تتمة البیان در تاریخ افغانان
تتمة البيان في تاريخ الأفغان
ژانرها
وقد أخطأ جرجين خان في إرسال ميرويس إلى أصفهان مع علمه بأن الأمراء الشرقيين توطنت نفوسهم على الارتشاء، وأن بلوغ المقاصد ونيل المرام موقوفان على وجود الرشوة وعدمهما على عدمها، فإنه بإرساله هذا قد مكنه من إعطاء الرشوة لأولياء الدولة؛ لينال منهم مرامه، فلم تمض مدة من وصول ميرويس إلى أصفهان حتى اطلع على هيئة الحكومة وضعف عقل الشاه ونفاق أركان الدولة، وأولياء الأمور، وتودد إلى كثير من أعداء جرجين خان، واستمال قلوبهم إليه، حتى ساعدته الفرصة على مقابلة الشاه فبث إليه تفاصيل ما عنده من المطالب، وتمكن بحذقه وعذوبة منطقه من استمالة قلب الشاه إليه وتوسل بالرشوة إلى جذب قلوب الأمراء والكبراء، ولم يلبث أن انتظم في سلك أولياء الأمور في دولة الشاه.
وكان يمكنه إذ ذاك الرجوع إلى قندهار إلا أنه بعد اطلاعه على ضعف دولة إيران واختلال أمورها تمكن من نفسه فكر أعلى من هذا، وهو أنه يمكن أن يخلص بلاد الأفغان بتمامها ويفصل حكومتها عن حكومة الشاه، وعلم أن مثل هذا الأمر العظيم لا يصح الاستعجال فيه، فطلب من الشاه أن يرخص له في السفر للحج، فلما وصل إلى مكة المكرمة رأى من المناسب أن يأخذ بعض الفتاوى من علماء أهل السنة بوجوب محاربة الشيعة؛ ليدعو بذلك قومه إلى حرب دولة الشاه التي هي دولة شيعية، ويجمع كلمتهم على ذلك، فتحصل على بعض فتاوى بذلك، وبعد قضاء فريضة الحج رجع إلى أصفهان مخفيا أمره مظهرا للشاه غاية الإخلاص.
ومن غرائب الاتفاق أن وقعت في ذلك الوقت واقعة كانت من أحسن الوسائل لتنفيذ مقاصده، وهي أن رجلا مجهول النسب من الأرامنة عالما ببعض الألسن الشرقية تقدمت له خدمات للدولة الروسية في الممالك العثمانية فتوسل إلى إمبراطور الروس «بطرس الأكبر» في أن يجعله سفيرا لدى الشاه، فلحسن خدمته اقترن طلبه بالقبول فبعثه الإمبراطور إلى إيران سفيرا، وزاد في مكافأته أن أعفى جميع الأموال التجارية المتعلقة بهذا الرجل من رسوم الجمرك، فجمع هذا السفير كثيرا من تجار الأرمن، وتوجه بهم إلى إيران، ولما قرب من حدودها شهر نفسه بأنه من أولاد سلاطين الأرمن، فاتخذ ميرويس دخول هذا السفير بهذه الكيفية أحسن وسيلة لنيل مقاصده، وذلك أنه أخذ يتكلم في المجامع والمحافل سرا وعلانية، بأن النصارى يريدون أن ينزعوا كرجستان وأرمنستنان من أيدي دولة الشاه، ولا بد أن يكون جرجين خان حاكم قندهار هو الواسطة الفعالة في ذلك، ولقرب عهد جرجين خان بالإسلام؛ أخذ هذا الكلام من النفوس موقعا، وغلب على ظن أولياء الدولة صدقه، فراموا قهر جرجين خان، إلا أنه لقوة عضده وتمكنه في قندهار، تخوفوا من عصيانه عليهم، فأرجعوا ميرويس إلى بلاده حتى إذا تحرك وجرجين خان للعصيان قاومه للعداوة السابقة بينهما «انظر إلى ضعف الرأي واضطراب فكر الشرقيين إلى يومنا هذا.»
ولما رجع ميرويس إلى قندهار اشتد غضب جرجين خان وأراد أن يتخذ وسيلة لهلاكه، فأرسل إليه يتحكم عليه في أن يبعث بابنته إلى ابنه، وإذ رأى ميرويس أن هذا الطلب على وجه قهري وأن إذعانه له يحط من قدره، جمع الأفغانيين وحدثهم القصة، فاغتاظوا لذلك وحثوه على المقاومة والمدافعة عن شرفه؛ فامتلأ لذلك سرورا، لكنه أمرهم بالصبر والتأني، وقال: «الأولى أن نقتل الأسد في النوم إلا أنه يلزمكم الثبات على ما أنتم عليه واعتمدوا علي فإني سأنتقم من العدو.» فاطمأنوا وحلفوا له بالخبز والملح والسيف والقرآن على معاضدته والقيام بطاعته وقالوا: «ومن رجع عن ذلك فزوجته طالق بالثلاث.»
وكان من خادمات ميرويس المتربيات في بيته بنت جميلة أرسلها إلى جرجين خان ليتزوجها ابنه باسم أنها بنته، وأظهر غاية السرور والبشاشة وأنه غير حاقد على جرجين خان؛ فمحا بذلك ما في قلب جرجين، وأزال أحقاده حتى حصل عنده كمال الاعتماد عليه، وبعد زمن هيأ ميرويس مأدبة فاخرة بحديقة خارج البلد دعا إليها جرجين خان وأتباعه، وكان شراب الجميع بتلك المأدبة كأس الموت وساقيه ميرويس «هكذا لا يليق بالأمراء والسلاطين إذا غدروا بشخص أو ظلموه أو أضاعوا حقه أن يصافوه ويعتمدوا عليه خصوصا في مهمات أمورهم، فإن الحقد والعداوة إذا قرعت قلبا قلما زايلته.» ولبس ميرويس لباس جرجين خان وتبعته من الأفغان ألبسة تبعته، ودخلوا البلد بعد المغرب، وهجموا على مستحفظي القلعة على حين غفلة، ولحق بهم جماعة من الأفغانيين كان قد أعدهم كمينا قرب المدينة وانضم إليه أيضا سائر الأفغانيين الساكنين فيها فاستأصلوا جميع المحافظين إلا من فر، واستولوا على القلعة ونادوا: «من لم يأو جنديا من جند جرجين فهو في أمان.» وكان هناك ستمائة جندي أرسلهم جرجين لتأديب بعض القبائل في بعض نواحي الولاية، فقدموا إلى قندهار بالغنائم الوافرة بعد تلك الواقعة، فقوبلوا بالمدافع والبنادق وشجعان الأفغانيين فاطلعوا على حقيقة الأمر، وقاوموا مهاجميهم، فخرج إليهم ميرويس بخمسة آلاف، وثبتت أقدامهم أمام عساكره ثلاثة أيام أظهروا فيها من الجلادة والبسالة ما استوجب الثناء عليهم، ثم انهزموا، إلا أنهم خلصوا أنفسهم، ونجوا إلى أرض خراسان، فأخبروا بالواقعة، فازدادت بذلك دهشة الإيرانيين من الأفغانيين.
ولما خلا جو قندهار من المعارضين بعث ميرويس إلى رؤساء القبائل الأفغانية، فحضروا، ثم قام فيهم خطيبا يبين فضائل الحرية ومزاياها، وشدائد العبودية وبلاياها، ثم قال: «إن وازرتموني واتفقتم معي، فسنخلص أعناقنا من غل الذل، وننشر أعلام العز والحرية، ونتملص من سلطة الإيرانيين الشيعيين.» ثم أبرز ما عنده من الفتاوى الحاكمة بقتال الشيعة التي سبق أخذها من علماء مكة، وأذن فيهم قائلا: «ألا من رجع جانب الإيرانيين، واختار أن يكون في ربقة عبوديتهم، فليقطع الأمل عن أن يساكننا في ديارنا؛ إذ لا يمكن له معاشرتنا ويستحيل أن ينال مودتنا ومصافاتنا.» فوافقه جميع الأمراء، وأكدوا الموافقة بالأيمان «هكذا، هكذا، أولو الفضيلة والحزم، يفدون بأرواحهم ويخاطرون بأنفسهم؛ لتحرير أمتهم، وتخليصها من ربقة الأسر والذل، ولا يطلبون لذلك جزاء سوى تخليد الذكر الجميل، بخلاف أرباب النفوس الدنيئة والهمم المنحطة المنهمكين في الشهوات، فإنهم يبيعون أممهم وأوطانهم للأجانب بأبخس الأثمان.»
ولما بلغ خبر اتفاق الأفغانيين كرسي دولة الشاه، فعوضا عن أن يرسل عسكرا جرارا لتأديب العصاة وتقرير السلم، أرسل «محمد جامي خان»؛ لتهديد ميرويس ومن اتفق معه، فلما وصل هذا السفير إلى قندهار أخذ يبين عظمة دولة إيران وقوتها وقدرتها التامة على تذليل من ناوأها وينذر ميرويس بسوء عاقبة عمله هذا، فأجابه ميرويس قائلا: «هل تظن أنه لا يوجد العقل إلا في رءوس المترفين وأرباب النعم ولا يوجد في أهالي جبال الأفغانستان؟ ولو أن في إمكان سلطانك قهري وغلبتي ما كان له من حاجة لإرسالك لتتكلم بهذه الكلمات التي لا طائل تحتها.» ثم أمر بحبسه، ومع ذلك لم تنته دولة الشاه من نوم الغفلة، حيث بعثت بسفير آخر يسمى «محمد خان» حاكم هرات بعدما بلغها حبس السفير الأول، وقد كان السفير الثاني من أحباء ميرويس ومصاحبه في سفر الحج، ولما وصل إلى قندهار قال له ميرويس: «لولا سابق المحبة والصحبة لعاقبتك عقاب المذنبين، ولكن لا بد أن تعلم أن الرجال الأفغانيين لا يعودون إلى تحمل نير العبودية بعدما تخلصوا منه، وأن الأسود التي قطعت السلاسل لا تقيد بها، وأن السيوف المسلولة لا تغمد، وأن ملككم سينكب ويغلب ودولتكم ستنهب وتسلب.» ثم أمر بقيده.
ولما رأى أولياء الدولة أن لا فائدة في إرسال الرسل، ولا مفر من المحاربة، وجهوا الأوامر لحكام خراسان أن يجيشوا جيوشهم، ويهجموا على الأفغانيين، وبعد انهزامات متتالية للعساكر الإيرانيين تحقق لديهم أن عساكر خراسان وحدها لا تكفي لقمع الأفغانيين، فأعدوا جيشا كبيرا وجعلوا قيادته بيد «خسرو خان» ابن أخ جرجين خان الذي لم يكن في الجلادة والرشد أقل من عمه، وإنما فوضوا قيادته إليه؛ ليكون حب الانتقام لعمه موجبا لزيادة إقدامه وتحمسه «هكذا لا تفيد المماطلة والإهمال سوى الوقوع في الشقاء وعسر التخلص منه.»
فتقابل خسرو خان مع ميرويس واشتعلت نيران الحرب بينهما، فانهزم ميرويس، وحاصر خسرو خان مدينة قندهار فطلب محافظوها الأفغانيون من خسرو خان أن يسلموا له المدينة على شرط أن يؤمنهم على حياتهم فلم يرض بهذا الشرط، فلما علموا أن لا مفر من الموت أخذوا أهبة الدفاع، وكانوا كل يوم يهاجمون محاصريهم، وميرويس بعد جمع عساكره المتفرقة شرع في الهجوم عليهم من الخارج، حتى نفدت ذخائر خسرو خان فاضطر لترك المحاصرة والاشتغال بمدافعة ميرويس، إلى أن قتل، ولم ينج من عساكره الإيرانية التي كان مقدارها خمسة وعشرين ألفا سوى خمسمائة شخص «تلك عاقبة العجب والغرور.»
ثم أرسل الشاه جيشا آخر يقوده «محمد رستم خان» فانهزم أيضا وتمت السلطة لميرويس على ولاية قندهار بلا مزاحم ولا مخاصم، ثم توفى ميرويس عن ولدين لا يزيد سن أكبرهما على ثماني عشرة سنة؛ ولهذا اختار الأفغانيون أن يخلفه في الحكومة أخوه «مير عبد الله»، وكان لهذا الخليفة ميل للصلح مع سلطنة إيران، إلا أن آراء الأفغانيين كانت لا تساعده على هذا الميل، بل عارضوه، وقالوا: «إن لم تستطع أن تحذو حذو أخيك في المهاجمة فلا أقل من أن تهمل في أمر المصالحة.» ومع ذلك لم يسمع مقالتهم، بل تشاور مع بعض أصحابه، واستقر الرأي بينهم على أن يرسلوا معتمدين إلى دولة الشاه لعقد المصالحة بشروط ثلاثة؛ الأول: أن تعفى ولاية قندهار من الخراج السلطاني. الثاني: أن لا يكون للدولة عساكر في تلك الولاية. والثالث: أن تكون الإمارة وراثة في ذرية مير عبد الله المذكور.
صفحه نامشخص