أَن رأى بعض الْأَئِمَّة إِفْرَاد أَحَادِيث النَّبِي ﷺ خَاصَّة وَذَلِكَ على رَأس المئتين فصنف عبيد الله بن مُوسَى الْعَبْسِي الْكُوفِي مُسْندًا وصنف مُسَدّد الْبَصْرِيّ مُسْندًا وصنف أَسد بن مُوسَى مُسْندًا وصنف نعيم بن حَمَّاد الْخُزَاعِيّ مُسْندًا
1 / 49
ثمَّ اقتفى الْحفاظ آثَارهم فصنف الإِمَام أَحْمد مُسْندًا وَكَذَلِكَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَعُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيرهم
وَلم يزل التَّأْلِيف فِي الحَدِيث مُتَتَابِعًا إِلَى أَن ظهر الإِمَام البُخَارِيّ وبرع فِي علم الحَدِيث وَصَارَ لَهُ فِيهِ الْمنزلَة الَّتِي لَيْسَ فَوْقهَا منزلَة فَأَرَادَ أَن يجرد الصَّحِيح ويجعله فِي كتاب على حِدة ليخلص طَالب الحَدِيث من عناء الْبَحْث وَالسُّؤَال فألف كِتَابه الْمَشْهُور وَأورد فِيهِ مَا تبين لَهُ صِحَّته
وَكَانَت الْكتب قبله ممزوجا فِيهَا الصَّحِيح بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يتَبَيَّن للنَّاظِر فِيهَا دَرَجَة الحَدِيث من الصِّحَّة إِلَّا بعد الْبَحْث عَن أَحْوَال رُوَاته وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث فَإِن لم يكن لَهُ وقُوف على ذَلِك اضْطر إِلَى أَن يسْأَل أَئِمَّة الحَدِيث عَنهُ فَإِن لم يَتَيَسَّر لَهُ ذَلِك بَقِي ذَلِك الحَدِيث مَجْهُول الْحَال عِنْده
واقتفى أثر الإِمَام البُخَارِيّ فِي ذَلِك الإِمَام مُسلم بن الْحجَّاج وَكَانَ من الآخذين عَنهُ والمستفيدين مِنْهُ فألف كِتَابه الْمَشْهُور
ولقب هَذَانِ الكتابان بالصحيحين فَعظم انْتِفَاع النَّاس بهما وَرَجَعُوا عِنْد الِاضْطِرَاب إِلَيْهِمَا وألفت بعدهمَا كتب لَا تحصى فَمن أَرَادَ الْبَحْث عَنْهَا فَليرْجع إِلَى مظان ذكرهَا
هَذَا وَقد توهم أنَاس مِمَّا ذكر آنِفا أَنه لم يُقيد فِي عصر الصَّحَابَة وأوائل عصر التَّابِعين بِالْكِتَابَةِ شَيْء غير الْكتاب الْعَزِيز وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فقد ذكر بعض الْحفاظ أَن زيد بن ثَابت ألف كتابا فِي علم الْفَرَائِض
وَذكر البُخَارِيّ فِي صَحِيحه أَن عبد الله بن عَمْرو كَانَ يكْتب الحَدِيث فَإِنَّهُ روى عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ مَا من أحد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
1 / 50
وَسلم أَكثر حَدِيثا عَنهُ مني إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب
وَذكر مُسلم فِي صَحِيحه كتابا ألف فِي عهد ابْن عَبَّاس فِي قَضَاء عَليّ فَقَالَ حَدثنَا دَاوُد بن عَمْرو الضَّبِّيّ حَدثنَا نَافِع بن عمر عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ كتبت إِلَى ابْن عَبَّاس أسأله أَن يكْتب لي كتابا ويخفي عني فَقَالَ ولد نَاصح أَنا أخْتَار لَهُ الْأُمُور اخْتِيَارا وأخفي عَنهُ قَالَ فَدَعَا بِقَضَاء عَليّ فَجعل يكْتب مِنْهُ أَشْيَاء ويمر بِهِ الشَّيْء فَيَقُول وَالله مَا قضى بِهَذَا عَليّ إِلَّا أَن يكون ضل
وَحدثنَا عَمْرو النَّاقِد حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن هِشَام بن حُجَيْر عَن طَاوس قَالَ أُتِي ابْن عَبَّاس بِكِتَاب فِيهِ قَضَاء عَليّ فمحاه إِلَّا قدر وَأَشَارَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة بذراعه
حَدثنَا حسن بن عَليّ الْحلْوانِي حَدثنَا يحيى بن آدم حَدثنَا ابْن إِدْرِيس عَن الْأَعْمَش عَن أبي إِسْحَاق قَالَ لما أَحْدَثُوا تِلْكَ الْأَشْيَاء بعد عَليّ ﵇ قَالَ رجل من أَصْحَاب عَليّ قَاتلهم الله أَي علم أفسدوا
وَحدثنَا عَليّ بن خشرم أخبرنَا أَبُو بكر يَعْنِي ابْن عَيَّاش قَالَ سَمِعت الْمُغيرَة يَقُول لم يكن يصدق على عَليّ ﵇ فِي الحَدِيث عَنهُ إِلَّا من أَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود اهـ
1 / 51
قَوْله ويخفي عني وأخفي عَنهُ هما بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَقد ظن بَعضهم أَنَّهُمَا بِالْحَاء من الإحفاء بِمَعْنى الإلحاح أَو الِاسْتِقْصَاء وَجعل عَن بِمَعْنى على وَلَا يخفى مَا فِي ذَلِك من التعسف يُرِيد أَنه يكتم عَنهُ أَشْيَاء مِمَّا يخْشَى إِذا ظَهرت أَن يحصل مِنْهَا قيل وَقَالَ من النواصب والخوارج وناهيك بشوكتهما فِي ذَلِك الْعَصْر وبفرط ميلهما لمشاقة الإِمَام المرتضى فَاخْتَارَ عدم كِتَابَة ذَلِك دفا للمحذور مَعَ أَن هَذَا النَّوْع رُبمَا كَانَ مِمَّا لَا يلْزم السَّائِل مَعْرفَته وَإِن كَانَ مِمَّا يضْطَر إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمكنهُ أَن يحصل عَلَيْهِ بطرِيق المشافهة
وَأَرَادَ بقوله وَالله مَا قضى عَليّ بِهَذَا إِلَّا أَن يكون ضل أَنه لم يقْض بِهِ لِأَنَّهُ لم يضل وَالظَّاهِر أَن الْكتاب الَّذِي محاه إِلَّا قدر ذِرَاع مِنْهُ كَانَ على هَيْئَة درج مستطيل
وَابْن أبي مليكَة الْمَذْكُور هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة الْقرشِي التَّيْمِيّ الْمَكِّيّ قَاضِي مَكَّة فِي زمن ابْن الزبير وَكَانَ إِمَامًا فَقِيها فصيحا مفوها اتَّفقُوا على توثيقه روى عَنهُ ابْن جريح وَنَافِع بن عمر الجُمَحِي وَاللَّيْث بن سعد وَغَيرهم روى عَنهُ أَيُّوب قَالَ بَعَثَنِي ابْن الزبير على قَضَاء الطَّائِف فَكنت أسأَل ابْن عَبَّاس وَكَانَت وَفَاته سنه سبع عشرَة ومئة ووفاة ابْن عَبَّاس سنة ثَمَان وَسِتِّينَ
والمغيرة الْمَذْكُور هُوَ الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو هِشَام بن مقسم الضَّبِّيّ الْكُوفِي ولد أعمى وَكَانَ عجيبا فِي الذكاء قَالَ الذَّهَبِيّ فِي طَبَقَات الْحفاظ ضعف أَحْمد رِوَايَته عَن إِبْرَاهِيم فَقَط وَكَانَ عثمانيا وَيحمل على عَليّ بعض الْحمل وَقَالَ فِي الْمِيزَان إِمَام ثِقَة لَكِن لين أَحْمد بن حَنْبَل رِوَايَته عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فَقَط مَعَ أَنَّهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وروى عَن أبي وَائِل وَالشعْبِيّ وَمُجاهد
1 / 52
وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق النديم فِي كتاب الفهرست فِي أثْنَاء وصف خزانَة للكتب رَآهَا فِي مَدِينَة الحديثة لم ير لأحد مثلهَا كَثْرَة وَرَأَيْت فِيهَا بخطوط الْإِمَامَيْنِ الْحسن وَالْحُسَيْن وَرَأَيْت عِنْده أمانات وعهودا بِخَط أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ ﵇ وبخط غَيره من كتاب النَّبِي ﷺ
وَمن خطوط الْعلمَاء فِي النَّحْو واللغة مثل أبي عَمْرو بن الْعَلَاء وَأبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ والأصمعي وَابْن الْأَعرَابِي وسيبويه وَالْفراء وَالْكسَائِيّ
وَمن خطوط أَصْحَاب الحَدِيث مثل سُفْيَان بن عُيَيْنَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَغَيرهم
وَرَأَيْت مِمَّا يدل على أَن النَّحْو عَن أبي الْأسود مَا هَذِه حكايته وَهِي أَربع أوراق أحسبها من ورق الصين ترجمتها هَذِه فِيهَا كَلَام فِي الْفَاعِل وَالْمَفْعُول من أبي الْأسود رَحْمَة الله عَلَيْهِ بِخَط يحيى بن يعمر وَتَحْت هَذَا الْخط بِخَط عَتيق هَذَا خطّ عَلان النَّحْوِيّ وَتَحْته هَذَا خطّ النَّضر بن شُمَيْل اهـ
تَنْبِيه قد نقلنا آنِفا مَا ذكره الْعلمَاء الْأَعْلَام فِي طَرِيق الْجمع بَين الحَدِيث الَّذِي ورد فِي منع كِتَابَة مَا سوى الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي إجَازَة ذَلِك وَقد سلك ابْن قُتَيْبَة فِيهِ طَرِيقا آخر فَقَالَ فِي تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث وَهُوَ كتاب أَلفه فِي
1 / 53
الرَّد على الْمُتَكَلِّمين الَّذين أولعوا بثلب أهل الحَدِيث ورميهم بِحمْل الْكَذِب وَرِوَايَة المتناقض حَتَّى وَقع الِاخْتِلَاف وَكَثُرت النَّحْل وتقطعت العصم وتعادى الْمُسلمُونَ وأكفر بَعضهم بَعْضًا وَتعلق كل فريق مِنْهُم لمذهبه بِجِنْس من الحَدِيث
قَالُوا أَحَادِيث متناقضة قَالُوا رويتم عَن همام عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء ين يسَار عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ لَا تكْتبُوا عني شَيْئا سوى الْقُرْآن فَمن كتب عني شَيْئا فليمحه
ثمَّ رويتم عَن ابْن جريح عَن عَطاء عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ قلت يَا رَسُول الله أقيد الْعلم قَالَ نعم قيل وَمَا تَقْيِيده قَالَ كِتَابَته
ورويتم عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ قلت يَا رَسُول الله أكتب كل مَا أسمع مِنْك قَالَ نعم قلت فِي الرِّضَا وَالْغَضَب قَالَ نعم فَإِنِّي لَا أَقُول فِي ذَلِك إِلَّا الْحق
قَالُوا وَهَذَا تنَاقض وَاخْتِلَاف
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن نقُول إِن فِي هَذَا مَعْنيين
أَحدهمَا أَن يكون من مَنْسُوخ السّنة بِالسنةِ كَأَنَّهُ نهى فِي أول الْأَمر أَن يكْتب قَوْله ثمَّ رأى بعد لما علم أَن السّنَن تكْثر وتفوت الْحِفْظ أَن تكْتب وتقيد
وَالْمعْنَى الآخر أَن يكون خص بِهَذَا عبد الله بن عَمْرو لِأَنَّهُ كَانَ قَارِئًا للكتب الْمُتَقَدّمَة وَيكْتب بالسُّرْيَانيَّة والعربية وَكَانَ غَيره من الصَّحَابَة أُمِّيين لَا يكْتب مِنْهُم إِلَّا الْوَاحِد والاثنان وَإِذا كتب لم يتقن وَلم يصب التهجي فَلَمَّا خشِي عَلَيْهِم الْغَلَط فِيمَا يَكْتُبُونَ نَهَاهُم وَلما أَمن على عبد الله بن عَمْرو ذَلِك أذن لَهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد حَدثنَا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه قَالَ حَدثنَا وهب بن جرير عَن أَبِيه عَن يُونُس بن عبيد عَن الْحسن عَن عَمْرو بن تغلب عَن النَّبِي ﷺ قَالَ من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يفِيض المَال وَيظْهر الْقَلَم ويفشو التُّجَّار
1 / 54
قَالَ عَمْرو إِن كُنَّا لنلتمس فِي الحواء الْعَظِيم الْكَاتِب فَمَا يُوجد وَيبِيع الرجل البيع فَيَقُول حَتَّى أَستَأْمر تَاجر بني فلَان
1 / 55
انْتهى كَلَامه وبمثله يعلم فِي مثل هَذَا الْمقَام مقَامه
1 / 56