373

تصوف اسلامی در ادب و اخلاق

التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق

ژانرها

ما استحسنت عيني سوا

ك ولا صبوت إلى خليل

وهذان البيتان لا خطر لهما عند من يحفلون بجزالة الألفاظ، ولكنهما على جانب عظيم من القوة عند من يؤثرون المعاني، وهل في الحب أجل وأشرف من توحيد المحبوب؟ إن الشاعر يقسم بأشواقه وبحرمة الصبر الجميل - وهو قسم لو تعلمون عظيم - يقسم أن عينه ما استحسنت سوى محبوبه، وأن قلبه ما صبا إلى محبوب سواه، وقوة المعنى والروح ظاهرة في هذين البيتين ظهورا قويا.

والنفس قد تلهج في عالم الأحلام بمعان شتى، فليس من الكثير أن يلهج ابن الفارض في نومه بالمعاني الشعرية، ولكن الكثير أن يتفق لعقله الباطن ألا يتحدث بغير توحيد المحبوب، وتلك شارة الصدق، والصدق هو الدعامة الأولى لقوة الروح.

شغل ابن الفارض بالشعر نحو أربعين سنة، وذلك أمد طويل، فلا ينتظر مع هذا أن يصبغ شعره بصبغة واحدة، وإنما توجب طبيعة الأشياء أن يكون لشعر الصبا لون، ولشعر الكهولة لون، وقد كان الأمر كذلك: فلان الفارض قصائد تمثل الشباب، وله قصائد لا تصدر عن غير الكهول.

والوحي واحد في شعر ذينك العهدين: وهو الحب، وإن كان يختلف بعض الاختلاف؛ فالحب في العهد الأول كان حبا حسيا، ومن العسير أن نقول بغير ذلك، فقد كان ابن الفارض في صباه مضرب الأمثال في نضارة الجسم وملاحة التقاسيم وإشراق الجبين، وكان لا بد لمثله في جماله وشبابه من صبوات، وكان لا بد أن توحي إليه تلك الصبوات بأشعار فيها ثورة وفيها حنين، وإني لأعترف بأن من العسير أن نجد لذلك نماذج صريحة، ولكن ما حاجتنا إلى تلك النماذج وجمهرة شعره تؤيد هذا الرأي؟ إننا لو غضضنا النظر عن التائية الكبرى وما نحا نحوها من شعره لرأينا الروح السائد في الديوان يمثل شعر الشباب، ولو ألقيت جملة قصائده في ديوان آخر لما تنبه أحد إلى أنها تمثل الشوق إلى الذات الإلهية، فإن هذا الملحظ لم يخلقه إلا التفكير في شخصية ابن الفارض، وقد شاع في المشرقين أنها شخصية روحية.

والحب الحسي عند ابن الفارض كان أساس الحب الروحي، وقد هدتنا التجارب إلى أن المحبين في العوالم الروحية كانوا في بدايتهم محبين في الأودية الحسية، والهيام بالجمال الإلهي لا يقع إلا بعد الهيام بالجمال الحسي، ولو شئت لضربت المثل بقصة إبراهيم حين رأى القمر فقال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، والمحبون في الأودية الحسية لا يتجهون إلى العوالم الروحية إلا بعد أن تدلهم الدنيا على أن الجمال الإنساني كالظل يتحول ويزول. وأشعار ابن الفارض في جملتها تمثل معاني حسية، وهي في بعض الأحوال رمز للمعاني الروحية، وهذا الرمز تفرضه سيرة ابن الفارض وقد ذاق الكأسين فعرف الحب الحسي والحب الروحي، ويكاد يكون من اليقين عندنا أن حبه الأول هو السر في وقدة حبه الثاني؛ لأننا نعرف الله أول ما نعرف عن طريق المحسوسات، وكل جمال في عالم الحس هو إغراء بالجمال المكنون في عالم الروح، والمحسوسات نفسها لا توحي الشعر إلا حين تستعد النفس لفهم ما فيها من الدلالات الوجدانية. وأساس الحب هو التفاهم، فالتمثال من المرمر قد يوحي الإعجاب ولكنه لا يوحي العشق إلا إن تمثلنا ما يرمز إليه من الروح، والصورة الجميلة الحية قد تمر بلا حب ولا وجد حين تحرم التفاهم مع الشعراء، ألا تذكرون ما يسمونه لغة العيون؟ إن بعض العيون تتكلم بلا صوت فتوحي ما توحي من الهدى والضلال.

وابن الفارض على هذا مدين بمجده إلى حبه الأول، وهو مدين إلى الصور الجميلة التي ألهبت حواسه وهو يغدو ويروح في ميادين القاهرة، وأكاد أرى بعيني أشباحا تختال في قصائده الصوفية، وهو نفسه استغل الأساليب والصيغ التي اصطنعها شعراء الحب الحسي من أمثال ابن الأحنف وابن زيدون.

أليس من العجب أن تعجز جماهير الصوفية في طوال الأزمان عن خلق لغة للحب الإلهي تستقل عن لغة الحب الحسي كل الاستقلال؟ ولم كان ذلك؟ لأن الحب الإلهي يغزو القلوب بعد أن تكون انطبعت علي لغة العوام أصحاب الصبوات الحسية، فيمضي الشاعر إلى العالم الروحي ومعه من عالم المادة أدوات وأخيلة هي عدته في تصوير عالمه الجديد، ومثلهم في ذلك مثل ابن الجهم حين غلبت عليه أخيلة البادية وهو يخاطب الخليفة في بغداد.

ومهما يكن من شيء فابن الفارض شاعر عاشق توزعت عواطفه بين عالم المادة وعالم الروح، وهو في أكثر شعره يعبر عن نفس صافية استطاعت السيطرة على طوائف من الناس زمنا غير قليل.

صفحه نامشخص