وهذه العبوديات لها أسباب تهيجها وتبعث عليها، وكلما قيض الرب_تعالى_لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك، المهيجة له_فهو من أسباب رحمته، ورب ذنب قد هاج لصاحبه من الخوف والإشفاق، والوجل، والإنابة، والمحبة_ما لا يهيجه كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سببا لاستقامة العبد، وفراره إلى الله، وبعده عن طريق الغي.
قال ابن القيم×: =وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار.
قالوا: وكيف ذلك؟
قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى ذكر ذنبه؛ فيحدث له انكسارا، وتوبة، واستغفارا، وندما؛ فيكون ذلك سبب نجاته.
ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجبا، وكبرا، ومنة، فتكون سبب هلاكه.
فيكون الذنب موجبا لترتب طاعات، وحسنات، ومعاملات قلبية من خوف الله، والحياء منه، والإطراق بين يديه منكسا رأسه خجلا، باكيا، نادما، مستقيلا ربه.
وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبرا وازدراء للناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
ولا ريب أن هذا المذنب خير عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته، الصائل بها، المان بها وبحاله على الله وعلى عباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك؛ فالله شهيد على ما في قلبه، ويكاد يعادي الخلق إذا لم يعظموه، ويخضعوا له، ويجد في قلبه بغضة لمن لم يفعل به ذلك.
ولو فتش نفسه حق التفتيش لرأى فيها ذلك كامنا؛ ولهذا تراه عاتبا على من لم يعظمه، ويعرف له حقه، متطلبا لعيبه في قالب حمية لله، وغضب له.
وإذا قام بمن يعظمه، ويحترمه، ويخضع له من الذنوب أضعاف ما قام بهذا_فتح له باب المعاذير والرجاء، وأغمض عنه عينيه وسمعه، وكف لسانه وقلبه، وقال: باب العصمة عن غير الأنبياء مسدود، وربما ظن أن ذنوب من يعظمه تكفر بإجلاله وتعظيمه وإكرامه إياه.
صفحه ۱۶